الجمعة، 4 أكتوبر 2024

الرفق جوهرة

 

خاطرة الجمعة /467

الجمعة 4 أكتوبر 2024م

(الرفق جوهرة)

 

كتب أحدهم يقول: كنتُ طفلاً في السابعة من العُمر عندما سمعتُ عن طلاق عمتي، ومجيئها للإقامة في بيتنا.. توقعتُ أن أرى إنسانةً حزينةً من ردود أفعال أمي، لكن المفاجأة أن عمتي كانت مبتسمةً. عندما كبرتُ عرفتُ أن زوجها طلَّقها لعدم إنجابها، أما هي فلم تكن ناقمةً حتى عليه؛ كانت تقول في ثقةٍ: "الحق معه.. هو محتاجٌ للخِلفة"!

أُمي كانت تُصاب بارتفاع ضغط الدم لأن عمتي ليست ناقمةً على زوجها الذي طلَّقها.. لكن عمتي كانت تقول جملةً غريبةً (الرفق جوهرة).. لم أكن أفهمها لكني مع الوقت فهمتُ.

عمتي إنسانةٌ رقيقةٌ رفيقةٌ تربت على التماس الأعذار، وأن الرفق بالآخرين هو أهم شيءٍ. كانت تعاون أُمي في تربيتنا؛ تحكي القصص، وتُساعد في الرعاية بلا أية عصبيةٍ.. وعندما كانت أُمي تجري ورائي لتضربني كانت عمتي تقول لها: "هذا سندك، حد يضرب سنده؟"؛ فتتراجع أمي..

طالما أحببتُ عمتي رغم أنها من ناحية الشكل ليست بالجميلة.. والمدهش أن زوجها بقي يتواصل، ويُريد إعادتها إلى عصمته، وكان قد أنجب من زوجةٍ أخرى، لكن عمتي اعتذرت. سمعتُه يقول لها: "أُريدك أن تُربي أبنائي"، لكنها ردت عليه: "الله يوفقك".

أُمي الغالية كانت عصبيةً، وعمتي كانت هادئةً.. أصاب أُمي مرضٌ احتاجت معه إلى ملازمة المُستشفى، وعمتي قامت برعايتنا أثناء غيابها، وكانت تقول دائماً هذه العبارة (الرفق جوهرة)! وفهمتُ أنها تعني الهدوء.. لا تضرب ولا تنفعل ولا تُعادي. كانت تقول: "إن الإنسان أحوج مخلوقٍ إلى الرفق".

ولا أنسى عندما كادت إحدى أشجار حديقتنا أن تموت فعطفت عمتي عليها واهتمت بها؛ حتى عادت إلى النمو.

عمتي هي التي علمتني الصلاة؛ سألتها يوماً: "أليس ربنا عظيم؛ طيب لماذا يحتاج منا الصلاة؟ بماذا ستنفعه؟"، ردت بهدوء: "الذي يتصل بمَلِك المُلوك هو الذي يستفيد وليس المَلِك، يا صغيري نحن نصلي من أجل أنفسنا.. نحن الذين نحتاج إلى الصلاة".

كان أخي يتحدث دائماً بصوتٍ عالٍ، وكانت تقول له: "أحب صوتك الرائع المنخفض"، وكان يندهش، ثم فجأةً بدأ يخفض صوته.

عادت أُمي من المُستشفى لتجدني أُصلي، ووجدت أخي قد كفَّ عن ارتفاع الصوت.

رأيتُ مرةً عمتي تتأمل صورة زفافها.. سألتها: "إنتِ زعلانة لإنك لم تنجبي؟"، قالت: "هي الخِلفة بيد مَن؟"، قلت: "بيد الله"، قالت في يقين: "الله لا يريد بي إلا خيراً؛ أنا لستُ منزعجةً".

بصراحةٍ كنتُ أشعر في بعض الأحيان إنها مفتقدةٌ لزوجها، لكنها ليست راضيةً بالرجوع إليه، رغم إلحاحه عليها بالعودة إليه.. لا أنسى يوم أن عاد إلى بيتنا، وجلس معها ومع أبي وأعمامي لإقناعها بالعودة إليه.. كان نادماً على الطلاق، قلتُ لها: "ارجعي له".. كانت تبكي في حُجرتها، طبطبتُ عليها.. قالت لي: "زوجته الجديدة رافضةٌ رجوعنا؛ لا أُريد أن أُضيّعه هو وأطفاله"، لكن زوجها كان مُصراً على إعادتها؛ سألته: "لماذا؟"، قال لي: "لا يوجد مثلها؛ كانت أهم من كل شيءٍ، لكن أنا كنتُ غبياً عندما طلَّقتها". أصرّت على عدم العودة. وكنتُ بجوارها عندما تلقت اتصالاً من زوجته الثانية صارخةً مُتوعدةً: "ابعدي عنه"، وردت عمتي برفق: "حاضر" وأغلقت الخط! قلتُ مُنفجراً: "لماذا لم تصرخي؟"، قالت بالدموع: "اعذرها؛ زوجةٌ خائفةٌ على زوجها". تدهورت الحالة النفسية لزوج عمتي حتى اُضطرت زوجته إلى الاتصال بعمتي ترجوها العودة إليه، واندهشتُ حين وافقت عمتي وعادت إليه، أعلم أنه يُحبها وأنها تُحبه؛ وعندما عادت إليه رُدت الحياةُ إلى نفسه، لكن المدهش هو أن كراهية زوجته لعمتي بدأت في الازدياد، مع تحريض أولادها ضد عمتي،

لكن عمتي كانت تصبر وتحتضنهم؛ فتعلقوا بها أكثر من أُمهم، ثم -وبعد فترةٍ- تعلقت بها زوجة زوجها!

كانت عمتي توصيه خيراً بها، وكانت تقول لها: "أنتِ الودود الولود، وأنا عاقر".

عمتي قصةٌ من الصبر والإنسانية المكتملة.. اليوم بعد أن توفاها الله فجأةً أقف على قبرها، وإلى جواري: زوجها الباكي وزوجته وأبناؤه الثلاثة، وأبي وأُمي وأخي، وأتذكر كلماتها.. (الرفق جوهرة).

 

أحبتي في الله.. ما ألطف الرفق؛ فهو من الرحمة، ومن العفو عن الناس، ومن خفض الجناح لهم، وهو نقيض الفظاظة وغِلظة القلب؛ يقول الله سبحانه وتعالى مُخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

 

وعن الرفق قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ]. وقال أيضاً: [إنَّهُ مَن أُعْطيَ حظَّهُ مِنَ الرِّفقِ، فقَدْ أُعْطيَ حظَّهُ من خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ]. وقال كذلك: [مَن يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الخَيْر]. كما قال: [إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما أُعْطِيَ أهلُ بَيتِ الرِّفْقَ إلَّا نَفَعَهُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ إذا أرادَ بأهلِ بَيتٍ خَيرًا، أدخَلَ عليهم الرِّفْقَ].

 

يقول العلماء في معنى (الرفق جوهرة) إن الرفق ضد العُنف، وهو لين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها، إنه تحكُّمٌ في هوى النفس ورغباتها، وحَملٌ لها على الصبرِ والتحمُّل والتجمُّل، وكفٌّ لها عن العُنف والتعجُّل، وكظمٌ عظيمٌ لما قد يلقَاه مِن تطاوُلٍ في قولٍ أو فعلٍ أو تعامل. إنه رأسُ الحكمة، ودليلُ كمالِ العقل، وقوّةُ الشخصية، والقدرةُ القادرة على ضبطِ التصرّفات والإرادات، واعتدالُ النظر، ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهر الرُشد، وهو ثمرةٌ كُبرى من ثمار التديُّن الصحيح، فيه سلامةُ العِرض، وصفاءُ الصدر، وراحةُ البدن، واستجلابُ الفوائِد وجميلِ العوائد، ووسيلةُ التواصل والتوادّ وبلوغِ المراد.

ولا يكون (الرفق جوهرة) مع الإنسان فقط، بل إن شرعنا الحنيف يحثنا على الرفق بالحيوان بإطعامه وإرواء ظَمَئه، وعند ذبحه أيضاً، وعُدَّ ذلك من مظاهر الإحسان. بل ويمتد رفق الإنسان إلى الطيور والنباتات والجماد.

 

يقول الشاعر عن الرفق:

وزِنِ الكلامَ إذا نطقتَ

فإنَّما يُبدي العقولَ أو العيوبَ المَنطقُ

لا أُلفينَّك ثاويًا في غُربةٍ

إنَّ الغَريبَ بكلِّ سَهمٍ يُرشَقُ

لو سار ألفُ مُدجَّجٍ في حاجةٍ

لم يقضِها إلا الذي يترفَّقُ

وقال آخر:

تَرَفَّقْ فَإِنَّ الرِّفْقَ زَيْنٌ وَقَلَّمَا

يَنالُ الْفَتَى بِالْعُنْفِ ما كانَ طالِبَا

إِذَا لم يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ يَرُدُّهُ

إِلَى الْحِلْمِ لَم يَبْرَحْ مَدَى الدَّهْرِ عاتِبَا

وَإِنْ هُوَ لَمْ يَصْفَحْ عَنِ الْخِلِّ إِنْ هَفَا

أَقَامَ وَحِيداً أَوْ قَضَى الْعُمْرَ غَاضِبَا

 

أحبتي.. صدقت عمة راوي القصة -رحمها الله- عندما قالت: (الرفق جوهرة)، والجميل أنها أتبعت قولها بالعمل، وهذا درسٌ لنا جميعاً؛ فالأقوال سهلةٌ، إنما تكمن الصعوبة في أن نعمل بما نقول؛ فهذا أمرٌ يحتاج إلى درجةٍ عاليةٍ من الحلم وضبط النفس، ومع ذلك فهو ليس مُستحيلاً، مطلوبٌ فقط أن نُخلص نياتنا، ونأخذ بالأسباب؛ فنُلزم أنفسنا بالترفق دائماً، مُقتدين بهَدي رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم؛ فالرفق بالترفق، كما قال: [إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ].

اللهم اجعلنا من عبادك المُترفقين، وأعنّا على ذلك، إنك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3YbiaDp

ليست هناك تعليقات: