الجمعة 12 مايو 2017م
خاطرة الجمعة /٨٣
(المزارع والملياردير)
مع بداية شهر رجب الماضي كنا قد بدأنا حملة جديدة
لجمع تبرعات لاستكمال إنشاءات وتجهيزات مسجد العنود بنت عبد الرحمن بعزبة الهجانة
بالقاهرة. قارئةٌ فاضلةٌ اطلعت على المنشور الخاص بتلك الحملة ثم أرسلت تسألني:
"هل يجوز التبرع لهذا المسجد من أموال الزكاة؟".
لم أتسرع في الإجابة عن السؤال، ورجعت إلى أهل
العلم فكان رأيهم أن الزكاة لها مصارف معينة قد بينها الله تعالى في كتابه الكريم
في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ
وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، بذلك تكون قد تحددت مصارف الزكاة، في ثمانية:
الأول: الفقراء، وهم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما
يكفي لسد حاجاتهم الأساسية، على ما جرت به العادة والعرف. وهم من لا يملكون
مالاً ولا كسباً حلالاً. الثاني: المساكين، وهم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما
يكفي لسد حاجاتهم الأساسية، على ما جرت به العادة والعرف، وهم يملكون أو يكتسبون
من الكسب اللائق ما لا تتم به الكفاية. الثالث: العاملون عليها، وهم كل من يقوم
بعملٍ من الأعمال المتصلة بجمع الزكاة وتخزينها وحراستها وتدوينها وتوزيعها.
الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم حديثو العهد بالإسلام ليس في إيمانهم قوة، فيعطَوْن
من الزكاة ليقوى إيمانهم، فيكونوا دعاةً للإسلام وقدوةً لغيرهم، ومن ذلك تأليف من
يُرجى إسلامه، والصرف في الكوارث لغير المسلمين إذا كان ذلك يؤدي إلى تحسين
النظرة إلى الإسلام والمسلمين. الخامس: الرقاب، ليس موجوداً في الوقت الحاضر؛
لذا يُنقل سهمهم إلى بقية مصارف الزكاة حسب رأي جمهور الفقهاء، ويرى البعض أنه ما
زال قائماً بالنسبة لأسرى الجنود المسلمين. السادس: الغارمون، وهم المدينون إذا لم
يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يُعطَوْن ما يوفون به ديونهم.
السابع: في سبيل الله، وهي الأعمال التي يُحتاج إليها لنصرة الدين على منهج القرآن
والسنة وبالضوابط الشرعية للجهاد تحت راية ولي الأمر. الثامن: ابن السبيل، وهو
المسافر الذي انقطع به السفر فيعطَى من الزكاة ما يوصله لبلده.
فلا يجوز صرف الزكاة في غير هذه المصارف كبناء
مساجد، وقناطر ومدارس ونحو ذلك، وهذا هو رأي جمهور العلماء. أرسلت للسيدة الفاضلة
بهذا الرد، فتفضلت بإرسال تبرعٍ كريمٍ للمساهمة في استكمال بناء المسجد ليس من مال
الزكاة وإنما كصدقةٍ جارية.
أحبتي في الله .. شدني موضوع الزكاة فأحببت أن
أشارككم بعضاً مما قرأت عنه، يقول العلماء أن الزكاة فريضةٌ من فرائض الإسلام، وهي
أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة، دل على وجوبها كتاب الله تعالى؛ قال
تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾، وسنة رسوله؛ قال عليه الصلاة
والسلام: [بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَان].
فالزكاة ركنٌ من أركان الإسلام، ودعامةٌ من دعائم
الإيمان، من بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين المستحقين لعقوبة الله؛
قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
ومن الزكاة ما هو على المال، ومنها ما هو على
الذهب والفضة، وما هو على عروض التجارة، وعلى الزروع، وغير ذلك، بشروط ومقادير
محددة مشروحة بالتفصيل في كتب الفقه.
يقول أهل
العلم أن الزكاة حارسٌ على الأموال وعلى أصحابها، فإذا شبع الجائع، واكتسى العاري
عم الأمن والسلام، إنها تطبع الفرد على حب البذل والسخاء، وتغرس في المجتمع بذور
التعاون والإخاء.
والمال مال الله، والغني مُستخلفٌ فيه، والفقراء
عيال الله، وأَحَّبُ خلفاء الله إلى الله أَبَّرُهم بعياله؛ قال تعالى:
﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾. فالزكاة فريضةٌ لازمةٌ
يُكفَّر جاحدها، ويفسق مانعها، إنها ليست تبرعاً، يتفضل به غنيٌ على فقير، إنها
واجبٌ شرعي.
إن الالتزام بأداء فريضة الزكاة يُغني الأمة ويغني
أفرادها؛ رُوي أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث معاذاً بن جبل رضي الله
عنه إلى اليمن أميراً عليها، فبعث معاذ إلى عمر بثلث الزكاة، فأنكر ذلك عمر، وقال
له: "لم أبعثك جابياً، ولا آخِذَ جزيةٍ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس
فتردها على فقرائهم"، فقال معاذ: "ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد أحداً
يأخذه مني". فلما كان العام الثاني بعث إليه بنصف الزكاة فتراجعا بمثل ذلك.
فلما كان العام الثالث بعث إليه بالزكاة كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل ذلك،
فقال معاذ: "ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً".
كما قِيل: "ما مات عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه، وقد وُلِّيَ الخلافة ثلاثين شهراً فقط، حتى صار الرجل يأتينا بالمال
العظيم فلا نجد من يأخذه".
ولقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخير
العميم فقال: [تَصَدَّقُوا فإِنَّهُ يَأتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ
بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ
بِهَا بالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فأمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لي بِهَا].
ذكرني الحديث عن الزكاة بقصتين: (المزارع
والملياردير).
فأما قصة (المزارع) فهي تبين أن الزكاة تحافظ على
المال وتنميه؛ فهذه قصةٌ ﻭﻗﻌﺖ
بالفعل في إحدى القرى السورية ﺑﺄﻭﺍﺧﺮ
ﻋﻬﺪ ﺍﻷﺗﺮﺍك
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻠَّﻂ
ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺍﻟﺠﺮﺍﺩ ﻋﻠﻰ ﺯﺭﻭﻉ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺣﺘﻰ ﻟﻢ ﻳﺒقَ ﻋﻮﺩٌ
ﺃﺧﻀﺮٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ. ﻓﻘﺪ هجم الجراد على المزارع ﺑﺄﻋﺪﺍﺩٍ ﻛﺒﻴﺮﺓٍ
ﺟﺪﺍً حتى أنه كان يشكل ﺳﺤﺎﺑﺔً ﺗﺤﺠﺐ ﻧﻮﺭ
ﺍﻟﺸﻤﺲ عند ﻃﻴﺮﺍﻧﻪ
ﻭﺍﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻥٍ ﻵﺧﺮ. بدﺃ الجراد ﻳﺄﻛﻞ ﺍﻷﺧﻀﺮ ﻭﺍﻟﻴﺎﺑﺲ
ﺣﺘﻰ اﻟﺘﻬﻢ ﻟُﺤﺎﺀ ﺍﻟﺸﺠﺮ، وﺣﺪﺛﺖ
ﻣﺠﺎﻋﺔٌ ﻛﺒﻴﺮﺓٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ. ﺧﻼﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ
شكى ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻋﻴﻦ
ﻣﺰﺍﺭﻋﺎً ﻓﻲ ﺑﻠﺪﺗﻪ
وادعى أﻥ ﺑﺤﻮﺯﺗﻪ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ
ﺍﻟﻤﺒﻴﺪﺍﺕ ﺍﻟتي تقضي ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﺮﺍﺩ ﻗﻀﺎﺀً ﻣﺒﺮﻣﺎً ﻭﻟﻢ
ﻳﻌﻂِ ﻣﻨﻪ ﺃﺣﺪﺍً،
ﺃﻭ ﻳُﻌﻠﻢ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ
به ﻟﺘﺄﻣﻴﻨﻪ ﻟﻠﻤﺰﺍﺭﻋﻴﻦ، ﻭﺩﻟﻴﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﺑﺴﺘﺎنه ﺍﻷﺧﻀﺮ ﻭﺃﺷﺠﺎﺭﻩ ﺍﻟﻤﻮرقة وﺍﺭﻓﺔ ﺍﻟﻈﻼﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻢ
ﻳﻘﺮﺑﻬﺎ ﺍﻟﺠﺮﺍﺩ
قط. ﺍﻣﺘﻄﻰ ﻀﺎﺑﻂ
الشرطة ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻝ ﺣﺼﺎﻧﻪ ﻭﺗﺒﻌﻪ ﻋﺪﺩ ﻣﻦ
ﺍلجنود للتأكد ﻣﻦ ﺻﺤﺔ الشكوى، ﻭﺍﻧﻄﻠﻘﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، فرﺃﻯ ﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﺨﻀﺮﺍﺀ ﻭﺍﻷﺛﻤﺎﺭ ﺍﻟﻴﺎﻧﻌﺔ ﺗﻤﺎﻣﺎً ﻛﻤﺎ ﻭُﺻﻔﺖ ﻟﻪ، ﻓﻄﻠﺐ
المزارع ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭسأله:
"ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺗﻜﺘﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ
ﺍﻟﻤﺒﻴﺪ ﻟﻠجراد ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻋﻴﻦ؟
ولماذا ﻟﻢ ﺗُﻌﻠﻢ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ
به ﻛﻲ ﺗﺆﻣِّﻨﻪ ﻟﻠﻤﺰﺍﺭﻋﻴﻦ؟"،
ﻓﺄﺟﺎﺑﻪ ﻗﺎﺋﻼً: "ﺳﻴﺪﻱ،
ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ ﺍﻟﺬﻱ
أﺳﺘﻌﻤﻠﻪ ﻛﻠّﻬﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮﻧﻪ ﻭﻻ ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻮﻧﻪ"، سأﻝ الضابط المزارع: "ﻣﺎ ﻫﻮ ﻫﺬﺍ
ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ؟"، أﺟﺎﺑﻪ: "ﺍﻟﺰﻛﺎﺓ ﺳﻴﺪﻱ؛
ﺇﻧﻲ ﺃﺗﺼﺪَّﻕ ﺑﻌُﺸْﺮ
ﻣﺤﺼﻮﻟﻲ ﺳﻨﻮﻳﺎً
ﻃﻮﺍﻝ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻓﺤﻔﻈﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻲ"، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﻀﺎﺑﻂ: "ﻭﻫﻞ ﻳﻔﻬﻢ ﺍﻟﺠﺮﺍﺩ
ﻭﻳﻤﻴِّﺰ ﺑﻴﻦ
ﺑﺴﺘﺎﻥ المزكي ﻭبستان غير المزكي؟"، أﺟﺎﺑﻪ المزارع: "ﺟﺮِّﺏ سيدي، ﺃﻟﻖِ ﺍﻟﺠﺮﺍﺩ
ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺰﺭﻉ وشاهد بنفسك". ترجل ﺍﻟﻀﺎﺑﻂ ﻣﻦ
على ﺻﻬﻮﺓ ﺣﺼﺎﻧﻪ ﻭﺟﻤﻊ ﺑﻜﻠﺘﺎ ﻳﺪﻳﻪ من على الأرض عدداً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻣﻦ
ﺍﻟﺠﺮﺍد ﻭﺃﻟﻘﺎﻩ على ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﺎﻟﺠﺮﺍﺩ ﻳﺮﺗﻄﻢ
ﺑﺄﺭﺽ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﻭﺯﺭﻋﻪ ﻗﺎﻓﺰاً
ﻣﺮﺗﺪﺍً ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭﻟﻢ ﺗﺒﻖَ
ﺟﺮﺍﺩﺓٌ ﻭﺍﺣﺪﺓٌ
ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﺑﻞ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺠﺮﺍﺩ
ﻳﺮﺗﻄﻢ ﻭﻳﻌﻮﺩ
ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﻀﻢ ﻭﺭﻗﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، كرَّﺭ ﺫﻟﻚ ﺛﻼﺙ ﻣﺮﺍﺕ،
ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺓٍ ﻳﻌﻮﺩ ﺍﻟﺠﺮﺍﺩ
ﻣﻦ ﺣﻴﺚ
ﺃﺗﻰ ﻭﻛﺄﻧﻪ ﺍﺻﻄﺪﻡ ﺑﺠﺪﺍﺭ ﻣﻨﻴﻊ!
أحبتي .. ما نراه الآن من القحط، والجفاف،
والأوبئة، وانتشار الفقر، وشحُّ الأمطار، وجفاف الأنهار، وغور مياه الينابيع،
وقضاء الصقيع أو الحشرات على الزرع والكلأ، وهبوب الرياح العاتية والأعاصير تقتلع
الأشجار وتهدم البيوت، والزلازل والبراكين والسيول والفيضانات، وغيرها من ظواهر
مماثلة، هذه كلها من نتائج منع الزكاة.
قلت ذلك لأحد الأصدقاء فقال: "ما دخل الزكاة
في ذلك؟! بل هي ظواهر طبيعيةٌ لها أسبابٌ علميةٌ معروفة"، قلت له: "نعم
هي ظواهر طبيعيةٌ لها أسبابٌ علمية، لكن مَن الذي أوجد هذه الأسباب؟ إنه المولى عز
وجل؛ فهو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، وهو
القائل سبحانه: ﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا﴾. كما أنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ» كالصواعق ﴿أَوْ مِن تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ﴾ كالخسف ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ
بَعْضٍ﴾ كالعداوات المستمرٍ والحروبٍ الدائمة ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾". قلت له: تفكر صديقي في قول الله سبحانه وتعالى:
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ
مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ﴾، وفي قوله عز وجل: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ *
فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾، فالله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب، وهو
القادر على أن يحول المطر والريح، وغيرها، من خيرٍ للمؤمنين إلى شرٍ لمن يحارب
دينه ويعارض شريعته، ولنا في قوم عادٍ عبرة". قلت له: ألم تقرأ حديث النبي
عليه الصلاة والسلام: [ ... وَلاَ مَنَعَ قَوْمٌ اَلْزَكَاةَ إلاَ حَبَسَ اللهُ
عَنْهُم الْقَطْرَ]؟"، قال: "صدقت أخي، فالله سبحانه هو ﴿الْقَاهِرُ
فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، والكوارث الطبيعية هي جندٌ من
جنود الله في الأرض؛ قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا
هُوَ﴾"، ثم قال ذكرتني بقصةٍ كنت قد قرأتها عن شخص كأنه هو المقصود بالآيات
الكريمة: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن
فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا
وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ
يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾، إنها قصة
(الملياردير)، وهي قصةٌ واقعيةٌ عن نهاية ملياردير رفض دفع الزكاة، قَصَّها أحد
المسئولين بلجنة الزكاة بالسعودية. قال إن لجنة الزكاة كانت تُحصل الزكاة من كبار
الأغنياء وتنفقها كالعادة على الفقراء والمساكين وذوي الاحتياجات، وفوجئت اللجنة
بأن مليارديراً كانت تحصل منه مبلغاً بالملايين رفض دفع الزكاة، وقال للجنة أنه لن
يدفع، فأرسلنا إليه محذرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وقلنا له: "ما الذي جرى
لك؟ إن الشيطان ينزغ بينك وبين عملك الصالح فلا تستمع لصوت الشيطان، أنت تؤدي
زكواتك على الدوام فزادك الله نعيماً فوق نعيمٍ فلا تُهلك نفسك بنفسك"، فرفض
مرةً بعد مرة واستخسر أن يفرط في الملايين التي يدفعها، فزدنا في نصحه ولكنه قال:
"لن أدفع ولا يقل لي أحدٌ إن المال سيضيع وسينتهي فأنا معي مالٌ لو أراد الله
أن يفقرني فلن يستطيع". وهنا تركوه ولم يتحدثوا معه ثانيةً. وتدور الأيام
وبعد شهور قليلةٍ فقط يمرض ذلك الملياردير ويدخل المستشفى مصاباً بسخونةٍ وتوقف
درجة حرارته عند 40 درجة، واحتار الأطباء في أمره وحاولوا معه كل الحيل والحرارة
لا تنزل أبداً وهو يتوجع، فأحضروا له أطباء من الخارج وأجروا له عملية استئصال
قالوا أنه ورمٌ بجانب المرارة، ولم يحدث له أي تقدم، فجاء بآخرين وكان المستشفى
يدفع له التكاليف انتظاراً للتحصيل منه في النهاية، وتعطلت أعمال الملياردير
وشركاته فاتصلوا بنجله الشاب الذي كان قد تزوج من أمريكية وهاجر معها إلى أمريكا
ليحضر مرض أبيه فجاء الشاب ورافق أباه أسبوعين وقام الأب بعمل توكيلٍ عامٍ لابنه
لإدارة أعماله، وبعد شهرٍ واحدٍ أصاب الابن الضجر وحضرت زوجته للسعودية بطفليها
واتفقا على أن يبيعا جميع ممتلكات الأب ويعودا من حيث أتوا، وبالفعل ظنوا أن مسألة
موت الأب مسألة وقت؛ فقام الابن ببيع جميع ممتلكات أبيه من شركات ومصانع واستولى
على أرصدته بالبنوك وعاد إلى أمريكا مرةً أخرى، وبمجرد أن حدث ذلك فوجئوا بشفاء
الملياردير وكأنه لم يمرض للحظة! وطالبته المستشفى بفاتورة طويلة كان الابن قد
سافر دون أن يسددها، وفوجئ الرجل أنه قد أصبح خالي الوفاض من أي مالٍ بل وقد أصبح
مديوناً، وباتصاله بنجله قال له نجله: "إنت لسة عايش؟" وأغلق الهاتف في
وجهه، وانقطعت العلاقة بينهما، فظل الرجل يبكي بكاءً مريراً وانتبه لحاله وتذكر
قولته التي قالها، واتصل بأحد شيوخ اللجنة وبالفعل جاءه في المستشفى وعلم ما حدث
له ودعاه للتوبة من كلام الكفر الذي قاله، وقال: "دعك من مالك الذي ضاع وحالك
ومحتالك واسجد لله شكراً أن منحك فرصة للتوبة". والمفاجأة أن لجنة الزكاة قد
دفعت للملياردير فاتورة المستشفى بعد أن خفضتها إدارة المستشفى لتناسب هذا الذي
بدأ تواً رحلته في هذه الحياة المتقلبة من ملياردير إلى عبد فقير!
أحبتي .. الزكاة تطهيرٌ لنفس الغني من البخل
والشح، فلن يُفلح فرد أو مجتمع سيطر عليه الشح؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وهي تطهيرٌ لنفس الفقير من الحسد والضغن على الغني
الكانز لمال الله، والذي يمنعه عن عباد الله، فمن شأن الإحسان أن يستميل قلب
الإنسان، ومن شأن الحرمان أن يملأه بالبغض والحقد.
وهي تطهيرٌ للمجتمع كله من عوامل الهدم، والتفرقة،
والصراع، والفتن.
وهي تطهيرٌ للمال من تلوثه بتعلق حق الغير به؛ قال
صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ
شَرَّهُ].
الزكاة
بعد ذلك وسيلةٌ من وسائل الضمان الاجتماعي الذي جاء به الإسلام؛ فالإسلام يأبى أن
يوجد في مجتمعه، من لا يجد القُوت الذي يكفيه، والثوب الذي يستره، والمسكن الذي
يُؤويه.
أحبتي .. أخرجوا زكاة أموالكم، جاهدوا شح أنفسكم،
أطيعوا الله ورسوله ولا تمنعوا حق الفقراء والمساكين، لا تطيعوا أهواءكم وما يزينه
الشيطان لكم، لا تؤخروا الزكاة عن موعدها، لا تتحايلوا لتقللوا من قيمتها، لا
توزعوها إلا على مصارفها، بادروا بإخراج ما فاتكم منها عن أعوامٍ سابقة أهملتم
فيها إخراجها، وانتبهوا في حساب الزكاة أن الحول مقصودٌ به العام الهجري وليس
العام الميلادي، فمن كان منكم قد أخطأ في الحساب فليصحح خطأه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾.
اختاروا أحبتي لأنفسكم أن تكونوا واحداً من اثنين:
إما (المزارع) أو (الملياردير)، واعلموا أن الملياردير أمهله الله سبحانه وتعالى
برحمته وفضله حتى تاب، فهل تضمنون إذا اخترتم لأنفسكم أن تكونوا مثله أن يمهلكم
الله حتى تتوبوا؟ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة،
إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.
http://goo.gl/itWqxz