الجمعة، 11 يوليو 2025

المكر السيء

 خاطرة الجمعة /507

الجمعة 11 يوليو 2025م

(المكر السيء)   

 

كتب يقول: أنا رجلٌ أكملتُ سن الستين مُنذ شهورٍ، وقد نشأتُ في «القاهرة» لأسرةٍ ثريةٍ حيث كان والدي يملك مصنعاً للمواد الغذائية، وأنا الولد الوحيد له، ولي شقيقتان، تزوجت إحداهما وطلقها زوجها بعد أنتأكد من عدم قُدرتها على الإنجاب، بينما الأخرى لم تتزوج، واستقرتا في بيت العائلة، أما أنا فقد أسستُ بيتاً مُستقلاً، وصارت لي حياتي الخاصة، وارتبطتُ بفتاةٍ من أسرةٍ كبيرةٍ، وسرعان ما أنجبتُ طفلنا الأول الذي خرج إلى الدُنيا مُصاباً بتخلفٍ عقليٍ، ولا أستطيع أن أصف مدى حُزن الأُسرة كلها عليه، فلقد انطفأت فرحتنا، وحاول أبي التسرية عني، وساعدني مادياً ومعنوياً، وأخذني إلى جانبه في إدارة المصنع، ثم ترك لي مسئوليته بالكامل عندما تأكد من أنني شربتُ الصنعة كما يقولون، ثم رزقني الله بولدٍ ثانٍ جاء سليماً، ووجدتُ فيه التعويض الإلهي عن ابني المعاق، وبمرور الوقت ضَعُفَت حالة أبي الصحية، ولم يعد باستطاعته التحرك هنا وهناك لإنهاء الأعمال المُتعلقة بالمصنع، فحرَّر لي توكيلاً عاماً بإدارة أملاكه والتعامل مع البنوك، وإجراء عمليات الشراء والبيع وفق ما أراه.

 كَبُر ابناي؛ المريض ظلَّ على حاله ولا يُغادر حجرته أبداً، والأصغر التحق بالمدرسة وتفوق في الدراسة، وقد أنجبتُ بعدهما بنتين وولداً، البنت الأولى جاءت مُصابةً بالتوحد، والثانية سليمة، ثم الولد الأخير الذي فشل في الدراسة، وكان ابني الثاني هو الوحيد الذي أكمل تعليمه الجامعي. هذه هي الصورة العامة لأسرتي التي استقرت سنواتٍ عديدةً، وعشنا في حبٍ وتعاونٍ وإخلاصٍ، وكنتُ أرعى شقيقتيّ، وأحرص على إرضائهما، وأُقدِّر ظروفهما، وهُما تريان كل من حولهما أقمن بيوتاً ناجحةً، وأنجبن الأولاد والبنات، أما هُما فلا تُغادران جُدران المنزل.

اشتد المرض بأبي وأحسستُ أن أيامه في الدنيا قد صارت معدودةً، فزيَّن الشيطان لي (المكر السيء)،فوسوَّس لي أن أبيع لنفسي مُمتلكات والدي؛ سواءً المصنع، أو الأموال المُودعة في البنوك التي نقلتها إلى حسابي، ولم يدرِ أبي بذلك، ورحل عن الدُنيا، ثم تبعته أُمي قبل أن يكتمل عامٌ على وفاته، ومرَّت شهورٌ لم تُحادثني فيهما شقيقاتيّ عن شيء، ثم جاءتا إليّ في بيتي، وطلبتا ميراثهما من أبينا، فقلتُ لهما: "ليس هناك أي ميراثٍ سوى المنزل الذي تعيشان فيه، والمصنع الذي تتحدثان عنه مِلكي، أبوكما باعه لي"، فأقامتا الدنيا ضدي، ودعتا عليّ الله بأن يُشتت شمل أُسرتي، وينتقم مني في صحتي وأولادي؛ فلم أُبالِ بدعائهما، واكتفيتُ بأن أُرسل إليهما بعض المُساعدات إلى جانب المعاش الذي تحصلان عليه عن أبي، وكانتا في أحيانٍ كثيرةٍ تُعيدان إليّ ما أُرسله لهما، وتُكرران جملةً مازالت أصداؤها تتردد داخلي حتى الآن "لا سامحك الله".

وبينما كنتُ ذات يومٍ في طريقي إلى عملي مُستقلاً سيارتي الخاصة، فاجأتني سيارة ميكروباص في أحد التقاطعات، فاختلت عجلة القيادة في يديّ، ولم أدرِ بنفسي إلا في اليوم التالي؛ فوجدتني في غُرفة العناية المُركزة، وتطلَّب الأمر أن ألزم الفراش فترةً طويلةً، وتولى ابني مُهمة إدارة المصنع وعددٍ من الأعمال المُشتركة مع بعض معارفي، ولم يكن مُمكناً أن أتردد على البنك، أو أنتقل إلى المواقع المُختلفة وفقاً لما تتطلبه المُعاملات المُتعلقة بالشركات والمصانع، فحرَّرتُ له توكيلاً عاماً، ووَثِقْتُ فيه، فهو الوحيد بين أبنائي القادر على الإدارة والمُتابعة، وجاءني من يخطب ابنتي السليمة، فوجدته شاباً طموحاً من أُسرةٍ ذات سُمعةٍ طيبةٍ، فزوجتها له، والحق أنه كان عند ظني به، فسعدتُ به، واستقرت أوضاعها معه، وأما أصغر أبنائي فقد فشل في الدراسة، ولم أُفلح في إقناعه بالالتحاق بأية مدرسةٍ خاصةٍ أو أجنبيةٍ، ويقضي مُعظم الوقت مع أصدقاء السوء. وطالت فترات وجودي في المنزل، وأحسستُ بمدى مُعاناة زوجتي مع ابنيّ المُعاقَيْن: الولد المُصاب بالتخلف العقلي، والبنت المُصابة بالتوحد، وكُلما شاهدتهما أتذكر شقيقتيّ وحرماني لهما -ولأُمي رحمة الله عليها- من الميراث بحيلة التوكيل العام الذي استحللتُ به ميراثهم، وقد مات أبي وأُمي دون أن يعلما شيئاً عن ذلك، وسألتُ نفسي: "ماذا جنيتُ من أكل مال أُختيّ بالباطل؟"،فلم أجد سوى الأُسرة المريضة المُشتتة التي لا تُصلِح أحوالَها كُلُ كنوز الدنيا، في ذلك الوقت كان ابني في الخارج للاتفاق على بعض الأعمال الخاصة بالمشروعات التي نُسهم فيها ببعض المال، وكان يُباشرها بموجب التوكيل الذي حررته له، فاتصلتُ به، وأبلغته أنني أُريده في أمرٍ مُهمٍ، فأرجأ الحديث إلى حين عودته إلى «مصر»، وطالت فترة غيابه لأكثر من شهر، وأبلغني أنه تزوج من فتاةٍ أجنبيةٍ، وأنه قد يستقر في الخارج فترةً، وسوف يُباشر أعماله من هناك، فقلتُ له إن صحتي تحسنت إلى حدٍ كبيرٍ، وأن باستطاعتي أن أعود لمزاولة مهامي في إدارة المصنع إلى حين عودته، فسكت ولم يُعلِّق بكلمةٍ واحدةٍ، وأحسستُ أنَّ في الأمر شيئاً غامضاً، فذهبتُ إلى المصنع وهُناك استقبلني العاملون بترحابٍ شديدٍ، ودخلتُ مكتبي في لهفةٍ بعد طول غياب، وعندما طالعتُ بعض الأوراق فوجئتُ بأن ابني قد باع لنفسه جميع مُمتلكاتي بموجب التوكيل الذي حرَّرته له؛ فسقطتُ على الأرض، وحملني الموظفون إلى المُستشفى، وتمت إفاقتي، وتلفَّتُ حولي فلم أجد سوى زوجتي وشقيقتيّ. يا الله! أَبَعْدَ كُل ما فعلته فيهما يأتيان للاطمئنان عليّ؟! أمسكتُ بأيدي أُختيّ ورجوتهما أن يصفحا عني، وأنني سوف أُعوضهما عن كُل ما فعلته بهما، فلم تردا عليّ، واكتفتا بقولهما: "حمداً لله على سلامتك". وجاء ابني من سفره ووجدته هائجاً، ووجَّه كلامه إليّ قائلاً إنه هو الذي يُدير كُل شيءٍ، وأن الحال التي عليها المصنع والأعمال الجديدة المُشتركة مع بعض معارفنا كلها من عرقه ومجهوده، وسألني: "إذا كنتُ أُوَفِّر لكم كُل طلباتكم، فماذا تريدون؟"، وأخذ يمُّن عليّ أنه يرعى أشقاءه، دون أي مجهودٍ منهم، وتناسى أنه أخذ أموالي، ورددتُ عليه بأن عمتيه من حقهما الميراث الذي استحللتُه لنفسي دون وجه حقٍ، وأنني ندمتُ أشد الندم على جريمتي في حقهما، لكنه لم يُبالِ بما قلته، فألغيتُ توكيلي له، ولكني لم يعد باستطاعتي توقيع أية أوراقٍ أو مُستنداتٍ، ولا حتى تدبير مصاريف المعيشة بعد أن استولى ابني على كل شيءٍ، ولم تُفلح جهود معارفنا وأصدقائنا في إثنائه عن موقفه، فقد اكتفى بقوله: "هُم لا ينقصهم شيء" بمعنى أنه يوفر لنا مُتطلباتنا، أما الأملاك فسوف تظل بيديه لأنها من حقه وحده. وجاءت زوجته الأجنبية، واستقرت معه في «مصر»، أما أنا فقد ازدادت نوبات غيابي عن الوعي، وبإجراء الفحوص والأشِّعات والتحاليل تبين أنني أُصبتُ في الشهور الأخيرة بالمرض اللعين في الكبد، وأستعد لإجراء عملية كيٍّ حراريٍ، وهي المرحلة التي تسبق النهاية المحتومة. لقد آمنتُ بأن الإنسان كما يدين يُدان، وأن الجزاء من جنس العمل، وأن (المكر السيء) يحيق بأهله؛ فكما استحللتُ لنفسي ممتلكات أبي، استحل ابني مُمتلكاتي لنفسه، حارماً منها أُمه وأخوته، وأيضاً شقيقتيّ اللتين لم تحصلا على حقوقهما، بل وأُمي التي تُوفيت ولم تحصل على نصيبها من الميراث. إنني أموت في اليوم ألف مرةٍ، وأتمنى ألا يستمر ابني في الخطأ الذي ارتكبته عندما كنتُفي مثل سنه، فيندم بعد فوات الأوان، كما هي حالي الآن؛ فالفرصة مازالت سانحةً أمامه، لينظر إلى والديه وإخوته الذين لا حول لهم ولا قوة، وكذلك إلى عَمَّتَيْه، فالله يُمهل ولا يُهمل، وسوف يتجرع الكأس نفسها التي أُعاني مرارتها الآن، وأنا أترقب الأجل المحتوم، مغلول اليدين، وليست بيدي حيلةٌ لتدارك ما فات، وأعيش على أمل أن يعفو الله سُبحانه وتعالى عني، وأن يهدي ابني ليُصوِّب أمره قبل أن يصل إلى مرحلةٍ لا ينفع معها الندم.

 

أحبتي في الله.. إنه (المكر السيء)، الذي ورد ذِكره في القرآن الكريم في العديد من الآيات منها؛ يقول تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾،ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾، ويقول كذلك: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَـٰئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾، كما يقول: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.

وعن الآية الأخيرة يقول المُفسِّرون: أي ولا ينزل ولا يُحيط شر (المكر السيئ) إلا بأهله الماكرين. والآية عامةٌ على الصحيح، والأمور بعواقبها، والله -تبارك وتعالى- يُمهل ولا يُهمل، ووراء الدُنيا الآخرة، وسيعلم الذين ظلموا أي مُنقلبٍ ينقلبون؛ فمكر الماكرين إنما يعود عليهم في نُحورهم؛ فيرد اللّه كيدهم في صُدورهم، ولا يَبقى لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سُنَّة اللّه في الأولين، سُنَّةٌ لا تُبدَل ولا تُغيَر، سُنَّةٌ جاريةٌ، وقانونٌ حياتيٌّ مُطَّردٌ: مهما طال الأمد؛ فإن مكر الماكر يعود عليه بالنَّكال والوَبال.

وعندما يقول تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، فإن أهل العلم يرون أن وصف الله سُبحانه وتعالى بالماكر محمودٌ فيمحله؛ إذ يدلُّ على قوَّته، وأنَّه غالبٌ على خَصمِه، على ألا يُوصَفُ اللهُ بذلك على الإطلاقِ وإنَّما تُذكَرُ هذه الصفةُ في مقامٍ يكونُ مدحاً؛ وكذلك لا يُسمَّىٰ اللهُ به؛ فلا يُقالُ: إنَّ مِن أسماءِ اللهِ "الماكِرَ".

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن غَشَّنا فليس مِنَّا، والمَكْرُ والخِداعُ في النَّارِ] أي: صاحِبُهما يستَحِقُّ دُخولَها؛ لأنَّ الدَّاعيَ إليه الحِرصُ على الدُّنيا والرَّغبةُ فيها، وذلك يَجُرُّ إليها.

 

ويقول العلماء إن سُنن الله لا تعرف المُحاباة ولا المُجاملات: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّه ِتَحْوِيلًا﴾، وهَلكةُ الماكر والباغي والناكث مسألة وقتٍ؛ فثلاث خصالٍ مَن كُن فيه كُن عليه، وفي حديثٍ مُرسلٍ: [لا تَمكُرْ ولا تُعِنْ ماكِرًا؛ فإنَّ اللهَ يقولُ: ﴿ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ﴾، ولا تَبْغِ ولا تُعِنْ باغيًا؛ فإنَّ اللهَ يقولُ: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم﴾، ولا تَنكُثْ ولا تُعِنْ ناكِثًا؛ فإنَّ اللهَ يقولُ: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾].

 

قال الشاعر:

وَلَيْسَ يَحيقُ المَكْرُ إلَّا بأهلِه

وَحافِرُ بِئرِ الغَدْرِ يَسْقُطُ في البِئرِ

وَكَمْ حافِرٍ لَحْداً لِيَدْفِنَ غَيْرَه

عَلَى نَفْسِهِ قَدْ جُرَّ في ذَلِكَ الحَفْرِ

وَكَمْ رائِشٍ سَهْماً لِيَصْطادَ غَيْرَه

أُصيبَ بِذاكَ السَّهْمِ في ثُغْرَةِ النَّحْرِ

 

أحبتي.. أختم بنُصح نفسي ونُصحكم بأن نتقي الله، ونتذكر دائماً الآية الكريمة ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. ولنتعاهد بألا نظلم غيرنا أو نمكر عليهم لنسلبهم حقوقهم، وإذا ضَعُفْنا ووقع منا (المكر السيء) فلنُبادر فوراً إلى ردّ المظالم إلى أهلها وتصحيح الأوضاع وتصويب الأخطاء، قبل أن تضيع الفُرص ونصل إلى وقتٍ لا تُغادرنا فيه الحسرة، ويتملكنا فيه الندم.

ربنا أعِنّا ولا تُعِن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويَسِّر الهُدى لنا، وانصرنا على مَن بَغى علينا.

 

https://bit.ly/3Tz8i3i

 

 

 

https://bit.ly/3Tz8i3i

الجمعة، 4 يوليو 2025

الأمر كله لله

 

خاطرة الجمعة /506

الجمعة 4 يوليو 2025م

(الأمر كله لله)        

 

تبدأ القصة حين فقد فلاحٌ حصانه الوحيد الذي يُعينه على حرث أرضه وزراعة حقله، وبينما هو جالسٌ يتأمل الحقل ويُفكر فيما يُمكن أن يفعل، يُحيط به عددٌ من جيرانه ومُحبيه وهُم يندبون حظه مُتسائلين: "أية مُصيبةٍ حلت بك؟!"، عندها يلتفت إليهم قائلاً: "ربما.. من يدري؟!" لينفَضّوا من حوله. في اليوم التالي يُفاجأ الفلاح بعودة الحصان إلى الحقل وخلفه ستة خيولٍ بريّةٍ تفوقه قوةً وجمالاً، فيعمد إليها ويُدخلها في الحظيرة التي بالكاد تتسع لها، قبل أن يعود إليه جيرانه ومُحبوه فرحين ليهنئوه وهُم يُرددون: "أي خير ٍأصابك؟"، فيهز الفلاح رأسه مُكتفياً بقوله: "ربما.. من يدري؟". في اليوم الثالث يتسلل الابن الوحيد للفلاح إلى حظيرة الخيول في غفلةٍ من والده ويمتطي أحد الجياد البريّة بعد أن يُسرجه عنوةً، ويخرج به من الحظيرة، لكن الجواد غير المُروَّض لا يستسلم لرغبة الابن في تدجينه ويُلقي به بعيداً فيقع على الأرض وتُكْسَر قدمه. ومرةً ثالثةً يعود جيران الفلاح ومُحبوه إليه ويواسونه وهُم يصرخون: "أية مُصيبةٍ حلت بك؟!"، ليكتفي كعادته بهز رأسه مُردداً: "ربما.. من يدري؟". في اليوم الرابع يأتي ضابط التجنيد من العاصمة لأخذ شباب القرية إلى الجيش -بحسب النظام المُتبع في الدولة- ويقضي نهاره وهو يجمع شُبّان القرية الأصحاء الصالحين للخدمة العسكرية، وعندما يصل إلى منزل الفلاح ويُشاهد حال ابنه الكسير يتركه ويمضي بسبب عجزه، وقبل أن يُغادر القرية يلتف جيران الفلاح ومُحبوه حول منزله حاملين له التهاني وهُم يرددون: "أي خيرٍ أصابك؟"؛ فيرد الفلاح قائلاً: "ربما.. من يدري؟".

 

أحبتي في الله.. إنه التسليم الكامل بأن (الأمر كله لله) وأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، وأنه سُبحانه وتعالى يُلهم المؤمنين -الصالحين المُتوكلين عليه حق التوكل- الصواب ويكتب لهم ما فيه خيرهم؛ فهذا شابٌ كتب يقول: كُنتُ وعائلتي نسكن في شبه سِردابٍ تحت بيت خالي، كُنا فقراء وجَدّي أسكننا عنده حتى لا ندفع إيجاراً. فتح الله على والدي حتى تمكن من شراء بيتٍ مُستقلٍ وشرع في ترميمه. استغرقه الأمر سنواتٍ من الديون والتعب الذي لا يُستهان به، وحين انتهى وحان وقت الرحيل كُنا قد قضينا في منزل خالي حوالي 12 سنةً، كُنا مُتصالحين في تلك الفترة، ولم يشأ خالي أن نفترق؛ لذا فقد حاول كثيراً إيجاد حلولٍ أخرى لذلك المنزل مُقابل بقائنا معهم، أو تأجيل الانتقال على الأقل لما بعد رمضان، وحاولت أُمي وحاول الجميع دون فائدةٍ؛ فقد كان أبي مُصرّاً بطريقةٍ غريبةٍ، وبدون أي مُبررٍ، سننتقل قبل نهاية رمضان. وفعلاً حصل الانتقال، و-سُبحان الله- الانتقال الذي حسبناه شراً أنقذ حياتنا جميعاً؛ ففي العشر الأواخر من رمضان توفي جَدّي والد أُمي، وخالي الذي كُنا نسكن عنده تشاجر مع أُمي شجاراً كبيراً لأنه أراد وِرْثها. كلما أتخيل ما كان خالي سيفعله لو بقينا عنده آنذاك، أقول الحمد الله الذي سترنا بستره.

 

صحيحٌ أن (الأمر كله لله)؛ فهذا شابٌ اضطُر لدراسة اختصاصٍ جامعيٍ لا يُطيقه، وعندما تخرَّج إذا به يحصل على وظيفةٍ مرموقةٍ مع راتبٍ مُغرٍ وإقامةٍ على حساب الشركة التي توظف فيها!

وآخر تخرَّج، وكان ترتيبه الأول على دفعته، أسرع الخُطى يُريد أن يلحق بالحافلة كي يصل في الوقت المُناسب إلى حفل التخرج؛ فإذا به يتأخر عن الحافلة؛ فيركب الحافلة التالية فيرى وهو في طريقه الحافلة الأولى وقد اصطدمت بشاحنةٍ ومات كل من كانوا فيها من الركاب!

 

يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾، هذه الآية تعني أن الله هو الخالق والمُدَّبر والمالك لكل شيءٍ، وأن كل ما يحدث في هذا الكون هو بإرادته ومشيئته، وليس لأحدٍ من خلقه أية سُلطةٍ عليه؛ لذا فإن هذه الآية تحمل معاني التوحيد المُطلق لله، واليقين بقُدرته وسلطانه، والتوكل عليه في كل الأمور، وأن المؤمن الحق هو من يُفوِّض أمره كله لله، ويُسلِّم له في كل قضائه وقَدَرِه.

 

يقول أهل العِلم إن المؤمن لا ييأس أبداً من رحمة الله مهما ضاقت عليه السبل وتقطعت به الأسباب؛ إذ أن (الأمر كله لله) يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾؛ فكيف ييأس من يعبد رباً كريماً رحيماً قديراً؟ كيف يقنط المؤمن وهو يعلم أن كل شيءٍ بقضاءٍ وقَدَر؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. إذا علم المؤمن هذا فوَّض أمره إلى الله وأسلم نفسه إليه، فوثق به واعتمد عليه، وأخذ بالأسباب المشروعة في جلب الخير ودفع الضُر، فصار مُتوكلاً على الله، فإذا نزلت به حاجةٌ أنزلها بالله سُبحانه وفوَّض أمره إليه بصدقٍ وتضرع ٍوإخلاصٍ فيرى من لُطفه ما لا يخطر على البال؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾.

 

ويقول العلماء إن ابن آدم قصير النظر، محدود الإدراك، لا يكاد يرى أبعد مما تحت قدميه، ولم يؤتَ من العلم إلا قليلاً، وعِلْمه مسبوقٌ بالجهل، ومحفوفٌ بالوهم والخطأ والنسيان، ثم إنه مُولعٌ بالعاجلة، ومُتعلقٌ بالدنيا، وغافلٌ عن العواقب، وربما ظنّ في الأمر خيراً وهو شرٌ له، أو ظنّه شراً وفيه خيرٌ كبيرٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، والله سُبحانه وتعالى لا يقضي للعبد قضاءً إلا كان خيراً له، وهو الأعلم بعباده، وبما يُصلحهم في العاجلة والآجلة؛ يقول تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، ويقول عزَّوجلَّ: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾،وهو جلَّ جلاله وسع ﴿كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ وهو ﴿عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إن ْأصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [عجِبْتُ لأمْرِ المؤمِنِ، إنَّ اللَّهَ لا يَقْضي له قَضاءً إلَّا كان خيرًا له]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَن نَزَلتْ به فَاقةٌ، فأَنَزَلَها بالنَّاسِ، لَم تُسدَّ فاقتُه، ومَن نَزلَتْ به فاقةٌ، فأنزلَها باللهِ، فيُوشِكُ اللهُ له برزقٍ عاجلٍ، أو آجلٍ]؛ وهذه الأحاديث -وغيرها- تؤكد على أن (الأمر كله لله)؛ من أجل هذا علمَّنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة في الأمور كلها؛ يقول: [إذَا هَمَّ أحَدُكُمْ بالأمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِن غيرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُل: اللَّهُمّ َإنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فإنَّكَ تَقْدِرُ ولَا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ خَيْرٌ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي -أوْ قالَ: عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي -أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عنْه، واقْدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أرْضِنِي قالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ] ومن ترسَّخت في قلبه تلك المعاني أراح واستراح، وفوَّض(الأمر كله لله)، وتيقن أن تدبير الله خيرٌ من تدبيره، وأن قضاءه كله خير.

 

ويقول علماؤنا إن الإيمان بأن (الأمر كله لله) فيه علاجٌ للقلق والتشاؤم، وهو سببٌ لحصول السكينة والطُمأنينة، وليست دعوةً لبث الوهن وترك العمل، أو ذريعةً للخُمول والكسل، بل يكون العمل بكل ما في الوسع والطاقة، والوقوف على حد الاستطاعة، مِن فِعل الأسباب التي سخرَّها الله؛ فكم مرةً استعجل الإنسان أمراً، فلما جاء تمنى لو تأخر، وكم مرةً سعى الإنسان للحصول على شيءٍ، ولكنه بعد حينٍ حمدالله لكونه لم يحصل عليه، فمن يعلم الغيب، ومن يعلم عاقبة الأمور إلا الله عزَّ وجلَّ؟ ولنتذكر أن المرء قد يُحب شيئاً، وليس له فيه خيرٌ ولا مصلحةٌ، ويكره شيئاً وله فيه خيرٌ ومصلحة. الله وحده هو أعلم بعواقب الأمور منا، وأخبر بما فيه صلاحنا في دنيانا وأُخرانا. إن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة هي خيرٌ بلا شك، وإن أفعال الشر التي تُحبها النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة هي شرٌبلا شك.

قال الشاعر:

الأمرُ للهِ، هُوَ الآمرْ

وهْوَ العزيزُ الباطِنُ الظاهِرْ

لا يَملكُ الإنسانُ مِنْ أمرٍ

واللهُ -لا نِدَّ لهُ - القاهِرْ

لكنّنا ندعوهُ في ذُلٍّ

أنْ يَجبُرَ المكسورَ في الخاطرْ

ويقول آخر:

للهِ سَلَّمْتُ أمْراً لَسْتُ أَعْلَمُهُ

ما لي على حِمْلِهِ لَكِنْ سَأرْضاهُ

رَبّاهُ لَوْلاكَ لا سندٌ ولا أحدٌ

فأنتَ حَسبي، وَحَسْبِيَ أنّكَ اللهُ

 

أحبتي.. إن الشدائد التي نمر بها قد تكون في ظاهرها مُؤلمةً، لكنها تحمل في طياتها رحمةً من الله، والإنسان وهو يعيش في هذه الدنيا، ومع كثرة المشاغل وتعقيدات الحياة ومُتطلباتها، قد يغفل عن هذه الأمور، إلا أنه لا بد للإنسان من وقفةٍ مع نفسه، ليُراجع أموره وشؤونه وأحواله، وليستشعر نِعَم الله عليه في المنع أو في العطاء، في النقص أو الزيادة، في التأخر أو التعجيل، إنها نعمةٌ يغفل عنها الكثيرون، بل وربما ظنها البعض نقمةً لقصور نظره ومحدودية علمه ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾. بعد مرور الأيام سنُدرك أن الله حين منع عنا ما كُنا نُحب، لم يكن إلا ليُعوضنا بأجمل مما كُنا نتمنى. كل التأخيرات في حياتنا هي لحكمةٍ يعلمها الله؛ وطالما أن (الأمر كله لله) فلنُسلِّم أمرنا لله، ونثِقْ أنه سُبحانه سيُعوضنا خيراً، ولنعلم أن التوكل على الله تعالى وحده سبيلٌ لمرضاته، وبابٌ عظيمٌ من أبواب الفرج، ورفع البلاء، وكشف الضُر. ولما كانت قوة الإنسان وعِزه في ضعفه وانكساره لربّه؛ فحريٌ بنا أن نُظهر خضوعنا لربنا، ونتقرب له بصالح أعمالنا، وأن نُكثر من صنائع المعروف، مُستعينين بالصبر والصلاة، والدُعاء مع الإلحاح، والمُحافظة على الأذكار الصحيحة التي تُفرِّج الهمَّ والكَرب، ونعلم أنه عند اشتداد ظُلمة الليل يأتي الفجر بنوره، وعندئذٍ يفرح المؤمن بفرج الله، وعسى أن يكون قريباً. نسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيق وتفريج الهم والغم؛ إنه رحيمٌ لطيفٌ بعباده.

https://bit.ly/4eEQ0Y8

الجمعة، 27 يونيو 2025

التكافل الاجتماعي

 

خاطرة الجمعة /505

الجمعة 27 يونيو 2025م

(التكافل الاجتماعي)

      

هذا رجلٌ من «مِصر»، وتحديداً من قرية «أمين باشا» التابعة ل«سيدي غازي» ب«كفر الدوار» في «مُحافظة البُحيرة»، اشترى من جاره قطعة أرضٍ مساحتها ثلاثة فدادين ونصف، وبيتاً بداخل هذه الأرض، وبعد إتمام البيع انتقل الجار الذى باع الأرض والبيت، هو وأُسرته، إلى مكانٍ جديد. بعد مُرور سنةٍ كاملةٍ حدثت للبائع أزمةٌ جعلت بقاءه في مكانه الجديد مُستحيلاً، وضاقت به الدنيا؛ فعاد والتقى بالرجل الذي اشترى منه الأرض والبيت، وشرح له أزمته، وعرض عليه الرجوع في عملية البيع، بفارق سعرٍ أعلى؛ فقال له الشاري: "اترك الأمر لله، أعطني فرصةً حتى أستشير أولادي". لم يستشر الرجل أولاده في شيءٍ -كما قال- بل طلب منهم أن يُنظفوا البيت تنظيفاً جيداً، ويُرتبوه ترتيباً مُتميزاً، ثم أمرهم أن يُجهزوا طعاماً ويخبزوا ويستعدوا لاستقبال ضيوفٍ كثيرين، ثم أرسل لصاحب الدار الأصلي -البائع- رسالةً كتب فيها: "ارجع غداً بأُسرتك لبيتك، وستجد بيتك كما تركته، وفيه الأكل والشُرب وكل ما تحتاجونه، وستجد أرضك مزروعةً وحالها يسر خاطرك".

‏عاد البائع إلى بيته بالفعل، وسط جيرانه الذين كان قد ابتعد عنهم، وجد بيته أفضل مما تركه حين باعه، ثم نظر إلى الأرض فوجدها مزروعةً وعلى وشك الحصاد، قال له المُشتري: "هذه أرضك وهذا بيتك بدون أي فارق سعرٍ"، عندها غضب أحد أبناء المُشتري بسبب إرجاع الأرض والبيت بعد سنةٍ بدون فارق سعرٍ، وبدون حتى تكلفة الزراعة التي هي على وشك الحصاد، بل وسلَّمه عقود ملكية الأرض كاملةً، كما أنه لم يتحصل منه على ما سبق وأن دفعه ثمناً لشراء الأرض والبيت إلا بعد فترة.

مرَّت عدة سنواتٍ، وقرَّر أحد جيران هذا الرجل الشهم النبيل بيع مساحةٍ مُشابهةٍ للتي كان قد اشتراها ثم أعادها لصاحبها، لكن هذه الأرض الأخرى أكثر تميزاً من حيث الموقع، وكان سعرها عالياً جداً، وأصرّ صاحبها أنه لن يبيعها إلا لهذا الرجل النبيل الكريم، فأخبره الرجل بأنه يرغب في الشراء إلا أنه غير مُستعدٍ مادياً، ولا يملك القُدرة على سداد سعر هذه الأرض؛ فلما علم أهل القرية بذلك اجتمعوا على قلب رجلٍ واحدٍ، وجمعوا من بعضهم كل ما استطاعوا من مالٍ، لم يتخلف منهم أحدٌ، ثم سلموا ما جمعوه لهذا الرجل، حتى النساء كانت الواحدة منهن تُقسم عليه أن يأخذ ذهبها: حَلَقها أو خاتمها، ليُساعده في تدبير ثمن الأرض، ومع إلحاح أهل القرية وافق على شراء الأرض، وأمر أبناءه أن يحصروا كل من قدَّم له مُساعدةً ماليةً أو عينيةً، رجلاً كان أو امرأةً، وأن يكتبوا لكلٍ منهم إيصالاً بقيمة ما قدَّم، واعتبر ما تسلَّمه منهم دَيْناً عليه. بعد أقل من سنتين تمكن الرجل من سداد جميع ما عليه من ديونٍ لأهل القرية؛ فأعاد إليهم أموالهم وذهب نسائهم. تُوفي الرجل، ورجع إلى ربه، ودُفن -رحمة الله تعالى عليه- بعدما ضرب أروع الأمثلة في الإيثار والشهامة والكرم.

 

أحبتي في الله.. أدهشني هذا الموقف النبيل للرجل الذي قدّر ظروف جاره، وأعاد له أرضه وبيته، رغم أنه كان قد دفع كامل الثمن، بل وقام بزراعة الأرض، ويملك أوراقاً وعقوداً تُثبت انتقال ملكية الأرض له. كان من المُمكن أن يمتنع عن ذلك، ولن يلومه أحدٌ، وحتى لو وافق على الرجوع عن عملية البيع كان يُمكنه الحصول على سعرٍ أعلى من السعر الذي اشترى به قبل عام، وأكثر من ذلك كان يُمكن له أن يُعيد الأرض والبيت بالسعر القديم ويأخذ فوق ذلك ما تكلَّفه من أجل زراعة الأرض التي كان محصولها على وشك الحصاد. ترك كل ذلك شهامةً ونُبلاً وكرماً، واعتبر هذا واجباً لا يستحق أن يُشكر عليه.

كما أدهشني كذلك موقف الجار الآخر صاحب الأرض المُميزة؛ حين أصر على عدم بيع تلك الأرض إلا لذلك الرجل الشهم تقديراً منه لمُروءته ونُبله وكرمه.

لكن أكثر ما أثار دهشتي هو الموقف الجماعي لأهل هذه القرية الطيبة، الذين قدَّروا للرجل الشهم الكريم موقفه، وتكاتفوا كلهم جميعاً -في موقفٍ مُشرفٍ- وقاموا بمُساعدته مادياً حتى تمكن من شراء الأرض الأخرى الأكثر تميزاً.

إنها صورةٌ مثاليةٌ لحالةٍ من حالات (التكافل الاجتماعي) ذكَّرتني بخبرٍ كنتُ قد اطلعتُ عليه قبل أكثر من أربع سنواتٍ، وكان عن قريةٍ مصريةٍ اسمها «زاوية الناعورة» بمحافظة «المنوفية». قال الخبر إن أهالي تلك القرية سطروا ملحمةً كبيرةً في مُساعدة بعضهم البعض، والوقوف معاً في أوقات الشدائد والأزمات؛ وذلك عقب جمع مبلغ 645 ألف جنيه لغرضين: الأول؛ سداد ديون أحد شباب القرية المُغتربين، والذي كان قد تعرض لعملية نصبٍ من صاحب محلٍ فرَّ هارباً خارج البلاد بمبلغ 800 ألف جنيه. قام والد الشاب بسداد جُزءٍ من هذا المبلغ، وسدَّد الشاب جُزءاً آخر، لكن لم يتم إكمال الباقي فحُبس الشاب إلى حين يتم سداد مبلغ 300 ألف جنيه.

أما الغرض الثاني فكان لإجراء عملية زراعة كبدٍ لأحد أهالي القرية، غير القادر على دفع مبلغ 345 ألف جنيه لإجراء العملية في أسرع وقتٍ مُمكن.

قرر أهالي القرية جميعهم التعاون والتكاتف لسداد الدين عن ابن القرية، ومُساعدة ابن القرية الآخر في إجراء عملية زرع الكبد. وبالفعل نجحوا في جمع المبلغ المطلوب لكلٍ منهما؛ فأُفرِج عن الشاب وغادر دولة الغُربة وعاد إلى أُسرته، كما تم إجراء العملية الجراحية بنجاح.

إنها صُورٌ طيبةٌ ونماذج يُحتذى بها في مجال (التكافل الاجتماعي) والترابط والتماسك المُجتمعي، وهي تطبيقٌ عمليٌ للتوجيهات الشرعية التي تحث على ذلك؛ ومنها يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، ويقول سُبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿ولْتَكُنْ منْكمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]، ويقول أيضاً: [يدُ اللَّهِ معَ الجَماعةِ].

إنها صُورٌ مُضيئةٌ ومُلهِمةٌ في مجال (التكافل الاجتماعي) الذي يُعرِّفه عُلماء الاجتماع بأنّه "العملية التي تُساهم في تحقيق الأهداف التي لا يُمكن للأشخاص تحقيقها بمفردهم، وذلك من خلال عمل أفراد المُجتمع معاً، وتبادل الخبرات والموارد والمسؤوليات فيما بينهم، لتحقيق هدفٍ مُعينٍ، مما يؤدي إلى إتاحة الخدمات والفُرص، وتوفير الدعم اللازم لتنمية المُجتمع وأفراده".

ويقولون إن (التكافل الاجتماعي) يؤدّي دوراً مِحوَريّاً في تعزيز العلاقات بين أفراد المُجتمع الواحد، وتوطيدها، وبهذا التضامن تُبنى جسور التواصل والترابط بين مُختلف شرائح المجتمع، ونتيجةً لذلك تتشكَّل شبكة دعمٍ اجتماعيٍ متينةٌ ومُتماسكةٌ تُمثِّل مِظلَّة حمايةٍ للجميع، وهذه الشبكة ذات أهميةٍ، لاسِيَّما للفئات الأكثر ضعفاً وحاجةً في المُجتمع، وبهذا النسيج الاجتماعي القوي يُصبح المُجتمع أكثر قُدرةً على تلبية احتياجات أفراده جميعهم، وتوفير الدعم المادّي والمعنوي اللازم لهم.

أما عُلماء الشريعة فيقولون إن ديننا الإسلاميّ الحنيف يحثّ على التعاون ومُساندة المُسلمين بعضهم بعضاً، ويُشجّع على التشارك والعمل الجماعي باعتباره واجباً لا غِنى عنه، والقاعدة الفقهية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

ويرون أن (التكافل الاجتماعي) صفةٌ شاملةٌ لصورٍ كثيرةٍ من التعاون والتآزر والمُشاركة في سد الثغرات، تتمثل بتقديم العون والحماية والنُصرة والمواساة، إلى أن تُقضى حاجة المُضطر، ويزول هَم الحزين، ويندمل جرح المُصاب، وهذا التكافل لا يبرز بأسمى صوره إلا كُلما تعمقت معاني الأُخوة والإيثار، واندثرت جذور الأنانية والاستئثار. إن الإسلام يُشجع على تعاون المُسلمين بعضهم مع بعضٍ، ويحث على الأُخوة، والتراحم، والتماسك، والتعاضد فيما بينهم، من غير مُخالفةٍ لشرع الله تعالى، وهذا التراحم، والتعاضد يُقوّي التلاحم بين أفراد المُجتمع بخاصةٍ، والأُمة بعامةٍ، وبالتالي يقود إلى الاستقرار، والتقدم والرُقي؛ فإن العمل الجماعي في إطار الدعوة إلى الخير والتكافل أمرٌ مرغوبٌ فيه شرعاً. والواقع يُرينا أن المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وأن جهود الأفراد مهما توافر لها من إخلاصٍ، تبقى محدودةً ضعيفة الأثر، أما العمل الجماعي، فيضم الجهود بعضها إلى بعض، ويُنسِّق بينها، ويوجهها إلى خدمة الهدف المقصود، ويجعل من اللَّبنات الضعيفة بمفردها بُنياناً مرصوصاً يشدُّ بعضه بعضاً.

 

أحبتي.. إن التراحم والتعاطف و(التكافل الاجتماعي) بين الناس قيمٌ أخلاقيةٌ، وسماتٌ حضاريةٌ ومبادئ إنسانيةٌ؛ لها أثرها البالغ في الحياة الاجتماعية، ولها دورها الكبير في إشاعة روح التضامن والتعاضد والترابط بين الناس، إن مُجتمعاً يشيع فيه التكافل هو مُجتمعٌ مُتماسكٌ تشيع فيه روح الحُب والتعاون والوفاء، بينما مُجتمع الأنانية والبُخل مُتصدعٌ من الداخل؛ تأكله العداوات والأحقاد؛ فأي المُجتمعين نختار لأنفسنا؟  لا شك أننا نختار العيش في مُجتمعٍ مُتكافلٍ مُتعاونٍ تسوده المحبة والمودة والوئام؛ فهذا مطلبٌ شرعيٌ إذا نجحنا في تحقيقه كُنا من أسعد الناس في الدُنيا، فضلاً عمّا يعدنا به المولى عزَّ وجلَّ من أجر ٍوثوابٍ في الآخرة.

اللهم وفقنا لما فيه الخير لنا ولغيرنا، وألهمنا الصواب، وسدِّد خُطانا، ووحِّد صفوفنا، واجبر كسرنا، وقوِّ ضعفنا، وحبِّب إلينا كل عملٍ يُرضيك عنا ويُقرِّبنا إليك.

 

https://bit.ly/4l2miyv

الجمعة، 20 يونيو 2025

صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ

 

خاطرة الجمعة /504

الجمعة 20 يونيو 2025م

(صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ)

 

هذه قصةٌ عجيبةٌ، بل هي في قمة الغرابة والإثارة، رغم أن أحداثها حقيقيةٌ واقعيةٌ رواها صاحبها بنفسه، وشهد على صحتها كل من كانوا طرفاً فيها. ما حدث لهذا الرجل من «ليبيا» صار حديث الكثير من الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، في واحدةٍ من أعجب وأغرب القصص التي شهدها موسم الحج هذا العام؛ حيث كان الرجل القادم من الجنوب الليبي قد نوى الحج بقلبٍ صادقٍ، واستعد بكل جوارحه للذهاب إلى بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج، وقد وقعت قُرعته ضمن آخر فوجٍ من الحجاج الليبيين. توجّه الرجل إلى المطار بنية أداء مناسك الحج، مُفعماً بالشوق والنية الصادقة، وأثناء إنهاء إجراءات سفره، واجهته مُشكلةٌ أمنيةٌ تتعلق باسمه، طلب منه رجال الأمن التريث قليلاً ريثما تُحل المُشكلة، بينما كان بقية الحجاج يُنهون إجراءاتهم ويصعدون إلى الطائرة، إلى أن أُغلق بابها وأقلعت بدونه، فقيل له: "لقد فاتك الركب، غادِر المطار"، رفض الرجل مُغادرة المطار مُتعلقاً بالأمل، ومُتيقناً بأن الله لن يخذل نيةً صادقةً وقلباً مُتوجهاً إليه، قال الرجل بصدقٍ: “لقد عقدتُ النية، ولن أعود أدراجي إلا وقد أديتُ الفريضة، أو أكون معذوراً عند الله". بدا الرجل مُتأكداً بأن له نصيباً للحج قد كُتب له؛ فلم يُغادر المطار وكأنه يتخيل أن الطائرة التي أقلعت ستعود إلى المطار فيصعد إليها! الغريب أن ما تخيله صار واقعاً؛ فما هي إلا لحظاتٌ حتى أُعلن في المطار بأن الطائرة قد عادت بالفعل؛ إذ أصابها عُطلٌ فنيٌ أجبرها على العودة! استبشر الرجل وظن أنها فرصته كي يصعد إلى الطائرة، لكن المفاجأة أن قائد الطائرة اكتفى بسرعة إصلاح العُطب ورفض إنزال السلالم ليصعد الرجل؛ فأقلعت الطائرة مُجدداً بدونه! قيل له مرةً أُخرى: "غادِر المطار؛ فليس لك نصيبٌ في الحج هذا العام"، لكنه لم يتراجع عن أمله في الحج؛ ورغم هذا الموقف المُحبِط، ظلَّ صامداً في المطار، ثبت في مكانه، قلبه مُعلّقٌ بالبيت العتيق، ودمعه لا يُفارق وجنتيه، انتابه هاجسٌ للحظات أنه ربما لم يُكتب له الحج هذا العام، إلا أن شعوراً داخلياً قوياً كان يُعطيه إحساساً بعكس ذلك، لكن كيف؟ الله وحده هو الذي يعلم، وهو القادر على أن يُغيِّر من حالٍ إلى حال، حينئذٍ اطمأن وارتاحت نفسه وسلَّم أمره لله، وظلَّ لسانه يلهج بالدعاء لله سُبحانه وتعالى أن يقبله حاجاً وأن يُيسِّر له السبيل لذلك. ويا للعجب؛ تعود الطائرة للمرة الثانية، وللعُذر ذاته: عُطبٌ تقنيٌ! لكن في هذه المرة، بعد إصلاح العُطب، أُنزلت سلالم الطائرة، وفُتحت أبوابها، وصعد الرجل؛ فقد قرَّر قائد الطائرة هذه المرة ألا يُقلع بالطائرة إلا والرجل على متنها، ليصعد وسط دهشة الحجاج والطاقم، ليُتِم رحلته التي طال انتظاره لها، ويؤدي مناسك الحج التي تمناه بصدقٍ وإخلاص.

 

أحبتي في الله.. سُبحان الله، هذا الرجل كان قد (صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ)، كان قد نوى الحج، تمناه بقلبه بكل صدقٍ وإخلاصٍ؛ فسخَّر الله سُبحانه وتعالى ما جعله في نهاية المطاف راكباً في الطائرة في طريقه إلى بيت الله الحرام.

وقريباً من هذا المعنى؛ معنى (صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ)، ما حدث مع رجلٍ آخر من «ردفان» في «اليمن»، مُتزوجٌ وليس له أبناء، يبلغ من العمر حوالي 63 سنة، يسكن في بيتٍ يملكه في مدينة «الحبيلين»، اشتاقت نفسه بصدقٍ إلى الحج، وزيارة بيت الله الحرام في «مكة المُكرمة»، وصار فؤاده مُعلقاً بالمشاعر المُقدسة رغم أنه لا يملك المال الكافي؛ فكَّر في الأمر ثم شاور زوجته فاتفقا على بيع البيت الذي يعيشان فيه ليتمكنا من السفر لأداء فريضة الحج؛ فباع الرجل البيت ثم استأجره من مالكه الجديد بعقد إيجارٍ شهريٍ، وسافر هو وزوجته يحدوهما الشوق والأمل، ويُسابقهما الحنين إلى أطهر بقاع الله في أرضه، لبسا ثياب الإحرام مُهللين ومُلبين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلك، لا شريك لك". وصلا إلى البيت الحرام، وطافا بالكعبة المُشرفة، وسعيا بين «الصفا» و«المروة»، وأديا العُمرة. وظلا بالأراضي المُقدسة حتى أتى موعد الحج فأحرما للحج ولبيا وكَبَّرا ومكثا في «مِنىً» يوم التروية، وانتقلا إلى «عرفاتٍ» مُلبين ومُهللين ومُكبِّرين مُتبعين سُنة المُصطفى صلى عليه وسلم، ثم باتا في «المُزدلفة»، ونفرا إلى «مِنىً» يوم العاشر من ذي الحجة، ورميا جمرة العقبة الكُبرى، وضحيا بالهَدْي، وكان الحاج مُتعَباً ومُرهَقاً -فهو يُعاني من مرضيّ: السُكري، والضغط- فقررا أن يرتاحا ويُكملا المناسك في اليوم التالي. وفي أول أيام التشريق -الحادي عشر من ذي الحجة- بعد أن أتما المناسك وطافا بالبيت العتيق طواف الإفاضة، وسعيا، وبعد حَلْق الرأس ورمي الجِمار والتحلُل، عاد الرجل إلى مُخيمه في «مِنىً» فصلى العِشاء في جماعةٍ، ولم يستطع الوقوف فصلَّى وهو جالسٌ، ثم تناول وجبة العَشاء، وعند حوالي الساعة العاشرة في تلك الليلة المُباركة، وقد وافقت ليلة جُمعةٍ أتم الصفقة، وربح البيع بينه وبين الله؛ فأسلم الروح لبارئها، تاجَر مع الله فباع أغلى ما يملك ليُتم الحج، فعوضَّه الله بحُسن الخاتمة في أفضل أيام الله، وفي أطهر بقاعه على الأرض.

 

أحْسَبُ أن هذين الرجلين هُما من الرجال الذين قال الله فيهم: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ وهُما من المؤمنين الصادقين الذين استجابوا لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. ولعلهما -هُما وكل صادقٍ مُخلصٍ- ممن يُشير لهم قوله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾.

ويقول تعالى في الحديث القدسي: {أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدي بي فَلْيَظُنَّ بي ما شاء}؛ فعلى قدر يقين العبد وصدقه مع الله يكون توفيقه سُبحانه وتعالى.

وفي السُنة الشريفة، ورد نصاً (صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ) في قول النبي صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ مِنَ الأعرابِ جاءَ إليه فآمَنَ بِهِ واتَّبعَهُ وقالَ: أُهاجرُ معَكَ، فأوصى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ، فلمَّا كانَت غزوةٌ غنِمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيها أشياءَ فقَسَمَ، وقسَمَ لَهُ فأعطَى أصحابَهُ ما قَسَمَ لَهُ، وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم. فلمَّا جاءَ دفَعوا إليهِ فقالَ: ما هذا؟ قالوا: قَسَمٌ قَسَمَهُ لَكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. فأخذَهُ فجاءَ بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: يا مُحمَّدُ، ما هذا؟ قالَ: [قَسَمْتُهُ لَكَ]. قالَ: ما على هذا اتَّبعتُكَ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أُرمَى هاهُنا -وأشارَ إلى حَلْقِهِ- بسَهْمٍ فأموتَ وأدخلَ الجنَّةَ. فقالَ: [إن تَصدُقِ اللَّهَ يَصدُقْكَ] فلبثوا قليلاً، ثمَّ نَهَضوا إلى العدوِّ، فأُتي بِهِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُحمَلُ، قد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ. فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: [أَهوَ هوَ؟] قالوا: نعَم، قالَ: [صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ]. وَكَفَّنَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في جُبَّةٍ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى عليهِ، فَكانَ مِمَّا ظَهَرَ مِن صلاتِهِ عليهِ: [اللَّهمَّ إنَّ هذا عَبدُكَ، خرجَ مُهاجرًا في سبيلِكَ، فقُتلَ شَهيدًا، أَنا شَهيدٌ علَيهِ].

وفي حديثٍ آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: [عَلَيْكُم بِالْصِّدِقِ...] وللصدق معانٍ كثيرةٍ لعل أهمها الصدق مع الله تعالى، قيل في ذلك: "ليس شيءٌ أنفع للعبد مِن صِدق ربه في جميع أموره، مع صِدق العزيمة، فيصدقه في عزمه وفي فعله؛ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم﴾؛ فسعادته في صِدق العزيمة وصِدق الفعل، ومَن صَدق الله في جميع أموره صنع له فوق ما يصنع لغيره".

 

عن معنى (صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ) يقول العُلماء إن الصدق مع الله مرتبةٌ تسمو إليها النفوس، وتشرئب إليها الأعناق؛ فإذا صَدَقْتَ اللهَ صَدَقَكَ اللهُ، وكان معك ونصرك وأيّدك وحماك. الكثير منا يتمنى، ولكن الله عزَّوجلَّ يقول: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾، فالموضوع ليس موضوع تَمَنٍّ، وإنما صِدقٌ مع الله، صِدقٌ يحتاج إلى دليلٍ؛ يحتاج إلى عملٍ لتحويل النية إلى واقعٍ بإذن الله.

يقول أحد العُلماء: إن هناك علاماتٍ للصدق مع الله، فامتثالك لأوامر الله عزَّ وجلَّ، ووقوفك عند حدود الله لَخَيرُ دليلٍ على صِدقك مع ربك. إنسانٌ قد تفوته صلاة الفجر يقول لك: لا أستطيع القيام إليها، نقول له: هل صَدَقْتَ الله؟ لو صَدَقْتَهُ لصَدَقَك. إنسانٌ يُريد أن يعمل عملاً صالحاً يقول لك: لا تتوفر لي مُقومات هذا العمل، نقول له: هل صَدَقْتَ الله؟ لو صَدَقْتَهُ لصَدَقَك. مُعلِمٌ يُريد أن ينشّئ طلابه على طاعة الله ورسوله، ثم يقول لك: المجتمع أقوى مني، نقول له: هل صدقت الله؟ لو صَدَقْتَهُ لصَدَقَك. أبٌ يُريد أن يبني أسرةً مُسلمةً، وأمٌ تُريد أن تُربي جيلاً مؤمناً، ثم يقولان لك: الإعلام أشد تأثيراً منّا، نقول لهما: هل صدقتما الله؟ لو صدقتما الله لصدقكما. إن الصِدق مع الله يصنع ما قد نتوهمه مُستحيلاً ويُذلل الصعاب، والإنسان قد لا يملك أن يقوم بعملٍ ما، لكنه لا ينبغي أن يعجز عن أن ينوي، فإن نية المؤمن تسبق عمله، وهذه النية ينبغي أن تكون صادقةً من أعماق القلب، يُرافقها السعي بكل مُمكنٍ لتحقيقها، وعندها يتولّى الله عزَّ وجلَّ تيسير الأمور وتحقيق الغايات.

ومن المعلوم شرعاً أن من نوى طاعةً، وعزم عليها عزماً جازماً -بصدقٍ وإخلاصٍ بغير رياءٍ أو نفاق- ثم حِيل بينه وبين الفعل؛ لأي سببٍ خارجٍ عن إرادته، فإنه يُكتب له ثوابها تاماً؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ ‌هَمَّ ‌بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبهاَ اللهُ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ عَمِلَهَا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا عَشْرًا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَ اللهُ لَهُبِهَا حَسَنَةً كَامِلَةً، وَمَنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً].

 

وعن الصدق مع الله قال الشاعر:

وذو الصّدقِ لا يرْتابُ، والعدلُ قائمٌ

عَلَى طُرُقاتِ الحَقِّ والشَرُّ أعْوَجُ

وأخْلاقُ ذِي التَّقوى وذِي البرِّ في الدُّجى

لهُنّ سِراجٌ، بَينَ عَينَيْهِ، مُسْرَجُ

ونِيّاتُ أهلِ الصّدقِْ بِيضٌ نَقِيّةٌ

وألسُنُّ أهْلِ الصِدْقِ لاَ تَتَلجلَجُ

وإنْ كانَتِ الدّنْيا إليّ حَبيبَةً

فإني إلى حَظِّي منَ الدِّين أحْوَجُ

 

أحبتي.. إننا بحاجةٍ إلى أن نكون ممن (صَدَقَ اللهَ فصَدَقَهُ)؛ فنَصْدُقُ اللهَ في أقوالنا وأعمالنا وسلوكنا ومُعاملاتنا، ومن أخلص النية بلَّغَهُ الله المُنى، ومن توكل على الله جعل له من كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل همٍ فرجاً؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ﴾.

قد تخذلك الأسباب كُلُها، ويضيق بك الوقت والمكان، لكن إذا كان الله معك، فلا مُستحيل يقف في طريقك؛ فإنما أمره ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

انوِ الالتزام بصلاة الفجر على وقتها مع جماعة المسلمين، انوِ قيام الليل، انوِ حفظ القرآن الكريم، انوِ التغلب على شُح نفسك بإخراج الصدقات، وانوِ كل عمل خيرٍ، مهما بدا لك صعباً أو مُستحيلاً، بشرطين اثنين: صِدق النية، وإخلاص العمل، وانظر كيف يُساعدك الله عزَّ وجلَّ ويُيسر لك كل صعبٍ؛ فهذا وعد الله لك: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ﴾، وهو سُبحانه القائل: ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾.

اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين، وألهمنا أن ننوي القيام بأعمال الخير مهما كانت صعبةً أو مُستحيلةً، وارزقنا الصِدق في النوايا، ويسِّر لنا أن نقوم في سبيل ذلك بما وسعنا من جهدٍ بإخلاصٍ، واصدقنا وعدك الذي وعدتَ؛ إنك سُبحانك ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/44l6dxT

الجمعة، 13 يونيو 2025

دائرة الإحسان

 

خاطرة الجمعة /503

الجمعة 13 يونيو 2025م

(دائرة الإحسان)

 

كتب يقول: في ظهيرة يومٍ صيفيٍ خانقٍ، كانت الحياة تدور بسرعةٍ في الشوارع المُكتظة؛ سياراتٌ تمضي مُسرعةً، وأصواتٌ مُختلطةٌ تملأ الهواء بين باعةٍ يُنادون على سلعهم، ومُشاةٌ يُسابقون الزمن؛ منهم من هو في طريقه إلى عمله، ومنهم من هو عائدٌ إلى منزله، ومنهم من هو مُتجهٌ إلى مصلحةٍ يُريد إنجازها. وسط هذا الحشد كله، كنتُ واقفاً عند أحد التقاطعات، أنتظر ركوب الحافلة لأعود إلى بيتي بعد يوم عملٍ شاقٍ، وصلت الحافلة، واندفعت للنزول منها فتاةٌ بخُطواتٍ مُتعثرةٍ، وفي لحظةٍ خاطفةٍ سمعتُ صوت تمزقٍ حادٍ في ملابس الفتاة، وإذا بظهرها وقد انكشف وتعرى، تجمدت الفتاة في مكانها، أحاطتها نظرات المارة التي بدت وكأنها تُعرّي خوفها أكثر مما تُعرّي جسدها، عجزت الفتاة عن الحركة، وبدا أن عينيها تبحثان عن مخرجٍ من هذا الإحراج الذي لم يكن في الحُسبان، رفعت يديها في مُحاولةٍ يائسةٍ لستر ما انكشف من جسدها، لكن دون جدوى، لم أكن بعيداً عنها، رأيتُ نظرات الاستغاثة في عينيها، بدا لي كأنها تُطالبني بأن أتدخل، كأنها تقول لي: "أرجوك، أتوسل إليك، افعل شيئاً لستري"، تحركتُ دون تفكيرٍ، قبضتُ على أطراف قميصي استعداداً لخلعه، لكن في تلك اللحظة تذكرتُ أمراً جعلني أتردد للحظة!

تذكرتُ أن تحت هذا القميص، لم أكن أرتدي سوى فانيلةٍ داخليةٍ مُمزقةٍ، بالكاد تسترني أنا نفسي، وإن خلعتُ قميصي فسأظهر بمظهرٍ غير لائقٍ أمام الجميع، توقفت يداي في الهواء لجُزءٍ من الثانية، وأخذتُ أُفكر: هل عليّ أن أُعرِّض نفسي لهذا الإحراج؟ هل أرضى لنفسي أن أكون حديث الناس؟ لحظة ترددٍ قصيرةٍ بدت وكأنها دهرٌ، لكني اتخذتُ قراري وحسمتُ موقفي؛ فقد كانت نظرات الفتاة تحمل رجاءً صامتاً، بلا اكتراثٍ بما قد يُقال عني، وبغير اهتمامٍ لنظرات السُخرية التي قد تُحيط بي، خلعتُ قميصي دون أن أُفكر إلا في أمرٍ واحدٍ فقط هو "أن أظهر بمظهرٍ غير لائقٍ أمام الناس أهون عليّ من أن أترك فتاةً تواجه هذا الموقف وحدها"، مددتُ يدي بالقميص نحوها قائلاً: "لا تقلقي، استُري نفسك". كانت الفتاة مُرتبكةً، لكن عينيها حملتا امتناناً لا يحتاج إلى كلمات.

مرَّت خمس سنواتٍ على هذا الموقف، حتى كدتُ أن أنساه، تغيرت الحياة؛ فتزوجتُ وعشتُ أياماً مُستقرةً وجميلةً مع زوجتي. وفي إحدى الليالي، كنتُ جالساً في المنزل مُنتظراً عودة زوجتي من عملها المسائي، وكما يحدث كل يومٍ، معها مفتاح المنزل، فتحت الباب ودخلت؛ ففوجئتُ عندما رأيتها، كان المشهد أمامي غريباً جداً؛ إذ وقفت زوجتي عند الباب، مُنهكةً، مُرتديةً جلباباً رجالياً واسعاً! تجمدت نظراتي عليها، سألتها بدهشةٍ: "ما هذا الذي ترتدينه؟!" لم تكن تحتاج إلى تفسيرٍ طويلٍ، فقد بدت مُتأثرةً، تنفست بعمقٍ قبل أن تقول: "تمزق ثوبي أثناء نزولي من الحافلة؛ فانكشف ظهري، كنتُ مُحرجةً جداً، ولم أكن أعرف كيف أتصرف، لكن رجلاً مُسِّناً تقدَّم فوراً ودون ترددٍ، وخلع جلبابه وأعطاني إياه دون أن يقول شيئاً سوى: "لا تقلقي، استُري نفسك". سقطت كلماتها عليّ كالصاعقة، انفلتت من ذاكرتي صورةٌ قديمةٌ كنتُ ظننتُ أنني قد نسيتها، صورة تلك الفتاة التي مددتُ يدي لها بقميصي لتستر نفسها، في موقفٍ مُشابهٍ تماماً، بقيتُ مُتسمّراً للحظاتٍ، سألتُ نفسي: "هل لو كنتُ تجاهلتُ تلك الفتاة، وفضَّلتُ المحافظة على شكلي أمام الناس على ستر الفتاة، هل كان سيفعل هذا المُسِّن ما فعل مع زوجتي؟ هل هذه هي (دورة الإحسان) التي تدور دون أن نُدركها؟ شعرتُ بأن ما كنتُ فعلته ونسيته قد عاد إليّ، غمرت مشاعري موجةٌ من التأثر العميق؛ فإذا بدموعٍ ساخنةٍ تنساح على وِجْنَتَيّ وخُدودي، يا الله.. ما أكرمك.. ما أعظمك.. صدقتَ بوصفك نفسك بقولك: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. هدأت نفسي قليلاً؛ فنظرتُ إلى زوجتي، وابتسمتُ وقلتُ لها بصوتٍ مُتهدجٍ ما زال يغلب عليه التأثر: "الحمد لله، الخير عنده لا يضيع أبداً".

 

أحبتي في الله.. إنها (دائرة الإحسان)

تعكس قيمةً عظيمةً في الإسلام، وهي الإحسان الذي أمرَّ الله به في كل الأحوال، فالمواقف التي دارت فيها الأحداث تُظهر بوضوحٍ كيف أن الخير لا يضيع، بل إنه مُدخرٌ لصاحبه، يعود إليه من حيث لا يحتسب؛ يقول الله تعالى في كُتابه الكريم: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؛ فكُل عملٍ من أعمال الخير يرجع إلى صاحبه يوماً ما، بطريقةٍ ربما لا يتخيلها؛ وفي وقتٍ غالباً ما لا يتوقعه.

والإنسان يُجازَى بما يفعل، سواءً كان خيراً أو شراً؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ · وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؛ وهذا ينطبق تماماً على أحداث هذه القصة؛ فالرجل الذي عمل الخير وخلع قميصه يوماً ما -رغم الإحراج الذي تعرض له- عاد إليه الإحسان بذات الطريقة، عندما وجد زوجته ترتدي جلباب رجلٍ آخر سترها بنفس الطريقة التي ستر بها زوجها الفتاة قبل عدة سنوات.

 

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الستر؛ فقال في حديثٍ صحيحٍ: [مَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]، حيث يُجسد هذا الحديث أعظم درجات الإحسان التي يبذل فيها الإنسان ما لديه رغم حاجته إليه.

كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر: [وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ] وهذا يُرسّخ مبدأ الجزاء بالمثل، وأن جزاء الإحسان هو الإحسان، وأن الله سُبحانه وتعالى يسوق الخير لمن يبذله بصدق.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ، فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]؛ وهذا يُظهر أن فعل الخير ولو كان بسيطاً يكون له أثرٌ كبيرٌ في حياة الإنسان، ويكون سبباً في نجاته في الآخرة، وأن أعمال الخير التي ربما يستصغرها الإنسان ويحسبها قليلةً هي عند الله عظيمةٌ، ولا تضيع أبداً.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ]، وهذا يؤكد على أهمية الإحسان في العلاقات الإنسانية، وعدم انتظار جزاءٍ من البشر، لأن الجزاء الحقيقي يأتي من الله عزَّ وجلَّ.

 

ورد في الأثر: [البِرُّ لا يَبْلَى، والذنبُ لا يُنْسَى، والدَّيَّانُ لا يموتُ، اعْمَلْ ما شِئْتَ، كما تَدِينُ تُدَانُ]؛ أي أن الإنسان سيُجازَى على أعماله، فإن قدَّم خيراً، سيرى الخير يُردّ إليه، وإن عمل شراً، سيُردّ عليه شره بنفس الطريقة، وهذا يُكرِّس مفهوم الجزاء العادل الذي يسوقه الله للناس في الوقت المُناسب، فالرجل لم يكن ينتظر مُقابلاً حين أعطى قميصه للفتاة، لكن الله رتّب له أن تعيش زوجته نفس الموقف، ويحدث لها ما كان قد حدث للفتاة، بل وقيَّض الله لها مَن يسترها بنفس الطريقة التي كان زوجها قد اتبعها من قبل.

 

يقول الشاعر:

اَلنَّاسُ بِالنَّاسِ مَادَامَ اَلْحَيَاءُ بِهُمْ

وَالسَّعْدُ لَا شَكَ تَارَاتٌ وَهِبَاتُ

وَأَفْضَلُ اَلنَّاسِ مَا بَيْنَ اَلْوَرَى رَجُلٌ

تُقْضَى عَلَى يَدِهِ لِلنَّاسِ حَاجَاتُ

لَاتَمْنَعَنَ يَدَ اَلْمَعْرُوفِ عَنْ أَحَدٍ

مَا دُمْتَ مُقْتَدِراً فَالسَّعْدُ تَارَاتُ

وَاشْكُرُ فَضَائِلَ صُنْعِ اَللَّهِ إِذْ جَعَلَتْ

إِلَيْكَ لَا لَكَ عِنْدَ اَلنَّاسِ حَاجَاتُ

قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمْهُمْ

وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي اَلنَّاسِ أَمْوَاتُ

وقال آخر:

أَحْسِنْ إذا كانَ إِمْكانٌ وَمَقْدِرَةٌ

فَلَنْ يَدومَ عَلَى الإنْسانِ إِمْكانُ

وقال ثالث:

مَنْ يفعَلِ الخَيرَ لا يَعْدَمْ جَوَازيهُ

لا يَذْهَبْ العُرُفُ بَيْنَ اللهِ وَالنّاسِ

 

أحبتي.. الإحسان ليس مُجرد فعلٍ عابرٍ، بل هو دائرةٌ مُتصلةٌ تدور بين الناس، وما يزرعه الإنسان من خيرٍ في تعامله مع غيره، يجده أمامه في وقتٍ قد يكون هو الأكثر احتياجاً إليه؛ لذلك، ينبغي أن نُبادر إلى الإحسان دون انتظار مُقابل، واثقين من أن من يعمل الخير، فإن الله يرده له بطُرقٍ لا تخطر على باله.

إنها (دائرة الإحسان)، الخير الذي يُقدّمه الإنسان لا يفنى، بل يعود إليه في الدنيا، فضلاً عن ثوابه العظيم في الآخرة؛ فلنحرص على زرع الخير ليعود إلينا وقت حاجتنا إليه؛ فلنذكر الله دائماً ولا ننساه، فإنه لا ينسانا في مصالحنا، بل هو دائم الاطِّلاع على كلِّ أحوالنا، يصرِّفها حسب حكمته، لا يكون شيءٌ من ذلك إلا في الوقت الذي حدده له وأراده.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وحبِّب إلينا فعل الخيرات ومساعدة المحتاجين، واجعلنا اللهم ممن يقضون حوائج الناس ويقفون معهم وقت الشدة والضيق.

 

https://bit.ly/4e2fKxc

 

الجمعة، 6 يونيو 2025

أداء الأمانة

 

خاطرة الجمعة /502

الجمعة 6 يونيو 2025م

(أداء الأمانة) 

 

وقعت أحداث هذه القصة في شهر «ذو الحجة»، وفي مدينة «القُدس» حيث يوجد كان في الشام سوق اسمه سوق "مدحت باشا" أو "السوق الطويل"، وكانت العادة أن توضع الأمانات من أموالٍ وذهبٍ عند أي دُكانٍ في هذا السوق ويُغادر صاحبها الى الحج، وعند عودته يمر على صاحب الدُكان ويأخذ أمانته ويمضي الى بلده. كالعادة جاء رجلٌ من خارج الشام يحمل صُرةً حمراء توقف عند أحد الدكاكين وأعطى صاحب الدُكان هذه الصُرة طالباً منه أن يودعها عنده أمانةً الى حين عودته من الحج. وافق صاحب الدُكان بعد أن تأكد من عددها البالغ ثلاثة آلاف درهم، وتعرف عليه، وغادر الرجل الى الحج قاصداً بيت

الله الحرام. بعد عدة أشهرٍ عاد الرجل ودخل إلى الدُكان فلم يجد صاحبها؛ فسأل عنه فقال له العمال إنه في البيت وسيعود قريباً، وعند عودته طلب منه الرجل ماله؛ فسأله: "كم أودعتَ لدينا؟"، قال له: "ثلاثة آلاف درهم"، قال له: "ما اسمك؟"، قال له: "اسمي فلانٌ، ألا تذكرني؟"، سأله: "في أي يومٍ كان إيداع الأمانة؟"، قال: "يوم كذا"، وبدأ الرجل يرتاب من الأسئلة، سأله التاجر: "ما لون الصُرة التي وضعتهم بها؟"،

قال له: "صُرةٌ حمراء"، قال له: "اجلس قليلاً"، وأمر بإحضار طعام الغداء له واستأذن منه بأن عنده أمرٌ ضروريٌ وسيعود على الفور، انتظر الرجل وقتاً ليس بالقصير، وإذا بصاحب الدُكان قد جاء حاملاً معه صُرةً حمراء وفيها ثلاثة آلاف درهم، عدَّهم الرجل وتأكد منهم، وقال لصاحب الدُكان: "جزاك الله خيراً" وانصرف. وهو يمشي في السوق إذا به يرى شيئاً غريباً! اقترب ليتأكد فدخل إلى الدُكان وكانت المفاجأة هذه هي الدُكان التي وضع أمانته فيها!! قال لصاحب الدُكان: "السلام عليكم"، رد عليه صاحب الدُكان: "عليكم السلام ورحمة الله، تقبل الله منك الحج والحمد لله على سلامتك"، ودخل إلى غرفةٍ خلفية بالدُكان وعاد ليسلم للرجل أمانته؛ فقال له: "هذه صُرتك وفيها ثلاثة آلاف درهم"، أصاب الرجل الدهشة فقص عليه ما حصل وأنه أخطأ في الدُكان ودخل عند جاره فأعطاه المال ولم يُشكك بكلامه! ذهبا إلى التاجر الأول وسألاه: "كيف تُعطي الرجل المال وهو لم يضع عندك أمانته في الأصل؟"، فقال لهما: "والله الذي لا إله إلا هو إني لم أعرفه ولم أتذكر أن لديه أمانةً عندي، ولكن لما رأيتُ أنه واثقٌ من كلامه معي، وأنه غريبٌ عن هذه البلاد فكرتُ أني إن لم أعطه أمانته سيذهب مكسور الخاطر وسيُحدث أهله ويقول إن أمانته سُرقت منه بالشام، وسيذيع الصيت عن أهل الشام كلهم وليس عن الشخص الذي سرق منه الأمانة، وتذكرتُ كلام الله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾ فذهبتُ وبِعتُ بضاعةً كانت عندي بألف درهم فلم تكفِ لسداد الأمانة؛ فاستدنتُ من صديقٍ ألفاً وخمسمائة درهمٍ، وكان معي خمسمائة فأكملتهم له ثلاثة آلاف كما أخبرني"!

 

أحبتي في الله.. صاحب الدُكان الأول رجلٌ يتقي الله سُبحانه وتعالى. كان ذلك في الزمن الجميل، واليوم في زمن أصبح أكل أموال الناس بالباطل شطارةً، وأصبح الأمين عملةً نادرةً، وشيئاً غريباً بين الناس، إلا من رحم ربي.

 

وعن (أداء الأمانة) قصةٌ عجيبةٌ ومُؤثرةٌ حدثت أيضاً في شهر «ذو الحجة» لأحد القُضاة، كان في «مكة» في موسم حجٍ، وكان مُفلساً لا يملك شيئاً من حُطام الدنيا، وقد اشتد به الجوع ذات يومٍ؛ فخرج يبحث عن كِسرة خُبزٍ أو أي شيءٍ يسد به رمقه، فإذا به يجد صُرةً من الحرير الأحمر مُلقاةً على الأرض، ففتحها فوجد بداخلها عِقداً ثميناً من اللؤلؤ، تُقدر قيمته بخمسين ألف دينار، فأخذ الصُرة وقفل راجعاً، فبينما هو في طريقه، إذا برجلٍ ينشد العِقد، ويُنادي في الناس يقول إنه افتقد صُرةً من حرير، فمن وجدها فله خمسون ديناراً! فسأله: "ماذا يوجد بداخل الصُرة؟"، قال: "بداخلها عِقد لؤلؤٍ ثمين"، فسأله عن علامة العِقد؛ فلما أخبره بها دفع إليه الصُرة على الفور، فأخرج له خمسين ديناراً وناولها له، فأبى أن يأخذها، قائلاً: "ما ينبغي لي أن آخذ مُقابلاً على لُقطةٍ وجدتها وأعدتها لصاحبها، فإني ما أعدتُ لك هذا العٍقد طمعاً في الجائزة، بل طمعاً في رضا ربي"، فرفض أخذ المال وهو حينها يتضور جوعاً ولا يجد كِسرة خبزٍ يابسةٍ يسد بها رمقه، فدعى له ذلك الرجل بخيرٍ، ومضى كلٌ منهما لحال سبيله.

مكث هذا القاضي المُحدِّث في «مكة» أياماً ثم قرَّر أن يركب البحر لعله يُصيب شيئاً يتموَّل به، فبينما هو في السفينة في عرض البحر، إذ هبَّت عاصفةٌ هوجاء، لم تزل تتلاعب بسفينتهم حتى حطمتها وأغرقتها، فتعلق القاضي بلوحٍ من حُطام السفينة، وما زال مُتشبثاً بذلك اللوح والموج يتقاذفه حتى ألقى به على الشاطئ، وقد بلغ به الجهد والإعياء مبلغاً عظيماً، فنظر فشاهد مسجداً فاستجمع قواه وجرَّ نفسه حتى وصل إلى المسجد فارتمى في داخله، وهو لا يدري شيئاً عن هذا المكان، ولا يعرف أحداً من أهله. ثم لم يلبث أن دخل ذلك المسجد رجلٌ، فلما رآه سأله عن حاله، فعرَّفه بنفسه وقصَّ عليه قصته مع غرق السفينة؛ أتى له الرجل بطعامٍ وشرابٍ وثوبٍ يستدفئ به، وقال له إنهم يبحثون عن رجلٍ يستأجرونه ليؤمهم في الصلاة في ذلك المسجد، فلما أخبره أنه يحفظ كتاب الله تعالى، سارعوا إلى استئجاره إماماً للمسجد، فلما علموا أنه يُجيد الكتابة، استأجروه ليُعلِّم لهم أبناءهم.

قال القاضي راوي هذه الحكاية: "فتموَّلتُ، وأصبحتُ بخير حالٍ، فجاءوني يوماً وقالوا لي إن لديهم فتاةً يتيمةً يُريدون أن يُزوِّجوني بها، وألحُّوا عليَّ في ذلك فوافقتُ، فلمَّا أدخلوني عليها رأيتُ على صدرها عِقداً من اللؤلؤ، فلم أتمالك نفسي من إمعان النظر في ذلك العِقد، وأنا في حالٍ من الذُهول والعجب، إذ أنه هو ذات العِقد الذي وجدته في «مكة». فبينما أنا أُحملق في العِقد؛ إذا بالفتاة تخرج باكيةً مُنتحبةً، تقول: "إنه لا يُريد أن ينظر إلى وجهي، فهو لا يرفع بصره عن العِقد الذي على صدري". يقول الرجل: "فلما صليتُ بالناس صلاة الفجر ذكروا لي ما قالته الفتاة، فأخبرتهم أنني قد وجدتُ هذا العِقد قبل كذا وكذا مُلقىً على الأرض في صُرةٍ من حريرٍ أحمر ببيت الله الحرام، وقد أعدته لصاحبه، فكبَّروا جميعاً، حتى ارتجّ المسجد بتكبيرهم! تعجبتُ؛ فلا أعلم ما الذي دعاهم لذلك، فلما رأوا الدهشة تعلو وجهي أخبروني أنصاحب العِقد هو والد هذه اليتيمة، وليس لديه سواها، وكان يؤمهم في الصلاة بهذا المسجد، وأنه تُوفي قبل مُدةٍ، ولكنه منذ أن عاد من الحج لم يفتأ يدعو بهذا الدعاء، ونحن نؤمِّن من خلفه: {اللهمَّ إني لن أجد أحداً مثل صاحب العِقد؛ اللهم لقني به حتى أزوِّجه وحيدتي}، وها قد استجاب الله تعالى لدعائه فجاء بك وزوَّجك ابنته، وإن بعد موته، وهذا جزاء الأمانة وعِفة النفس"!

 

يقول أهل العلم إن الله سُبحانه وتعالى وصف المؤمنين الصالحين الذين كتب لهم الفلاح والرشاد في الدُنيا والآخرة بأنهم يرعون أماناتهم ويؤدونها حق الأداء؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِم ْرَاعُونَ﴾. والأمانة تشمل كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودُنياه قولاً وفعلاً، والأمانة هي أداء الحقوق، والمُحافظة عليها، فالمُسلم يُعطي كل ذي حقٍ حقه؛ يؤدي حق الله في العبادة، ويحفظ جوارحه عن الحرام، ويؤدي ما عليه تجاه الخَلْق. والأمانة خُلقٌ جليلٌ من أخلاق الإسلام، وهي فريضةٌ عظيمةٌ حملها الإنسان، بينما رفضت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها لعِظمها وثقلها؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾. ولقد أمرنا الله تعالى بأداء الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾.

ولقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمانة دليلاً على إيمان المرء وحُسن خلقه، قال: [لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ، فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ]. وكانت من آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع الوصية بالأمانة فقال: [وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا -وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ- أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ].

 

وعن (أداء الأمانة) قال الشاعر:

فَعَلَيكَ تَقْوى اللهِ فالْزَمْها تَفُز

إنَّ التَقيَّ هُوَ البَهيُ الأَهْيَبُ

وَاعْمَلْ بِطاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضا

إنَّ المُطيعَ لِرَبِهِ لَمُقَرَّبُ

أدِّ الأمانَةَ، وَالخيانَةَ فاجْتَنِبْ

وَاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَطيبُ المَكْسَبُ

 

أحبتي.. من الأمانة حفظ الودائع و(أداء الأمانة) لأصحابها عندما يطلبونها كما هي، مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المُشركين، فقد كانوا يتركون ودائعهم عنده صلى الله عليه وسلم ليحفظها لهم، وليس هذا بغريبٍ؛ فهو الذي كانوا يُلقبونه بالصادق الأمين. وقد حثنا عليه الصلاة والسلام على رد الودائع إلى أصحابها؛ فقال: [مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ].

اللهم اجعلنا من المُتقين، وممن يحفظون الأمانات ويؤدونها إلى أصحابها، واجعلنا اللهم من المُتعففين، الذين يردون ما عليهم من أماناتٍ، لا ينتظرون مُكافأةً من بشرٍ، ولا يرغبون في سُمعةٍ، بل خوفاً منك، وحرصاً على رضاك، وطمعاً في رضوانك.

https://bit.ly/4dQHJQ5                        

الجمعة، 30 مايو 2025

لُطف الله

 

خاطرة الجمعة /501

الجمعة 30 مايو 2025م

                      (لُطف الله)                         

 

قصةٌ مؤثرةٌ عن (لُطف الله) ورحمته بعباده رواها أحد الدُعاة السوريين المشهورين، قال -رحمه الله-:

وقع لي مرةً أن دعانا كبير أُسرتنا، الذي تُوفي من زمنٍ بعيدٍ -رحمة الله عليه- إلى جمعٍ في بيته يضم أفراد الأُسرة جميعاً، وأعدَّ لنا مائدةً وضع فيها كل ما لذَّ وطاب، وهيأ لنا كل ما يسرنا ويُرضينا. ذهبتُ إلى الاجتماع وكنتُ مُنشرح الصدر، فما لبثتُ فيه إلا نصف ساعةٍ حتى ضاق صدري، وأحسستُ كأن دافعاً يدفعني إلى الخروج وأنني إن بقيتُ اختنقت! استأذنتُ بالانصراف فعجبوا مني، وكنتُ أنا أعجب من نفسي ولا أعرف سبباً لهذا الذي حلَّ بي! وفسد الاجتماع وضاع ما كانوا يتوقعونه من المسرة والانبساط، وألقوا اللوم عليّ، وأنا أعذرهم ولا أدري لما فعلتُ سبباً.

كانت دار المضيف في سفح "جبل قاسيون" في منطقة اسمها "حي العفيف"، وخرجتُ، ومرَّ بي الترام وكان فارغاً، وهممتُ بأن أصعد إليه ثم أحسستُ كأن يداً قويةً تصدني عنه وتمنعني من ركوبه، فمشيتُ على رجليّ ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب! ثقوا أني أصف لكم ما وقع كأنه وقع بالأمس، وقد مرَّ عليه الآن أكثر من ثلاثين سنة.

ما مشيتُ إلا قليلاً، وكان الطريق مُقفراً والليل ساكناً، فوجدتُ امرأةً تحمل ولداً وتسحب بيدها ولداً آخر، وهي تنشج وتبكي وتدعو دعاءً خافتاً لم أتبينه، فاقتربتُ منها وسألتها: "ما بكِ يا أختي؟"، فنفرت مني، وحسبتني أبتغي السوء بها، ونظرت إليّ فلما رأت أنني كهلٌ وأنه لا يبدو عليّ ما تخشاه، نفضت لي صدرها وشرحت لي أمرها، فإذا قصتها أنها من "حلب"، وأن زوجها يعمل موظفاً في "دمشق"، وأنه طردها من بيته، وهي لا تعرف أين تذهب، وما لها إلا خالٌ لا تستطيع الوصول إلى مكانه. فقلتُ لها: "أنا أُوصلكِ إلى بيت خالكِ، واذهبي من الغد إلى المحكمة فارفعي شكواكِ إلى القاضي"، فازداد بكاؤها وقالت: "وكيف لي بالوصول إلى القاضي وأنا امرأةٌ مسكينةٌ، والقاضي لا يستقبل مثلي ولا يستمع إليه؟"، وكنتُ أنا يومئذٍ قاضي دمشق؛ فقلتُ لها: "لقد استجاب الله دعاءك يا امرأة؛ لأنك مظلومةٌ ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجابٌ، وأنا القاضي، وقد استخرجني الله من بين أهلي وجاء بي إليكِ لأقضي إن شاء الله حاجتكِ، وهذه بطاقتي تذهبين بها غداً إلى المحكمة فتلقينني".

 

أحبتي في الله.. تُذكرني هذه القصة بقصةٍ أخرى كان قد رواها نفس الداعية -رحمه الله- وهي تُبين وتوضح مدى (لُطف الله) بعباده، قال شيخنا:

حدثني سفير الأفغان سابقاً في "مصر"، أنه كُلف مرةً بمهمةٍ سياسيةٍ عاجلةٍ في "روسيا"، وخاف أن يمر ببلدٍ لا تؤكل ذبيحة أهله شرعاً، وكانت عنده في البيت دجاجتان فأمر بذبحهما، وأعدتهما زوجته لتكونا زاداً له في سفره، فحملهما معه. ولما وصل إلى "طشقند" دعاه شيخٌ مُسلمٌ إلى الغداء بمنزله، فكَرِهَ أن يأخذ الدجاجتين معه إلى دار الشيخ، ورأى في طريقه امرأةً تبدو -من لبسها- أنها مُسلمةٌ فقيرةٌ، معها أولادها، ورأى الجوع بادياً عليهم وعليها، فدفع إليها الدجاجتين. لم تمضِ ساعةٌ حتى جاءته برقيةٌ "أن ارجع فقد صُرف النظر عن المهمة". فكانت هذه الرحلة لأمرٍ واحدٍ، هو أن الدجاجتين اللتين كانتا في داره، لم تكونا له ولا لأهله، إنما كانتا لهذه المرأة وأولادها، فطبختهما زوجته وحملها هو بنفسه أربعة آلاف كيلومتر ليوصلهما إليها!".

 

إنه (لُطف الله)؛ فمن أسماء الله الحسنى ومن صفاته سُبحانه وتعالى أنه "اللطيف"، وهو وصفٌ يُفيد أنه المحسن إلى عباده في خفاءٍ وسترٍ مِن حيث لا يعلمون، ويُسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون، وهذا من لُطفه سُبحانه بعباده. وقد تكرر ذِكر هذا الاسم في القرآن الكريم سبع مراتٍ؛ خمسٌ منها متبوعةٌ باسم "الخبير"؛ ليركن العباد إلى الله تعالى، ويطمئنوا للُطفه سُبحانه مهما عظمت الكروب والشدائد، وازدادت الأخطار والمخاوف؛ ذلك أن علم المؤمن بلُطف الله تعالى به يُعينه على ذلك كله.

وكما أن من أسماء وصفات الله سُبحانه وتعالى أنه "الخبير" الذي يختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون، فإنه هو "العليم" ومعناه تعميم عِلمه سُبحانه بجميع المعلومات، وأنه "الحكيم" يختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، وأنه هو "الشهيد" يختص بأن يعلم الغائب والحاضر؛ فلا يغيب عنه شيءٌ، وهو أيضاً "الحافظ" فهو لا ينسى، وهو "المحصي" لا تشغله كثرة مخلوقاته عن العِلم؛ مثل أن حركة الشمس ودوران الأرض واشتداد الريح وتسخير السحاب وهطول الأمطار وسريان المياه في المحيطات والبحار والأنهار -وغير ذلك كثيرٌ- لا تشغله جلَّ وعلا عن العِلم بأدق الأمور في البِر والبحر كسقوط أوراق الشجر، وأماكن الحَب في ظلُمات الأرض؛ يقول تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.

 

وعن (لُطف الله) يقول تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، يقول المفسرون في معنى هذه الآية: إن الله سُبحانه وتعالى استدل بدليلٍ عقليٍ على عِلمه؛ فقال: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا والغيوب، وهو الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾. ومن معاني اسم "اللطيف"، أنه الذي يلطف بعباده، فيسوق إليهم البِر والإحسان من حيث لا يشعرون، ويعصمهم من الشر من حيث لا يحتسبون، ويُرقيهم إلى أعلى المراتب بأسبابٍ لا تكون منهم على بالٍ، حتى إنه يُذيقهم المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.

 

يقول أهل العلم إن لطفه سُبحانه يدور على معنيين عظيمين يحتاجهما المؤمن، وهما: أن علمه سبحانه دقَّ ولَطُف حتى أدرك السرائر والضمائر والخفايا، والمعنى الثاني: أنه يُوَصِّل لعباده المؤمنين مصالحهم، ويدفع عنهم ما أهمهم من أخطارهم بطُرقٍ لا يشعرون بها ولا يتوقعونها. وكم في هذين المعنيين من طُمأنينةٍ لقلوب المؤمنين، وربطٍ عليها، وتثبيتٍ لها.

وفي المعنى الأول آياتٌ عدةٌ تدل على دقة علم الله؛ يقول تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

وأما المعنى الثاني للُطفه سُبحانه، وهو إيصال المصالح لعباده بحيث لا يشعرون ولا يتوقعون؛ فيتجلى في رزق العباد، فهو سُبحانه خلقهم ويرزقهم، ورزقه لعباده بما يحتسبون وما لا يحتسبون، وبما يظنون وما لا يظنون، وما لا يحتسبونه ولا يظنونه من رزق الله تعالى هو من لُطفه سبحانه، قَدَّره لهم من حيث لا يشعرون؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾.

كما أن (لُطف الله) تعالى عامٌ وخاصٌ؛ فالعام يشمل كل خَلْقه مؤمنهم وكافرهم، بَرهم وفاجرهم؛ فهو سُبحانه خَلَقهم ويرزقهم ويشفيهم ويُعافيهم، ويدفع عنهم؛ لأنه سُبحانه ربهم فهو لطيفٌ بهم. ولطفٌ خاصٌ بأهل الإيمان يُحيطهم به، ولا يُقدِّر لهم إلا ما هو خيرٌ لهم ولو كرهوه؛ لأنه عليمٌ بما يُصلحهم، خبيرٌ بما ينفعهم، فإذا أصابهم بما يُحبون لَطُف بهم فرزقهم الشكر عليه ليتضاعف أجرهم، ويُبارك لهم فيما رزقهم، وإن أصابهم بما يكرهون لَطُف بهم فأنزل عليهم الصبر والرضا ليُوَفَوْا أجرهم بغير حسابٍ؛ فهو القائل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

وعن (لُطف الله) يقول الشاعر:

وكَمْ للهِ من لُطْفٍ خَفيِّ

يَدِقُ خَفَاهُ عَنْ فَهُمِ الذكيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسَرٍ

فَفَرَّجَ كُرْبَةَ القَلْبِ الشَّجِيِّ

وكَمْ أمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً

وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّةُ بالعَشِيِّ

إذا ضاقَتْ بِكَ الأحْوالُ يَوْماً

فَثِقْ بِالواحِدِ الفَرْدِ العَليِّ

 

أحبتي.. إنّ ألطاف الله تعالى هي ما يبعث في قلوبنا الشعور بالأمان، ويُقوي فينا الثقة بالمستقبل؛ فجميع الأقدار تمضي بألطاف الله وعِلمه المطلق وقُدرته الواسعة. إن (لُطف الله) تعالى يُحيط بنا في كل شئوننا، ويُسعفنا في كل المخاطر، ويؤمنّا من كل المخاوف، ولولا هذا اللُطف لامتلأت قلوبنا وحشةً وخوفاً ورُعباً.

اللهم لكَ الحمد على نعمة اللُطف بنا، ولكَ الحمد على كلّ ما أنعمتَ به علينا، ونسألك أن تزيدنا من بركات ألطافكِ، نحيا بها وننجو بها، ونسألك اللهم أن تُعيننا لنكون لُطفاء مع أنفسنا ومع غيرنا، وأن تهدينا إلى أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.

https://bit.ly/3FBcfRm