الجمعة، 20 ديسمبر 2024

كرم الله

 

خاطرة الجمعة /478

الجمعة 20 ديسمبر 2024م

(كرم الله)

 

تقول امرأةٌ: تزوجتُ من أحد أقاربي، وكان جميع أفراد عائلتنا أغنياء حيث يملكون الشركات والمحلات التجارية والمنازل الفاخرة والكبيرة، أما زوجي فقد كانت أسرته فقيرةً جداً؛ لا يمتلكون شيئاً من ذلك، لكنه كان تقياً يخاف الله ويحرص على أداء الصلاة على وقتها. كان زوجي يعمل حارس أمنٍ لدى شركة أحد أقاربه، براتبٍ بسيطٍ جداً بالكاد يكفينا لمصاريف أسبوعين، والأمر المُحزن في ذلك أن هؤلاء الأقارب لا يتعاطفون مع زوجي، ولا يهتمون به، ولا يعتبرونه من العائلة؛ فكانوا يعاملونه كعامل حراسةٍ لا أقل ولا أكثر. وذات مرةٍ مرض زوجي ولم يستطع الذهاب إلى مقر عمله بالشركة، وغاب ثلاثة أيامٍ فقاموا بالخصم من راتبه، ولم يعترض أو يطلب منهم المساعدة لأنه من العائلة، بل تقبل الأمر وفوَّض أمره لله، وتابع العمل وكأن شيئاً لم يحدث. كنتُ أحزن كثيراً على ما يحدث مع زوجي من ذلٍ وسخريةٍ، وكنتُ أتمنى أن يترك العمل عندهم ويبحث عن عملٍ غيره في أي مكانٍ آخر. استمر زوجي في العمل معهم لمدة خمس سنواتٍ، منذ أن تزوجتُ به.

تقول المرأة: قبل عدة شهورٍ شعرتُ بالتعب والإرهاق واكتشفتُ أنني حاملٌ؛ فشعرتُ بالسعادة، فقد كنتُ أنتظر هذا الخبر السعيد منذ سنين طويلةٍ، أخبرتُ زوجي بأنني حاملٌ؛ فطار عقله من شدة الفرح، وفجأةً انقلبت ملامحه وأصبح عابساً، فقلتُ له: "لماذا تغيرت ملامحك يا عزيزي"، أجاب: "سيأتينا طفلٌ عن قريبٍ، وأنا لا أملك المال لشراء ما يلزمه"، فقلتُ له: "لماذا تحمل هَم طفلنا ورزقه سيأتي معه إن شاء الله؛ فمن يزرق الطير في السماء ليس عاجزاً عن أن يرزقنا في الأرض"، عادت إليه السعادة من جديدٍ، وشعر بالراحة، لقد كان المسكين يُفكر في رزق طفله قبل قدومه للحياة. وبعد شهورٍ حان موعد ولادتي وبدأتُ أتألم، وقام زوجي بإحضار مُمرضةٍ لتكون قابلةً لي في المنزل، وبعد ساعةٍ ونصف من المحاولات اتضح أن هناك مشكلةً في ولادتي، وقالت المُمرضة أنني لن ألد ولادةً طبيعيةً، وطلبت الذهاب إلى المُستشفى، شعر زوجي بالقلق؛ فلم يكن عندنا المال الكافي، ذهب يبحث عمن يُساعده ثم عاد فارغ اليدين، لم يجد أحداً لمُساعدته، فقلتُ له: "لا تُحمِّل نفسك هماً ولا تُتعب نفسك أكثر، سوف أتحمل وأدعو الله أن يُساعدني"، وكنتُ أكتم صوتي كي لا يسمع ويقلق أكثر، ولكن كان الألم شديداً؛ فلم يستطع زوجي أن يبقى ويُشاهد فخرج من المنزل يركض، وكنتُ أخشى أن يذهب إلى حيث يعمل بشركة أقاربه ويطلب منهم المساعدة، لكن هذا بالضبط ما حدث؛ ذهب يركض إليهم، وبعد قليلٍ عاد والدموع تنسكب من عينيه، فعرفتُ أنهم أغلقوا أبوابهم بوجهه ورفضوا طلبه، وحينها تمنيتُ من الله أن يقبض روحي ولا أرى دموع القهر والذُل في عيني زوجي. وما هي إلا لحظاتٌ حتى جاء الفرج، واستقرت حالتي، ووضعتُ بشكلٍ طبيعيٍ، وأنجبتُ طفلتي بسلامٍ، وكانت المُمرضة تنتظر المال فقال لها زوجي: "أُقسم بالله أن ثمن تعبك سيبقى دَيْناً في عُنقي، وسوف أُعطيك مالك فور توفره"، وافقت المُمرضة وتعاطفت معنا وغادرت. ثم طلبتُ من زوجي أن يقوم بتمزيق بعض الملابس وقمتُ بلفها حول الطفلة؛ لأننا لم نقم بشراء أي قطعة ملابسٍ، ثم نظرتُ إليه وسألته: "أين ذهبتَ في آخر مرةٍ؟ ولماذا عدتَ وعيناك مليئتان بالدموع؟"، أجاب: "لقد ذهبتُ إلى أقاربي بالشركة، وعندما وصلتُ وجدتُ أخاهم الصغير فطلبتُ منه أن يُعطيني المال كقرضٍ يخصمه من راتبي، فقال لي: "أنا لست مسؤولاً في شؤون قروض الموظفين، وليس لي علاقةٌ بالصندوق المالي؛ إذا كنتَ محتاجاً للمال اذهب إلى مدير الصندوق"، فذهبتُ إلى مدير الصندوق وطلبتُ منه أن يُعطيني المال كقرضٍ لكنه اعتذر وقال: "لا أستطيع أن أصرف لك شيئاً دون سند الموافقة من صاحب الشركة"؛ فذهبتُ أبحث عن صاحب الشركة فأخبروني أنه خرج منذ دقيقةٍ، ركضتُ إلى الخارج رأيته يقود سيارته، فناديته بأعلى صوتي "انتظر.. انتظر" لكنه لم يتوقف، عدتُ إلى الداخل، وكنتُ أتوسل إليهم لكي يُساعدوني ويُعطوني المال، لكن لا حياة لمن تُنادي، وحينها شعرتُ بالصدمة ثم حملتُ جسدي المنهك ونفسي المكسورة وعدتُ إلى المنزل برفقة دموعي"، فقلتُ له: "لا بأس يا عزيزي لقد تسهلت ولادتي والحمدالله ووضعتُ بالسلامة".

في اليوم التالي صلى زوجي صلاة استخارةٍ، ثم اتخذ قراراً بعدم الذهاب إلى العمل بالشركة، وتوكل على الله وذهب يبحث عن عملٍ في الأسواق، وبعد أربع ساعاتٍ عاد وهو يحمل معه الكثير من أصناف الطعام، وأحضر الكثير من مُستلزمات طفلتنا من ملابس وجوارب وغير ذلك، وكان سعيداً جداً، وكأن دعواته في ليلة القدر قد استجاب الله لها! عندما رأيتُ السعادة تغمر وجهه بكيتُ من شدة الفرح؛ لأني لم أرَ تلك السعادة من قبل. وعندما انتهينا من تناول الطعام سألته: "كيف كان نهارك؟ هل وجدتَ عملاً؟ ومن أين لك المال لشراء هذا الطعام وهذه الملابس؟"، فقال: "سأُخبرك بكل شيءٍ من البداية؛ بحثتُ طويلاً ولم أجد أي عملٍ في أي مكانٍ، ثم توجهتُ إلى سوق الخضار وهناك وجدتُ أحد أصدقائي القُدامى يعمل في تجارة الخضار فشرحتُ له سوء ظروفي وأخبرته أنني تركتُ عملي السابق، وأخبرته أيضاً عما حدث بيني وبين أقاربي وعن رفضهم لمُساعدتي عندما كنتُ في أمَّس الحاجة للمساعدة؛ شعر بالغضب وقال لي: "يا لهم من قُساة القلوب، عديمي الرحمة، إذا كنتَ أتيتَ إليّ كنتُ فديتك بروحي وليس بالمال فحسب"، ثم ناولني قلماً ودفتراً وطلب مني أن أقوم بتسجيل الكميات التي يتم شحنها للعملاء، أُسجل اسم العميل ونوع الخضار وكميته؛ فبدأتُ في العمل فوراً، وعندما أنهيتُ العمل طلب مني أن أركب معه سيارته، ثم أخذني إلى أحد المتاجر وقام بشراء جميع الملابس والمُستلزمات اللازمة لطفلتنا، وقال لي: "هذه هديةٌ لطفلتك"، ثم قام بتوصيلي إلى المنزل ودسَّ في جيبي مبلغاً من المال، وقال لي: "أراك غداً في الصباح".

لقد كانت بدايةً سعيدةً ومُبشرةً بالخير، وفي اليوم التالي ذهب زوجي إلى العمل باكراً وعاد بالخيرات معه، ثم تناولنا طعام الغداء وأخرج مبلغاً وقال لي: "هذا سنُعطيه للمُمرضة"، وكان المبلغ أكثر مما تأخذه في العادة، أخذتُ المال وذهبتُ إلى منزلها، ناولتها المال، لكنها فاجأتني عندما أقسمت أنها لن تأخذ المال، فقلتُ لها إن هذا المال من حقها؛ فهو ثمن تعبها، قالت وهي تبكي: "والله، أنني عندما خرجتُ من منزلكم في تلك الليلة قلتُ يا رب لقد تركتُ ثمن شقائي وتعبي لوجهك الكريم، لقد كنتُ أُخفي دموعي عندما رأيتُ حالكم وسوء ظروفكم، ومن أجل ذلك قررتُ أن أترك ما أستحقه من مالٍ لوجه الله، وعندما عدتُ إلى منزلي إذا بهاتفي يرن، وكان رقم المتصل غريباً، أجبتُ -وكانت المفاجأة- لقد كان المُتصل من مكتب أكبر المُستشفيات في المدينة، كنتُ قبل أربع سنواتٍ قدمتُ طلباً للعمل لديهم فطلبوا مني وقتها أن أترك لهم بياناتي ومعلوماتي الشخصية ورقم هاتفي وقالوا لي: سنتصل بكِ، انتظرتُ طويلاً دون جدوى فلم يأتني أي اتصالٍ منهم حتى فقدتُ الأمل، وحينها قررتُ أن أعمل مُمرضةً في عيادةٍ صغيرةٍ حتى فاجأوني بالاتصال الهاتفي وردهم بالموافقة على طلبي، وأصبحتُ الآن مسئولة ولادةٍ في المُستشفى". تقول المرأة: "لقد اندهشتُ من كرم الله وعطائه؛ لقد تركت المُمرضة ثمن عملها لوجه الله فأكرمها الله بتحقيق ما كانت تتمناه منذ سنواتٍ، كم أنتَ كريمٌ يا الله". تقول المرأة: "عدتُ إلى المنزل وأخبرتُ زوجي بما حدث، ولكن تفاجأت بزوجي يطلب مني أن أقوم بتجهيز أغراضنا لأننا سوف ننتقل للعيش في المدينة! فسألته: "لماذا؟ ما السبب؟"، أجاب قائلاً: "لقد طلب مني صديقي أن أنتقل إلى المدينة مع عائلتي وهناك سيقوم بإرسال الخضروات، ومن ثمَّ أقوم أنا بتوزيعها على العملاء"، فقمتُ بالتجهيزات اللازمة، وفي اليوم التالي انتقلنا إلى المدينة واستأجرنا شقةً كبيرةً، ومن هنا بدأت الحياة تبتسم لنا، وأصبحت أوضاعنا تزدهر كل يومٍ شيئاً فشيئاً، وبعد مُرور ثلاثة أعوامٍ أصبح زوجي رجلاً غنياً ويملك تجارةً خاصةً به وتغيرت حالنا بفضل الله سُبحانه وتعالى وبكرمه، ثم بفضل صبرنا على أوضاعنا في الماضي، وتوكلنا على الله وحُسن ظننا به.

 

أحبتي في الله.. ما أرحم الله سُبحانه وتعالى وما أكرمه، وما أعظم تدبيره؛ اطلع على أحوال هذه المرأة الصالحة الصابرة فعوَّض صبرها خيراً؛ فولدت ولادةً طبيعيةً وأنجبت طفلةً جميلةً، إنه (كرم الله) ولطفه بعباده الصالحين. وعَلِم ما زوجها عليه من إيمانٍ وتقوى فرزقه من حيث لا يحتسب وظيفةً مناسبةً ودخلاً متزايداً؛ وهذا من (كرم الله) وفضله. وقدَّر الله لصاحب زوجها خيراً؛ فرَزقه بشخصٍ أمينٍ يعمل لديه، شخصٍ يثق فيه وفي أمانته، أليس هذا (كرم الله) يُصيب به من يشاء من عباده؟ وهذه المُمرضة التي تنازلت عن أتعابها لوجه الله عزَّ وجلَّ لما رأت ظروف تلك المرأة وزوجها، فأبدلها ربها بدلاً من عملها المتواضع عملاً أفضل منه كانت تسعى إليه، إنه (كرم الله) الذي لا يضيع عنده العمل الصالح.

 

في أحد مواقع التواصل الاجتماعي طلب أحدهم من متابعيه أن يُحدِّثوه عن (كرم الله) معهم؛ ورداً على ذلك كتبت إحداهن: "أكرمني الله بأن جعلني مسلمةً؛ فالحمد لله، وأكرمني أن رزقني الصحة، والعلم، وحفظ كتاب الله، ورضا والدايّ عليّ، وأكرمني بصحبةٍ صالحةٍ. والحمد لله؛ نِعم الله عليّ كثيرةٌ لا تُعد ولا تُحصى".

وكتب أحدهم: "أما أنا فقد أكرمني الله بقلبٍ حنونٍ عطوفٍ، بابٍ من أبواب الجنة؛ إنها أُمي تدعو لي في كل وقتٍ وحينٍ، أنا مطيعٌ لها، تجدني دائماً على ما تحب وتفتقدني فيما لا تحب، سني جاوز الأربعين عاماً قضيتُ مُعظمها في رعاية أُمي؛ كيف لا وهي بنك الحسنات، وأفضل القربات، والسبيل الموصل لرضى رب البريات".

وكتب آخر: "كنّتُ لا أملك من حطام الدنيا شيئاً واليوم يعمل لدي عشرون شخصاً. كنتُ فرداً وأكرمني الله بالزوجة والأولاد".

أما أبلغ الردود فكان الرد التالي: "تُذنب، ثم يضيق صدرك، ثم تندم، ثم يُلهمك الاستغفار، ثم تتوب، ثم يُحوِّل سيئاتك حسناتٍ. هل هناك أعظم من هذا الكرم؟".

 

يقول أهل العلم إن الله عزَّ وجلَّ عرَّف نفسه لعباده باسمه الكريم، فجعل الكرم صفةً من صفاته، فهو من انفرد بالمُلك والغِنى، واختصّ نفسه بالسلطان والعظمة والجاه، وهو الذي يغفر لمن يعصيه، ويستر عباده الذين يطَّلع على أفعالهم، بل ويُمهلهم حتى يتوبوا عنها، وهو أيضاً مَن إذا وعد وعداً أوفى بوعده، ثمّ إنّ مَن لجأ إليه لا يضيع أبداً، ومن توكّل عليه لن يندم، وهو الذي يبسط يديه بالخيرات لعباده، وهو مالك خزائن السماوات والأرض؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾. والله سبحانه دائم التفضّل، والكرم، والإحسان، وخيره متّصلٌ في الدنيا والآخرة، وكلّ ما سواه منقطعٌ، كما أنّه يُسهِّل خيره للناس، ويُقرِّب تناوله إليهم، فلم يجعل بينه وبين عباده حجاباً، بل أخبر بقُربه واستجابته لمن يدعوه منهم؛ فقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾. كما أنّ الله تبارك وتعالى بصفته الكريم هو المُكرِم لعباده، فمن أكرمه الله كان مُكرَماً، ومن أهانه كان مُهاناً بلا شكّ، وهو سبحانه من كرمه لا يُبالي بمن يُعطي، لذلك يُعطي الكافرين والمتقين، وربما يزيد في عطاء الكافرين في الدنيا ليجعل الآخرة للمتقين، كما أنّه يزيد في العطاء للإنسان فوق ما يتمنّى، وقد ثبت ذلك في عطائه للمؤمنين في الجنة، فهو يُعطيهم ما يتمنّون، ويزيدهم أموراً لا يعلمونها حتى، ثمّ إنّه لشدّة كرمه يستحيي أن يردّ عبده خائباً إذا سأله، ومن مظاهر كرمه غفرانه لذنوب عباده، وتبديلها حسناتٍ، وكتابته للحسنات قبل بلوغ العبد لها، وقد جعل الله السيئة حسنةً للإنسان إذا لم يقم بها، فإذا قام بها كانت سيئةً واحدةً، أمّا الحسنات؛ فإنّها تُكتب مضاعفةٌ إذا عملها.

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ومن (كرم الله) سُبحانه أن أنعم علينا نِعماً لا تُعد ولا تُحصى؛ خلقنا وأحسن خلقنا، وجعلنا مُسلمين، ورزقنا وأطعمنا من غير حولٍ منا ولا قوة، أذنبنا ذنوباً كثيرةً وسترنا، هو الهادي الكريم، الرحمن الرحيم، كلما ضاقت علينا الدينا لجأنا إلى بابه فقبلنا ولم يطردنا، هو الرؤوف الودود الذي أسبغ علينا نعمه رغم تقصيرنا.

فليُحاسب كلٌ منا نفسه؛ هل هو من الشاكرين؟ أم من المقصرين في شكر المُنعم ذي الفضل العظيم؟ إنا جميعاً غارقون في (كرم الله) ونعمه، فلنتعاهد على إدامة شكرنا لله؛ فبالشكر تدوم النعم، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.

اللهم أدِم علينا نعمك ظاهرةً وباطنةً، وزدنا منها، واجعلنا ربنا من الشاكرين.

https://bit.ly/40522UE

الجمعة، 13 ديسمبر 2024

عقوق الأب

 

خاطرة الجمعة /477

الجمعة 13 ديسمبر 2024م

(عقوق الأب)

 

كتب شابٌ عراقيٌ لأحد مواقع الفتوى الإسلامية يقول: لا أعلم من أين أبدأ؟ وكيف سأبدأ؛ والدموع تنهمر من عينيّ البائستين؟ لقد رأيتُ الدنيا حقيرةً!! لم تُعطني ‏ولو جزءاً يسيراً مما أردتُ؛ فمنذ ‏ولادتي انفصل والدي عن أُمي، وبدأ ‏حزني العميق الذي لم يتركني إلى ‏الآن، وأنا ابن السابعة عشرة!! كبرتُ بلا أب! إلى أن بلغتُ ‏التاسعة من عمري، بدأ أبي بالسؤال ‏عني، وبدأتُ أنا بزيارته كل ‏شهرين أو ثلاثة، لكني لقيتُ من ‏التفرقة -بيني وبين أبنائه من زوجته ‏الجديدة- ما لقيتُ!! فبدأت صفحةٌ ثانيةٌ ‏من صفحات جُروحي وآلامي؛ كأن ‏شخصاً يضع عليها في كل يومٍ ملحاً جديداً!! لقد ‏بخل عليّ والدي بالمال، مع أن حالته ‏الاقتصادية ممتازة!! ليس هذا فقط، بل بخل ‏معي حتى بمشاعره؛ تُرى ماذا ‏فعلتُ؟ يسخر مني أمام أعمامي، ‏وعماتي، وأمام زوجته. وعندما أسأله عن سبب ذلك يقول لي: "كنت أمزح"!! يُقبِّل الصغير والكبير ويتركني. ‏يُحاورهم، يضحك معهم، أما أنا كأني ‏لستُ موجوداً! صحيحٌ أنه كان يتكلم ‏معي في كثيرٍ من الأحيان، لكنه ‏دائماً يسخر مني، هذا الذي كان يفعله معي!! ‏

الآن بعد أن بلغتُ السابعة عشرة من ‏عُمري، تزوجت والدتي، وهذا حقها ‏فهي شابةٌ، أفنت عُمرها من أجلي، ‏أرادت مني السكن معها، لكني أبيتُ؛ ‏فكرامتي لن تسمح لي بالسكن مع ‏زوج أُمي، فقررتُ السكن مع جدتي ‏والدة أُمي وخالي غير المتزوج، وهما يقيمان بالقرب من منزل والدتي، لكن ‏الظروف الأمنية اضطرتني إلى ‏الذهاب إلى والدي في الحي الذي يُقيم فيه بعيداً‏‏، لكني صُدمتُ بأن والدي ‏-وللمفاجأة- لم يرغب في وجودي في ‏بيته!! وقرَّر أن ‏يُرسلني للعيش مع والدته!!

أي أبٍ يُفرِّط في ابنه؟ ماذا فعلتُ ‏لألقى كل هذا الجفاء والصد؟ لماذا ‏أنا تحديداً من دون العالم بأسره؟! ‏أحياناً أفكر بأنني مظلومٌ منذ ولادتي، وحاشا لله أن يظلمني، لكن هذه الفكرة ‏تطرأ على بالي. لماذا فقدتُ نعمة ‏الأب بينما الآلاف من الناس لم ‏يُحرموا منها؟! لماذا كل هذا الظلم؟‏ أتمنى أحياناً أن يأتي يوم القيامة ‏سريعاً لأخبر الله بكل شيء! ولنقف أنا وأبي ‏بين يدي الله، ليحكم بيننا: لماذا أنجبني ‏ثم يفعل بي هذا؟! ثم يطلب مني أن لا ‏أرى أُمي بعد الآن، بحجة أنه ‏يكرهها، ولا أرى جدتي والدة أُمي التي ‏ربتني 17 عاماً، يطلب مني أن لا ‏أراهما أبداً، وأن أبقى مع والدته هو إلى ‏أن أُكمل دراستي رغم أنه يعلم أن ‏الظروف الأمنية هي التي أجبرتني على اللجوء ‏إليه، بعد انفلات الأمن في المكان الذي تعيش فيه. لقد أشعرني هذا، وزادني ‏يقيناً بأن والدي يكرهني بشدة، بقدر ما يُحب أولاده من زوجته ‏الثانية، وأني مظلومٌ منذ ولادتي. فلماذا يا ربِ أنا من دون الجميع؟ ‏وهل يجب عليّ بعد هذا كله أن أبر ‏والدي؟ وماذا أفعل بشأن أنه لا ‏يرغب أن أرى والدتي؟ هل أُنفذ كلامه ‏أم كلام والدتي؟ ربما مللتَ من ‏كلامي يا سيدي، لكن الشعور الذي ‏بداخلي، ألجأني إلى موقعكم، وبي ‏ألفُ هَمٍ وغمٍ وشكوى، وألفُ ‏علةٍ، وقصيدة حزنٍ، أنا المظلوم لا ‏ألقى جواباً في أرجاء نفسي! ولا ألقى ‏حلاً ليأسي.‏

 

أحبتي في الله.. كان مما ورد في رد المُفتي على رسالة هذا الشاب: نسأل الله تعالى أن يُفرِّج همك، وأن يُنفِّس كربك، وأن يُعافيك في دينك ودنياك. واعلم أن الإسلام قد أوجب على الآباء التسوية بين الأبناء في الهبات، والمعاملة، والرعاية، والتربية؛ وذلك لأنه أدعى إلى بِر الأبناء بآبائهم، وأرفع للشحناء، والبغضاء بينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا في أَوْلَادِكُمْ]؛ وعليه، فإن ما يقوم به هذا الأب من التمييز بين أبنائه، هو أمرٌ منهيٌ عنه شرعاً، وتفرقةٌ في غير محلها. ولكنا نوصيك -ما دمتَ قد وصلتَ لهذه السن بفضل الله تعالى- أن تعلم أن هذه الدنيا دار ابتلاءٍ، وهذا الابتلاء لا ينجو منه أحدٌ حتى من اصطفاهم الله من عباده وهم الأنبياء، وأكثرهم بلاءً في هذه الدنيا نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فهو أرفعهم، وأعلاهم درجةً. فمن ابتلاه الله في الدنيا، فصبر، فسيعوضه الله في الآخرة، والآخرة خيرٌ وأبقى، والآخرة خيرٌ من الأولى، وما عند الله خيرٌ للأبرار. فإذا صبرتَ على قَدَر الله، وعاملتَ أباك وإخوتك بالإحسان، فلك من الله أجرٌ عظيمٌ؛ وسيكون معك عونٌ من الله تعالى، وسيعطف الوالد عليك، ويجعله ذلك باراً بك إن شاء الله. وأما عن طاعة أبيك في ترك أُمك، وجِدتك: فلا يلزمك ذلك، ولكن حاول أن تتواصل معهما من دون علمه، فأنتَ الآن أصبحتَ رجلاً يُرجى لك بعد قليلٍ أن تتخرج، وتكون موظفاً، وتكون القائد، والأب لإخوتك، والعائل لأبويك، وجدتيك، فاستعن بالله تعالى في مواصلة دراستك، وفي نجاح أمورك، وفي الحصول على الوظيفة المناسبة، واصرف عن ذهنك هاجس الظلم، واستعن بالصبر، والصلاة، والدعاء، والإحسان إلى الوالد؛ فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وقال الله جلَّ وعلا: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. وقال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ –عزَّ وجلَّ- إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ]. وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم، ويقطعونني، وأُحسن إليهم، ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم، ويجهلون عليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: [لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ]. فاحمد الله أن جعل مصيبتك في أمرٍ من أمور الدنيا، ولم يجعل مصيبتك في دينك، واعلم أن الله لا يُسأل عما يفعل، قال تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾. واحرص على التمسك بطاعة الله، وتقواه؛ فإن في ذلك وحده حلاً لكل مشاكلك، وتفريجاً لكل هموم وغمومك، وتيسيراً لكل أمورك، وصلاحاً لكل أحوالك وظروفك؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾. ويقول أيضاً: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. ويقول سبحانه: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

وعليكَ بالدعاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: [يا حيُّ يا قيُّومُ برحمتِك أستغيثُ، أَصلِحْ لي شأني كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عَيْنٍ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [اللَّهمَّ لا سَهلَ إلَّا ما جَعَلتَه سَهلًا، وأنتَ تَجعَلُ الحَزْنَ إذا شِئتَ سَهلًا]. 

 

يقول أهل العلم إن الإسلام أوجب على الآباء مجموعةً من الواجبات تجاه أبنائِهم، وأَمَرَهم بالقيام بها، ولم يجعل الله تعالى هذه الواجبات تبعاً للعواطف والغريزة الفطرية، وإنّما نظَّمها بقوانين وأحكامٍ مُلزمةٍ، تحفظ للأبناء جميع حقوقهم؛ من تربيةٍ وتنشئةٍ، وحفظٍ انسبهم، وإشرافٍ على أموالهم، فإن أحسنَ الآباء كان لهم الأجر والثواب من الله، وإن أساؤوا فسيُحاسبون على تقصيرهم وعقوقهم لأبنائهم أمام الله سُبحانه وتعالى.

ومن صور (عقوق الأب) أن يعتقد أن قسوته في التربية هي الأسلوب الصحيح لتربية أبنائه، لكن في الواقع، هو يُدمر شخصياتهم، وهذا يُعد عقوقاً. وتفرقته بين أبنائه في المُعاملة وتفضيل بعضهم على بعض وعدم المساواة بينهم يُعتبر عقوقاً. وبخله على أبنائه وحرمانهم من أشياء كثيرةٍ بإمكانه توفيرها لهم بحجة التوفير، يجعلهم يشعرون بالنقص والاحتياج، فهذا عقوق. واعتقاده أن دوره كأبٍ يقتصر على توفير الطعام والشراب والملبس فقط، ولا يعتبر نفسه مسؤولاً عن التربية والاهتمام بأبنائه، وتركه هذه المهمة للأُم فقط، فهذا عقوق. وعندما يدعو على أبنائه ويوجه لهم ألفاظاً جارحةً وشتائم دون سببٍ، فهذا عقوق. وعندما يلجأ إلى الضرب المستمر، والإهانة، ويستخدم أسلوب القمع، وإجبار أبنائه على فعل أشياء بدون أن يسمع لهم أو يكون لهم حق الاعتراض، يُعد عقوقاً.

ومن صور (عقوق الأب) كذلك يقول أحد العلماء: "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدىً، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوها صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً".

وهذا عالِمٌ آخر يقول: "يجب أن تُعلمهم أهم الصفات الحميدة؛ وأولها: محبة الله سبحانه، وتوقيره وتعظيمه، ورجاؤه، والخوف منه، والتوكل عليه".

وعالِمٌ ثالث يقول: "إن التأسيس السليم للطفل ليس لبناء جسمٍ سليمٍ فقط، بل مع ذلك لابد من بناء قلبٍ سليمٍ، فتأسيس القلب الطائع لله يعود على سائر الجسم بسلامته".

 

وعن (عقوق الأب) ورد في الأثر أن رجلاً جاء إلى سيدنا عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بابنه يشكو عقوقه له، فسأل الابنُ أميرَ المؤمنين عن حقوق الابن على والده، فأجابه بأن من حقه عليه أن يستنجب أمه، وأن يُحسن اسمه، وأن يُعلمه الكتاب "أي: كتاب الله". فقال الابن: فوالله ما فعل شيئاً من ذلك؛ فالتفت عُمر إلي الأب وقال له: "لقد عققته قبل أن يعقك".

 

أحبتي.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، الإمامُ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، ...]. فعلينا أن نُقدم لأبنائنا أعلى مستوىً ممكنٍ من الرعاية بجميع مجالاتها: الدينية والتربوية والنفسية والجسدية، وغيرها من مجالات. كلنا نود أن ينشأ أبناؤنا بارين بنا -خاصةً عندما نكبر في العُمر- فلنبرهم، ونرعاهم، ونربيهم على منهج ديننا الإسلامي، وهو المنهج الذي ارتضاه لنا.

ولنتذكر أنما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والجزاء من جنس العمل، وكما ندين ندان.

اللهم اجعلنا مما يستمعون الكلام فيتبعون أحسنه. وأعنِّا على تربية أبنائنا وتنشئتهم على المنهج الذي يُرضيك.

https://bit.ly/49zqeBQ

الجمعة، 6 ديسمبر 2024

قبل فوات الأوان

 

خاطرة الجمعة /476

الجمعة 6 ديسمبر 2024م

(قبل فوات الأوان)

 

تقول القصة إنه في أحد الأيام، وقبل شروق الشمس، وصل صيادٌ إلى النهر، وبينما كان على ضفته تعثَّر بشيءٍ ما وجده على ضفة النهر، وعندما نظر إليه وجد أنه كيسٌ مملوءٌ بالحجارة الصغيرة، فحمل الكيس ووضع شبكته جانباً، وجلس ينتظر شروق الشمس ليبدأ عمله. حمل الصياد الكيس بتكاسل وأخذ منه حجراً ورماه في النهر؛ فأحبّ صوت اصطدام الحجر بالماء، فرأى أن هذا يُسليه حتى شروق الشمس، وهكذا أخذ يرمى الأحجار التي في الكيس حجراً بعد الآخر حتى سطعت الشمس وانتشر الضوء، وكان الصياد قد رمى كلّ الحجارة إلا حجراً واحداً بقي في كف يده، وحين أمعن النظر فيه لم يُصدِّق ما رأت عيناه؛ لم يكن ما تبقى في يده حجراً عادياً، وإنما كان قطعة ماسٍ رائعةٍ! يا الله كم قطعة ماسٍ كانت تملأ الكيس رماها بنفسه في النهر؟! لو كان يدري ما كان رماها، ولو عَلِمَ قيمتها لحافظ عليها (قبل فوات الأوان).

 

وهذا موقفٌ يحكي عنه أحدهم؛ قال: كنتُ أمشي في الطريق، حين وقَعَتْ عيناي قدراً على شيخٍ وقورٍ طاعنٍ في السن يجلسُ على كُرسيٍّ مُتحرّكٍ وبجانبه خادمه، فاقتربتُ من الشيخ وقبّلتُ رأسه، ثم قلتُ له: "أدعُ لي يا عم"، فسألني: "هل والدك موجود؟"، قلتُ: "نعم"، قال: "هل والدتك موجودة؟"، قلتُ: "نعم"، فابتسم ابتسامةً ممزوجةً بأسى العُمرِ وأحزان الأيام، ثم قال: "إذن أنتَ تاجرٌ كبيرٌ، حافِظ على تجارتك يا ولدي، فأولادي قد ضيّعوا تجارتهم". أحسستُ بقشعريرةٍ في بدني، وهزّةٍ في كياني، ونغزةٍ في قلبي، فقبّلتُ رأسَهُ ثانيةً ثم انصرفتُ عنه وأنا أُتمتم بلساني: "حافِظ على تجارتك يا ولدي، تلك حقاً هي التجارة الرابحة". يقول صاحب هذا الموقف: راجعوا تجارتكم مع أُمهاتكم وآبائكم (قبل فوات الاوان)؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الأُم عندما جاءه أحد الصحابة يستشيره في الغزو: [هل لَكَ مِن أمٍّ؟] قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]، ويقول عن الوالد: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه]؛ فهل أغلى من الجنة سلعةً نتاجر فيها؟!

 

أحبتي في الله.. هذه القصة وهذا الموقف، ومثلهما كثيرٌ، قصصٌ ومواقف تحكي عن غفلة البعض مع أنفسهم، أو غفلتهم في علاقاتهم مع غيرهم من البشر، إنها مؤلمةٌ بلا شك، تُصيب الإنسان بالإحساس بالذنب وبالندم على ما فات ولا يمكن تعويضه. لكن الأشد إيلاماً هو غفلة البعض في علاقته بربه سُبحانه وتعالى، هنا تكمن أعظم المخاطر؛ فالبعيد عن ربه، السادر في غيه، اللاهي عن آخرته، المُفَرِّط في حقوق الله وطاعته، المفتون بدنياه كأنه خالدٌ فيها، الذي يُسوِّف توبته وعودته إلى الطريق المستقيم كما لو كان يضمن عمره، هذا في خطرٍ عظيمٍ، عليه أن يتدارك نفسه (قبل فوات الأوان).

عن هذا المعنى يقول أهل العلم إن الله عزَّ وجلَّ يُحذرنا في أكثر من آيةٍ كريمةٍ، ويُنبهنا إلى أن الساعة ستأتي بغتةً؛ يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾، ومع ذلك نعيش وتمر الأيام وكأننا لا نهتم. متى نعلم أننا في دارٍ ليست للبقاء؛ مهما امتد العمر وطال فإن النهاية حتميةٌ وآتيةٌ لا محالة؟ بل كيف لا ندري أن هذه الدنيا أيامها معدودةٌ، وساعاتها قليلةٌ، والمرء لا شك سيرحل عنها يوماً ما؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾؛ فإن أنت عصيتَ وأبيتَ وأعرضتَ وتوليتَ عن ذِكر الله وطريقه ونهجه وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اعلم أنه سيُفاجئك يوماً الأجل، وحينها ستعلم يوم الحساب مَن عصيتَ، وستبكي دماً على قُبح ما جنيتَ؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، وتندم وقت لا ينفع ندم.

ولو استعرضنا آيات الندم التي وردت في القرآن الكريم لوجدنا أن معظمها كان التعبير فيها بلفظ "ليت" ومُشتقاته، ومن ذلك: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾، ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾، ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾، ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾، ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾، و﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. جميعها أُمنيات الأموات التي لا يُمكنهم إدراكها الآن؛ فلنتداركها نحن ما دُمنا أحياء (قبل فوات الأوان).

 

يتساءل أحد العُلماء: متى ننتبه؟ متى نفوق من غفلتنا؟ متى نكون من المهتدين؟ هل نكون من الخاسرين الذين يصفهم الله سُبحانه وتعالى في الآية الكريمة بقوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾؟، متى نتدارك أنفسنا؟ هل مع انتهاء أعمارنا بعد فوات الأوان؟! علينا الانتباه من فورنا الآن، وأن نفوق من غيبوبتنا، وأن نعتبر من سُرعة تتابع الأيام وتقارب الزمان؛ يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ].

إن الموت قادمٌ لا محالة، ولو كان لبشرٍ الخلود في الأرض لكان أولى الناس بذلك حبيب الرحمن سيد الخلق نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي يقول: [أتاني جبريلُ عليه السَّلامُ فقال: يا مُحمَّدُ! عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ، وأحبِبْ من شئتَ فإنَّك مفارقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مَجزِيٌّ به]. كلنا يحيا في الدنيا مرةً واحدةً فقط، فلا نفوِّت الفُرصة على أنفسنا؛ إن يوم الحساب قريبٌ، وعمرنا في الدنيا قصيرٌ؛ يقول تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾، ولا يدري الإنسان متى يموت؛ قد يُصبح ولا يُمسي، أو يُمسي ولا يُصبح، ولهذا كان علينا أن نُحسن العمل، وأن نستغل فُرصة محيانا ووجودنا على ظهر الأرض (قبل فوات الأوان).

 

ويُوجهنا صلى الله عليه وسلم إلى طريق النجاة؛ فيقول: [الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ].

وورد في الأثر: "ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله فيها". كما ورد: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾، وإنما يَخف الحساب يوم القيامة على مَن حاسَب نفسه في الدنيا". ويُقال: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما". ويُقال أيضاً: "يا ابن آدم إنما أنت أيامٌ، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك". كما يُقال: "ما من يومٍ ينشق فجرُه إلا ويُنادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد مني فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة".

 

ويقول الشاعر:

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ

إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني

فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها

فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني

ويقول آخر:

وَالوَقْتُ أَنْفَسُ ما عُنيتَ بِحِفْظِهِ

وَأراهُ أسْهَلَ ما عَلَيْكَ يَضيعُ

ويقول ثالث:

وَكَمْ مِنْ صَحِيْحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ

وَكَمْ مِنْ عَلِيْلٍ عَاشَ حِيْناً مِنَ الدَّهْرِ

فَكَمْ مِنْ فَتًى أَمْسَى وَأَصْبَحَ ضَاحِكًا

وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهُوَ لاَ يَدْرِِي

 

ويُروى أن أحد التابعين حفر لنفسه قبراً في بيته، فكان ينزل فيه أحياناً ثم يتلو: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾.. ثم إذا قام يقول مُخاطباً نفسه: "ها قد رجعتِ فجِدِّي واعملي".

 

أحبتي.. تمر بنا الأيام سريعةً، دون أن ندري أو ننتبه أو نشعر بأن كل يومٍ يمر إنما يُحسَب من أعمارنا ويُنقِص منها. والحقيقة التي لا مِراء فيها هي أننا نقترب من النهاية يوماً بعد يومٍ، بل ساعةً بعد ساعةٍ؛ فلننتبه (قبل فوات الأوان)، ونُصحح علاقتنا بالله سُبحانه وتعالى؛ فنُكثِر من ذِكره، ونلتزم بأوامره، ونتجنب ما نهى عنه، ونؤدي الفروض والعبادات بخشوعٍ وإخلاصٍ، ونزيد من النوافل ومن أعمال الخير دون رياءٍ أو نفاق.

ولنصوِّب علاقتنا مع خَلْق الله، نبدأ بإرجاع حقوق الغير إليهم، أو الاستبراء منها؛ خاصةً حق الدم والعِرض والمال والظُلم والغيبة وغيرها. ثم إصلاح ما انقطع من صلاتٍ -خاصةً صلة الرحم- وما تهدم من علاقاتٍ مع الأقارب والجيران وغيرهم. ثم التوقف عن الإساءات الفعلية والقولية التي تؤذي الغير. حتى نصل إلى درجة الإحسان ولُطف المعاملة وحُسن الظن والرفق واللين والتجاوز عن الزلات والعفو والصفح؛ يقول تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم﴾، ويقول: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.

إن كل يومٍ يمر من أعمارنا، هو نذيرٌ لنا كي ننتبه (قبل فوات الأوان).

اللهم أنِر حياتنا بنور الهداية، وطهِّر نفوسنا، وأيقظ قلوبنا من الغفلة، واجعلنا من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/3Be0hes

الجمعة، 29 نوفمبر 2024

عزة النفس

 

خاطرة الجمعة /475

الجمعة 29 نوفمبر 2024م

(عزة النفس)

 

يقول أحد بائعي الخضار والفاكهة: قبل فترةٍ قصيرةٍ كانت سيدةٌ تأتي كل يومين تسألني عن سعر الموز فأجيبها وتمشي دون أن تشتري، فقلتُ لنفسي ذات يومٍ بعدما ذهبت لابد وأنها ليس معها المال الكافي لتشتري، ونويتُ عندما تأتي في المرة التالية أن أُعطيها كيلوين من الموز من دون أن آخذ منها ليرةً واحدةً. أتت السيدة فعلاً، وكالعادة سألتني عن سعر الموز؛ فأجبتها: "اليوم مجاناً، وهذان كيلوان هديةً مني لكِ"، رفضت ولم تأخذهم، حاولتُ معها بكل الطُرق، لكنها أصرت على الرفض وقالت إنها ليست بحاجةٍ وإن غيرها أولى منها، وشكرتني وغادرت. غابت بعدها لمدة أُسبوعٍ ثم عادت وسألتني نفس السؤال، وأجبتها، وقلتُ في نفسي بالتأكيد ستشتري هذه المرة، إلا أنها فعلت مثل ما تفعل كل مرةٍ؛ شكرتني وذهبت.

هنا قررتُ أن أعرف ما هي قصة هذه السيدة؛ فقمتُ بتتبعها من بعيدٍ دون أن تشعر، رأيتها توقفت عند باب مدرسةٍ وكأنها تنتظر أحداً. خرج من المدرسة ولدٌ صغير يبدو أنه ابنها، اقتربتُ منهما مع حرصي الشديد ألا تشعر بي، سمعتُ ابنها يقول لها ما جعلني أبكي؛ سمعته يقول: "أُمي هل جلبتِ الموز الذي وعدتيني بهِ منذ أُسبوعين؟"، قالت لهُ: "ما جمعته من النقود لا يكفي يا ابني إلا حق طعامٍ؛ فإذا اشتريتُ لك الموز سينام إخوتك جائعين بلا عشاءٍ، وكل يومٍ أسأل عن سعره علَّه يكون أرخص، لكني أوعدك سأشتريه لك هذا الأسبوع، لا تقلق". هنا بكيتُ من (عزة النفس) التي أظهرتها تلك المرأة؛ لأنني عرضتُ عليها أن تأخذ الموز دون مقابلٍ لكنها رفضت، وقالت إن غيرها أحوج منها، مع أنها يبدو عليها أنها أحوجُ الناس. سألتُ عنها اتضح أن زوجها مات منذ سنواتٍ بعد مرضه، وهي تعمل لتُعيل أُسرتها. قررتُ أن أستدل على بيتها، فعلمتُ أين تُقيم، وفي كل أُسبوعٍ أضع لهم على باب بيتهم ما لذَّ وطاب من الفواكه لوجه الله تعالى، وأطمئن أنها تأخذها، وهي للآن لا تعرف من يضع لها هذه الفواكه.

لا أُخفي عليكم أنني منذ أن بدأتُ القيام بهذا العمل ورزقي يزداد وألمس الخير والبركة في عملي ولله الحمد.

 

أحبتي في الله.. عن (عزة النفس) يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، وفي معنى الآية: ﴿أُحْصِرُوا﴾ حبسهم الجهاد عن التصرف، ﴿ضَرْبًا﴾ ذهاباً وسيراً للتكسّب، ﴿التَّعَفُّفِ﴾ التّنزّه عن السؤال، ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بهيأتهم الدالّة على الفاقة والحاجة، ﴿إِلْحَافًا﴾ إلحاحاً في السؤال. يقول المفسرون إن بالآية صورةً تستحثُّ المشاعر، وتُحرِّك القلوب والضمائر، لإدراك نفوسٍ عزيزةٍ كريمةٍ، تأبى الهوانَ وتأنف السؤال، مع عظم الحاجة وشدَّة الفاقة. تعفَّفَ قومٌ فأوصى الله بهم خيراً، وألحفَ آخرون فوُكِلوا إلى مسألتهم. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ﴾ تعرف فقرهم وحاجتهم بما ترى في هيئتهم من آثارٍ تشهد بقلة ذات يدهم؛ أي بأثر الجهد من الفقر والحاجة، بصُفرة وجوههم ورثاثة ثيابهم. يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء من أجل تعففهم عن السؤال؛ فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهرها يظنونهم أغنياء، أما أصحاب البصيرة المستنيرة، والحِس المُرهف، والفراسة الصائبة، فإنهم يُدركون ما عليه أولئك القوم من احتياجٍ، وورد في الأثر: "اتَّقُوا فِراسةَ المؤمنِ فإنه ينظرُ بنورِ اللهِ". إنهم ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً﴾؛ والإلحاف هو الإلحاح بأن لا يُفارق السائل المسئول إلا بشيءٍ يُعطاه منه.

 

وعن (عزة النفس) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ يحبُّ الغَنيَّ الحليمَ المُتَعففَ، ويبغضُ البذيءَ الفاجرَ السَّائلَ الملحَ]. ويقول: [ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ]. كما يقول: [ليسَ المِسْكِينُ الذي يَطُوفُ علَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَكِنِ المِسْكِينُ الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولَا يُفْطَنُ به، فيُتَصَدَّقُ عليه، ولَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ]، وفي هذا الحديث يُبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسكين المُستحق للصدقة والزكاة ليس هو من يسأل الناس ويرده ويكفيه ما يناله من اللقمة أو اللقمتين، وإنما المسكين كامل المسكنة هو من لا يجد ما يكفي حاجته بأكملها؛ فقد يكون عنده مالٌ لكنه لا يكفيه، ويتعفف عن المسألة، ويمنعه الحياء أن يُخبر الناس بحاله، ولا يسأل الناس إلحافاً؛ باللجاج في المسألة والإلحاح فيها.

 

ونُسب إلى حكيمٍ -قيل إنه سيدنا عليّ رضي الله عنه- قوله: "والله والله مرتين، لَحفرُ بئرين بإبرتين، وكنسُ أرض الحجاز في يوم عاصفٍ بريشتين، وحَملُ ثورين باليدين، ونزعُ طودين شامخين، وغسلُ عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، ونقلُ بحرين زاخرين بمنخلين، أهونُ عليّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء ديْن، ولا وقوفي على بابٍ يضيع فيه ماء العين".

 

ويُقال إن (عزة النفس) هي الارتفاع عن مواضع الإهانة؛ فعزيز النفس لا يسمح لأحدٍ أن يُريق ماء وجهه ليبقى موفور الكرامة، مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، شامخاً، مُتحرّراً من الذُل.

 

يقول العارفون: إن أرقى أنواع (عزة النفس) مع الناس أن تمثّل دور المُكتفي من كلّ شيءٍ وأنت بأمسِّ الحاجةِ لكل شيءٍ، وأن لا تطلب الشيء مرتين، ولا تطرق باباً أُغلِق في وجهك يوماً. أما مع الله سبحانه وتعالى فإن الأمر يختلف تماماً حتى يصل إلى العكس؛ فتكون قمة (عزة النفس) في منتهى التذلل لله عزَّ وجلَّ؛ إذ لا تكتمل عبودية المسلم إلا بكمال الذُل والخضوع والانكسار والانقياد، مع كمال المحبة لله تعالى، ويكون الإلحاف في الدُعاء هنا مطلوباً وممدوحاً وليس مستنكراً ولا مذموماً.

 

وعن (عزة النفس) قال الشاعر:

أَرَى الناسَ مَنْ داناهُمُ هانَ عِنْدَهُم

وَمَنْ أكرَمَتْهُ عِزَةُ النَفْسِ أُكْرِما

وقال آخر:

اقْنَعْ وَلا تَطْمَعْ فَإنَّ الفَتى كَمالُهُ في عِزَةِ النَفْسِ

وَإنَما يَنْقُصُ بَدْرُ الدُجى لِأخْذِهِ الضَوْءَ مِنَ الشَمْسِ

وقال ثالث:

يا عِزَةَ النَفْسِ كوني في العُلا قَمَرَاً

فَالْعَيْشُ دونَكِ مِثْلُ الغُصْنِ إنْ مالا

ما قيمَةُ المَرْءِ إنْ ضاعَتْ كَرامَتُهُ

فَضْلُ الكَرامَةِ يَعْلو الجاهَ وَالْمالا

 

أحبتي.. قال أحد الصالحين: هل فَكَّر كلٌ منا أن يبحث عن هؤلاء الذين تعلو وجوههم ابتسامة الرضا بما قسم الله لهم في الحياة الدنيا، غير ناقمين إن قتر عليهم الرزق، تملأ صدورَهم العفةُ ونفوسَهم الكرامةُ والكبرياءُ لدرجةٍ قد تبدو للآخرين غنيً؟ هؤلاء الذين يعلمون ويؤمنون بأن الغني الحقيقي هو غني النفس، وليس المال الذي عادةً ما يكون مآله إلي زوال. إن ملاحظة أحوال المتعفِّفين لمعرفة حاجتهم وسدِّ فاقتهم شأنٌ جليلٌ، ثوابُه جزيلٌ، ولا يفطَنُ إليه إلا موفَّقٌ فطنٌ يُحس بالمحتاج وإن لم ينطِق لسانُه.

ومَن اضطُرَّ فينا إلى أن يسأل الناس فَلَهُ أن يسألَ وعليه أن يُجمل في الطلب؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها]، ويكون طلبه دون إلحاحٍ، وبغير تذللٍ أو مسكنةٍ، أو إهدارٍ للكرامة، إنما يطلب بعزة نفسٍ، واثقاً في أن المُعطي والمانع هو الله سُبحانه وتعالى، وما الشخص المطلوب منه إلا وسيلةٌ لإيصال الذي كُتب لنا؛ فكما يُقال: "اطلُبُوا الحوائِجَ بِعِزَّةِ الأنُفُسِ، فإِنَّ الأمورَ تَجْرِي بالمقادِيرِ".

اللهم اجعلنا أعز الناس إلى خَلْقك، أذل الناس إليك سُبحانك، وأنعم علينا بما يُعيننا على أن نكفي المحتاجين المتعففين ذُل السؤال، واغننا بفضلك عن الاحتياج إلى غيرك، والطلب من سواك.

https://bit.ly/4eWjzTg

الجمعة، 22 نوفمبر 2024

قلب المؤمن دليله

 

خاطرة الجمعة /474

الجمعة 22 نوفمبر 2024م

(قلب المؤمن دليله)

 

يقول صاحب القصة: لم يكن والدي أباً عطوفاً كباقي الآباء، ولم أعِش يوماً في جوٍ أُسريٍ كباقي أقراني. كنتُ أعتمد على نفسي في المذاكرة والذهاب والإياب من المدرسة. رغم كل شيءٍ، كنتُ متفوقاً في دراستي، ولأنني لم أرَ سبيلاً للخروج من هذا النفق المعتم الذي أقبع فيه سوى العِلم، كرستُ كل وقتٍ أُتيح لي لطلبه. نعم "الوقت المتاح لي" لأنني كنتُ مضطراً للعمل في سنٍ مبكرٍ؛ فوالدي كان يرفض الإنفاق على البيت، وأُمي سيدةٌ غير متعلمةٍ، فلا عمل لها إن أرادت العمل سوى الخدمة في البيوت، وهو ما لا يمكن أن أرضى به؛ لذا قررتُ أن أتدرب عند خياطٍ جارٍ لنا، وخصص لي أجراً يدفعه أسبوعياً، لم يكن الأجر كبيراً، لكنه كان يكفيني وأُمي لطعامنا وشرابنا في أقل الحدود. كان والدي رجلاً ميسوراً، لكنه هجر البيت، وتزوج من فتاةٍ تصغره بعشرين سنةً، وحرَّمته علينا، فلم أعد أراه منذ كان عمري عشر سنوات.

كبرتُ، وكبرت أُمي، وأُصيبت بالعمى. كانت تعاني من الرمد الدائم، ولم نكن نملك ثمن الدواء. أصبحتُ أنا بمثابة العين المبصرة لها، تتوكأ عليّ إن أرادت الذهاب أو الإياب. التحقتُ بكلية الهندسة، وما زلتُ أعمل خياطاً لدى جارنا. الحقيقة أن هذه المهنة تكفلت بعيشي وعيش أُمي طيلة حياتي إلى أن تخرجت. اختارني أحد أساتذة الجامعة للعمل معه في مكتبه الخاص براتبٍ مُجزٍ؛ فقد رأى فيّ موهبةً هندسيةً، ومقوماتِ مهندسٍ معماريٍ ماهر. سعدتُ بذلك، وانتقلتُ إلى سكنٍ جديدٍ، وكانت أُمي رفيقتي في كل مكانٍ أذهب إليه. بدأتُ أشعر أن الله يعوضنا عن سنوات العذاب التي مررنا بها.

كان لصاحب المكتب الهندسي ابنةٌ جميلةٌ تعمل معنا في المجال نفسه، رقّ لها قلبي، وهي كذلك، وكانت تحب أُمي كثيراً، وأُمي تبادلها نفس الشعور. شجعتني والدتي على خطبتها، وبالفعل تقدمتُ لطلب يدها من والدها، لكنه رفض بحجة أنني لم أصل بعد لمكانةٍ عاليةٍ في مجال الهندسة، لكنه وافق لاحقاً تحت ضغطٍ من ابنته، وتم الزواج.

تأخرنا في الإنجاب لمدة عشر سنواتٍ، أُصيبت خلالها والدتي بالشلل التام. كنتُ أتولى العناية بها بنفسي، ورغم تحسن حالتي المادية وقدرتي على جلب خادمةٍ خاصةٍ لها، إلا أنني لم أفعل؛ فهي من ضحت بكل شيءٍ لأجلي، فكيف لا أُضحي لأجلها؟

عندما يئستُ من علاج عدم الإنجاب في «مصر» سافرتُ مع زوجتي للعلاج في الخارج، على أمل أن يُحقق الله لنا حلم الإنجاب، لكنني صُدمتُ عندما أجمع الأطباء على عدم قدرتي على الإنجاب نهائياً؛ حينها خيَّرتُ زوجتي بين البقاء معي أو الانفصال لتبدأ حياةً جديدةً تستطيع فيها أن تكون أُماً، طلبت مني أن نعود إلى «مصر» وأتركها تفكر في الأمر بعيداً عني وعن أهلها. عُدنا بالفعل، فوجدتُ والدتي قد زادت حالتها سوءاً؛ إذ أن الخادمة التي جلبتها للعناية بها خلال فترة سفرنا للخارج أهملت واجبها حتى أصاب أُمي العطب في بعض أعضائها، فأدخلناها إحدى المستشفيات حيث مكثت فيها ثلاثة أسابيع، وفي يومها الأخير طلبت أن تختلي بي، فقد كان هناك أمرٌ تريد إخباره لي، كانت روحها تنازع جسدها لتمهلها بضع لحظاتٍ لتفصح عما في قلبها؛ قالت لي: "يا ولدي، كنتَ باراً بي، وأُشهد الله أنني راضيةٌ عنك. أسأل الله أن يرزقك ولداً صالحاً من ابنة الخياط"، ابتسمتُ وكلي ألمٌ، وقلتُ: "يا أُمي، أنا عقيمٌ، فكيف أُرزق بولد؟ ثم إن زوجتي ليست ابنة الخياط يا أُمي!"، قالت: "اعلم يا بني أنني كنتُ أدعو الله دائماً أن يرزقك ولداً صالحاً من ابنة المهندس يكون سنداً لك كما كنتَ سنداً لي، لكن الله لم يشأ. رأيتُ في منامي أنك تحمل ولداً يُشبهك، وقدمتَه لي ومعك ابنة الخياط...". ثم أغمضت عينيها ورحلت بعد بضع ثوانٍ.

لم تتصل بي زوجتي لتعزيني، بل أرسلت تطلب الطلاق بهدوءٍ؛ فهي لن تستطيع العيش معي دون أطفال. تم الطلاق، واستقلتُ من مكتب والدها، وافتتحتُ مكتباً هندسياً مستقلاً. وبعد مرور عامين، زارتني والدتي في المنام وقالت لي: "ألم يأن الأوان لتنجب من ابنة الخياط؟". استيقظتُ مذهولاً من الرؤية، فأنا أعلم أن الخياط لا يملك بناتٍ من الأساس! فلم أُعر تلك الرؤية أي اهتمامٍ، لكنها تكررت مراراً حتى قررتُ زيارة الخياط، وقصصتُ عليه ما قالته أمي وما أراه في منامي؛ فضحك وتهلل وجهه وقال: "قُم معي". توجهنا إلى بيتٍ متواضعٍ بجوار بيته، فإذا بامرأةٍ عجوزٍ تعيش مع ابنتها، قال لي الخياط: "مبارك عليك، هذه هي ابنتي"، نظرتُ إليه متعجباً وقلتُ: "كيف وأنا أعرف أهل بيتك؟"، فقال: "هذه الفتاة ابنة أُختي، رحل والداها في حادث سيرٍ مروعٍ وتكفلتُ برعايتها، زوجتي رفضتها وقالت إنها نذير شؤمٍ، إذ مات والداها بعد إنجابها بأيامٍ قليلةٍ، لكنني لم أتخلَ عنها، وأحضرتُ لها مربيةً اهتمت بتربيتها، وهي لا تعرف لها أباً غيري. هي الآن في السنة الأخيرة بكلية الصيدلة وسيتم اختيارها معيدةً في الجامعة".

كانت مفاجأةً بالنسبة لي، لكن كيف علمت أُمي بأمرها؟ لا أدري، فهي لم تلتقِ بالخياط يوماً، لكنه فاجأني بأن أُمي كانت تزوره في منامه وتوصيه بي خيراً؛ قال: "في مرةٍ أخبرتها في منامي أني سأزوجك ابنتي، وسيكون لك منها خير الولد"! أتممتُ الزواج من بنت الخياط، وفي الشهر الأول من زواجنا حملت، لم أصدق ذلك، لكن الله قادرٌ على كل شيء.

أبلغ الآن من العمر سبعين عاماً، توفيت زوجتي الغالية، وخلَّفت لي ولداً طيباً باراً بي، وما زالت والدتي تزورني في المنام كل ليلةٍ لتطمئن على ولدي وعليّ! يا لقلوب الأُمهات!

 

أحبتي في الله.. مقولة (قلب المؤمن دليله) ليست بحديثٍ نبويٍّ، وإنَّما هي عبارةٌ تجري مجرى الأمثال، وقد أطلق علماء النفس على هذه الظاهرة اسم "الحَدْس"، وعرَّفوه بأنَّه: معرفة الإنسان لشيءٍ دون أن يعرف كيف عرفه.

 

وفي القصة التالية تأكيدٌ على هذا المعنى؛ يقول راويها: ما جعلني أكتب متسائلاً عن قلب الأم هو وفاة صديقي وعلاقته بأُمه؛ كان -رحمه الله تعالى- يعمل في «السعودية»، وكان قد استقدم والدته المُسنة وأخاه وأُخته لأداء العُمرة. وعلمتُ من شقيقته أنه بعد أداء شعائر العُمرة، ووقت أن حان موعد عودتهم إلى «مصر» قام بتوصيلهم إلى المطار، وفي صالة التوديع سلَّم عليهم بحرارةٍ، وذهبوا هُم لدخول صالة الصعود إلى الطائرة، لكن أُمه عادت مسرعةً ونادت عليه، فلما سمع نداءها عاد إليها، فقامت باحتضانه لمدةٍ طويلةٍ، وظلت تُقبله وهي تحتضنه، ودموع عينيها تتسابق مع كلمات الوداع، ثم عادت إلينا وغادرنا. تقول شقيقته: "في اليوم التالي لعودتنا إلى «القاهرة» بلغنا نبأ وفاة أخي، الذي عاد من غربته في صندوق، وقمنا بإجراءات دفنه. وظلت أُمي من وقت علمها بوفاة أخي وحتى دفنه غير مصدقةٍ أنه مات، وتحكي لكل من جاء يُعزيها أنها لن تنسى أبداً احتضانها له في المطار. وعندما سألتها عن ذلك قالت: أحسستُ بشيءٍ دفعني لاحتضانه وكأني لن أراه مرةً أخرى!".

 

إنه شعورٌ طاغٍ تشعر به الأُم، ولا تدري ما هو، ولا تعرف له سبباً، ولكنه إحساسٌ بالقلق، غير القلق العادي، يجثم على الصدر. ولا يحدث ذلك إلا مع أقرب الناس إليها، خاصةً أبنائها. ويقوى هذا الحدس أو هذا الشعور -في الغالب- مع الأُمهات اللواتي يكن في علاقةٍ قويةٍ بالله سبحانه وتعالى، وعبارة (قلب المؤمن دليله) لم تأتِ من فراغ؛ فالقلب الذي يكون دليلاً لصاحبه هو قلبٌ قويٌ في إيمانه، صحيحٌ نقيٌ طاهرٌ وسليم؛ إذ يكون مُعلَّقاً بالله عزَّ وجلَّ، ويكون في معيَّته وفي رحابه، يهتدي بهديه، ويسير بنوره، مصداقاً لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم حكايةً عن ربِّ العزة: [ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ].

 

يقول أهل العلم إن من صفات قلب المؤمن الذي يكون بحقٍّ دليله، أن يكون سليماً؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وأن يكون صالحاً؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ]. ومن علامات سلامة القلب وصلاحه: أنَّه يدفع صاحبه للتوبة والإنابة، ولا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يتكاسل عن عبادته، وإذا فاتته عبادةٌ وجد ألماً أشدَّ عليه من ضياع ماله، وأنَّه يجد لذةً في العبادة أشدَّ من لذات الدنيا جميعها. ومن وسائل إصلاح القلوب والوصول بها إلى السلامة والصلاح: التوبة النصوح، وقراءة القرآن بتفكُّرٍ وتدبرٍ، والمداومة على ذِكر الله تعالى، والصيام، وقيام الليل، ومصاحبة الصالحين.

 

أحبتي.. في أحيانٍ كثيرةٍ يكون (قلب المؤمن دليله)، وأوضح ما يكون ذلك في علاقة الأُم بأبنائها، فلنُبادل أُمهاتنا الحُب، ونقوي علاقتنا بهن، ونُكرمهن، ولنتذكر أنهن مصدر الحنان والعطاء في حياتنا، وأن معاملتهن بكل حبٍ واحترامٍ تعود علينا بالخير والبركة؛ فلنجعلهن يشعرن بأنهن محور حياتنا، وأننا نُقدِّر كل لحظةِ اهتمامٍ أو تعبٍ قدَّمنها لنا.

وعلى كل ابنٍ أن يُعامل أُمه بطريقةٍ تليق بمكانتها في قلبه وتُعبر عن محبته لها؛ ومن ذلك: احترم والدتك في كل الأوقات، سواءً في حضورها أو غيابها، اجعلها دائماً تشعر بالتقدير والاحترام. استمع إلى نصائحها وحديثها بتركيزٍ واهتمام. اهتم بصحتها وراحتها، واسألها دائماً عن حالتها الصحية، وتأكد من أنها تحصل على الرعاية اللازمة. تواصل معها بانتظامٍ، سواءً كنتَ قريباً منها أو بعيداً عنها. اتصل بها لتعرف أنك مهتمٌ بها وتفكر بها دائماً. ساعِدها في الأعمال المنزلية وأداء مصالحها قدر إمكانك، قدِّم لها ما تحتاجه، وبادر بالمساعدة دون أن تطلب. لا تتردد في التعبير عن حبك لها؛ عانقها، قبِّل رأسها، قدِّم لها الهدايا، واظهر لها محبتك بشكلٍ دائم. تحلَّ بالصبر والهدوء عند التعامل معها، حتى في الأوقات التي قد تكون فيها غاضبةً أو مُضطربةً. تذكر دائماً التضحيات التي قدمتها وتُقدمها من أجلك، وأظهر لها أنك تُقدِّر كل ما فعلته وتفعله لأجلك. قدِّمها بأفضل صورةٍ أمام الآخرين، واذكر محاسنها وفضلها على حياتك. ولا تنسَ أبداً أن تدعو لها في صلاتك بالصحة والعافية والسعادة.

أما من فقد أُمه فعليه أن يُكثر من الدعاء والاستغفار لها، والتصدق نيابةً عنها، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بها، وإكرام صديقاتها، ويحرص على زيارة من كانت تزورهم، والإحسان إلى من كانت تُحسن إليهم، ومن ثمار هذا العمل أنهم إذا شاهدوا إحسان الابن تذكروا أُمه وأكثروا من الدعاء لها بالخير، وذكروها بما عندها من فضائل، وكل ذلك ما كان ليحدث لولا هذا البر وهذه الصلة.

اللهم اجعلنا من البارين بأُمهاتنا أحياءً وأمواتاً.

 

https://bit.ly/3ARxaxo

 

الجمعة، 15 نوفمبر 2024

عند الله لا تضيع الودائع

 

خاطرة الجمعة /473

الجمعة 15 نوفمبر 2024م

(عند الله لا تضيع الودائع)

 

تقول صاحبة القصة: رأيتُ في منامي أحدَهم يُهاتفني ويقول لي: "هناك أُسرةٌ تحمل اسم....، نازحـ.ـةٌ، تُقيم في أحد الأزقة بوسط قطـ.ـاع غـ.ـزة، عددهم أقل من عشرة أشخاصٍ، اذهبي إليهم قبل أذان المغرب، وخُذي معكِ طرداً به مواد غذائية"، وخلال هذا الهاتف كنتُ أرى نفسي أمشي في أزقةٍ أعرفها في الحقيقة، وكأنني أُساق إلى هذه الأسرة بعلاماتٍ واضحةٍ بيّنةٍ، وقد وقع في نفسي اسم الزيتون. انتهى المنام.. واستيقظتُ صباحاً، وذهبتُ لذات المكان الذي رأيتُه في المنام، وسألتُ هناك عن تلك الأسرة بنفس المعلومات التي قيلت لي في الرؤية وبدون أي نُقصان؛ فدُلني أحدُهم عليها، وكانوا يسكنون في دُكانٍ صغير.. كنتُ أعلم يقيناً أن شراء مواد غذائيةٍ أمرٌ مستحيلٌ، فلا يوجد أي شيءٍ في الأسواق، لكنني قلتُ أذهب إلى السوق عسى أن أجد ما يسدّ جوع هذه الأُسرة، وما إن وصلتُ حتى رأيتُ ثلاث عرباتٍ كلٌ منها يعرض المواد الغذائية الأساسية -المقطوعة أصلاً منذ شهور- وبذهولٍ كبيرٍ، وبدون أي ترددٍ توجهتُ نحو تلك العربات، واشتريتُ كل شيءٍ، وعدتُ مسرعةً أُسابق الوقت لأصل إلى الأُسرة قبل أذان المغرب، وبالفعل وصلتُ مع أول تكبيرةٍ للأذان.. دخلتُ الدُكان الذي تُقيم به الأُسرة، رأيتُ أُمّاً مُقعدةً قد بُترت ساقاها، علمتُ فيما بعد أن البتر تم في أول الحـ.ـرب، كان حول الأُم أبناؤها، عندما سألتهم عن والدهم أجابوني أنه بقي في الشَمال وقد انقطعت أخباره عنهم.. سألتهم عمن يقوم على أمورهم، خاصةً وأنهم لا زالوا صغاراً، فأجابتني ابنتها: "والدي في آخر مكالمةٍ قال لنا تركتكم في ودائع الرحمن".. وقال لي أحد الأبناء: "في كل يومٍ يمر بائع العصير المثلج الذي يكفل أيتاماً ليسوا بأبنائه، فتدفعنا أُمي لشراء العصير منه لأجل أولئك الأيتام"!

يا الله.. تركهم أبوهم في ودائع الرحمن، فمن ذا الذي يضيع وهو في كنف الرحمن الرحيم وفي ودائعه؟ ليسوا سوى أطفالٍ وأمهم مُقعدةٌ، ويُقيمون في دُكانٍ صغيرٍ بين أزقةٍ في مدينةٍ مُدـ.ـمرة.. ساق الله لهم من يمشي في قضاء حاجتهم، وهُم الذين لم يُظهروا حاجتهم إلا لوجهه الكريم.. بل إن أُمهم كانت تقول لي: "يقيني بالله كبيرٌ أنه لن يُضيّعنا أبداً".. عندما انتهت زيارتي لهم وهَمَمْتُ بالخروج، إذ بي أسمع الأُم تقول: "يخطر على بالي الزيتون"، فتذكرتُ الرؤية، وأن الزيتون قد ذُكِر فيها، فقررتُ أن أعود للعربات الثلاث لأشتري زيتوناً للأُم.

وكانت المفاجأة عند عودتي للسوق لشراء الزيتون؛ إذ لم أجد أية عربةٍ من تلك العربات الثلاث، وكلما سألتُ أحدهم أين ذهبت تلك العربات التي كانت تبيع الأُرز والزيت والسُكر؟! تعجبوا من سؤالي وقالوا لي: "لا توجد أية عربةٍ تبيع هذه المواد هنا، بل إن الكثير من المواد الغذائية مقطوعةٌ تماماً منذ فترةٍ طويلة"! بحثتُ بالسوق حتى وجدتُ محلاً يبيع الزيتون؛ فاشتريتُ منه وعُدتُ إلى الأُم المُقعدة وأبنائها، وأنا على يقينٍ بأن هذه الأُسرة بينها وبين الله شيءٌ عظيم.

 

أحبتي في الله.. إنها عناية الله بهذه الأُسرة، لِمَ لا وقد كان أبوهم قد استودعهم الله، وتركهم في ودائع الرحمن، قبل غيابه عنهم، ومن كان وديعةً عند الله لا يضيع أبداً؛ فمن اليقين القول: (عند الله لا تضيع الودائع).

 

يُذكرني هذا بموقفٍ حكاه أحد الآباء قال فيه: قبل عدة أسابيع كنتُ خارجاً من المسجد ومعي أبنائي الصغار، فانطلق أصغر واحدٍ منهم يجري في اتجاه المنزل، وكان هناك شارعٌ يفصل بين المسجد والمنزل، وهذا الشارع تمر به السيارات؛ فخفتُ على ابني الصغير أن تصدمه سيارةٌ من السيارات المارة؛ فرفعتُ صوتي أُحذره من السيارات وأنا أقول له: "ثامر.. انتبه السيارات.. انتبه السيارات".. لكن ابني كان ينطلق بسرعةٍ، وتأكدتُ في تلك اللحظة أنه لن يتوقف عن الجري.. فوفقني الله إلى أن أقول وبصوتٍ عالٍ: "أستودعتك الله"، والله -الذي لا إله إلا هو- ما إن انتهيتُ من قول تلك الجملة إلا وسمعتُ صوت فرامل سيارةٍ، وإذا ابني يقف أمام مُقدمة السيارة ليس بينها وبين دهسه إلا شعرةٌ؛ سارعتُ إلى الإمساك به وضمه إلى صدري وتهدئة مخاوفه، ثم عندما وصلنا إلى المنزل كان أول شيءٍ فعلته هو أن سجدتُ لله سجدة شكرٍ أن حفظ ابني، وأن سددني ووفقني للنُطق بكلمات الاستوداع.

 

عن حِفظ الله يقول تعالى: ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾. وسمى الله عزّ وجلَّ نفسه بالحفيظ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾، يقول المفسرون إن الحفيظ هو الحافظ، يحفظ السموات والأرض وما فيهما، وهو الذي يحفظ عباده من المهالك ويقيهم مصارع السوء؛ كما في قوله سبحانه: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: بأمره. ويحفظ أولياءه فيعصمهم ويحرسهم عن مكايدة الشيطان، ليسلموا من شره وفتنته، ويلطف بهم في الحركات والسكنات. إن الله تعالى لم يُسْتَودَعْ شيئاً قط إلا حفِظه، كما استودعتْ أُم موسى موسى، وكما استودع يعقوبُ يوسفَ، ودائع الله لا تضيع في السماوات ولا في الأرض؛ إذ أن (عند الله لا تضيع الودائع).

 

وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ أَنْ يُوَدِّعَ الجَيْشَ قال: [أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ، وَأَمَانَتكُم، وَخَوَاتِيمَ أَعمَالِكُمْ]. كما كان عليه الصلاة والسلام يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَراً: [أَسْتَوْدِعُ اللَّه دِينَكَ، وَأَمانَتَكَ، وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ]. ورد في شرح الحديث أن الاستيداع هو برجاء حُسن الخاتمة؛ لتكون العاقبة مأمونةً في الدُنيا والآخرة، وأن تكون الأعمال مختومةً بخير؛ فالأمر يشمل الدين والأمانات. وكل شيءٍ يحتاج الإنسان إلى حفظه، فإنه يسأل الله عزَّ وجلَّ ذلك، وهو في حق المُسافر أولى؛ لأن في السفر مشقةً وخوفاً، وهما سببان من أسباب إهمال بعض أمور الدين، والتقصير في بعض العبادات، والله عزَّ وجلَّ يحفظ على المؤمن دينه، ويحول بينه وبين ما يُفسده عليه.

ويوجهنا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: [مَن أرادَ أن يسافرَ، فليقُلْ لِمَن يُخلِّفُ: أستودعكم اللَّهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعُهُ]

أي يقول لِمَن يُخلِّفُ: أي لمن يتركهم وراءه، أستودعُكَم اللَّهَ: أي جعلتكم في حفظ الله وأمانته. وفي الحديث يحثّ صلّى الله عليه وسلّم المُسافر على الدُعاء لأهله وأحبابه عند سفره، فيجعلهم وديعةً عند الله تعالى، وهو سُبحانه خير الحافظين للودائع والأمانات. وكان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه إذا عزموا على سفرٍ: [أستودِعُكَ اللهَ الذي لا يُضيِّعُ ودائِعَهُ]، وهذا يدل على مشروعية التوديع بهذه الألفاظ، وأن الله يحفظ ما استودعه. ويقول صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ إذا استُودِعَ شيئًا حفِظَه]، وفي هذا تأكيدٌ على أن حفظ الله يشمل كل شيء؛ فإذا دعاه عبده بحفظ شيءٍ، وجعله وديعةً عنده، حفظه لصاحبه الذي استودعه عنده؛ فالله تعالى هو خير الحافظين.

 

يقول العلماء إن استيداع العبد لربه شيئاً هو دعاءٌ، والدعاء عبادةٌ لله تعالى، وهو سببٌ من أعظم أسباب حصول المطلوب، وقد يُقدِّر الله تعالى له إجابة دعائه، بحسب ما دعا، وقد لا يُقدِّر الله له إجابة تلك الدعوة بعينها؛ لكن متى أخلص العبد دعاءه لربه، فإنه يظفر من ذلك بأجر العبادة والإخلاص لله، ثم إن الله تعالى لم يضمن لعباده أن يُعجِّل لهم كل شيءٍ دعوه به، بل أمْرُ ذلك إلى الله؛ فإما أجابهم، وإما ادخر لهم من الخير ما يوافي ذلك، وإما صرف عنهم من الشر ما يكافئه؛ شريطة ألا يُعجِّل العبد على ربه، ولا يستحسر؛ قال النَّبِيَُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

 

أحبتي.. (عند الله لا تضيع الودائع) عبارةٌ علَّق عليها أحد العلماء بقوله: استودعوا الله كلّ ما تُحبّون، اجعلوا كلّ ثمينٍ وغالٍ في قلوبكم في ودائع الله عزَّ وجلَّ، استودعوه عائلاتكم وأحبابكم وأحلامكم وأسراركم وأوطانكم، اسألوا الله أن يحفظها لكم دوماً، فهو خيرُ من حَفِظ، وأجلُّ من اؤتمن، وأعظم من استُجير به. استودعوا الله سلامة قلوبكم، ويقينكم وإيمانكم، ودينكم؛ فمن حَفِظَ الله تعالى له دِينه وسلامة قلبه حتى يلقاه سَلِم وأَمِن. سلّموا الله بيقينٍ كلّ ما لا تقوى أرواحكم على فراقه، صغيراً كان أم كبيراً، دعوه للخالق وأبشروا بالحفظ، اجعلوا كلّ شيءٍ تُحبونه وسكن قلبكم في ودائع الله، فودائع الله لن تضيع أبداً.

اللهم إنا نستودعك أنفسنا وأهلنا وأبناءنا وأحباءنا، ونستودعك ديننا وأماناتنا وخواتيم أعمالنا، ونستودعك اللهم دُنيانا التي فيها معاشنا. فاحفظ اللهم لنا ما استحفظناك، إنك سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾.

https://bit.ly/3O6qTkq

الجمعة، 8 نوفمبر 2024

سُبحانه يُدبر الأمر

 

خاطرة الجمعة /472

الجمعة 8 نوفمبر 2024م

(سُبحانه يُدبر الأمر)

 

يقول مَن رَوى القصة: كُنا في شهر رمضان المبارك، وقررنا -أنا وصديقٌ لي- أن نذهب إلى شاطئ البحر، في نُزهةٍ بعيدٍة نتناول السحور هناك، ثم نُصلي الفجر، ونبقى نُسبح حتى موعد شروق الشمس؛ فنُراقب كيف تبدأ الشمس في نشر أشعتها الذهبية على مياه البحر في صورةٍ بديعةٍ، ثم نعود من حيث أتينا. كان الطريق الموصوف لنا للوصول إلى ذلك المكان أبعد مما كُنا نظن، واستغرق وقتاً أكثر مما كًنا نعتقد؛ فأدركنا أذان الفجر في الطريق قبل وصولنا لمقصدنا، فتوقفنا وصلينا الفجر، وترددنا؛ هل نعود، أم نُكمل حتى نصل إلى وجهتنا؟ وجدنا أنفسنا نميل إلى المواصلة، وكأننا كُنا مدفوعين إلى ذلك؛ فواصلنا مسيرنا حتى بلغنا الموقع، فترجلتُ وصاحبي من سيارتنا، وتمشينا قليلاً فإذا بسيارةٍ قريبةٍ، بها عائلةٌ كاملةٌ، قد تعلقت في الرمل مُنذ مُنتصف الليل، وكأنما كانوا ينتظروننا؛ فقد جاؤوا مُسرعين يطلبون المُساعدة. لم يكن الأمر صعباً فقد تيسر لنا سحب سيارتهم في دقائق معدودةٍ، ولم نتركهم إلا وقد انطلقوا بسيارتهم. مكثنا بعد ذلك لوقتٍ قليلٍ، لم ننتظر شروق الشمس، وقررنا العودة.

في الطريق تعجبتُ مما حصل؛ فقد خرجنا في وقتٍ ليس من عادتنا الخروج فيه للنزهة، واخترنا موقعاً للنزهة لم نقصده من قبل، والغريب أننا رجعنا قبل الوقت المُحدد لرجوعنا وهو شروق الشمس! تدبرتُ ما حدث؛ فلم أجد سوى أن الله (سُبحانه يدبر الأمر) جعلنا سبباً لإنقاذ تلك الأسرة.

 

أحبتي في الله.. نعم إنه تدبير الله العزيز الحكيم، المُطلع على أحوال عباده، المجيب لدعائهم؛ فلربما كان لأحد أفراد تلك الأسرة دعوةٌ دعاها واستجاب لها الله سُبحانه وتعالى؛ فأرسلنا لهم كي نكون سبباً في إنقاذهم مما كانوا فيه.

نحن في أشد الحاجة لتعظيم اليقين في قلوبنا بأن لا شيء في هذه الحياة اسمه صدفةٌ، وإنما هو (سُبحانه يدبر الأمر).

 

تصديقاً لذلك هذا شخصٌ آخر يحكي لنا حكايته؛ فيقول: كان لديّ صديقٌ يعيش في محافظةٍ أخرى، علمتُ أنه مريضٌ، فقررتُ أن أعوده، وأنا أعلم كم لعيادة المريض من ثوابٍ عظيم. كانت تكلفة المواصلات التي سأحتاجها للعودة إلى منزلي أربعين جنيهاً، ولم يكن في محفظتي وقتها سوى خمسين جنيهاً، تكفي لركوب مواصلتين للعودة إلى المنزل. ركبتُ أول حافلةٍ، وعندما أوشكتُ على دفع الأجرة، فوجئتُ بظهور صديقٍ لي لم أره منذ خمس سنواتٍ يركب في ذات الحافلة، أصرّ على دفع الأجرة لي، عانقنا بعضنا وتبادلنا الأحاديث حول أمور الحياة حتى وصلتُ إلى محطتي التي أركب منها الحافلة الثانية، عندما هممتُ بركوب الحافلة، إذا بشخصٍ -يقف بسيارته بجوار الحافلة- يُناديني؛ نظرتُ إليه، فإذا به جاري الذي يسكن معنا في نفس المنزل، رآني فطلب مني الركوب معه؛ فهو عائدٌ إلى المنزل، ركبتُ معه، وأنا أتعجب مما حدث! أنزلني أمام المنزل ثم تركني وذهب للبحث عن مكانٍ يترك سيارته فيه. وبينما كنتُ واقفاً، تلقيتُ مكالمةً من زوجتي تُخبرني بأن دواءها قد نفد، وهي بحاجةٍ ماسةٍ له، شعرتُ بالانزعاج، ورفعتُ بصري إلى السماء، داعياً الله: "يا رب، أنت تعلم ظروفي، ليس معي الآن سوى خمسين جنيهاً". ذهبتُ إلى الصيدلية لأشتري الدواء؛ فتفاجأت بأن سعر عُلبة الدواء قد زاد وصار يبلغ 200 جنيه، ولأن العُلبة تحتوي على أربعة شرائط فقد طلبتُ من الصيدلي شريطاً واحداً، أخذتُه وكنتُ أسأل نفسي: "كيف كنتُ سأُدبِّر أمر دواء زوجتي لو أنني كنتُ قد دفعتُ ثمن المواصلات؟" لقد أيقنتُ أن الله (سُبحانه يُدبر الأمر). وعلى الرغم من سعادتي لأنني تمكنتُ من شراء الدواء لزوجتي، إلا أنني كنتُ أفكر في الطعام الذي سنأكله في اليوم التالي، حيث أنني صرفتُ كل ما معي. وبينما كنتُ عائداً إلى المنزل، رنَّ هاتفي، وإذا بأحد العملاء الذين ألغوا مشروعاً كنتُ سأقوم بتنفيذه له قبل ثلاثة أشهر، يُقرر استكمال المشروع، ويعدني بإرسال أول دفعةٍ من الحساب لي في الصباح! لم أتمالك شعوري؛ ووجدتُ نفسي أبكي من عناية الله عزَّ وجلَّ بي وكرمه معي، وتدبيره لأمري. عندما فتحت لي زوجتي باب الشقة، لاحظت أن عينيّ مغرورقتين بالدموع؛ فسألتني بدهشةٍ: "لماذا تبكي؟" لم أستطع الرد إلا بقولي: "هذا هو شريط الدواء، وغداً بإذن الله ستصلك العلبة كاملة".

 

يقول أهل العلم إن عبارة ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ تكررت في كتاب الله أربع مراتٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾. ويقول جلَّ جلاله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.

 

يقول المفسرون في معنى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ إن الله (سُبحانه يُدبر الأمر) لجميع المخلوقات، في السماوات وفي الأرض، وهو يُحكم الأمر، ويوجد الأشياء على هذا النحو الحكيم الذي نُشاهده؛ فالله-تبارك وتعالى- هو الذي يُدبِّر شئون الدنيا وشئون جميع خلقه إلى أن تقوم الساعة، وهو الذي يجعلها على تلك الصورة المُحكمة والبديعة المُتقنة.

 

يقول الشاعر:

لا الأمرُ أَمْري وَلا التَّدْبيرُ تَدْبيري

وَلا الشُّؤونُ التي تَجْري بِتَقْديري

لِي خَالِقٌ رازِقٌ ما شاءَ يَفْعَلُ بي

أَحاطَ بي عِلْمُهُ مِنْ قَبْلِ تَصْويري

 

أحبتي.. أختم بعباراتٍ مُعبرةٍ لأحد العُلماء؛ كتب يقول: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ ذكِّر بها قلبك كلما خشيتَ أمراً أو اعتراك هَمٌ أو أصابك كربٌ، فإن أيقنتَ بها اطمأنت روحك، وكفى بربك هادياً ونصيراً. إن الله يعلم كل شيءٍ في صدرك، يعلم كل شيءٍ تتعثر في التعبير عنه، ﻻ تقلق، فقط قُل "يا رب" يُدبِّر أمرك ويُصلح حالك ويعتني بشؤونك، ويكشف عنك غمك، ويُسخِّر لك من تُحب، ويفتح لك أبواباً مُغلقةً، ويُعوضك ما كان فَقْدُه يُؤلم قلبك. ثِقْ بالله؛ فاﻷمر الذي يؤرقك، والشيء الذي تتوجس منه، يُدبِّره الله، كُن مطمئناً وﻻ تقلق. أتظن أن الله لا يعلم الأمنية التي تسكن زاوية قلبك؟ حاشاه!! رب العزة يعلمها، ولكن يُدبِّر لك الأمر حتى تأتيك أمنيتك في الوقت المناسب. لا تجزع إن لم يتحقق لك أمرٌ أنت راغبٌ فيه؛ مع الوقت ستُدرك أنه لم يكن خيراً لك؛ فعندما يُغلق الله من دونك باباً تطلبه فلا تحزن وﻻ تعترض؛ فلربما الخير لك في غلقه، وثِقْ أن باباً آخر سيُفتح لك يُنسيك همك الأول، وقتها ستُدرك معنى قوله تعالى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ هذه الآية كفيلةٌ بأن تُضفي على نبضك هدوءً وخشوعاً مهما ضاقت بك الدنيا.

اللهم لا تدعنا لأنفسنا طرفة عينٍ فإنا لا نُحسن التدبير، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. دبر اللهم لنا أمورنا كلها؛ فأنت سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/4hHshHC

الجمعة، 1 نوفمبر 2024

ارحموا من في الأرض

 

خاطرة الجمعة /471

الجمعة 1 نوفمبر 2024م

(ارحموا من في الأرض)

 

يقول رجلٌ فاضلٌ: رأيتُ شاباً يُصلي على يساري ونحن نُصلي صلاة العشاء بالمسجد، وعقب انتهاء الصلاة صافحني بحرارةٍ ومودةٍ، لمحتُ في عينيه طِيبةً مُختلطةً بالحُزن والأسى، أحسستُ بأن بداخله شيءٌ يُريد أن يبوح به لي، عرَّفني بنفسه دون أن يذكر اسم أبيه، برغم أنني اكتشفتُ بعد ذلك أنني أعرف أباه. كان طالباً يَدْرُس بالجامعة، تبدو عليه ملامح النبوغ والتفوق برغم إعيائه الشديد، ومن باب الأدب مع أبيه أخفى عليّ اسم أبيه حرصاً على عدم تشويه صورة أبيه عند من يعرفه. قال لي الشاب في نبرةٍ مليئةٍ بالحُزن والانكسار: "طردني والدي من البيت منذ أُسبوع!"، سألتُه: "لماذا؟"، فأجابني: "لأنه قاسٍ، عفواً يا عمي، أعلم أنه أبي، وله فضلٌ كبيرٌ عليَّ، فاعفني من ذِكر اسمه، لأنك تعرفه وهو يعرفك، ولكن مهما وصفتُ لك قسوته فلن يصل وصفي إلى الحقيقة؛ فقسوته تمتد إلى أُمي وجميع إخواني وأخواتي، ليس لديه لغةٌ سوى الشتم والسب والإهانات والضرب والطرد، وكثيراً ما يحبسنا في غُرفةٍ مُنعزلةٍ فوق سطح البيت، ويُغلق علينا بابها، وبرغم هذه القسوة -وخاصةً عندما كان يحبسنا ونحن أطفالٌ صغارٌ ولا يرحم بكاءنا البريء- فإني ووالدتي وإخوتي وأخواتي نُقدِّره ونحترمه، لكنني أشعر بأن رصيده من الحُب في قلبي يتناقص، وخاصةً عندما يُهين أُمي ويشتمها ويضربها أمامي برغم أنني كبرتُ وصرتُ أدرس بالجامعة. لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي وإخوتي وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف يُطلِّق والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد طردني والدي، وحرمني من رُؤية والدتي وإخوتي وأخواتي، وهددهم وهددني بأنه إذا اكتشف اتصالي بهم أو رؤيتي لهم فسوف يُطلِّق والدتي، ويطرد بقية إخوتي وأخواتي! لقد بدأتُ أشعر بالنفور من أبي، وفي الوقت ذاته أنا حريصٌ على بِره وطاعته، إرضاءً لله وخشيةً منه، مما جعلني أعيش صراعاً نفسياً يكاد أن يُمزقني، ولا أدري ماذا أفعل؟ كيف أبر والدي وهو يحول بيني وبين رؤيته؟ وكيف تراني أُمي التي تتقطع شوقاً لرؤيتي وأنا مطرودٌ خارج البيت؟! وهي تسأل: {هل يجوز لها أن تراني دون علم أبي؟ وهل في ذلك خيانةٌ كما قال أبي؟ وكيف توفق بين طاعة زوجها والتواصل مع ابنها الذي تشتاق لرؤيته ولا تتحمل فراقه؟}".

سألتُ الشاب: "وأين تنام الآن؟ وكيف تعيش؟"، فأجابني: "أنام حيناً عند بعض أصدقائي، لكنني إن نمتُ ليلةً عند أحدهم لا أُريد أن أُثقل عليه أكثر من ليلةٍ، فأبحث عن ملاذٍ آخر، وقد بِتُ ليلتين تحت سُلّم في مدخل عمارةٍ، وكنتُ أحرص ألا يراني أحدٌ؛ كي لا يحسبني لِصّاً، كما عانيتُ في هاتين الليلتين من قسوة البرد، وفي كل ليلةٍ كنتُ أتصل بوالدي وأتوسل إليه أن يردني، وأشكو إليه شدة البرد، وأنا أرتجف ولكن قلبه لم يَرقّ لي، فكنتُ أطلب وساطة بعض مَن أتوسم أنهم يؤثرون فيه كأعمامي أو عماتي أو بعض أصدقائه، فكان يرفض وساطتهم بشدةٍ، ويُعنفني ويوبخني ويتوعدني بالعقاب؛ لأنني -على حد قوله- أُقحمهم في أمورنا الخاصة، وأكشف لهم أسرار بيتنا!"، قلتُ له: "الزم بِر والدك مهما صنع؛ وعامله بالحُسنى، عسى أن يَرقّ قلبه، وأكثِر من الدعاء له بالهداية، ولا تيأس من التودد إليه، واختر رجلاً من الحُكماء المؤثرين الذين يحفظون أسرار البيوت ويمتلكون مهارات التأثير واجعله وسيطاً بينك وبين أبيك، فربما الأعمام أو العمات لا يمتلكون هذه القُدرات حتى وإن لم يستجب والدك لهذا الوسيط، فلا تيأس، وبادِر بالرجوع إلى البيت، وتحمَّل ما تلقاه من أبيك واستعدّ لذلك بالصبر، وأظهِرْ له منك كل قولٍ حسنٍ وتعاملٍ راقٍ، واضرب على أوتار عواطفه، كأن تقول له: {أنا ابنكَ يا أبي، وليس لي في حياتي أَحبَ منكَ، لو كنتُ تدري كيف كنتُ أنام في الأيام الماضية لما تركتني خارج البيت لحظةً} وتحكي له ما عانيتَه، وعاهده على طاعته وإرضائه -طبعاً فيما لا يختلف مع شرع الله عزَّ وجلَّ- واستعن بذِكر الله تعالى والدعاء، وتذكَّر بلاء الناس عسى أن يُخفف الله عنكَ بلاءك.

أنا أُدرك يا بُني نفسية الشخصية القاسية، وأعلم أنه لا يُعير الآخرين اهتماماً، ولا يُقدِّر إنسانيتهم، ولكنك إذا ذكَّرتَ نفسكَ بأجر الصبر على والدك وبِره رغم قسوته لبادرتَ إلى ذلك ولسارعتَ، ولوجدتَ في ذلك لذةً في تلك الطاعة التي تحتسبها عند ربك، وترجو ثوابه وأجره العظيم، واعتبر ذلك بلاءً واصبر عليه".

وقلتُ له أما عن أسئلة والدتك؛ فأقول لها: "اصمدي فأنتِ على الحق، ولن يُخيِّب الله جهدكِ، ولن يُضيِّع أجر صبرك، كوني شامخةً للحفاظ على أولادكِ، ولا بأس أبداً من أن يراكِ ابنكِ المطرود من البيت، وأن تحظي برؤيته دون علم أبيه، وليس في ذلك حرجٌ شرعيٌ، ولا تُثيري هذه القضية مع زوجكِ القاسي؛ لأن ذلك سيُسبب لك مُشكلاتٍ. احرصي على ضبط المعادلة العاطفية مع أولادكِ -وخاصةً البنات- فكثيرٌ من الآباء يُخطئ عندما يقسو على أولاده وزوجته، ويستقي ذلك من ميراثه الاجتماعي الذي عاشه في أُسرته الأولى، ظناً منه أنه بهذه القسوة سيُحافظ على زوجته وأولاده من الانحراف، وهو في الوقت ذاته يملك قلباً رقيقاً حنوناً، ولكن ذلك قد يأتي بنتائج عكسيةٍ؛ فكثيرٌ من الأبناء والبنات عندما تُتاح لهم الفرصة خارج البيت للحصول على الحُب والعاطفة واللين التي افتقدوها في البيت فإنهم يقعون في المحظور، وكثيرٌ من الخيانات الزوجية، والانحرافات السلوكية للأبناء والبنات يكون سببها قسوة الزوج والأب، فاحرصي أيتها الأُم العظيمة على منح أبنائكِ وبناتكِ حُباً يُعوِّض قسوة هذا الأب المُتسلط؛ حتى تحميهم من الانحراف، واصبري ولك الأجر العظيم من رب العالمين. يُمكن أن تُوسطي مَن يؤثر فيه مِن الحكماء أو الدُعاة أو المُصلحين دون أن يُعْلِمَه بأنكِ طلبتِ وساطته؛ لأن الشخصية المتسلطة القاسية لا يهمها إلا مصلحتها الشخصية، ولا يُقدِّر الآخرين وخاصةً أفراد أسرته، وأكثِري من الدُعاء له بالهداية، فكثيرٌ من الأزواج والآباء القُساة يظنون أنهم بقسوتهم هذه سيحمون أُسرتهم، وربما يحملون -رغم قسوتهم- قلوباً رحيمةً ودودة".

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الرحمة في أبسط معانيها، أن تملك قلباً رقيقاً عطوفاً ودوداً مُحباً للآخرين، وما كان رسولنا العظيم لينجح في إيصال رسالته -رغم ما لاقاه من تعنتٍ وصدود- إلا لكونه يملك قلباً رحيماً؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، ومن أجل الرحمة بالعالمين أرسله الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمونَ يرحمُهُمُ الرَّحْمَنُ. ارحَموا مَن في الأرضِ يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ منَ الرَّحمنِ فمن وصلَها وَصَلَهُ اللَّهُ ومَن قَطَعَها قَطَعَهُ اللَّهُ]. يقول شُرَّاح الأحاديث: "الرَّاحِمونَ"، الذين يرحمون مَن في الأرض مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيره؛ شفقةً ورحمةً ومواساةً. "يرحمُهُمُ الرَّحْمَنُ"، برحمته التي وسعت كل شيءٍ، فيتفضل عليهم بعفوه وغُفرانه وبِره وإحسانه، فالله عزَّ وجلَّ مُتصفٌ بالرحمة، وهو سُبحانه الرحمن الرحيم، الموصل الرحمة إلى عباده. (ارحموا من في الأرض)، أي: جميع مَن في الأرض مِن أنواع الخلق. "يَرْحَمْكُم مَن في السَّماءِ"، وهو الله تعالى العلي بذاته، المُستوي على العرش فوق سماواته. "الرَّحِمُ شُجْنَةٌ"، الشجنة في الأصل: عروق الشجر المشتبكة، والمُراد بها القرابة المشتبكة كاشتباك العروق؛ فمن الرحم جاءت الرحمة. "فمن وصلها"، أي: الرحم. "وَصَلَهُ اللَّهُ"، أي: أوصل الله إليه رحمته وإحسانه وإنعامه. "ومَن قَطَعَها"، أي: الرحم، "قَطَعَهُ اللَّهُ"، أي: قطع الله عنه الرحمة والإحسان والإنعام.

 

ويقول العلماء عن الرحمة والتراحم: أكثر ما يحتاج له الناس هذه الأيام هو التراحم فيما بينهم، فالرحمة والتراحم أجمل شيءٍ في الحياة، لو دخلت قلوبنا وأدخلناها في حياتنا وبيوتنا صلُحت أمورنا كُلُّها. والتراحم هو وصفٌ للمجتمع المسلم، وصف الله به أهل الإيمان؛ يقول تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. كما أنها مخرجٌ مما نحن فيه من الهموم والمصائب والأزمات، وملجأٌ من الغموم والفتن والنكبات. والمُجتمع المُسلم كله يقوم على الرحمة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]. والله عزَّ وجلَّ أرحم الراحمين؛ فهو الرحمن وهو الرحيم، لو فتح سُبحانه باب رحمته لأحدٍ مِن خَلقه، فسيجدها في كل شيءٍ، وفي كل موضعٍ، وفي كل حالٍ، وفي كل مكانٍ، وفي كل زمانٍ، فرحمته وسعت كل شيءٍ، كما أنه لا مُمسك لرحمته؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ﴾. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة؛ فقد كان أرحم الناس؛ وهبه الله قلباً رحيماً، يرق للضعيف، ويحن على المسكين، ويعطف على الخَلق أجمعين. ومن علامات سعادة العبد أن يكون رحيم القلب؛ فالرحيم أولى الناس برحمة الله، وهو أحب الناس إلى الناس، والأقرب إلى قلوبهم، وهو الأحق بالجنة لأنها دار الرّحمة لا يدخلها إلّا الرّاحمون؛ يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ]. أما حين تنعدم الرحمة من القلوب فإنها تُصبح مثل الحجارة أو أشد قسوةً؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إن أبعدَ الناسِ من اللهِ القلبُ القاسِي]، أي: ذو القلب القاسي. ويقول صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلا مِن شَقِيٍّ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [خَابَ عَبْدٌ وَخَسِرَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْبَشَرِ]. إن هذه القسوة التي تُصيب القلوب هي في حقيقتها عقوبةٌ من الله تعالى لبعض عباده جزاء ما اقترفوه؛ قال أحد التابعين: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قومٍ إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

 

وعن معنى (ارحموا من في الأرض) قال الشاعر:

إِنْ كُنتَ لَا تَرحَمُ المِسكِينَ إِنْ عَدِمَا

وَلَا الفَقِيرَ إِذَا يَشكُو لَكَ العَدَمَا

فَكَيفَ تَرجُو مِنَ الرَّحمَنِ رَحمَتَهُ

وَإِنَّمَا يَرحَمُ الرَّحمَنُ مَنْ رَحِمَا

 

أحبتي.. لا أجد وصفاً لبيان كيف يُلزم كلٌ منا نفسه بمبدأ (ارحموا من في الأرض) أفضل مما ذكره عالمٌ فاضلٌ بقوله: كُن رحيماً مع جميع الخلق، لطيفاً مع كل عباد الله، وإن لم تستطع نفع إنسانٍ فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، وإن لم تقف معه فلا تُعِن عليه، وإن لم تفرح بنعمته فلا تحسده، وإن لم تمنحه الأمل فلا تُحبطه. لا تكن جاف المشاعر، قاسي القلب، ولكن كُن رحيماً فالراحمون يرحمهم الرحمن، وبقدر الرحمة التي تُعطيها لمخلوقات الله من بشرٍ وحيوانٍ وطائرٍ ونباتٍ وجمادٍ يرحمك ربُ الأرض والسموات، في الدنيا والآخرة.

اللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك؛ فكما يقول الحبيب المُصطفى عليه الصلاة والسلام: [ليس آدَميٌّ إلَّا وقَلبُه بين أُصبَعَينِ مِن أصابعِ اللهِ]؛ فليكن دعاؤنا: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾، وأنعِم علينا بصفتيّ: الرحمة واللين، وانزع من قلوبنا الفظاظة والغلظة والقسوة؛ إنك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3NQhU6C