الجمعة، 10 أكتوبر 2025

لا تتسرع

 

خاطرة الجمعة /520

الجمعة 10 أكتوبر 2025م

(لا تتسرع)

 

هذه قصةٌ رواها مُدير مدرسةٍ كتب يقول: كنتُ -وأنا مُعلمٌ- دائماً ما أراقب الطلاب في الفترة المسائية أثناء انصرافهم من الطابور باتجاه فصولهم، حتى يتم إخلاء الساحة المدرسية من كافة الطلاب؛ ثم أنتظر قليلاً لأتفاجأ يومياً بطالبين أو ثلاثة مُتأخرين عن موعد الحضور؛ فأضطر إلى مُعاقبتهم ثم أسمح لهم بالالتحاق ببقية زملائهم في فصولهم. بعد مرور فترةٍ من بداية العام الدراسي لفت انتباهي أن طالباً مُعيناً يكون يومياً من بين هؤلاء الطلاب المتأخرين، خلافاً عن بقية الطلاب الذين لا يتأخر أحدهم بالعادة إلا لظرفٍ طارئ، فكنتُ حين أعاقب هذا الطالب بالعصاة التي أحملها أرى على وجهه علامات الأسى والحُزن، لكنه كان دائماً يتقبل العقوبة بمنتهى البساطة وينصرف إلى فصله، استمر على هذا النهج يومياً!

بدأتُ أُقلب الأمر في رأسي؛ أي طالبٍ عنيدٍ هذا؟! وأية عقليةٍ يحملها؟! كيف يكون حزيناً وهو يتلقى العقوبة ولا يسعى ليُغيِّر من حاله ويحضر إلى المدرسة في الموعد المحدد؟!

ومع هذا قررتُ أن أستمر في منهجي نحوه: تأخير = عُقوبة، حتى يُعدِّل من سلوكه. استمرت الأيام على هذا الحال؛ دون أي تغيير، إلى أن قررتُ أن آخذ زمام المبادرة لحل المشكلة؛ فاستوقفته ذات يومٍ قبل أن أُعاقبه؛ وسحبته من يده الى مكتبي وسألته: "يا بُني لماذا تتأخر كل يوم؟ لماذا لا تحضر مثل بقية الطلاب قبل الطابور المدرسي؟! إذا كانت العقوبة تؤثر في نفسك هكذا فلماذا لا تُغيِّر من سلوكك؟"، سكت الطالب بُرهةً من الزمن وأطرق بنظراته إلى الأرض ثم أجاب على استحياءٍ: "يا أُستاذ أنا لا أتأخر عن المدرسة بإرادتي، يا أُستاذ ظُروفنا المالية في المنزل سيئةٌ وقاسيةٌ؛ فوالدي عاطلٌ عن العمل، وأنا وأخي لا نملك إلا قميصاً مدرسياً واحداً، هو يرتديه أثناء ذهابه إلى المدرسة في الفترة الصباحية؛ وأنا أنتظر عودته على باب المنزل بفارغ الصبر لأخذه منه وأرتديه وأحضر إلى المدرسة في الفترة المسائية، وهذا هو سبب تأخري كل يوم! ومع هذا فإنك تُعاقبني وأنا لا أستطيع الاعتراض وأتقبل الأمر لأني لا أرغب في ترك المدرسة بسبب ضيق حالنا!".

يقول الأستاذ -والحديث على لسانه-: واللهِ إن الدنيا أظلمت أمامي لم أعد أرى أو أسمع شيئاً، أحسستُ أن الزمن توقف عند تلك اللحظة؛ فقدتُ القدرة على الكلام، ولم أعد أُفكر إلا في شريط الذكريات؛ وأنا أُعاقبه بالعصاة على يديه على مدى كل تلك الأيام، وهو يتألم من الضرب، ومع هذا لا يتحدث ولا يعترض!! نزلت كلمات الطالب على مسامعي كأنها ضربٌ بسياط القهر والأسى، ولم أستطع أن أتمالك نفسي واندفعت الدموع من عينيّ بصمت؛ فسألته وصوتي يتحشرج في حُنجرتي وكلماتي لا تطاوعني للخروج من فمي: "لماذا لم تُخبرني بذلك يا بني؟"، أجاب وهو يطرق بناظريه إلى الأرض أمامه: "إنك لم تسألني ما السبب؛ كنتَ تُعاقبني فقط"، عندئذٍ فقط أدركتُ فداحة ما اقترفته! أخذتُ الطالب من يده إلى فصله في ذلك اليوم دون أن أُعاقبه، وطلبتُ منه عند انتهاء اليوم المدرسي أن يحضر إلى مكتبي، وانصرفت. في نهاية اليوم الدراسي حضر الطالب إليّ كما طلبتُ منه، خرجنا من المدرسة سوياً، وأخذته معي في جولةٍ إلى السوق، واشتريتُ له قميصاً مدرسياً جديداً على حسابي الخاص، فكم كانت فرحته بهذا القميص؛ كان وكأنه قد نجح في امتحان آخر العام الدراسي، وتوجه إلى منزله مسروراً. ومن ذلك اليوم الحاسم لم أُشاهده إلا في مُقدمة الطابور المدرسي.

يواصل الأستاذ حديثه: كانت هذه الحادثة مفصلاً هاماً في مسار نهجي التعليمي والتربوي؛ فقد أدركتُ معها أن المُعلم والمُربي المثالي عليه أن يكون أولاً أباً لطلابه قبل أن يكون مُدرساً ومُعلماً، عليه أن يشعر بهم، ويُناقشهم، ويتفهم الآمهم وأوجاعهم، قبل أن يُصدر عليهم أحكامه، وألا يتسرع في تنفيذ العقوبة التي قد تكون جائرةً وهو لا يعلم!!

 

أحبتي في الله.. لو ان هذا المُعلم تريث قليلاً وقال لنفسه (لا تتسرع) لأوقف عقاب الطالب في وقتٍ مبكرٍ، ووفرَّ على نفسه الإحساس بالندم.

 

وعن أهمية عدم التسرع يُحكى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً في القطار مع ابنٍ له يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً، والذي بدت على وجهه الكثير من البهجة والفضول؛ إذ كان يجلس بجانب النافذة؛ فأخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ: "أبي أُنظر جميع الأشجار إنها تسير وراءنا!" فتبسَّم الرجل العجوز مُتماشياً مع فرحة ابنه. وكان يجلس بجانبهما زوجان يستمعان إلى ما يدور من حديثٍ بين الأب وابنه، وشعرا بقليلٍ من الإحراج؛ فكيف يتصرف شابٌ في عُمْر الخامسة والعشرين عاماً كالطفل؟! فجأةً صرخ الشاب مرةً ثانيةً: "أبي، أُنظر إلى البِركة وما فيها من حيواناتٍ، أُنظر يا أبي.. الغيوم تسير مع القطار!"، واستمر تعجب الزوجين من حديث الشاب مرةً أُخرى. ثم بدأ هطول الأمطار، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب، الذي امتلأ وجهه بالسعادة وصرخ مرةً أُخرى: "أبي إنها تُمطر، والماء لمس يديّ، أُنظر يا أبي!". في هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت وسألوا الرجل العجوز: "لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟"، هنا قال الرجل العجوز: "إننا قادمون من المُستشفى حيث أن ابني قد أصبح بصيراً لأول مرةٍ في حياته".

ولو أن أحد الزوجين -أو كلاهما- قال لنفسه (لا تتسرع) لجنَّب نفسه الإحساس بالحرج.

 

عن التسرع والاستعجال يقول تعالى في وصفه للإنسان: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾. وورد النهي عن الاستعجال الذي يؤدي إلى التهور والاندفاع بغير تبصرٍ ولا حكمةٍ في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾، وفي قوله سُبحانه: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾.

وورد ذم الاستعجال والتسرع في مثل قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ﴾.

وفي المُقابل وردت آياتٌ تحث على السُرعة ولكن في طلب المغفرة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، يقول المُفسرون: المُسارعة إلى الشيء المُبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخٍ، وهو أمرٌ مُجازٌ في الحرص والمُنافسة إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة. وورد نفس المعنى ولكن بلفظ "سابقوا" كما في قوله سُبحانه: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

 

وفي السُنة المشرفة بيانٌ لمدى الخُسران الذي يتحقق نتيجة التسرع والعجلة؛ قال رسول اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي]، وبيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ: [التَّأنِّي مِن الله، والعَجَلة مِن الشَّيطان]. وقال عليه الصلاة والسلام مادحاً أحد الصحابة رضي الله عنهم، وحاثاً على عدم التسرع: [إنَّ فيك خصلَتينِ يحِبُّهما اللَّهُ: الحِلمَ والأناةَ].

 

وقالت العرب: "العَجَلةُ مُوكَّلٌ بها النَّدَمُ، وما عَجِلَ أحَدٌ إلَّا اكتَسَب ندامةً واستفاد مذَمَّةً". وقالوا كذلك: "لا حِكمةَ لجاهِلٍ، ولا طائِشٍ، ولا عَجولٍ".

 

أما أهل الاختصاص فيقولون إن للتسرع عواقب وخيمةٌ منها: خُسارة الأهداف لعدم الصبر والسعي إلى تحقيق نتائج سريعة. البُعد عن القيم بترك الغرائز تتحكم في السلوك والأفعال. الندم -وقت لا ينفع فيه ندمٌ- على المواقف التي لم يُحسَن التصرف فيها. الخُسارة والكآبة جراء التهور والسلوك غير المدروس وعدم التقدير السليم للمواقف.

 

وقال الشاعر:

لا تَعْجَلَن لأمرٍ أنتَ طالبُهُ

فَقَّلَما يُدرِكُ المَطْلوبَ ذو العَجَلِ

فَذو التأني مُصيبٌ في مَقاصِدِهِ

وَذو التَعَجُلِ لا يَخْلو عَنْ الزَلَلِ

وقال آخر:

الْرِفْقُ يُمْنٌ وَالأناةُ سَعادَةٌ

فَتَأنَّ في رِفْقٍ تَلاقِ نَجاحا

 

أحبتي.. يقولون إن الحياة ملأى بالقصص والأحداث التي إن تأملنا فيها أفادتنا حكمةً واعتباراً، والعاقل لا ينخدع بالقُشور عن اللُباب، ولا بالمظهر عن المخبر، ولا بالشكل عن المضمون.

يجب ألا نتسرع في إصدار الأحكام، وأن نسبر غوْر ما نرى. إن الكثير منا يتسرع فيما يعتقد أنه صوابٌ، والحقيقة قد تكون أبعد شيءٍ عما نُفكر فيه؛ فعلينا ألا نتسرع في الحُكم على الآخرين؛ فهناك دائماً شيءٌ ما نجهله، فلنُحسِن الظن بالآخرين، ونلتمس الأعذار لهم؛ ورد في الأثر: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عُذراً، فإن لم تجد له عُذراً فقل: لعل له عذراً لا أعرفه". لابد أن تكون لدينا تلك الروح وتلك الحكمة وذلك التريث في الحُكم على أشياء يفعلها المحيطون بنا من أزواجٍ أو أبناءٍ أو أصدقاءٍ أو زملاء أو جيرانٍ؛ فرُبما لديهم من الأسباب والأعذار ما يُغنينا عن سوء الظن، ويوفر علينا مغبة وعواقب التسرع. فلنعوِّد أنفسنا أن نقول دائماً لأنفسنا (لا تتسرع) قبل أن نحكم على الأمور بظواهرها، وأن نتأنى ونجتهد في معرفة الحقائق قبل أن نكتشف خطأ ظنوننا.

اللهم ألهمنا الصواب والسداد، وزودنا بالحكمة التي تجعلنا لا نتسرع في الحُكم على الآخرين، وندخر تسرعنا لما ينفعنا من العبادات والنوافل وأعمال الخير والبِر، حتى تصل سُرعتنا إلى درجة الفرار؛ استجابةً للأمر الإلهي: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، ويكون لسان حالنا يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ﴾.

إنك سُبحانك وتعالى القادر على ضبط إيقاع سُرعتنا لتكون فيما ينفعنا، ولا يضرنا أو يضر غيرنا.

https://bit.ly/4n4z3Zz

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

استشعار النِعم

 

خاطرة الجمعة /519

الجمعة 3 أكتوبر 2025م

(استشعار النِعم)

 

كتب يقول: إحدى الكاتبات كانت تعرضتْ لحُروقٍ صعبةٍ جداً؛ وأجرت قُرابة عشرين عمليةً، ومع ذلك فإن أثر الحُروق -رغم مُرور سنواتٍ عديدةٍ- ما زال باقياً وظاهراً بوضوحٍ. ذكرتْ في أحد منشوراتها أنها مُنعتْ من ملامسة الماء لجِلدها لمدة عامٍ كاملٍ، فلما كانت أول مرةٍ سُمِح لها بذلك، وكانت قد اشتاقت كثيراً لأن يمس الماء بشرة وجهها، كانت لحظتها تلك، مع سيلان الماء على وجهها، هي أسعد ما حصل لها في حياتها؛ لدرجة أنها تمنت أن يقف الزمن وقتها، وكتبت بعدها تقول: "أين نحن من (استشعار النِعم)؟ إن هناك نِعماً عظيمةً جداً يرتع فيها الإنسان وهو لا يُحس؛ من ذلك نِعمة القُدرة على غسل الوجه بالماء دون خوفٍ من أن يسقط جِلد الوجه"!

كتب ناشر هذه القصة عن نفسه يقول: عشتُ الأسبوع الماضي كله، خاصةً آخر ثلاثة أيامٍ منه، مع ذلك المعنى، معنى (استشعار النِعم)؛ حين أحسستُ بألمٍ شديدٍ جداً في حلقي، لم أشعر بمثله مُنذ ولدتني أُمي، وذلك بمُجرد أن أبلع ريقي، لدرجة أنني بدأتُ أُدرِّبُ نفسي على أطول فترةٍ زمنيةٍ لا أبلع فيها ريقي؛ أول مرةٍ كانت دقيقةً واحدةً، ثاني مرةٍ كانت دقيقتين وعشر ثوانٍ، أما الرقم القياسي فكان خمس دقائق وخمس ثوانٍ! لكن ذلك كله لم يُفلح في شيءٍ؛ لأني توقفتُ بعد الرقم القياسي مُباشرةً؛ حيث جفَّ حلقي تماماً فاحتجتُ لبلع ريقي مراتٍ مُتتاليةٍ سريعةٍ فكان ذلك عذاباً ما بعده عذاب.

كنتُ على سفرٍ، وحللتُ في مكانٍ يبعد عن بيتي قُرابة الألف كيلومتر، ولا أعرف أحداً نهائياً في ذلك المكان؛ فبحثتُ عن صيدليةٍ وشرحتُ للصيدلي ما أُعاني منه، فنصحني بتناول بعض الأدوية، اشتريتها منه وبدأتُ في تناولها بالطريقة وفي التوقيتات التي أخبرني بها، ولكن كل ذلك كان بلا فائدةٍ، أو على الأقل لم ألحظ أنا أي تغييرٍ يُذكر! رجعتُ للصيدلي فقال لي: "يجب أن تُراجع طبيباً، أما أنا فلا أملك لك شيئاً، لقد أعطيتك العلاج الصحيح بجانب أحد أقوى المُسكنات"، قلتُ له: "أعطني مُسكناً أقوى منه"، قال لي: "مُستحيل"، لم أعرف لماذا مُستحيل، لكني مشيتُ بعدما أخذتُ نوع استحلابٍ آخر غير الذي أعطانيه في المرة الأولى، وقررتُ الصبر يوماً آخر فإن لم أشعر بتحسنٍ أُحاول العثور على طبيبٍ بأي شكلٍ كان. زاد الألم لدرجة أنه منعني من النوم، وأيقظني قُبيل الفجر بساعةٍ؛ فدعوتُ الله سُبحانه وتعالى، وأنا على السرير، قلتُ: "يا رب لم أعد أستطيع التحمل". كانت كل بلعة ريقٍ عبارةً عن عذابٍ فعلاً، كأنني أُمَرِّر حجراً من ثُقب إبرةٍ، الحجر هو ريقي، وثُقب الإبرة هو حلقي! بعد سفرٍ طويلٍ يزيد عن عشر ساعاتٍ بدون توقف عدتُ إلى بيتي مساءً، ذهبتُ إلى أقرب صيدليةٍ لصعوبة وجود طبيبٍ وقتها، وهي صيدلية قريبٍ لي، هو أكفأ صيدليٍ في المنطقة؛ فلمّا لم أجده في الصيدلية اتصلتُ به ـ وهو أمرٌ أكرهه لعلمي بانشغاله ـ ثم قلتُ له: "أنا مُتعلقٌ بالله، ثم بك"، قال: "خير.. ما الذي جرى؟"، حكيتُ له ما حدث؛ فقال لي: "مُر عليَّ في الصيدلية بعد نصف ساعةٍ تجدني في انتظارك هناك"، وقد كان، رأى الأدوية التي كانت معي، فقال: "الأدوية صحيحةٌ وفعّالةٌ لعلاج حالتك، لكنها تحتاج وقتاً". نفس الشيء قاله لي بعدها بنصف ساعةٍ صديقٌ آخر، وهو طبيب أنفٍ وأُذنٍ وحنجرةٍ، أرسلتُ له صور تلك الأدوية؛ فقال لي: "سأُكتب لك شيئاً مفعوله سريعٌ يُخفف ما تجد"، وكتب لي حُقنةً وحذّرني مُسبقاً قائلاً: "هذه الحقنة تحتاج إلى رجلٍ شديدٍ، لكنك ستستيقظ فلا تجد ألماً يُذكر إن شاء الله". أخذتُ الحُقنة، ولأول مرةٍ مُنذ أسبوعٍ أنام بشكلٍ طبيعيٍ البارحة، وكان أول شيءٍ فعلتُه بعدما فتحتُ عينيّ وأنا على السرير أن أُجرِّب بلع ريقي؛ فتم الأمر بشكلٍ طبيعيٍ وأنا في ذهولٍ؛ فقد كانت هذه المرة الأولى التي بلعتُ فيها ريقي بلا ألمٍ بعد آلاف المرات المصحوبة بالألم!

 

أحبتي في الله.. علَّق الكاتب بقوله: إنك ترتع في نِعَم الله سُبحانه وتعالى، منها ما تعرف، ومنها ما لا تعرف أصلاً أنها نِعمةٌ، لكنك ستعرف إنها كذلك حين تُسلب منك، من ذلك أن تغسل وجهك بالماء فلا يسقط جِلد وجهك في يدك! وأن تبلع ريقك دون أن تُحس بأنك تبتلع روحك مع الريق من شدة الألم!

 

ومن العجيب، أن وصلتني وأنا أُعد لهذه الخاطرة عن (استشعار النِعم) رسالةٌ من صديقٍ عزيزٍ، كأنه يعلم ما أنا بصدد الحديث عنه! فكان ممّا كتب تحت عنوان: "هل استشعرتَ ذلك؟": الكثير منا تسكنه الصحة والعافية، وغيرنا يسكن المُستشفيات، فالحمد لله على الصحة وتمام العافية، والحمد لله أنّ لديك عائلةً حولك، وأنك تسكن بيتاً، ولديك نوافذ تفتحها لتستنشق الهواء العليل، الحمد لله أنك تعيش حياتك بشكلٍ طبيعيٍ وبيسرٍ وسهولةٍ؛ تنام وتصحو، وتقضي حاجتك دون مُساعدةٍ، وتمشي برجليك، وتستعمل يديك، وتستطعم الأكل، وتشرب الماء، وتسمع، وترى، وتُمارس أنشطتك المُعتادة يومياً، دون أن تشعر بهذه النِعم التي حباك الله بها، وربما لم يُعطِها لغيرك؛ فهل استشعرتَ ذلك؟ أم لأنك اعتدتَ على هذه النِعم، أصبحتْ منسيةً في تفكيرك؟ نحن دائماً نتقلب في نِعم الله، فتارةً يُسرٌ وتارةً عسرٌ، وكلاهما نِعمةٌ؛ ففي اليُسر يكون الشُكر؛ يقول تعالى: ‏﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، وفي العُسر يكون الصبر؛ يقول تعالى: ‏﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ فيا أيها الشاكي من حياتك وظروفك أنت تعيش في نِعمٍ من الله عزَّ وجلَّ لو استشعرتها لأصبحتَ ترى أنك لابد من أن تسجد لله شاكراً؛ فاللهم لك الحمد في السراء والضراء، وعلى كل حالٍ، حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه.

 

إن (استشعار النِعم) يستوجب شكر المُنعم الوهاب الكريم الرحمن الرحيم ذي الفضل العظيم، الله جلَّ جلاله؛ لما له من عظيم النِعم على عباده، يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾، كما يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ويقول كذلك: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

 

يقول أهل العِلم إن على المُسلم أن يُداوم على الطلب من ربِّه تعالى أن يُعينه على شُكره؛ فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يوصي أحد الصحابة فيقول له: [لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"]. والشُكر على النِّعَم سببٌ في زيادتها، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. ويكون الشُكر بتحقيق أركانه الثلاثة؛ وهي: شُكر القلب، وشُكر اللسان، وشُكر الجوارح.

بالقلب: خُضوعاً واستكانةً، واستشعاراً بقيمة النِعم التي أنعمها الله على عباده، وبأن المُنعم بهذه النِعم الجليلة هو الله وحده لا شريك له؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾.

وباللسان: ثناءً واعترافاً، لفظاً ونُطقاً، سِراً وجهراً، بأن المُنعِم هو الله تعالى وحده دون غيره؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا].

وبالجوارح: طاعةً وانقياداً، بأن يُسخِّر العبد جوارحه في طاعة الله، ويُجنِّبها ارتكاب ما نهى الله عنه من المعاصي والآثام؛ يقول تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً﴾، وقال صلى الله عليه وسلم حين تفطرت قدماه من قيام الليل: [يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا].

 

ونحن مأمورون بالشُكر؛ يقول سُبحانه: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وفائدة الشُكر تعود علينا نحن والله غنيٌ عنها؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.

ولِنَعْلَم أن شُكر النِعم هو في حد ذاته نعمةٌ تحتاج إلى شُكرٍ، وهكذا يبقى العبد مُتقلباً في نِعم ربِّه، شاكراً له على تلك النِعم، حامداً إياه أن وفَّقه ليكون من الشاكرين الحمّادين الذين يقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ].

 

قال الشاعر:

الشُكرُ للهِ شُكراً ليسَ يَنْصَرِمُ

شُكراً يُوافقُ ما يَجْري بِهِ القَلَمُ

يَأتي البَلاءُ لِتَمْحيصٍ وَتَذْكِرَةً

كأنَّ كُلُ بَلاءٍ نازِلٍ نِعَمُ

لا أَشْكو البَلاءَ وَلا أَراهُ

إلا احْتِفاءً سَاقَهُ كَرَمُ

مَصائبُ الدِينِ أَنْكىٰ ما نُصابُ بِهِ

وما عَداهُنَّ فِيهِ الأَجْرُ يُغْتَنَمُ

وقال آخر:

الحمدُ للهِ مَوْصُولاً كَما وَجَبا

فَهُو الذي بِرِداءِ العِزّةِ احْتَجَبا

وَالشُّكرُ للهِ في بِدْءٍ وَمُخْتَتَمِ

فاللهُ أكرَمُ مَنْ أعْطىٰ وَمَنْ وَهَبا

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾؛ فلن نستطيع مهما حاولنا أن نعِّد أو نحصر أو نُحصي نِعم الله علينا، لكن ما نستطيعه وما هو في وِسع كلٍ منا أن نكون من المُداومين على شُكر الله على نِعمه وآلائه؛ عظيمها وبسيطها، كثيرها وقليلها، ظاهرها وباطنها، ما نعلمه منها وما لا نعلمه، وأن نكون من الشاكرين لله بقلوبنا على ما أنعم به علينا، عِلماً ويقيناً بأنه هو وحده واهب هذه النِعم. ومن الشاكرين لله بألسنتنا؛ بعد الاستيقاظ من النوم أنْ وهب لنا الحياة، وبعد الطعام والشراب أن رزقنا إياهما وتفضَّل بهما علينا، وفي كل نِعمةٍ نراها في أنفسنا، نُديم ذِكره وحمده والثناء عليه. ومن الشاكرين لله بجوارحنا؛ بأن لا نستخدم أعيننا ولا آذاننا في مُشاهدة أو الاستماع إلى إثمٍ أو خطيئةٍ، ولا نمشي بأرجلنا إلى أماكن مُحرَّمةٍ، ولا نستعمل أيدينا في مُنكرٍ، أو عملٍ يُغضب الله، وإنما نُسخِّر جميع جوارحنا في طاعته تعالى؛ بالعبادات والطاعات وأعمال الخير؛ كقراءة القُرآن وكُتب العِلم المفيد، وسماع ومُشاهدة ما ينفعنا شرعاً، والسعي في قضاء حوائج الناس، وغير ذلك من وجوه البِر والتقوى والعمل الصالح.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى يكون (استشعار النِعم) مُلهماً لنا لدوام شُكره وحمده والثناء عليه. اللهم أعنِّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/3ISnTsQ

https://bit.ly/3ISnTsQ

الجمعة، 26 سبتمبر 2025

رحمة الله

 

خاطرة الجمعة /518

الجمعة 26 سبتمبر 2025م

(رحمة الله)

 

يروي هذه القصة أحد القُضاة، أنقلها لكم بتصرفٍ يسيرٍ، كتب يقول: عندما كنتُ وكيلاً للنيابة العامة في بداية عملي في سلك القضاء دخل عليّ رجلٌ كبيرٌ في السن وعلامات الحزن ظاهرةٌ عليه، يشتكي من سرقة سيارته، وعلمتُ منه أنَّ لديه أطفالاً عمياناً لا يُبصرون -وهذه القصة التي سأرويها لكم ما زلتُ أتذكرها على الرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً على حدوثها وقد تأثرتُ بها كثيراً- إذ دخل مكتبي هذا الرجل وأبلغني بحادثة سرقة سيارته وماله؛ فقال: "عملتُ خلال السنتين الماضيتين لجمع ألفي دينارٍ لعلاج عيون اثنين من أبنائي، وقد سمعتُ عن طبيبٍ مُختصٍ خطَّطتُ أن أُسافر له اليوم لإجراء العملية الجراحية بهذا المبلغ، وقد تركتُ المبلغ الذي جمعته لهما في دُرج السيارة، إلا أنها سُرقت صباح هذا اليوم فضاع كل جهدي وتعبي". كنتُ أستمع له بإنصاتٍ وأنا أقول في نفسي سُبحان الله يا له من ابتلاءٍ، وأحببتُ أن أُخفف عنه مُصابه فقلتُ له: "لا تعلم؛ عسى أن يكون ما حدث لك من (رحمة الله)"؛ فشعرتُ من قسمات وجهه أن كلامي لم يُعجبه، انتهى الأمر، انصرف الرجل، وعُدتُ إلى مُمارسة عملي كالمُعتاد.

بعد أسبوعٍ من حادثة السرقة اتصل بي رجال المباحث وأبلغوني أنهم وجدوا السيارة المسروقة في الصحراء، وليس فيها وقودٌ؛ فقالوا ربما سرقها صبيانٌ صغارٌ للتسلية ولما انتهى الوقود تركوها بالصحراء؛ فقلتُ لهم: "المُهم افتحوا دُرج السيارة وابحثوا عن المبلغ الذي تركه صاحبها"، فأخبروني أنهم وجدوا ألفي دينارٍ؛ ففرحتُ كثيراً بهذا الخبر وطلبتُ منهم أن يُحضروا السيارة والمبلغ، واستدعيتُ الرجل صاحب الشكوى، وأنا سعيدٌ لأني سأُسعده بالخبر وأُساعده على إجراء عملية ابنيه ليُبصرا بعد العمى؛ فلما دخل عليّ استقبلته بقولي: "يا عم عندي لك مُفاجأةٌ وبِشارةٌ"، فرَّد عليّ بنفس الأُسلوب والطريقة وقال: "وأنا عندي لك مُفاجأةٌ وبِشارةٌ"، فتوقفتُ قليلاً، ظننتُ أن رجال المباحث أبلغوه بالخبر رغم إني أوصيتهم ألا يُخبروه، ثم قلتُ له وأنا على يقينٍ أنه لا يعرف أننا وجدنا السيارة والمبلغ: "أخبرني ما هي مُفاجأتك؟"، فقال: "أنت أخبرني أولاً ما هي بِشارتك؟"، فقلتُ: "أُبشرك أننا وجدنا السيارة سليمةً، وكذلك وجدنا فيها الألفي دينارٍ في المكان الذي وصفته لنا؛ فلم يذهب تعبك سُدىً"، كنتُ أقول الخبر وأنا مُبتسمٌ وفَرِحٌ وأراقب ردة فعله، فكان يستمع للخبر وكأنه أمرٌ عاديٌ، ولم يتأثر به كثيراً، فقلتُ في نفسي: "الله يستر، ربما حدث شيءٌ لأطفاله"، ثم تمالكتُ نفسي وقلتُ له: "والآن جاء دورك فأخبرني ما هي بِشارتك؟"، فسألني: "هل تذكر ما قُلتَه لي؟"، قلتُ: "نعم"، فقال: "رجاءً ردده مرةً أُخرى"، فقلتُ: "لا تعلم؛ عسى أن يكون ما حدث لك من (رحمة الله)"، فقال: "ماذا كنتَ تعني؟"، قلتُ: "كنتُ أعني أنَّ الله تعالى يُقدِّر الابتلاء للإنسان بما فيه مصلحته، ولكن الإنسان أحياناً يعترض على القضاء والقدر ولا يعلم أن ما قدَّره الله تعالى فيه خيرٌ له، وهذا من (رحمة الله)"؛ فابتسم وقال: "صدقتَ، كلامك صحيح مائةٌ بالمائة، ونِعمَ بالله؛ فالله لا يختار لعباده إلا الخير"، فقلتُ له: "أخبرني الآن، ما هي بِشارتك؟"، فقال: "أُبشرك؛ من (رحمة الله) أن الطفلين اللذيْن جمعتُ من أجلهما المال قد صارا بعد يومين من حادثة السرقة يُبصران كما لو لم يكن بهما عمىً وأبصرا بغير حاجةٍ إلى إجراء العملية!"، فقلتُ له: "سُبحان الله، انظر إلى الحكمة من قَدَر الله ولُطفه ورحمته بك؛ أخذ منك سيارتك ومالك الذي جمعته من أجل علاجهما، ثم ردَّ على طفليك بصرهما، وبعدها ردَّ عليك سيارتك ومالك، أي رحمةٍ أعظم من هذه؟!"، فقال: "الحمد لله، سُبحانه هو الرحمن الرحيم".

 

أحبتي في الله.. ومن (رحمة الله) أيضاً -وهي كثيرةٌ لا تُعد ولا تُحصى- ما حدث يوم الأربعاء الموافق 28 يوليو سنة 1976م؛ حين استيقظت مدينةٌ كاملةٌ في «الصين» على وجود كلابٍ بريةٍ مُفترسةٍ في مدينتهم، تنبح بشكلٍ هستيريٍ غير طبيعيٍ إطلاقاً.. كلابٍ مُرعبةٍ ومُزعجةٍ، حتى أنه لم يكن أمام أهل تلك المدينة حلٌ غير مُغادرتها وإخلائها لحين انتهاء أزمة الكلاب! رحل تسعون ألف شخصٍ من بيوتهم بسبب تلك الكلاب البرية! كان شعور أهل المدينة وقتها الغضب، وكانوا يتمنون أن تنشق الأرض لتبتلع تلك الكلاب التي أربكت حياتهم. لكن الغريب أنه بعد ساعاتٍ من خروج السُكان من مدينتهم وقع أكبر زلزالٍ شهدته «الصين» وهو زلزال «تانغشان» العظيم، دمَّر أبنية المدينة كلها! عرف وقتها أهل المدينة أنّ الكلاب البرية كانت تنبح لأنها أحست بالزلزال قبل وقوعه، ومن (رحمة الله) أن حرَّك الكلاب في الوقت المُناسب كي تُنقذ حياة تسعين ألفاً من سُكان المدينة من موتٍ مُحققٍ؛ كانوا يَرَوْن أنّ الكلاب في المدينة نِقمةً فإذا بها نعمةٌ ورحمةٌ من الله.

 

إنها رحمةٌ من الله؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾.

 

ويقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: [إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ]. يقول شُرَّاح الحديث كم من موقفٍ بين البشر أو الحيوان من الرحمة والعطف، والحنان والعفو، والصفح والوِد؟ كل هذا في الدنيا برحمةٍ واحدةٍ، أنزلها الله للدُنيا؛ ليعيش الناس في نوعٍ من الأمان والخير.

وقد بشَّرنا المُصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: [إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ]، قال العُلماء إن الله جلَّ جلاله كتب على نفسه الرحمة؛ فهو "الرحيم" في أفعاله "الرحمن" في ذاته، وهذان الاسمان من أسماء الله تعالى مُشتقّان من الرّحمة، وهما من صيغ المُبالغة، و"الرحمن" أبلغ من "الرحيم"، و"الرحمن" اسمٌ خاصّ بالله لا يُسمّى ولا يوصف به غيره.

إنَّ الرحمة في اللغة تعني طلب المغفرة من الله، وجاء ذلك في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾. وهي تعني رقة القلب والشفقة. والرحمة هي خيرٌ ونعمةٌ من الله يُقسِّمها العُلماء إلى نوعين:

-الرحمة العامة: وتشمل الخلق جميعاً؛ المؤمن منهم والكافر، الصغير والكبير، العاقل وغير العاقل، فكل من يعيش في هذا الكون يكون تحت (رحمة الله)؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾، ولا تكون هذه الرحمة إلا في الحياة الدُنيا.

-الرحمة الخاصة: وهي الرحمة التي خصصها الله تعالى لعباده المؤمنين فقط؛ يقول سُبحانه: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾، وهي رحمةٌ تشمل الدُنيا والآخرة.

 

إنها (رحمة الله) لا تعز على عبدٍ من عباده، في أي زمانٍ وفي أي مكانٍ وعلى أي حال: وجدها إبراهيم –عليه السلام- في النار. ووجدها يوسف -عليه السلام- في الجُب، كما وجدها في السجن. ووجدها يونس -عليه السلام- في بطن الحوت في ظُلماتٍ ثلاثٍ. ووجدها موسى –عليه السلام- في اليم وهو طفلٌ مُجردٌ من كل قوةٍ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدوٌ له مُتربصٌ به ويبحث عنه. ووجدها الفتية في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور؛ فقال بعضهم لبعض: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾. ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار. ووجدها كل من آوى إليها، قاصداً باب الله وحده دون جميع الأبواب.

 

ويرى أهل العِلم أن (رحمة الله) بعباده تأتي على أوجهٍ مُتعددةٍ، وصورٍ مُختلفةٍ، لا يُمكن حصرها، ولا يُستطاع عدُها؛ منها: أن بعث الله عزَّ وجلَّ في عباده رسلاً مُبشّرين ومُنذرين، يُعَرِّفونهم ربَّهم، ويدعونهم إلى عبادته وإخلاص الدين له، ويُعلمونهم الحق، ويُحذّرونهم من سُبل الباطل والضلال. ومن صور رحمته بنا: أن بعث فينا سيدَ الأولين والآخرين، وجعل رسالته رحمةً للخلق أجمعين؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، ويقول: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. ومن صور تلك الرحمة: أن أنزل الشريعة الكاملة في مبادئها ونُظُمِها وقِيَمها وأخلاقها، وجعلها شريعةً شاملةً صالحةً لجميع البشر في كل زمانٍ ومكانٍ. ومن مظاهر هذه الرحمة: أنها شريعةٌ مُيسرةٌ سهلةٌ لا مشقة فيها؛ يقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾. ومن مظاهر رحمته جلَّ جلاله بعباده: قبول التوبة والعفو عن العُصاة، ومغفرته لذنوبهم؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ فالله كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: [يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا]، وقال عليه الصلاة والسلام: [يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟]، وكل ذلك رحمةٌ منه تعالى بعباده.

ومن الصور الدالة على رحمته سُبحانه: أنه تكفّل برزق عباده جميعاً، وسَخّر لعباده ما في السماء والأرض جميعاً منه؛ يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

 

ومن صور (رحمة الله) كرمه على عباده؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [يقولُ اللَّهُ: إذا أرادَ عَبْدِي أنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فلا تَكْتُبُوها عليه حتَّى يَعْمَلَها، فإنْ عَمِلَها فاكْتُبُوها بمِثْلِها، وإنْ تَرَكَها مِن أجْلِي فاكْتُبُوها له حَسَنَةً، وإذا أرادَ أنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْها فاكْتُبُوها له حَسَنَةً، فإنْ عَمِلَها فاكْتُبُوها له بعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ].

ومن صور هذا الكرم يقول الشاعر:

وتشاءُ أنتَ من البشائرِ قَطرةً

ويشاءُ ربُك أنْ يُغيثكَ بالمَطرْ

وتشاءُ أنتَ من الأماني نَجمةً

ويشاءُ ربكَ أن يُناولكَ القَمرْ

وتظلُ تَسعى جاهداً في هِمةٍ

واللهُ يُعطي مَنْ يشاءُ إذا شَكرْ

اللهُ يمنعُ إن أرادَ بحِكمةٍ

لابدَ أنْ ترضى بما حَكَمَ القَدَرْ

 

أحبتي.. لا تكاد تخلو حياة أيٍ منا من بعض مُنغصاتٍ يكره حدوثها، لكنه يكتشف بعد فترةٍ أنها كانت رحمةً من الله: زواجٌ لم يتم، ‏وظيفةٌ لم يستطع اللحاق بها، خسارة مالٍ، حادث سيارةٍ، إصابةٌ بمرضٍ، غدر صديقٍ، حَمْلٌ لم يتم، وغير ذلك من مُنغصاتٍ نراها صعوباتٍ ومشاكل، لكنها في واقع الأمر قد تكون -برحمة الله- تنبيهاتٍ لتدفع عنا ضرراً أكبر؛ فلا يوجد أفضل من التسليم لإرادة الله عزَّ وجلَّ، وهو القادر على تسخير الكون كله لإسعادنا وراحتنا وحمايتنا من كل شرٍ، وكل ما في الكون جندٌ من جُنده.

اللهم تُب علينا وارحمنا؛ وأنت سُبحانك ﴿التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، واجعلنا مقصد رحمتك، وسخَّر لنا جنودك؛ فننعم بعفوك وعافيتك في الدُنيا والآخرة.

https://bit.ly/4nUY7TQ

الجمعة، 19 سبتمبر 2025

قَدَر الله

 

خاطرة الجمعة /517

الجمعة 19 سبتمبر 2025م

(قَدَر الله)

 

كتبت قصتها وحكت عن نفسها فقالت: اسمي «علياء» لكنني في الحقيقة مُتواضعةٌ في كل شيءٍ؛ فكما يقول الناس: "لا مال ولا جمال ولا حسب ولا نسب"، نسكن في قريةٍ صغيرةٍ هادئةٍ، أبي رجلٌ بسيطٌ كان يعمل سائقاً على إحدى سيارات الأُجرة التي لم يكن يملكها، لكنه كان يقتسم العائد المادي مع صاحب السيارة في نهاية كل يومٍ. كان أبي رجلاً طيباً، وأُمي امرأةٌ ريفيةٌ مُكافحةٌ وشريفةٌ كانت تقف مع زوجها جنباً إلى جنب، تجمع اللبن والجُبن والبيض من نساء القرية كل مساءٍ، وفي الصباح الباكر تذهب إلى سوق المدينة كي تبيعه، منهم من يمنحها جنيهاً زائداً عن حقها، ومنهم قليل الذوق شحيح الكرم يقطع أنفاسها في محاولةٍ منه لتقليل الثمن جُنيهاً أو جُنيهين، غير مُقدِّرٍ لما تُعانيه هذه المسكينة من شظف العيش وتدني الدخل. كنتُ أحمل معها حاجياتها كل صباحٍ لأُوصلها إلى مكانها المُعتاد بالسوق، ثُم أتجه إلى جامعتي بثيابي البسيطة، وهيئتي العادية جدّاً. كنتُ مُطمئنةً بخصوص مسألة زواجي حيث أن «عادل» جارنا يُحبني، ولطالما أخبر أُمي بأنه ينوي أن يتقدم لخطبتي بمجرد أن يجمع مبلغاً معقولاً من المال يُمَكِنَّه من الزواج بي. يوماً ما تعرض أبي لحادثٍ فظيعٍ تُوفي على إثره، تركنا أبي من دون مُقدماتٍ، من غير وداعٍ أو استعدادٍ للحياة من دونه، لم تحتمل أُمي الصدمة فأُصيبت بالشلل التام، وفجأةً وجدتُ نفسي أمام المدفع؛ فقد أصبحتُ العائل الوحيد لأُسرتي؛ لأُمي المريضة ولأخي الصغير ولنفسي.

قررتُ أن أترك الجامعة على الأقل هذا العام، لكن حُلماً بعيداً بالتخرج كان دائماً يُراود أبي جعلني أتراجع عن قراري رغبةً مني في تحقيق أُمنيته بأقرب وقتٍ، وبعد تفكيرٍ طويلٍ، قررتُ إكمال المشوار والبدء من حيث انتهت أُمي: من الغد سأجمع أنا البيض والجُبن واللبن من نساء القرية، وسأذهب به إلى سوق المدينة، وسأحاول جاهدةً بيعه ثم الذهاب سريعاً إلى الجامعة لألحق ما يُمكن اللحاق به!

بعد يومين كنتُ أفترش أرض السوق، وأمامي حقائب بها بعض زُجاجات اللبن وقطعٌ من الجُبن وقليلٌ من البيض، وبحجري كتابٌ عنوانه "الإحصاء التطبيقي" يشرد بصري بين سطوره، أقرأ الكلمات وأكاد لا أعي منها شيئاً! بعد دقائق كان «عادل» بقامته الطويلة يقف مُتلعثماً أمامي، وجهه مُحمَّرٌ وأعصابه مشدودةٌ، أدركتُ أنه يُريد أن يقول شيئاً هاماً، بالفعل استجمع شجاعته وقال لي: "«علياء»، أنا آسف؛ أُمي رفضت أمر زواجي منكِ رفضاً تاماً، قالت إنها لن تقبل أبداً أن تُزوجني من بائعة لبن"! قلتُ له في صدمةٍ وبصوتٍ مبحوحٍ: "وما الذي يعيب بائعة اللبن؟ إنها تُكافح من أجل والدتها المريضة وأخيها اليتيم"! لم يرد، أعطاني ظهره وانصرف. بكيتُ في هذا اليوم كما لم أبكِ من قبل، لعنتُ الظروف والفقر والمرض، في الحقيقة كنتُ أتحمل رحيل أبي، أما رحيل «عادل» كنتُ أضعف من أن أتحمله!

بعد هذه الحادثة بأسبوعٍ، تم طردي من المُحاضرة، المُعيد الغبي لم يحتمل فكرة أنني لم أقتنِ الكتاب حتى الآن ونعتني بـالمُستهترة، لم أستطع إخباره أن الفقر هو السبب، خرجتُ من المُحاضرة باكيةً، وقرَّرتُ أن أترك الجامعة بلا عودة! في اليوم التالي كنتُ أفترش أرضية السوق، وأمامي حقائب بها بعض زُجاجات اللبن وقطعٌ من الجُبن وقليلٌ من البيض، وبعد وقتٍ قصيرٍ فوجئت بذلك المُعيد القاسي يقف أمامي ويداه خلف ظهره، يبدو أن بهما شيئاً يُحاول إخفاءه، تلقائيّاً غطيتُ وجهي بوشاحي ظنّاً مني أنه بالتأكيد سيتذكرني إن رأى وجهي فآثرتُ إخفاءه، لكنه ضحك ضحكةً طويلةً ثم قال: "أيُعقل أن يخجل المُكافح من كفاحه؟!"، ثم أخرج شيئاً من وراء ظهره وهو يقول: "هذا هو الكتاب الذي قمتُ بطردك بالأمس لأجله، ومعه كل الكُتب التي تحتاجينها، لم أقصد إهانتك، ظننتكِ فتاةً لعوباً مُستهترةً، وأنا أكره هذا الصنف من الفتيات، أيُمكنكِ أن تقبلي اعتذاري؟!"، فبكيتُ، يبدو أن ضميره أنَّبه بعد طردي؛ فسأل عني وعرف ظُروفي ومكاني في السوق فجاءني مُعتذراً. في اليوم التالي ذهبتُ إلى الجامعة، كنتُ وقتها راضيةً عن الفقر والظروف والمرض، كنتُ مُعجبةً بكفاحي، ومؤمنةً بأن هذه هي معركتي التي خلقني الله لأجلها. جاء المُعيد وبدأ مُحاضرته قائلاً: "لم أكن مُرفهاً يوماً، ولم أُولد وبفمي ملعقةٌ من ذهبٍ، في وقتٍ مضى اشتغلتُ باليومية، وعملتُ سائق سيارة أُجرة، وسباكاً، وكثيراً كثيراً ما نمتُ وأنا جائعٌ!"، ثم تابع: "أحببتُ أن أُشارككم جُزءاً من قصتي". في قرارة نفسي كنتُ أعلم أنه يخصني أنا بهذا الجُزء، أنه يقصدني أنا من بين ألف طالبٍ؛ فأحببتُ الحياة ورضيتُ عنها، ما زال في هذه الدنيا أُناسٌ طيبون لا يبخلون بالكلمة الطيبة ولا يحبسون الاعتذار في صدورهم! وفي اليوم التالي وبينما أنا جالسةٌ بالسوق أُمارس عملي -لأنه مصدر رزقنا الوحيد- إذا به يقف أمامي ببذلته الأنيقة ورباط عُنقه الجميل مُتسائلًا: "كيف حال بائعة اللبن؟!"، قلتُ: "بخيرٍ، أظن أنها لم تعد تخجل من عملها، بل وتُحبه، إنه (قَدَر الله)، كيف للمرء أن يكرهه؟!"، ومن دون مُقدماتٍ جلس ببذلته الأنيقة إلى جانبي على الأرض، وتعالى صوته: "البيض والجُبن واللبن.. من يريد؟ الزُجاجة بثلاثين جُنيهاً!"، ضحكتُ من أعماقي، وآمنتُ أن الخير يكمن فيما نحسبه شراً، وأن الله ما انتزع منا شيئاً إلا ليُعوضنا بشيءٍ أفضل منه، إن الله كريم! في ذلك اليوم أنهيتُ عملي باكراً بفضل تصرفه الجميل الذي لفت أنظار المُشترين؛ فكيف لأنيقٍ مثل هذا الشاب أن يبيع اللبن بسوقٍ شعبيٍ كهذا؟! في نفس اليوم بدأ المُحاضرة بقوله: "بالمُناسبة نسيتُ أن أُخبركم أنه يوماً ما، إلى جانب عملي كسائقٍ وعاملٍ باليومية وسباكٍ عملتُ بائعاً للبن"!

بعد أيامٍ قليلةٍ كنتُ أُزَف لأُستاذي بالجامعة، إنه يُحبني بفقري، بعبء أُمي وأخي، بملامحي البسيطة والتي أشعر أنها لم تعد كذلك؛ في الحقيقة أصبحتُ أُحس أنني جميلةٌ جداً، أشعر أنني توهجتُ منذ أن أحبني هذا الرجل الصادق، صرتُ «علياء» بحق!

تساءلتُ: أين ذهب «عادل»، وأين ذهبت والدته؟! الحمد لله أنه قد تخلى عني من البداية، والحمد لله أنني طُردتُ من الجامعة، والحمد لله على فقري، وممتنةٌ جدّاً جدّاً لعملي بائعةً للبن؛ فكُل هذه الصعاب جذبتني رغماً عني لتضعني في طريق الرجل الصحيح. أكتب قصتي هذه موقنةً بأن (قَدَر الله) سُبحانه وتعالى رتَّب لي ما لم أكن أتوقعه يوماً أو أحلم به، وعوضني عما كنتُ أحسب أنه خيرٌ لي بما هو أفضل وأحسن؛ أنعم عليّ بزوجٍ صالحٍ طيبٍ وعطوفٍ، يُحبني، يرعاني ويرعى أُمي المريضة وأخي الصغير، ويُدللني، ويُحب أن ينعتني دائماً بقوله: "يا ابنة بائعة اللبن"!

 

أحبتي في الله.. أحداثٌ ومواقف نمر بها في حياتنا تُثبت لنا -يوماً بعد آخر- كم هو لُطف الله بعباده، وكم هو جهل الإنسان بأن الله سُبحانه وتعالى أرحم به من رحمته هو بنفسه، مهما بدا الأمر على العكس من ذلك.

وهذا موقفٌ حدث لأحد الطلاب يؤكد هذه الحقيقة؛ ففي لمحة عينٍ، تحوَّل يومٌ عاديٌ لطالب طبٍ واعدٍ إلى كابوسٍ مُروِّعٍ؛ إذ كان يقف أمام كليته، يتبادل الضحكات مع زملائه، حين انطلقت سيارةٌ طائشةٌ مُسرعةٌ كأنها قذيفةٌ اختارته هو بالذات من بين الجميع، صوت اصطدامٍ عنيفٍ، صرخاتٌ، ثم ظلام. استيقظ على الأضواء الساطعة بالمُستشفى، وعلى أصوات الأجهزة الطبية المُركبة بجسده، والتي لا تهدأ. نظر حوله فإذا بالأطباء يُحيطون به وقد ارتسمت على وجوههم علامات القلق، اقترب منه أحدهم وقال له: “كليتك تنزف بشدةٍ، ويجب أن نستأصلها فوراً، وإلا فإن حياتك في خطر”، في تلك اللحظة، وجد الطالب نفسه أمام خيارٍ صعبٍ: إما أن يتخلى عن جُزءٍ من جسده ليعيش، أو يتمسك به ويموت، اختار الحياة، لكنه شعر بأن جُزءاً من روحه قد مات بالفعل. بعد أيامٍ، بينما كان غارقاً في بحرٍ من الاكتئاب واليأس في غُرفته المُعتمة بالمُستشفى، فُتح باب الغُرفة فجأةً، وإذ بالجرّاح الذي أجرى له عملية استئصال الكلية يسأله، وعلى وجهه ابتسامةٌ غامضةٌ لم يفهم الطالب معناها: “هل تؤمن بالقضاء والقدر؟”، أجاب الطالب بصوتٍ خافتٍ يملأه الحزن: “أجل يا دكتور، لكني خسرتُ الكثير"، اقترب الجراح منه ثم قال بنبرةٍ تحمل الكثير من التأثر: “كنتُ أسمع عن (قَدَر الله) مثلك، حتى رأيته بعينيّ معك؛ فأثناء العملية، لاحظنا شيئاً غريباً في كليتك التي استأصلناها، فأخذنا عينةً أرسلناها للمختبر، ووصلتني النتيجة اليوم، كانت النتيجة مُذهلةً؛ كانت كليتك المُصابة تحتوي على خلايا سرطانيةٍ في مراحلها الأولى، ورمٌ خبيثٌ كان سينمو بصمتٍ ويُنهي حياتك دون أن تُتاح لك فرصة اكتشافه إلا بعد فوات الأوان”، اتسعت عينا الطالب في ذهولٍ، وبدأ يربط الخيوط ببطءٍ، همس بصوتٍ مُتقطعٍ: “هل تقصد أن الحادثة لم تكن عشوائيةً؟ وأن السيارة اختارتني أنا بالذات من بين جميع أصدقائي، وحدَّدت مكان الإصابة بدقةٍ متناهيةٍ لتمنحني فرصةً ثانيةً للحياة؟”، ابتسم الجراح ابتسامةً واسعةً وقال: “تخيّل هذا! وهل تعتقد بعد ذلك أنها كانت مُجرد صدفةٍ؟!، لا إنه (قَدَر الله) يُجريه على عباده بحكمته ورحمته".

لأول مرةٍ مُنذ وقع الحادث، ارتسمت ابتسامة رضا وحمدٍ وامتنانٍ على وجه الطالب، ونظر إلى السماء وقال والدموع تترقرق في عينيه: “الحمد لله؛ على تدبيرك ورحمتك بي يا إلهي”.

 

يقول تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، ويقول كذلك: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَو أنَّ الخلقَ كُلَّهُم جميعًا أَرادوا أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ لَكَ، لَم يَقدِروا عليهِ، أو أرادوا أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ علَيكَ، لَم يقدِروا علَيهِ … واعلَم أنَّ ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك، وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ] يقول شُرّاح الحديث إنَّه لنْ تَحصُلَ مَنفعةٌ لك إلَّا ما قد كتَبَه اللهُ لك، ولو اجتمَعَ على مَنفعتِك أهلُ الأرضِ جميعاً، وأنه لنْ يَبلُغَك ضُرٌّ إلَّا ما قدَّرَه اللهُ عليك، ولو اجتمَعَ على ضَرِّك أهلُ الأرضِ جميعاً. أي ما حصل لك من الخير والنِعم، أو الشر والنِقم، وما قدَّره الله تعالى لك أو عليك، لم يكن ليجاوزك إلى غيرك، وما قدَّر أنه لا يُصيبك فإنه لن يُصيبك أبداً. وأن ما يُصيبك من ابتلاءاتٍ ومصائب أو نِعمٍ وخيرٍ فهي من (قَدَر الله) عليك، ولم يكن من المُمكن أن يفوتك أو يُصرَف عنك. إنَّ ما قضاه الله سُبحانه على العبد فهو نافذٌ وواقعٌ به لا محالة، لا يستطيع أحدٌ رده ولا دفعه، وأي شيءٍ في الكون فإنما يقع بقضاء الله وقدره، وإذا عرف الإنسان هذا المعنى فإنه لا يتحسر بسبب ما ينزل به من الكُروب والمصائب، ولا يفتح للشيطان باباً بأن يقول لو كان كذا لكان كذا؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [إنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ]، بل عليه الصبر، وأن يحتسب عند الله تعالى الأجر، ولو أن الإنسان استحضر هذا المعنى استحضاراً كاملاً فإنه يحصل له كمال اليقين، وكمال التوكل، وكمال الرضا بما يُقدِّره الله سُبحانه له أو عليه، مع التسليم الكامل بأن الله عزَّ وجلَّ يختار للمؤمن ما فيه خيره وصلاحه، حتى ولو بدا غير ذلك.

أعجبني قول أحد العارفين في وصفه (قَدَر الله) كتب يقول: ‏وتظن أنها النهاية، وفجأةً يُصلح الله كل شيء! تظن أن القصة انتهت، ثم يُغيِّر الله كل شيءٍ، ويُعيد ترتيب المَشاهد! في اللحظة التي تشعر فيها أن كل شيءٍ يُعاكس رغباتك تذكر قوله تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾.

 

أحبتي.. قال أحد العُلماء: “لو عَلِم العبد كيف يُدبِّر الله له أموره، لعلم يقيناً أن الله أرحم به من أُمه وأبيه، ولذاب قلبه محبةً لله”. فلنقترب من الله أكثر وأكثر، بالمُحافظة على أداء الفروض والإكثار من النوافل حتى نصل إلى حُب الله ورضاه؛ يقول عزَّ وجلَّ في الحديث القُدسي: {وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ}. ولنُحسن الظن بالله ونُداوم على ذِكره، ونتقرب إليه لننعم بمعيته؛ يقول تعالى في حديثٍ قُدسيٍ آخر: {أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً}.

حفظنا الله من كل مكروهٍ، وكتب لنا جميعاً الخير، من حيث نحتسب ومن حيث لا نحتسب، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.

https://bit.ly/4nE29Qa

 

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

الزوجة الصالحة

 

خاطرة الجمعة /516

الجمعة 12 سبتمبر 2025م

(الزوجة الصالحة)

 

كتب أحدهم يقول: في هدأة الليل، وقبل بزوغ الفجر، أيقظتني زوجتي بإلحاحٍ شديدٍ، تطلب مني أن أرد على الهاتف الذي لم يكفّ عن الرنين؛ فاستفسرتُ منها، وأنا أُكابد النعاس: "كم الساعة الآن؟"، فأجابتني: "لم يطلع النهار بعد!"؛ فقلتُ مُستنكراً: "ومن ذا الذي يجرؤ على إزعاج الناس في هذا الوقت؟! أيّ قلبٍ هذا لا يعرف للراحة حُرمة؟!"، قالت لي: "رقمٌ غريبٌ، لكنه اتصل أكثر من عشرين مرةً!"، فعلّقتُ ساخراً: "لا شك أنه أحد أولئك العابثين، ممن يتصلون بأرقام عشوائيةٍ طمعاً في أن ترد عليهم فتاة! وإن كان كذلك، فويلٌ له مني، والله لأُسمِعنَّه ما يكره!". فتحتُ الخط، وأنا أتهيأ للزجر، فإذا بصوتٍ أعرفه يقول لي برقةٍ: "صباح الخير يا حبيب القلب، أعتذر لإيقاظك في هذا الوقت، لكن الأمر الذي أحتاجك فيه لا يحتمل تأخيراً"، فقلتُ له، وأنا أتحرى الصوت: "صباح الورد، مَن المتحدث؟ فالرقم غير مُسجلٍ لدي"؛ قال: "فلان الفلاني"، فقلتُ مُعتذراً: "معذرةً يا عزيزي، لم أعد أحتفظ إلا برقمك القديم. خيراً إن شاء الله"، قال بصوتٍ يعتريه الحزن: "والدتي شعرت بتوعكٍ بالأمس، وحين أخذناها إلى المُستشفى، قرَّر الأطباء أنها بحاجةٍ إلى عمليةٍ عاجلة، وأنت تعلم أنني أمرّ بضائقةٍ ماليةٍ هذه الأيام، فهل يُمكن أن تُقرضني مبلغاً حتى يحين موعد الجمعية الشهر المُقبل؟"، فقلتُ له مُتأثراً: "ألف سلامةٍ لوالدتك، ولكنك فاجأتني، واللهِ لا أملك مالاً نقدياً في البيت الآن"، فقال مُتفهماً: "لا بأس، إن شاء الله يُفرجها الله من عنده، وأعتذر مُجدداً لإزعاجك في هذا الوقت". ما إن أنهيتُ المُكالمة حتى سألتني زوجتي: "مَن كان هذا؟"، فأجبتها: "فلان الفلاني"، قالت: "وماذا أراد؟"، قلتُ: "طلب قرضاً، لكنني اعتذرتُ له؛ فهو لا يتصل بي إلا إذا كان في حاجةٍ!"؛ فأجابتني بنبرةٍ حزينةٍ: "وما الضير في ذلك؟ الناس للناس، وهذا أمرٌ طبيعيٌ!"، فقلتُ لها بحزمٍ: "طبيعيٌ بالنسبة لكِ، أما أنا فلا أرتاح لمن لا يتذكرني إلا وقت المصلحة!"، فابتسمت وقالت لي: "قال أحد الصالحين: «أربعةٌ لا أقدر على مُكافأتهم: رجلٌ بدأني بالسلام، ورجلٌ وسَّع لي في المجلس، ورجلٌ اغبرت قدماه في حاجتي، فأما الرابع فلا يُكافئه عني إلا الله عزَّ وجلَّ، وهو رجلٌ نزل به أمرٌ فبات يُفكر فيمن يقصده، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي»". كلماتها اخترقت قلبي، فأسرعتُ بالاتصال بصديقي وقلتُ له: "وجدتُ مع زوجتي مالاً، فخُذ ما تحتاج، وارفع عن نفسك الحرج"، فقال لي بصوتٍ مُختنقٍ: "واللهِ، ما إن أغلقتُ الهاتف معك حتى شعرتُ أن الدنيا قد أظلمت في وجهي، وأن كل الأبواب قد أُوصدت؛ فرفعتُ يديّ إلى السماء أُردد: «ربِّ إني مسني الضُر وأنت أرحم الراحمين»، وإذ بك تتصل بي من جديدٍ، فعلمتُ قبل أن أفتح عليك أن الله قد استجاب دعائي!".

 

أحبتي في الله.. لا شك أن (الزوجة الصالحة) نعمةٌ كُبرى، وكنزٌ عظيمٌ، فهي تُعين زوجها ليس فقط على دُنياه، بل وعلى آخرته أيضاً، تنصحه بما فيه صلاحه واستقامته.

 

وهذه واحدةٌ منهن، من اللواتي يحرصن على أن تكون دُنيا زوجها مزرعةً لآخرته؛ يروي زوجها ما حدث فيقول:

سافرتُ إلى الخارج في مُهمة عملٍ لمدة ثلاثة أيامٍ، وفور وصولي للدولة التي سافرتُ إليها اتصلتُ لأطمئن على زوجتي وابني؛ فأنا لم أتعود فراقهما، وهُما لم يتعودا غيابي طوال ثلاث سنواتٍ هي عُمر زواجي. اتصلتُ ولكن للأسف لم يرد على مُكالماتي أحد! مضت ثلاثة أيامٍ وهاتفي لم يُفارق يدي، اتصل بدون مُبالغةٍ كل ربع ساعةٍ أو نصف ساعةٍ ولا أجد جواباً، فجُن جُنوني، واتصلتُ بأخي وأُختي ليتفقدا أحوال أُسرتي الصغيرة فطمأناني، ولم أُصدقهما، واتصلتُ بعمتي أُم زوجتي فطمأنتني، وأخبرتها أنني أنتظر اتصالاً من زوجتي، ولكن طال انتظاري ولم تتصل بي! مرت الأيام الثلاثة عليّ كثلاثة شهورٍ طويلةٍ، وكنتُفي داخلي أغلي من الغضب حيناً، وأتعجب وأحاول معرفة السبب حيناً آخر، وبين هذا وذاك كان الشيطان يوسوس لي بوساوس مُرعبةٍ. مرت الأيام الثلاثة كأنها دهرٌ، ورجعتُ إلى بلدي، وما إن وطأت قدماي أرض المطار حتى أسرعتُ بالعودة إلى المنزل، وحين وصلتُ -ومن شدة خوفي- أخذتُ أطرق الباب بيديّ وبالجرس معاً حتى فتحت لي زوجتي الباب، وكم كانت دهشتي حين رأيتها في كامل زينتها وأناقتها، تستقبلني بكل حفاوةٍ وبأبهى صورة، ومن ورائها طفلي عيناه تتراقص فرحاً بعودتي ويركض إلى حُضني، كُنتُ مُندهشاً؛ لا أصدق ما تراه عيناي، ولا أفهم ماذا يحدث! وسرعان ما بدأ الغضب يحل محل الدهشة؛ فسألتُ زوجتي عن سبب تجاهلها الرد على مُكالماتي حتى كدتُ أن أقطع سفري وأُسرع بالعودة حيث كانت أسوأ الظنون تتلاعب بي يُمنةً ويُسرةً، فأجابت زوجتي بكل هدوءٍ: "هل اتصلتَ بوالدتك؟"، أجبتها وأنا مُتعجبٌ من سؤالها: "لا أدري، ربما لا، وإنما اتصلتُ بوالدتكِ لأطمئن عليكما، ثم لماذا هذا السؤال؟"، قالت: "أفرأيتَ كيف كان شعورك في هذه الأيام الثلاثة؟ إنه هو نفسه شعور والدتك حين لا تتصل بها بالأيام، ولا تسمع صوتها إلا حين تُبادر هي بالاتصال بك، بعد أن يُلهبها الشوق، ويجرفها الحنين، وتأخذها الوساوس إن طال الغياب، حاولتُ كثيراً تنبيهك إلى ذلك، ولكن دون فائدةٍ، إلى أن جاءت سفريتك للخارج؛ فلم أجد أفضل من هذه الفُرصة لأُوصِّل لك هذه الرسالة يا زوجي العزيز"، طأطأتُ رأسي خجلاً من زوجتي، الصغيرة عُمراً، الكبيرة عقلاً، وقد فهمتُ الدرس جيداً، وجدتُها تُناولني مفتاح سيارتي، وتهمس في أُذني "جنتك تنتظرك"؛ فانطلقتُ إلى حبيبتي الأولى أُمي، بعد أن علمتني زوجتي الحكيمة درساً لن أنساه مدى الحياة، وأنا مُمتنٌ لها أن جعلتني أتدارك نفسي، وأُصلح أمري قبل أن أندم في يومٍ لا ينفع فيه الندم. شكراً وحمداً لله تعالى الذي رحمني وأيقظني من غفلتي، وشكراً لأُمي التي أحسنت اختيار هذه (الزوجة الصالحة) لي، وشكراً لهذه الزوجة الحكيمة الذكية، وشكراً لأُمها التي ربتها فأحسنت تربيتها. أُمهاتنا جناتنا في الدُنيا، فلا تنسوا وصلهن ولو بمكالمةٍ كل يومٍ، وهذا أقل القليل؛ فهُنَّ مشغولاتٌ بنا، تُفكرن دائماً فينا، وتحملن همنا، قلوبهن مُعلقةٌ بنا، تدعين لنا، ورِقة قلوبهن تمنعهن من الاتصال بنا كل حينٍ خوفاً من إزعاجنا.

 

هاتان الزوجتان نحسب أنهما من الزوجات الصالحات اللاتي لا يدخرن جهداً في القيام بواجباتهن على أكمل وجهٍ، امتلكن بعض صفات وسمات (الزوجة الصالحة) التي وردت في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ﴿مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ﴾؛ يقول المُفسرون إن هذه الآية تجمع أصول الصلاح: الإسلام، والإيمان، والقنوت "وهو دوام الطاعة"، والتوبة، والعبادة، والصيام "وهو أحد معاني السائحات". وهذه الصفات هي التي تُشكل شخصية المرأة المُسلمة التي تُصلح بها نفسها وبيتها.

 

ويقول تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، يقول المُفسرون إن القنوت يعني دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ، ويعني كذلك طاعة الزوج في غير معصية الله؛ فطاعة الزوج ليست استعباداً أو إذلالاً، إنما هي جزءٌ من منظومة الأسرة التي جعل الإسلام للرجل فيها قوامةً تهدف إلى استقرار الأسرة. ومن صفات الزوجات الصالحات أنهن ﴿حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ﴾، وهذا المُصطلح القُرآني البليغ يشمل كل ما يغيب عن عين الزوج ومعرفته، وهو من أعظم مظاهر أمانة الزوجة وإخلاصها، ويتجلى ذلك في حِفظ نفسها وعِرضها، وصيانة شرفها وعفتها، وابتعادها عن كل مَواطن الشُبهات، حفظاً لسُمعتها وسُمعة زوجها، وهذا الحفظ ليس نابعاً من الخوف من الزوج، بل من الخوف من الله الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، ولهذا خُتمت الآية بقوله سُبحانه: ﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، أي بحفظ الله لهن وتوفيقه وتسديده. كما أن من الحفظ حفظ أسرار البيت؛ فالبيت المُسلم له حُرمته وأسراره التي لا ينبغي أن تخرج إلى العلن، و(الزوجة الصالحة) لا تُفشي سراً لزوجها، ولا تتحدث عن تفاصيل حياتهما الخاصة التي قد تُسبب حرجاً أو تفتح باباً للفتنة. ويشمل الحفظ أيضاً حفظ مال الزوج؛ فالزوجة مؤتمنةٌ على مال زوجها، فلا تُنفقه إلا فيما يُرضي الله، وبإذن زوجها، ولا تُسرف أو تُبذِّر، بل تكون مُدبِّرةً وحكيمةً في إدارة الشؤون المالية لبيتها.

 

وفي السُنة الشريفة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمالِها، ولِحَسَبِها، وجَمالِها، ولِدِينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ]، يقول شُرّاح الأحاديث إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيهذا الحديث بأوصاف المرأة التي يتعلق بها الناس في الزواج، وهي: المال، والحسب، والجمال، والدِين، ثم نصح النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون الدِين هو المعيار الأول والأساسي في اختيار الزوجة؛ لأن اختيار ذات الدِين يترتب عليه سعادة الدارين: الدُنيا والآخرة، ولا مانع من اختيار المرأة ذات المال أو الحسب أو الجمال، لكن شريطة أن تكون ذات دِين.

ووصف النبي صلى الله عليه وسلم (الزوجة الصالحة) بأنها خير متاع الدُنيا؛ فقال: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، هذا الوصف البليغ يختزل الكثير من المعاني، فالدُنيا بكل ما فيها من مُغرياتٍ ومتاعٍ زائلٍ، لا يرقى شيءٌ منها إلى قيمة (الزوجة الصالحة) التي تكون سبباً في سعادة زوجها واستقراره وطُمأنينته، إنها استثمارٌ حقيقيٌ في سعادة الدارين، وركيزةٌ أساسيةٌ لتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي.

ولما نزلت الآية الكريمة ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ قالَ بعضُ الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: أنزلَ في الذَّهبِ والفضَّةِ، لو علمنا أيُّ المالِ خيرٌ فنتَّخذَهُ، فقالَ: [أفضلُهُ: لسانٌ ذاكرٌ، وقلبٌ شاكرٌ، وزوجةٌ مؤمنةٌ تعينُهُ على إيمانِه]؛ فهذا الحديث يضع الزوجة المؤمنة الصالحة في مصاف أعظم ما يُقرِّب إلى الله، كذِكر الله وشكره، مما يدل على دورها المحوري في تعزيز الجانب الإيماني للأسرة بأكملها.

وقال عليه الصلاة والسلام: [أربعٌ من السعادةِ: المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهنيءُ]، فكما أن المسكن الواسع والمركب الهنيء من أسباب السعادة والراحة المادية، فإن (الزوجة الصالحة) هي مصدر السعادة والراحة النفسية والروحية التي تفوق كل راحةٍ مادية.

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم خير النساء بقوله: [الَّتي تُطيعُ زوجَها إذا أمرَ، وتسرُّهُ إذا نظرَ، وتحفظُهُ في نفسِها ومالِهِ]؛ فطاعتها لزوجها هي طاعة محبةٍ وتقديرٍ، تنبع من إيمانها بأن هذا جزءٌ من تحقيق مرضاة الله وحفظ استقرار بيتها، وهذه الطاعة مُقيدةٌ بالمعروف، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وهي السمة التي تضمن عدم تحول القوامة إلى تسلطٍ أو قهرٍ أو إجحافٍ أو ظُلم.

 

ويقول أهل العِلم إنه إلى جانب هذه السمات الأساسية، هناك مجموعةٌ من الأخلاق والسلوكيات العملية التي ترتقي بالزوجة إلى مصاف الصالحات، وتجعل منها شريكة حياةٍ مثاليةً؛ من ذلك: أن تكون مُعينةً لزوجها وأبنائها على أمر الآخرة؛ تُشجعهم على طاعة الله، وتحثهم على المُحافظة على الصلاة، وتُذكرهم بالصدقات، وتُشاركهم في مجالس العِلم، وتصبر معهم على مشاق الطريق إلى الله. وأن تكون صابرةً وشاكرةً؛ فالحياة الزوجية لا تخلو من مُنغصاتٍ وصعوباتٍ، سواءً كانت ماديةً أو اجتماعيةً؛ فتتحلى (الزوجة الصالحة) بالصبر عند الشدة، فلا تتسخط ولا تتذمر، وتتحلى بالشكر عند الرخاء، فتُقدر نعمة الله وجُهد زوجها. وأن تكون قانعةً وتُحسن التدبير؛ فلا تُكلِّف زوجها فوق طاقته، ولا تُقارن حالها بأحوال الأُخريات، بل ترضى بما قسم الله لها، وتكون في ذات الوقت مُدبِّرةً حكيمةً، تُحسن إدارة موارد البيت، وتتجنب الإسراف، وتعرف أولويات الإنفاق، مما يُسهم في الاستقرار المادي للأسرة. وأن تتصف بالحكمة وحُسن الخُلق؛ تعرف كيف تتعامل مع المُشكلات، ومتى تتكلم، ومتى تصمت، وكيف تمتص غضب زوجها، وكيف تُحوِّل الموقف المتأزم إلى حوارٍ هادئٍ، ويشمل حُسن خُلُقها تعاملها مع أهل زوجها وجيرانها، فتكون سفيرة خيرٍ لبيتها وأُسرتها.

 

يقول أحد الصالحين: إن (الزوجة الصالحة) ليست مُجرد شريكة حياةٍ، بل هي أعظم نعمةٍ يُمكن أن يُرزَق بها الزوج بعد نعمة الإيمان والتقوى. وهي التي تتحلى بالخُلُق الحسن، والأدب الرفيع، فلا يُعرف منها بذاءة لسانٍ ولا خبث طويةٍ ولا سوء عشرةٍ، بل تتحلى بالنقاء والصفاء، وتتزين بحُسن الخطاب ولُطف المُعاملة، وأهم من ذلك كله أن تتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجِدال والمِراء والعِند والكِبْر. وهي المُربية الصادقة للأبناء، تُعلمهم الإسلام والقرآن، وتغرس فيهم حُب الله وحُب رسوله وحُب الخير للناس، والخُلُق الحسن، ولا يكون همُّها من دُنياهم فقط أن يبلغوا مراتب الجاه والمال، بل مراتب الدِين والتقوى والخُلق الرفيع والعِلم النافع.

 

أحبتي.. لا شك في أن الصلاح الديني للزوجة وتقواها هو أساس كل خيرٍ، وهو الصفة الجامعة للفلاح الحقيقي، والأساس الذي تُبنى عليه سعادة الأُسرة كلها؛ فمن كانت زوجته تتصف بتلك الصفات، أو مُعظمها، أو حتى بعضها، فليحمد الله على أن حباه بهذه النعمة العظيمة، وليُعاهده عزَّ وجلَّ أن يكون هو الآخر زوجاً صالحاً لتكتمل سعادة الأُسرة، ولتكون هذه الأُسرة السعيدة لبنةً في بناء مجتمعٍ إسلامي ٍقوي. وندعو الله سُبحانه وتعالى أن يجعل (الزوجة الصالحة) من نصيب كل مُسلمٍ، كما ندعوه تبارك وتعالى أن يُيسِّر على نساء المُسلمين لزوم سبيل الفلاح، فتحرصن على اكتساب صفات التقوى والصلاح، اقتداءً بأُمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وليكن دعاؤنا دائماً بالآية الكريمة: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ عسى أن يستجيب الله دعاءنا.

 

https://bit.ly/4pzmA2C

الجمعة، 5 سبتمبر 2025

دُعاء ذي النون

 خاطرة الجمعة /515

الجمعة 5 سبتمبر 2025م

(دُعاء ذي النون)

 

قصةٌ واقعيةٌ مؤثرةٌ ومُعبِّرةٌ، حدثت منذ عدة سنواتٍ. ففي أحد أيام شهر رمضان المبارك، قرر أبناء رجلٍ مُسنٍ يسكن في قصرٍ بمدينة «الرياض» أن يُسافروا إلى منطقتهم في الجنوب لزيارة بعض أقاربهم، وقد دعوا أباهم لمُشاركتهم السفر والزيارة، لكنه اعتذر رغبةً في الراحة. غادر الأبناء «الرياض» تاركين والدهم وحيداً في القصر. لم يكن يشكو من أي مرضٍ، بل كان نشيطاً، يخرج إلى المسجد للصلاة ويعود إلى منزله.

يقول الرجل المُسن: كنتُ أشعر بالعافية والحيوية والحمد لله.. في ذلك اليوم صليتُ العصر وعدتُ إلى البيت، وخلعتُ ملابس الخروج، وارتديتُ ملابس المنزل، ثم أردتُ الصعود إلى الطابق العُلوي. لدينا مصعدٌ داخليٌ، وبطبيعتي لا أستخدمه إلا نادراً، ولكنني في ذلك اليوم كنتُ مُتعباً قليلاً وصائماً، فقررتُ استخدامه، لقدَرٍ أراد الله أن يقضيه سُبحانه وتعالى!

ركبتُ المصعد وضغطتُ الزر للصعود، وما إن بدأ المصعد بالتحرك قليلاً للأعلى حتى انقطعت الكهرباء؛ فتوقف وانطفأت الأنوار، وساد الظلام والسكون في هذا الصندوق الحديدي. حاولتُ مِراراً الضغط على الأزرار، ولكن دون جدوى، لا أستطيع الصعود، ولا أستطيع النزول، ولا أستطيع الخروج من المصعد! ومن الأمور العجيبة أنه لم يكن معي -على غير العادة- هاتفي المحمول، ولا توجد أية وسيلة اتصالٍ أو تواصلٍ مع الآخرين، ولا يوجد أحدٌ في المنزل سواي. ‏ جلستُ داخل المصعد أنتظر أن تعود الكهرباء، وأنا أُقدِّر أن الانقطاع لن يطول، قد يعود بعد دقائق قليلةٌ.. لكن مرَّت نصف ساعةٍ، ثم ساعةٌ، وامتد الوقت إلى عدة ساعاتٍ، وأنا محبوسٌ في هذا الصندوق! في ذلك الظرف تملكني شعورٌ يجمع بين الخوف والقلق، ثم بدأتُ في مُحاسبة الذات؛ جلستُ أُفكِّر في النِعم التي أعيشها: قصرٌ، أموالٌ، أبناءٌ، راحةٌ، حياةٌ هانئةٌ مُستقرةٌ.. لكنني الآن، عاجزٌ عن أن أصل إلى هاتفي الذي لا يبعد عني سوى أربعة أمتارٍ، ولا أستطيع الوصول إلى أي شخصٍ، ولا إلى أي شيءٍ حولي، وأنا في قلب مدينة «الرياض»، محاطٌ بالناس، لكن لا أحد يراني، لا أحد يسمعني وإن صِحتُ بأعلى صوتي، ولا أحد يعلم حتى بمكاني! كم هو الإنسان ضعيفٌ جداً، وإن ادّعى القوة، واغتر بالنفوذ والسُلطة، وطغى بما يملك من المال والمكانة!

من بعيدٍ وصلني صوت المؤذن يؤذن لصلاة المغرب، فتيمَّمتُ وصليَّتُ على بلاط المصعد، وجلستُ أُسبِّح وأستغفر الله، لم يكن يهمني وقتها أني لم أُفطر؛ فقد كان همي أكبر من ذلك. ثم أتى وقت صلاة العِشاء فتيممتُ مرةً أُخرى وصليتُ. بعد صلاة الفرض والتسبيح وصلاة السُنة، استحضرتُ قصة الثلاثة الذين حُبِسوا في الغار، ودعوا الله بأفضل أعمالهم الصالحة؛ فقلتُ: "يا ربِ، إنْ كنتَ قد وفقتني لشيءٍ من الخير والعمل الصالح وقبلته، فارحمني، وفرِّج عني ما أنا فيه كما فرّجتَ عنهم"، وبقيتُ على هذا الحال؛ أُسبِّح وأدعو الله وأستغفر، حتى عاد التيار الكهربائي، ففرحتُ فرحةً غامرةً، لكنها -كمعظم لحظات الفرح- لم تستمر طويلاً؛ إذ لم يتحرك المصعد، ويبدو أنه يحتاج إلى إعادة برمجة؛ فقد ضغطتُ على الأزرار مِراراً دون جدوى، دقائق مرَّت بين الأمل واليأس انتهت بأن انقطع التيار الكهربائي مرةً أخرى!

شعرتُ في هذه الساعات القلقة بالضعف والعجز التام؛ فلا أنا أفطرتُ، ولا أكلتُ ولا شربتُ، وأنا مريضٌ بالسُكري، وتساءلتُ: "كم نحن مُقصِّرون في حق الله؟ وكم نحن غافلون عن الكثير من نِعمه السابغة علينا؟ ولكن مع الأسف.. لا نشعر بوجودها وقيمتها إلا إذا فقدناها!".

فوضتُ أمري إلى الله، وتوكلتُ عليه، واستسلمتُ لقضائه وقدره، الذي دائماً يكون خيراً برحمته، وقُلتُ في نفسي: "عسى أن تكون خاتمتي شهادةً، إن شاء الله تعالى"، ثم تذكرتُ قصة سيدنا يونس عليه السلام حين التقمه الحوت في ظُلمات البحر، ودعاءه حين أناب إلى الله واستغفره؛ فأنجاه سُبحانه وتعالى مما هو فيه، إنه (دُعاء ذي النون): ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، أخذتُ أُردد هذا الدُعاء، حتى استجاب الله لدعائي؛ فبعد نحو ربع ساعةٍ عاد التيار الكهربائي من جديدٍ؛ فسارعتُ للضغط على الزر، فبدأ المصعد بحمد الله يتحرك، ثوانٍ قليلةٌ ووصلتُ الطابق العُلوي وانفتح الباب، وخرجتُ منه فَرِحاً على عجلٍ؛ حيث شعرتُ وأنا أخرج كأنني خرجتُ من القبر! وأني قد عُدتُ بفضل الله إلى الحياة من جديد! خرجتُ من المصعد وأنا في حالٍ لا يوصف من الضيق والحزن، والوجه الشاحب، والملابس المبتلة من العرق.. وواللهِ لو قيل لي حينها: "هل تُعطينا قصرك وكل أموالك، مُقابل أن تخرج من هذا المصعد -الذي كان بمثابة القبر-؟"، لقلتُ: "موافقٌ، خذوها كلها وأخرجوني للحياة!

ختم الرجل قصته مُعتبراً ومُذكِّراً قائلاً: "في لحظةٍ واحدةٍ، تغيَّرت الدنيا في عينيّ، وانقلبت عكس الاتجاه! كنتُ أعيش في النِعم، فإذا بها تسجنني، وكنتُ أملك كل شيءٍ، وفجأةً لم أعد أملك شيئاً، حينها أيقنتُ أن الفرج لا يكون بقوةٍ، ولا بمالٍ، ولا بمنصبٍ، بل هو بيد الله وحده.. الذي أعطانا -بفضله- الكثير من النِعم: العُمر، الوقت، المال، الصحة والعافية، الأبناء، وغير ذلك. أدركتُ أن الإنسان، مهما بلغ من النِعم الكثيرة، فإنه يبقى ضعيفاً جداً، ومُحتاجاً إلى ربّه ومولاه في كل لحظةٍ ليرعاه ويحفظه ويتولاه.. وأنه ينبغي علينا -مع تعودنا على ما نعيش فيه من نِعمٍ- ألا أن نغفل عن ذِكر الله وشكره، وعلينا أن نُردد باستمرار (دُعاء ذي النون) حين قال: ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ خاصةً إذا كُنا نمر بظروفٍ صعبةٍ وأوقاتٍ عصيبةٍ، ندعو ونحن موقنون بالإجابة، إنه دُعاء فك الكرب وإزالة الهم والغم والتغلب على الضيق والضجر، ندعو بثقةٍ من غير يأسٍ ولا قنوط.

 

أحبتي في الله.. ومن المواقف التي كتبها بعض الأشخاص في أحد مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة عن (دُعاء ذي النون)؛ كتب أحدهم: عند زلزال «تركيا» الذي وقع بتاريخ السادس من شباط عام 2023م، بقيتُ تحت الأنقاض مع عائلتي لمدة أربعة أيامٍ، وكنتُ أُردد هذا الدُعاء كثيراً، ومع هذا الدُعاء، والحمد لله رب العالمين، نجَّانا الله؛ فشكراً له.

وهذا آخر قال: والذي نفسي بيده، يا إخوتي، لقد دعوتُ بهذا الدُعاء وأنا في الحجز، وسط شدائده، وقد مُنِعتُ حتى من دخول دورة المياه –أكرمكم الله- وكانت مُشكلتي التي أُوقفت بسببها تُنذر بحكمٍ قد يصل إلى السجن لأكثر من سنتين، فانقطع أملي من كثرة التحقيقات والضرب والعذاب. حينها تذكرتُ هذا الدُعاء، فدعوتُ به، واللهِ لقد تغيّرت مُعاملة السجّان فجأةً، فأصبح ألطف من الأخ، واعتذر مني، وفرّّج الله عني؛ فأفرِج عني وعدتُ إلى بيتي وعائلتي، الحمد لله، الحيّ السميع، الذي يسمع دُعاء من دعاه.

 

لا يوجد إنسانٌ واحدٌ على ظهر هذه البسيطة إلا ويعتريه الهم والغم والكرب والخوف والحُزن والقلق، في بعض أيام حياته، حتى أنه قد يصل إلى حالة فقدان الأمل، فإذا ذَكَرَ الله ودعاه بإخلاصٍ ويقينٍ، استجاب له وخفَّف عنه وأزال همَّه وغمَّه وفك كَربه؛ يقول تعالى: ﴿إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾.

 

وعن (دُعاء ذي النون) ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ قال أهل العلم إن هذا الدُعاء تضمن من كمال التوحيد والعبودية: إثبات كمال الألوهية واختصاصها باللَّه عزَّ وجلَّ بقول ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾. وإثبات كمال التنزيه للَّه تعالى عن كل نقصٍ وعيبٍ وسوءٍ، لكماله تعالى من كل الوجوه بقول ﴿سُبْحَانَكَ﴾. والاعتراف بالذنب والخطأ المُتضمن لطلب المغفرة، المُستلزم لكمال العبادة من الخضوع، والذُل للَّه تعالى بقول ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

وكأنّ لسان حال الداعي يقول: يا ربّ أنت الواحد المُتفرد بالألوهية، المُنزّه عن كل نقصٍ وعيبٍ، إن ما وقع لي ليس بظلمٍ منك، بل إني أنا قد ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي. ذَكَر ظلمه لنفسه، ولم يطلب من اللَّه بصيغة الطلب الصريح أن يغفر له ذنبه؛ فكأنه يقول: إن تُعذبني فبعدلك، وإن تغفر لي فبرحمتك.

وتأتي البُشرى في قوله تعالى في الآية التالية: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾؛ فـ"الفاء" تُفيد التعقيب دون مُهلةٍ، و"الألف، والسين، والتاء" تُفيد المبالغة بالإجابة الواسعة العظيمة. ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ فكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر حين دعانا، كذلك نُنجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا، ودَعَوْنا. وهذه البشارة، والوعد العظيم الذي لا يتخلف من اللَّه ربّ العالمين لكل مؤمنٍ ومؤمنةٍ إذا وقع في الشدائد والهموم، فدعا ربه القدير بهذه الدعوة العظيمة بصدقٍ وإخلاصٍ أن يُنجيه ويُفرِّج عنه.

 

وجاءت هذه البشارة كذلك عن سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: [دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ].

وفي روايةٍ أُخرى عنه صلى الله عليه وسلم قال: [أَلاَ أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاَءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فَفَرَّجَ عَنْهُ؟]، فقَالُوا: بَلَى، قَالَ: [دُعَاءُ ذِي النُّونِ ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾].

 

قال العلماء إن (دُعاء ذي النون) فيه من جوامع الأدب، والكلم الطيب فوائد كثيرةٌ؛ منها: أن الدُعاء كما يكون طلباً صريحاً يكون كذلك تعريضاً مُتضمِناً للطلب. وأن هذه الصيغة جمعت آداب الدُعاء، وأسباب الإجابة، فيحسن بالعبد أن يُكثر منها في دُعائه حال الكرب، والغم، والهم، والشدائد. وأن هذه الدعوة فيها كمال التوحيد، والإيمان باللَّه تعالى. وأن فيها دلالةً على أن التسبيح سببٌ للإنجاء من الكرب والهمّ. وأن التوحيد والإيمان والإقرار بالذنوب من أكبر أسباب النجاة من مهالك الدُنيا والآخرة. وأن الذنوب من أعظم الأسباب الموجبة لزوال النِعم، وحصول النِقم. وأنه ينبغي أن يدعو العبد بحسن ظنٍّ عظيمٍ في حقّ ربه تعالى حال دُعائه؛ فإن اللَّه تعالى يُعامله على حسب ظنّه به. وأن ما يقع على العبد من المصائب فإن سببها تقصيره في حق ربه تعالى. وأن كل الخلق، مهما كانت رُتبهم ومنزلتهم، مُفتقرون إلى اللَّه تعالى فعليهم أن يفرّوا إليه وحده -دون غيره- بالدُعاء والرجاء والرغبة والرهبة.

 

يقول الشاعر:

يا مُجيباً (دُعاء ذي النون)

في قرارِ البحار

استجبْ دعوةَ المحزون

قد دعا باضطرار

لك أمرٌ بالكافِ والنون

ولك الاقتدار

 

أحبتي.. من المُريح للنفس أن تكون الآية التالية للآية التي ورد فيها (دُعاء ذي النون) هي بشارةٌ تحمل الأمل لكل مهمومٍ ومكروبٍ وصاحب حاجةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، إنه وعدٌ ربانيٌ لكل مَن قال هذا الدُعاء؛ والله لا يُخلف الوعد؛ يقول تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾. لكن علينا أن ننتبه إلى أن الآية الكريمة تُشير إلى أن هذه البُشرى بالنجاة من الغم هي للمؤمنين؛ فلندعو الله بإخلاصٍ وإلحاحٍ وثقةٍ وحُسن ظنٍ ويقينٍ كاملٍ أن يجعلنا من المؤمنين، وأن يستجيب دعاءنا. قيل: "مَن وُفِّق للدعاء أُعطيَ الإجابة"؛ اللهم وفقنا للدعاء بـ(دُعاء ذي النون)، واستجِب لنا كما وعدتنا بقولك: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.

https://bit.ly/4g6Gqh7

الجمعة، 29 أغسطس 2025

الورع

 

خاطرة الجمعة /514

الجمعة 29 أغسطس 2025م

(الورع)

 

كتب يقول: كُنا ثلاثة أصدقاء، قريبين جداً من بعضنا، وفي يوم زفاف أحدنا فوجئتُ بأن صديقي الآخر يعتذر عن حضور الحفل، الأمر الغريب أنه كان يشعر بأنه لا ينبغي له الذهاب إلى الحفل. طوال اليوم كان يقول لي: "لا أُريد أن أذهب، أشعر أنني إن ذهبت، سيحدث شيءٌ يجعلني أندم بقية حياتي"، وأنا كنتُ مَن يحاول إقناعه بالذهاب معي إلى الحفل؛ حتى أنني قضيتُ اليوم بأكمله في محاولة إقناعه بأن يأتي معي إلى الحفل حتى لا يغضب منا صديقنا الثالث العريس، ونكون إلى جانبه. بعد جدالٍ طويلٍ، قلتُ له: "سنذهب أنا وأنت، وإذا حدث أي أمرٍ يُزعجك ولو بنسبةٍ بسيطةٍ، سنُغادر فورًا"، ومع ذلك، لم يكن مُقتنعاً، وعندما نفد صبري قلتُ له: "إذا لم تأتِ معي، سأغضب منك، لأنني لا أُريد الذهاب وحدي، وهذا حفل زفاف أعز أصدقائنا، لا يصح أن تتغيب عنه"، وفعلاً، رافقني، فقط كي لا يُغضبني.

‏ ركب معي في سيارتي، ونحن في الطريق طلب أن نستمع إلى سورة يس؛ لأنها تبعث في نفسه الطُمأنينة، كنتُ أنظر إليه، فأجده متوتراً ووجهه شاحب، سألته: "لماذا أنت قلِق؟"؛ فأجابني بجملةٍ لن أنساها ما حييتُ: "أليس من المُمكن أن يكون هذا الفرح آخر حدثٍ أحضره، وتنتهي أعمالي في الدُنيا وأنا أستمع إلى الموسيقى والأغاني؟ أليس من المُمكن أن تكون نهايتي هناك؟"، انقبض قلبي عندما سمعتُ كلامه، وحاولتُ أن أُطمئنه؛ فقلتُ له: "لن نتأخر، سنبارك للعريس ونُغادر، وأنا أعتذر لك لأنني أحضرتك معي رغماً عنك". لكن، وبصدقٍ، في تلك اللحظة غضبتُ من نفسي بشدةٍ، ولم أعد أعرف ما عليّ فعله، شعرتُ بالذنب لأنني أجبرته على المجيء. فجأةً، ونحن في الطريق، سمعنا أذان صلاة العشاء؛ فطلب مني أن نتوقف عند أقرب مسجدٍ لنُصلي، ثم نُكمل طريقنا. وفعلاً، صلينا الفريضة، وبدأنا نُصلي السُنن. انتهيتُ من صلاتي ونظرتُ إليه، فوجدته ساجداً يضحك! استغربتُ، ولا أدري لماذا شعرتُ أنه يتشهد، وللحظةٍ تمنيّتُ أن يكون إحساسي خاطئاً، طال سجوده، وكنتُ أحدّق فيه ودموعي تملأ عينيّ، ومن أعماق قلبي كنتُ أتمنى أن ينهض من سجوده، فإذا به ينهض، وقبل أن أفرح بنهوضه، وقع وهو يقول الشهادة، ولا زال يضحك! احتضنته، وكل خليةٍ في جسدي كانت تُريد أن تقول له: "لا، لقد وعدتني أن نظل أصدقاء حتى آخر نفس"، قال لي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "لكل أجلٍ كتابٌ، وقد انتهى عمري يا صديقي، لا تنساني، ولا تستهِن بالذنوب، حتى نكون سوياً في الجنة"، قالها، ثم عاد يُردد الشهادة، وفجأةً ضحك وقال: "الحمد لله"، وكان ذلك آخر نفسٍ له، وآخر كلمةٍ نطق بها.

مات صديقي بسكتةٍ قلبيةٍ مفاجئةٍ، ونحن في طريقنا لحضور حفل زفافٍ، مات بين يديّ، داخل المسجد، ولو تأخرت تلك اللحظات بضع دقائق حتى نصل إلى حفل الزفاف، لما سامحتُ نفسي مُطلقاً على أنني كنتُ سبباً في موته في ذلك المكان؛ فلا أنا، ولا صديقنا العريس، ولا الحفل بكل من فيه، كانوا لينفعوه بشيء.

لم يكن صديقي -رحمه الله- يُحب الاختلاط، ولا حفلات الزفاف التي تكثر فيها الذنوب، ولا الأغاني التي تُشغّل فيها، ومنذ فترةٍ، كان يُحاول التوقف تماماً عن الاستماع إلى الأغاني، وكان في غاية السعادة لأنه استطاع تحقيق ذلك، وكان يُجاهد نفسه والدُنيا والشيطان، وبحكم أننا كنا نعيش معاً، فقد كنتُ شاهداً على ذلك. كان يدعو كثيراً أن تكون آخر أعماله سجدةٌ، وكان يقول لي إنه يتمنى أن يموت وهو ساجدٌ، وقد تحققت أمنيته، واستجاب الله سُبحانه وتعالى دعاءه، ومات في بيت الله، وهو ساجد.

مرت فترةٌ طويلةٌ على وفاته، ولا زلتُ أعيش على الجملة التي قالها لي: "لا تستهِن بالذنوب، حتى نكون سوياً في الجنة"، تركتُ كل ما هو مُحرّمٌ، أولاً؛ من أجل الله عزَّ وجلَّ، وثانياً؛ لنلتقي مُجدداً في الجنة أنا وصديق العُمر. توقفتُ عن الذهاب إلى الأفراح، وتوقفتُ عن الاستماع إلى الأغاني، وأقلعتُ عن أي شيءٍ قد يُبعدني ولو خطوة واحدة عن الجنة، وقبل أن أُقدم على أي أمرٍ مُحرَّمٍ، يُزين ليّ الشيطان أنه أمرٌ بسيطٌ أُذكِّر نفسي بجملة صديقي المرحوم بإذن الله: "ما أدراك؟ قد يكون هذا نهاية أعمالي في الدُنيا".

وكم كان الله كريماً معي، فقد شعرتُ بحلاوة الإيمان، وطُمأنينة القلب، وسكون الجوارح، شعرتُ بسعادةٍ لا توصف ولا تُقارن بالسعادة الزائفة التي كانت تعقب كل عملٍ سيءٍ أقوم به. لم يعد الإحساس بالندم يتملكني، بل صرتُ أعيش حالةً من الرضا لم أكن أتصور أن أعيشها، فقط لتركي المعاصي، وحرصي على فعل كل ما يُرضي الله. اللهم ثبتني على الإيمان وأمتني عليه.

 

أحبتي في الله.. إنه (الورع) عندما يعيشه المسلم بصدقٍ وإخلاص. عرَّفه العلماء بأنه "التَّقْوَى، والتَّحَرُّج، والكَفُّ عن المحارِم"، وقالوا "هو اجتناب الشُبهات؛ خوفاً من الوقوع في المُحرمات"، وأضاف بعضهم أنه: "ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة". وقسَّموا (الورع) إلى نوعين: ورعٌ واجبٌ: وهو اتقاء ما يكون سبباً للذمِّ والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المُحرم. وورعٌ مندوبٌ: وهو الوقوف عن الشُبهات. وقالوا إن (الورع) على وجهين: ورعٌ في الظاهر بأن لا تتحرك إلا لله، وورعٌ الباطن وهو أن لا تُدخل قلبك سوى الله.

 

يقول تعالى في وصف المُخلصين في ورعهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.

وعن هذه الآية سألت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ؟ قالَ عليه الصلاة والسلام: [لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾].

يقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القُدسي: {وعِزَّتِي لا أجمعُ على عَبدي خَوفيْنِ وأَمنيْنِ، إذا خافَني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ، وإذا أمِنَني في الدُّنيا أَخَفْتُه في الآخِرةِ}.

وقيل في هذا المعنى: "إن المؤمن جمع إحساناً وشفقةً، وإن المنافق جمع إساءةً وأمناً".

وعن (الورع) قال صلى الله عليه وسلم: [ومِلاكُ الدِّينِ الورَعُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أعْبَدَ الناسِ].

 

ويُشير أهل العلم إلى أن (الورع) لابد وأن يشمل الجوارح كلها، فلا يجب أن يكون في جانبٍ دون آخر؛ فورع العين غض البصر، وورع اللسان التعفف عن البذاءة وعن آفات اللسان، وورع اليد الكف عن البطش والإيذاء والتعدي، وهكذا مع سائر الجوارح. وأفضل (الورع) هو أن يتورع الإنسان عن شيءٍ ينقصه أو شيءٍ تشتهيه النفس، مخافة الوقوع فيما يُغضب الله عزَّ وجلَّ. وإن أفضل الورع هو ورع الخلوات؛ فالمؤمن الورع يُوقن بأن الله تعالى معه وناظره، ومُطلعٌ عليه في كل مكانٍ وعلى أية حال.

وحذَّر العُلماء من (الورع) الكاذب؛ قال أحدهم: "سيأتي أقوامٌ يخشعون رياءً وسُمعةً، وهُم كالذئاب الضواري، غايتهم الدنيا، وجمع الدراهم من الحلال والحرام"، واستشهد بما قام به الخليفة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى رجلاً في السوق يحمل تمرةً ويُنادي عليها صارخاً: "لقد وجدتُ تمرةً فمن صاحبها؟"، فلما رأى عُمر أن الرجل يفعل ذلك تظاهراً بالورع، علاه بالدُرة وقال له: "دعك من هذا الورع الكاذب".

 

قيل عن (الورع): هو أوَّلُ الزُّهْدِ. وقيل: هو اجتنابُ كُلِّ رِيبةٍ، وتَركُ كُلِّ شُبهةٍ. وقيل: هو الخروجُ من كُلِّ شُبهةٍ، ومحاسَبةُ النَّفسِ في كُلِّ طَرفةِ عَينٍ. وقيل: ما رأيتُ أسهَلَ من الوَرَعِ؛ ما حاك في نفسِك فاترُكْه! وقيل: مثقالُ ذَرَّةٍ من الوَرَعِ خيرٌ من ألفِ مِثقالٍ من الصَّومِ والصَّلاةِ. وقيل: جُلَساءُ اللهِ تعالى غداً أهلُ الوَرَعِ والزُّهْدِ. وقيل: كُنَّا نَدَعُ سَبعينَ بابًا من الحلالِ مخافةَ أن نقَعَ في بابٍ من الحرامِ. وقيل: هو لُزومُ الأعمالِ الجميلةِ التي فيها كمالُ النَّفسِ. وقيل: عليك بالوَرَعِ يُخَفِّفِ اللهُ حِسابَك، ودَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك، وادفَعِ الشَّكَّ باليقينِ يسلَمْ لك دينُك.

 

وقال الشاعر عن (الورع):

تَوَرَعْ وَدَعْ ما قَدْ يُريبُكَ كُلَهُ

جَميعاً إلَى ما لا يُريبُكَ تَسْلَمْ

وقال آخر:

جَليلُ العَطايا في دَقيقِ التَوَرُعِ

فَدَقِّقْ تَنَلْ عالي المَقامِ المُرَفَّعِ

وَتَسْلَمْ مِنَ المَحْظورِ في كُلِ حالةٍ

وَتَغْنَمْ مِنَ الخَيْراتِ في كُلِ مَوْضِعِ

وَتَحْمِدْ جَميلَ السَعْي بِالفَوْزِ في غَدٍ

فَسارِعْ إلَيهِ اليَوْمَ مَعَ كُلِ مُسْرِعِ

 

أحبتي.. لخَّص أحد العارفين (الورع) بقوله: إنه يجلب محبة الله تعالى، ويُرضي نبيه صلى الله عليه وسلم، وبه يتم البُعد عن الشُبهات، والاحتراز من المعاصي، وهو سِمةٌ من سِمات الأتقياء الأنقياء، لا يُقاس بشكلٍ ولا بهيئةٍ، ولا يُقاس بطنطنة اللسان ولا بفصاحة البيان، بل هو حالةٌ من تصالح الإنسان مع الله سُبحانه وتعالى؛ فلا يفعل فعلاً ولا ينطق بكلمةٍ إلا راجياً رضا الله، طامعاً في ثوابه، خائفاً من غضبه وعقابه.

اللهم اجعلنا من المؤمنين المُتقين الورعين، وثبتنا على الإيمان، وحببِّه إلى قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفُسوق والعصيان.

https://bit.ly/3VlNA7I