الجمعة، 25 أبريل 2025

أرحنا بها يا بلال

 

خاطرة الجمعة /496

الجمعة 25 إبريل 2025م

(أرحنا بها يا بلال)

 

عبَّرت بصراحةٍ تُحسد عليها عن موقفٍ مرَّ بها، وكان هدفها توعية غيرها ممن قد يمرون بنفس الموقف؛ كتبت هذه الفتاة على منصة X تقول:

كنتُ أَمرُّ بفترةِ اكتئابٍ وسخطٍ على الدنيا، كان كل شيءٍ ينال مني، أما أنا فلم أنلْ شيئاً. في ذلك اليوم كنتُ في الجامعة وسمعتُ أذان الظهر، وفي العادة، عندما نسمع الأذان، كنا -أنا وزميلاتي- نستعد فوراً للصلاة؛ فنتوضأ، ثم نُصلي في مسجد الكلية معاً.

لكن في ذلك اليوم، لا أعرف ما الذي دهاني؛ كنتُ واقفةً قرب المسجد وسمعتُ الأذان، لكنني كنتُ منهكةً، كأن حجراً ثقيلاً جاثماً على صدري، حتى إنني سمعتُ الأذان ولم أتحرك للوضوء. وقتها قررتُ ألا أتوضأ، وألا أُصلي، ولا حتى أُكمل اليوم الدراسي! قررتُ أنني سأعود إلى البيت لأنام، ولن أُصلي حين أصل إلى البيت! ولأؤكد لنفسي أنني لا أتدلل، وأن التعب حقيقيٌّ، زيَّن لي الشيطان أن أنام -حين أصل إلى البيت- بالحذاء ولا أخلعه!

وبالفعل؛ ما زلتُ أسمع الأذان، لكني كنتُ أبتعد عن المسجد عائدةً إلى البيت. توجهتُ إلى موقف الحافلات، ركبتُ حافلةً صغيرةً، وفي الطريق، ومن شدة الإرهاق غفَت عيناي. وفجأةً صحوتُ على صراخ الركاب: "انتبه! انتبه!" ثم انقلبت الحافلة مرتين أو ثلاثاً، لا أتذكر. حينها لم أكن أرى ما حولي، لكنني كنتُ أسمع صوتاً داخلياً يسأل: "أأنا ميتةٌ الآن؟ أم لا أزال حيةً؟ وإن متُّ فهل أموت وأنا عازمةٌ على ترك الصلاة؟ يا ليتني كنتُ قد نويتُ الصلاة في البيت! لم أفعل، بل كنتُ عازمةً على عدم الصلاة مُطلقاً! يا الله! إنها الصلاة! أول ما سوف أُسأل عنه، فماذا سيكون ردي؟!".

وبينما أنا غارقةٌ في أفكاري داخل الحافلة المُنقلبة، غير مُدركةٍ لأي شيءٍ في العالم الخارجي، لم أفُقْ إلا على قطراتٍ من البنزين تتساقط على ملابسي. فخفتُ أن تحترق الحافلة وأنا لا أزال داخلها، ناجيتُ ربي: "ربِّ، إني غير مُستعدةٍ للموت على هذه النية! ربِّ، أمهِلني كي أعود إلى رُشدي"! نظرتُ حولي، فرأيتُ الجميع قد خرجوا من الحافلة، ولم يبقَ فيها سواي، ولولا أن سخَّر الله سبحانه وتعالى لي من يُخرجني منها، لكنتُ احترقتُ بداخلها.

الحمد لله؛ احترقت الحافلة بعد أن خرجنا جميعاً منها بسلامٍ، مع كسورٍ وجروحٍ طفيفة. ركبتُ حافلةً أخرى، وظللتُ أبكي طوال الطريق، حتى وصلتُ إلى بيتي. لم أكن أبكي من الجروح، ولا من الكدمات التي تُغطي جسدي كله، لكنني كنتُ أبكي شفقةً على نفسي، وخجلاً من كرم ربي الذي منحني فرصةً جديدةً. أول شيءٍ فعلته حين وصلتُ: توضأتُ وصليتُ. كنتُ أستطيع الصلاة جالسةً -لما في جسدي من كدماتٍ- لكنني قررتُ أن أُعاقب نفسي؛ فصليتُ واقفةً بكل ما بي من ألمٍ، أبكي كما لم أبكِ من قبل؛ لأنني شعرتُ أن هذا أقل شيءٍ أستطيع أن أُعاقب به نفسي عن سوء نيتي. وكان لسان حالي يقول: "إلا الصلاة، قد فهمتُ الدرس: لا ينفع أن نربط حالتنا النفسية بالصلاة".

تلك الحادثة كانت صفعةً قويةً أستحقها، ودعوتُ الله سبحانه وتعالى أن يُعيدني إليه بأي طريقةٍ كلما ابتعدتُ عنه، ولا يقبض روحي إلا وأنا تائبةٌ. أما عن الصلاة؛ فلا يجب أن تكون اختياراً مُرتبطاً بحالتنا النفسية: إن ساءت نفسيتنا، تركناها! بل على العكس تماماً؛ هي التي تُخرجنا من همومنا، وتُخفف أحزاننا، وتجعلنا بخير. تعجبتُ كيف غفلتُ عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"؟ أنا الآن أُذكركم، وأُذكِّر نفسي في عز انتكاستي: "اذكروا هذا كلما انتكستم! عودوا إلى طريق الصواب بأسرع ما يُمكن، حتى لو انتكستم ألف مرةٍ قبلها؛ فإننا لا نعلم متى؟ ولا على أي حالٍ يُدركنا الموت؟ فلنكن مُستعدين له في كل لحظةٍ؛ بالعمل الصالح، أو على الأقل بالنية الصالحة، وإن أخطأنا عُدنا سريعاً وتُبنا، ولا نُصِّر على ما فعلنا؛ فالله يُحب التوابين، وخير الخطائين التوابون".

 

أحبتي في الله.. لله دَرُّ هذه الفتاة؛ كم كانت صريحةً، وكم كانت صادقةً في التعبير عن مشاعرها، وكم كانت شجاعةً؛ فالكثير منا يمر بمواقف شبيهةٍ ويخجل أن يعترف بها علانيةً، فيُضيِّع على نفسه ما حصلت عليه هذه الفتاة من ثوابٍ؛ إذ نبهَّت غيرها إلى ما كان الشيطان سيوصلها إليه، لولا رحمةُ الله عز وجل.

تفاعلت كثيرٌ من الفتيات مع تلك الفتاة بعد أن نشرت قصتها، وكتبن لها إنهن يشعرن بانتكاسةٍ ولا يعرفن كيف يخرجن منها، ففتح الله عليها بفكرةٍ طيبةٍ، لعل فيها مزيداً من الأجر والثواب؛ إذ أنشأت مجموعةً على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، وكتبت تقول: "إن هدفنا من هذه المجموعة أن نكون سنداً لبعضنا؛ فيُقوي بعضُنا بعضاً وقت الانتكاسة، أنا لستُ أقوى منكن، بل قد أكون أضعفكن، لكنني أُحاول، وأُحب مَن يحاول. صحيحٌ أنني قد أتأخر عن الصلاة، لكنني -مثلكن- أخشى أن أموت وألقى ربي وأنا على هذه الحال، اللهم اهدنا يا رب العالمين".

 

وعلَّقت إحداهن على قصة الفتاة فقالت: "حدث لي مرةً أن نمتُ عن صلاة العشاء كسلاً، وقلتُ: إذا قمتُ لصلاة الفجر أُصليها. وكان المطر ينهمر بشدةٍ، وأنا على سريري أتهيأ للنوم، فسمعتُ صوت رعدٍ شديدٍ جداً، فمن الخوف قمتُ وصليتُ! استيقظ ضميري بعد سُباتٍ، شعرتُ أن ربي أرسل لي إشارةً واضحةً ألا أتكاسل، ولله الحمد".

وكتبت أُخرى: "ثبَّتكَ وثبَّتنا الله. الراحة التي أشعر بها حين أؤدي الصلوات الخمس لا تُوصف، كأنني فعلتُ شيئاً عظيماً، وصدق النبي الكريم حينما قال: أرحنا بها يا بلال. أما إذا جمعتُ صلاتين غصباً عني، فإني أحزن جداً، لم أكن أتخيل أن أصل إلى هذه المرحلة. اللهم ثبِّتنا حتى نلقاك".

وكتبت ثالثةٌ: "على ذكر ما حدث: كنتُ في المترو ذات مرةٍ فمال بشدةٍ وكاد أن ينقلب، فلم يخطر ببالي وقتها إلا: يا إلهي، لم أُصلِّ الظهر لأنني كنتُ مُتعجلةً! اللهم اغفر لي، وامنحني فرصةً لمراجعة نفسي، ولا أترك صلاةً إلا وصليتُها في وقتها".

وهذه رابعةٌ كتبت: "يحدث معي نفس الشيء في صلاة الفجر؛ أُؤجلها حتى قُبيل الأذان، فيوسوس الشيطان: نامي، أنتِ مُتعبةٌ! وغداً عندك محاضرات! وأنا من داخلي أعلم أنني أُريد الصلاة، لكن الكسل يغلبني. أسأل الله الهداية".

وأما الخامسة، فقد كانت لا تقل شجاعةً عن الفتاة التي نشرت القصة؛ فكتبت تقول: "أُحس أن قصتك صفعةٌ لي. صرتُ أتهاون في الصلاة بعد رمضان وأجمعها في آخر اليوم. إن شاء الله لا أعود لذلك. جزاكِ الله خيراً، لقد نبهتيني، ادعِ لي بالثبات والهداية".

وكتب شابٌ آخر يقول صراحةً: "مررتُ بنفس الموقف، كل بابٍ يُغلق في وجهي حتى قُلتُ: لن أُصلي العشاء! وكانت أول صلاةٍ أتخلف عنها مُنذ صغري. زيَّن لي الشيطان أن أقول: أنا دائماً أُصلي، ماذا يضر لو تركتُ صلاةً واحدةً؟! وحين قرأتُ قصتك؛ أحسستُ بمدى تقصيري وبغفلتي، جزاكِ الله خيراً، اللهم ثبِّتنا على الإيمان حتى نلقاك".

وكان هذا آخر تعليقٍ: "أنتِ محظوظةٌ بفضل الله سبحانه وتعالى؛ أولاً: لأنه نجاكِ من الموت ومنحك فرصةً جديدةً، وغيرُك حُرِمَها. ثانياً: لأنك استفدتِ من الموقف وتعلمتِ ألا تتخلي عن الصلاة مهما كانت حالتك النفسية، ومهما كانت ضغوط الحياة، وغيرُك قد لا يشعر بذلك. ثالثاً: لأنك التزمتِ بالمُداومة على الصلاة حقاً، وغيرُك قد لا يلتزم".

 

يقول الله سبحانه وتعالى عن الصلاة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، يقول المفسرون: إن الصلاة صعبةٌ إلا على الخاضعين المُخبتين المُطمئنةِ قلوبُهم وجوارحُهم لله تعالى؛ لأنهم موقنون أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا، والسعادة في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها سروراً يجعل نفوسهم تنشط إليها -كلما حلَّ وقتُها- بهمةٍ وإخلاص.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [يا بلالُ، أقمِ الصلاةَ، أرحنا بها] ويقول شُرَّاح الحديث: الصلاة أعظم أركان الإسلام العملية، ولها أهميتها الخاصة في الشرع، وفيها من الروحانيات والصلة بالله ما يجعل القلب يرتاح ويخرج من متاعب الدنيا إلى معية الحق سبحانه، وفي هذا الحديث يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلالٍ رضي الله عنه أن يرفع أذان الصلاة لتُقام؛ فنستريح بها، وكأن دخوله فيها هو الراحة من تعب الدنيا ومشاغلها؛ لما فيها من مُناجاةٍ لله تعالى، وراحةٍ للروح والقلب. وفي الحديث أن الصلاة راحةٌ للقلب من تعب الدنيا ومشاغلها، وفيه بيان عِظَم قدر الصلاة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها ينبغي أن تكون كذلك عند كل مُسلم.

ولا عجب في ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو القائل: [وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ]، وهذا بيانٌ لعظيم محبته لها؛ لما فيها من القُرب من المولى عز وجل؛ فلا شيء يُسعده ويُدخل عليه السرور بمثل ما تُدخل عليه الصلاة؛ فـقُرَّةُ العين" يُعبَّر بها عن المسرة ورؤية ما يُحبه الإنسان.

ومن عجبٍ أن البعض عندما يمر بأزمةٍ أو تتكالب عليه المشاكل أو يجور عليه الناس، ينسى ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف؛ إذ كان "إذا حَزِبَهُ أمْرٌ صلَّى" {حَزِبَهُ أمرٌ: أي أحزنه أو أصابه همٌّ}؛ ذلك أن الصلاة -كما يقول شارحو الحديث- صِلةٌ بين العبد وربه، وهي عبادةٌ جليلةٌ، فيها تصفو الروح من الكدر والمُنغصات، وفيها يقف العبد بين يدي ربه يدعوه لتفريج همومه؛ فهو وحده القادر على إزالة الهَم والحزن وتسهيل الصعاب. وفي هذا الحديث توجيهٌ لنا إلى حُسن التوكل على الله، واللجوء إليه في كل الأمور، واللجوء إلى الصلاة وقت الضيق، وحين تُحيط بنا الشدائد.

 

وتحت عنوان (أرحنا بها يا بلال) يقول الشاعر:

الصَّلاةُ ارْتِقاءٌ إلى ذي الْجَلالْ

وَبِها يَرْتَقي كُلُّ فِعْلٍ حَلالْ

لَمْ تَزَلْ تَمْلَأُ الْقَلْبَ أَنْوارُها

وَبِأَنْوارِها تَسْتَقيمُ الْخِصالْ

كَمْ تُنَظِّمُنا بِمَواعيدِها

فَمَواعيدُها لَيْسَ فيها اخْتِلالْ

هِيَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِخَيْرِ الْوَرى

وَلَنا نَحْنُ أَيْضاً، فَيا لَلْجَمالْ

وَهْيَ نَهْرُ الْأُجورِ، وَمِنْ مائِها

نَتَطَهَّرُ مِمّا يَشينُ الْفِعالْ

وَإذا ما وَجَدْنا بِها راحَةً

فَالرَّسولُ لَنا يا أَحِبّاءُ قالْ

يا لَهُ مِنْ رَسولٍ وَمِنْ قائِلٍ

حينَ قالَ: (أَرِحْنا بِها يا بِلالْ)

 

أحبتي.. لتكن الصلاة أول ما نهتم به، نُحافظ على إقامتها على وقتها، أياً كان ما نمر به من ظروفٍ، وعلى أي حالٍ كُنا؛ فلا نترك للشيطان علينا سبيلاً.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، واجعل الصلاة قُرة عينٍ لنا، واجعلنا نتأسى بقدوتنا صلى الله عليه وسلم؛ فنقول في أنفسنا مع كل أذانٍ: (أرحنا بها يا بلال).

https://bit.ly/4iR0ILD

الجمعة، 18 أبريل 2025

ذات الدِّين

 

خاطرة الجمعة /495

الجمعة 18 إبريل 2025م

(ذات الدِّين)

 

يقول راوي القصة: كنتُ أُرافق زوجتي في أحد الأيام لزيارة طبيب عظامٍ؛ لأنها كانت قد تعرضت للسقوط على ساقها. جلسنا في عيادة الطبيب، وكل شخصٍ كان مشغولاً بشيءٍ ما؛ أحدهم كان يُمسك بهاتفه المحمول، وآخر كان يتحدث مع الشخص الذي بجواره، وثالثٌ كان يقف ليُدخِّن سيجارةً في شُرفة العيادة، وكان الشعور بالضيق والملل واضحاً على وجوه الجميع. شعرتُ بالملل، فخرجتُ قليلاً إلى الشُرفة بعد أن غادرها من كان يُدخِّن سيجارته، ثم عُدتُ بعد قليلٍ، وعندما جلستُ أدركتُ أن شعور الإنسان عند قراءة كلماتٍ في مقالٍ أو كتابٍ أو منشورٍ على وسائل التواصل الاجتماعي يختلف تماماً عن شعوره عندما يُشاهد هذه الكلمات حيةً أمام عينيه، هذا ما حدث معنا ونحن في العيادة؛ إذ فجأةً، ساد الصمت، وجلس الجميع في صمتٍ تامٍ حتى جاء موعد أذان العشاء، الذي استمعنا له من هاتف أحد الموجودين، رددَّنا الأذان مع المؤذن، وعُدنا إلى صمتنا الذي لم يقطعه إلا صوت طفلٍ - لا يزيد عُمره عن سبع سنواتٍ - يسأل أُمه وهو يُشمِّر عن ثيابه: "أين الحمّام؟"، أخذته أُمه وذهبت معه إلى الحمّام، لكنه توقف فجأةً، ونظر إلينا وقال: "هل ستظلون جالسين هنا؟ ألن يُصلي أحدٌ منكم؟"، ضحكنا على كلامه، ثم عُدنا إلى السكوت.

ترك الطفل يد أمه وهو غاضبٌ، وذهب ليتوضأ وعاد بوجهٍ مُشرقٍ كالقمر، ثم بدأ يبحث عن شيءٍ يُصلي عليه، دخلت السكرتيرة وأحضرت له سجادة صلاةٍ، وقف الطفل على السجادة وقال: "هل سأُصلي وحدي؟" ظل الجميع صامتين، ثم قال الطفل ببراءةٍ: "أليس الله الذي نُصلي له هو الذي يشفيكم؟ وأنتم هُنا من أجل أن يشفيكم، كيف سيشفيكم إذا لم تشكروه أو تحمدوه أو تتحصنوا بفضله؟". دمعت عيون الحاضرين من كلامه، وأكمل هو قائلاً: "على أية حال، كل شخصٍ مسؤولٌ عن أعماله"، ثم قال: "سأُكَبِّر وأبدأ في الصلاة"، قمتُ ووقفتُ إلى جانبه، وقلتُ له: "انتظر، سأُصلي معك".

وفور دخولي الحمّام لأتوضأ، قام باقي الرجال الذين كانوا مُنتظرين في العيادة ودخلوا ليتوضؤوا، وبعد أن انتهى الرجال من الوضوء دخلت النساء للوضوء كذلك. عندما أصبحنا كُلنا مُستعدين للصلاة أخذتنا السكرتيرة إلى غُرفةٍ خاليةٍ لنُصلي فيها، وفيما كُنا نستعد للصلاة، خرج الطبيب من غُرفته وسأل: "لماذا لم يدخل أحدٌ؟ أين السكرتيرة؟"، شرحت له السكرتيرة الموقف، فوقف مصدوماً للحظةٍ، ثم مسح على رأس الطفل بفخرٍ، وقال ووجهه يُعبر عن سعادته: "انتظروني قليلاً حتى أتوضأ؛ سأُصلي معكم". صلينا جميعاً معاً، وبعد الصلاة استغفرنا الله قليلاً، ثم حدث ما لم يكن في الحُسبان؛ فاجأنا الطبيب بأنه قرَّر عدم أخذ أية أتعابٍ من أي مريضٍ في تلك الليلة، وجعل جميع الاستشارات مجانيةً، ووهب حسنات ذلك للطفل.

بكت والدة الطفل من الفرحة، وقالت ويداها ترتجفان: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟"، ثم أمسكت بهاتفها المحمول واتصلت بزوجها - الذي عَلِمْنا فيما بعد أنه مُسافرٌ ومُقيمٌ في الخارج - وأخبرته بما حدث، ومن شدة سعادته، كنا نسمع ضحكته وفرحته عن بُعد.

في تلك اللحظة، قلتُ في نفسي: "نِعْمَ الأُم (ذات الدِّين).

 

أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت أُم ذلك الطفل أُمّاً يصدق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.

 

أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت أُم ذلك الطفل أُمًّا يُصدَق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.

 

وينطبق هذا الوصف أيضاً على الكثير من الأُمهات المؤمنات، ومنهن هذه الأُم التي يحكي عنها أحد مُعلمي القرآن الكريم في أحد المساجد، كتب يقول: أتاني ولدٌ صغيرٌ يُريد التسجيل في حلقة التحفيظ، فسألته: "هل تحفظ شيئاً من القرآن؟"، فقال: "نعم"، فقلتُ له: "اقرأ من جُزء عمَّ"؛ فقرأ، فقلتُ: "هل تحفظ سُورة تبارك؟"، فقال: "نعم"، فتعجبتُ من حفظه برغم صغر سنه؛ فسألته عن سُورة النحل؛ فإذا به يحفظها فزاد عجبي، فأردتُ أن أعرف إن كان يحفظ شيئاً من السور الطوال فسألته: "هل تحفظ سُورة البقرة؟"، فأجابني بنعم؛ وإذا به يقرأ ولا يُخطئ، فسألته: "يا بُني، هل تحفظ القرآن كله؟"، فقال: "نعم"! طلبتُ منه أن يأتي في اليوم التالي ويُحضر ولي أمره. كنتُ أتعجب؛ كيف يُمكن أن يكون ذلك الأب؟ فكانت المُفاجأة حينما حضر الأب ورأيته وليس في مظهره ما يدل على التزامه بالسُّنَّة، فبادرني قائلاً: "أعلم أنك مُتعجبٌ من أنني والده، لكني سأقطع حيرتك؛ إن وراء هذا الولد (ذات الدِّين) أقصد زوجتي وأُم أبنائي، وأُبشرك؛ إن لديّ في البيت ثلاثة أبناء كلهم يحفظون القرآن، وأن ابنتي الصغيرة التي تبلغ من العُمر أربع سنواتٍ تحفظ جزء عمَّ"، فتعجبتُ وسألته: "كيف ذلك؟!"، فقال لي: "عندما يبدأ الطفل منهم في الكلام تبدأ أُمه معه بتحفيظه القرآن، وتُشجع جميع أبنائنا على ذلك؛ فمن يحفظ أولاً هو من يختار وجبة العشاء في تلك الليلة، ومن يُراجع أولاً هو من يختار أين نذهب في عُطلة نهاية الأُسبوع، ومن يختم أولاً هو من يختار أين نُسافر في الإجازة، وبهذه الطريقة تجعلهم أُمهم يتنافسون في الحفظ والمُراجعة".

 

ما أعظم المرأة؛ أُمًّا وزوجةً وأُختاً وبنتاً عندما تكون ممن مدحها النبي صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها (ذات الدِّين) عندما قال: [تُنكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].

والمعنى كما يقول شارحو الأحاديث: أن اللائق بذي المُروءة أن يكون الدِّين مطمحَ نظره في كل شيءٍ، لا سيما فيمن تطول صحبته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم باختيار (ذات الدِّين) التي يقول أهل العلم عن صفاتها إن منها:

طاعة الزوج، وعدم مُخالفته إذا أمر بالحق؛ سُئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ فقال: [الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ].

والتي تُعين الزوج على إيمانه ودِينه، تأمره بالطاعات، وتمنعه من المحرَّمات؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ].

ومن صفات (ذات الدِّين) أن تكون مُطيعةً لربها، وقائمةً بحق زوجها في ماله، وفي نفسها، ولو في حال غياب الزوج؛ يقول تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، يقول المفسرون: ﴿قَانِتَاتٌ﴾ أي: مُطيعاتٌ لله تعالى، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي: مُطيعاتٌ لأزواجهن، حتى في الغيب تحفظ زوجها في نفسها، وماله.

والمرأة الصالحة من السعادة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ]، والمرأة الصالحة هي خير متاع الدنيا؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ].

وهي خير النساء إذا توافرت فيها صفات حُسن صُحبة زوجها؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ].

 

ومن معاني (ذات الدِّين) قيام المرأة بالطاعات، والأعمال الصالحات، والعفة عن المُحرَّمات؛ فتجمع بين: طاعة ربها بفعل ما أمر به من الواجبات، وترك ما نهى عنه من المُحرَّمات، وطاعة زوجها، وهي التي بشَّرها النبي بكرامةٍ عاليةٍ عند دخول الجنة؛ يقول عليه الصلاة والسلام:
[إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ].

وبهذا يُعرف أن "الدِّين" كلمةٌ جامعةٌ، تشمل أصنافاً من العبادات، وأنواعاً من الطاعات، وأخلاقاً وشمائل، وكلما كانت المرأة أكثر حياءً، وعِلماً، وعبادةً، كانت أقرب للمقصود من (ذات الدِّين)؛ فتُربي أبناءها خير تربية.

وما أروع تلك الأُم المثالية التي ربّت أبناءها على الصلاة، وعلى حفظ القرآن الكريم، وشجعتهم، وحفزتهم على ذلك.

وكأني بها وقد اطّلعت على حديث النبي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ رَاعٍ، ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]، واختص المرأة بقوله: [وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا].

فهنيئاً لتلك المرأة، وهنيئاً لزوجها بها، وهنيئاً للأبناء بأُمهم، وللوالدين بأبنائهما.

هنيئاً لهذه المرأة الصالحة (ذات الدِّين) التي أمّنت مُستقبل أبنائها، وحرصت على أن يكونوا مع المُحافظين على صلواتهم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [أوَّلُ ما يُحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ: الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ، فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه].

كما حرصت على تحفيظهم القرآن الكريم الذي يأتي شفيعاً لهم يوم القيامة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ وارتَقِ، ورَتِّل كما كنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا].

وقال أيضاً: [وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ، وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا].

فهنيئاً لوالدَي أولئك الأبناء من حفظة القرآن، وهما واقفان يوم المحشر، ينظران إلى أبنائهما يرتقون، ويرتفعون إلى أعلى منزلةً، ويلبسون تاج الوقار، ورُفِع على رأسي الوالدين تاجٌ، وأُلبِسا حُلَّتين من حُلَل الجنة. يا له من تكريمٍ يتمناه كلٌّ منا.

إن التربية عمليةٌ يشترك فيها الأب والأُم، لكن العبء الأكبر يقع على عاتق الأُم، كما أن مسؤولية الوالدين تتضاعف في تربية البنات، وإعدادهن ليكنَّ أُمّهاتٍ صالحاتٍ؛ فهُنَّ مُربيات الأجيال اللواتي أشار لهنَّ الشاعر بقوله:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدتَها

أعدَدتَ شعباً طيِّبَ الأعْراقِ

 

أحبتي .. بارك الله في كل امرأةٍ، وكل بنتٍ، وكل أمٍ ممن تربين تربيةً صالحة، جعلت كل واحدةٍ منهن من المُسْلمات (ذات الدِّين)، وأكثرَ من أمثالهن؛ فكم هي رائعةٌ تلك الأُم التي غرست في أبنائها الحرص على إقامة الصلاة على وقتها، وتلك التي شجعت أبناءها على حفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظفارهم، لينشأ هؤلاء جميعاً نشأةً دينيةً صحيحةً، ويكونوا حجر الأساس لجيلٍ صالحٍ لأنفسهم، مُصلحٍ لغيرهم.

اللهم أعنّا على أن نكون آباءً وأُمهاتٍ صالحين، نافعين لأنفسنا، ولأبنائنا، ولمجتمعنا.
ووفقنا اللهم لنكون من الصالحين، ولنكون من المُصلحين.

https://bit.ly/4ioxgfI

الجمعة، 11 أبريل 2025

العم «عابد»

 

خاطرة الجمعة /494

الجمعة 11 إبريل 2025م

(العم «عابد»)

 

أنقل إليكم اليوم قصةً من أعجب القصص، تُظهر قوة الإيمان، يرويها أحد الدُعاة، حفظه الله، وهي قصةٌ حقيقيةٌ وقعت في إحدى قُرى منطقة «ينبع» في غرب «المملكة العربية السعودية». يقول راويها:

توجهنا -أنا ومجموعةٌ من أهل الصلاح- إلى قريةٍ بسيطةٍ أخبرنا بعض الأحبة من طُلاب العلم المُقيمين في المنطقة أنّ في تلك القرية رجلاً صالحاً، اسمه (العم «عابد»)، وأنه كما يُقال "اسمٌ على مُسمى"! سألناهم: "كيف ذلك؟"، قالوا: "اذهبوا إلى القرية، واحضروا الصلاة في مسجدها، وستعرفونه بأنفسكم، وستدركون وقتها لماذا نقول عليه إنه اسمٌ على مُسمى! توجهنا في اليوم التالي إلى القرية وعندما وصلنا إليها وجدناها قريةً بسيطةً مُتواضعةً، لا يوجد بها أي مَعلمٍ من معالم الحضارة الحديثة، كأنها تعيش في زمنٍ آخر، شاهدنا مئذنة المسجد على بُعدٍ، وبدأنا المسير إليه، سِرْنا على أرضٍ غير مُمهدةٍ، قاصدين المسجد آملين أن نلتقي (العم «عابد») ونتعرف عليه. لكننا عندما اقتربنا من المسجد، شاهدنا شيئاً عجيباً؛ شاهدنا عند بابه حجراً كبيراً مربوطاً به حبلٌ مُمتدٌ على الأرض؛ تملكنا الفضول، وتساءلنا عن سر هذا الحبل المربوط بالحجر على باب المسجد. ولما كان هناك وقتٌ طويلٌ قبل أذان العصر؛ فقد قررنا أن نرجئ دخول المسجد لمُقابلة (العم «عابد»)، وعزمنا على أن نكتشف أولاً سر هذا الحبل بأنفسنا! أمسكنا بطرف الحبل، وأخذنا نسير معه، يرتفع بنا حيث ترتفع الأرض، وينخفض حيث تنخفض؛ فطُرقات القرية غير مُستويةٍ، سِرْنا مسافةً كبيرةً حتى اقتربنا من نهاية الحبل. نعم، لقد بدأنا نصل إلى الطرف الآخر من الحبل؛ فما هو السر الذي ينتظرنا في نهايته يا ترى؟! إلى ماذا سوف يوصلنا هذا الحبل، وإلى مَن؟ وما هو سبب وجوده ممدوداً حتى المسجد؟

عندما وصلنا إلى نهاية الحبل، وجدنا بيتاً مُتواضعاً مُكوّناً من غُرفةٍ ودورة مياهٍ، ووجدنا به رجلاً كبيراً في السن، كفيف البصر، عُمره يزيد عن خمسٍ وثمانين سنةً، مَن هو يا تُرى؟

هنا كانت المفاجأة! إنه هو (العم «عابد») الذي كُنا نريد أن نلتقي به في المسجد! سألناه: "يا عم «عابد»، أخبِرنا ما سر هذا الحبل؟!" فردَّ قائلاً: "هذا الحبل من أجل الصلوات الخمس في المسجد؛ أخرج من بيتي قبل الأذان، وأُمسك بهذا الحبل حتى أصل إلى المسجد، ثم بعد انتهاء الصلاة وخروج الناس، أخرج أنا كآخر رجلٍ من المسجد، وأُمسك بالحبل مرةً أخرى حتى أعود إلى بيتي؛ إذ ليس لي قائدٌ يقودني"!

نظرنا إلى كلتا يديه، فإذا هُما خشنتين مُتشققتين تشهدان على صدق صاحبهما.

إنه رجلٌ نوَّر الله قلبه بالإيمان، قصد طاعة الله، أراد الصلاة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ فكأنه قد تمثل قوله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾، إنه رجلٌ في هذا السن، كفيف البصر، ضعيف البناء، بحالةٍ لو رأيتموها لتعجبتم والله! يقول: "من أجل الصلوات الخمس في المسجد"؛ فأين الرجال المُبصرون الذين يتكاسلون عن حضور الصلوات الخمس في المسجد؟ أين الذين هجروا صلاة الفجر؟ أين الذين حرموا أنفسهم من الصلاة في بيوت الله؟ أين أولئك الكُسالى الذين امتنعوا عن أداء الصلوات الخمس في المسجد؟! ألم يستمعوا إلى قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾.

نعود إلى قصة (العم «عابد»)، يقول أهل المنطقة عنه إنه رجلٌ سمته الصلاح والوقار، كفيف البصر من زمنٍ بعيدٍ، أما عن الحبل فقد غيَّره أكثر من مرة!

فأين المُبصرون الأصحاء جيران المساجد، الذين لا يشهدون الصلوات الخمس بها؟ أين الذين حرصوا على الوظائف والمناصب والتجارة وغيرها من أمور الدنيا أكثر من حرصهم على الصلاة بالمساجد؟ أين هُم من (العم «عابد»)؟!

 

أحبتي في الله.. تدور قصة هذا الرجل الصالح حول أمرين مُهميْن: المحافظة على الصلوات الخمس وعدم التخلف عنها رغم وجود العُذر، والبصيرة التي عوضته عن فقدان البصر.

عن الأمر الأول يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صَلَاةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وفي سُوقِهِ، خَمْسًا وعِشْرِينَ ضِعْفًا، وذلكَ أنَّهُ: إذَا تَوَضَّأَ، فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إلَّا رُفِعَتْ له بهَا دَرَجَةٌ، وحُطَّ عنْه بهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عليه، ما دَامَ في مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عليه، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولَا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلَاةٍ ما انْتَظَرَ الصَّلَاةَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟]، قالُوا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: [إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ]. وهذا رجلٌ أعمى قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنه ليس له قائدٌ يقوده إلى المسجد، وسأل رسول الله أن يُرَّخص له فيصلي في بيته، فرَّخص له، فلما ولىَّ دعاه فقال: [أتَسمعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ؟]، قال: نعم، قال: [فأجِبْ]؛ أي فاذهب للصلاة بالمسجد ولا تُصلِ في بيتك.

 

وكان المسلمون الأوائل يحرصون على الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، ويسعون لإدراك فضل الصلاة في الصف الأول، حتى قيل إن بعضهم صلى سبعين سنةً ما فوَّت تكبيرة الإحرام ولا مرةً واحدة.

ونُقل عن أحدهم قوله لأصحابه: "إذا سمعتم حيّ على الصلاة، ولم تجدوني في الصف الأول، فإنما أكون قد مِتُ".

وقيل: "من تأخر عن حيّ على الصلاة، تأخر عنه الفلاح".

وقيل أيضاً: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة -يقصد في المسجد- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف".

 

وعن الأمر الثاني؛ البصيرة؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

وقال أحد التابعين: "لكل إنسانٍ أربع أعينٍ: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبِه لآخرته؛ فإن عَمِيَت عينا رأسِه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسِه وعَمِيَت عينا قلبِه فلم ينفعه نظرُه شيئاً".

وقال الشاعر في هذا المعنى:

إنْ يأخذ الله من عينيَّ نورَهما

فإن قلبي مُضيءٌ ما به ضَررُ

أرى بقلبي دُنيايَ وآخرتي

هو القلبُ يُدركُ ما لا يُدركُ البَصرُ

 

أحبتي.. فقد (العم «عابد») البصر، لكنه لم يفقد البصيرة؛ فأضاء الله دربه بنور الإيمان، ويسَّر له أداء الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد القرية بغير رفيقٍ يأخذ بيده، ولا قائدٍ يقوده إلى المسجد ويعود به إلى بيته، وكأنه ممن تصفهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

إنّ في قصة (العم «عابد») عبرةً لكل مُسلمٍ، ودرساً لكل مؤمنٍ، وتذكِرةً لكل غافلٍ؛ ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾؟

اللهم اجعلنا من عُمّار بيوتك، ومن المُحافظين على الصلوات في أوقاتها، وأنِر بصائرنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يسمعون ويقرأون عن الصالحين فيتعلمون منهم ويتخذونهم قدوةً لهم.

https://bit.ly/4lsLsH1

الجمعة، 4 أبريل 2025

رمضان غيَّرني

 

خاطرة الجمعة /493

الجمعة 4 إبريل 2025م

(رمضان غيَّرني)

 

يقول أحد الشباب: كنتُ شاباً غارقاً في اللهو والملذات، بعيداً عن طريق الصواب، لم أكن أهتم بالصلاة أو الصيام، وكانت حياتي تدور حول الأصدقاء والسهرات والأغاني، حتى جاء رمضان، شهر الرحمة والمغفرة. في البداية، لم يكن رمضان يعني لي شيئاً، كنتُ أعتبره شهراً ثقيلاً، شهراً للحرمان من الطعام والشراب، ولكن بمرور الأيام، بدأتُ ألاحظ شيئاً غريباً، بدأتُ أرى الناس من حولي يتغيرون؛ بدأتُ أرى وجوههم تُشرق بالنور، وقُلوبهم تفيض بالرحمة. بدأتُ أسمع صوت القرآن الكريم يتردد في كل مكانٍ حولي؛ في الأسواق والمحلات ووسائل المواصلات. بدأتُ أرى الناس يتسابقون إلى فعل الخيرات. بدأتُ أرى الفُقراء والمُحتاجين يتلقون المُساعدة والدعم من الجميع. بدأتُ أرى الناس يتسامحون ويتصالحون، ويتصافحون ويتعاونون. في إحدى الليالي، ذهبتُ إلى المسجد مع صديقٍ لي، كنتُ أشعر بفضولٍ غريبٍ، عندما دخلتُ إلى المسجد، شعرتُ بشعورٍ لم أشعر به من قبل؛ شعرتُ بسَكينةٍ وهدوءٍ يغمران قلبي. استمعتُ إلى إمام المسجد وهو يقرأ القرآن، وشعرتُ بكلمات الله تخترق قلبي، وتُحرك شيئاً في صدري. في تلك الليلة، قررتُ أن أتغير، قررتُ أن أعود إلى طريق الصواب؛ بدأتُ أُصلي وأصوم، وبدأتُ أقرأ القرآن، وأتعلم الكثير عن ديني. بدأتُ أتخلى عن اللهو والملذات، وأُركز على فعل الخير ومُساعدة الآخرين. صرتُ من المُصلين مع الجماعة بالمسجد بعد أن كنتُ هاجراً للصلاة، وأصبحتُ وأمسيتُ مع كتاب ربي الذي طالما هجرته وابتعدتُ عنه أياماً وأسابيع. كما حدث زلزالٌ عظيمٌ في علاقتي بالناس؛ فقد كانت مُعاملتي لهم غليظةً، وسلوكي معهم فظاً، حتى حلَّ رمضان بساحتي وأدركتُ أيامه الفاضلة، فكان للطاعات أثرٌ كبيرٌ عليّ، فها هي نفسي قد هُذبت، وأخلاقي قد استقامت. ووصل التغيير إلى سلوكي؛ فق دكنتُ أظن أن الحياة مُتَعٌ وشهواتٌ ينهل المرء منها كيفما شاء بدون حسيبٍ أو رقيبٍ، وأنَّ له أن يتمتع بلذائذها حتى وإن كانت فيما لا يُرضي الله، أو كان فيها تعدٍ على الآخرين، فإذا بروحانية رمضان تحلبي، وخيرات هذا الشهر تنتشلني من غفلتي، وتوقظني من سهوتي. صرتُ أيضاً أحفظ جوارحي عن الحرام؛ حين علمتُ أن كثيراً من تعبي وجوعي وعطشي طوال أيام رمضان سيذهب سُدىً إن لم أُحافظ على جوارحي، وأُحيطها برعايتي؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾. وكذلك تعرفتُ على شرف الأوقات؛ واكتشفتُ أنني كنتُ مُفرِّطاً في أوقاتٍ شريفةٍ وأزمنةٍ جليلةٍ، عظَّمها ربي عزَّ وجلَّ وأثنى على أهلها، لم أعرف فضلها إلا بعد بلوغي رمضان مع أنها مُعظمةٌ في كل شهرٍ، وهي أوقاتٌ مدح الله المُغتنمين لها، وجعل الأُعطيات لأهلها أعظم العطايا، ومن أجلِّها وأعظمها وقت السحر؛ فعقدتُ العزم على استغلاله بصلاة التهجد والإكثار من الاستغفار وطرح حاجتي على ربي الذي وعد بالاستجابة، وهو سُبحانه أوفى من صدق. كما عرفني رمضان قدْر نفسي؛ فكم كنتُ مُغتراً بحالي، وكنتُ أظن أنني ما دمتُ أعيش في بلاد الإسلام فإني لستُ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الطاعات والقُربات، وتكفيني بضع ركعاتٍ أركعها، أو قراءة بعض آياتٍ من القرآن وقت فراغي، وأما الصدقة فلم أكن أُفكر فيها؛ لأن ما معي من مالٍ كنتُ أُنفقه على شراء كل أمرٍ مُتعلقٍ بدنياي، لكن بدخول هذا الشهر الكريم، رأيتُ صوراً ناصعةً لأهل الخير؛ فأنَّبتُ نفسي أشدَّ التأنيب على تفريطها في جنب الله، وكيف مضى هذا العمر وأنا أسيرٌ للغفلات، كيف لو قَدِمتُ على ربي وأنا خالٍ من الكثير من الحسنات، وغيري من المُتصدقين يتسابقون إلى الصدقة؛ فهذا يبحث عن فقيرٍ ويصل إلى بيته، وذاك قام على إفطارٍ للصائمين، وثالثٌ نذر وقته كله لخدمة المسلمين؛ فعدتُ باللوم على نفسي، وأيقنتُ أنني في حاجةٍ إلى أن يُعينني الله على مثل تلكم الطاعات.

(رمضان غيَّرني)؛ لأنه شهر نزول الرحمات والبركات، ونفحات المغفرة تُحيط بالعباد، وليقيني أني محرومٌ إن لم تُدركني تلك الرحمات، وأني سأبقى في شقاءٍ إن لم أتعرض لتلك النفحات؛ لم لا وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك فقال: [رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ].

كان شهر رمضان المُبارك بمثابة نقطة تحولٍ في حياتي؛ بالفعل (رمضان غيَّرني) فتحولتُ من شابٍ غافلٍ إلى شابٍ مُلتزمٍ بدينه، حريصٍ على فعل الخير، يسعى إلى رضا الله. لقد علَّمني رمضان أن الحياة ليست مُجرد لهوٍ وملذاتٍ، بل هي فرصةٌ للتقرب إلى الله، وفرصةٌ لفعل الخير، وفرصةٌ للتغيير نحو الأفضل. بعد رمضان، لم أعد كما كنتُ؛ أصبحتُ شخصاً آخر، شخصاً أفضل، أصبحتُ أكثر هُدوءاً وتسامحاً، وأكثر حرصاً على فعل الخيرات، لقد أصبحتُ أرى الحياة بمنظورٍ مُختلفٍ، وأصبحتُ أُقدِّر كل لحظةٍ فيها. أدركتُ أن رمضان هو شهر التغيير، شهر الرحمة والمغفرة، شهر العودة إلى الله، إنه شهرٌ يمنحنا فرصةً لتغيير حياتنا نحو الأفضل، وفرصةً للتقرب إلى الله والفوز برضاه.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن بَركة شهر رمضان المُبارك عظيمةٌ؛ فهي فرصةٌ للازدياد من الخيرات، ومُنطلقٌ للإكثار من القُربات، وسببٌ للتغير والتحول من المعصية إلى الطاعة، ومن الفساد إلى الصلاح وإلى الإصلاح. إن رمضان فرصةٌ للتغيير الإيجابي نحو الأفضل، فرصةٌ للمراقبة والمُحاسبة في العبادات والسلوك والأخلاق والعادات والمُعاملات. رمضان غيَّرنا؛ علَّمنا التنظيم وإعادة ترتيب الوقت بين قراءة قرآنٍ وصلاةٍ وعباداتٍ مُختلفةٍ، وبين صلة رحمٍ، وتواصلٍ وتراحمٍ، وحضور فعالياتٍ دينيةٍ وثقافيةٍ مُتنوعةٍ، وبين إخلاصٍ وتفانٍ في العمل والعطاء. غيَّرنا رمضان؛ فصرنا أهلاً للجد والاجتهاد بدلاً من النوم والكسل، لقد وجَّه بوصلة حياتنا للأفضل فأعدنا ترتيبها وتنسيق أولوياتنا.

 

وتحت عنوان "ماذا تعلمتُ في رمضان؟" كتب أحد الصالحين يقول: تعلمتُ في رمضان أن الصيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على صيام شهرٍ كاملٍ قدر على الاستمرار في صيام يومي الإثنين والخميس، وثلاثة أيامٍ من كل شهر. تعلمتُ في رمضان أن القيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على قيام شهرٍ كاملٍ قدر على الاستمرار في صلاة القيام والتهجد والوتر كل ليلة. تعلمتُ في رمضان أن ختم القرآن ليس أمراً صعباً، وأن من السهل قراءة جزءٍ من القرآن يومياً، وتلاوة ما تيسر منه في ساعات الصباح والمساء وأوقات الانتظار. تعلمتُ في رمضان أن الصدقة تُزيد المال ولا تُنقصه، وأن علينا أن نتصدق على المحتاجين بشكلٍ مُستمرٍ. تعلمتُ في رمضان أن الأخلاق لا تقف عند المظاهر، بل هي سلوكٌ يوميٌ نتحلى به في تعاملاتنا؛ فلنُحسِّن أخلاقنا مع جميع الناس وفي كل المواقف.

 

وللتنبيه إلى أمرٍ هامٍ كتب أحدهم: احذر أول أُسبوعٍ بعد رمضان؛ أُسبوع حربٍ من الشيطان، فهو عائدٌ بقوةٍ ولكن بخطواتٍ ماكرةٍ، يُزين الأعذار لتأجيل الصلاة، وترك النوافل، وتسويف قراءة القرآن، والنوم عن صلاة الفجر، بحجة أنك خارجٌ من رمضان ومحتاجٌ للراحة! ومن هنا يبدأ الانحدار خطوةً خطوةً إلى أن يصل الحال إلى ما كان قبل رمضان. لا تستسلم لخطة الشيطان، لا تنس الدعاء فهو نجاةٌ؛ فاسأل الله الثبات، رافِق الصالحين المُذكِّرين بالخير. الصلاة والقرآن خطٌ أحمر لا تتنازل عنهما، ولا تنس صيام الست من شوال؛ أيامٌ قلائل تُدرك بها ثواب صيام العام كله بفضل الله ورحمته.

 

وهذا آخر كتب تحت عنوان: "وماذا بعد رمضان؟" يقول: ها هو شهر رمضان قد رحل، سَعِد فيه المتقون، وذاق حلاوته العابدون؛ في نهاره صيامٌ وتلاوة قُرآنٍ وبذلٌ وعطاءٌ وإحسانٌ، وفي ليله تهجدٌ وذِكرٌ ودعاءٌ وتوبةٌ واستغفارٌ، فهنيئاً لمن عَمَّر فيه وقته بالصالحات، واستدرك اللحظات قبل الفوات. والعاقل من يُحكم البناء بعد أن أقامه، ويصدق في توبته بعد أن عاهد ربه. والعاقل من عرف قيمة حياته، وثمن أنفاسه؛ فجَدَّ بالتقرب إلى مولاه حتى بعد انقضاء شهر الخيرات: ﴿وَاعْبُدْ رْبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. ليكن حالك بعد رمضان شبيهاً بحالك في رمضان؛ فداوِم على فعل الخيرات وإن قلَّت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ]؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطعٍ؛ لأنّ بدوام القليل تدوم الطاعة والذِكر والمُراقبة وإخلاص النية. إن مِن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومِن علامة قَبول العمل إتباعه بعملٍ صالحٍ مثلِه؛ فيتضاعف الربح، وتزيد الحسنات؛ لذلك أُوصيك أخي بالإكثار من الأعمال الصالحة؛ ومنها: خصص لك يومياً وِرداً من قراءة القرآن. صُمْ الست من شوال. صُم الأيام البيض. تصدق ولو بالقليل. رطِّب لسانك بالذكر والاستغفار. قُم الليل. الزَم الدُعاء آناء الليل وأطراف النهار. وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

 

أحبتي.. بعد أن انتهى رمضان، ليسأل كل واحدٍ منا نفسه، إلى أي مدى أثَّر فيه رمضان؟ هل غيَّر من حياته نحو الأفضل؟ هل تعَلَّم منه؟ يقول أحد العارفين: ما أجمل أن يتغير المرء ويُغيِّر من حياته كلها، فيرجع العاصي إلى ربه، ويقترب البعيد، ويزداد الصالح صلاحاً، والمؤمن إيماناً، كُلنا يتمنى التغيير ولكن منا من يطلبه ويسعى إليه، ومنا من يتمناه ولكن دون عملٍ ولا فعلٍ؛ يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ فالتغيير يحتاج إلى عزيمةٍ وإرادةٍ جادةٍ وقويةٍ. إن الهدف الأسمى والغاية العُظمى من الصيام هو التقوى؛ يقول تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، نصوم لنزداد تقرباً من الله سُبحانه وتعالى، ويقيناً به، وخوفاً وخشيةً منه، لنقترب منه أكثر، بطاعته وعبادته، والبُعد عن معصيته. كم من إخوانٍ لنا حُرموا بلوغ رمضان هذا العام؟ وكم مُنعوا منه؟ وارهم الموت تحت الثرى، أو حال المرض دون صيامهم وقيامهم؛ فيا من بلغتَ الشهر الكريم، وصِرتَ من أهل صيامه وقيامه، وعرفتَ فضل هذا الشهر المُبارك، فحافظتَ على الصلاة في المسجد، وواظبتَ على تلاوة القُرآن وتدبَّرتَ معانيه وألزمتَ نفسك بأحكامه، وقمتَ بصلة رحمك، وتفقَّدتَ جيرانك، وأكثرتَ من الأعمال الصالحة، وأخرجتَ الصدقات وزكاة فطرك. يا من فعلتَ كل ذلك في رمضان، وقلتَ إن (رمضان غيَّرني)، إذا كانت عبادتك لرمضان فإنّ رمضان قد انقضى ومضى، وإن كانت عبادتك لله فإنّ الله حيٌّ لا يموت، ورب رمضان هو رب شوال ورب الشهور كلها. لا تنتكس ولا تكسل، ولا تدع عزيمتك تفتر، ولا تسمح لإرادتك أن تضعف، لا تتخاذل، لا تكن رمضانياً ولكن كُن ربانياً؛ استمر وثابر، ولا تقطع صلتك بجميل ما فعلتَ في رمضان، حافظ على همتك، وواصل ما تعودتَ على فعله في رمضان. أخلص النية، تجد الإعانة والتيسير من الله عزَّ وجلَّ.

اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واغفر لنا وارحمنا، وتجاوز عن تقصيرنا، وساعدنا اللهم على أن نُغيِّر أنفسنا للأفضل، وأعنِّا على الثبات والاستمرار في الطاعات والقُربات بعد انتهاء الشهر المُبارك، إنك سُبحانك وليّ ذلك والقادر عليه.

https://bit.ly/43XMIMj

الجمعة، 28 مارس 2025

جزاء الإحسان

 خاطرة الجمعة /492

الجمعة 28 مارس 2025م

(جزاء الإحسان)

 

 كتب ناشر هذه القصة يقول: كنتُ ذات مرةٍ مع أخٍ في الله، فجعلنا نتذاكر الأيتام وضرورة مُراعاة أحوالهم؛ فإذا به يقول: "أقص لكَ اليوم قصةً لا يعلم بها أحدٌ قط سوى زوجتي، لكنني أجد نفسي مُنساقاً إلى أن أذكرها لك!"، فتشوقتُ إلى سماع قصته وشجعته على ذِكرها؛ فقال:

كانت ليلة  آخر يومٍ من أيام رمضان فأفطرنا، وكنا ننتظر إما أن يتم الإعلان عن رؤية هلال العيد أو أن يكون يوم الغد مُتمِماً لشهر رمضان المبارك، وقبل صلاة العشاء أُعلن عن ثبوت رؤية هلال شوال، وأن أول أيام عيد الفطر ستكون في اليوم التالي، فإذا بامرأةٍ تتصل بي وتقول: "يا شيخ، أنا أُم لخمسة أطفالٍ أيتامٍ، أُقسم بالله -والليلة ليلة عيد- ما في بيتنا طعامٌ لهذه الليلة، أُقسم بالله ما في بيتنا أي شيء"؛ فتنغصتُ، وأصابني النكد، ولم أحرِ جواباً، ولم أدرِ ما أفعل، وقد كانت لديّ الكثير من المشاغل في ذلك الوقت، لكنني آليتُ علي نفسي أن أترك كل شيءٍ وأن أمضي إلى تلك المرأة.

أخذتُ عنوان سكنها، واصطحبتُ زوجتي ثم مضينا إلى بيت المرأة، دخلنا بيتها، وجعلتُ أنا وزوجتي نسألها وهي تُجيبنا؛ فإذا بيتهم لا شيء فيه أبداً، لم تُعِّد ملابس لأبنائها، ولا يوجد لديها طعامٌ، لا خضار ولا فواكه؛ فتكسّر قلبي وأقسمتُ بالله العلي العظيم ألا أعود إلى بيتي وإلى أبنائي حتى أطمئن أن أبناء تلك المرأة عندهم مثل ما عند أبنائي تماماً. خرجتُ من عندها وتركتُ زوجتي عندها، وذهبتُ أول ما ذهبتُ إلى بائع اللحم أعطيته ألف ريالٍ وطلبتُ منه أن يُعِّد لهم ما يشاء من لحمٍ، وعندما علم بحال تلك المرأة أضاف من عنده لحماً بقيمة خُمسمائة ريالٍ أخرى. ثم توجهتُ إلى بائع الخُضروات والفواكه فاشتريتُ بعض الخُضروات والفواكه، ثم أتيتُ صاحب محلٍ للملابس فاشتريتُ منه ملابس للأطفال، ثم عُدتُ إلى بيت المرأة، فلما شاهدت ما أحضرته من لحمٍ وخضرواتٍ وفواكه قالت: "ما كل هذا؟! هذا كله سيتلف، كله سيخرب؛ فثلاجتنا آخر عهدي بها عندما كانت تعمل قبل سنواتٍ طويلةٍ!"، فقلتُ لها: "لا تحملي هماً؛ فقد أقسمتُ بالله أن يفرح أبناؤك الليلة كما يفرح أبنائي"، وخرجتُ من بيتها واتصلتُ بصاحب محلات أجهزةٍ كهربائيةٍ أعرفه، رجلٌ فاضلٌ، اتصلتُ به وأخبرته بالأمر؛ فقال لي: "لئن اتصلتَ بي، ليس في ليلة عيدٍ، بل واللهِ لو اتصلتَ بي في وقت صلاة العيد، لأتركنَّ صلاة العيد وأفتح لك ذلك المحل"، توجهتُ إلى محله فأخرج ثلاجةً جديدةً، ثم اتصل بصاحب سيارة نقلٍ، قمنا بوضع الثلاجة فيها، وركبتُ بجوار السائق إلى بيت المرأة؛ فأنزلنا الثلاجة وقلتُ لها: "الآن أدخلي اللحم والخُضار والفواكه إلى الثلاجة، وأعدّي لي ولزوجتي كوبين من الشاي"، فبكت وقالت: "أعتذر كل الاعتذار؛ يُمكنني أن آتي لكم بالشاي من عند جيراننا؛ فآخر أنبوبة غازٍ كانت قبل عدة أشهرٍ، عندما كنتُ أستدين لشرائها"، فدمعت عيناي وقلتُ: "واللهِ لنشربن الشاي الليلة عندك، ولا نعود إلى بيتنا حتى نشربه"، وفعلتُ مع صاحب أنابيب الغاز ما فعلته مع صاحب الثلاجة؛ فجاء على الفور وركَّب لها أنبوبة الغاز؛ فقلتُ: "الآن أعدي الشاي". جاء أطفالها إليّ وإلى زوجتي يرقصون ويقفزون علينا، ويُقبلوننا من الفرح كأنما نحن أباهم وأُمهم. شربنا الشاي، وكان أجمل شايٍ نشربه؛ فقد شربناه مع دُموع الفرح.

عُدتُ أنا وزوجتي إلى بيتنا، وقد قاربت الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل، وإذا أبناؤنا قد ناموا، فقلتُ مُناجياً ربي: "يا ربِ إن كنتُ قد قصَّرتُ في حق أبنائي هؤلاء فلأجل إسعاد آخرين".

يقول الرجل: "فواللهِ ما نمتُ إلا قبل صلاة الفجر بساعةٍ، فرأيتني في منامي وأنا أسير في طريقٍ فيه مالا عينٌ رأت أبداً ولا خطر على قلب بشر، وأنا أُقسم باللهِ على ما أقول". يتكلم والدموع تسيل من عينيه، يقول: "واللهِ العظيم لا أستطيع أن أصف شيئاً، إلا فاكهةً شهيةً أردتُ أن أقطف منها، فقالوا لي {لا لا هذا ليس لك، هذا لعوام الناس، أما أنتَ فطعامك هناك} وأشاروا لي إلى السماء، فجعلتُ أنظر إليها فإذا فواكه مُتدليةٌ ما رأيتُ مثلها أبداً، فقلتُ في نفسي كيف أصل إليها؟ فإذا هي قد نزلت عند يديّ فأكلتُ منها قطعةً ما إن ذقتها حتى استفقتُ من حلاوة طعمها، فأحببتُ أن أُحدِّث زوجتي بما رأيتُ، فإذا بها تقول لي: "ما أطيب رائحة فمك، ما شممتُ مثل هذه الرائحة من قبل قَط"!

 

أحبتي في الله.. هذه قصة إحسانٍ رائعةٌ، بينت نهايتها بعضاً من جوانب (جزاء الإحسان) في الرؤيا التي رآها ذلك المُحسن في منامه؛ فإذا كانت هذه بُشرى للمُحسن في الدنيا فإن ما ينتظره في الآخرة أعظم.

لقد وردت آياتٌ قُرآنيةٌ كثيرةٌ عن المُحسنين؛ يمدحهم الله سُبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، وبقوله: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾،وهو عزَّ وجلَّ يُحبهم: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويعدهم بأن رحمته قريبةٌ منهم: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويعدهم بأن يوفيهم أجورهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويُخبرهم أنهم في معيته: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويُبشرهم: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾، ولعل البُشرى تكون في الجائزة الكُبرى التي هي (جزاء الإحسان) في الآخرَةِ بالحُسْنَى وزيادةٍ، والحُسْنَى هيَ الجَنَّةُ، والزيادةُ هيَ النظرُ إلى وجهِ اللَّهِ تعالى، يقول جلَّ وعلا: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة﴾.

وعن الإحسان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تراهُ، فإنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ].

وللإحسان وجهان؛ أحدهما: الإنعام على الغير، والثاني: إتقان العمل خاصةً في العبادات. ولعل القصة التي أوردناها تقع في مجال الوجه الأول؛ ففيها إحسانٌ على امرأةٍ اضطرتها ظُروفها الصعبة إلى طلب العون، ومع ذلك لا تبتعد القصة كثيراً عن الوجه الثاني؛ فمُساعدة المُحتاجين عبادةٌ.

وما أكثر مجالات الإحسان؛ كتب أحد العُلماء مُفصلاً لها فقال:

الإحسان إلى أنفسنا؛ فنُبعدها عن الحرام، ولا نفعل إلا ما يُرضي الله، ونحن بذلك نُطهِّر أنفسنا ونُزكيها، ونُريحها من الضلال والحيرة في الدنيا، ومن الشقاء والعذاب في الآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾.

الإحسان والبِر بوالدينا؛ بطاعتهما، والقيام بحقهما، والابتعاد عن الإساءة إليهما؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.

الإحسان إلى أقاربنا؛ بأن نكون رُحماء في مُعاملتنا معهم، وبخاصةٍ إخواننا وأهل بيتنا وأقاربنا ومعارفنا، نزورهم ونصلهم، ونُحسن إليهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾.

الإحسان إلى جيراننا؛ بإكرامهم امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما زالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ].

الإحسان إلى الفقراء والمساكين؛ بالتصدق عليهم، بغير نفاقٍ أو مراءاةٍ، وعدم المن؛ ليكون العمل خالصاً لوجه الله؛ يقول تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾.

الإحسان إلى اليتامى؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وبشَّر من يُكرم اليتيم، ويُحسن إليه بالجنة؛ فقال: [أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين] وأشارَ بأصبُعَيْهِ: السَّبَّابةَ والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًاً.

الإحسان في القول؛ فلا يخرج منا إلا الكلام الطيب الحسن، يقول تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.

الإحسان في التحية؛ بالالتزام بتحية الإسلام، ورد التحية؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها﴾.

الإحسان في العمل؛ حتى يتقبله الله منا، ويجزينا عليه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ].

 

 

أحبتي.. علينا بالإحسان في كل أمور حياتنا، ولا ننتظر المكافأة أو الشكر من أحدٍ، يكفينا (جزاء الإحسان) من الله عزَّ وجلَّ، فإنه سيُعطينا من واسع فضله وهو القائل: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ بمعنى أن من أحسن في الدُنيا يُحسن الله إليه في الآخرة. والمحسنون لهم أجرٌ عظيمٌ عند الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًاً﴾؛ ماذا ننتظر أكثر من هذه البُشرى؟! فلنُسابق إلى فعل الطاعات، والإكثار منها، فقد تعهَّد الله لنا بحُسن الجزاء، وهو سُبحانه أهلُ الكرم وأهل الوفاء.

وأحسنُ العمل ما اتسم بالإخلاص وأُريد به وجهُ الله سُبحانه وتعالى، وكان موافقاً لصحيح سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن وُفِّق إلى ذلك فليهنأ بجزاء الله الكريم في الدُنيا قبل الآخرة.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وتقبَّل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، واجعل الله أيام الأعياد مواسم إحسانٍ وأبواب خيرٍ يعم الجميع.

https://bit.ly/4j8MJRQ