الجمعة، 25 أبريل 2025

أرحنا بها يا بلال

 

خاطرة الجمعة /496

الجمعة 25 إبريل 2025م

(أرحنا بها يا بلال)

 

عبَّرت بصراحةٍ تُحسد عليها عن موقفٍ مرَّ بها، وكان هدفها توعية غيرها ممن قد يمرون بنفس الموقف؛ كتبت هذه الفتاة على منصة X تقول:

كنتُ أَمرُّ بفترةِ اكتئابٍ وسخطٍ على الدنيا، كان كل شيءٍ ينال مني، أما أنا فلم أنلْ شيئاً. في ذلك اليوم كنتُ في الجامعة وسمعتُ أذان الظهر، وفي العادة، عندما نسمع الأذان، كنا -أنا وزميلاتي- نستعد فوراً للصلاة؛ فنتوضأ، ثم نُصلي في مسجد الكلية معاً.

لكن في ذلك اليوم، لا أعرف ما الذي دهاني؛ كنتُ واقفةً قرب المسجد وسمعتُ الأذان، لكنني كنتُ منهكةً، كأن حجراً ثقيلاً جاثماً على صدري، حتى إنني سمعتُ الأذان ولم أتحرك للوضوء. وقتها قررتُ ألا أتوضأ، وألا أُصلي، ولا حتى أُكمل اليوم الدراسي! قررتُ أنني سأعود إلى البيت لأنام، ولن أُصلي حين أصل إلى البيت! ولأؤكد لنفسي أنني لا أتدلل، وأن التعب حقيقيٌّ، زيَّن لي الشيطان أن أنام -حين أصل إلى البيت- بالحذاء ولا أخلعه!

وبالفعل؛ ما زلتُ أسمع الأذان، لكني كنتُ أبتعد عن المسجد عائدةً إلى البيت. توجهتُ إلى موقف الحافلات، ركبتُ حافلةً صغيرةً، وفي الطريق، ومن شدة الإرهاق غفَت عيناي. وفجأةً صحوتُ على صراخ الركاب: "انتبه! انتبه!" ثم انقلبت الحافلة مرتين أو ثلاثاً، لا أتذكر. حينها لم أكن أرى ما حولي، لكنني كنتُ أسمع صوتاً داخلياً يسأل: "أأنا ميتةٌ الآن؟ أم لا أزال حيةً؟ وإن متُّ فهل أموت وأنا عازمةٌ على ترك الصلاة؟ يا ليتني كنتُ قد نويتُ الصلاة في البيت! لم أفعل، بل كنتُ عازمةً على عدم الصلاة مُطلقاً! يا الله! إنها الصلاة! أول ما سوف أُسأل عنه، فماذا سيكون ردي؟!".

وبينما أنا غارقةٌ في أفكاري داخل الحافلة المُنقلبة، غير مُدركةٍ لأي شيءٍ في العالم الخارجي، لم أفُقْ إلا على قطراتٍ من البنزين تتساقط على ملابسي. فخفتُ أن تحترق الحافلة وأنا لا أزال داخلها، ناجيتُ ربي: "ربِّ، إني غير مُستعدةٍ للموت على هذه النية! ربِّ، أمهِلني كي أعود إلى رُشدي"! نظرتُ حولي، فرأيتُ الجميع قد خرجوا من الحافلة، ولم يبقَ فيها سواي، ولولا أن سخَّر الله سبحانه وتعالى لي من يُخرجني منها، لكنتُ احترقتُ بداخلها.

الحمد لله؛ احترقت الحافلة بعد أن خرجنا جميعاً منها بسلامٍ، مع كسورٍ وجروحٍ طفيفة. ركبتُ حافلةً أخرى، وظللتُ أبكي طوال الطريق، حتى وصلتُ إلى بيتي. لم أكن أبكي من الجروح، ولا من الكدمات التي تُغطي جسدي كله، لكنني كنتُ أبكي شفقةً على نفسي، وخجلاً من كرم ربي الذي منحني فرصةً جديدةً. أول شيءٍ فعلته حين وصلتُ: توضأتُ وصليتُ. كنتُ أستطيع الصلاة جالسةً -لما في جسدي من كدماتٍ- لكنني قررتُ أن أُعاقب نفسي؛ فصليتُ واقفةً بكل ما بي من ألمٍ، أبكي كما لم أبكِ من قبل؛ لأنني شعرتُ أن هذا أقل شيءٍ أستطيع أن أُعاقب به نفسي عن سوء نيتي. وكان لسان حالي يقول: "إلا الصلاة، قد فهمتُ الدرس: لا ينفع أن نربط حالتنا النفسية بالصلاة".

تلك الحادثة كانت صفعةً قويةً أستحقها، ودعوتُ الله سبحانه وتعالى أن يُعيدني إليه بأي طريقةٍ كلما ابتعدتُ عنه، ولا يقبض روحي إلا وأنا تائبةٌ. أما عن الصلاة؛ فلا يجب أن تكون اختياراً مُرتبطاً بحالتنا النفسية: إن ساءت نفسيتنا، تركناها! بل على العكس تماماً؛ هي التي تُخرجنا من همومنا، وتُخفف أحزاننا، وتجعلنا بخير. تعجبتُ كيف غفلتُ عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"؟ أنا الآن أُذكركم، وأُذكِّر نفسي في عز انتكاستي: "اذكروا هذا كلما انتكستم! عودوا إلى طريق الصواب بأسرع ما يُمكن، حتى لو انتكستم ألف مرةٍ قبلها؛ فإننا لا نعلم متى؟ ولا على أي حالٍ يُدركنا الموت؟ فلنكن مُستعدين له في كل لحظةٍ؛ بالعمل الصالح، أو على الأقل بالنية الصالحة، وإن أخطأنا عُدنا سريعاً وتُبنا، ولا نُصِّر على ما فعلنا؛ فالله يُحب التوابين، وخير الخطائين التوابون".

 

أحبتي في الله.. لله دَرُّ هذه الفتاة؛ كم كانت صريحةً، وكم كانت صادقةً في التعبير عن مشاعرها، وكم كانت شجاعةً؛ فالكثير منا يمر بمواقف شبيهةٍ ويخجل أن يعترف بها علانيةً، فيُضيِّع على نفسه ما حصلت عليه هذه الفتاة من ثوابٍ؛ إذ نبهَّت غيرها إلى ما كان الشيطان سيوصلها إليه، لولا رحمةُ الله عز وجل.

تفاعلت كثيرٌ من الفتيات مع تلك الفتاة بعد أن نشرت قصتها، وكتبن لها إنهن يشعرن بانتكاسةٍ ولا يعرفن كيف يخرجن منها، ففتح الله عليها بفكرةٍ طيبةٍ، لعل فيها مزيداً من الأجر والثواب؛ إذ أنشأت مجموعةً على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، وكتبت تقول: "إن هدفنا من هذه المجموعة أن نكون سنداً لبعضنا؛ فيُقوي بعضُنا بعضاً وقت الانتكاسة، أنا لستُ أقوى منكن، بل قد أكون أضعفكن، لكنني أُحاول، وأُحب مَن يحاول. صحيحٌ أنني قد أتأخر عن الصلاة، لكنني -مثلكن- أخشى أن أموت وألقى ربي وأنا على هذه الحال، اللهم اهدنا يا رب العالمين".

 

وعلَّقت إحداهن على قصة الفتاة فقالت: "حدث لي مرةً أن نمتُ عن صلاة العشاء كسلاً، وقلتُ: إذا قمتُ لصلاة الفجر أُصليها. وكان المطر ينهمر بشدةٍ، وأنا على سريري أتهيأ للنوم، فسمعتُ صوت رعدٍ شديدٍ جداً، فمن الخوف قمتُ وصليتُ! استيقظ ضميري بعد سُباتٍ، شعرتُ أن ربي أرسل لي إشارةً واضحةً ألا أتكاسل، ولله الحمد".

وكتبت أُخرى: "ثبَّتكَ وثبَّتنا الله. الراحة التي أشعر بها حين أؤدي الصلوات الخمس لا تُوصف، كأنني فعلتُ شيئاً عظيماً، وصدق النبي الكريم حينما قال: أرحنا بها يا بلال. أما إذا جمعتُ صلاتين غصباً عني، فإني أحزن جداً، لم أكن أتخيل أن أصل إلى هذه المرحلة. اللهم ثبِّتنا حتى نلقاك".

وكتبت ثالثةٌ: "على ذكر ما حدث: كنتُ في المترو ذات مرةٍ فمال بشدةٍ وكاد أن ينقلب، فلم يخطر ببالي وقتها إلا: يا إلهي، لم أُصلِّ الظهر لأنني كنتُ مُتعجلةً! اللهم اغفر لي، وامنحني فرصةً لمراجعة نفسي، ولا أترك صلاةً إلا وصليتُها في وقتها".

وهذه رابعةٌ كتبت: "يحدث معي نفس الشيء في صلاة الفجر؛ أُؤجلها حتى قُبيل الأذان، فيوسوس الشيطان: نامي، أنتِ مُتعبةٌ! وغداً عندك محاضرات! وأنا من داخلي أعلم أنني أُريد الصلاة، لكن الكسل يغلبني. أسأل الله الهداية".

وأما الخامسة، فقد كانت لا تقل شجاعةً عن الفتاة التي نشرت القصة؛ فكتبت تقول: "أُحس أن قصتك صفعةٌ لي. صرتُ أتهاون في الصلاة بعد رمضان وأجمعها في آخر اليوم. إن شاء الله لا أعود لذلك. جزاكِ الله خيراً، لقد نبهتيني، ادعِ لي بالثبات والهداية".

وكتب شابٌ آخر يقول صراحةً: "مررتُ بنفس الموقف، كل بابٍ يُغلق في وجهي حتى قُلتُ: لن أُصلي العشاء! وكانت أول صلاةٍ أتخلف عنها مُنذ صغري. زيَّن لي الشيطان أن أقول: أنا دائماً أُصلي، ماذا يضر لو تركتُ صلاةً واحدةً؟! وحين قرأتُ قصتك؛ أحسستُ بمدى تقصيري وبغفلتي، جزاكِ الله خيراً، اللهم ثبِّتنا على الإيمان حتى نلقاك".

وكان هذا آخر تعليقٍ: "أنتِ محظوظةٌ بفضل الله سبحانه وتعالى؛ أولاً: لأنه نجاكِ من الموت ومنحك فرصةً جديدةً، وغيرُك حُرِمَها. ثانياً: لأنك استفدتِ من الموقف وتعلمتِ ألا تتخلي عن الصلاة مهما كانت حالتك النفسية، ومهما كانت ضغوط الحياة، وغيرُك قد لا يشعر بذلك. ثالثاً: لأنك التزمتِ بالمُداومة على الصلاة حقاً، وغيرُك قد لا يلتزم".

 

يقول الله سبحانه وتعالى عن الصلاة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، يقول المفسرون: إن الصلاة صعبةٌ إلا على الخاضعين المُخبتين المُطمئنةِ قلوبُهم وجوارحُهم لله تعالى؛ لأنهم موقنون أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا، والسعادة في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها سروراً يجعل نفوسهم تنشط إليها -كلما حلَّ وقتُها- بهمةٍ وإخلاص.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [يا بلالُ، أقمِ الصلاةَ، أرحنا بها] ويقول شُرَّاح الحديث: الصلاة أعظم أركان الإسلام العملية، ولها أهميتها الخاصة في الشرع، وفيها من الروحانيات والصلة بالله ما يجعل القلب يرتاح ويخرج من متاعب الدنيا إلى معية الحق سبحانه، وفي هذا الحديث يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلالٍ رضي الله عنه أن يرفع أذان الصلاة لتُقام؛ فنستريح بها، وكأن دخوله فيها هو الراحة من تعب الدنيا ومشاغلها؛ لما فيها من مُناجاةٍ لله تعالى، وراحةٍ للروح والقلب. وفي الحديث أن الصلاة راحةٌ للقلب من تعب الدنيا ومشاغلها، وفيه بيان عِظَم قدر الصلاة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها ينبغي أن تكون كذلك عند كل مُسلم.

ولا عجب في ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو القائل: [وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ]، وهذا بيانٌ لعظيم محبته لها؛ لما فيها من القُرب من المولى عز وجل؛ فلا شيء يُسعده ويُدخل عليه السرور بمثل ما تُدخل عليه الصلاة؛ فـقُرَّةُ العين" يُعبَّر بها عن المسرة ورؤية ما يُحبه الإنسان.

ومن عجبٍ أن البعض عندما يمر بأزمةٍ أو تتكالب عليه المشاكل أو يجور عليه الناس، ينسى ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف؛ إذ كان "إذا حَزِبَهُ أمْرٌ صلَّى" {حَزِبَهُ أمرٌ: أي أحزنه أو أصابه همٌّ}؛ ذلك أن الصلاة -كما يقول شارحو الحديث- صِلةٌ بين العبد وربه، وهي عبادةٌ جليلةٌ، فيها تصفو الروح من الكدر والمُنغصات، وفيها يقف العبد بين يدي ربه يدعوه لتفريج همومه؛ فهو وحده القادر على إزالة الهَم والحزن وتسهيل الصعاب. وفي هذا الحديث توجيهٌ لنا إلى حُسن التوكل على الله، واللجوء إليه في كل الأمور، واللجوء إلى الصلاة وقت الضيق، وحين تُحيط بنا الشدائد.

 

وتحت عنوان (أرحنا بها يا بلال) يقول الشاعر:

الصَّلاةُ ارْتِقاءٌ إلى ذي الْجَلالْ

وَبِها يَرْتَقي كُلُّ فِعْلٍ حَلالْ

لَمْ تَزَلْ تَمْلَأُ الْقَلْبَ أَنْوارُها

وَبِأَنْوارِها تَسْتَقيمُ الْخِصالْ

كَمْ تُنَظِّمُنا بِمَواعيدِها

فَمَواعيدُها لَيْسَ فيها اخْتِلالْ

هِيَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِخَيْرِ الْوَرى

وَلَنا نَحْنُ أَيْضاً، فَيا لَلْجَمالْ

وَهْيَ نَهْرُ الْأُجورِ، وَمِنْ مائِها

نَتَطَهَّرُ مِمّا يَشينُ الْفِعالْ

وَإذا ما وَجَدْنا بِها راحَةً

فَالرَّسولُ لَنا يا أَحِبّاءُ قالْ

يا لَهُ مِنْ رَسولٍ وَمِنْ قائِلٍ

حينَ قالَ: (أَرِحْنا بِها يا بِلالْ)

 

أحبتي.. لتكن الصلاة أول ما نهتم به، نُحافظ على إقامتها على وقتها، أياً كان ما نمر به من ظروفٍ، وعلى أي حالٍ كُنا؛ فلا نترك للشيطان علينا سبيلاً.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، واجعل الصلاة قُرة عينٍ لنا، واجعلنا نتأسى بقدوتنا صلى الله عليه وسلم؛ فنقول في أنفسنا مع كل أذانٍ: (أرحنا بها يا بلال).

https://bit.ly/4iR0ILD

ليست هناك تعليقات: