الجمعة، 7 نوفمبر 2025

الدنيا دوَّارة

 

 خاطرة الجمعة /524

الجمعة 7 نوفمبر 2025م

(الدنيا دوَّارة)

 

"لمدة 12 عاماً كنتُ أمسح حمّاماتهم، ولم يكونوا يعلمون أن الطفل الصغير الذي أحضرته معي سيكون يوماً أملهم الوحيد في النجاة".

هذه عبارةٌ كتبتها إحدى النساء على صفحتها على أحد برامج التواصل الاجتماعي، بدأت بعدها في عرض التفاصيل؛ فكتبت تقول: أتذكر الآن عندما كُنتُ في التاسعة والعشرين من عُمري حين بدأتُ العمل كخادمةٍ في منزل إحدى العائلات التي تسكن في ضاحيةٍ راقية على أطراف المدينة. كنتُ أرملةً؛ توفي زوجي في حادثٍ، ولم يبقَ لي في هذه الدنيا سوى ابني الصغير. أتذكر عندما توسلتُ إلى الهانم سيدة المنزل أن تُعطيني عملاً؛ فقد كُنتُ بحاجةٍ للعمل لنعيش أنا وابني، نظرت إليّ من رأسي إلى قدمي، ثم قالت ببرود: “يُمكنكِ البدء غداً، لكن يجب أن يبقى ابنك بعيداً عن الأنظار، اجعليه في الخلف"، هززتُ رأسي مُوافقةً؛ فلم يكن لدي خيارٌ آخر. أعطونا غُرفةً صغيرةً بجانب المراحيض، فيها مرتبةٌ قديمةٌ، وسقفٌ يتسرب منه الماء. كل صباحٍ كنتُ أُنظف الأرضيات الرخامية، وأُلمِّع المراحيض، وأُرتّب غُرف وأَسِرِّة أولاد الهانم الذين لم يلتفت أحدٌ منهم إليّ بنظرة تعاطفٍ أو رحمةٍ، لكن ابني كان يفعل ذلك كل يومٍ، وكان يقول لي: “أُمي، يوماً ما سأبني لكِ بيتاً أكبر من هذا”. علّمته الحساب بقطع طباشير مكسورةٍ وكرتونٍ مُمزقٍ، وكان يقرأ الصُحف القديمة كأنها كتبٌ دراسية. وحين بلغ السابعة، توسلتُ إلى الهانم سيدة المنزل: “من فضلكِ، دعيه يذهب إلى مدرسة أولادك الخاصة؛ سأعمل ساعاتٍ إضافيةٍ وأدفع التكاليف”، ضحكت بسخريةٍ وقالت: “أولادي لا يختلطون بأبناء الخادمات”؛ فأدخلته المدرسة الحكومية العامة القريبة، كان يذهب إليها يومياً سيراً على الأقدام، وأحياناً بأحذيةٍ مُمزقة، ولم يتذمّر قط. وببلوغه الرابعة عشرة، صار يفوز في مُسابقاتٍ أكاديميةٍ على مستوى المُحافظة. وعندما التحق بالجامعة لاحظ تفوقه أستاذٌ من الجامعة؛ فساعده في الحصول على منحةٍ دراسيةٍ في الخارج؛ فقُبِل ابني في برنامجٍ علميٍ مرموقٍ. وبدأنا نستعد أنا وابني للسفر إلى الخارج، حينها أخبرتُ الهانم سيدة المنزل بالأمر، تجمدت مكانها وقالت: “ذلك ابنك؟!”، قلتُ لها: “نعم، هو نفسه الذي نشأ بينما كُنتُ أنظف حماماتكم”.

مرَّت سنواتٌ، وأُصيب سيد المنزل الذي كُنتُ أعمل فيه بأزمةٍ قلبيةٍ، ثم بفشلٍ كلويٍ، وبدأت رحلة علاجٍ مُكلفةٍ، ذهبت ثروتهم شيئاً فشيئاً، ولأول مرةٍ عرفوا طعم الحاجة واليأس. قرَّر الأطباء أن يزرعوا للرجل كِليةً، وقالوا إنه نظراً لكبر سنه ووجود ضعفٍ في قلبه فإن من يُجري له عملية الزرع لابد أن يكون طبيباً عالمياً مُتخصصاً، ورشحوا بالفعل جرّاحاً يعمل خارج الدولة، وافقت الأسرة، وأرسل الأطباء التقرير الطبي الخاص بالمريض إلى الجرّاح، فوافق على الحضور، وأخبرهم بأنه يعرف هذا الرجل شخصياً! عندما وصل الجرّاح مُحاطاً بفريقه الطبي، نظر مُباشرةً إلى الهانم سيدة المنزل وقال لها: “يوماً ما قُلتِ إن أولادك لا يختلطون بأبناء الخادمات، واليوم حياة زوجك بين يديّ واحدٍ منهم”. أجرى الجرّاح -ابن الخادمة- العملية ونجحت، ورفض أن يأخذ أي مُقابلٍ ماديٍ.

تقول الأُم: كان ابني قد اصطحبني للإقامة معه في الخارج، وبعد أن أنهى دراسته وعمل كطبيبٍ في مشفىً شهيرٍ وفَّى بوعده؛ بنى لي بيتاً كبيراً عند البحر، ولطالما حلمتُ برؤية المُحيط، اليوم أجلس كل مساءٍ على الشُرفة، أستمع إلى صوت الأمواج، وعندما أسمع اسم ابني يتردّد في الأخبار أبتسم لأنني كنتُ يوماً الخادمة، واليوم، أنا أُمّ الرجل والطبيب والبروفيسور الذي لم يكن بإمكان رب تلك الأسرة النجاة من دونه.

 

أحبتي في الله.. صدق من قال (الدنيا دوَّارة)؛ فالقوي صار ضعيفاً، والغني أصبح فقيراً، والخادمة أضحت ملكةً في عيني ابنها، أما الابن فلم يعد ذلك الصبي الصغير، هو الآن من أكبر جراحي زراعة الأعضاء في العالم!

 

"دوام الحال من المُحال"، و"كما تدين تُدان"، و"الجزاء من جنس العمل"، كل هذه الأقوال تؤكد على أن (الدنيا دوَّارة) وأن ما تقوم به لا يضيع أبداً؛ يعود لك إن كان خيراً، ويعود عليك إن كان شراً؛ فهذه مُمرضةٌ كتبت تقول: عندما كنتُ أعمل مُنتدبةً في دارٍ للمُسنات بإحدى المُدن، كنتُ أزورهم مرتين أُسبوعياً لإجراء فحوصاتٍ دوريةٍ للسيدات كبيرات السن، وكانت تشدُّ انتباهي دائماً امرأةٌ غريبة الأطوار، لا يتجاوز عُمرها الخمسين عاماً، كانت لا تجتمع مع أحدٍ، وكُلما زُرتُ الدار أجدها تجلس وحيدةً في غُرفتها، مُحافظةً على مظهرها وأناقتها، وكان واضحاً عليها أنها ذات شخصيةٍ قويةٍ، لم تكن كباقي المُسنّات. مع مرور الأسابيع، كان فضولي يزداد؛ فقد كانت لا تُجيب عن أية أسئلةٍ، ولا تشكو لي همومها كباقي النزيلات. حتى جاء ذلك اليوم وسألتها: "اعذريني سيدتي، لماذا لا تتفاعلين مع أحدٍ في الدار؟ اعتبريني مثل ابنتك، وافتحي لي قلبك"، نظرت إليَّ نظرةً مليئةً بالدموع، كأن في عينيها كلامٌ كثيرٌ، صمتت قليلاً، ثم نظرت إليَّ وقالت: "هل أُخبركِ لماذا أنا هنا؟"، قُلتُ لها: "بصراحةٍ، أُريد أن أعرف، فالجميع هنا يشتكي إلا أنتِ"، قالت: "أنا هنا مُنذ أربع سنواتٍ، رزقني الله بابنٍ واحدٍ كان مُتفوقاً في دراسته، توفي أبوه وهو في المرحلة الثانوية، فأكمل دراسته والتحق بالجامعة، وبسبب تفوقه حصل على بعثةٍ لإكمال الماجستير والدكتوراه في «أمريكا»، تزوج قبل سفره، وسكن هو وزوجته معي في شقتنا، وكانت زوجته تتضايق كثيراً من وجودي وتُعاملني بجفاء. يوم أن أنهى ابني أوراق السفر، صُدمتُ حين قال لي: "أُمي، أنا مُسافرٌ أنا وزوجتي، وقد تطول سفرتنا لسبع سنواتٍ، ابحثي عن أحدٍ من أخوالي لتقيمي عنده، وسآتي لزيارتكم بين الحين والآخر"، شعرتُ وقتها بقهرٍ شديدٍ؛ فقلتُ له: "لا، أُفضّل الذهاب إلى دار المسنين على أن أكون عالةً على أحد"؛ ففوجئتُ برده حيث قال لي: "افعلي ما يُريحك يا أُمي"! في تلك اللحظة، دارت بي الدُنيا، وتذكرتُ وقتها ما كنتُ قد فعلته بحماتي -أُم زوجي- قبل سنين. واللهِ إني أستحق ما حدث لي؛ كنتُ أحرم زوجي من الجلوس مع أُمه، وأختلق المشاكل بينهما، كانت تسكن في الطابق الثاني، وكان زوجي يحرص دائماً على أن نصعد لنتناول طعام الغداء والعشاء معاً، لكني كنتُ أصعد قبل عودته من عمله لأُعطيها غداءها وعشاءها مُبكراً، حتى نأكل نحن -أنا وزوجي- في الأسفل بدونها. وكان زوجي يُعاتبها دائماً قائلاً: "لماذا لا تتناولين الغداء معنا يا أُمي؟". فكانت تقول له: "أنا أجوع وأنت تتأخر". وكانت -رحمها الله- لا تشتكي لولدها أبداً، وكنتُ أجرحها بكلامي كثيراً؛ فكانت تبكي وتقول لي: (الدنيا دوَّارة)، ثم تنظر إليَّ بصمتٍ وتهز رأسها. واللهِ لن أنسى نظرتها تلك ما حييتُ، ولكني لم أكن ألتفتُ لِما تقول. لقد ظلمتها كثيراً، ولا أعلم إن كانت قد سامحتني أم لا. أُصيبت بجلطةٍ ودخلت في غيبوبةٍ، ثم ماتت دون أن أطلب منها السماح. والآن، اللهُ يُجازيني في الدُنيا بكل ما فعلته بها، ولا أعلم كيف سيكون عقابي في الآخرة. ابني لا يُكلمني إلا في الأعياد. قد أموت قبل أن تنتهي السنوات السبع التي قال إنه سيرجع بعدها، وربما أعود لأسكن معه وزوجته لا ترعاني. الله يُسامحني". بكت كثيراً ورددت: "الله يُسامحني"، قبّلتُ رأسها وقلتُ لها: "لعلها سامحتكِ"، قالت: "لا أظنها سامحتني؛ لقد فعلتُ بها الأفاعيل".

استأذنتُها في نشر قصتها، فقالت: "انشري لكن لا تذكري اسمي"، فوعدتها بذلك، وها أنا ذا أنشر قصتها، لعل من يقرأها يتعظ منها ويعلم بأن (الدنيا دَوَّارة) بالفعل.

 

يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؛ فعلى المرء ألَّا يستهينَ بخيرٍ عمله مهما كان صغيراً، وألَّا يستهينَ بشرٍّ عمله مهما كان حقيراً، فإن مُحقَّرات الذنوب لا تزال تجتمعُ على الرجل حتى تُهلكَه، وكما أن في ذلك إشارةً إلى الحساب في الآخرة إلا أنه يتضمن كذلك الإشارة إلى الجزاء في الدنيا.

 

ويقول سُبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، قوله ﴿نُداوِلُها﴾ من المُداولة، وهي نقل الشيء من واحدٍ إلى آخر. والمعنى: أن أيام الدنيا هي دُولٌ بين الناس، لا يدوم سرورها ولا غمها لأحدٍ؛ فهي تارةً لهؤلاء وتارةً لأولئك.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ].

 

وأهل العلم يقولون إن الدهر لا يصفو على حالٍ؛ فالأيام فيه دُولٌ، يومٌ لنا ويومٌ علينا، ومن سُنة الحياة عدم ثبات الأحوال؛ فتمر بنا هذه الأيام ما بين: يُسرٍ وعُسرٍ، وصحةٍ ومرضٍ، وغنىً وفقر، وضحكٍ وبكاءٍ، وفرحٍ وغمٍ؛ فمن سرَّه زمنٌ ساءته أزمان. ستدور الدُنيا، وتُعاد المشاهد، وتتبدل الأدوار، وكل ساقٍ سيُسقى بما سقى.

 

قال أحدهم: يوماً ما ستفهم أن الدنيا تدور ثم تعود وتقف عندك، لتفعل بك ما فعلته أنت بغيرك، تذكَّر ذلك جيداً يا من تؤلم وتؤذي غيرك وتمضي كأنك لم تفعل شيئاً. وأنت يا من سلب أحدهم سنواتٍ من عُمرك سيرمي الله في طريقه من يسلب حياته كاملةً، والذي رماك بعيوبٍ ليست فيك سيلقى من يفضح عيوبه الحقيقية، والذي باعك بثمنٍ بخسٍ سيجد من يبيعه بلا مقابل!

الذي اخترتَه لتزداد به قوةً فخذلك، سيحتاجك في أقصى درجات وهنه ولن يجدك، والذي بكيتَ خيانته ستخونه كل الأشياء من حوله بما في ذلك دموعه حين يطلبها!

 

وقال آخر: (الدنيا دوَّارة) عبارةٌ قصيرةٌ في مبناها، ذات دلالةٍ كبيرةٍ في معناها؛ فالدنيا يُصبح فيها الصغير كبيراً والكبير صغيراً، ويكون الفقير فيها غنياً والغني فقيراً. إلا أن حقيقة أن (الدنيا دوَّارة) لا يُدركها الحمقى والمستكبرون، وأصحاب الرؤى الضيقة الذين يغرهم الجُزء الظاهر والبسيط من المشهد الذي يرونه، ولا يُدركون امتداده واتصاله بمشاهد أُخرى مُستقبليةٍ، ستنقلب عليهم دون استطاعتهم تجنب آثارها.

 

قال الشاعر:

وَما الدَهرُ يَوماً واحِداً في اختِلافِهِ

وَما كُلُّ أَيّامِ الفَتى بِسَواءِ

وَما هُوَ إِلّا يَومُ بُؤسٍ وَشِدَّةٍ

وَيَومُ سُرورٍ مَرَّةً وَرَخاءِ

 

أحبتي.. كلما تأملنا في نصوص الوحي، وفي حوادث التاريخ، وفي سُنن الله عزَّ وجلَّ في أرضه، نجد أنها لا تتخلف عن هذه السُنة "الجزاء من جنس العمل"، و"كما تدين تُدان" و(الدنيا دوَّارة)، وذلك من مُقتضى عدله وحكمته سُبحانه وتعالى، فمن عاقبك بجنس ذنبك لم يَظلمك، ومن دانك بما دِنته به لم يتجاوز؛ وتذكَّر قول إخوة يوسف عليه السلام: ﴿هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾، وتذكَّر قوله تبارك وتعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.

ولأن (الدنيا دوَّارة) والعاقل من اتعظ بغيره؛ فلماذا لا نُقدم الخير دائماً والله تعالى يقول: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؟ لماذا يضعف بعضنا فيطيع ما توسوس به نفسه الأمارة بالسوء؟ لماذا الظلم؟ لماذا الكِبر؟ لماذا التفاخر والتعالي ومُعاملة الغير بازدراءٍ واحتقارٍ ودونيةٍ وإذلال؟ ألا يجدر بنا أن نتعظ بما عانى منه غيرنا من حسرةٍ وندمٍ وقت لا ينفع الندم؟

فلنُقدِّم في حاضرنا لمستقبلنا من الأعمال الصالحة ما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا، ولنتقي الله سُبحانه وتعالى بأن نصون أنفسنا عن كل ما نهانا عنه، وأن نعلم علم اليقين أننا سنلقاه فيُحاسبنا على أعمالنا ويُجازينا عليها بما نستحق.

اللهم اهدنا لخير الأعمال وخير الأقوال لا يهدي لها إلا أنت، وقِنا شر أنفسنا لا يقينا منها إلا أنت، واجعلنا اللهم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

https://bit.ly/47uBuQK


ليست هناك تعليقات: