خاطرة الجمعة /492
الجمعة 28 مارس 2025م
(جزاء الإحسان)
كتب ناشر هذه القصة يقول: كنتُ ذات مرةٍ مع أخٍ في الله، فجعلنا نتذاكر الأيتام وضرورة مُراعاة أحوالهم؛ فإذا به يقول: "أقص لكَ اليوم قصةً لا يعلم بها أحدٌ قط سوى زوجتي، لكنني أجد نفسي مُنساقاً إلى أن أذكرها لك!"، فتشوقتُ إلى سماع قصته وشجعته على ذِكرها؛ فقال:
كانت ليلة آخر يومٍ من أيام رمضان فأفطرنا، وكنا ننتظر إما أن يتم الإعلان عن رؤية هلال العيد أو أن يكون يوم الغد مُتمِماً لشهر رمضان المبارك، وقبل صلاة العشاء أُعلن عن ثبوت رؤية هلال شوال، وأن أول أيام عيد الفطر ستكون في اليوم التالي، فإذا بامرأةٍ تتصل بي وتقول: "يا شيخ، أنا أُم لخمسة أطفالٍ أيتامٍ، أُقسم بالله -والليلة ليلة عيد- ما في بيتنا طعامٌ لهذه الليلة، أُقسم بالله ما في بيتنا أي شيء"؛ فتنغصتُ، وأصابني النكد، ولم أحرِ جواباً، ولم أدرِ ما أفعل، وقد كانت لديّ الكثير من المشاغل في ذلك الوقت، لكنني آليتُ علي نفسي أن أترك كل شيءٍ وأن أمضي إلى تلك المرأة.
أخذتُ عنوان سكنها، واصطحبتُ زوجتي ثم مضينا إلى بيت المرأة، دخلنا بيتها، وجعلتُ أنا وزوجتي نسألها وهي تُجيبنا؛ فإذا بيتهم لا شيء فيه أبداً، لم تُعِّد ملابس لأبنائها، ولا يوجد لديها طعامٌ، لا خضار ولا فواكه؛ فتكسّر قلبي وأقسمتُ بالله العلي العظيم ألا أعود إلى بيتي وإلى أبنائي حتى أطمئن أن أبناء تلك المرأة عندهم مثل ما عند أبنائي تماماً. خرجتُ من عندها وتركتُ زوجتي عندها، وذهبتُ أول ما ذهبتُ إلى بائع اللحم أعطيته ألف ريالٍ وطلبتُ منه أن يُعِّد لهم ما يشاء من لحمٍ، وعندما علم بحال تلك المرأة أضاف من عنده لحماً بقيمة خُمسمائة ريالٍ أخرى. ثم توجهتُ إلى بائع الخُضروات والفواكه فاشتريتُ بعض الخُضروات والفواكه، ثم أتيتُ صاحب محلٍ للملابس فاشتريتُ منه ملابس للأطفال، ثم عُدتُ إلى بيت المرأة، فلما شاهدت ما أحضرته من لحمٍ وخضرواتٍ وفواكه قالت: "ما كل هذا؟! هذا كله سيتلف، كله سيخرب؛ فثلاجتنا آخر عهدي بها عندما كانت تعمل قبل سنواتٍ طويلةٍ!"، فقلتُ لها: "لا تحملي هماً؛ فقد أقسمتُ بالله أن يفرح أبناؤك الليلة كما يفرح أبنائي"، وخرجتُ من بيتها واتصلتُ بصاحب محلات أجهزةٍ كهربائيةٍ أعرفه، رجلٌ فاضلٌ، اتصلتُ به وأخبرته بالأمر؛ فقال لي: "لئن اتصلتَ بي، ليس في ليلة عيدٍ، بل واللهِ لو اتصلتَ بي في وقت صلاة العيد، لأتركنَّ صلاة العيد وأفتح لك ذلك المحل"، توجهتُ إلى محله فأخرج ثلاجةً جديدةً، ثم اتصل بصاحب سيارة نقلٍ، قمنا بوضع الثلاجة فيها، وركبتُ بجوار السائق إلى بيت المرأة؛ فأنزلنا الثلاجة وقلتُ لها: "الآن أدخلي اللحم والخُضار والفواكه إلى الثلاجة، وأعدّي لي ولزوجتي كوبين من الشاي"، فبكت وقالت: "أعتذر كل الاعتذار؛ يُمكنني أن آتي لكم بالشاي من عند جيراننا؛ فآخر أنبوبة غازٍ كانت قبل عدة أشهرٍ، عندما كنتُ أستدين لشرائها"، فدمعت عيناي وقلتُ: "واللهِ لنشربن الشاي الليلة عندك، ولا نعود إلى بيتنا حتى نشربه"، وفعلتُ مع صاحب أنابيب الغاز ما فعلته مع صاحب الثلاجة؛ فجاء على الفور وركَّب لها أنبوبة الغاز؛ فقلتُ: "الآن أعدي الشاي". جاء أطفالها إليّ وإلى زوجتي يرقصون ويقفزون علينا، ويُقبلوننا من الفرح كأنما نحن أباهم وأُمهم. شربنا الشاي، وكان أجمل شايٍ نشربه؛ فقد شربناه مع دُموع الفرح.
عُدتُ أنا وزوجتي إلى بيتنا، وقد قاربت الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل، وإذا أبناؤنا قد ناموا، فقلتُ مُناجياً ربي: "يا ربِ إن كنتُ قد قصَّرتُ في حق أبنائي هؤلاء فلأجل إسعاد آخرين".
يقول الرجل: "فواللهِ ما نمتُ إلا قبل صلاة الفجر بساعةٍ، فرأيتني في منامي وأنا أسير في طريقٍ فيه مالا عينٌ رأت أبداً ولا خطر على قلب بشر، وأنا أُقسم باللهِ على ما أقول". يتكلم والدموع تسيل من عينيه، يقول:
"واللهِ العظيم لا أستطيع أن أصف شيئاً، إلا فاكهةً شهيةً أردتُ أن أقطف منها، فقالوا لي {لا لا هذا ليس لك، هذا لعوام الناس، أما أنتَ فطعامك هناك} وأشاروا لي إلى السماء، فجعلتُ أنظر إليها فإذا فواكه مُتدليةٌ ما رأيتُ مثلها أبداً، فقلتُ في نفسي كيف أصل إليها؟ فإذا هي قد نزلت عند يديّ فأكلتُ منها قطعةً ما إن ذقتها حتى استفقتُ من حلاوة طعمها، فأحببتُ أن أُحدِّث زوجتي بما رأيتُ، فإذا بها تقول لي: "ما أطيب رائحة فمك، ما شممتُ مثل هذه الرائحة من قبل قَط"!
أحبتي في الله.. هذه قصة إحسانٍ رائعةٌ، بينت نهايتها بعضاً من جوانب (جزاء الإحسان) في الرؤيا التي رآها ذلك المُحسن في منامه؛ فإذا كانت هذه بُشرى للمُحسن في الدنيا فإن ما ينتظره في الآخرة أعظم.
لقد وردت آياتٌ قُرآنيةٌ كثيرةٌ عن المُحسنين؛ يمدحهم الله سُبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، وبقوله: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾،وهو عزَّ وجلَّ يُحبهم: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويعدهم بأن رحمته قريبةٌ منهم: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويعدهم بأن يوفيهم أجورهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويُخبرهم أنهم في معيته: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويُبشرهم: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾، ولعل البُشرى تكون في الجائزة الكُبرى التي هي (جزاء الإحسان) في الآخرَةِ بالحُسْنَى وزيادةٍ، والحُسْنَى هيَ الجَنَّةُ، والزيادةُ هيَ النظرُ إلى وجهِ اللَّهِ تعالى، يقول جلَّ وعلا: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة﴾.
وعن الإحسان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تراهُ، فإنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ].
وللإحسان وجهان؛ أحدهما: الإنعام على الغير، والثاني: إتقان العمل خاصةً في العبادات. ولعل القصة التي أوردناها تقع في مجال الوجه الأول؛ ففيها إحسانٌ على امرأةٍ اضطرتها ظُروفها الصعبة إلى طلب العون، ومع ذلك لا تبتعد القصة كثيراً عن الوجه الثاني؛ فمُساعدة المُحتاجين عبادةٌ.
وما أكثر مجالات الإحسان؛ كتب أحد العُلماء مُفصلاً لها فقال:
الإحسان إلى أنفسنا؛ فنُبعدها عن الحرام، ولا نفعل إلا ما يُرضي الله، ونحن بذلك نُطهِّر أنفسنا ونُزكيها، ونُريحها من الضلال والحيرة في الدنيا، ومن الشقاء والعذاب في الآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾.
الإحسان والبِر بوالدينا؛ بطاعتهما، والقيام بحقهما، والابتعاد عن الإساءة إليهما؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.
الإحسان إلى أقاربنا؛ بأن نكون رُحماء في مُعاملتنا معهم، وبخاصةٍ إخواننا وأهل بيتنا وأقاربنا ومعارفنا، نزورهم ونصلهم، ونُحسن إليهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾.
الإحسان إلى جيراننا؛ بإكرامهم امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما زالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ].
الإحسان إلى الفقراء والمساكين؛ بالتصدق عليهم، بغير نفاقٍ أو مراءاةٍ، وعدم المن؛ ليكون العمل خالصاً لوجه الله؛ يقول تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾.
الإحسان إلى اليتامى؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وبشَّر من يُكرم اليتيم، ويُحسن إليه بالجنة؛ فقال: [أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين] وأشارَ بأصبُعَيْهِ: السَّبَّابةَ والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًاً.
الإحسان في القول؛ فلا يخرج منا إلا الكلام الطيب الحسن، يقول تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.
الإحسان في التحية؛ بالالتزام بتحية الإسلام، ورد التحية؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها﴾.
الإحسان في العمل؛ حتى يتقبله الله منا، ويجزينا عليه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ].
أحبتي.. علينا بالإحسان في كل أمور حياتنا، ولا ننتظر المكافأة أو الشكر من أحدٍ، يكفينا (جزاء الإحسان) من الله عزَّ وجلَّ، فإنه سيُعطينا من واسع فضله وهو القائل: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ بمعنى أن من أحسن في الدُنيا يُحسن الله إليه في الآخرة. والمحسنون لهم أجرٌ عظيمٌ عند الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًاً﴾؛ ماذا ننتظر أكثر من هذه البُشرى؟! فلنُسابق إلى فعل الطاعات، والإكثار منها، فقد تعهَّد الله لنا بحُسن الجزاء، وهو سُبحانه أهلُ الكرم وأهل الوفاء.
وأحسنُ العمل ما اتسم بالإخلاص وأُريد به وجهُ الله سُبحانه وتعالى، وكان موافقاً لصحيح سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن وُفِّق إلى ذلك فليهنأ بجزاء الله الكريم في الدُنيا قبل الآخرة.
اللهم اجعلنا من المُحسنين، وتقبَّل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، واجعل الله أيام الأعياد مواسم إحسانٍ وأبواب خيرٍ يعم الجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق