خاطرة الجمعة /529
الجمعة 12 ديسمبر 2025م
(الإخلاص
لله)
قصةٌ
حقيقيةٌ عجيبةٌ وغريبةٌ حدثت مؤخرًا في «الولايات المتحدة الأمريكية»؛ سيدةٌ
صينيةٌ مُسلمةٌ تركت زوجها لأنه ترك الإسلام، وأخذ معه ابنها وابنتها ليعيشا معه
في «الولايات المتحدة الأمريكية»، واضطرت المرأة للرجوع إلى «الصين» إخلاصاً
لدينها، وفضَّلت الثبات على الإسلام، حتى وإن كان الثمن فراق الزوج والأبناء إلى
الأبد.
مرَّت
سنواتٌ طويلةٌ على هذا الأمر، ثُم فوجئت هذه السيدة بابنتها تتصل بها وتطلب منها
أن تزورهم في «أوكلاهوما» ب «الولايات المتحدة». استجابت الأُم لطلب ابنتها،
ووافقت على زيارة أُسرتها هناك. وبمجرد وصول الأُم الى المطار ولقائها بابنتها،
طلبت دليل الهواتف، وبحثت في الدليل عن أقرب مسجدٍ أو مركزٍ إسلاميٍ لمنطقة سكن
ابنتها، وكتبت رقم هاتف المسجد على ورقةٍ سلمتها لابنتها وقالت لها: "إن حدث
لي شيءٌ فاتصلي بهؤلاء"، سألتها البنت: "من هؤلاء؟"، قالت لها:
"إنهم إخواني".
لا تعرف هذه
المرأة الصينية المسجد، ولا تعرف مَنْ يُديره، ولا تعرف الأعراق والجنسيات التي
ترتاده، لكنها تعلم -علم اليقين- أن كل مَنْ في المسجد سيعتبرونها أختاً لهم في أي
وقتٍ ما دامت مُسلمةً؛ لأن هذا هو الإسلام.
لم تهتم
الفتاة كثيراً بما قالته الأُم، لكن بعد ثلاثة أيامٍ ماتت أُمها، وتذكرت الفتاة ما
قالته لها؛ فاتصلت بالمسجد. كان المُسلمون في هذه المنطقة يملكون مقبرةً إسلاميةً،
وكانوا يُحاربون للحصول على ترخيصٍ لدفن المُسلمين فيها منذ خمس سنواتٍ، العجيب
أنهم حصلوا للتو على الترخيص والموافقة الرسمية على استخدام المقبرة، وبمجرد حصول
إدارة المسجد على ترخيص المقبرة وصلهم اتصالٌ من فتاةٍ تُخبرهم بوفاة أُمها
المُسلمة، وهي كانت أخبرتها قبل وفاتها بالاتصال بهم إن حدث لها شئٌ؛ فطلب إمام
المسجد مقابلة الفتاة وأخبرها أن أول قبرٍ في المقبرة سيكون لأُمها. كان اليوم يوم
جُمعةٍ، وكان المسجد مُمتلئاً عن آخره، وكان عدد المصلين كبيراً بشكلٍ غير
مُعتادٍ، صلوا جميعاً على المرأة الصينية المُتوفاة بعد انتهاء صلاة الجُمعة؛
ولأنها المرة الأولى التي يستخدمون فيها المقبرة فقد خرج المشيعون بأعدادٍ كبيرةٍ،
وبدا الأمر لأفراد عائلتها وكأنها كانت شخصيةً عامةً يعرفها كل الناس. فوجئت عائلة
المرأة المُتوفاة بأعداد المُصلين عليها ومن شكل الجنازة، وقدر الهيبة التي تم
التعامل بها مع وفاة والدتهم من أشخاصٍ لا أحد منهم كان يعرفها، وتساءلوا:
"مَنْ كل هؤلاء الذين يسيرون في الجنازة؟"، قيل لهم: "إننا إخوانها
في الدين"، فأخذوا يبكون. بعد الدفن جاءوا للإمام بورقةٍ كانت أُمهم تكتب
فيها دعاءها المُفضل باللغة العربية، وأصرَّ ابنها وابنتها وزوجها السابق على أن
يعرفوا ماذا كانت تكتب، فقرأ لهم الإمام الدعاء المكتوب في الورقة: "يا الله
اهدِ أبنائي، يا الله اهدِ أباهم". تأثر زوجها السابق بهذا الدعاء، وقال
لإمام المسجد: "احجز لي القبر الذي بجوارها"، قال له: "هذا له
ثمنٌ، ثمنه أن تقول لا إله إلا الله، مُحمدٌ رسول الله"؛ فقال: "أشهد أن
لا إله إلا الله، وأشهد أن مُحمداً رسول الله". ولم تمر تلك الليلة حتى نطق
ابنها، ونطقت ابنتها الشهادتين ودخلا في الإسلام. نسأل الله أن يغفر لها ويرحمها.
أحبتي في
الله.. إنه (الإخلاص لله) في أروع صوره، امرأةٌ كانت مُخيرةً بين البقاء مع ابنها
وابنتها وزوجها الذي ارتد عن الإسلام، وبين أن تُخلص دينها لله حتى ولو كان الثمن
مُفارقة الزوج والعودة إلى وطنها لتعيش وحيدةً محرومةً من أبنائها. هداها الله؛
ففضلَّت أن تُضحي بنفسها وبمشاعر الأُمومة المتأججة في صدرها عن أن تتخلي عن
دينها. إنها صورةٌ من أعلى صور (الإخلاص لله).
قصةٌ أُخرى،
لصورةٍ مُختلفةٌ من صور (الإخلاص لله) إنها قصة "صاحب النقب، قصة مُجاهدٍ
مجهولٍ ضحى بنفسه لفتح قلعةٍ مُستعصيةٍ على جيش «مسلمة بن عبد الملك» حيث وبعد طول
حصارٍ، حفر نقباً {أي نفقاً} تحت جدار القلعة وتسلل من خلاله إلى داخلها وفتح
بابها لجيش الفاتحين. وحين استتب الأمر داخل القلعة، نادى القائد «مسلمة بن عبد
الملك» للبحث عن ذلك المُقاتل الشُجاع صاحب النقب لشكره وتكريمه، لم يجده رغم
إلحاحه في طلبه. بعد أيامٍ جاء ذلك المُجاهد مُتخفياً لمقابلة القائد، ولكن بشروطٍ
ثلاثة هي: ألا يسأله عن اسمه، وألا يطلب منه كشف وجهه، وألا يُقدِّم له أية
مكافأة، وافق القائد على تلك الشروط وتمت المُقابلة، والتقى القائد مع هذا
المُجاهد المُتخفي الذي ما لبث أن اختفى بعد المُقابلة، فاسترجع القائد «مسلمة بن
عبد الملك» قول الله تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، وأصبح يدعو الله في صلاته: "اللهم
احشرني مع صاحب النقب".
يقول تعالى:
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، وقال
عزَّ وجلَّ لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ
دِينِي﴾. وقد شرَط الله تعالى لتوبَةِ التائبين تحقيق الإخلاص في أعمالهم؛ يقول
سُبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
ولأهمية
(الإخلاص لله) كانت سورة الإخلاص تعدل ثُلث القرآن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم
عنها: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ]، قيل إن هذه السورة
كان لها هذا الفضل لأن القرآن أحكامٌ، ووعدٌ ووعيدٌ، وأسماءٌ وصفاتٌ، وهذه السورة
جمعت الأسماء والصفات. وقيل إنها ثُلث القرآن باعتبار معاني القرآن؛ لأن القرآن
أحكامٌ، وأخبارٌ، وتوحيدٌ، وقد اشتملت هي على التوحيد؛ فكانت ثُلثاً بهذا الاعتبار.
وقال النبي
عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ لا يقبلُ منَ العملِ إلَّا ما كانَ لَهُ خالصًا،
وابتُغيَ بِهِ وجهُهُ]. وقال صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [...أسْعَدُ النَّاسِ
بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ، مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِن
قَلْبِهِ، أوْ نَفْسِهِ]. كما كان يقول في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ حين يُسلِّمُ: [لا
إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ
قديرٌ، لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولا نعبُدُ إلَّا
إياهُ، له النِّعمةُ وله الفضلُ، وله الثَّناءُ الحسَنُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ
مُخلِصينَ له الدِّينَ ولو كرِهَ الكافرونَ].
وبالإخلاص
تُنفَّس الكروب؛ والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرةٌ وهم يحتمون
بجبلٍ، ففرَّج الله همَّهم وأزاح الصخرة حتى خرجوا، بعد أن كان كلٌ منهم يُظهر
(الإخلاص لله)؛ فيقول: [اللهمَ إنْ كُنتَ تعلمُ أنِّي فعلتُ ذلك رجاءَ رحمتِك،
وخشيةَ عذابِك فافرُجْ عنا].
يقول أهل
العلم إن الإخلاص هو لُب العبادة وروحها، وهو أساس قبول الأعمال أو ردِّها؛ فهو
الذي يؤدي إلى الفوز أو الخُسران، وهو الطريق إلى الجنة أو إلى النار، فإن الإخلال
به يؤدي إلى النار وتحقيقه يؤدي إلى الجنة. والإخلاص أن يكون العمل لله، لا نصيب
لغير الله فيه. وهو إفراد الحق سُبحانه بالقصد في الطاعة. وهو تصفية العمل من كل
شائبة.
قال أحد
العارفين عن الإخلاص في معرض تفسيره للآية الكريمة ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا﴾: "إن أحسن العمل أخلصه وأصوبه؛ فإنه إذا كان خالصاً ولم
يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل حتى يكون خالصاً،
والخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السُّنَّة". وقال غيره: "الله
يُحب من عباده الإخلاص؛ ففيه طرح الرياء كله؛ لأن الرياء شركٌ أو ضربٌ من
الشرك". وقال آخر: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء
والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار". وقال ثالثٌ:
"المخلِص لله قد علَّق قلبه بأكمل ما تعلقت به القلوب من رضوان ربه وطلب
ثوابه، وعمل على هذا المقصد؛ فهانت عليه المشقات، وسهلت عليه النفقات، وسمحت نفسه
بأداء الحقوق كاملةً موفورةً، وعَلِمَ أنه قد تَعوَّض عما فقده بأجزل الثواب، وخير
الغنائم". وقال غيرهم: "المخلِصون هُم خُلاصة الخلق وصفوتهم، وهل يوجد
أكمل ممن خلصت إرادتهم ومقاصدهم لله وحده؛ طلباً لرضاه وثوابه؟". وهذا واحدٌ
من المخلِصين يقول مُحدِّثاً نفسه: "يا نفسُ، أخلصي تتخلصي".
وعلى عكس
(الإخلاص لله) تكون المُراءاة، وعلامة المُرائي -كما يقولون- هي أنه إذا عمِل
العمل أمام الناس زاد فيه، وحسَّنه، وإذا عمله خالياً لم يُحسنه، بل أساء فيه،
والعياذ بالله.
أحبتي..
يقول الشاعر:
إذا
لَمْ يَكُنْ لِلهِ فِعْلُكَ خالِصاً
فَكُلُّ
بِناءٍ قَدْ بَنَيَتَ خَرابُ
إن العبد
المؤمن إذا كان عمله على الصواب والإخلاص، وإن كان قليلاً؛ فالله عزَّ وجلَّ
يُباركه ويُنَمِّيه، وأما إن كان يشوبه -والعياذ بالله- الرياء أو العُجب أو
الكِبْر؛ فإنه يصير وبالاً على فاعله، وإن كان كثيراً.
اللهم
ارزُقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، واجعلها خالصةً لك، صواباً على سُنة نبينا
الكريم صلى الله عليه وسلم.
https://bit.ly/4q2UjRh