الجمعة، 19 أبريل 2024

الفطرة السليمة

 

خاطرة الجمعة /443

الجمعة 19 إبريل 2024م

(الفطرة السليمة)

 

طفلٌ أمريكيٌ درس الإسلام في سن السادسة، وأشهر إسلامه في سن الثامنة! إنه «ألكساندر فرتز» الذي وُلد لأبوين مسيحيين في عام 1990م، وقررت أمه منذ البداية أن تتركه ليختار دينه بعيداً عن أية تأثيراتٍ عائليةٍ أو اجتماعية؛ فما أن تعلم القراءة والكتابة حتى أحضرت له كُتباً عن كل الأديان السماوية وغير السماوية. وبعد قراءةٍ متفحصةٍ قرّر «ألكساندر» أن يكون مُسلماً. وقد شغف حباً بهذا الدين لدرجة أنه تعلم الصلاة، وتعرف على كثيرٍ من الأحكام الشرعية، وقرأ التاريخ الإسلامي، وتعلم الكثير من الكلمات العربية، وحفظ بعض سور القرآن الكريم، وتعلم الأذان، كل هذا بدون أن يلتقي بمسلمٍ واحد! وبناءً على قراءاته اختار لنفسه اسمه الجديد «محمد عبد الله» تيمناً باسم الرسول الذي أحبه منذ نعومة أظفاره.

استضافته إحدى القنوات الإسلامية وكان بصحبة والدته، وكان مُقدم البرنامج يستعد لإلقاء الأسئلة عليه، لكنه فوجئ به هو الذي يسأله: "كيف يُمكنني أداء الحج والعمرة؟"، "هل الرحلة مُكلفة؟"، "من أين أشتري ملابس الإحرام؟"، "هل بإمكاني شراؤها من هنا أم يبيعونها في «السعودية» فقط؟".

يقول مُقدم البرنامج أجبته عن أسئلته، ثم فوجئتُ به يسألني: "هل أنت حافظٌ للقرآن؟" قالها بالعربية! قلتُ له: "لا"؛ فأحسستُ بخيبة أمله حيث تابع يقول: "ولكنك مسلمٌ وتعرف العربية، أليس كذلك؟". ثم سألني: "هل حججتَ؟"، "هل قمتَ بأداء العمرة؟"، ويبدو أن إجاباتي لم تُرضه. أخذتُ زمام المبادرة وسألته: "ما هي الصعوبات التي تُعاني منها كونك مسلماً في بيئةٍ غير إسلامية؟"، لقد توقعتُ أن يذكر أشياء تتعلق بزملائه أو مدرسيه، أشياء تتعلق بأكله أو شربه، أو بالطاقية البيضاء التي يرتديها، أشياء تتعلق بالغُترة التي يلفها على رأسه على الطريقة اليمنية، أو بوقوفه مؤذناً في الحديقة العامة قبل أن يُصلي، ولكن جوابه كان غير متوقعٍ، وكان هادئاً ممزوجاً بالحسرة؛ قال: "تفوتني بعض الصلوات في بعض الأحيان بسبب عدم معرفتي بالأوقات!". سألته: "ما هو الشيء الذي جذبك للإسلام؟ لماذا اخترتَ الإسلام دون غيره؟"، سكت لحظةً ثم أجاب: "لا أدري، كل ما أعرفه أنني قرأتُ عنه وكلما زادت قراءتي أحببته أكثر". سألته: "هل صمتَ رمضان؟"، ابتسم وقال: "نعم لقد صمتُ رمضان الماضي كاملاً والحمد لله، وهي المرة الأولى التي أصوم فيها، لقد كان صعباً وخاصةً في الأيام الأولى"، ثم أردف: "تحداني والدي بأني لن أستطيع الصوم، لكنه ذُهل عندما فعلتُ ذلك!". سألته: "ما هي أمنيتك؟"، فأجاب بسرعةٍ: "عندي العديد من الأمنيات أولها أتمنى أن أذهب إلى «مكة المكرمة» أحج وأُقبِّل الحجر الأسود"، قلتُ له: "لقد لاحظتُ اهتمامك الكبير بالحج، هل هناك سببٌ لذلك؟"، تدخلت أمه -ولأول مرةٍ- لتقول: "إن صور الكعبة تملأ غرفته، بعض الناس يظن أن ما يمر به الآن هو نوعٌ من الخيال، نوعٌ من المغامرة التي ستنتهي يوماً ما، ولكنهم لا يعرفون أنه ليس جاداً فحسب، بل إن إيمانه عميقٌ لدرجةٍ لا يُحسها الآخرون"، علت الابتسامة وجه «محمد عبد الله» وهو يرى أمه تدافع عنه، ثم أخذ يشرح لها الطواف حول الكعبة، وكيف أن الحج هو مظهرٌ من مظاهر التساوي بين الناس كما خلقهم الله سُبحانه وتعالى بغض النظر عن اللون والجنس والغنى والفقر، ثم استطرد قائلاً: "إنني أحاول جمع ما يتبقى من مصروفي الأسبوعي لكي أتمكن من الذهاب إلى «مكة المكرمة» يوماً ما، لقد سمعتُ أن الرحلة ستكلف قريباً من أربعة آلاف دولار, ولديّ الآن ثلاثمائة دولار"، علقت أمه قائلةً -في محاولةٍ لنفي أي تقصيرٍ من طرفها-: "ليس عندي أي مانعٍ من ذهابه إلى «مكة» ولكن ليس لدينا المال الكافي لإرساله في الوقت الحالي". سألته: "ما هي أمنياتك الأخرى؟"، قال: "أتمنى أن تعود فلسطين للمسلمين؛ فهذه أرضهم وقد اغتصبها الإسرائيليون منهم"، نظرت إليه أمه مستغربةً فأردف موحياً أن هناك نقاشاً سابقاً بينه وبين أمه حول هذا الموضوع: "أمي، أنتِ لم تقرأي التاريخ، إقرائي التاريخ، لقد تم اغتصاب فلسطين". أكملت سؤالي: "وهل لديك أمنياتٌ أخرى؟" قال: "أمنيتي أن أتعلم اللغة العربية وأحفظ القرآن الكريم". سألته: "ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟"، ففوجئتُ برده: "أريد أن أصبح مصوراً لأنقل الصورة الصحيحة عن الإسلام؛ لقد شاهدتُ الكثير من الأفلام التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين، كما شاهدتُ العديد من الأفلام الجيدة عن الإسلام والتي أصدرها أشخاصٌ أعتبرهم مَثلي الأعلى وقد اعتنقوا الإسلام في الستينيات، كما سأقوم بدراسة الإسلام في جامعة «أكسفورد» لقد قرأتُ أن لديهم برنامجاً جيداً في الدراسات الإسلامية، قلتُ له: "هل تود أن تدرس في العالم الإسلامي؟"، فأجاب: "بالتأكيد، خاصةً في الأزهر". انتقلتُ بالحوار إلى ساحةٍ أخرى؛ فسألته: "هل تأكل مع والديك لحم الخنزير؟"، أجاب: "الخنزير حيوانٌ قذرٌ جداً، أنا لا آكله، ولا أعرف كيف يأكله الناس! أهلي يعلمون أني لا آكل لحم الخنزير لذلك لا يُقدمونه لي، وإذا ذهبنا إلى مطعمٍ فإنني أُخبرهم أني لا آكل لحم الخنزير". سألته: "هل تُصلي في المدرسة؟"، قال: "نعم، وقد اكتشفتُ مكاناً سرياً في المكتبة أُصلي فيه كل يوم". وحان وقت صلاة المغرب؛ فنظر إليّ قائلاً: "هل تسمح لي بالأذان؟"، ثم قام وأذّن في الوقت الذي اغرورقت فيه عيناي بالدموع!

 

أحبتي في الله.. إنها (الفطرة السليمة) هي التي دلت هذا الطفل على الإسلام، وهي التي أعانته على الثبات عليه؛ فلم يكن لطفلٍ صغيرٍ في هذا العمر، بعد أن تم إبعاد المؤثرات البيئية والاجتماعية عنه، إلا أن توجهه فطرته السليمة إلى طريق الحق. فهو لم يكن في سنٍ قد اكتمل فيه عُمره العقلي بحيث يكون قادراً على أن يقرأ بتركيزٍ وتفهمٍ ثم يُقارن بحكمةٍ ثم يختار لنفسه ما يراه صواباً، في مجالٍ يعجز فيه من هُم أكبر منه سناً عن المقارنة الصحيحة والاختيار الصائب!

 

وردت الإشارة إلى (الفطرة السليمة) في القرآن الكريم وفي سُنة رسولنا المُصطفى؛ ومن ذلك: يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، قال المفسرون عن معنى هذه الآية: سدِّد وجهك واستمرَّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها وكمّلها لك غاية الكمال، لازِم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها؛ فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وهذا أمرٌ صريحٌ من المولى سُبحانه وتعالى بلزوم هذه الفطرة التي فُطرنا عليها من معرفته وتوحيده بصيغة الحثّ والترغيب.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ؛ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه]، ومعنى الحديث أن كل مولودٍ يولد مُتهيئاً للإسلام إذا لم تدخل عوامل الإفساد في حجبه عن فطرته؛ وقصة هذا الطفل الأمريكي هي مصداقٌ لهذا الحديث النبوي الشريف. وقال عليه الصلاة والسلام: [يقول الله: إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم إذا أصبح أو أمسى أن يقول: [أَصبَحْنا على فِطرةِ الإسلامِ، وكَلِمةِ الإخلاصِ، ودِينِ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]؛ فالله سُبحانه وتعالى فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تُركت الفطرة بلا فسادٍ كان القلب عارفاً بالله، محباً إياه، عابداً له وحده.

 

يقول أهل العلم إنّ كلّ مولودٍ يولد على (الفطرة السليمة) أي على الجبلَّة القابلة لدين الحقِّ؛ فهي الحالة التي فطر الله عليها الإنسان، وخلقه عليها؛ لذلك نجد أن كل مخلوقٍ قد فُطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكيرٍ أو تعليمٍ، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها. والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، أما حين تُلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم مُنيبين، مهما يكونوا من قبل غافلين أو مُكابرين.

 

يقول أحد الدعاة إنه لو ركب البحر إنسانٌ مُلحدٌ، عميقٌ في إلحاده، فصارت الأمواج كالجبال، وأصبحت السفينة تتهاوى بين الأمواج كريشةٍ في مهب الريح، عندئذٍ يلتجئ هذا المُلحد إلى الله عزَّ وجلَّ. وإذا ركب طائرةً وقعت في عدة جيوبٍ هوائيةٍ، وظن أن الطائرة على وشك السقوط دعى الله مخلصاً؛ فالإنسان مؤمنٌ بالفطرة. وهذا شخصٌ نشأ في بيئةٍ تُنكر وجود الله عزَّ وجلَّ إنكاراً كُلياً، وعمل عند شخصٍ يُنكر هو الآخر وجود الله، فعاش مُلحداً يفعل ما يشاء، لم يترك معصيةً إلا وارتكبها؛ فهو يرى أنّ الحياة فرصةٌ لاقتناص الملذَّات. عمل في التجارة فربح مئات الألوف، وتزوج وسافر إلى العديد من الدُول وفعل كل أنواع المعاصي، وفجأةً صودرت بضاعته، وبقي بلا دخلٍ وعليه دَيْنٌ، وصار أصحاب الدَيْن يطالبونه بإلحاحٍ، مرضت زوجته وليس معه ثمن الدواء فضلاً عن ثمن الطعام لأولاده، وضاقت عليه الدُنيا حتى أنه قال: "أصابتني مصائب لو أنها نزلت على جبلٍ لهدَّته، ومع ذلك، فما شعرتُ في أحد الأيام إلا وأنا أدخل إلى المسجد لأُصلي، وكم كانت الراحة التي أحسستُ بها، والسكينة التي غمرتني". لقد أرجعته مصيبته إلى (الفطرة السليمة).

إنسانٌ آخر مُلحدٌ، وله أعمالٌ مُخزيةٌ جداً، وعنده بنتٌ صغيرةٌ في سن الورود مرضت مرضاً شديداً، هذا المرض جعله يُنفق كل ما يملك على علاجها إلى أن قال له أحد الأطباء: "لا يُنتظر أن تعيش هذه الفتاة"؛ فكان يأخذها معه إلى عمله خشية أن تموت في غيابه؛ لشدة تعلقه بها، وهو ما زال يُصر على أنه لا إله! ارتفعت حرارة ابنته ووصلت إلى الأربعين، لم يترك طبيب أطفالٍ إلا وزاره، ولم يترك دواءً إلا واستعمله، وهذه الحرارة لا تنخفض أبداً. وفي أوج الشدة التي يُعانيها قام فاغتسل واستعد للصلاة، وسأل زوجته: "ماذا تقرئين في الصلاة؟"، إنه لا يعرف الفاتحة! تقول زوجته: "بقي واقفاً نصف ساعةٍ يبكي ويقول: "يا رب؛ إما أن تأخذها أو أن تأخذني أو أن تُشفيها". ضيّق الله عليه حتى عاد إلى (الفطرة السليمة)، وما أن سلّم من صلاته حتى رأى حرارة ابنته قد انخفضت، وبدأت تتعافى برحمة الله.

 

يقول أهل الاختصاص إن التدين أصيلٌ في النفس الإنسانية، قديمٌ قِدَم البشرية؛ فما من جماعةٍ إنسانيةٍ عاشت على هذه الأرض إلا وكان لها دينٌ ومعبودٌ تتجه إليه بالعبادة والتقديس. وإن الناظر في تاريخ الحضارات في العالم عبر العصور كالحضارة الفرعونية واليونانية والرومانية وحضارة بابل وآشور وغيرها لَيَجِد التدين مَلْمَحاً بارزاً من ملامح هذه الحضارات. إن الفطرة هي المُحرك الأساسي الذي دفع الإنسان عبر العصور للبحث عن خالقه ورازقه؛ فالتدين هو مظهرٌ من مظاهر هذه الفطرة التي ولَّدَت في الإنسان دائماً الشعور بالقوة العليا التي خلقته وخلقت العالم كله، ولا زالت تُدبر شئونه، فتعلق الإنسان بها لكي تدفع عنه عوادي الزمن وتجلب له الخير في الحياة. وما حدث للإنسان من ابتعادٍ عن الله تعالى أو إشراكٍ به فهو انحرافٌ في الطريق، وخطأٌ في الأسباب، راجعٌ إلى عوامل كثيرةٍ؛ ولذلك مَنَّ الله تعالى على الناس بإرسال الرُسل لتوجيههم إلى الطريق المستقيم.

 

ومن (الفطرة السليمة) بعد عبادة الله سبحانه وتعالى، حب العدل والإنصاف، والصدق والبِر، والإحسان والوفاء بالعهد، والنصيحة للخَلق، والرحمة بالمساكين، ونُصرة المظلوم، ومواساة أهل الحاجة والفاقة، وأداء الأمانات، ومقابلة الإحسان بالإحسان، والعفو والصفح، والصبر، والبذل، والحلم، والسكينة والوقار، والرأفة والرفق، والتؤدة، وحُسن الأخلاق، وجميل المعاشرة، وستر العورات، وإقالة العثرات، والإيثار، وإغاثة الملهوف، وتفريج الكربات، والتعاون، والشجاعة والسماحة، والبصيرة والثبات، والعزيمة، والقوة في الحق، واللين لأهله، والإصلاح بين الناس، وتنزيل الناس منازلهم، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وبالإجمال تقودنا (الفطرة السليمة) إلى كل ما هو صحيحٌ وجميلٌ ومفيدٌ ونافع، تقودنا إلى كل خيرٍ وبِرٍ، وتُبعدنا عن كل سوءٍ وشر.

 

أحبتي.. النفوس السليمة مجبولةٌ ومفطورةٌ على محبة الله وتعظيمه، وعبادته، والإنسان تقوده (الفطرة السليمة) إلى أن يؤمن بأنّ له خالقاً عظيماً، عليه أن يعرفه في الرخاء، وهو غنيٌ معافىً وفي أوج صحته وقوته، لا أن يعرفه فقط في حالات الشدة؛ فليُصحح كلٌ منا بوصلته، ويُعدِّل مساره، ويُصوَّب اتجاهه، إن كُنا قد ابتعدنا عن طريق الله فلنعد فوراً إلى فطرتنا التي خلقنا الله عليها، عباداً صالحين، مؤمنين بالله، مُخلصين له، قانتين خاشعين؛ ولْنَدَع (الفطرة السليمة) تقودنا إلى طريق الإيمان، طريق الحق والخير، فنهنأ بسعادة الدارين: الدُنيا والآخرة.

نسأل الله لأنفسنا ولغيرنا الهداية والتوفيق والسداد.

https://bit.ly/445fzfy

الجمعة، 12 أبريل 2024

متعة العطاء

 

خاطرة الجمعة /442

الجمعة 12 إبريل 2024م

(متعة العطاء)

 

يُحكى أن تلميذاً كان يسير مع أستاذه ومُعلمه بين الحقول والمزارع، وأثناء سيرهما معاً وجدا حذاءً قديماً، فظنا أن هذا الحذاء لابد أن يكون لعاملٍ ممن يعملون في أحد الحقول القريبة، تركه لحين الانتهاء من عمله، فقال التلميذ لمعلمه: "ما رأيك أن نقوم بإخفاء هذا الحذاء عن صاحبه، ثم نختبئ خلف الأشجار وننتظر عودة صاحبه حتى نرى دهشته وحيرته عندما لا يجد حذاءه؛ على سبيل المزاح، وإدخال السعادة على أنفسنا؟"، قال المُعلم لتلميذه: "يا بُني؛ لا تبني سعادتك على حساب ألم غيرك وحزنه، في حين أنه يمكنك أن تجلب لنفسك السعادة، وفى نفس الوقت تُدخل البهجة والسرور على نفس هذا الفقير أيضاً"، قال التلميذ مُتلهفاً: "وكيف أجلب السعادة لنفسي وله في نفس الوقت يا سيدي؟"، قال المُعلم الفاضل: "السعادة تكون بالعطاء لا بالأخذ يا بُني، وأنت ميسور الحال والحمد لله، بإمكانك أن تُعطي هذا الفقير ما استطعتَ من المال، تضعه في حذائه بدلاً من أخذه وإخفائه، ونختبئ خلف الأشجار لنشاهد تأثير ذلك عليه". اقتنع التلميذ باقتراح مُعلمه وقام بوضع مبلغٍ من المال داخل حذاء العامل ثم اختبأ هو ومعلمه خلف الأشجار، وبعد قليلٍ جاء عاملٌ فقيرٌ يرتدي ملابس رثةً ليأخذ حذاءه، تفاجأ العامل عندما حاول ارتداء الحذاء إذ وجد بداخله نقوداً، أخذ العامل الفقير النقود، وخرَّ على رُكبتيه ساجداً شاكراً لله تعالى على عطيته، وهو يبكي من شدة الفرح رافعاً يديه إلى السماء، يُخاطب ربه قائلاً: "أعلم أنك رحيمٌ، وأنك سبحانك على كل شيءٍ قديرٌ، علمتَ أني لا أملك ما أشتري به طعام أبنائي الجياع، ودواء زوجتي المريضة، فأعطيتني ورزقتني من حيث لا أحتسب؛ فلك الحمد والشكر يا رب العالمين". شاهد التلميذ ومعلمه ما حدث، بكى التلميذ من شدة التأثر بفرحة الفقير بالعطاء، حينذاك قال له مُعلمه الفاضل: "علمتَ الآن يا بُني أن سعادتك بالعطاء كانت أكبر وأكثر فائدةً من سعادتك بالأخذ! إنك بالعطاء جلبتَ السعادة للفقير، كما ذُقتَ (متعة العطاء) ولذته؛ فقد أطعمتَ أبناءه الجياع، وساهمتَ فى علاج زوجته المريضة، ولك أجرٌ عظيمٌ عند الله سبحانه وتعالى".

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة عن (متعة العطاء) بقصةٍ أخرى عن نفس الموضوع؛ ففي لقاءٍ تلفزيونيٍ سأل المذيع ضيفه الملياردير: "ما أكثر شيءٍ أسعدك في الحياة؟"، فقال الرجل: "مررتُ بأربع مراحل للسعادة حتى عرفتُ السعادة الحقيقية؛ الأولى: اقتناء الأشياء. الثانية: اختيار الأغلى والأنفس من الأشياء والاحتفاظ بها. والثالثة: كانت امتلاك المشاريع الضخمة؛ كشراء الفرق الرياضية والمنتجعات السياحية بأكملها، كنتُ أظن أن اقتناء الأشياء -خاصةً الغالي والنفيس والضخم منها- يُحقق لي السعادة، لكني لم أجد السعادة التي كنتُ أتخيلها بل وجدتُ أن تأثير كل ذلك كان وقتياً سريع الزوال. أما المرحلة الرابعة: فكانت حين طلب مني صديقٌ لي أن أُساهم بشراء مجموعةٍ من الكراسي المتحركة لعددٍ من الأطفال لديهم إعاقةٌ حركيةٌ؛ فقمتُ فوراً بالتبرع بالمبلغ اللازم لشراء تلك الكراسي، لكن صديقي أصر -دون رغبةٍ مني- أن أذهب معه وأُقدم هديتي بنفسي للأطفال، ذهبتُ معه، وقدمتُ الهدية بنفسي، ورأيتُ الفرحة الكبيرة التي تعلو وجوه الأطفال وهم يتسلمون كراسيهم، وكيف صاروا يتحركون في كل الاتجاهات بواسطة تلك الكراسي البسيطة، وهم يضحكون كأنهم في مدينة ملاهٍ، إلا أن ما أدخل السعادة الحقيقية إلى نفسي هو إمساك أحد الأطفال برجلي وأنا أهُم بالمغادرة، حاولتُ أن أُحرر رجلي من يده برفقٍ لكنه ظل مُمسكاً بها بينما عيناه تركزان بشدةٍ على وجهي، انحنيتُ لأسأله: "هل تريد شيئاً آخر مني قبل أن أذهب يا بُني؟"، فكان رده الذي غيّر حياتي كلها؛ وعرفتُ بعدها معنى السعادة الحقيقية، قال: "أريد أن أتذكر ملامح وجهك حتى أتعرف عليك عندما ألقاك يوم القيامة أمام الله فأشكرك مرةً أخرى!".

 

وليس ببعيدٍ عن (متعة العطاء) ما قام به ذات يومٍ رجلٌ خرج مسافراً، محاولاً اللحاق بأحد القطارات، وكان القطار قد بدأ بالتحرك قبل أن يصعد إليه؛ انطلق الرجل مُسرعاً ليلحق بالقطار؛ فسقطت منه إحدى فردتي حذائه أثناء ركوبه، فخلع فردة حذائه الأخرى من قدمه، وأسرع برميها بجوار الفردة الأولى التي وقعت منه على سكة القطار، فتعجب مَن معه وسألوه عن سبب رميه لفردة الحذاء الأخرى بدلاً من نزوله لجلب الفردة الأولى؟ فأجابهم: "لقد رميتها لأني أحببتُ للفقير الذي يجدها أن يسعد بالعثور على الفردتين معاً؛ لأن فردةً واحدةً معي لن تنفعني، وفردةً واحدةً معه لن تنفعه. كان الرجل سعيداً بعطائه كاملاً حتى ينتفع به الفقير؛ فرغم احتياج هذا الرجل للحذاء إلا أنه فضّل (متعة العطاء).

 

عن العطاء يقول اللهُ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.

وحثاً على العطاء يقول تبارك وتعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، ويقول تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا].

 

أما أهل العلم فيقولون إن العطاء صفةٌ أخلاقيةٌ ساميةٌ وحميدةٌ، كما أنه عبادةٌ؛ حيث تقديم العطايا والصدقات والمساعدات للمحتاجين والفقراء من أركان الإسلام وفروضه، كما أن العطاء يحمي الإنسان من أنانيته، ويجعله يشعر بالآخرين ويُكسبه قدرةً على التفاعل والتعايش مع الناس والإحساس بهم، كما أنه يمنح صاحبه الشعور بالرضا الذاتي الذي هو بدوره نعمةٌ كبيرةٌ من الله سبحانه وتعالى. وحتى يكون العطاء خالصاً لوجه الله، لا ينتظر المعطي رؤية الذُل والانكسار في عين مَن يُعطيه، ولا حتى ينتظر منه رد الجميل أو الشكر والثناء. و(متعة العطاء) مستمرةٌ وباقيةٌ؛ فأصحاب اليد العليا، الذين اعتادوا على العطاء بلا مقابل وفى الخفاء دون رياءٍ، سعداء في الدنيا، كما أن لهم أجراً عظيماً في الآخرة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]، والصدقة عطاءٌ للمحتاج، والعلم النافع عطاءٌ للجاهل، والولد الصالح عطاءٌ للمجتمع كله.

ليس العطاء عطاء مالٍ فقط؛ فإطعام الجائع عطاء، وكساء العاري عطاء، وكفالة اليتيم عطاء، ومساعدة الأرملة عطاء، والكلمة الطيبة عطاءٌ، والتبسم في وجه الناس عطاء، وإماطة الأذى عن الطريق عطاء، وعيادة المريض عطاء، وقضاء حاجات الناس عطاء، وتعليم الناس أمور دينهم ودنياهم عطاء، والعطف على الضُعفاء عطاء، وتقديم النصيحة بحكمةٍ لمن يحتاجها في وقتها عطاء، وغير ذلك كثير.

 

قال الشاعر في وصف المُعطي الكريم:

تَراهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلِلًا

كأنكَ تُعْطيهِ الذي أنتَ سائِلهْ

وَذي نَسَبٍ نَاءٍ بَعيدٍ وَصَلْتَهُ بِمالٍ

وَما يَدْري بِأنّكَ واصِلُهْ

وقال آخر:

ليس يعطيك للرجاء ولا الخَوفِ

ولكنْ يلذّ طعم العطاءِ

وقال ثالثٌ:

ليس الكريمُ الذي يُعطي عطيتَهُ

على الثناءِ وإن أغلى به الثمنا

بل الكريمُ الذي يُعطي عطيتَه

لغير شيءٍ سوى استحسانه الحسنا

 

أحبتي.. من المؤكد -كما يرى الخبراء- أننا لا نستطيع أن نحصل على السعادة إلا إذا أعطيناها لغيرنا، والشخص الذي يمنح السعادة بسخاءٍ يبقى لديه مخزونٌ كبيرٌ منها؛ فهي تتضاعف عندما يمنحها، ويُشاطرها الآخرين من دون أن ينقص منها شيء؛ فالسعادة تزدهر بالعطاء، ومن أراد أن يَسعد عليه أن يُسعد الآخرين، يكفي ذلك الشعور الذي يغمر المعطي عندما يُدرك أنه قد أسهم في عملٍ من أعمال الخير، وأنه ليس في حاجةٍ إلى شيءٍ في المقابل ولا حتى إلى كلمة شكر. يقول تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، فأروا الله من أنفسكم خيراً، بالسخاء في عطاء ما تستطيعون عطاءه، إلى كل من يحتاج العطاء، لا ترجون إلا وجه الله سبحانه وتعالى، وعلّموا أبناءكم العطاء من صغرهم، وعوّدوهم أن يكون عطاؤهم من مالهم الخاص؛ فيشبوا ويكبروا على ما تعودوا عليه.

اللهم قِنا شُح أنفسنا، ويسّر لنا سُبل العطاء بجميع صوره، ولا تحرمنا (متعة العطاء) ولذته في الدنيا، وأجزل لنا ثوابه في الآخرة، إنك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/4d5z0ZQ

الجمعة، 5 أبريل 2024

ففروا إلى الله

 خاطرة الجمعة /441

الجمعة 5 إبريل 2024م

(ففروا إلى الله)

 

هذه قصة توبة سائق سيارةٍ بعد مشاهدته لحادثٍ وقع أمام عينيه؛ يروي هذا الشاب قصته فيقول:

كنتُ أعمل سائقاً للمسافات الطويلة، وكان خط سيري بين «جدة – المدينة» وبالعكس.. وبالجهد والكفاح استطعتُ -بفضل الله- أن أشتري سيارةً أعمل عليها، وكان العمل يشتد في مواسم: رمضان، والحج، وعطلة الربيع.. وأنا لا أستطيع أن أواصل الليل بالنهار لأني كنتُ أحلم بالحياة الوردية -كما يقولون- مما أدى بي إلى استعمال الحبوب المنبهة؛ فأصبحتُ أواصل السهر والسفر من ثلاثة أيامٍ إلى خمسة أيامٍ دون نوم. بقيتُ على هذه الحال ما يقرب من سنتين، جمعتُ خلالهما مبلغاً كبيراً من المال، وذات يومٍ فكرتُ في الراحة فصممتُ على أن تكون هذه الرحلة آخر سفريةٍ وبعدها أرتاح من هذا العناء. وكانت إرادة الله فوق كل شيء. ركب المسافرون السيارة، وخرجنا من مدينة «جدة» وقطعتُ مسافةً لا بأس بها، وإذا بي أفاجأ بسيارةٍ تمر من جواري تسير بسرعةٍ جنونيةٍ، أحسستُ بداخلي بأن أمراً ما سوف يحدث.

وبالفعل ما هي إلا لحظاتٌ حتى رأيتُ السيارة المذكورة وهي تنقلب أمامي، ومع انقلابها كنتُ أرى أشلاء السائق وجثته تتقطع وتتطاير في الهواء. هالني المنظر؛ فلقد مرّت بي حوادث كثيرةٌ ولكن هذا الذي رأيتُ كان فوق تصوري. وجُمتُ للحظاتٍ أفقْتُ بعدها على صوت بعض المسافرين وهم يرددون: "لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون". قلتُ في نفسي: "كيف لو كنتُ مكان هذا الشاب؟ كيف أقابل ربي بلا صلاةٍ ولا عبادةٍ ولا خوفٍ من الله؟"، أحسستُ برعدةٍ شديدةٍ في جسمي ثم لم أستطع قيادة السيارة إلا بعد ثلاث ساعاتٍ، بعدها أوصلتُ الركاب إلى «المدينة» ثم عدتُ إلى «جدة» وفي الطريق أديتُ صلاة المغرب، وكانت أول صلاة أصليها في حياتي، وقرأ الإمام فيها الآية الكريمة من سورة الذاريات (ففروا إلى الله) أحسستُ أنها رسالةٌ إلهيةٌ موجهةٌ لي شخصياً. دخلتُ إلى منزلي، وقابلتني زوجتي، فرأتْ تغيراً واضحاً وجلياً في هيئتي، ظنتْ أنني مريضٌ فصرخت في وجهي: "ألم أقل لك اترك هذه الحبوب، حبوب البلاء، إنك لن تدعها حتى يقصف الله عمرك فتذهب إلى النار". كانت هذه الكلمات بمثابة صفعاتٍ وجهتْها لي زوجتي؛ فقلتُ لها: "أعاهد الله أنني لن أستعمل هذه الخبائث بعد اليوم".. وبشرتها بأني قد صليتُ المغرب والعشاء، وأني تبتُ إلى الله وأُجهشتُ بالبكاء، بكيتُ بكاءً مرّاً وشديداً. أيقنت زوجتي أني صادقٌ فيما أقول؛ فما كان منها إلا أن بكت هي الأخرى فرحةً بتوبتي ورجوعي إلى الحق. في تلك الليلة لم أتناول عشائي، نمتُ وأنا خائفٌ من الموت وما يليه؛ فرأيتُ فيما يرى النائم أني أملك قصوراً وشركاتٍ وسياراتٍ وملايين الريالات.. وفجأة، وجدتُ نفسي بين القبور أتنقل من حفرةٍ إلى حفرةٍ أبحث عن ذلك الشاب الذي تقطع جسده وتحول إلى أشلاء فلم أجده، وأحسستُ بضربةٍ شديدةٍ على رأسي أفقتُ بعدها لأجد نفسي على فراشي. تنفستُ الصُعداء، وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل، قمتُ وتوضأتُ وصليتُ حتى بزغ الفجر؛ فخرجتُ من البيت إلى المسجد. ومنذ ذلك اليوم وأنا -ولله الحمد- ملتزمٌ بالصلاة في بيوت الله لا أنقطع عنها أبداً، وأصبحتُ حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تُقام في المساجد، وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة، عساه أن يعفو عني ويقبل توبتي.

 

أحبتي في الله.. ولأن الموت يأتي فجأة.. ولأن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم الصالح أن يُبادر إلى توبةٍ نصوحٍ لا رجعة عنها، يفتح بها صفحةً جديدةً مع الله سبحانه وتعالى، يصوب بها أخطاءه ويصحح مسيره، ولا ينتظر أن يرى حادث سيرٍ أمامه حتى يثوب إلى رشده، كما كان الحال مع الشاب صاحب القصة.

على كل مسلمٍ أن يراجع نفسه، ويُصوّب مسيرته، ويُجبر ما قصّر فيه من عبادات.. والله كريم، بل هو أكرم الأكرمين؛ يعفو ويصفح، بل ويُحوّل للمسلم سيئاته حسناتٍ إذا صدق في توبته وأتبعها بالعمل الصالح؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. ويقول سبحانه حاثاً على المسارعة إلى التوبة وترك المعاصي: ﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ﴾. ويقول تعالى حاضاً على التسابق في ذلك: ﴿سابِقوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُها كَعَرضِ السَّماءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذينَ آمَنوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ في وصف المؤمنين: ﴿أُولئِكَ يُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَهُم لَها سابِقونَ﴾. ومن صفات الصالحين يقول جلَّ وعلا: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. إن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هُم السابقون إلى رفيع الدرجات في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ورد على لسانه في القرآن الكريم: ﴿فَفِرّوا إِلَى اللَّهِ إِنّي لَكُم مِنهُ نَذيرٌ مُبينٌ﴾.

كما كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه وهو ساجدٌ فيقول: [اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ].

 

وعن تفسير قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، قال أهل العلم إن هذه الآية من أعظم آيات القرآن الكريم، تجمع معاني الخوف والرجاء: الخوف من الله تعالى، واللجوء إليه سبحانه، إذ لا منجا منه إلا إليه عزَّ وجلَّ، أَمَرَ بالفرار منه إليه؛ ليدل العباد على أنه أرحم بهم مِن كل مَن سواه، وأنه عزَّ وجلَّ يريد بالعباد الرحمة والمغفرة.

ومعنى (ففروا إلى الله): اهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته؛ ففروا من معاصيه إلى طاعته، وفروا منه إليه بالتوبة من ذنوبكم. وفروا من أنفسكم إلى ربكم. وفيها معنى: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن.

وقيل إن معنى (ففروا إلى الله) هو الفرار مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً، إلى ما يُحبه ظاهراً وباطناً، فرارٌ من الجهل إلى العِلم، ومن الكُفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى ذِكر الله؛ فالمؤمن يفر من ضيقٍ يعتريه، ضيق الهم، وضيق الغم، وضيق الحزن، إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحُسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبِره.

وسمى الله الرجوع إليه فراراً: لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع الأمن والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضاء الله وقدره إلى قضائه وقدره. وكل مَن خِفتَ منه فررتَ منه، إلا الله تعالى؛ فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه؛ يقول تعالى: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)؛ أي: منذرٌ لكم من عذاب الله.

 

ومن بشائر حُسن الظن بالله، ومن كرمه، أنَّ العبد إذا فرَّ إليه وتقرَّب منه شبراً أو ذراعاً، يأتيه الله سبحانه وتعالى هرولةً؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)]. ومِمَا رُويَ عَنِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: {يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ}. وقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا].

 

قال الشاعر:

إني فررتُ إليك ربي خائفًا

أخشاك لا أخشى سواك نقيرا

ومعي شهادة أن ربي واحدٌ

ونبيه المختار كان نذيرا

فهي النجاة إذا جهنم أُزلفت

من وحَّد الرحمن نال سرورا

 

أحبتي.. عن آية (ففروا إلى الله) أختم باقتباسٍ من أحد العلماء قال فيه: لنتأمل في حالنا؛ هل نحن فارون إلى الله كما أمرنا؟ هل إذا نادى منادي الله "حي على الصلاة حي الفلاح" فررنا إلى بيوت الله نرتجي الثواب من الله؟ أم أننا ننتظر الإقامة فإذا قامت الصلاة قمنا للوضوء متثاقلين لا يهمنا أن تفوتنا تكبيرة الإحرام أو تفوتنا ركعةٌ أو ركعتان؟ هل إذا سمعنا منادي الله ينادي في صلاة الفجر "الصلاة خيرٌ من النوم" فزعنا وانتزعنا أنفسنا من الفُرش الوثيرة والدافئة وفررنا إلى الله؟ هل فررنا إلى الله بتلاوة شيءٍ من كتابه في كل يوم؟ هل.. وهل.. وتطول الأسئلة، وكلٌ أدرى بنفسه. اجعل من هذا الشهر الفضيل نقطة انطلاقك في فرارك إلى ربك وخالقك، اجعلها لحظة استجابةٍ لنداء الله يوم أن ناداك (ففروا إلى الله)، وإلا فإلى متى التسويف؟ إذا لم تفر إلى الله الآن وأنت بكامل قوتك وعافيتك فمتى تفر؟ أتفر بعد أن يشيب شعرك وتضعف قوتك وتتراكم على جسدك الأمراض والعلل؟

أحبتي.. أقول لنفسي المقصرة: "لا تنظر خلفك وتقول تأخرّت! فكلّ يومٍ متبقٍ في رمضان يصلح أن يكون بدايةً جديدةً، اغتنم الفرصة، فربما كان هذا اليوم باباً واسعاً للجنّة. إنه الفرار إلى الله؛ لأن خلفك عدوك إبليس يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتي من قوةٍ ليجعلك من أصحاب السعير. إِذا هَمَمْتَ فبادِر، وَإِذا عزمتَ فثابِر، وَاعْلَم أَنه لَا يُدْرك المفاخر مَن رَضِي بالصف الآخر. قُل توكلتُ على الله، وفِر إلى الله، بإخلاصٍ يغفر لك ما مضى ويُعينك على ما تبقى. ليكن شعارك ﴿عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.

اللهم كرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وحبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وتقبل منا، وأعنّا؛ إنك سبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3TNO9pH

الجمعة، 29 مارس 2024

الصبر والشكر

 

خاطرة الجمعة /440

الجمعة 29 مارس 2024م

(الصبر والشكر)

 

قال أحد الأطباء: من أغرب ما شاهدتُ في حياتي المهنية مريضاً، عمره سبعون سنةً، كان يُراجعني بسبب إصابته بمرض السكري، وكل مرةٍ يُراجعني يقول مع ابتسامةٍ كبيرةٍ على وجهه: "الحمد لله يا ربّي على نعمة السكري"! سألته مرةً: "عمي أنت غريب! أول مرةٍ أسمع أحداً يُسمي مرض السكري نعمة"، قال: "يا ولدي السكري نعمةٌ وأكثر!"، قلتُ له: "كيف؟"، قال سأقول لك: "الله أعطاني مرضاً ليس فيه ألمٌ، وكثيرٌ من النّاس يتألمون من أمراضهم.. الله أعطاني مرضاً في وقتٍ استطاع الطبّ أن يجد له العلاج والدواء، وكثيرٌ من النّاس عندهم أمراضٌ لا شفاء منها ولا دواء لها.. الله أعطاني مرضاً يجعلني أراجع الطبيب كل أربعة أشهرٍ فأتأكد من سلامة صحتي بشكلٍ دوري.. الله أعطاني مرضاً حتى اسمه حلوٌ "سكري".. والأهم من ذلك أن الله أعطاني مرضاً لأصبر وأشكر فيغفر لي سيئاتي وذنوبي ويزيد من حسناتي من دون تعبٍ أو عناء.. كما أنه أعطاني مرضاً يجعلني أصحو في الليل مرتين لقضاء الحاجة؛ فصرتُ مواظباً على صلاة التهجد وقيام الليل، والفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى ثم لمرض السكري.. ثم لا تنسَ أن الله أعطاني مرضاً يجعلني أراجع طبيباً حلواً مثلك!".

يقول الطبيب: قرأتُ الكثير عن الصبر وعن الرضا بأقدار الله، وعن شكر الله على كل حال، لكني لم أتعلم منها كما تعلمتُ من هذا الرجل في دقيقتين!!

 

أحبتي في الله.. لله در هذا الرجل؛ فقد تجاوز مرحلة الرضا بقضاء الله وقدره، ومرحلة الصبر على ما أصابه، إلى مرحلة شكر الله عزَّ وجلَّ على ما هو فيه؛ وكأنه يتمثل الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، واختار لنفسه أن يكون من القليلين الذين يقول عنهم سبحانه: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. وعن الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قال المفسرون: هذا عامٌ في جميع أنواع الصبر؛ الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حسابٍ، أي: بغير حدٍ ولا عدٍ ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه، وأنه معينٌ على كل الأمور.

وعن (الصبر والشكر) بَشَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنَ الصابرَ الشاكرَ لا يزال ينقلب من خيرٍ إلى خيرٍ، ومن أجرٍ إلى أجرٍ حتى يلقى ربَّه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلَّا للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ].

وعن التلازم بين (الصبر والشكر) يقول العلماء إن الإيمان نصفان: نصفه صبرٌ، ونصفه شكرٌ، ولا يكون العبد مؤمناً حقَّ الإيمان إلا إذا كان صابراً شاكراً. والصبر ثلاثة أنواعٍ لا بُدَّ منها لكل مؤمنٍ: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على بلاء الله. وقد كتب الله تعالى البلاء في هذه الدنيا على عباده جميعاً؛ فلا ينجو من بلائه غنيٌّ ولا فقيرٌ، ولا عظيمٌ ولا حقيرٌ، ولا مؤمنٌ تقيٌّ، ولا كافرٌ شقيٌّ؛ بل ربما يكون حظُّ المؤمن من البلاء أعظمَ، ونصيبه من المصائب أكبر؛ ليُكفِّر الله بها من سيِّئاته، ويُضاعف له في حسناته، ويرفع له في درجاته. والصبر صبرٌ على شيءٍ أمر به الله، وصبرٌ عن شيءٍ نهى الله عنه.

وأما الشكر فهو شكرٌ بالقلب؛ اعترافاً بأن الفضل لله وحده، وشكرٌ باللسان؛ حمداً لله وثناءً عليه سبحانه، وشكرٌ بالجوارح؛ باستعمالها في الطاعة وترك المعصية.

وتأكيداً على العلاقة بين (الصبر والشكر) يقول أهل العلم إنه لا يكون العبد شاكراً إلا إذا كان صابراً، فإن الصبر أساس الشكر. ودرجة الشكر فوق درجة الصبر؛ بل فوق درجة الرِّضا؛ لأن الرِّضا مندرجٌ في الشكر ومندمجٌ فيه؛ فلا يكون العبد شاكراً لربِّه إلا إذا كان راضياً بقضائه، مُثْنِياً عليه بالثناء الحسن الجميل.

فلا شكَّ أن الوصفين: (الصبر والشكر) مُتَلازِمان، بهما يكمل الإيمان ويتم اليقين، وبهما يصل المؤمن المُوقن إلى مقام الإحسان الذي فَسَّره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ].

 

أحبتي.. جعل الله للصابرين أموراً ثلاثةً لم يجعلها لغيرهم: وهي الصلاة منه والرحمة والهداية؛ يقول تعالى: ﴿الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. كما وعد بالجزاء للشاكرين؛ يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾. فلنجعل حياتنا كلها دائرةً بين (الصبر والشكر)، فلا نخرج من الصبر إلى الجزع، ولا نخرج من الشكر إلى الكفر؛ فإذا نزل بنا بلاءٌ صبرنا، وإذا أنعم الله علينا بسرّاء شكرنا. وهكذا تكون حياتنا كلها دائرةً بين عبادتين: عبادة الشكر وعبادة الصبر، فتكون خيراً كلها.

اللهم أعنّا على الصبر، وألهمنا الشكر، وتقبل منا صالح الأعمال، وارزقنا اللهم رزقاً واسعاً، وعِلماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، وجسداً على البلاء صابراً، ولساناً ذاكراً شاكراً.

 

https://bit.ly/4aixamr

الجمعة، 22 مارس 2024

محاسبة النفس

 

خاطرة الجمعة /439

الجمعة 22 مارس 2024م

(محاسبة النفس)

في ذات يومٍ قام صبيٌ صغيرٌ بالذهاب إلى متجرٍ به هاتفٌ أرضي، كان الصبي الصغير قصيراً لكن تبدو عليه ملامح الذكاء والاجتهاد، وضع كرسياً من أجل الوصول إلى الهاتف، ثم أخرج من جيب بنطاله منديلاً لفه حول سماعة الهاتف، وقام بالاتصال لترد عليه سيدةٌ. كل هذا وصاحب المتجر يُتابع المكالمة باهتمامٍ شديد. تحدث الصبي إلى المرأة وطلب منها العمل بحديقتها، لكن من الواضح أن المرأة رفضت طلبه، ويبدو أنها قالت إن لديها شخصٌ يقوم بذلك؛ حيث قال الطفل إنه مستعدٌ للقيام بهذه المهمة بنصف الأجر الذي يتقاضاه ذلك الشخص، ويبدو أن السيدة رفضت هذا العرض أيضاً، إذ رّد عليها الصبي بأنه سيقوم بتنظيف السيارة ويحرس البوابة إضافةً للعمل بالحديقة، وواضحٌ كذلك أن المرأة رفضت عرضه الأخير؛ حيث أغلق الصبي الهاتف، ومع ذلك كانت تبدو على وجهه علامات الارتياح. فوجئ صاحب المتجر -الذي كان يتابع المكالمة- من تقبل الصبي رفض عروضه للعمل لدى المرأة بصدر رحبٍ حتى أن علامات السرور كانت تبدو جليةً على وجهه؛ فقال للصبي: "من أجل رغبتك في العمل وهمتك فإني أريدك أن تعمل لديّ في هذا المتجر"، شكره الصبي وقال له: "إنني أعمل بالفعل لدى هذه السيدة، ولكنني كنتُ أختبر مدى رضاها عني"، قال هذا وانصرف تاركاً الرجل صاحب المتجر في حالة دهشةٍ منه على أمانته وفطنته.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الله عزَّ وجلَّ حثّ أهل الإيمان على (محاسبة النفس)، والتأمل فيما قدموه لأُخراهم؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. قال المفسرون لهذه الآية الكريمة: إن على المسلم أن يُراجع نفسه دائماً، ويتأمل صحيفة أعماله؛ لينظر ماذا قدّم لغده، وهذا التأمل كفيلٌ بأن يوقظه إلى مواضع ضعفٍ ومواضع نقصٍ ومواضع تقصيرٍ، مهما يكن قد أسلف من خيرٍ وبذَلَ من جهدٍ، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ورصيده من البر ضئيلاً؟! ويقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، قال المفسرون: ليس من نفسٍ برةٍ ولا فاجرةٍ إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً قالت: هلّا ازددتُ، وإن عملت شراً قالت: ليتني لم أفعل. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾، وهذا وصفٌ للمؤمنين الذين يُحاسبون أنفسهم عند الزلة والتقصير فيرجعون عما كانوا عليه.

 

وعن (محاسبة النفس) رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ]، قال شُراح الحديث: معنى قوله: [مَن دان نفسَه] أي حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسب يوم القيامة.

 

ورُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾.

 

قال أحد الدُعاة: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه؛ ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان؛ إن لم تُحاسبه ذهب بمالك".

وقال غيره: "يجب أن ندرك مغبة المخالفة وعاقبة الطاعة، وأن الكلمة والموقف، والعمل والترك؛ كل هذا له عاقبته وحسابه بين يديّ رب العالمين.

إن الأمر عظيم الشأن، جاد المأخذ؛ قد قامت له الدنيا وخُلقت من أجله؛ فلم نأتِ للعبٍ ولا للعبث. ومن لم يُدرك هذا اليوم أدركه غداً عندما ينكشف الغطاء ويُعاين الغيب؛ ولهذا فالعقل والحزم أن نُدرك هذا وقت نفع الإدراك وإمكان الاستعتاب والإصلاح وتغيير الحال".

وقال ثالثٌ: "إن العبد لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".

 

وعن (محاسبة النفس) قال الشاعر:

إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعها

وكلُ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ

فاعملْ لنفسكَ قبلَ الموتِ مُجتهداً

فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

وقال آخر:

وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى

حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا

وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ فلنُكثر من أعمال الخير والأعمال الصالحة، ولنُقلل إلى الحد الأدنى الممكن من المعاصي والخطايا والسيئات، وإذا فعلنا شيئاً منها فلنُبادر بالتوبة وطلب المغفرة.

أختم بما قاله أحد العارفين: "تعاهدْ نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملتَ فاذكر نظَرَ الله تعالى عليك، وإذا تكلمتَ فانظر سمْع الله منك، وإذا سكتَّ فانظر علم الله فيك".

اللهم أعنّا الله على (محاسبة النفس) ومحاربة هواها، وحبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان.

 

https://bit.ly/4crP2fZ

الجمعة، 15 مارس 2024

بركات رمضان

 خاطرة الجمعة /438

الجمعة 15 مارس 2024م

(بركات رمضان)

 

أسلم شخصٌ وكانت قصة إسلامه من (بركات رمضان) شهر الخير، إذ قال إنه تعجَّب من حال المسلمين في قريته، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّب في السماء عندما انصرم الشهر الذي قبل شهر الصوم، كأنهم ينتظرون إشارةً من خالق الكون من فوقهم ليقوموا بشيءٍ بعدها؛ فلما رأوْا هلال رمضان فرحوا فرحاً عظيماً، كأنهم بُشروا بأعظم البشرى. لم يتوقّع أن يكون فرح المسلمين بأنهم سيمتنعون عن الشهوات طيلة شهرٍ كاملٍ طوال النهار كلِّه! هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها، وتُخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلها. ليس هذا فحسب، بل وكانت فرحة المسلمين في قريته أيضاً أنهم سيقضون معظم الليل واقفين على أقدامهم يُصلون مناجاةً لربهم!

استحوذ هذا التعلق وهذه التصرفات على قلبه، فصام مع المسلمين، وهو لا يعرف شيئاً عن الإسلام، ولم ينطق بالشهادتين؛ فاكتفى بالامتناع عن الأكل والشرب وإتيان زوجته، من وقت ذهاب المسلمين لصلاة الفجر، ولا يأكل أو يشرب إلا إذا سمع أذان المسجد لصلاة المغرب! الأغرب من ذلك أنه ذهب وصلى مع المسلمين في المسجد صلاة التراويح وفعل مثل ما يفعلون؛ قياماً وركوعاً وسجوداً، غير أنه لا يتكلم بشيءٍ، فكان يجد راحةً عجيبةً، وسكينةً لم تعرفها روحه من قبل! حتى إذا انتصف الشهر، لاحظ إمام المسجد أنّ هذا الرجل غريبٌ عن القوم، فسأله الإمام عن نفسه؛ فصدقه الرجل القول وحكى له حكايته؛ فدُهش الإمام منها اندهاشاً حمله على أن يجمع رواد المسجد ليسمعوا منه، فلما سمعوا قصة ذلك الرجل عرضوا عليه الإسلام؛ فنطق بالشهادتين، فكبّر كل من كان بالمسجد، وقال له أحدهم: "أنتَ أسلمتَ بسبب شهر رمضان، فليكن اسمك من اليوم «رمضان»"!

 

أحبتي في الله.. عن شهر رمضان، شهر الخير والبركات يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ].

 

شهر رمضان بركاته كثيرةٌ؛ وأول (بركات رمضان) أن اختصه الله جلَّ جلاله وأعلى منزلته بين الشهور بأن فرض الله صيامه. ومن بركاته أنه شهرٌ تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق فيه أبواب النار. وهو شهرٌ تُصفد فيه الشياطين. وأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن. وهو شهر الجود والكرم والعطاء؛ بالتوسعة على الأهل والإنفاق على الفقراء والمحتاجين وإطعامهم وتفطير الصائمين. ومن (بركات رمضان) السحور؛ ففيه بركةٌ كما أخبرنا بذلك النبي عليه الصلاة والسلام. إن أيام هذا الشهر الفضيل ولياليه كلها بركة، وأفضل أيامه ولياليه العشر الأواخر منه، وأعظم تلك الليالي بركةً، الليلة التي أُنزل فيه القرآن، وهي الليلة التي هي خيرٌ من ألف شهر، إنها ليلة القدر.

 

وعن (بركات رمضان) وصف أحد التابعين شهر رمضان بقوله: "رمضان بين الشهور كيوسف عليه السلام بين إخوتِه؛ فكما أن يوسف كان أحبّ الأولاد إلى أبيه يعقوب، كذلك رمضان هو أحب الشهور إلى علَّام الغيوب".

وقال غيره: "رمضان بين أحد عشر شهراً، كيوسف بين أحد عشر من إخوته، فلا تقتلوه، ولا تلقوه في غيابة الجُب، ولا تبيعوه بثمنٍ بخسٍ، بل أكرموا مثواه؛ عسى أن ينفعنا أو نتخذه شفيعاً يوم الحساب".

واختصر أحد العارفين وصف شهر رمضان في عبارتين؛ فقال: "الشهر قصير لا يحتمل التقصير، وقدومه عبور لا يقبل الفتور" وأضاف: "الهمة يا رفاق الجنة، وكلما تكاسلت تذكر: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾".

ومن أطرف ما وصلني عن (بركات رمضان) منشورٌ بعنوان "طائرة رمضان"؛ إذ النداء فيها هو: "حضرات السادة الركاب برجاء الانتباه؛ طائرة رمضان تستعد الآن للإقلاع، من مطار شعبان الدولي رقم الرحلة 1445، الوجهة: باب الريان، قائد الرحلة: القرآن الكريم. نرجو منكم ربط أحزمة التقوى. ممنوعات الرحلة: الانشغال بالمسلسلات، الانشغال بالأكل والطعام، الغيبة والنميمة. علماً بأن الطائرة مزودةٌ بأجهزة مراقبة ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. كما ننصح طوال الرحلة بالحفاظ على: الصلوات المفروضة، صلاة التراويح، صلاة التهجد، ذِكر الله كثيراً، الصلاة على النبي، بِر الوالدين، صلة الرحم، المزيد من الصدقات، إطعام الفقراء والمساكين، وعيادة المرضى. نتمنى لكم رحلةً سعيدةً، وإلى اللقاء عند حوض النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم القائل عن الحوض: [مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا]".

 

وللحصول على (بركات رمضان) كتب أحد العلماء يُحذر من لصوص رمضان، فَعَدَّ من اللصوص ما يلي: التلفاز؛ لصٌ خطيرٌ لما فيه من إفساد صيام الناس وإنقاص أجرهم بمشاهدة مسلسلاتٍ وبرامج تافهة. الأسواق؛ لصٌ متخصصٌ في بذل المال والوقت بلا حساب. المطبخ؛ لصٌ يسرق الكثير من الوقت لعمل أنواع كثيرةٍ من الطعام والشراب. السهر؛ لصٌ يسرق أغلى الأوقات، التي يمكن أن يستفيد منها العبد في صلاة التهجد في الثلث الأخير من الليل ومن الاستغفار والتوبة. الهاتف؛ وهو لصٌ يجعل الذنوب -من غيبةٍ ونميمةٍ وكذبٍ ومدحٍ وذمٍ أو إفشاء سرٍ أو جدلٍ في الحق بدون علم- تنهال على العبد طوال المكالمة. البُخل؛ وهو لصٌ يمنع العبد من الإنفاق على وجوه الخير كالصدقات التي تقي من النار، ما كان منها سراً أو علانية. شبكة الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي -مثل الفيس بوك والواتس آب- وتطبيقات الهاتف المحمول؛ فهي -إذا لم تُستغل وتُستخدم على الوجه الصحيح

في الخير- يمكن اعتبارها من أكبر وأخطر لصوص الوقت. والمجالس الخالية من ذكر الله؛ فهي لصٌ آخر يدّخر للعبد الحسرة يوم القيامة والعياذ بالله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما جَلَس قومٌ مجلسًا لم يذكروا اللهَ فيه ولم يُصلُّوا على نبيِّهم إلَّا كان عليهم تِرةٌ فإن شاءَ عذَّبَهم وإن شاءَ غفَر لهم]. والتِرة: هي الحسرة.

 

أحبتي.. الحمد لله الذي بلّغنا رمضان، اللهمّ بارك لنا فيه، وأعِنّا على صيام نهاره وقيام ليله، وحفظ الجوارح، وتلاوة القرآن، واجعلنا فيه من أهل الجود والإحسان. اللهمّ أعنّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا. جعلنا الله وإياكم ممن وُفق لحسن اغتنام (بركات رمضان).

 

https://bit.ly/3TlTpkg

الجمعة، 8 مارس 2024

الأيادي البيضاء

 خاطرة الجمعة /437

الجمعة 8 مارس 2024م

(الأيادي البيضاء)

 

تناقلت وسائل الإعلام العالمية خلال الأيام السابقة خبراً عن امرأةٍ أمريكيةٍ تبرعت بمليار دولار لإحدى كليات الطب في «نيويورك» مُسددةً الرسوم الدراسية لجميع الطلاب وإلى الأبد! والمتبرعة هي أستاذةٌ سابقةٌ في الجامعة، وأرملة أحد المستثمرين في «وول ستريت»، وهذا المبلغ يضمن التعليم المجاني للطلاب في منطقة «برونكس». وقالت المؤسسة التي تم التبرع لها، والتي تضم كلية الطب: "إن هذا التبرع يُحدث ثورةً جذريةً في قدرتنا على مواصلة جذب الطلاب الراغبين في دراسة الطب المؤهلين لذلك". فرحةٌ عارمةٌ انتابت الطلبة لحظة إعلان خبر هذا التبرع السخي، حيث قفز بعضهم من على الكراسي، بينما صفق آخرون بحرارةٍ ووقفوا احتراماً للسيدة المتبرعة. وقالت المتبرعة في كلمةٍ لها: "في كل عامٍ، يدخل أكثر من مائة طالبٍ إلى كلية الطب، وأنا ممتنةٌ جداً لزوجي الراحل؛ لأنه ترك لي هذه الأموال، وأشعر بالسعادة الغامرة لحصولي على شرف تقديم هذه الهدية لأولئك الطلاب الذين يحلمون بأن يكونوا أطباء".

 

أحبتي في الله.. قصة هذه المرأة صاحبة (الأيادي البيضاء) أبهرت الملايين حول العالم لما اعتبروه تبرعاً شديد السخاء، لكن هؤلاء ربما لم يعلموا أن رجلاً عربياً مسلماً سبقها وتبرع للأعمال الخيرية بأكثر بكثيرٍ مما تبرعت به؛ فقبل حوالي أربع سنواتٍ تربَّع رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي" على عرش أكبر المنفقين والمحسنين والمتبرعين لأعمال الخير في العالم العربي، وكان هو العربي الوحيد في قائمة المحسنين العشرة الكبار على مستوى العالم؛ إذ احتل وقتها المركز السادس عالمياً من حيث حجم الأموال التي أنفقها في أعمال الخير والأموال التي تبرع بها للفقراء ولمشاريع الخير والإحسان في العالم؛ فقد كشفت شركة أبحاثٍ عالميةٍ متخصصةٍ في دراسة حركة الثروات ورؤوس الأموال في العالم أنه قدَّم تبرعاتٍ وأموالاً لدعم أعمال الإحسان في العالم بلغت قيمتها 5.7 مليار دولار. وقالت شركة الأبحاث إن إجمالي المبالغ التي تبرَّع بها أكبر عشرين مُحسناً في العالم من ذوي (الأيادي البيضاء) تجاوزت مائة مليار دولار أميركي؛ وهو ما يعني أن المبالغ التي يُساهم بها هؤلاء الأثرياء في أعمال الخير تتفوق أحياناً على ما تُقدمه بعض الدول الكبرى من معوناتٍ للمحتاجين في مختلف أنحاء العالم.

 

وأنقل لكم فيما يلي ما قرأته عن قصة نجاح الملياردير رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي"، والتي قيل عنها إنها تختلف عن كل القصص الملهمة التي سمعنا وقرأنا عنها، لأنها تُجسد حكاية رجلٍ فقيرٍ بدأ من الصفر، وعاد إليه طواعيةً بعد ثمانين سنة من الكفاح والتحدي؛ حيث تبرَّع هذا العام بثلثي ثروته التي تزيد عن سبعة مليارات دولار للأعمال الخيرية؛ فأنشأ شركة أوقاف سليمان الراجحي القابضة، وقام بتوزيع الأرباح الناتجة من استثماراته المختلفة على المشروعات الخيرية التي تُعنى بالفقراء والتعليم وبناء المساجد، كما قام ببناء جامعة سليمان الراجحي في مسقط رأسه في «البكيرية». اشتُهر الراجحي بحبه للأعمال الخيرية؛ حتى أنَّ موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية سجلت مزرعة الراجحي كأكبر وقفٍ خيريٍ في العالم؛ إذ يبلغ عدد النخيل فيها 200 ألف نخلة!

وأبقى "سليمان الراجحي" ثُلث ثروته لأبنائه ليعود فقيراً مثلما بدأ، قائلاً: "وصلتُ لمرحلة الصفر مرتين في حياتي، إلا أن وصولي هذه المرة كان بمحض إرادتي"!

نشأ "الراجحي" فقيراً، وعمل في بداية حياته حمالاً وكناساً وطباخاً وقهوجياً وصرافاً، إلى أن أسس مصرف الراجحي، أول بنك إسلامي في «السعودية»، وأحد أكبر البنوك الإسلامية في العالم بقيمة 33 مليار دولار أميركي، ويبلغ رأسماله أربعة مليارات دولار ويعمل فيه أكثر من ثمانية آلاف موظف، كما امتلك الراجحي العديد من الشركات المساهمة في التنمية الزراعية والصناعية والتعليمية والخيرية.

لم يُكمل "سليمان" تعليمه، وترك مقاعد الدراسة في الصف الثاني الابتدائي، وكان كثير التغيب عن المدرسة بسبب انجذابه الشديد للتجارة؛ يقول في أحد حواراته الصحفية إنه في طفولته اشترى طائرةً ورقيةً بقرشٍ واحدٍ -كان لا يملك سواه في جيبه- وفككها ليتعرف على طريقة صنعها، ثم جمع سعف النخيل ليصنع منه الطائرات، ويبيع الواحدة منها بنصف قرش! وفي سن الـ 12 بدأ "سليمان" جمع البلح لأصحاب مزارع النخيل، الذين كانوا يدفعون له ستة ريالاتٍ شهرياً لقاء ما يقوم به من عمل. ثم انتقل للعمل بوظائف بسيطةٍ مختلفةٍ؛ فعمل كناساً وحمالاً وحارساً وطباخاً، ولم يكن يتردد في القيام بأي عملٍ مهما كان بسيطاً، الأمر الذي أكسبه خبرةً واحتكاكاً مع الناس، كما عمل في البناء، واكتسب خبرةً جيدةً بالسوق وأساليب التعامل مع فئات المجتمع المختلفة. يقول "سليمان الراجحي": "لم أكن أُفطر، كنتُ حمّالاً لأغراض الناس، وأنتظر الثوب الوحيد حتى يجف لألبسه". حينما بلغ عامه الـ 15 كان يدّخر القرش على القرش -على حد قوله في أحد اللقاءات الصحافية- حتى تمكن من إنشاء دكانٍ بسيطٍ خاصٍ به يبيع فيه بعض السلع الاستهلاكية؛ كالشاي والسكر والحلوى والكبريت، تمكن من خلال عمله في البقالة من جمع 1500 ريال، وهي ثروةٌ كبيرةٌ في ذلك الوقت، فحقق رغبة والديه في الزواج، رغم أن ذلك كلفه كل ما جمعه. يقول "الراجحي": "وُفقت بالزواج من أربع نساءٍ ساعدنني في حملي الكبير". بعد سنواتٍ قرر "سلیمان" العمل مع شقيقه الأكبر "صالح" في مؤسسة صرف العملات؛ فكان يُغيّر العملة في شوارع «مكة» للحجاج ويحمل الطرود والأمانات على ظهره لإيصالها للمطار، فيقطع ما يزيد على 10 كيلو مترات ليوفر أجرة الحمّال والنقل، ولم يكتفِ بذلك فتاجر في أوقات فراغه في الأقفال والأقمشة ومواد البناء لتحسين دخله. في عام 1970م قام "سليمان" بافتتاح شركةٍ خاصةٍ به لتبادل العملات، بعد أن انفصل عن أخيه "صالح"، وبدأت أعماله تنجح وتتوسع، وحقق نجاحاً باهراً، وتنامت ثروته واستثماراته. وفي عام 1987م أسس مصرف الراجحي برأسمال 15 مليار ريال، وتعددت فروعه لتصل إلى 500 فرع، كما امتلك أكبر شبكة صرافاتٍ آليةٍ في «السعودية» بعدد يزيد على 2750 ماكينة صرافٍ آليٍ في جميع أرجاء المملكة، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الفروع المنتشرة في العالم. ودخل الراجحي العديد من المجالات التجارية الأخرى؛ فكان يمتلك شركةً للورق والبلاستيك، فضلاً عن امتلاكه عدداً كبيراً من الأسهم في شركة الاستثمار الأسرية التي تُنفذ العديد من المشروعات الزراعية والصناعية داخل المملكة وخارجها كما في «إفريقيا» و«أوروبا الشرقية». بالإضافة إلى امتلاكه شركتي: الوطنية للصناعة والوطنية للنقل. وقد احتفظت شركة الراجحي بأصولٍ أخرى تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار، بما في ذلك الدواجن الوطنية التي تُعتبر من أكبر مزارع الدواجن في منطقة الخليج. حافَظ ثالث أغنى رجلٍ في العالم العربي على تواضعه وحُبه للعمل، فهو يُتابع -رغم كبر سنه- أعماله بشغفٍ، ويُراقب كل شيءٍ بنفسه، ويتمنى لو أن الأسبوع تسعة أيامٍ ليقضيها في العمل، فهو أول من يأتي إلى مكان العمل وآخر من يخرج منه. كما أنه يلبس ثوباً أبيضاً عمره أكثر من 30 عاماً؛ لكي يُذكِّر نفسه دائماً بأنه كان فقيراً، ولكي لا ينسى ماضيه وبداياته!

وكتب الملياردير السعودي "سليمان الراجحي" في وصيته أنه لا يريد أن يُقام له عزاءٌ بعد موته، وأن يتم التبرع بكلفة ذلك للجمعيات خيرية.

 

لقد استجاب "الراجحي" لنداء الله سبحانه وتعالى الذي يحثنا فيه على الإنفاق بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. لقد وعد سبحانه المنفقين بمضاعفة ما أنفقوا وبالأجر الكريم وبالأمن؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

وحثاً على الإنفاق قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ] ذكر منهما [رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَهو يُهْلِكُهُ في الحَقِّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وقال أيضاً: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثٍ] ذكر منها [صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ].

 

أحبتي.. إنّ الإنفاق في الخير ليس قاصراً على الأغنياء فقط، وإنما هو دعوةٌ لأن يقوم كلٌ منا بالإنفاق في وجوه الخير بما يستطيع؛ يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ] قالوا وكيف؟ قال: [كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها] فالأول تصدَّق بنصف ماله، أما الآخر فقد تصدَّق ببعض ماله.

فلنُنفق على كل وجهٍ من أوجه الخير المتعددة، حتى نكون من المحسنين فنحظى بمحبة الله؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. ولننتهز فرصة قدوم شهر رمضان المبارك لنُكثر من إنفاقنا، وليكن لنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم؛ فقد "كان صلَّى الله عليه وسلَّم أجْوَد النَّاس، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ". ولنتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا].

اللهم أعِنّا على أن نتغلب على شُح أنفسنا؛ لنكون من ذوي (الأيادي البيضاء) الذين يُنفقون سراً وعلانية، وتقبل اللهم منا صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/43b5fSF

الجمعة، 1 مارس 2024

الظاهرون على الحق

 

خاطرة الجمعة /436

الجمعة 1 مارس 2024م

(الظاهرون على الحق)

 

يقول أحد الدُعاة السعوديين: قبل عدة سنواتٍ كنتُ في رحلةٍ إلى «قرقيزيا» إحدى جمهوريات «الاتحاد السوڤيتي» سابقاً، وتقع على حدود «الصين». دُعيتُ إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين ربما، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفُصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، وذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، رحب بنا وأعد لنا وليمةً، وحاول تدريبنا على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكانت لا تعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتان بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية؛ حتى اضُطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز!

انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل. وتحت ضغط الفضول العارم سألته: "يا شيخ؛ كيف درستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في «قرقيزستان» تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلاميٍ، فضلاً عمّن يُمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا النظام الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة الإسلامية فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدّم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد؛ فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح؟!"، تبسَّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشِدّة والكَرب، وقال: "نعم كنّا تحت حُكمهم لكن لم نستسلم لهم! كنّا أقوى منهم بإيماننا وإصرارنا وقدرتنا على التكيّف؛ كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عُمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشرات وربما مئات الأطفال، كلها تحت الأرض! كنا نحن (الظاهرون على الحق) وكان الوالدان المسلمان إذا بلغ طفلهما الخامسة من عمره، تسللوا به في جُنح الظلام وساروا بحذرٍ خلف مُرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفُوهة في حُجرةٍ من بيت ٍمهدومٍ أو خربةٍ مهجورة- وهنا تستلمه إدارة المدرسة، وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ، لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن الكريم أو أكثره، ومِن الحديث الشريف ما قُدِّر له، ومِن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية، وربما عاد مرةً أخرى ليكمل دراسته وتعليمه!". سألتُ الشيخ عما درَسوه في اللغة العربية مثلاً؛ فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك!"، ثم تحامل على نفسه ونهض مُتثاقلاً إلى كُوّةٍ في الجدار، ومدّ يده النحيلة إلى كتابٍ مُتهالكٍ فيها؛ فجاء به وفتحه أمامي، فإذا هو نسخته الخاصة من "شرح ابن عقيل"! كنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثُقاة لشككتُ في صحته؛ فقد كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعَسفها وقسوتها على الناس، حتى ظنتُ أنها قد قدرت عليهم وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره "الكتاب والسُنة"، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة العربية. كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله؛ فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمسٌ ولا هواء، ولا لهوٌ، ولا لعب.. وإنما عملٌ شاقٌ مُضنٍ وخطير، ثمنه حياة أحدهم ومَن معه لو افتُضح أمره! كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يُمكن أن يمر به مجتمعٌ، فما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش، ولا استرهبتهم سطوته، فلما سقطت الشيوعية وطوتها سُنّة الله خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتُعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية سابقاً تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العِجاف، وفِي أعماق الأرض! وكان (الظاهرون على الحق) هم المنصورون.

 

أحبتي في الله.. علّق الداعية السعودي -كاتب هذه القصة- بالقول: إنّ هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبْتَلى المسلمون بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، وليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين.

 

يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ –عزَّ وجلَّ- إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ]. وحين سُئل: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال عليه الصلاة والسلام: [الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ].

 

يقول العلماء إنّ حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت اختصاص المؤمن غالباً بنزول البلاء؛ تعجيلاً لعقوبته في الدنيا أو رفعاً لمنزلته، أما الكافر والمُنافق فيُعافى ويُصرَف عنه البلاء وتؤخر عقوبته في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتَّى تَسْتَحْصِدَ]. والناس حين نزول البلاء ثلاثة أقسام: الأول: محرومٌ من الخير؛ يُقابل البلاء بالتسخط وسوء الظن بالله واتهام القدر. الثاني: موفقٌ؛ يُقابل البلاء بالصبر وحُسن الظن بالله. الثالث: راضٍ؛ يُقابل البلاء بالرضا والشكر وهو أمرٌ زائدٌ على مجرد الصبر. وللابتلاء فوائد منها: أنه تكفيرٌ للذنوب ومحوٌ للسيئات، ورفعٌ للدرجة والمنزلة في الآخرة، وإشعارٌ للعبد بالتفريط في حق الله واتهامه نفسه ولومها، وفتحٌ لباب التوبة والذُل والانكسار بين يدي الله، وتقويةٌ لصلة العبد بربه، وتذكيرٌ له بأهل الشقاء والمحرومين والإحساس بآلامهم، وزيادةٌ في قوة الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتذكيرٌ بالمآل وإبصارٌ للدنيا على حقيقتها. وللابتلاء صورٌ كثيرةٌ: ابتلاءٌ في الأهل والولد، وفي المال، وفي الدين، وأعظمها ما يُبتلى به العبد في دينه.

 

وكما رأينا في قصتنا عن المسلمين تحت الحكم الشيوعي كيف كان ابتلاؤهم في دينهم -وهو أشد أنواع الابتلاء- فما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل أحسن هؤلاء (الظاهرون على الحق) الظن بالله وأخذوا بالأسباب. لم يكن منهم مَن يتخيل أن ينفرط عقد «الاتحاد السوڤيتي» ويتفكك ويتحول إلى جمهورياتٍ مستقلةٍ بعضها تُمارَس فيه العبادات وتُقام فيه الشعائر الإسلامية علناً بغير خوفٍ. لقد كانت الفئة التي أحسنت الظن بالله وأخذت بالأسباب من هؤلاء المسلمين هي التي حفظت الدين وحافظت على العقيدة وربّت أبناءها وأنشأتهم على التوحيد والإخلاص، رغم وجود المُثّبطين والمُتخاذلين، وكأنهم كانوا هم المقصودون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ]. ورأينا في النهاية أن هذا الوعد قد تحقق وأتى أمر الله وظهر الحق، رغم عداوة الكافرين، ورغم تثبيط وخذلان بعض المسلمين، بل ورغم تعاون قلةٍ قليلةٍ منهم مع أعداء الله.

 

أحبتي.. لنأخذ العبرة والعظة؛ ونسلك طريق الحق، لا يَفُت في عضدنا قلة السالكين في هذا الطريق، ولا تغرنا كثرة المُغيَبين عنه، ولا نكون أبداً من المُتخاذِلين، ولا ممن يُثبطون الهمم، فضلاً عن أننا نربأ بأنفسنا أن يكون من بيننا خائنون متعاونون مع الأعداء، وإنما علينا أن نُحسن الظن بالله ونأخذ بالأسباب إلى الحد الأقصى الممكن، فإن لم نكن نحن (الظاهرون على الحق) فعلينا أن نكون عوناً لمن سبقونا إلى ذلك، لا نخذلهم ولا نتخلى عنهم، ولا نتركهم وحدهم، وإنما نكون سنداً لهم، مرابطين في ظهورهم؛ نُساعدهم بما استطعنا. ولنكن على ثقةٍ كاملةٍ ويقينٍ صادقٍ بأن النصر ليس بالعَدَد ولا بالعتاد ولا المُعدات، ولا بكثرة وحداثة وقوة الأسلحة، إنما هو من عند الله؛ يقول تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. اللهم اجعلنا من الذين يُدافعون عن دينك، واجعلنا من الصابرين، وأعِز اللهم الإسلام والمسلمين، وانصرنا على القوم الكافرين، وحقق اللهم وعدك الذي وعدت به عبادك المؤمنين: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾؛ أنت وليُّ ذلك وأنت القادر عليه؛ فأنت سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/3wycY0N