خاطرة الجمعة /457
الجمعة 26 يوليو 2024م
(ليست صدفة)
خرج الطبيب الجراح الشهير «س» على عجلٍ كي يذهب إلى المطار للمشاركة في
المؤتمر العلمي الدولي الذي سيُكرم فيه على إنجازاته الفريدة في عالم الطب، وفجأةً
وبعد ساعةٍ من الطيران أُعلن أنّ الطائرة أصابها عطلٌ؛ بسبب صاعقةٍ وستهبط هبوطاً
اضطرارياً في أقرب مطار. توجه الطبيب إلى استعلامات المطار، وقال: "أنا طبيبٌ
عالميٌ، وكل دقيقةٍ تُساوي أرواح ناس، وأنتم تُريدون أن أبقى 16 ساعةً بانتظار
طائرة؟"، فأجابه الموظف: "يا دكتور، إذا كنتَ مُستعجلًا يُمكنك استئجار
سيارةٍ والذهاب بها، فرحلتك لا تبعد عن هُنا سوى ثلاث ساعاتٍ فقط بالسيارة. وافق
الطبيب «س» على مضضٍ، وقام باستئجار سيارةٍ وظلّ يسوق، فجأةً تغير الجو، وبدأ
المطر يهطل مدرارً، وأصبح من العسير أن يرى أيّ شيءٍ أمامه، وبعد ساعتين أيقن أنّه
قد ضلّ طريقه وأحس بالجوع والتعب، فرأى أمامه بيتاً صغيراً، فتوقف عنده.
دقّ الباب، فسمع صوتاً لامرأةٍ عجوزٍ تقول: "تفضل بالدخول كائناً مَن
كنتَ؛ فالباب مفتوح"، فدخل الطبيب وطلب من العجوز المقعدة أن يستعمل الهاتف،
ضحكت العجوز وقالت: "أيّ هاتفٍ يا بُني؟ ألا ترى أين أنت؟ هُنا لا كهرباء ولا
هواتف، ولكن تفضل واسترح وصُب لنفسك فنجاناً من الشاي الساخن، وهناك طعامٌ على
الطاولة، فكُلْ حتى تشبع وتسترد قوتك". شكر الطبيب «س» المرأة وجلس يأكل،
بينما كانت العجوز تُصلي وتدعي انتبه فجأةً إلى طفلٍ صغيرٍ نائمٍ بلا حراكٍ على
سريرٍ قُرب العجوز، وهي تهزه بين كل صلاةٍ وصلاة، واستمرت العجوز بالصلاة والدعاء
طويلاً، فتوجه «س» لها قائلاً: "يا أُماه، والله لقد أخجلني كرمك ونُبل
أخلاقك، وعسى الله أن يستجيب لكل دعواتك"، قالت له العجوز: "يا ولدي،
أنت ابن سبيلٍ أوصى بك الله، أما دعواتي فقد أجابها الله -سُبحانه وتعالى- كلها
إلّا واحدة"، فسألها الطبيب «س»: "وما هي تلك الدعوة يا أُماه؟"،
قالت العجوز: "هذا الطفل الذي تراه حفيدي، وهو يتيم الأبوين، وقد أصابه مرضٌ
عضالٌ عجز عنه كل الأطباء عندنا، وقيل لي إنّ طبيباً واحداً يستطيع علاجه يُقال له
«س»، ولكنه يعيش بعيداً من هُنا، ولا طاقة لي بأخذ هذا الطفل إلى هناك، وأخشى أن
يأخذ الله أمانته، ويبقى هذا المسكين بلا حول ولا قوة، فدعوتُ الله أن يُسهل
أمري"، بكى الطبيب «س» وقال: "يا أُماه إنّ دعاءك والله قد عطّل
الطائرات، وضرب الصواعق، وأمطر السماء كي يسوقني إليك سَوْقاً، أنا هو الطبيب «س»!
والله ما أيقنتُ أنّ الله -عزَّ وجلَّ- يُسبب الأسباب لعباده المؤمنين بالدعاء،
حتى هذه اللحظة. سبحانك، لا إله إلا أنت إني كنتُ من الظالمين".
أحبتي في الله.. (ليست صدفة) أبداً، إنه تقدير الله سُبحانه وتعالى.
إن حُسن الظن بالله، والثقة به، والتوكل عليه، واللجوء إليه بالدعاء عند
الشدة والبلاء، من أسباب استجابة الله الدعاء، ليظهر لنا كما لو كان صُدفة!
كما أن القُرب من الله -عزَّ وجلَّ- يُحقق للإنسان معجزاتٍ تُدهشه؛ فهذا
طبيبٌ سعوديٌ كتب على صفحته على فيس بوك يقول: ذهبتُ مع العائلة إلى «دبي» عن طريق
البر، على غير العادة؛ إذ كُنا مُعتادين على السفر بالطائرة. وفي طريق العودة،
وبعد أن تجاوزنا حدود «الإمارات» إلى «السعودية» اكتشفتُ أنني قد أخطأتُ الطريق
وتجاوزتُ التحويلة المؤدية إلى «الرياض».. كان الطريق مُزدوجاً؛ فحاولتُ إصلاح
الخطأ بالاستدارة للعودة إلى الطريق الصحيح بعبور الجزيرة في مُنتصف الطريق، كانت
الجزيرة مليئةً بمادةٍ سوداء تُشبه مادة القار التي تُستخدم في سفلتة الطُرق،
ظننتُ أن المادة صلبةٌ ويُمكن العبور عليها، لكن يبدو أنها تحولت مع شدة الحر إلى
مادةٍ لزجةٍ، حيث كُنا في شهر أغسطس.. حدث ما لم أكن أتوقعه وتوقفت السيارة وسط
مادة القار! لا حول ولا قوة إلا بالله.. السيارة مُحملةٌ بالعفش والجو حارٌ جداً..
بعد طول انتظارٍ توقفت لنا سيارة شحنٍ سائقها أخٌ يمنيٌ، ربط سيارتي الصغيرة
بسيارته الكبيرة وسحب سيارتي خارج مُستنقع القار.. ثم أخذنا بعد ذلك إلى مغسلةٍ
للسيارات لغسل سيارتي التي تلطخت بمادة القار اللزجة.. أثناء ذلك، تبادلت مع
السائق -واسمه «أحمد»- أطراف الحديث عن أحواله وأهله؛ فقال: "الحمد لله، لكن
لديّ طفلٌ يُعاني من مشاكل صحيةٍ، ونصحني أطباء الأطفال بالذهاب إلى استشاري
لأمراض الجهاز الهضمي، وأنا حالتي المادية محدودةٌ جداً، كما أني دائم السفر على
الطُرق كما ترى"، توقف «أحمد» عن الكلام حينما رأي عينيّ وقد اغرورقت
بالدموع، وسألني: "ما بك؟"، قلتُ له: "يا «أحمد»، ما هي الخبيئة
التي بينك وبين الله؛ ليسوق استشاري الجهاز الهضمي لدى الأطفال إليك سَوْقاً من
«الرياض» على غير العادة أن يسلك طريق البر للذهاب إلى «دبي»، ثم يُخطئ الطريق
ويقع في مُستنقع القار ليقابلك على غير موعدٍ؟! إنها ليست صدفةً، بل هو قَدَر الله
وتدبيره"، سألني مُتعجباً: "هل أنت استشاري جهاز هضمي؟"، قلتُ:
"نعم، وللأطفال بشكلٍ خاص!"، فبكى.
سبحان الله مالك الكون، ومُقدر الأقدار، القادر على تسخير وتدبير وتصريف
خلقه كيف ومتى شاء.. هذه المواقف وأمثالها (ليست صدفة)، بل هي من أقدار الله؛ يقول
تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ
مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا
وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي
كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، ويقول كذلك: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ﴾، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ
الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ]، إنه نظامٌ مُحكمٌ تُسيّر به أحوال المخلوقات بتقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ،
لا يوجد في الحياة صدفةٌ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
والقَدَر هو كل ما قدَّره الله سُبحانه من أُمور خَلْقِه، فهو يُسيّر هذا الكوْن
بكل تفاصيله، ويُحيط بعلمه الأزلي كل ما حدث وسيحدث في هذا الكون من أحداثٍ، مهما
صغُرت أو كبُرت، ويعلم أين ومتى سيحدث كل شيءٍ، وما يسبقه من مقدماتٍ وما يتبعه من
آثار.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يجوز للمسلم أن يقول: "قابلتُ فلاناً
صدفةً؟"، أفتى العلماء بأن قول الإنسان "قابلتُ فلاناً صدفةً" ليس
مُحرّماً أو شِركاً، لأن المُراد من هذه العبارة "قابلته دون سابق وعدٍ أو
اتفاقٍ على اللقاء مثلاً"، وليس في هذا المعنى حرجٌ، وليس المُراد أنه قابله
بدون تقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ؛ فالصدفة بالنسبة لفعل الإنسان أمرٌ واقعٌ، لأن
الإنسان لا يعلم الغيب؛ فقد يُصادفه الشيء من غير شعورٍ به ومن غير مُقدماتٍ له
ولا توقعٍ لحدوثه، ولكن بالنسبة لفعل الله لا يقع هذا؛ فإن كل شيءٍ عند الله
معلومٌ، وكل شيءٍ عنده بمقدارٍ، وهو سُبحانه وتعالى لا تقع الأشياء بالنسبة إليه
صدفةً أبداً.
تُعرِّف معاجم اللغة العربية الصُدفة على أنها "ما يحدث عرضاً على غير
انتظارٍ، دون توقع". يقول أحد الكُتّاب: إن الصُدف هي من النِعم التي يشمل
الله بها عباده، ويُرسل لهم من خلالها مصادر الدعم والمدد، كما أنها إحدى المنح
الخفية، التي يسوقها لنا القدر، لتربط على قلوبنا، وتمنحنا السلام والسكينة
والطمأنينة أحياناً، وكم مِن صُدفةٍ غيرت مسارنا دون أن ندري في حينها ما قد يترتب
عليها مُستقبلاً، لتظل الصُدفة إحدى الأسرار التي يجب أن نحترمها، والغيبيات التي
لا يُمكن أن نتوقعها؛ فهي سياقاتٌ ربانيةٌ خالصةٌ تدفعنا لأقدارنا دون حولٍ منا
ولا قوة.
أحبتي.. الثابت أن ما نعتقد أنها صدفةٌ (ليست صدفة) إنما هو قَدَر الله
وقضاؤه؛ لذا فكلما اقتربنا من الله أكثر، وكلما أحسنا الظن به، وتوكلنا عليه
بيقينٍ، ودعوناه بإخلاصٍ وتذللٍ وانكسارٍ وإلحاحٍ واثقين من إجابة الدعاء، كلما
كان ذلك أدعى لسرعة الاستجابة، التي قد تأتي -في بعض الأحيان- بشكلٍ مُفاجئٍ وغير
متوقعٍ يبدو لنا أنه صدفةٌ لكنه ليس كذلك، بل هو تدبير رب العالمين.
اللهم إنا نسألك إعانتنا على القُرب منك، بأداء الفروض، وجبرها بالنوافل،
وتحسين أعمالنا على الوجه الذي يُرضيك.. وتقبّل اللهم منا دعاءنا، واستجب رجاءنا،
وارحم ضعفنا، والطف بأقدارنا. وأنعِم اللهم علينا بفضلك وكرمك باستجابة دعواتنا،
وإدهاشنا بعطائك، ظاهراً وباطناً، بأسبابٍ نعرفها أو صُدفٍ نجهل متى وأين وكيف
تتكرم بها علينا.
https://bit.ly/4diRjdb