خاطرة الجمعة /466
الجمعة 27 سبتمبر 2024م
(استمطار الفرَج)
يقول راوي القصة إنه سمعها بنفسه مباشرةً من أحد أبطالها، وهذه هي:
في تسعينات القرن الماضي، وبعد محاولاتنا للضغط على العدو ليُطلق سراح
الشيخ أحـ.ـمد ياسـ.ـين من سجنه، تمكن العدو من القبض علينا، وحُكم عليّ بثلاث
مؤبداتٍ و40 سنة سجناً! في الأَسر ضاق بنا الحال، ولم نكن نرى أي أملٍ للخروج؛
فقررنا -وكُنا عدداً من المساجين الإسـ.ـلاميين- أن نُطلق فيما بيننا ما أسميناه
(استمطار الفرَج) وهو -باختصارٍ- أن نبذل غاية الوسع في العبادة والتضرع إلى الله
تعالى أن يُفَرِّج عنّا ما نحن فيه، فهو تعالى على كل شيءٍ قديرٍ، ولا حد لقدرته
جلَّ شأنه، وكان شهر رمضان على الأبواب؛ فجعلنا الحملة تبدأ من أول أيام رمضان،
وأخذنا نحفظ القرآن الكريم -وشدَّد على ذلك كثيراً-، ونقوم الليل، ونجتهد في
الدعاء.
وكانت المفاجأة أننا علمنا أن الله تعالى فرَّج عن مسلمين غيرنا في أراضٍ
أُخرى، فسمعنا عمَّن أُطلق سراحهم في «ليبيا»، وآخرين في أقصى المشرق، ونحن على
حالنا؛ ففرحنا لفرح إخواننا، لكننا بالتأكيد تمنينا العافية لأنفسنا.
استطرد مُحدثنا ليُحيطنا بالتفاصيل، فقال: وفي خارج السجون كانت سلطة
أوسـ.ـلو قد قامت، وهدّأت الشارع، فلم يعد من ضغطٍ على العدو، وكان جلعـ.ـاد
شالـ.ـيط قد جاوز السنوات الخمس في أَسر حمـ.ـاس، وكانت المفاوضات شبه مُجمدةٍ،
ولا يوجد أي أفقٍ لاستئنافها.
دخلت العشر الأواخر من رمضان، ولا أمل يبدو في الأفق، ولكننا مازلنا على
اجتهادنا قدر وُسعنا، ثم كانت الجمعة الأخيرة، فصعد أخٌ -ممن كان يجتهد معنا-
ليخطب الجمعة، ثم طلب منا أن نُقسم جميعاً على الله تعالى أن يُفْرَج عنّا هذا
العام! قال: ففعلنا، ونحن آنئذٍ لا نعرف كيف؟ ولكن نتمناه. قال: ثم فوجئنا بالخطيب
يُلِّح علينا أيضاً أن نُقسم على الله تعالى أن نحج هذا العام! فتعجبنا كل العجب
منه، وكلٌ منا يقول في نفسه: "نخرج.. مشّيناها، لكن نحج؟!"؛ فحتى من هُم
بخارج السجون يعتبرون الوقت قد فات؛ حيث أننا في آخر رمضان، وكم بقي على الحج؟!
لكن تحت إلحاح أخينا الخطيب فعلنا وأقسمنا! كل هذا ولا توجد بارقة أملٍ تبدو في
الأفق، لكنا كُنا نُحسن الظن بالله واثقين من فضله الواسع!
قال: ثم فوجئنا بمفاوضات شالـ.ـيط تتسارع وتحمى، حتى تمت الصفقة قُبيل يوم
عرفة ب20 يوماً فقط لا غير، وخرجنا من السجن. قال: وتعنت الاحتلال فأصر أن يخرج 40
من المفرج عنهم من «فلسطين» نهائياً! قال: وكنتُ منهم، وخيرونا بين «سوريا»
و«تركيا» و«قطر»، قال: فاخترتُ «تركيا»، وكان أردوغـ.ـان آنئذٍ رئيساً للوزراء،
فخرجنا إلى «مصر» بجوازات سفرٍ فلسـ.ـطينية، ومنها إلى «تركيا» فوراً. وسُبحان
الله اللطيف الخبير، إذ ألهم عاهل «السعودية» وقتها أن يُعطي تأشيرة حجٍ كمكرمةٍ
مَلكيةٍ للمفرج عنهم في هذه الصفقة! ولكن الوقت كان قد تأخر للغاية، فقد طلعت شمس
صباح يوم التروية "اليوم السابق لوقوف الحجيج بعرفة" ونحن في «أنقرة»،
وكذلك غربت علينا شمس ذلك اليوم، فنوينا -أنا وإخواني المُفرج عنهم- صيام يوم
«عرفة»، وهذه سُنةٌ لمن لم يُكتب لهم الحج، وقد حمدنا الله عزَّ وجلَّ أن مَنَّ علينا
ونجَّانا من الأسر، وكفى بها نعمة.
لكن الله سبحانه لا تحده الحدود، ولا تمنعه الموانع، وهو ﴿عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، و﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾،
فلما أصبحنا يوم «عرفة» صائمين في «أنقرة»، فوجئنا بالسلطات التركية تُرتب لنا
طائرةً خاصةً لتنقلنا إلى الأراضي المقدسة! قال: فشككنا في الأمر، وأبَيْنا أن
نُفطر، خشية أن يضيعا معاً الحج، وصيام «عرفة»، حتى إذا كُنا على متن الطائرة
وطارت بنا أفطرنا من صومنا وأحرمنا بالحج! قال: ثم هبطت بنا الطائرة في مطار «جدة»
السعودي، وقد كان مُغلقاً ولكنه فُتح فقط لنا، وجيء بموظفي الجوازات خصيصاً لنا!
ووصلنا «عرفة» قُبيل غروب الشمس بساعة، فتم لنا أداء فريضة الحج! لقد استجاب الله
جلَّ جلاله دعاءنا، وأشهدنا الحج كما كُنا قد أقسمنا عليه سبحانه!
أحبتي في الله.. صدق من قال: عندما يشاء الله لا قيمة لقوانين الحياة.
عندما يشاء الله لا وزن لتدابير البشر. عندما يشاء الله لا أهمية لحواجز المستحيل،
يكفيه عزَّ وجلَّ أن يقول للشيء ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.
و﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ تعبيرٌ قرآنيٌ مُحكمٌ ورد ذِكره في القرآن الكريم ثماني
مرات؛ يقول تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول
عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول جلَّ شأنه: ﴿وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول تبارك وتعالى:
﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ﴾، ويقول أيضاً: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ
سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول
كذلك: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ﴾. كما يقول: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
والمعنى أن الله سُبحانه وتعالى يملك القُدرة التامة والمطلقة، فلا يخفى
عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ولا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو
﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛
فلا يتعاظم على قُدرته شيءٌ، ولا يتعاصى على قُدرته شيءٌ؛ فإذا ما أراد فعل شيءٍ
فإنما يفعله ويخلقه بأمره له: ﴿كُنْ﴾، فلا يتأخر ذلك الشيء الذي أراده، بل
﴿فَيَكُونُ﴾ من فوره.
لذا فإن (استمطار الفرَج) لا يكون إلا بحُسن الظن بالله سُبحانه وتعالى،
والأخذ بالأسباب من التزامٍ كاملٍ بالفروض والتمسك بما يسع الإنسان من النوافل، والدعاء
بإخلاصٍ مع الإلحاح في الدعاء وتحري أوقات إجابته.
وينبغي التنبيه على أمرٍ هامٍ، وهو أنه قد اشتُهر بين العوام أنهم يقولون:
"يا من أمره بين الكاف والنون"، وهذا -كما يقول العُلماء- خطأٌ؛ فليس
أمر الله بين الكاف والنون، بل بعد الكاف والنون؛ لأن الله قال: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾
متى؟ بعد ﴿كُنْ﴾. فقولهم: “بين الكاف والنون” خطأٌ، يعني: ما تم الأمر بين الكاف
والنون، لا يتم الأمر إلا بالكاف والنون، لكنه بعد الكاف والنون فوراً كلمحٍ
بالبصر.
فعند (استمطار الفرَج) والأخذ بالأسباب، قد يُدهشنا الله سُبحانه وتعالى
بسرعة الاستجابةٍ؛ يقول الشاعر:
ما بينَ غَمْضةِ عَينٍْ وانْتِباهَتِها
يُغيّرُ الله مِنْ حالٍ إلىٰ حالِ
وقد تزداد دهشتنا من كرم العطاء؛ يقول الشاعر:
وَتَشاءُ أنْتَ مِنَ البَشائِرِ قَطْرَةً
وَيَشاءُ ربُّكَ أنْ يُغِيثَكَ بِالْمَطَرْ
وَتَشاءُ أنْتَ مِنَ الأمَاني نَجْمَةً
وَيَشاءُ ربُّكَ أنْ يُناوِلَكَ الْقَمَرْ
وَتَشاءُ أنتَ مِنَ الحَياةِ غَنيمَةً
وَيَشاءُ ربُّكَ أن يَسوقَ لَكَ الدُرَرْ
وَتَظلُّ تَسْعَى جَاهِدًا فِي هِمَةٍ
والله يُعطِي مَنْ يَشاءُ إذَا شَكَرْ
أحبتي.. إن (استمطار الفرَج) يكون بالإخلاص في الدُعاء، والأخذ بالأسباب مع
عدم التعلق بها، بل بالتعلق بمن ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، والذي هو
﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، والذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له ﴿كُنْ
فَيَكُونُ﴾.
اللهم إنا نستمطرك فرَجاً من كل كربٍ وهَمٍّ وغَمٍّ، فأغثنا بسحائب رحمتك
غيثاً طيباً مباركاً، وأمطرنا استجابةً لدعائنا وزيادةً وفضلاً، واسقِ نفوسنا
سَكينةً وأمناً، واروِ أرواحنا لتُزهر راحةً وطُمأنينةً وسلاماً، وتُثمر خيراً
كثيراً من واسع فيض كرمك وعظيم جودك وجميل عطائك.
وأعنّا اللهم على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنّا.
https://bit.ly/4gIr0zK
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق