خاطرة الجمعة /528
الجمعة 5 ديسمبر 2025م
(خُلُق الإيثار)
كتبت إحدى الأخوات الفُضليات عن موقفٍ حدث معها وقت أن كانت تؤدي شعائر
العُمرة، كتبت تقول: أوقفتني إحدى الأخوات في صحن مسجد رسول الله قبل صلاة المغرب،
لتسألني بالإنجليزية: "من أين أستطيع أن أشتري عباءةً مثل هذه؟ هل هي من
هنا؟" تقصد «المدينة»، قلتُ لها: "هي من «مصر»، وددتُ لو أُحضر لكِ
مثلها، من أين أنتِ؟"، قالت لي: "أنا أعيش في «أمريكا»، وأنا هنا مع
زوجي في زيارة عملٍ، نحن أطباء، جئنا من «مكة» إلى «المدينة» نقضي فيها يومين ثم
نذهب إلى «الأردن» بعد فجر الغد، هل تعتقدين أن أجد مثل هذه العباءة في
«الأردن»؟"، قلتُ لها: "ادعِ الله أن يرزقك مثلها بل وأفضل منها"،
سألتني: "هل ستذهبين إلى الحج هذا العام؟"، أجبتها: "نعم، إن شاء
الله"، قالت: "ادعِ لي بأن يرزقني الله الحج العام المقبل"، قلتُ
لها: "إن شاء الله"، ثم سألتها: "هل دعوتِ بذلك في «الروضة
الشريفة»؟"، قالت لي: "لم أستطع زيارة «الروضة الشريفة»؛ لم يُسمح لي
بحجز موعدٍ عن طريق تطبيق «نُسُك»؛ قد يكون لأنّنا في زيارة عملٍ، لا أعلم، ولكن
دعوتُ الله كثيراً أن يرزقني دخولها". قلتُ في نفسي: "سُبحان الله مُجيب
الدعوات"، ثم قلتُ لها: "لديّ موعدٌ اليوم الساعة الحادية عشرة مساءً،
أي قُبيل سفرك بساعاتٍ إن شاء الله، والحمد لله هذه المرة الثالثة لي لزيارة
«الروضة الشريفة» خلال يومين، فماذا لو جئتِ بالموعد ودخلتِ مكاني؟"، قالت
لي: "هل هذا يجعلني أكذب على الأمن؟ بمعنى أني أنتحل شخصيتك؟ أنا لا أُحب
الكذب"، قلتُ لها: "لا، ليس كذباً، الصدق يُنجي، هكذا علّمنا رسول الله ﷺ
ونحن في مسجده، سأشرح لرجال الأمن الموقف، وإن شاء الله يوافقون على أن تدخلي
بدلاً عني، هُم لن يسمحوا بدخولنا سوياً بالتصريح نفسه، لكن ما يهمهم هو دخول شخصٍ
واحدٍ بالتصريح؛ اتفقنا؟"، قالت لي: "آخذ الموافقة من زوجي أولاً، وسأحدثك
هاتفياً إن وافق إن شاء الله"، وتبادلنا أرقام هواتفنا.
حدثتني الساعة الحادية عشرة إلا رُبع وقالت بفرحٍ: "وافق زوجي، هل
أنتِ متأكدةٌ من قرارك أن تتنازلي لي عن موعدك بالدخول إلى «الروضة
الشريفة»؟" قلتُ لها: "يقول تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ
تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ﴾". وبالفعل وصلنا إلى باب الدخول، وشرحتُ لرجال الأمن الموقف؛ فنظر
إلى تصريح الدخول ووافق، ودخلت هي، حضنتني قبل الدخول، مُمتنةً لله أولاً أن
استجاب دعاءها، ثم شاكرةً لي بكل عبارات الامتنان. وما إن هممتُ بالرحيل حتى
ناداني فردٌ من الأمن وقال: "ادخلي أنتِ أيضاً؛ أنتِ أحسنتِ للمرأة، ألسنا
أولى بأن نكون من المُحسنين؟ ادخلي يا حجية؛ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟"،
دخلتُ، وكانت قد سبقتني، لكنها شاهدتني أدخل بعدها فانتظرتني لندخل معاً، وطلبت
مني أن أشرح لها ما حدث وكيف دخلتُ، شرحتُ لها ما كان من فرد الأمن -جازاه الله
خيراً- فبكت بكاءً شديداً، ودعت كثيراً بلسانٍ أعجميٍ، لم أفهم دُعاءها، لكني كنتُ
موقنةً بالإجابة، لي ولها، ولِمَ لا؟ ألم يقل سُبحانه وتعالى: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾؟
علينا الدُعاء، وعليه الإجابة.
أحبتي في الله.. من حُسن خُلُق صاحبة هذا الموقف أنها لم تتكلم عن أن ما
قامت به نحو تلك المُسلمة الأجنبية هو (خُلُق الإيثار)، ربما تحرجت لئلا يكون في
ذلك تزكية نفسٍ منهيٌ عنها؛ فختمت عرضها للموقف بالتأكيد على استجابة الله سُبحانه
وتعالى للدُعاء، وهو ما يظهر جلياً بالفعل، وبوضوحٍ، في الموقف المذكور.
يقول أهل العلم إن (خُلُق الإيثار) خُلُقٌ جليلٌ في الإسلام، أشاد به
القرآن الكريم في مواضع مُتعددةٍ، وهو خصلةٌ نبيلةٌ تحلى بها المُسلمون الأوائل من
الصحابة الكرام؛ إذ لم يصلوا إلى درجات الرِفعة والمكانة والعزة إلا حين تخلصوا من
الأنانية وحُب الذات وحُب الدنيا، وامتثلوا تعاليم القرآن الكريم التي تدعو إلى
السماحة والعفو والصفح والأخوة الإيمانية الحقيقية و(خُلُق الإيثار)، فكانوا من
المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، يقول
المفسرون إن هذه الآية تصف الأنصار الذين كانوا يُعطون المُهاجرين أموالهم إيثاراً
لهم بها على أنفسهم ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أي: ولو كان بهم حاجةٌ وفاقةٌ
فإنهم يُقدِّمون حاجة المُهاجرين على حاجة أنفسهم. وعن سبب نزول هذه الآية أَنَّ
رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إِلَى
نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا]، فَقَالَ رَجُلٌ
مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي
ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا
عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي
سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً؛ فَهَيَّأَتْ
طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ
كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا
يَأْكُلانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: [ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ
عَجِبَ، مِنْ فعالِكُمَا] فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ﴾.
يقول العلماء إن (خُلُق الإيثار) من علامات محبَّة الخير للآخرين، وفيه
تطهيرٌ للنفس من الأنانية والكراهية والشحناء؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
[لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]، فمَنْ
لليتيم إذا فشت الأنانية وحُب الذات في المُجتمع؟! ومَنْ للأرملة المسكينة؟! ومَنْ
للفقير الجائع؟! مَن لهؤلاء إذا أصبح الكُل يقول: "نفسي نفسي"، ولا يهمه
إلا مصالحه ومآربه؟
و(خُلُق الإيثار) هو مرتبةٌ من مراتب البذل والعطاء؛ فهل هناك فروقٌ بين:
السخاء والجُود والإيثار؟
ذكر العلماء فروقاً بين كلٍّ مِنها؛ فمع أنَّها كلَّها أفعال بذلٍ وعطاءٍ،
إلا أنها مراتب ثلاثٌ: مرتبة السخاء: وهو أن لا يُنقِص البذلُ المُعطي ولا يصعب
عليه. ومرتبة الجُود: وهو أن يُعطي الأكثر ويُبقي لنفسه شيئاً، أو يُبقي مثل ما
أعطى. ثم مرتبة الإيثار: وهو أن يؤثر غيره بالشَّيء مع حاجته إليه، وهي أعلى مراتب
البذل والعطاء.
يقول الله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا
تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، بمعنى لن
تنالوا وتُدركوا البرَّ، الذي هو اسمٌ جامعٌ للخيرات، وهو الطَّريق الموصل إلى
الجنَّة، حتى تُنفقوا ممَّا تُحبُّون، من أطيب أموالكم وأزكاها؛ فإن النفقة من
الطيب المحبوب للنفوس من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق،
ورحمتها ورقتها، ومن أدلِّ الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال،
التي جُبلت النّفوس على قوة التعلق بها؛ فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ
الذُروة العُليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن
الله إليه ووفقه. ولا يكون الإيثار بإنفاق المال أو الإطعام فقط، وإنما يتعدى ذلك
إلى تقديم الغير على النفس في كل ما يملك من جهدٍ أو وقتٍ، وغير ذلك مما يحتاجه لنفسه؛
فيتنازل عنه ويُعطيه لغيره إيثاراً وتفضيلاً.
ومن ثمرات (خُلُق الإيثار) ما روته لنا أُم المؤمنين عائشة؛ قالت رضي الله
عنها: جاءتني مسكينةٌ تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمراتٍ؛ فأعطت كل واحدةٍ
منهما تمرةً، ورفعت إلى فيها "أي: إلى فمها" تمرةً لتأكلها، فاستطعمتها
ابنتاها، فشقت التمرة -التي كانت تُريد أن تأكلها- بينهما؛ فأعجبني شأنها، فذكرتُ
الذي صنعت لرسول الله ﷺ فقال: [إنَّ اللَّهَ قدْ أَوْجَبَ لَهَا بهَا الجَنَّةَ،
أَوْ أَعْتَقَهَا بهَا مِنَ النَّارِ].
ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد أحسن
من قال:
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ
وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
فَيا لَيتَ شُربي مِن وِدادِكَ صافِياً
وَشُربِيَ مِن ماءِ الفُراتِ سَرابُ
أحبتي.. إذا كُنتم ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل فأنتم من أهل
السخاء، وإن كُنتم ممن يُعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم شيئاً فأنتم من أهل الجُود،
أما إن كُنتم ممن يُعطون الآخرين مع حاجتكم إلى ما أعطيتم لكنكم قدمتم غيركم على
أنفسكم فقد وصلتم إلى مرتبة الإيثار، وهي أعلى المراتب، لا تنشأ إلا عن قوة
الإيمان، ومحبة مرضاة الله، والصبر على المشقة، رغبةً في الأجر والثواب.
ولو لم يكن من فوائد الإيثار إلا أنه وقايةٌ لنا من الشُّحِّ لكفى، أليس
ذلك سبباً لنكون من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؟
نسأل الله العظيم أن يقينا شُح أنفسنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين
المُفلحين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق