الجمعة، 27 سبتمبر 2024

استمطار الفرَج

 

خاطرة الجمعة /466

الجمعة 27 سبتمبر 2024م

(استمطار الفرَج)

 

يقول راوي القصة إنه سمعها بنفسه مباشرةً من أحد أبطالها، وهذه هي:

في تسعينات القرن الماضي، وبعد محاولاتنا للضغط على العدو ليُطلق سراح الشيخ أحـ.ـمد ياسـ.ـين من سجنه، تمكن العدو من القبض علينا، وحُكم عليّ بثلاث مؤبداتٍ و40 سنة سجناً! في الأَسر ضاق بنا الحال، ولم نكن نرى أي أملٍ للخروج؛ فقررنا -وكُنا عدداً من المساجين الإسـ.ـلاميين- أن نُطلق فيما بيننا ما أسميناه (استمطار الفرَج) وهو -باختصارٍ- أن نبذل غاية الوسع في العبادة والتضرع إلى الله تعالى أن يُفَرِّج عنّا ما نحن فيه، فهو تعالى على كل شيءٍ قديرٍ، ولا حد لقدرته جلَّ شأنه، وكان شهر رمضان على الأبواب؛ فجعلنا الحملة تبدأ من أول أيام رمضان، وأخذنا نحفظ القرآن الكريم -وشدَّد على ذلك كثيراً-، ونقوم الليل، ونجتهد في الدعاء.

وكانت المفاجأة أننا علمنا أن الله تعالى فرَّج عن مسلمين غيرنا في أراضٍ أُخرى، فسمعنا عمَّن أُطلق سراحهم في «ليبيا»، وآخرين في أقصى المشرق، ونحن على حالنا؛ ففرحنا لفرح إخواننا، لكننا بالتأكيد تمنينا العافية لأنفسنا.

استطرد مُحدثنا ليُحيطنا بالتفاصيل، فقال: وفي خارج السجون كانت سلطة أوسـ.ـلو قد قامت، وهدّأت الشارع، فلم يعد من ضغطٍ على العدو، وكان جلعـ.ـاد شالـ.ـيط قد جاوز السنوات الخمس في أَسر حمـ.ـاس، وكانت المفاوضات شبه مُجمدةٍ، ولا يوجد أي أفقٍ لاستئنافها.

دخلت العشر الأواخر من رمضان، ولا أمل يبدو في الأفق، ولكننا مازلنا على اجتهادنا قدر وُسعنا، ثم كانت الجمعة الأخيرة، فصعد أخٌ -ممن كان يجتهد معنا- ليخطب الجمعة، ثم طلب منا أن نُقسم جميعاً على الله تعالى أن يُفْرَج عنّا هذا العام! قال: ففعلنا، ونحن آنئذٍ لا نعرف كيف؟ ولكن نتمناه. قال: ثم فوجئنا بالخطيب يُلِّح علينا أيضاً أن نُقسم على الله تعالى أن نحج هذا العام! فتعجبنا كل العجب منه، وكلٌ منا يقول في نفسه: "نخرج.. مشّيناها، لكن نحج؟!"؛ فحتى من هُم بخارج السجون يعتبرون الوقت قد فات؛ حيث أننا في آخر رمضان، وكم بقي على الحج؟! لكن تحت إلحاح أخينا الخطيب فعلنا وأقسمنا! كل هذا ولا توجد بارقة أملٍ تبدو في الأفق، لكنا كُنا نُحسن الظن بالله واثقين من فضله الواسع!

قال: ثم فوجئنا بمفاوضات شالـ.ـيط تتسارع وتحمى، حتى تمت الصفقة قُبيل يوم عرفة ب20 يوماً فقط لا غير، وخرجنا من السجن. قال: وتعنت الاحتلال فأصر أن يخرج 40 من المفرج عنهم من «فلسطين» نهائياً! قال: وكنتُ منهم، وخيرونا بين «سوريا» و«تركيا» و«قطر»، قال: فاخترتُ «تركيا»، وكان أردوغـ.ـان آنئذٍ رئيساً للوزراء، فخرجنا إلى «مصر» بجوازات سفرٍ فلسـ.ـطينية، ومنها إلى «تركيا» فوراً. وسُبحان الله اللطيف الخبير، إذ ألهم عاهل «السعودية» وقتها أن يُعطي تأشيرة حجٍ كمكرمةٍ مَلكيةٍ للمفرج عنهم في هذه الصفقة! ولكن الوقت كان قد تأخر للغاية، فقد طلعت شمس صباح يوم التروية "اليوم السابق لوقوف الحجيج بعرفة" ونحن في «أنقرة»، وكذلك غربت علينا شمس ذلك اليوم، فنوينا -أنا وإخواني المُفرج عنهم- صيام يوم «عرفة»، وهذه سُنةٌ لمن لم يُكتب لهم الحج، وقد حمدنا الله عزَّ وجلَّ أن مَنَّ علينا ونجَّانا من الأسر، وكفى بها نعمة.

لكن الله سبحانه لا تحده الحدود، ولا تمنعه الموانع، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، و﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فلما أصبحنا يوم «عرفة» صائمين في «أنقرة»، فوجئنا بالسلطات التركية تُرتب لنا طائرةً خاصةً لتنقلنا إلى الأراضي المقدسة! قال: فشككنا في الأمر، وأبَيْنا أن نُفطر، خشية أن يضيعا معاً الحج، وصيام «عرفة»، حتى إذا كُنا على متن الطائرة وطارت بنا أفطرنا من صومنا وأحرمنا بالحج! قال: ثم هبطت بنا الطائرة في مطار «جدة» السعودي، وقد كان مُغلقاً ولكنه فُتح فقط لنا، وجيء بموظفي الجوازات خصيصاً لنا! ووصلنا «عرفة» قُبيل غروب الشمس بساعة، فتم لنا أداء فريضة الحج! لقد استجاب الله جلَّ جلاله دعاءنا، وأشهدنا الحج كما كُنا قد أقسمنا عليه سبحانه!

 

أحبتي في الله.. صدق من قال: عندما يشاء الله لا قيمة لقوانين الحياة. عندما يشاء الله لا وزن لتدابير البشر. عندما يشاء الله لا أهمية لحواجز المستحيل، يكفيه عزَّ وجلَّ أن يقول للشيء ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.

 

و﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ تعبيرٌ قرآنيٌ مُحكمٌ ورد ذِكره في القرآن الكريم ثماني مرات؛ يقول تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول جلَّ شأنه: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول أيضاً: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول كذلك: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. كما يقول: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

والمعنى أن الله سُبحانه وتعالى يملك القُدرة التامة والمطلقة، فلا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ولا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فلا يتعاظم على قُدرته شيءٌ، ولا يتعاصى على قُدرته شيءٌ؛ فإذا ما أراد فعل شيءٍ فإنما يفعله ويخلقه بأمره له: ﴿كُنْ﴾، فلا يتأخر ذلك الشيء الذي أراده، بل ﴿فَيَكُونُ﴾ من فوره.

لذا فإن (استمطار الفرَج) لا يكون إلا بحُسن الظن بالله سُبحانه وتعالى، والأخذ بالأسباب من التزامٍ كاملٍ بالفروض والتمسك بما يسع الإنسان من النوافل، والدعاء بإخلاصٍ مع الإلحاح في الدعاء وتحري أوقات إجابته.

وينبغي التنبيه على أمرٍ هامٍ، وهو أنه قد اشتُهر بين العوام أنهم يقولون: "يا من أمره بين الكاف والنون"، وهذا -كما يقول العُلماء- خطأٌ؛ فليس أمر الله بين الكاف والنون، بل بعد الكاف والنون؛ لأن الله قال: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ متى؟ بعد ﴿كُنْ﴾. فقولهم: “بين الكاف والنون” خطأٌ، يعني: ما تم الأمر بين الكاف والنون، لا يتم الأمر إلا بالكاف والنون، لكنه بعد الكاف والنون فوراً كلمحٍ بالبصر.

 

فعند (استمطار الفرَج) والأخذ بالأسباب، قد يُدهشنا الله سُبحانه وتعالى بسرعة الاستجابةٍ؛ يقول الشاعر:

ما بينَ غَمْضةِ عَينٍْ وانْتِباهَتِها

يُغيّرُ الله مِنْ حالٍ إلىٰ حالِ

وقد تزداد دهشتنا من كرم العطاء؛ يقول الشاعر:

وَتَشاءُ أنْتَ مِنَ البَشائِرِ قَطْرَةً

‏ وَيَشاءُ ربُّكَ أنْ يُغِيثَكَ بِالْمَطَرْ

‏ وَتَشاءُ أنْتَ مِنَ الأمَاني نَجْمَةً

وَيَشاءُ ربُّكَ أنْ يُناوِلَكَ الْقَمَرْ

‏ وَتَشاءُ أنتَ مِنَ الحَياةِ غَنيمَةً

‏ وَيَشاءُ ربُّكَ أن يَسوقَ لَكَ الدُرَرْ

‏ وَتَظلُّ تَسْعَى جَاهِدًا فِي هِمَةٍ

‏ والله يُعطِي مَنْ يَشاءُ إذَا شَكَرْ

 

أحبتي.. إن (استمطار الفرَج) يكون بالإخلاص في الدُعاء، والأخذ بالأسباب مع عدم التعلق بها، بل بالتعلق بمن ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، والذي هو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، والذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.

اللهم إنا نستمطرك فرَجاً من كل كربٍ وهَمٍّ وغَمٍّ، فأغثنا بسحائب رحمتك غيثاً طيباً مباركاً، وأمطرنا استجابةً لدعائنا وزيادةً وفضلاً، واسقِ نفوسنا سَكينةً وأمناً، واروِ أرواحنا لتُزهر راحةً وطُمأنينةً وسلاماً، وتُثمر خيراً كثيراً من واسع فيض كرمك وعظيم جودك وجميل عطائك.

وأعنّا اللهم على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنّا.

 

https://bit.ly/4gIr0zK

الجمعة، 20 سبتمبر 2024

المرأة الصالحة

 

خاطرة الجمعة /465

الجمعة 20 سبتمبر 2024م

(المرأة الصالحة)

 

يقول راوي القصة: رجلٌ مرضت امرأته، فبكى عليها بكاءً شديداً، فسألته: "لِمَ تبكي عليها هذا البكاء؟"، فقال: "إنني أخشى أن تموت"، ثم شرع يقص بعض شأنها معه، يقول: "إنها ابنة مُقاولٍ كبيرٍ وشهيرٍ وصاحب مالٍ، وكنتُ عاملاً عنده، فلما لمس المقاول مني الإخلاص والأمانة والجد والتفاني جعلني رئيساً للعمال، فمارستُ عملي الجديد بكل إخلاصٍ وود، فأراد الرجل الذكي أن يحتفظ بماله عند يدٍ أمينةٍ؛ فلربما قال في نفسه: "أُزوج ابنتي من هذا الرجل"، فزوجني ابنته، فحفظتُ له هذا المعروف. وكنتُ فقيراً، لم يكن عندي من المال ما أستطيع أن أجعل ابنته في مستوى معيشة أبيها، فكانت الأيام والأسابيع وربما الشهور تمضي علينا لا نأكل لحماً، وكان موعدنا كل يوم جمعةٍ عند والدها على مائدة الغداء، فيأتي بما لذَّ وطاب وما تشتهيه الأنفس وتسر به الأعين، فكنتُ ألاحظ دائماً أنها لا تأكل شيئاً من اللحم ولا من الدجاج ولا من البط، رغم أنها لا ترى هذه الأصناف في بيتنا. ظلت على ذلك زمناً وأنا لا أعرف السبب، حتى قالت لي والدتها ذات يومٍ: "لا تجعل ابنتي تأكل لحماً دائماً حتى تأكل منه عندما تأتي إلينا؛ فكلما سألناها لماذا لا تأكلين من اللحم تقول تعبنا من كثرة أكل هذه الأشياء، نأكل لحماً ودجاجاً وبطاً كل يوم"، فذرفت عينايّ، وصرتُ أُحضر لها بعضاً من اللحم كلما استطعت ذلك.

يقول الراوي فقلتُ له: "يحق لك أن تبكي؛ فإن (المرأة الصالحة) لا تفضح زوجها ولا تكشف ستره أبداً".

 

أحبتي في الله.. إنها بالفعل امرأةٌ صالحةٌ؛ تعمل بأصلها وتستر على زوجها وتصون سره وتحفظ كرامته وتُعلي من قدره في عيون الآخرين، تبذل كل جهدها كي يظل في نظر الناس رجلاً كاملاً، حتى ولو لم يكن كذلك، ومن فينا الكامل؟

(المرأة الصالحة) هي عونٌ لزوجها ليكون ناجحاً، توفر له الجو الذي يُساعده على تحقيق أهدافه في الحياة، وهي تعلم أن العمل هو حياة الرجل كما البيت بالنسبة للمرأة، يحرص دائماً على النجاح والتفوق في عمله؛ فتُساعده زوجته الصالحة بكل ما تستطيع.

 

يُذكرني هذا بقصةٍ حدثت منذ أكثر من قرنٍ من الزمان بمدينة «ديترويت» في «الولايات المتحدة الأمريكية» حيث كان أحد الشباب يعمل كميكانيكي بشركةٍ مُتواضعةٍ يحصل علىٰ راتبٍ صغيرٍ أسبوعياً مُقابل مدة عملٍ طويلةٍ في اليوم الواحد، لكنه كان طموحاً؛ فحين يصل إلى منزله في المساء يقضي نصف الليل في حظيرةٍ خلف بيته، عاكفاً على مُحاولة صُنع نوعٍ جديدٍ من المُحركات. وفيما كان والده الفلاح يعتبر مُحاولات ابنه ضرباً من العبث، كانت زوجة الشاب هي الوحيدة بين أهله وجيرانه التي تُشجعه، وكانت تقضي معه طيلة الليل تشد من أزره وتُلهب حماسه. وعندما يحل فصل الشتاء كانت تحمل له في يدها مصباح الغاز لتضيء له، بينما أسنانها تصطك من شدة البرد، وكان زوجها يُطلق عليها لقب "المؤمنة". استمرت معه على هذه الحال ثلاث سنوات. في عام 1893م أشرف العمل على نهايته، وكان الشاب يومئذٍ قد قارب الثلاثين من عُمره، وفي يومٍ من أيام تلك السنة تناهى إلى سمع الجيران صوتٌ غريبٌ لم يألفوه من قبل؛ فهُرعوا على أثره إلى نوافذهم فرأوا عجباً؛ رأوا الشاب الذي كانوا يسخرون منه «هنري فورد» وزوجته يركبان عربةً تجري بلا خيولٍ، وشاهدوا بأعينهم المُحملقة المذهولة تلك العربة العجيبة تصل إلى نهاية الشارع ثم تعود. يومئذٍ شهد العالم مولد اختراعٍ جديدٍ كان له أبلغ الأثر في تطور المدنية الحديثة، ألا وهو اختراع محرك السيارة! وإذا كان «هنري فورد» هو "أبو هذا الاختراع" فقد استحقت زوجته عن جدارةٍ أن تكون "أم هذا الاختراع". وقد سُئل «هنري فورد» بعد أكثر من أربعين عاماً من تاريخ اختراعه، ماذا يُحب أن يكون لو عاش على الأرض حياةً ثانية؟ أجاب بقوله: "لا يهمني ماذا أكون بقدر ما يهمني أن تكون زوجتي بجانبي فيها".

حقاً؛ إن وراء كُل رجلٍ عظيمٍ تقف (المرأة الصالحة) مُحفزةً لزوجها، داعمةً له، تشد من أزره وتُعينه. وحقاً أيضاً؛ إن كُل امرأةٍ صالحةٍ قادرةٌ بوفائها وعطائها على أن تُقدم للعالَم أعظم الرجال.

 

عن (المرأة الصالحة) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ؛ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ]. وهذا إرشادٌ وتوجيهٌ من النبي صلى الله عليه وسلم للرجال والشباب باختيار (المرأة الصالحة) للزواج؛ لأنها من أعظم النعم على الإنسان في الدنيا، يفرح بالنظر إليها، وبطاعتها له، وهي عفيفةٌ تحفظ نفسها إذا غاب عنها، وأمينةٌ تحفظ ماله، فهي صالحةٌ في دينها ونفسها، ومُصلحةٌ لحال زوجها.

 

يقول أهل العلم إن (المرأة الصالحة) هي التي تحفظ نفسها وعِرضها في حضور زوجها ومغيبه، وفي الصغير والكبير. يقول سبحانه وتعالى: ﴿فالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ﴾. وهي التي تتحلى بالخُلُق الحسن، والأدب الرفيع، فلا يُعرف منها بذاءة لسانٍ ولا خبث جنانٍ ولا سوء عشرةٍ، بل تتحلى بالطيب والنقاء والصفاء، وتتزين بحُسن الخطاب، ولُطف المُعاملة، وتتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجدال والمِراء والكبرياء. وخير النساء التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا حُرمت صبرت، تسرك إذا نظرتَ، وتطيعك إذا أمرتَ. وهي المؤمنة التقية التي تسعى دوماً إلى تقوية صلتها بربها؛ فلا تترك فرضاً، وتحرص على شيءٍ من النفل، وتُقدِّم رضى الله سبحانه على كل ما سواه. وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].

وهي التي ترى فيها مُربيةً صادقةً لأبنائك، تُعلمهم الإسلام والخُلُق والقرآن، وتغرس فيهم حب الله وحب رسوله وحب الخير للناس، ولا يكون همُّها من دنياهم فقط أن يبلغوا مراتب الجاه والمال والشهادات، بل مراتب التقوى والديانة والخلق والعلم.

 

ووفاء (المرأة الصالحة) لزوجها يعني أن تُعاشره بحُسن السمع والطاعة -إلا فيما يُغضب الله تعالى فلا طاعة لبشرٍ في معصية الله تعالى- إنما الطاعة في المعروف. إنها تجعل من بيتها مُستقراً لراحة زوجها وسكنه، لا ترتفع في بيتها الأصوات، ولا يكون بيتها مكاناً للخصام ولا للشقاق ولا للعناد.

يقول العلماء إن من صور وفاء (المرأة الصالحة) لزوجها وإكرامها له ألا تقطعه من أهله، بل تُعينه على صلتهم والتقرب إليهم، ومن الوفاء إحسانها إلى أبويه والتودد إليهما والصبر عليهما والتحبب إلى ذوي أرحامه إكراماً له.

ومن الوفاء أن تحفظ زوجها في غيابه وحضوره، وتحفظ العهد وترعاه ولا تخونه أبداً، وتحفظ ماله بعدم الهدر والمساعدة بحُسن التدبير، وتستر زوجها فلا تُفشي أسراره، وتدعمه في الأزمات.

 

أحبتي.. هنيئاً لكل رجلٍ فاز بامرأةٍ صالحةٍ تُعينه على أمور دينه ودنياه. وإذ يقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؛ فحريٌ بمن أنعم الله عليه بمثل تلك المرأة أن يشكر ربه، ويُصلح من عمله، ويُحسن إلى زوجته، ويحافظ عليها، ويُقابل وفاءها بالوفاء، وحبها بالمودة والرحمة والود وحُسن العشرة. ومن لم يُنعم عليه ربه بهذه النعمة عليه أن ينظر إلى نفسه أولاً فيصلحها، ثم يأخذ بيد زوجته باللين والمداراة واللُطف حتى يصل بها إلى أن تكون (المرأة الصالحة) التي تستقيم معها الحياة؛ فتسعد هي وتُسعد غيرها.

كما أن علينا أن نجتهد في تعليم بناتنا كيف يكُنّ زوجاتٍ صالحاتٍ نافعاتٍ لأنفسهن ولغيرهن حتى يرضى الله عنهن، ويوفقهن في الدنيا والآخرة.

اللهم ارزقنا الصلاح والفلاح، واجعلنا ربنا من الشاكرين.

https://bit.ly/3TyVrOE

الجمعة، 13 سبتمبر 2024

عسى أن تكرهوا شيئاً

 

خاطرة الجمعة /464

الجمعة 13 سبتمبر 2024م

(عسى أن تكرهوا شيئاً)

 

تقدَّم رجلٌ عاطلٌ عن العمل لشغل وظيفة منظف مراحيض في إحدى شركات الكومبيوتر الكبيرة، وأخذ موعداً لمقابلةٍ مع مدير الشركة، وأثناء المقابلة، قال المدير للعاطل عن العمل: "إنك قُبلت في الوظيفة، لكن نحتاج بريدك الإلكتروني لنرسل لك عقد العمل والشروط"، فردّ الرجل بأنه لا يملك بريداً إلكترونياً، وليس لديه جهاز كمبيوتر في البيت، فأجابه المدير: "ليس لديك جهاز كومبيوتر يعني أنك غير موجودٍ، وإن كنتَ غير موجودٍ يعني أنك لا تستطيع العمل عندنا".

خرج الرجل العاطل عن العمل كارهاً ما حصل معه، مستاءً مما وصل إليه بعد أن أُغلقت الأبواب في وجهه. في طريقه للعودة إلى بيته شاهد مُجمعاً سكنياً كبيراً؛ فخطر له أن يشترى بكل ما يملك وهو عشرة دولارات عشرة كيلو غرامات من الفراولة ويبيعها لسكان هذا المُجمع، قام بذلك بالفعل، وبدأ يطرق أبواب الشقق ويعرض على السكان ما معه من فراولة، في نهاية اليوم ربح الرجل عشرين دولاراً. أدرك الرجل أن العملية ليست صعبةً؛ فبدأ في اليوم التالي بتكرار العملية ثلاث مراتٍ، ثم بدأ بالخروج في الصباح الباكر ليشتري أربعة أضعاف كمية الفراولة. واستمر كذلك لفترةٍ، وبدأ دخله يزداد إلى أن استطاع شراء دراجةٍ هوائية. وبعد فترةٍ أخرى وبالعمل الجاد استطاع الرجل شراء شاحنةٍ صغيرةٍ، ثم صار الرجل يملك شركةً لبيع الفراولة، وبعد مرور خمس سنواتٍ، أصبح يملك أكبر شركةٍ للمواد الغذائية.

فكَّر الرجل بالمستقبل؛ فقرر أن يُسجل شركته بأسماء أبنائه، وفي مقابلةٍ مع الموظف المختص قال له الموظف بعد أن أنهى جميع الأوراق المطلوبة: "أحتاج الآن بريدك الإلكتروني لأرسل لك العقد الجديد"، فأجاب الرجل بأنه لا يملك بريداً إلكترونياً، بل إنه لا يملك كومبيوتر"، ردَّ الموظف مُستغرباً: "لقد أسستَ أكبر شركةٍ للمواد الغذائية في خمس سنواتٍ ولا تملك بريداً إلكترونياً، ماذا كان يحدث لو أنك كنتَ تملك بريداً إلكترونياً؟!"، رد الرجل عليه: "لو كنتُ أملك بريداً إلكترونياً قبل خمس سنواتٍ لكنتُ الآن عاملاً أُنظِف المراحيض بإحدى الشركات!!".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، يقول المفسرون إن هذه الآية نزلت لحث المسلمين على الجهاد وقتال الكفار والمشركين، إلا أن معناها عامٌ في أمور الدنيا؛ فقد تكرهون شيئاً وهو في حقيقته خيرٌ وفيه نفعٌ لكم، وقد تُحبون شيئاً لما فيه من الراحة أو اللذة العاجلة، وهو شرٌ لكم ووبالٌ عليكم، والله تعالى يعلم علماً تامّاً خير الأمور وشرها، ويعلم ما هو خيرٌ لكم، وأنتم لا تعلمون؛ ففي أحوال الدنيا، يكون الغالب على العبد أنه إذا أحب أمراً من الأمور، ثم قيَّض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أن في ذلك خيرٌ له، فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله؛ لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأعلم بمصلحته منه؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأُخراكم؛ فاللائق بكم أن تستجيبوا له، وتنقادوا لأمره، وتقبلوا أقداره، سواءً سرتكم أو ساءتكم لعلكم ترشدون. وبذلك نرى أن القرآن الكريم لا يُنكر على الناس مشاعرهم الطبيعية، وأحاسيسهم الفطرية من كراهيةٍ لظاهر بعض الأمور، لكنه يُربى نفوسهم على الاستجابة لأوامر الله العليم بالغايات المطلع على العواقب، الخبير بما فيه خيرهم ومصلحتهم. وقيل في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولرُبَّ أمرٍ تُحبه فيه عطبك.

(عسى أن تكرهوا شيئاً) هي سُنةٌ من سُنن الله في خلقه، وهي حقيقةٌ مؤكدةٌ تُثبتها كثيرٌ من الأحداث والمواقف؛ منها مثلاً ما حدث لهذا الشاب الذي التحق بالعمل في ورشةٍ كبيرةٍ لنشر الأخشاب، قضى فيها أحلى سنوات عمره، حيث كان شاباً قوياً قادراً على الأعمال الخشنة الصعبة، وحين بلغ سن الأربعين وصار رجلاً في كامل قوته، وأصبح ذا شأنٍ في الورشة التي عمل بها لسنواتٍ طويلة، فوجئ برئيس العمال يُبلغه أنه مطرودٌ من الورشة، وعليه أن يُغادرها نهائياً بلا عودة! خرج الرجل إلى الشارع بلا هدفٍ وبلا أملٍ، وتتابعت في ذهنه صور الجهد الكبير الذي بذله على مدى سنوات عمره كله، فأحس بالأسف الشديد، وكَرِه ذلك، وأصابه الإحباط العميق؛ فقد أُغلق في وجهه باب الرزق الوحيد، خاصةً أنه ليس لديه ولدى زوجته شيءٌ من مصادر الرزق غير ما كان يتقاضاه من أجر العمل، ولم يكن يدري ماذا يفعل. عاد إلى البيت وأبلغ زوجته بما حدث، فقالت له زوجته: "ماذا نفعل الآن؟"، فقال: "سأرهن البيت الصغير الذي نعيش فيه، وسأعمل في مهنة البناء". وبالفعل كان المشروع الأول له هو بناء منزلين صغيرين بذل فيهما كل جهده، ثم توالت المشاريع الصغيرة وكثرت وأصبح مُتخصصاً في بناء المنازل الصغيرة، وفي خلال سنواتٍ قليلةٍ من الجهد المتواصل أصبح مليونيراً، وأنشأ عدداً من الفنادق والمستشفيات. يقول هذا الرجل في مُذكراته الشخصية: "لو علمتُ الآن أين يقيم رئيس العمال الذي طردني من ورشة الأخشاب، لتقدمتُ إليه بالشكر العميق لأجل ما صنعه لي؛ فعندما حدث هذا الموقف الصعب تألمتُ جداً ولم أفهم السبب، أما الآن فقد فهمتُ أن الله شاء أن يُغلق في وجهي باباً ليفتح أمامي طريقاً أفضل لي ولأسرتي".

 

وفي معنى (عسى أن تكرهوا شيئاً) قال الشاعر:

رُبَّ أَمْرٍ تَتَقِيه

جَرَّ أَمْرَاً تَرْتَضِيه

خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ

وَبَدَا المَكْرُوهُ فِيه

 

أحبتي.. يقول ناشر القصة الأولى: أحياناً يمنع الله عنك أمراً تحسبه أنه الصالح لك، ولكنه سُبحانه وتعالى يُخبئ لك الأفضل، فإن أغلق الله أمامك باباً سيفتح باباً آخر خيراً من الأول، فاحمد الله على كل حالٍ، وارضَ بقضاء الله في كل الأحوال؛ فوالله مهما دبرنا لأنفسنا لن يكون أجمل وأكرم وأرحم من تدبير الله لنا. ويقول ناشر القصة الثانية: لا تظن أن أي فشلٍ يمر بحياتك هو نهايةٌ لك.. فقط فَكِّرْ جيداً وتعامل مع مُعطيات حياتك، وابدأ من جديدٍ بعد كل موقفٍ؛ لأن باستطاعتنا أن نكون أفضل بإيماننا بالله عزَّ وجلَّ، ويقيننا بأنه يعلم ما لا نعلم ويختار لنا ما فيه خيرنا.

اللهم ألهمنا الصبر عند حدوث المكاره، واجعلنا ممن يُحسنون الظن بك، ويوقنون بأن خياراتك لنا أفضل وأحسن مما نراه لأنفسنا.. وأمدِنا اللهم بالعزيمة لبدايةٍ جديدةٍ متوكلين فيها عليك، شاكرين دائماً لك في السراء والضراء.

 

https://bit.ly/3XH5VhD

الجمعة، 6 سبتمبر 2024

حَمَلة المباخر

 

خاطرة الجمعة /463

الجمعة 6 سبتمبر 2024م

(حَمَلة المباخر)

 

كان «طه حسين» طالباً في الجامعة المصرية القديمة، وتقرر إرساله في بعثةٍ إلى «أوروبا» فأراد حضرة «السلطان حسين» رحمه الله أن يُكرِّمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالاً كريماً، وحباه هديةً قَيّمةَ المغزى والمعنى. وكان من خُطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيبٌ فصيحٌ مُتكلمٌ مُقتدرٌ، وكان السلطان رحمه الله مواظباً على صلاة الجمعة؛ فصلى الجمعة مرةً بمسجدٍ قريبٍ من قصره، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لتلك الجمعة، وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن يُنوه بما أكرم به «طه حسين»، ولكن خانته فصاحته وغلبه حب التعالي في المدح، فزل زلةً لم تقم له قائمةٌ من بعدها؛ إذ قال أثناء خطبته "جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى".

وكان من شهود هذه الصلاة الشيخ «محمد شاكر» وكيل الأزهر سابقاً -رحمه الله- فقام بعد الصلاة وقال للناس في المسجد إن صلاتهم باطلةٌ؛ لأن الخطيب كفر بما شتم به النبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لا تصريحاً؛ لأن الله سُبحانه عتب على رسوله الكريم حين جاءه «ابن أم مكتوم» الأعمى وهو يُحدِّث بعض صناديد قريشٍ يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه؛ فأنزل الله عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة، ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يُريد أن يتملق عظمة السلطان فمدحه بما يُوهم السامع أنه يُريد إظهار منقبةٍ لعظمة السلطان، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، فكان صنع الخطيب المسكين تعريضاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا يرضى به مُسلمٌ، وفي مقدمة من يُنكره السلطان نفسه. وأمرهم الشيخ الغيور على دينه بأن يُعيدوا صلاتهم فأعادوها.

لكن الله لم يَدَع لهذا الإمام المنافق جُرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى؛ فأُقسمُ بالله -يقول كاتب القصة- لقد رأيتُه بعينيّ رأسي بعد بضع سنين -وبعد أن كان مُتعالياً مُتنفخاً مُستعزاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء- رأيتهُ مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجدٍ من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المُصلين يحفظها لهم في ذلةٍ وصغارٍ، حتى لقد خجلتُ أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقةً عليه؛ فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتةً فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيتُ فيه من عبرةٍ وموعظة.

 

أحبتي في الله.. هكذا هو حال (حَمَلة المباخر) من المتزلفين الذين يُنافقون كل صاحب سلطةٍ، يظنون أنهم بذلك يحظون بمكانةٍ عاليةٍ عندهم، بل ويتسابقون في ذلك، ويتنافسون ويُبدعون، وكأنهم في سباقٍ للفوز بكأس عظيم المنافقين أو زعيم المتزلفين! تجدهم في كل عصرٍ وزمان، يمدحون كل ذي مُلكٍ وسلطانٍ، ويُداهنون كل مسئولٍ؛ ومن ذلك ما حدث عندما قُدِّم لأحد الأمراء طعامٌ به كثيرٌ من الباذنجان، فأكل وأعلن إعجابه به وقال: "تَميلُ نفسي إلى أكل الباذنجان"؛ فسارع أحد الخدم إلى مدح الباذنجان وبيان فضائله؛ فقال: "الباذنجان! بارك الله في الباذنجان، هو سيد المأكولات، شحمٌ بلا لحم، سمكٌ بلا حسك، يؤكل مقلياً ويؤكل مشويّاً، فهو من أشهى المآكل، إن أكلته مقليّاً بقي طعمه على لسانك طول النهار، وإن أكلته محشيّاً كان شيخ المحاشي". وبعد عدة أيامٍ قدموا للأمير الباذنجان فلم يُعجبه وقال: "أكلتُ منه قبل أيامٍ فنالني كَرْبٌ وتوجعتُ منه"؛ فسارع نفس الخادم إلى ذم الباذنجان وهجائه؛ وقال: "الباذنجان! لعنة الله على الباذنجان، فإنه ثقيلٌ غليظٌ، إنه طعامٌ رديءٌ، إن أكلته مقليّاً سبّب لك تضخّماً في المُصران، وإن أكلته محشيّاً سبّب لك أحلاماً مُزعجة، وإن أكلته مكبوساً سبّب لك الغثيان، وإن أكلته مُتبّلاً سبّب لك انتفاخاً في البطن" فقال الأمير: "ويحك! تَمدَحُ الشيءَ وتذمُّه في وقتٍ واحد؟!، أيها الأحمق مدحتَ الباذنجان بالأمس، وقلتَ إنه ألذّ وأفضل المآكل، فما بالك تهجوه اليوم وتجعل فيه كلّ العلل؟!"، فأجاب: "أنا خادم الأمير ولست خادم الباذنجان؛ إذا قال الأمير نعم قلتُ نعم، وإذا قال لا قلتُ لا!".

 

كنتُ مع أحد الأصدقاء العرب نتحدث في هذا الموضوع، فأخبرني أنه في بلدهم، وفي جمعٍ حاشدٍ، قام أحد (حَمَلة المباخر) بوصف مسئولٍ بأنه نبيٌ مرسلٌ من الله! الغريب -يقول صديقي- أنه لم يعترض على هذا الوصف أحدٌ من الحاضرين، بل وربما انتشى المسئول -والذي كان حاضراً ذلك الجمع- مما سمع!

 

ذمَّ الله سبحانه وتعالى المنافقين في العديد من آيات القرآن الكريم؛ ومن ذلك وصفهم بأنهم ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾. يقول تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ].

 

يقول أهل العلم إن النفاق هو إظهار المرء خلاف ما يُبطن، وينقسم إلى: نفاق اعتقادٍ، ونفاق عمل؛ أما نفاق الاعتقاد فهو أن يُبطن الإنسان الكفر ويُظهر الإسلام، وهذا صاحبه مخلدٌ في الدرك الأسفل من النار؛ فهو ليس في عداد الموحدين. وأما نفاق العمل -وهو المنتشر بين الناس الآن- فصاحبه مُوحِدٌ غير مُخلدٍ في النار، لكنه مُحاسبٌ على نفاقه الذي فيه خيانة الأمانة، والكذب في الحديث، وعدم الوفاء بالعهد، والفجور في الخصومة، وهذه هي صفات (حَمَلة المباخر) الذين يمدحون كل ذي سلطةٍ طمعاً في رضاه أو خوفاً من بطشه.

 

إن نفاق العمل أو قُل النفاق الاجتماعي صار -للأسف- مُنتشراً بين الناس، وأكثر ما يكون في مدح المُلوك والسلاطين والحُكَّام حتى أن دراسةً منشورةً تقول إنَّ الأُمراء العرب قديماً وظَّفوا شعراءَ كثيرينَ في بلاطهم، مُهمتهم مدحُ الأُمراءِ. وقد وثَّقوا هذا المدح في سجلات الشعرِ بعد أن صاغوا النِّفاق في طرائفَ خالدةٍ في أدبنا العربي؛ من أبرزَها بيت الشعر الذي قاله أحدهم، بعد حدوثِ زلزالٍ في «مصر»، قال:

ما زُلزلت مِصرُ من كَيدٍ ألمَّ بها

بل رقصتُ من عَدلِكم طَرَبا

ولم يتوقف النِّفاقُ على هذه الصورة الغريبة، بل وصل الحالُ ببعضِ الشعراءِ إلى أنَّهم انتهكوا المُقدسات، فهذا شاعرٌ أندلسيٌ يمدح أحد السلاطين بقصيدةٍ كان مطلعها:

شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت

بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار!

فكان هذا البيت سبباً في ظهور المثل الشهير "أول القصيدة كُفر"!

وهذا آخر مَدَحَ أحد السلاطين؛ فقال:

ما شئتَ، لا ما شاءتْ الأقدارُ

فاحكم فأنتَ الواحدُ القهَّارُ

وكأنما أنتَ النبيُ محمدٌ

وكأنما أنصارُك الأنصارُ

أنت الذي كانت تُبشِّرنا به

في كتْبها الأخبارُ والأحبارُ

هذا الذي تُرجىَ النجاةُ به

وبه يُحَطُّ الإصرُ والأوزارُ

أما هذا الشاعر فقد صاغ الأبيات التالية يصف بها السلطان وهو ذاهبٌ إلى صلاة العيد:

يَجِدُونَ رُؤْيتكَ التي فازوا بها

مِنْ أَنْعُم الله التي لا تُكْفَرُ

ذكَروا بطلعتِكَ النَّبيَّ، فهلُّلوا

لمَّا طلعتَ عن الصُّفوفِ وكبَّروا

حتى انتهيتَ إلى المُصَلَّى، لابسًا

نُورَ الهُدى يبدو عليك ويَظهرُ

ومَشَيْتَ مِشْيَةَ خاشِعٍ متواضِعٍ

لله لا يُزْهَى ولَا يَتَكَبرُ

فلوَ أنَّ مُشتاقًا تكلَّفَ فوقَ ما في

وُسْعِهِ لمشَى إليكَ المِنْبَرُ!

كما نرى أحدهم يمدح سلطاناً قائلاً: "كأنك بعد الرسولِ رسولُ"، بينما وصف غيره بأنه "ظِلُ الله الممدودُ بينه وبين خَلْقِه"، ويرفع شاعرٌ مَلِكاً إلى أعلى ما نتخيل واصفاً إياه قائلاً:

ألم ترَ أن الله أعطاكَ سُورةً

ترى كلَ مُلْكٍ دُونها مُتذبذبُ

فإنك شمسٌ والنجومُ كواكبُ

إذا طلعتَ لَمْ يَبدُ مِنهن كوكبُ

وانتهت الدراسة إلى القول: إنَّ النفاق، والمدح الزائف من أبرز تُراث العرب الشِعري، وما مادحو الأمراء والسلاطين من الإعلاميين المعاصرين سوى نُسخةٍ مُشوَّهةٍ من أدب المدح العربي، إنها نُسخةٌ تخلو من الإبداع والطرافة، هُم مُقلدون، غير مُبدعين!

 

يقول أحد العُلماء إن أزمتنا المُعاصرة تكمن في تفشي تلك الظاهرة لدرجة اعتبارها أسلوب حياةٍ ولغة عصرٍ وشعار زمانٍ، وتتطور في بعض الأمم لتصبح حالةً كارثيةً من الكذب الصريح، وطمس الوقائع، وتزييف الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه. وكثيرٌ من (حَمَلة المباخر) هُم من المنافقين الذين يأكلون على كل الموائد؛ فهُم أشخاصٌ تطأ هاماتهم وجباههم الأرض، ويلعقون الثرى تقرباً وتودداً لمن يبغون مصلحتهم عنده، ثم لا يمنعهم ذلك من أن يهيلوا التراب عليه إذا انقضت غاياتهم منه، أو ذَوَىَ مَن تملقوه عن منصبه فأصبح لا حول له ولا قوة. وإنْ تعجب فعجبٌ أن تعرف أن هناك درجاتٍ في إتقان النفاق، وأعظم المنافقين وأعلاهم درجةً هو الذي لا يُدرِك أنه يُنافق لأنه يكذب بصدق!

 

يقول الشاعر:

لا يخدعنك هتافُ القومِ بالوطنِ

فالقومُ في السرِ غيرُ القومِ في العلنِ

 

أحبتي.. يُقال إن خيطاً رفيعاً يفصل بين المُجاملة والنفاق، لذا لا يجب أن نُبالغ في المُجاملة حتى لا نسقط في بئر النفاق، ولا نُبالغ في الصراحة حتى لا نسقط في وحل الوقاحة. ولا يجب علينا أن نخلط بين محادثة الناس بلين الكلام، ومناداتهم بأفضل ما يُحبون، وبين النفاق الذي يبغي الشخص من ورائه تحقيق نفعٍ أو تجنب ضرر. ولنَحذر المنافقين من حولنا؛ حيث تقول الحكمة: "إذا سمعتَ إنساناً يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك".

اللهم لا تجعلنا من المنافقين، وطهِّر قلوبنا حتى لا نُنافق غيرنا ولا نُفتن بما يُنافقنا به الغير، واهدنا واكتبنا اللهم من المتقين الصادقين.

https://bit.ly/3AX207y

الجمعة، 30 أغسطس 2024

الصبر على أقدار الله

 

خاطرة الجمعة /462

الجمعة 30 أغسطس 2024م

(الصبر على أقدار الله)

 

أحد المشايخ ماتت زوجته -رحمها الله- فحزن عليها حُزناً شديداً.. واشتُهر حُزنه عليها؛ فأرسلت إليه إحدى صديقات زوجته رسالةً تُصبره فيها. وإليكم رسالتها إليه:

السلام عليكم يا شيخ.. أنا إحدى صديقات زوجتك. بلغني خبر وفاتها.. وبلغني حُزنك الذي مرَّ بك.. فاقرأ قصتي.. ليست أول قصةٍ تُحكى عن الفقد والألم؛ فهناك المئات مثلي يُعانون الفقد والحرمان.. بدأت قصتي يوم 27 من شهر رمضان عام 1431هـ، في آخر ساعةٍ من ذلك اليوم.. يومها اتفقنا جميعاً على أن نركب سيارةً واحدةً ونُغادر ذهاباً إلى بيت الله الحرام في «مكة» لنؤدي العُمرة. ومن أقدار الله -سُبحانه وتعالى- أن إخواني رفضوا يركبون سياراتهم وجاءوا معنا.. فكُنا ثمانية أشخاصٍ؛ أنا ووالديّ وأخواتي وإخواني.. كان والدي يقود السيارة وأمي تجلس بجانبه.. اتفقنا وقتها على أن يُمسك المُصحف كل واحدٍ منا ويقرأ ويدعي إلى أن نصل.. حتى نختم القرآن بذلك اليوم.. واستمرينا بقراءة القرآن في صمتٍ وخشوعٍ كأننا لن نقرأه مرةً أُخرى! كانت أُختي تقرأ وتبكي، والأخرى تنظر إليّ وتبكي وتدعي.. كنتُ أسألهم لماذا الدموع؟ فقالت إحداهن: "أشعر بأن صوت الله قريبٌ مني وأنا اقرأ".. أثناء ذلك..

أظن أن الوالد -رحمة الله عليه- غلبه النعاس.. وانحرفت السيارة من أعلى الجبل.. سقطت بنا السيارة في الوادي.. استمرت في السقوط مسافةً طويلةً، وانقلبت بنا عدة مراتٍ، وكلما تدحرجت خرج أحد إخواني من السيارة وسقط.. أما أنا فقد وقعتُ على شجرةٍ، والباقين سقطوا في قاع الوادي.. وقع الحادث وقت أذان المغرب، وكُنا صائمين.. عندها.. أُغميَ عليّ ونزفتُ كثيراً.. أذكر أني صحيتُ وصرختُ أبحث عن أهلي.. وكنتُ -رغم ما بي من كسورٍ وإصاباتٍ- أمشي مرةً وأحبو مراتٍ.. لم يشاهدنا أحدٌ أثناء سقوط السيارة.. بدأتُ أزحف إلى أن وصلتُ إليهم.. حاولت تغطية أخواتي.. وجدتهم فارقوا الحياة وكل واحدةٍ رافعةً السبابة وقد تشهدوا ولله الحمد.. جمعتهم في مكانٍ واحدٍ.. حينها حلَّ الظلام.. وتملكني الخوف من أصوات الحيوانات ومن الظلام.. لم أجد إخواني أبداً.. زحفتُ ووجدتُ أمي قد فارقت الحياة وقد تشهدت.. وعباءتها ملتفةٌ عليها كالكفن؛ لم يظهر منها سوى أُصبعها وقد تشهدت.. حتى الغطاء لم يسقط.. بقيتُ بحضنها أُكلمها لعلها تسمعني.. ولا فائدة.. وصلتُ لأبي ووجدته مازال حياً وينزف.. فرحتُ وضممته إلى صدري؛ فرحتُ أنه مازال معي.. فقال لي: "أوصيك بنفسك.. لا تبقين هنا كثيراً.. واطلعي الجبل ونادي على من يساعدك.. ويُساعد أخواتك وأمك".. عندها خفتُ من صوت الكلاب حولي ومن ظلام الليل؛ فبقيتُ بحضن أبي.. وقلتُ له: "أنا أنزف ولا أستطيع الحركة وسأبقى معك".. وقتها أخذني على صدره.. وكان يوصيني بأن أكون كما عهدني.. وظل يدعي لي.. وسمعته يتشهد ثم فارق الحياة.. بقيتُ لوحدي أبكي وأدعي إلى أن دخلتُ في غيبوبة.. لم أُحس بنفسي؛ فقد أُغمي عليّ من النزيف.. مرَّ علينا يومٌ كاملٌ لم يرنا أحد.. وفي عصر اليوم الثاني وجدنا راعي غنم.. وأبلغ الدوريات.. فجاءت فرق الدفاع المدني بالطيارات والسيارات.. وتم انتشالنا على دفعات.. لم أَفُق من الغيبوبة إلا بعد خمسة أشهر.. بقيتُ بعدها أتعالج سنتين في «كندا».. وكنتُ كلما تذكرتُ ما حصل أشعر وكأنه خيالٌ أو حُلم.. أُصبت بكسورٍ خطيرةٍ في الرأس والرقبة والظهر والحوض، والأهم من ذلك أني فقدتُ -بسبب النزيف- نعمة أن أكون أمّاً.. رغم محاولاتٍ كثيرةٍ فشل فيها الأطباء؛ فكان الاختيار إما حياتي.. أو العملية التي قد تُفقدني نعمة الأبناء.. وكان اختياراً صعباً.. لكني صبرتُ.. وها أنا بخيرٍ وعافيةٍ والحمد الله.

تعمدتُ أن أخبرك بقصتي يا شيخ حتى تعلم أنك لستَ الوحيد الذي فقد عزيزاً وغالياً.. وأن الدُنيا لن تنتهي بفقد أحدٍ مهما كان حُبنا له وارتباطنا به.. لكن علينا (الصبر على أقدار الله) التي هي من تمام الإيمان.. والحمد الله ها أنا عُدتُ لعملي.. وانتقلتُ إلى «الرياض» وبدأتُ أعيش وأتعايش مع حياتي الجديدة.. والحمد لله على كل حال..

نسيتُ أن أقول لك.. كان قد بقي على موعد زفاف أخواتي أسبوعان.. وكُنا نُريد أن نعتمر قبل زفافهم.. وإلى الآن ما تزال فساتين زفافهم معي، أحتفظ بها إلى أن أموت.

 

أحبتي في الله.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]. يقول شُرَّاح الحديث: القناعة من أجَّل أخلاق المؤمنين، وهي علامةٌ على الرضا بقَدَر الله، كما أنها تُهَوِّن صعوبة الحياة. وفي هذا الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ] أي: من هو أقل منكم في أمور الدنيا وتقسيمها، [ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ]؛ فإن هذا النظر [أجْدَرُ]، أي: أحق [أنْ لا تَزْدَرُوا]، أي: لا تحتقروا [نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]؛ وذلك أن نظر الإنسان إلى من هو أعلى منه؛ يؤدي إلى استحقار ما عند نفسه من النِعم، فيستقل النعمة ويُعرِض عن الشكر؛ فيكفر نعمة الله عليه، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، يقول المفسرون: أي لا تمد عينيك مُعجباً، ولا تُكرر النظر مُستحسناً إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المُزخرفة، والنساء المُجَمَّلة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجاباً بأبصار المُعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، وتقتل مُحبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنةً واختباراً، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً. وفي الحديث: بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُداوياً للقلوب، فعلَّمها كيف تصنع، ووصف لها الدواء. وفيه: إرشادٌ إلى الاعتبار بأحوال الدنيا، وأن السعادة ليست مالاً فقط. وفيه: أن من أعظم ما يُعين على استشعار النعم كثرة التأمل فيها والنظر في حال من هُم أقل حالاً منك.

 

ويقول العلماء إن (الصبر على أقدار الله) والقناعة والرضا بما قسم الله تشمل جميع نِعم الله؛ ففي مجال الصحة تكون القناعة بأني -مع ما بي من مرضٍ أو عاهةٍ- أفضل حالاً ممن مرضه أشد من مرضي أو عاهته أصعب من عاهتي، فيكون ذلك سبباً في شكري لله سُبحانه وتعالى. أما إذا نطرتُ إلى من هو أكثر مني صحةً، فقد يتملكني -والعياذ بالله- شعورٌ بأني لستُ في نعمةٍ تستوجب الشكر؛ من هنا يكون فهمنا لهذا التوجيه النبوي العظيم لكلٍ منا إذا رأى شخصاً قد ابتلاه الله سُبحانه وتعالى بشيءٍ لم يبتلينا به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا" لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ]. ويقول شُرَّاح الحديث: الابتلاء بأنواعه كلها فيه فتنةٌ واختبارٌ للعبد، وينبغي عليه الصبر والدُعاء لله، أما العبد الذي عافاه الله؛ فإنه في نعمةٍ ينبغي شكر الله عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: [مَنْ رَأَى مُبْتَلىً] بأي بليةٍ في البدن كمرضٍ، أو في الدنيا كفقرٍ، أو في الدين كعصيان، والمُراد برؤياه: النظر إليه أو السماع بحاله، [فَقَالَ] في نفسه بحيث لا يسمعه المُبتلى؛ لئلا يكون شامتاً به: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي]، أي: نجاني وأنقذني [مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ] دعا الله عزَّ وجلَّ وحمده على حفظه من ذلك البلاء، [وَفَضَّلَنِي]، أي: صيرني أفضل منك، وأكثر خيراً، وأحسن حالاً بالعافية والسلامة من الابتلاء من ذلك أو أعم [عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا] وهذا فيه شكرٌ لله على السلامة من الشرور [لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ]، أي: كان ذِكر الله وحمده سبباً في أن يحفظ المرء ويحميه من هذا البلاء الذي وقع بغيره؛ لأنه لا يأمن أن يقع به؛ ولأن الله يُعافيه ويرحمه بدعائه، فينبغي للعبد أن لا يزال ذاكراً نِعم الله عليه مُعتبِراً في رؤية العباد، ومُقِراً أن ما به من نعمةٍ؛ فمن الله. وفي الحديث: أن ذِكر الله والثناء عليه يحفظ الإنسان، ويُعافيه من البلايا. ويؤكد العلماء على أن يقول هذا الذِكر سِرّاً، بحيث لا يسمعه المُبتلى، لئلا يتألَّم قلبه ويتأذى بذلك، بل إذا لقيه عليه أن يُحسن خُلُقه معه ويُظهر له التعاطف معه، ويدعو الله له بالشفاء والعافية.

ويمتد مجال الابتلاء ليشمل كل ابتلاءٍ دُنيويٍ: كفقرٍ أو مرضٍ أو عاهةٍ ونحو ذلك، وكل ابتلاءٍ دينيٍ: كفِسقٍ أو ظُلمٍ أو بدعةٍ أو كُفرٍ وغيرها.

 

أحبتي.. الرضا بما قسمه الله و(الصبر على أقدار الله) من تمام الإيمان؛ فلنرضى، ونصبر، ونحمد الله عزَّ وجلَّ على كل حال، خاصةً وقت الشدائد والمِحن، فتنقلب -برحمة الله- إلى عطايا ومِنَح. ومع كل ابتلاءٍ علينا -مع الصبر والشكر- أن ننظر إلى من كان ابتلاؤه أكثر وأشد وأصعب، لنرضى بما قسمه الله لنا، ونحمده عليه، لا أن نسخط وننقم ونُعرِض؛ فالابتلاء الأكبر لا يكون في المُصيبة ذاتها وإنما هو في تصرفنا وسلوكنا بعد حدوثها؛ يقول تعالى على لسان سليمان عليه الصلاة والسلام: ﴿لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ﴾. فلنحتسب مع كل ابتلاءٍ، ونشكر ونصبر ونسترجع، عسى الله أن يكتبنا من الشاكرين الصابرين.

اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، وقدِّره لنا، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه. واجعلنا اللهم من الراضين بقضائك وقدرك، الحامدين لك على كل حال.

https://bit.ly/3ADW4jq

الجمعة، 23 أغسطس 2024

عسَّله الله

 

خاطرة الجمعة /461

الجمعة 23 أغسطس 2024م

(عسَّله الله)

 

أمام منزله الأنيق في «أُستراليا» يصطف أسطولٌ من السيارات المُبهرة، على رأسها واحدةٌ تُعد أقوى وأسرع سيارةٍ في العالم “سبايدر فيراري” حيث تبلغ قيمتها وحدها 600,000 دولار.

يلبس في يده سوارٌ من الماس قيمته 70.000 دولار. أما غرفته الخاصة فهي مليئةٌ بالملابس والحقائب والأحذية الرياضية والساعات والنظارات والقُبعات والأغراض الأخرى التي أُعدت خصيصاً له من قِبَل أشهَر بيوت الأزياء العالمية المقدر كلٌ منها بآلاف الدولارات. حياة المليونير المُسلم «عليّ بنات» المليئة بالثروة والرفاهية، قُلبت رأساً على عقبٍ حين تم تشخيص ما يُعاني منه بمرض السرطان من الدرجة الرابعة، وقرّر الأطباء بأنه لن يعيش أكثر سبعة أشهر، وهو الشاب البالغ من العمر ثلاثةٌ وثلاثون عاماً.

يقول «عليّ»: “الحمد لله.. رزقني الله بمرض السرطان الذي كان بمثابة الهدية، التي منحتني الفرصة لأتغير إلى الأفضل" مُضيفاً: "عندما علمتُ بالأمر شعرتُ برغبةٍ شديدةٍ في أن أتخلص من كل شيءٍ أمتلكه، وأن أقترب من الله أكثر، وأُصبح أكثر التزاماً تجاه ديني، وأن أرحل من هذه الدنيا خاوياً على أن أترك أثراً طيباً وأعمالاً صالحةً تصبح هي ثروتي الحقيقة في الآخرة”. قرر المليونير الشاب «عليّ بنات» أن يتبرع بكامل ثروته من أجل فُقراء المُسلمين في أعماق «إفريقيا».. تحول «عليّ» من أكبر تُجار الدنيا، إلى التجارة مع الله، تبرع بكل ماله، حتى ملابسه تبرع بها. وأنشأ مؤسسةً خيريةً مُوجهةً لخدمة فُقراء المُسلمين سماها "المُسلمون حول العالم“. قامت المؤسسة ببناء المنازل والمساجد والمدارس وآبار المياه والمراكز الطبية والبيوت التي تأوي الأرامل والأيتام، كما قام ببناء أول مقبرةٍ للمُسلمين في «توجو» بالإضافة إلى الإمدادات الطبية والغذائية.

سُئل «عليّ»: "بعدما علمتَ حقيقة الدُنيا، سيارتك الفارهة كم تُساوي؟"،

فقال: "لا تُساوي في قلبي قيمة نعل حمَّام، وإن ابتسامة طفلٍ فقيرٍ أفضل عندي من هذه السيارة". ثم يقول: "إن اللحظات التي قضاها في «إفريقيا» مع فقراء المُسلمين هي الأسعد في حياته على الإطلاق، سعادةٌ لا يُمكن شراؤها بالمال، ولا يُمكن أن تُعوضها وسائل الرفاهية باهظة الثمن".

كان «عليّ» في سباقٍ مع الزمن، يُريد أن يُنجز كل ما يستطيع خلال فترة الشهور السبعة المُتبقية من عُمره، لكن الله سُبحانه وتعالى أمدَّ في عُمره حتى مات بعد ثلاث سنواتٍ من تشخيص مرضه، فكان يوماً حزيناً على المُسلمين في كلٍ من «أُستراليا» و«إفريقيا».. رحل ونحن لا نعلم هل كان السرطان حقاً هديةً له من الله، أم أن «عليّاً» كان هو الهدية التي منحها الله لفقراء المُسلمين؟ رحل في جنازةٍ مهيبةٍ تُحيطه مئات الآلاف من الدعوات المُباركة التي سبقته إلى السماء.. رحل «عليّ» وقبل رحيله عرَّفنا حقيقة الدنيا ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

 

أحبتي في الله.. رحم الله «عليّ بنات»، كان رجل أعمالٍ أُستراليٍ من أُصولٍ فلسطينيةٍ، امتلك شركاتٍ في عدة مجالاتٍ، وبعد أن تم تشخيصه بالسرطان، كرَّس ما تبقى من حياته للعمل في المجال الخيري. باع شركاته وقدَّم المُساعدات الإنسانية للمُسلمين في كلٍ من «توجو» و«غانا» و«بوركينا فاسو». رحمه الله، ورحم الله كل من كان على شاكلته، لقد (عسَّله الله) وأنعم عليه بحُسن الخاتمة؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾؛ فقد مات كل من (عسَّله الله) وهو مسلمٌ، عبد ربه حتى أتاه اليقين وهو الموت؛ يقول رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ» قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ».

 

وممن (عسَّله الله) من الناس رجلٌ أمريكيٌ كان خبيراً مُتخصصاً، حصل على عددٍ من الشهادات والأوسمة في «أمريكا»، يقول عن نفسه: "قبل أن آتي إلى «الرياض» مسؤولاً كبيراً في الشركة الأمريكية لم أكن أشغل بالي بالدين ونصوصه وتعاليمه، حياتي كلُّها مادةٌ وعملٌ وظيفيٌ ناجحٌ، وإجازاتٌ أُروِّح عن نفسي فيها بما أشاء من وسائل الترويح المُباحة وغير المُباحة". وبعد شهورٍ من العمل لفت انتباهه لأول مرَّةٍ منظر جمعٍ غفيرٍ من المُسلمين السعوديين وغير السعوديين يتجهون إلى المسجد، قال: "سمعتُ الأذان لأوَّل مرةٍ، وشعرتُ حينما سمعتُه بشعورٍ لم أعهده من قبل، هبَّت من خلاله نسائم لا أستطيع أن أصفها، وانقدح في ذهني سؤال: لماذا يصنع هؤلاء الناس ما أرى؟ وكأنهم يتسابقون إلى مكانٍ يدفع لهم نقوداً وهدايا ثمينةً تستحق هذا الاهتمام! صوت الأذان، الإقامة، الإمام يقول "السلام عليكم" فإذا بحشود المُصلِّين يخرجون، ويُصافح بعضهم بعضاً، يا له من نظامٍ رائع!".

أمريكيٌ أبيض، يُشرق قلبه بنور الإيمان، فيسلم ويعرف حلاوة الإسلام، وبعد مرور شهرين على إسلامه ينطلق لأداء العُمرة وزيارة البيت الحرام برفقة صديقين سُعوديين من زملاء العمل، أتمَّ الرجل عُمرته قبل صلاة العشاء، وكان حريصاً على الصلاة في الصف الأوَّل أمام الكعبة المشرفة، وبدأت صلاة العشاء، وكان الرجل في حالةٍ من الخُشوع العجيب، يقول أحد مُرافقيه: "حينما قُمنا من التشهُّد الأوَّل لم يقم، وظننته قد استغرق في حالته الروحية فنسي القيام، ومددتُ يدي إلى رأسه مُنبهاً له، فلم يستجب، وعندما سلَّم الإمام وأنهى الصلاة تبيَّن لنا أن صاحبنا قد فارق الحياة. لقد صعدت روحه التي تعلقت بالله في أطهر رحاب الله". يقول المُرافق: "لقد شعرتُ بفضل الله العظيم على ذلك الرجل -رحمه الله- وشعرتُ بالمعنى العميق لحُسن الخاتمة، وودَّعته مُشيعاً حيث تم دفنه في «مكة المُكرمة» بعد استئذان أهله في «أمريكا». لقد (عسّله الله) ففتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم قبضه عليه، وطيَّب ثناءه، أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعام إذا جُعل فيه العسل.

(عسَّله الله) فوفقه قبل موته للبُعد عما يُغضب المولى عزَّ وجلَّ، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.

شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم ما رزق الله العبد من العمل الصالح قبل الموت، بالعسل الذي هو الطعام الصالح الذي يحلو به كل شيءٍ.

 

كل من (عسَّله الله) قد فهم حقيقة الحياة واختار لنفسه الخيار الصحيح؛ يقول الشاعر:

نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية

طفلُ الملوكِ كطفل الحاشية

ونغادر الدنيا ونحن كما ترى

متشابهون على قبور حافية

أعمالنا تُعلي وتَخفض شأننا

وحسابُنا بالحق يوم الغاشية

حور، وأنهار، قصور عالية

وجهنمٌ تُصلى، ونارٌ حامية

فاختر لنفسك ما تُحب وتبتغي

ما دام يومُك والليالي باقية

وغداً مصيرك لا تراجع بعده

إما جنان الخلد وإما الهاوية

 

أحبتي.. على كلٍ منا أن يكون دائم السعي لحُسن الخاتمة، ولأننا لا نعرف متى تُقبض أرواحنا فإن علينا المبادرة إلى التوبة والإنابة لله سُبحانه وتعالى قبل غلق باب الإجابة، فما دُمنا على قيد الحياة فإن باب التوبة يظل مفتوحاً، وأبواب الخير عظيمةٌ فلنجتهد بما ينفعنا وينفع غيرنا من المسلمين. لا نؤجل ولا نُسوِّف إن أردنا الفلاح وأردنا أن يُعسِّلنا الله، لا نركن إلى التسويف والأمل حتى يأتينا الأجل، وليسأل كلٌ منا نفسه: "كيف أُعسَّل؟"، أنت أدرى بنفسك من غيرك؛ فالحرص كل الحرص على أن تُعسِّل أعمالك حتى يُعسِّلك الله.

اللهم عسِّلنا، وافتح لنا عملاً صالحاً قبل الممات، واقبضنا عليه، وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمارنا أواخرها وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اغفر لنا ما مضى، وأصلح لنا ما تبقى، وارزقنا رضاك وحسن الخاتمة، والفوز بالجنة والنجاة من النار.

https://bit.ly/3ADf3e8

الجمعة، 16 أغسطس 2024

عطاء الله

 

خاطرة الجمعة /460

الجمعة 16 أغسطس 2024م

(عطاء الله)

 

تقول صاحبة القصة: بعد تخرجي من الجامعة بتقدير جيد جداً، والتحاقي بعملٍ مناسبٍ وانشغالي به، وعدم إيجادي أياً من مواصفات الشريك المُناسب فيمن تقدّموا لي، زاد انشغالي بعملي الذي أُحبه حتى بلغتُ الرابعة والثلاثين من عُمري، إلى أن تقدّم لخطبتي شابٌ يكبرني بعامين يمرّ بظروفٍ صعبةٍ مالياً، لكني رضيتُ خوفاً من فوات فرصة الزواج. بعد الاتفاق على موعد عقد القران، وانشغالي بالترتيبات، اتصلت بي والدته وطلبت مقابلتها بأسرع وقت، ذهبتُ لأقابلها رغم عدم معرفتي سبب إصرارها على مقابلتي خارج المنزل، بدا على وجهها الضيق بشكلٍ واضحٍ، حاولتُ التحدث بمواضيع مختلفةٍ لتخفيف التوتر، لكنها وبشكلٍ مفاجئٍ طلبت مني رؤية بطاقتي الشخصية، وكان أول سؤالٍ منها: "هل تاريخ ميلادي فيها صحيح؟"، أجبتها: "نعم"، قالت: "إذاً أنتِ تقتربين من الأربعين من العُمر"، صدمتني بجملتها، لكنني حاولتُ أن أتمالك نفسي وأجبتها: "أنا في الرابعة والثلاثين فقط"، قالت: "لن يختلف الأمر فقد تجاوزتِ الثلاثين، وقلّت فرص إنجابك، وأريد أن أرى أحفادي". وهكذا انتهى الحديث بيننا بفسخ الخطوبة. مرت عليّ ستة أشهرٍ عصيبةٍ مليئةٍ بالاكتئاب والحزن، لاحظ والدي تغير حالي فاقترح عليّ الذهاب لأداء العُمرة أغسل بها الحزن والهمّ، وأُحسِّن نفسيتي.

بعد أيامٍ ذهبنا فعلياً وأدينا العُمرة، وجلستُ في البيت العتيق أُصلي وأبكي وأدعو الله أن يُهيئ لي من أمري رشداً، أنهيتُ صلاتي، ولفت انتباهي صوت امرأةٍ ترتّل: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ بصوتٍ فائق الجمال، فقدتُ السيطرة على نفسي فبكيتُ رغماً عني، اقتربت هذه السيدة مِني، وأخذت تُردد قول الله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾، هدأت نفسي وكأنني أسمعها لأول مرة.

عُدنا إلى «القاهرة»، وصلنا إلى المطار، وبعد نزولنا من الطائرة وجدنا زوج صديقتي في صالة الانتظار، سأله والدي عن سبب مجيئه فأجابه بأنه في انتظار صديقٍ عائدٍ على نفس الطائرة التي جئنا بها، جاء صديقه لأجد أنه كان جارنا في مقاعد الطائرة. غادرنا المطار، وما إن وصلنا إلى المنزل إذ بصديقتي تتصل بي لتقول لي إن صديق زوجها أُعجب بي، ويرغب برؤيتي في بيتها في نفس الليلة لأنّ خير البر عاجله. استشرتُ والدي في الأمر، فشجعني على الذهاب ففعلت. لم تمضِ أيامٌ حتى تقدّم لخطبتي، وأتممنا أمور الزواج خلال شهرين لا أكثر، وبدأت حياتي الزوجية بتفاؤلٍ؛ إذ وجدتُ في زوجي كل ما أردت. مرت شهورٌ ولم تظهر أي علاماتٍ للحمل، كنتُ قلقةً خاصةً أني تجاوزت السادسة والثلاثين، ما دفعني لأن أطلب من زوجي إجراء بعض التحاليل والفحوصات، لم يرفض طلبي وذهبنا سوياً إلى طبيبةٍ مختصةٍ، وعند استلام النتائج فاجأتنا بخبر حملي!

أثناء حملي حرصتُ على ألّا أعرف نوع الجنين لإيماني بأن كل ما سيأتيني من الله خير، وكلما شكوتُ لطبيبتي من إحساسي بكبر حجم بطني فسرّته بسبب تقدّمي في السن. مرت الشهور بصعوبتها إلى أن حان موعد ولادتي، وأجريتُ عملية ولادة قيصرية بنجاحٍ، ونُقلتُ إلى غرفتي في المستشفى بانتظار رؤية طفلي، جاءت الطبيبة تستفسر مني عن نوع الجنين الذي أرغب، فأجبتها بأني تمنيتُ من الله مولوداً يتمتع بصحةٍ جيدةٍ فقط ولا يهمني نوعه، فكان ردها صادماً: "ما رأيك في أنكِ أنجبتِ ثلاثة توائم!!"، لم أدرك ما قالته، فطلبت مني التحكم بردود فعلي، إذ أن الله تعالى قد عوّضني بثلاثة أطفالٍ دفعةً واحدةً رحمةً منه، وأخبرتني أنها كانت على علمٍ بأني حاملٌ بتوأمٍ لكنها لم تُبلغني بذلك؛ حتى لا أتوتر خلال حملي، تذكرتُ لحظتها قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.

 

أحبتي في الله.. ونِعْمَ بالله؛ إنه (عطاء الله) الذي إذا أعطى أدهش بعطائه. وعن العطاء يقول تعالى مخاطباً سيدنا سليمان: ﴿هَـٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: هذا الذي أعطيناك من المُلك التام، والسلطان الكامل؛ كما سألتنا. ويقول سُبحانه واصفاً ثواب المؤمنين: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ غير مجذوذٍ أي غير مقطوع. ويقول أيضاً: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ أي أن رزق ربك ليس ممنوعاً ولا منقوصاً عن جميع عباده في الدنيا؛ سواءً منهم من يُريد الدنيا ومن يريد الآخرة، ثم يختلف بهما الحال في المآل، فالعطاء لطْفٌ إلهيٌّ لا يُشترط فيه الاستحقاقُ والأهلية. ويقول واصفاً عطاءه لعباده المؤمنين: ﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي جازاهم جزاءً كثيراً كافياً ووافياً.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ ليُعطي الدُّنيَا مَن يُحبُّ ومَن لا يُحبُّ، ولا يُعطِي الدِّينَ إلَّا مَن يُحبُّ، فمَن أعطاه اللهُ الدِّينَ فقد أحبَّه] فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فلو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء.

 

ولأن الدنيا بطبيعتها دار ابتلاءٍ وليست بالضرورة دار ثوابٍ وعطاء، يقول العُلماء إنه ومهما كان العطاء الدنيوي كثيراً فإنه يبقى أشبه بالعدم في مُقابل العطاء الأُخروي؛ ولذلك سمى القرآن العطاء الدُنيوي متاعاً، وسماه متاعاً قليلاً، وسماه متاع الغرور، لأن من طبيعة العطاء الدنيوي -بخلاف الأخروي- أنه قليل القدر، قصير المُدة، وعَكِرٌ لا صفاء فيه.

 

ويقول العارفون عن (عطاء الله):

"عطاء الله مُدهِشٌ، وعوض الله عزيزٌ لا حدَّ له ولا مُنتهى؛ فلا أحد ييأس ويستصعب شيئاً أمام قُدرة الله، إذا جعلك تصبر كثيراً تأكَّد أنَّك ستنال ضعف ما كنتَ تتمنَّى وستندهش من كرمه". "إنما الأعمال، والأرزاق، والحياة كلها بالنيَّات؛ يُعطي الله كل شخصٍ على قدر نيته، فلا تتعجب عندما يُنجيك الله من أي أزمةٍ تُقابلك، لا تتعجب عندما تجد الخير يُلاحقك دون سببٍ واضحٍ، طالما أن نيتَّك صافيةٌ وقلبك سليمٌ، وتُعامل الناس بقلبك، وتُحب الخير للجميع، ولا تحمل ذرة كُرهٍ لأحد، ستجد كرم الله يُلاحقك أينما ذهبت، ودون أي سببٍ واضحٍ، فقط لأنك صافي القلب والنيَّة". ‏"إن الله يُعطي العبد على نيته ما لا يُعطيه على عمله؛ لأن النية لا رياء فيها، فجمِّلوا نواياكم بالنقاء والطُهر فهي تُعرض على الرحمن". ‏"الله عندما يُعطي قد يُعطيك ما تحتاجه وليس ما تريده، وفرقٌ بين العطائين؛ فلا تعلم ما ينفعك أو يضرك، تطلب من الله ما تظن أنه خيرٌ لك فيعطيك ما يعلم أن فيه الخير لك". "عندما يُعطيك الله ما هو أعلى من سقوف أُمنياتك، عوِّد قلبك على الشكر، عوِّد قلبك على أن يوقن أنك إذا حَمدتَ واهب نعمتك؛ سيُغنيك، ويزيدك، ويُكرمك". و"(عطاء الله) قد يتأخر، لكن عندما يُعطي يُدهشك بعطائه!".

 

ويقول الشاعر عن (عطاء الله):

وإني لأدعو الله حتى كأنني

أرى بجميل الظنِ ما الله فاعلُهْ

أمدُ يدي في غيرِ يأسٍ لعله

يجودُ على عاصٍ كمثلي يواصلُهْ

وأقرعُ أبوابَ السماواتِ راجياً

عطاءَ كريمٍ قطُّ ما خابَ سائلُهْ

فيا ليتَ شِعري كيف ينساهُ عاقلٌ!؟

ونعماؤه تترى وتترى جَمائلُـهْ

 

أحبتي.. فليقترب كلٌ منا من الله سُبحانه وتعالى أكثر وأكثر؛ فكلما اقترب بإخلاصٍ ويقينٍ أدهشه الله بعطائه. وحذارِ أن يكون منا من يعبد اللهَ تعالى لمصلحةٍ دنيويةٍ طامعاً في (عطاء الله)، فمتى تحققت مصلحته عاد إلى ما كان عليه، بعيداً عن طريق الله! وحذارِ أن يكون منا من يعبد الله اختباراً له سُبحانه بغيرٍ يقينٍ ولا ثقةٍ فيه فهو يُجرِّب إلهه؛ إذا أصابته مصيبةٌ ارتد عن طريق الصواب الذي بدأه للتو! بل يجب أن يكون إسلامنا إسلام المخلوق لخالقه، ومُدبِّر أمره ورازقه، بكل إخلاصٍ وبكل يقين.

اللهم أتمم علينا عطاياك ظاهرةً وباطنةً، وبارك لنا فيها، ولا تحرمنا عطاياك لقلة شكرنا وغفلتنا.

https://bit.ly/4cuLrg0

الجمعة، 9 أغسطس 2024

لا تحقرن من المعروف شيئاً

 

خاطرة الجمعة /459

الجمعة 9 أغسطس 2024م

(لا تحقرن من المعروف شيئاً)

 

رجلٌ بسيطٌ يعمل في أحد مصانع تجميد الأسماك، يتمتع بالبشاشة والحُبور؛ مما يزيد من محبة الناس له دون حتى أن يكون قريباً منهم، توجه كعادته كل يومٍ إلى عمله، ولم يكن في حسبانه ما سيمر به؛ إذ قضى يوم عمله كالمعتاد إلى أن حل موعد الانصراف، إلا أنه قبل أن ينصرف توجه إلى ثلاجة التبريد لإنهاء بعض العمل، ونتيجةً لخطأٍ ما أُغلق باب ثلاجة التجميد عليه، وظل يصرخ ويُنادي لكنه لم يجد أية استجابةٍ؛ فقد غادر جميع العاملين والموظفين المصنع، فظل الرجل حبيس ثلاجة التبريد لعددٍ من الساعات، خارت فيها قواه وشارف على الموت، إلا أنه فجأةً تم فتح أبواب ثلاجة التبريد وتم إنقاذه بعد أن كان على وشك الموت، وكان المنقذ هو حارس المصنع!

سألوا هذا الحارس: "ما الذي جعلك تدخل إلى المصنع وتنقذ هذا الرجل؟ وكيف عرفتَ أنه مازال بالداخل؟"، فقال الحارس: "أنا أعمل في هذا المصنع منذ ما يزيد عن خمسةٍ وثلاثين عاماً، أقف على بوابة المصنع ولا يُلاحظني أحدٌ أو يُخاطبني أحدٌ من العاملين والموظفين وهُم يدخلون إلى المصنع ويخرجون منه، إلا هذا الرجل فهو كلما حضر في الصباح استقبلني بابتسامته ووجهه البشوش وسؤاله عن حالي، وكذلك عند خروجه يودعني بتلك البسمة على وعدٍ باللقاء، وفي ذلك اليوم انتظرته بين الوجوه الخارجة من المصنع إلا أنني لم أجده؛ فاعتقدتُ أنه تخلّف لأن لديه عملاً بالداخل، ظللتُ أنتظر خروجه إلا أنّ الأمر طال كثيراً فقررتُ الدخول إلى المصنع والبحث عنه.

 

أحبتي في الله.. العبرة من هذه القصة هي أن هذا المعروف البسيط الذي كان يُقدمه العامل للحارس كل يومٍ، ببساطةٍ وبنيةٍ مخلصةٍ وبغير غرضٍ، لم يذهب هباءً؛ فرغم أنه لم يُكلف صاحبه شيئاً، ورغم أنه يبدو بسيطاً إلا أنه كان سبباً في انقاذ هذا العامل من موتٍ مُحقق، وكأن هذا العامل كان يعلم بالحديث الشريف: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).

 

وهذا مُعلمٌ بإحدى مدارس «جدة» يقول: كنتُ في غُرفة المُعلمين وقت الراحة؛ فصببتُ كأس شايٍ لأشربه، فإذا بالجرس يُقرع، ومُدير المدرسة شديدٌ جداًَ، يحب أن يتوجه المُعلمون فوراً إلى الصفوف عند قرع الجرس، وكان الشاي حاراً جداً لا أستطيع أن أشربه، ورأيتُ فراشاً فلبينياً ابتسمتُ في وجهه وأعطيته كأس الشاي. في اليوم التالي جاءني الفراش وقال لي أنه متفاجئٌ؛ فهذه أول مرةٍ يرى مُعلماً يبتسم في وجهه، بل ويُعطيه كأساً من الشاي! قال إنه لم يتعود على ذلك، ولم يكن يتوقعه، قلتُ وأنا مُحرَجٌ: "أردتُ أن أُكرمك؛ فنحن مُسلمون وهذا من أخلاقنا"، قال: "أعمل بهذه المُدرسة منذ عامين، لم يُكلمني أحدٌ منكم بكلمةٍ، ولم يُعيرني اهتماماً ولو بابتسامة"، ثم أخبرني بأنه يحمل شهادة الماجستير في العلوم، وأن شدة الفقر والحاجة جعلته يقبل بهذه الوظيفة، لم أُصدقه، وأردتُ أن أختبره فدعوته إلى البيت؛ إذ كانت ابنتي في الصف الحادي عشر لديها سؤالٌ في العلوم فأجاب عنه بطلاقةٍ ما بعدها طلاقة، تأكدتُ حينها من صحة كلامه. ظل يزورني كل جمعةٍ، وبعد فترةٍ أعلن إسلامه، ثم أقنع أكثر من عشرين من أصدقائه فاعتنقوا الإسلام، والسبب كان ابتسامةً مع كأس شاي!

 

وإنْ تعجب فعجبٌ هي هذه القصة؛ يقول أحدهم بأنه كان ذات مرةٍ، وهو صغير السن، يقف في المخبز لشراء خُبزٍ لأهله، يقول: "وجدتُ الرجال يتدافعون لأخذ الخُبز وكلما أخرج الخباز من الفرن خُبزاً تلقفته أيديهم، وأنا واقفٌ لا أستطيع مزاحمتهم، وبينما أنا كذلك إذ التفت إليّ رجلٌ لا أعرفه وأعطاني ما أريد؛ فذهبتُ دون أن أشكره؛ لصغر سني وجهلي بما يجب عليّ أن أفعله. نسيتُ ذلك الرجل وهيأته، ونسيتُ ذلك الموقف تماماً. بعد أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً، وبينما أنا ساجدٌ في صلاة التهجد في الثُلُث الأخير من الليل إذ بي أتذكر ذلك الموقف بتفاصيله، وكأنه يحدث أمام عينيّ أنظر إليه، فدعوتُ لذلك الرجل بما فتح الله عليّ. بعدما أنهيتُ صلاتي أخذتُ أتعجب كيف ذكرَّني الله بذلك الرجل بعد كل هذه السنين، وفي هذا الوقت المُبارك الذي يستجيب فيه الله سُبحانه وتعالى للدعاء؟! قلتُ في نفسي سُبحان الله؛ عملٌ قام به ذلك الرجل لم يُكلفه مالاً ولا جُهداً، يُذكِّرك الله به بعد كل هذه السنين وأنت ساجدٌ لتدعو له، وقد تكون دعوتك مُستجابةً ينتظرها ذلك الرجل!".

 

يقول الله سُبحانه وتعالى داعياً إلى عمل الخير: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾، ويُخبر سُبحانه أن عمل الخير مهما كان صغيراً فإن المُسلم يُثاب عليه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، ويقول حاثاً على فعل الخير ولو كان قليلاً: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويُبين عزَّ وجلَّ أنّ فعل الخير سببٌ للفلاح: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

 

يقول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، [لَا تَحْقِرَنَّ]؛ أي: لا تستقلنَّ [مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، فتتركه لقلَّته؛ فقد يكون سبب الوصول إلى مرضاة الله تعالى. ويقول عليه الصلاة والسلام: [بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ فأخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [بينما كلبٌ يطيف برَكِيَّةٍ -أي: ببئرٍ- قد كاد يقتُلُه العطَش، إذ رأَتْه بغيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنزَعَتْ مُوقَها -أي: خُفها- فاستَقَتْ له به، فسقَتْه إيَّاه، فغُفِر لها به]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ، حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ].

 

يقول أهل العلم إنّ جنَّة الرحمن ليسَتْ مقصورةً وخاصَّةً لِمَن باعُوا أرواحَهم، وبذَلُوا أموالهم في سبيل الله، مغفرةُ الرحمن ليسَتْ وقفاً للعِباد النُسَّاك، والصُوَّام والقُوَّام، بل رحمة الله وجنَّته تُدرَك بأعمالٍ يسيرةٍ، صغيرةٍ في أعيُنِ كثيرٍ من الناس، كبيرةٍ عند الله سُبحانه وتعالى، وهي سببٌ لأن يتمتع أصحابها بالسعادة السرمديَّة، والمُتعة الأبديَّة، عملٌ قليلٌ في نظر الناس، قد لا يُكلّف من الجُهد أو الوقت شيئاً، لكنّ الله تعالى بواسع رحمته وعظيم كرمه جعل فعله سبباً في مغفرة الذنوب ودخول الجنة.

 

قال الشاعر:

الناسُ للناسِ مادام الوفاءُ بهم

‏والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وساعاتُ

وأفضَلُ النَّاسِ ما بين الوَرَىٰ رَجلٌ

‏تُقضَىٰ علىٰ يَدهِ للناسِ حاجاتُ

لا تمنَعنَّ يدَ المَعْروفِ عَن أحَدٍ

‏ما دُمْتَ مُقتَدِراً فالسَعْدُ تاراتُ

واشكر فضائِلَ صنعِ الله إذ جُعِلتْ

‏إليكَ لَا لكَ عند النَّاسِ حاجاتُ

قَد ماتَ قومٌ ومَا ماتَت فَضائِلهم

‏وعاشَ قومٌ وَهُمْ في النَّاسِ أمواتُ

 

أحبتي.. استَكثِروا من فِعْل الخيرات، ولا تستَصغِروا شيئاً من صالح العمل و(لا تحقرن من المعروف شيئاً). كل معروفٍ يُمكنك فعله افعله، مهما كان صغيراً. وجدتَ قطعة زجاجٍ بالطريق من المحتمل أنها ستؤذي الناس أَمِطْها عن الطريق تُجزَى خيراً. وجدتَ شخصاً كبيراً في السن يحتاج أحداً أن يوصله أوصله؛ ربما يكون ذلك سبباً في نجاتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. وجدتَ شخصاً مكروباً في أمسّ الحاجة لمن يُفرِّج عنه كربه، فرِّج عنه؛ ربما تكون هي المُنجية. وجدتَ إنساناً لا يُريد منك إلا ابتسامةً، ابتسم تُكتب لك صدقة. وجدتَ شخصاً يُريدك أن تشفع له عند أحدهم، اشفع له ولا تتردد. وجدتَ فقيراً أو مسكيناً في حاجةٍ إلى مالٍ أو طعامٍ أو كساءٍ أو دواءٍ سارِع إلى تقديم ما يُمكنك من مساعدةٍ وإعانةٍ. باختصار؛ افعل كل معروفٍ ولو صَغُرَ في عينيك فإنك لا تعلم بأي معروفٍ يُغفر لك، وبأي عمل خيرٍ تنال رحمة الله فتدخل الجنة.

اللهم استعملنا في الخير، وأرشدنا إليه، ويسِّره لنا، ونقِّه من الرياء والنفاق والسُمعة، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، وتقبله منا؛ إنك سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/46HDMcV