خاطرة الجمعة /525
الجمعة 14 نوفمبر 2025م
(فقيد الأُمة)
في التاسع من نوفمبر الحالي، طوى العالم الإسلامي صفحةً من صفحاته المُضيئة
برحيل أحد كبار عُلمائه ودُعاته المُخلصين، الذي توفاه الله تعالى في العاصمة
الأردنية عمّان عن عمرٍ ناهز اثنين وتسعين عاماً. برحيله فقد المسلمون واحداً من
أبرز رموز الفكر والدعوة في العصر الحديث، وأحد الذين نذروا حياتهم لتجديد الصلة
بين العِلم والإيمان، بين العقل والنقل، بين الوحي والكون، في خطابٍ دعويٍ راقٍ
جمع بين الصرامة العلمية والروح الإيمانية وبلاغة الحُجة القرآنية. وُلِد في
«مصر»، وتخرّج في كلية العلوم بجامعة «القاهرة»، ثم واصل دراساته العليا في
الجيولوجيا بجامعاتٍ غربيةٍ مرموقةٍ، ليعود بعد ذلك أُستاذاً وباحثاً ومُحاضراً،
قبل أن يتفرغ لرسالة العِلم في خدمة الدعوة. عرفه الناس داعيةً لا يعرف الكلل،
وعالماً يجوب الآفاق من مؤتمرٍ إلى آخر، ومن منبرٍ إلى شاشةٍ، يتحدث عن الإسلام
بلغة العِلم، ويُدافع عن القرآن بلسان العقل، حتى أصبح اسمه مرتبطاً بمجال الإعجاز
العلمي في القرآن الكريم، الذي حمل لواءه لعقودٍ طويلة.
لم يترك (فقيد الأُمة) بلداً إلا وبلَّغ فيه دعوة الله، ولم يعرف من التعب
إلا ما يحفّز على مزيدٍ من البذل. وكان يُردد دائماً في محاضراته ولقاءاته: "نحن المسلمين بأيدينا الوحي السماوي الوحيد المحفوظ بحفظ الله كلمةً كلمةً
وحرفاً حرفاً قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.. وأُريد من كل شابٍ مُسلمٍ أن يحمل
هذا المعنى في قلبه وعقله؛ ليشعر بمدى الأمانة التي على كتفيه". بهذا الوعي حمل رسالته إلى الأجيال، مؤمناً بأن الدعوة لا تنفصل
عن العِلم، وأن على المُسلم أن يُسهم في بناء حضارةٍ قائمةٍ على المعرفة والإيمان
معاً. كان -يرحمه الله- من أوائل العُلماء الذين نادوا بضرورة أن يستعيد المُسلمون
الريادة العلمية، وأن يجعلوا من العِلم وسيلةً لفهم آيات الله في الكون، لا مجرد
وسيلةً نفعيةً دنيويةً؛ يقول يرحمه الله: "نحيا في عصر
العِلم، عصرٍ وصل فيه الإنسان إلى قدْرٍ من المعرفة بالكون ومُكوناته لم تتوفر في
أي زمنٍ من الأزمنة السابقة، ولما كانت المعارف الكونية في تطورٍ مُستمرٍ، وجب على
أُمة الإسلام أن ينفر في كل جيلٍ نفرٌ من عُلمائها يتزودون بالأدوات اللازمة
لتفسير كتاب الله". وكان يُلحّ (فقيد الأُمة) على المُتخصصين
أن يلتزموا بالمنهج العلمي الصارم عند تناول قضايا الإعجاز، وأن “لا يوظَف فيه إلا
القطعي من الثوابت العلمية”، مُحذراً من تحويل الإعجاز إلى خطابٍ عاطفيٍ أو
تخميناتٍ غير مُنضبطة. ومما ميّز الفقيد هو منهجه المتوازن في الدعوة، القائم على
مُخاطبة العقول والقلوب معاً؛ فكان حين يتحدث عن الإيمان يتحدث بلسان العالِم
الباحث، وحين يشرح آيةً كونيةً يتحدث بلسان العابد المتأمل في خلق الله، فجمع بين
البيان القرآني والدليل العلمي، ليُقرِّب القرآن إلى الأذهان بلغةٍ يفهمها الجيل
المُعاصر. وفي إحدى كلماته للشباب قال: "أُريد لكل
شابٍ مُسلمٍ أن يُدرك أن الله اصطفاه لحمل رسالةٍ عظيمةٍ، وأن عليه أن يقرأ هذا
الكون بعينٍ مؤمنةٍ؛ فيرى في كل ذرةٍ آيةً، وفي كل نظامٍ دليلاً على وحدانية
الخالق".
خلَّف الفقيد عشرات المُؤلفات والمُحاضرات والمُقالات التي تناولت الإعجاز
العلمي في الأرض والسماء والماء والجبال والإنسان، وشرح من خلالها التناسق البديع
بين النص القرآني والحقائق الكونية الثابتة. كما شارك (فقيد الأُمة) في تأسيس
«الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسُنة»، وأسهم في تدريب أجيالٍ من
الباحثين، وأشرف على مُلتقياتٍ ومُؤتمراتٍ عالميةٍ في الجامعات والمراكز الإسلامية
عبر القارات. نعاه «الاتحاد العالمي لعُلماء المُسلمين» قائلاً: "فَقَدَ العالَم الإسلامي اليوم عَلماً من أعلامه، وعالِماً من عُلمائه
المُخلصين، بعد مسيرةٍ علميةٍ ودعويةٍ حافلةٍ بالعطاء في ميادين العِلم والإيمان
والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة".
لكن رحيل (فقيد الأُمة) الجسدي لا يعني غيابه الفكري؛ فصوته الذي طالما صدح
في القاعات والمنابر سيبقى حاضراً في أذهان من استمعوا إليه، وكُتبه ستظل مرجعاً
للباحثين، وسيرته ستبقى مثالاً للعالِم العامل، الذي عاش للإسلام عقلاً وقلباً
ولساناً. لقد مثّل الفقيد جسراً بين العِلم التجريبي والوحي الإلهي، وبيَّن أن
المُسلم الحق لا يعيش انفصاماً بين المُختبر والمِحراب، بل يجمع بين تدبّر كتاب
الله المقروء "القرآن" وكتاب الله المنظور "الكون". إن رحيله
لا يُعد خسارةً لشخصٍ فحسب، بل خسارةٌ لمدرسةٍ فكريةٍ دعويةٍ مُتكاملةٍ، آمَنَتْ
بأن العِلم سبيلٌ إلى الإيمان، وأن الدعوة إلى الله يجب أن تُخاطِب الإنسان
المُعاصر بلغته وعقله.
ما سبق نقلته لكم -بتصرفٍ- عن موقع «منار الإسلام» في مقالها بعنوان:
"زغلول النجار.. العالِم الذي حمل رسالة العِلم والإيمان إلى العالمين".
أحبتي في الله.. كان للفقيد -يرحمه الله- أنشطةٌ دعويةٌ كثيرةٌ؛ منها أن
أكثر من عشرين ألف جنديٍ وضابطٍ أمريكيٍ كانوا من المُشاركين في حرب الخليج الأولى
لتحرير الكويت عام 1990م أسلموا بفضل الله ثم نتيجة مُشاركة الدكتور زغلول النجار
في جهود الدعوة. حدث هذا حينما رأى طلاب جامعة «الملك فهد» بمدينة «الظهران» في
«المملكة العربية السعودية» توافد الجنود الأمريكيين بالمطار الذي لا يفصله عن
الجامعة إلا سلكٌ شائكٌ، وكانوا يسمعون الجنود وهم يهينون البلد ويتحدثون بغطرسةٍ
عن أنهم سيجبرونها على تغيير سياستها بالقوة، وكانوا يقودون السيارات بلا لوحاتٍ
ويتسببون في وقوع حوادث لكن دون مُحاسبة. أقبل الطلاب على الدكتور/ زغلول النجار،
أُستاذ الجيولوجيا بالجامعة، وأعربوا عن غضبهم من هؤلاء الجنود وطالبوا بقتالهم،
سألهم الدكتور: "بأي سلاحٍ تُقاتلون هؤلاء؟"، قالوا: "نُضيِّق
عليهم الطريق"، قال: "هُم يركبون سياراتٍ مُصفحةً ودباباتٍ"،
قالوا: "هل سنتركهم ونتفرج عليهم؟"، قال: "ادعوهم إلى
الإسلام"، فضحك الطلاب وقالوا: "ندعو مَن ولا أحد يُمكنه الاقتراب
منهم؟!"، قال: "ابحثوا عن ضُباط الاتصال الذين يتعاملون معهم واسألوهم:
هل تُحبون أن تسمعوا شيئاً عن حضارة هذه البلاد؟ ولا تذكروا الإسلام حتى لا
يرفضوا"؛ ففعلوا ورحَّب الأمريكان خاصةً أنهم كانوا يشعرون بمللٍ لعدم وجود
وسائل ترفيه. وتشكَّل وفدٌ من أساتذة الجامعة يضم الدكتور/ زغلول النجار وآخرين من
الجامعة ومن شركاتٍ مثل «أرامكو» ممن يُجيدون اللغة الإنجليزية، وانعقدت لقاءاتٌ
وحواراتٌ. كانت صورة الإسلام عند الأمريكان مُحرفةً؛ ويعتقدون أنه دينٌ مُتخلفٌ
ورجعيٌ. تحدث أعضاء الوفد عن أن الإسلام أقام أعظم حضارةٍ بشريةٍ، وهي الحضارة
الوحيدة التي استمرت عشرة قرونٍ كاملةٍ، وجمعت بين الدُنيا والآخرة، ولها الفضل في
وضع القواعد والأُسس التي قامت عليها الحضارة المُعاصرة والتقنيات الحديثة. كان
الكلام جديداً ومُثيراً؛ فراح الجنود يتساءلون وأعضاء الوفد يُجيبون بالنماذج
والأدلة التي تُثبت هذه الحقائق. ثم انتقل الحوار عن الإسلام نفسه وما يُميزه عن
بقية الأديان، وأعضاء الوفد يردون على الشُبهات ويُصححون التصورات. أسفرت تلك
اللقاءات عن نتائج مُذهلةٍ؛ فقد أعلن أكثر من عشرين ألف جنديٍ وضابطٍ أمريكي من
رُتبٍ مُختلفةٍ، من بيضٍ وسودٍ، من رجالٍ ونساءٍ، إسلامهم خلال فترة ثلاثة أشهر!
حتى أن القيادة الأمريكية رأت أن تُرحِّل كل من يُعلن إسلامه إلى «أمريكا»، لكنها
تراجعت بعد فترةٍ أمام الواقع الجديد نظراً لكثرة من أسلموا؛ فسمحت بتعيين أئمةٍ
للمسلمين من جنودها وضُباطها، وسمحت بالوجبات الخالية من دهن الخنزير والخمور،
وبصلاة الجمعة، وصوم رمضان، وأداء فريضة الحج!
قال أحد الذين أسلموا من الجنود للدكتور/ زغلول: "لماذا تتكاسلون عن
إبلاغنا بالإسلام؟ ما ذنب أبي وأمي أن يموتوا غير مسلمين؟ هل كان يجب أن نغزوكم
حتى نسمع عن الإسلام؟".
سافر (فقيد الأُمة) إلى «أمريكا»، وزار الكثير ممن أسلموا، وأرشدهم إلى
المراكز الإسلامية القريبة منهم في «الولايات المتحدة» حتى يتسنى لهم تعلم الإسلام
وأحكامه. يقول الدكتور زغلول: كنتُ أخطب الجمعة في «مسجد دار الهجرة» بمدينة «واشنطن»
العاصمة الأمريكية، ولمحتُ بين المصلين ضابطاً أمريكياً برتبة لواءٍ في البحرية،
بزيه الرسمي، يُصلي مع المُصلين، فسألته عقب الصلاة: "هل كنتَ ممن كان في
الخليج؟"، قال: "لا، ولكن ابني كان في الخليج وأدخل إلينا
الإسلام".
يقول د. زغلول: "بيدنا سلاحٌ عظيمٌ لو أحسنا توظيفه؛ هو سلاح الدعوة
إلى الله بالكلمة الطيبة والحُجة الواضحة، والمنطق السوي، وبه يفتح الله علينا
الدُنيا من أطرافها، وتتحقق نبوءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام
سيدخل كل بيتٍ بإذن الله".
يقول تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، يقول المفسرون: الرجل حقّاً هو مَن صدَق الله في عهده،
ووفى له بوعده، فهو من أهل الآية، الرجال تُجلِّيهم المواقفُ لا الأقوال، فالذكور
كثيرٌ، ولكن الرجال منهم قليلٌ، وأهل الأقوال كُثْرٌ، ولكن أهل المواقف عددٌ
يسيرٌ، وحقيقة الصدق هي في حفظ العهد، وإنما يستحقُّ الثناء مَن ثبت على ذلك طول
عُمره حتى يلقى الله تعالى.
نحسب أن (فقيد الأُمة) الإسلامية الدكتور زغلول النجار كان من الرجال الذين ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾
أحبتي.. يقول تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، فليكن لنا في فقيد الأُمة قدوةً، ولتكن لنا فيه أسوةٌ حسنةٌ؛ ولتكن لنا في شخصيته وفي سيرته ومسيرته، مواعظ وعِبَر؛ منها أن الإسلام هو دينٌ للناس أجمعين فيه الخير للبشرية في دُنياها وآخرتها، وهو صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ. وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء وأن الدعوة هي واجب الأُمة من بعده؛ قال صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً]، وقال عليه الصلاة والسلام: [فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ]. وأن دين الإسلام هو دين العِلم والحضارة والحرية والعدل والرفاهية، كما هو دين الإيمان بالله واليوم الآخر. ولنتأسى بالفقيد في أخلاقه التي أبت عليه أن يُنافِق أو يُداهِن أو يصمت عن قول الحق في وقتٍ كان هذا ديدن كثيرٍ ممن يُقال عنهم دُعاة. مات (فقيد الأُمة) غريباً عن وطنه، وهو يُجاهد في سبيل الله بعِلمه، لم يخشَ يوماً لومة لائم. فماذا عنا نحن؟ أما آن الأوان كي يُراجِع كلٌ منا موقفه من الدعوة؛ ويُحدد ماذا يستطيع أن يُقدِّم لها؛ فقد أنعم الله علينا بالكثير من النِعم: عِلمٍ وفهمٍ وصحةٍ وقوةٍ ومالٍ، وبغيرها من النِعم، هل سخَّرناها في القيام بواجب الدعوة؟ على كلٍ منا أن يُحاسِب نفسه، وأن يبدأ -دون تسويفٍ- نشاطه الدعوي ولو كان بسيطاً أو قليلاً، ولنثق أنه مع توفر الإخلاص في نفوسنا فسيوفقنا الله سُبحانه وتعالى إلى ما يُحب ويرضى، ويفتح أمامنا أبواباً كانت مُغلقةً وآفاقاً رحبةً لم نكن نحلم بأن في استطاعتنا الوصول إليها. المطلوب منا فقط: النية المُخلصة ثم العمل الصادق، كلٌ في مجال تخصصه، وفي حدود إمكانياته، وقدر استطاعته؛ يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.
جزى الله الفقيد عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء، وأسكنه فسيح جناته مع
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً. ﴿وإنا لله وإنا إليه
راجعون﴾.
https://bit.ly/47VgS2L
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق