الجمعة، 21 نوفمبر 2025

ليسوا عبيداً

 

خاطرة الجمعة /526

الجمعة 21 نوفمبر 2025م

(ليسوا عبيداً)

 

كتبت تقول: لقد اقتص مني الله سُبحانه وتعالى قصاصاً عادلاً، وهذه القصة أكتبها ندماً واعترافاً بذنبي لعل الله يغفر لي ما فعلتُ وأنا في قوتي وشبابي؛ فقد تزوجتُ من رجلٍ عسكريٍ كان حاد الطباع وصارماً بعض الشيء، ولعل تلك الصفات اكتسبها من طبيعة عمله، فتفهمته وتطبعتُ بطباعه، وما إن رزقني الله منه طفلين هما «عليّ» و«جنان» حتى كرستُ لهما حياتي، ولكن مع كبر سنهما وزيادة الأعباء المنزلية شعرتُ بحاجتي لخادمةٍ، فأحضر لي زوجي واحدةً، لكنها لم تستمر لدينا سوى شهرٍ واحدٍ، فطباع زوجي السيئة كانت تجعل الخادمات تهربن منا، وجاء لي بخادمةٍ، ثم بأُخرى، وهكذا كُل واحدةٍ تأتي لا تستمر في العمل سوى لأيامٍ أو أسابيع، حتى جاء إلينا يوماً رجلٌ قرويٌ فقيرٌ ومعه ابنته التي يبلغ عمرها عشر سنواتٍ، كانت طفلةً صغيرةً قدَّمها لنا أبوها نظير المال، وبالفعل أعطاه زوجي المال، وكان لا يراه إلا كُل أول شهرٍ عند المجيء لأخذ راتب ابنته، وكان هذا الرجل لا يقضي وقتاً مع ابنته فيذهب في عُجالةٍ إلى القرية؛ ليصرف ما أخذه من مالٍ على إخوتها وأُمها. للحق كانت الفتاة جيدةً تفعل كل ما تؤمر به، وحتى الطعام لا تأكل إلا الخبز الفاسد مع بعض البقايا التي كُنا نرميها سابقاً، وكانت تستيقظ معي كل يومٍ قبل موعد ذهاب أبنائي إلى المدرسة، فتُعد معي الفطور وتبدأ في مهام المنزل المُرهقة التي لم أتحملها وحدي من قبل، وتظل تعمل طيلة النهار حتى تسقط ليلاً من فرط التعب على أرضية المطبخ حيث تنام، وبالطبع لم يتورع زوجي القاسي عن تأديبها وتعذيبها على أي خطأٍ ترتكبه ولو كان بغير قصدٍ، ولا أنفي مسئوليتي في هذا فأنا لم أمنعه، بل على العكس تماديتُ معه، وكُنا أحياناً نتركها تنام دون طعامٍ، وأحياناً نمنعها من النوم، ونُرهقها في العمل دون أن نفكر في أنها طفلةٌ صغيرةٌ لا تستحق ذلك، وكان ابني «عليّ» قاسي القلب، كقلبي وقلب أبيه، فلا يتورع عن لكمها ورفسها بقدمه إن أخطأت، أما «جنان» فكانت اليد الوحيدة الحانية في منزلنا السيئ، التي تُضمد جراح الصغيرة وتحنو عليها لهذا كانت الفتاة تحبها.

دارت الأيام وكبرت الفتاة وكبر أبنائي، وأوضاعنا كما هي لم تتغير؛ قسوةٌ وعنفٌ دون رحمةٍ، وفتاةٌ لا حول لها ولا قوة، أُسرتها لم تعد تسأل عنها وليس لها أحدٌ سوانا، فاستسلمت لقهرنا وظُلمنا وظلت طوال النهار تعمل، وهي ذليلةٌ كسيرةٌ، وفي الليل ترقد كالمغشي عليها، حتى جاء اليوم الذي هربت فيه؛ فقد أحبَّت شاباً بسيطاً، كان يعمل بائعاً في متجرٍ قريبٍ من المنزل، هربت لتتزوجه لأنها كانت تعلم أننا نرفض أي أحدٍ يتقدم لخطبتها، فهي صيدٌ ثمينٌ لنا؛ فريسةٌ دون أهلٍ، فهي لم ترَ إخوتها إلا يوم وفاة أبيها، حتى أن لا أحد كان يسأل عنها أو يهتم بأمرها. حينما علم زوجي بهروبها جُن جنونه، وبعلاقاته واتصالاته عرف مكانها، واستطاع إحضارها -لا أقول إلى دارنا بل إلى نارنا- من جديدٍ، وفي تلك المرة عذَّبها بأبشع الطُرق، وظل يضرب فيها هو وابني «عليّ» وأنا كنتُ معهم. استسلمت الفتاة لمصيرها البائس وبدأت تذبل، وبعد فترةٍ بدأت الأشياء تتساقط من يدها بصورةٍ مُتكررة؛ فعرضناها على الطبيب فقال لنا إنها فقدت الرؤية في إحدى عينيها والثانية ضعيفةٌ للغاية. بالطبع لم نتكلف أنا أو زوجي عناء علاجها فتركناها تذهب، فهي الآن لم يعد لها نفعٌ بالنسبة لنا ووجودها في المنزل صار عبئاً؛ خرجت الفتاة شبه الضريرة، وهي ليس لها أحدٌ، ولم نُحاول حتى معرفة أين ستذهب، فقط طوينا تلك الصفحة وبحثنا عن خادمةٍ أُخرى.

مرَّت الأيام وتقدم ابني «عليّ» لخطبة فتاةٍ جميلةٍ من أُسرةٍ مرموقةٍ، وتمت الخطبة ثم الزواج، وكان الجميع سُعداء، وبعد تسعة أشهرٍ من الزواج رزقنا الله بأول حفيدٍ؛ طفلٌ آيةٌ في الجمال، لكنه للأسف وُلد ضريراً، فكانت الصدمة كبيرةً على العائلة، وخشيت زوجة ابني أن تحمل ثانيةً حتى لا تتكرر المأساة، لكن الأطباء طمأنونا لأنه ليس هناك صلة قرابةٍ بين ابني وزوجته، حدث بالفعل الحمل الثاني وكان الجميع في قلقٍ وترقبٍ، لكن حينما وضعت الأُم طفلتها طمأننا الأطباء، وكانت الفتاة سليمةً وترى بوضوحٍ، ففرحتُ أنا وزوجي وكل من حولنا، لكن بعد مرور ستة أشهرٍ حدثت المُفاجأة، لقد أصيبت الفتاة بمرضٍ في العين أضعف بصرها للغاية، وأصبحت على وشك العمى. يا الله كانت فاجعةً بالنسبة لنا، شعرتُ يومها أن هذا انتقامٌ من الله لأجل تلك الفتاة التي أضعنا بصرها، وتركناها هائمةً في الدنيا دون أن نُفكر في مصيرها، حينها فقط ندمتُ، أما زوجي فأصيب بمرضٍ نفسيٍ نقلناه على إثره إلى مصحةٍ، باقٍ فيها من يومها ولا تتحسن حالته.

أخذتُ أبحث عن الفتاة بكل جهدي وحاولتُ أن أجدها، لكن لا أحد يعلم أين هي؟ ظللتُ هكذا حتى وفقني الله يوماً للصلاة في أحد المساجد، وهناك رأيتها نائمةً في ركنٍ قريبٍ، وعلمتُ من الناس أنها تخدم في هذا المسجد مُنذ طردناها، والناس يعطفون عليها بالطعام والشراب؛ فحمدتُ الله أني وجدتها، واقتربتُ منها وعرَّفتها بنفسي، الغريب أنها سلَّمت عليّ ولم تنفر مني! كم كنتُ قاسيةً وشريرةً، وكم كانت هي طيبةٌ ورحيمةٌ، طلبتُ منها أن تأتي معي واعتذرتُ لها عن سنوات الحرمان والعذاب، ورجوتها أن تُسامحني فربتت على كتفي وقالت: "لا عليك يا خالة"، بكيتُ وبكيتُ حتى أغرقت الدموع ثيابي؛ فقد اقتص الله لعبدته الضعيفة مني ومن جبروت زوجي، أين هي الآن وأين نحن؟ تعهدتُ لها بقية عُمري أن أعتني بها، وأعمل على خدمتها حتى يغفر الله لي ما فعلته أنا وأُسرتي بحقها، وأتمنى من الله أن يتقبل مني ذلك حتى أستطيع الموت في سلام.

 

أحبتي في الله.. كم من مآسٍ يتعرض لها الخدم في منازل المخدومين؟ ومن الإنصاف أن نُشيد بأُسرٍ تعاملت مع هؤلاء بالحُسنى، وهي المُعاملة التي ينبغي أن يتعامل بها المسلمون بعضهم مع بعضٍ، وكذلك مع غير المسلمين، مهما تفاوتوا في مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها من مستويات. لكن تركيزنا على من يتعاملون مع الخدم بطريقةٍ غير إنسانيةٍ يرفضها الشرع الحنيف وتأباها الفطرة السوية.

 

كتبت إحدى الخادمات تحكي عن برنامج عملها اليومي، قالت: أستيقظ يومياً الساعة الخامسة صباحاً بأمرٍ من ربة المنزل لعمل وجبة الإفطار للأولاد قبل ذهابهم إلى المدرسة، وبعد إعداد تلك الوجبة وتجهيزها أقوم بدور الموقظ لهم من النوم، وتغسيل الصغار منهم، وإلباسهم الزي المدرسي، وبعد ذهابهم إلى المدرسة أقوم بتنظيف أواني الإفطار وإعداد وتجهيز وجبة إفطارٍ أُخرى لربة المنزل ولزوجها اللذين مازالا يغطان في نومٍ عميق. أقوم بعد ذلك بتجهيز مُستلزمات المطبخ من تقطيعٍ للحوم والخضروات. ثم أتوجه لعمل التنظيف اليومي لأرجاء المنزل، وقبل أن استكمل نصف هذا العمل، إذا بصوت ربة المنزل يُناديني بإحضار الفطور لها ولزوجها. أعود بعد ذلك لاستكمال عمل التنظيف الذي قطعتني عنه ربة المنزل. وبعد الانتهاء من ذلك العمل يكون الوقت قد حان لعمل وجبة الغداء، والتي تأخذ مني الكثير من الوقت. وما أن يصل الأولاد من المدرسة حتى يكون طعام الغداء جاهزاً؛ فأقوم بتقديمه لهم. بعد ذلك يأتي دور تنظيف الأواني الخاصة بالطبخ وبوجبة الغداء. وما أن يؤذَن لصلاة العصر، وأحياناً بعدها بساعةٍ، إلا وقد انتهيتُ من أعمال المطبخ، وما أن ينتهي هذا العمل حتى أجد أمامي عملاً آخر، ألا وهو كي الملابس ثم توزيعها على غُرف أصحابها. وعند الانتهاء يكون الموعد قد حان لإعداد وجبة العشاء للأبناء، يعقبها إعداد وجبة العشاء لربة المنزل وزوجها، والذي عادةً ما يتناولانه بعد الساعة الحادية عشرة مساءً، وعليّ أن أنتظرهما إلى هذا الوقت المتأخر من الليل، أؤدي واجب الخدمة لهما من تقديم طعام العشاء ثم تنظيف الأواني الذي يعقب تلك الوجبة؛ فما أن أُنهي هذا العمل إلا وقد أنهكني التعب وأخذ مني كل جُهدٍ فأتجه بكل صعوبةٍ إلى غُرفتي الخاصة بعينين مُرهقتين يُغالبهما النُعاس، أُلقي نظرةً على ساعتي الصغيرة فإذا هي تُشير إلى الساعة الواحدة بعد مُنتصف الليل، وقد تزيد أحياناً فأستلقي طريحة الفراش من أثر التعب، وفي غمرة النوم فإذا بساعتي الصغيرة ذات الجرس المُزعج تُعلن موعد استيقاظي ليومٍ جديدٍ وعملٍ مُرهقٍ آخر!

 

المُتخصصون في عِلم الاجتماع يقولون إن مظاهر القسوة على الخدم كثيرةٌ؛ منها: تأخير صرف رواتبهم، وهذا مُحرمٌ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [أعطوا الأجيرَ أجْرَه قَبلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُه]. كما أن احتقار الخادم والتعالي عليه ودعوته بأكره أسمائه إليه والصُراخ في وجهه عنوان قسوةٍ ونذالةٍ، ويدل على بشاعة نفسٍ. ومن القسوة تشغيل الخادم ساعاتٍ طويلةً فوق طاقة الإنسان، مع أن الخادم له حقٌ معلومٌ في الراحة والترفيه عن النفس. إن البعض يُسيء بالفعل مُعاملة الخادم وينسون -أو يتناسون- أنه بشرٌ مثلهم، يشعر ويُحس، يفرح ويحزن، يتعب ويمرض، إنه إنسانٌ وليس آلةً، يحتاج مثلما نحتاج نحن كُلنا إلى مساحةٍ من الراحة والترويح عن النفس.

 

إن هؤلاء الخدم إخوةٌ لنا في الإنسانية، وربما في الدين أيضاً، إنهم (ليسوا عبيداً)، فما هو واجبنا تجاههم؟ وما هي حقوقهم التي ينبغي علينا الوفاء بها، إرضاءً لله سُبحانه وتعالى؟ وما هو حُكم إساءة التعامل معهم؟ وهل إساءة التعامل معهم ظُلمٌ لهم؟

يقول أهل العِلم نعم، إنه ظلمٌ؛ فهؤلاء مساكين، أتوْا لطلب الرزق لأنفسهم ولأُسرهم، والله تعالى قد حرَّم الظُلم؛ فقال كما في الحديث القدسي: {يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}. والظُلم بالقول أو بالفعل عاقبته وخيمةٌ، وأقرب شيءٍ منها دعوة المظلوم، هذه الدعوة التي لم يجعل الله بينها وبينه حجاباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ].

إن الإسلام الحنيف، يُحرّم


القسوة على الخدم، وإيذاءهم جسدياً أو نفسياً، أو تكليفهم ما لا يطيقون؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، والخادم إنسانٌ له حق الراحة والإجازة والخلوة بالنفس. ومن يدري؛ ربما تحولت أحوالنا فصرنا لمصير هؤلاء الخدم، فأصبحنا نخدم في البيوت كما يخدمون، والله تعالى يقول: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فهل سيرضى أحدنا أن يُهان أو تُمس كرامته؟ إن علينا أن نتقي الله عزَّ وجلَّ فيمن اضطرته الظروف، ودفعته الحاجة، وسخَّره الله لخدمتنا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [قالَ اللَّهُ: "ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه"]. وعلينا أن نرعى فيهم وصيته عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال: [إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ]. و"الخَوَلُ" هُم الخدم؛ سُموا بذلك لأنهم يتخولون الأمور أي: يُصلحونها، ومنه يُقال "الخولي" لمن يقوم بإصلاح البستان.

يقول العُلماء إن من حق الخادم على مُستخدمه أن يُطعمه مما يَطعم، وأن يُلبسه مما يلبس، وألا يُكلِّفه بما لا يستطيع عمله وإلا أعانه عليه، إما بنفسه أو بأُجَراء آخرين. وأن يُسكنه فيما يسكن، أو في سكنٍ مناسبٍ، بما يضمن له كرامته وخصوصيته. وأن يُعطيه من الأجر ما يُناسب عمله ومجهوده، ولا يستغل حاجته وفقره. وألا يَسُبه، ولا يشتمه، ولا يضربه؛ فعن أحد الصحابة رضي الله عنه قال: "كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِن خَلْفِي، [اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ]، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الغَضَبِ، قالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا هو يقولُ: [اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ]، قالَ: فألْقَيْتُ السَّوْطَ مِن يَدِي، فَقالَ: [اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ علَى هذا الغُلَامِ]، قالَ: فَقُلتُ: لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا". وفي روايةٍ: "فَسَقَطَ مِن يَدِي السَّوْطُ مِن هَيْبَتِهِ".

وعلى المخدوم أن يتذكر دائماً أن هؤلاء الخدم (ليسوا عبيداً) إنما هُم بشرٌ مثلنا لهم حقوقٌ علينا يجب احترامها. كما أن على المخدوم أن يُتجاوز عن خطأ الخادم وتقصيره؛ فلا يزيد عليه التوبيخ عندما ينسى فعل أمرٍ أُمر به، أو كسر بعض الأواني دون قصدٍ. عليه أيضاً أن يجتهد في تعويض خادمه ما فقده من أهلٍ وعشيرةٍ. وأن يُمسكه بإحسانٍ أو يتخلى عنه بإحسانٍ؛ فإن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ. وعلى المخدوم كذلك ألا يُظلم غير المُسلمين من الخدم، بل ينبغي أن يدعوهم إلى الإسلام بسلوكه الحسن، ومُعاملته الطيبة، ولا يُنفِّرهم من الإسلام بسلوكه الفظ والقاسي.

 

لقد كان لنا في النبي صلى الله عليه وسلم أُسوةٌ حسنةٌ؛ قال أنسٌ ابن مالك رضي الله عنه: "خدَمْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشْرَ سِنينَ، فما قال لي لشيءٍ فعَلْتُه: لِمَ فعَلْتَه؟ ولا لشيءٍ لم أفعَلْه: ألَا فعَلْتَه؟ وكان بعضُ أهلِه إذا عتَبَني على شيءٍ يقولُ: دعُوه؛ فلو قُضِيَ شيءٌ، لكانَ".

وهذا رجلٌ جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، كم نعفو عن الخادمِ؟ فصمَتَ، ثم أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلما كان في الثالثةِ قال: [اعفُوا عنه في كل يومٍ سبعين مرةً]، وهذا العدد للكثرة، لا لبلوغ مُنتهى العدد، وهذا كنايةٌ عن العفو الدائم عن الخادم، مع إرشاده إلى الصواب وتأديبه.

 

الخلاصة كما نشرها أحدهم؛ فقال: الخدم (ليسوا عبيداً) إنهم فئةٌ مسكينةٌ من البشر، اضطرتهم الحاجة إلى مُمارسة هذه المهنة. وعلى الرغم من عدم احترام الناس لها، فإنها مهنةٌ كريمةٌ، مثلها في ذلك مثل أية مهنةٍ أُخرى، بل ويُقال "سَيّدُ القومِ خَادِمُهُم". الخادم إنسانٌ كامل الأهلية كباقي البشر، له حقوقٌ، وعليه واجباتٌ، وليس عبداً يُباع أو يشترى، فهو يعمل مُقابل راتبٍ مُتفقٍ عليه، وعقدٍ مُبرمٍ بينه وبين رب العمل. الخادم إنسانٌ شريفٌ، لجأ للعمل بهذه المهنة، بدلاً من أن يسرق أو يمد يده للآخرين، فيجب التعامل معه على أن له شعوراً؛ يغضب إذا أُهين، ويفرح إذا أُكرم. إن الذي يتعامل مع خدمه بمكارم الأخلاق؛ فلا يستكبر عليهم ولا يحتقرهم، ولا يظلمهم أو يقسو عليهم، وإنما يُعاملهم بما يستحقون من إنصافٍ وعدلٍ، فهو يدل على أن أخلاقه الحقيقية راقيةٌ، وأنه كريم الأصل، كريم السجايا والنفس.

 

أحبتي.. إذا دعتنا قُدرتنا إلى ظُلم من جعلهم الله تحت ولايتنا وسُلطاننا من خدمٍ، أو عُمالٍ، أو رعيةٍ، أن نتذكر قُدرة الله وبطشه وجبروته علينا. والواجب أن نتقي الله تعالى في تعاملنا معهم ولا ننسى أبداً أنهم (ليسوا عبيداً).

وعلى من يقسو على خدمه أن يرجع عن قسوته وغلظته، وأن يتوب لله توبةً نصوحاً، ويستسمح ممن ظلمهم، وأن يُكرمهم؛ فكم من مُسلمٍ يُتعِب نفسه في الدُنيا بطاعاتٍ وأعمالٍ لكن أجورها قد تضيع عليه في الآخرة بأخذها منه وإعطائها لمن تعدى عليهم في الدنيا بسبٍ أو ضربٍ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟] قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: [إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ].

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

https://bit.ly/4rkrx07

ليست هناك تعليقات: