الجمعة، 13 يونيو 2025

دائرة الإحسان

 

خاطرة الجمعة /503

الجمعة 13 يونيو 2025م

(دائرة الإحسان)

 

كتب يقول: في ظهيرة يومٍ صيفيٍ خانقٍ، كانت الحياة تدور بسرعةٍ في الشوارع المُكتظة؛ سياراتٌ تمضي مُسرعةً، وأصواتٌ مُختلطةٌ تملأ الهواء بين باعةٍ يُنادون على سلعهم، ومُشاةٌ يُسابقون الزمن؛ منهم من هو في طريقه إلى عمله، ومنهم من هو عائدٌ إلى منزله، ومنهم من هو مُتجهٌ إلى مصلحةٍ يُريد إنجازها. وسط هذا الحشد كله، كنتُ واقفاً عند أحد التقاطعات، أنتظر ركوب الحافلة لأعود إلى بيتي بعد يوم عملٍ شاقٍ، وصلت الحافلة، واندفعت للنزول منها فتاةٌ بخُطواتٍ مُتعثرةٍ، وفي لحظةٍ خاطفةٍ سمعتُ صوت تمزقٍ حادٍ في ملابس الفتاة، وإذا بظهرها وقد انكشف وتعرى، تجمدت الفتاة في مكانها، أحاطتها نظرات المارة التي بدت وكأنها تُعرّي خوفها أكثر مما تُعرّي جسدها، عجزت الفتاة عن الحركة، وبدا أن عينيها تبحثان عن مخرجٍ من هذا الإحراج الذي لم يكن في الحُسبان، رفعت يديها في مُحاولةٍ يائسةٍ لستر ما انكشف من جسدها، لكن دون جدوى، لم أكن بعيداً عنها، رأيتُ نظرات الاستغاثة في عينيها، بدا لي كأنها تُطالبني بأن أتدخل، كأنها تقول لي: "أرجوك، أتوسل إليك، افعل شيئاً لستري"، تحركتُ دون تفكيرٍ، قبضتُ على أطراف قميصي استعداداً لخلعه، لكن في تلك اللحظة تذكرتُ أمراً جعلني أتردد للحظة!

تذكرتُ أن تحت هذا القميص، لم أكن أرتدي سوى فانيلةٍ داخليةٍ مُمزقةٍ، بالكاد تسترني أنا نفسي، وإن خلعتُ قميصي فسأظهر بمظهرٍ غير لائقٍ أمام الجميع، توقفت يداي في الهواء لجُزءٍ من الثانية، وأخذتُ أُفكر: هل عليّ أن أُعرِّض نفسي لهذا الإحراج؟ هل أرضى لنفسي أن أكون حديث الناس؟ لحظة ترددٍ قصيرةٍ بدت وكأنها دهرٌ، لكني اتخذتُ قراري وحسمتُ موقفي؛ فقد كانت نظرات الفتاة تحمل رجاءً صامتاً، بلا اكتراثٍ بما قد يُقال عني، وبغير اهتمامٍ لنظرات السُخرية التي قد تُحيط بي، خلعتُ قميصي دون أن أُفكر إلا في أمرٍ واحدٍ فقط هو "أن أظهر بمظهرٍ غير لائقٍ أمام الناس أهون عليّ من أن أترك فتاةً تواجه هذا الموقف وحدها"، مددتُ يدي بالقميص نحوها قائلاً: "لا تقلقي، استُري نفسك". كانت الفتاة مُرتبكةً، لكن عينيها حملتا امتناناً لا يحتاج إلى كلمات.

مرَّت خمس سنواتٍ على هذا الموقف، حتى كدتُ أن أنساه، تغيرت الحياة؛ فتزوجتُ وعشتُ أياماً مُستقرةً وجميلةً مع زوجتي. وفي إحدى الليالي، كنتُ جالساً في المنزل مُنتظراً عودة زوجتي من عملها المسائي، وكما يحدث كل يومٍ، معها مفتاح المنزل، فتحت الباب ودخلت؛ ففوجئتُ عندما رأيتها، كان المشهد أمامي غريباً جداً؛ إذ وقفت زوجتي عند الباب، مُنهكةً، مُرتديةً جلباباً رجالياً واسعاً! تجمدت نظراتي عليها، سألتها بدهشةٍ: "ما هذا الذي ترتدينه؟!" لم تكن تحتاج إلى تفسيرٍ طويلٍ، فقد بدت مُتأثرةً، تنفست بعمقٍ قبل أن تقول: "تمزق ثوبي أثناء نزولي من الحافلة؛ فانكشف ظهري، كنتُ مُحرجةً جداً، ولم أكن أعرف كيف أتصرف، لكن رجلاً مُسِّناً تقدَّم فوراً ودون ترددٍ، وخلع جلبابه وأعطاني إياه دون أن يقول شيئاً سوى: "لا تقلقي، استُري نفسك". سقطت كلماتها عليّ كالصاعقة، انفلتت من ذاكرتي صورةٌ قديمةٌ كنتُ ظننتُ أنني قد نسيتها، صورة تلك الفتاة التي مددتُ يدي لها بقميصي لتستر نفسها، في موقفٍ مُشابهٍ تماماً، بقيتُ مُتسمّراً للحظاتٍ، سألتُ نفسي: "هل لو كنتُ تجاهلتُ تلك الفتاة، وفضَّلتُ المحافظة على شكلي أمام الناس على ستر الفتاة، هل كان سيفعل هذا المُسِّن ما فعل مع زوجتي؟ هل هذه هي (دورة الإحسان) التي تدور دون أن نُدركها؟ شعرتُ بأن ما كنتُ فعلته ونسيته قد عاد إليّ، غمرت مشاعري موجةٌ من التأثر العميق؛ فإذا بدموعٍ ساخنةٍ تنساح على وِجْنَتَيّ وخُدودي، يا الله.. ما أكرمك.. ما أعظمك.. صدقتَ بوصفك نفسك بقولك: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. هدأت نفسي قليلاً؛ فنظرتُ إلى زوجتي، وابتسمتُ وقلتُ لها بصوتٍ مُتهدجٍ ما زال يغلب عليه التأثر: "الحمد لله، الخير عنده لا يضيع أبداً".

 

أحبتي في الله.. إنها (دائرة الإحسان)

تعكس قيمةً عظيمةً في الإسلام، وهي الإحسان الذي أمرَّ الله به في كل الأحوال، فالمواقف التي دارت فيها الأحداث تُظهر بوضوحٍ كيف أن الخير لا يضيع، بل إنه مُدخرٌ لصاحبه، يعود إليه من حيث لا يحتسب؛ يقول الله تعالى في كُتابه الكريم: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؛ فكُل عملٍ من أعمال الخير يرجع إلى صاحبه يوماً ما، بطريقةٍ ربما لا يتخيلها؛ وفي وقتٍ غالباً ما لا يتوقعه.

والإنسان يُجازَى بما يفعل، سواءً كان خيراً أو شراً؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ · وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؛ وهذا ينطبق تماماً على أحداث هذه القصة؛ فالرجل الذي عمل الخير وخلع قميصه يوماً ما -رغم الإحراج الذي تعرض له- عاد إليه الإحسان بذات الطريقة، عندما وجد زوجته ترتدي جلباب رجلٍ آخر سترها بنفس الطريقة التي ستر بها زوجها الفتاة قبل عدة سنوات.

 

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الستر؛ فقال في حديثٍ صحيحٍ: [مَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]، حيث يُجسد هذا الحديث أعظم درجات الإحسان التي يبذل فيها الإنسان ما لديه رغم حاجته إليه.

كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر: [وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ] وهذا يُرسّخ مبدأ الجزاء بالمثل، وأن جزاء الإحسان هو الإحسان، وأن الله سُبحانه وتعالى يسوق الخير لمن يبذله بصدق.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ، فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]؛ وهذا يُظهر أن فعل الخير ولو كان بسيطاً يكون له أثرٌ كبيرٌ في حياة الإنسان، ويكون سبباً في نجاته في الآخرة، وأن أعمال الخير التي ربما يستصغرها الإنسان ويحسبها قليلةً هي عند الله عظيمةٌ، ولا تضيع أبداً.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ]، وهذا يؤكد على أهمية الإحسان في العلاقات الإنسانية، وعدم انتظار جزاءٍ من البشر، لأن الجزاء الحقيقي يأتي من الله عزَّ وجلَّ.

 

ورد في الأثر: [البِرُّ لا يَبْلَى، والذنبُ لا يُنْسَى، والدَّيَّانُ لا يموتُ، اعْمَلْ ما شِئْتَ، كما تَدِينُ تُدَانُ]؛ أي أن الإنسان سيُجازَى على أعماله، فإن قدَّم خيراً، سيرى الخير يُردّ إليه، وإن عمل شراً، سيُردّ عليه شره بنفس الطريقة، وهذا يُكرِّس مفهوم الجزاء العادل الذي يسوقه الله للناس في الوقت المُناسب، فالرجل لم يكن ينتظر مُقابلاً حين أعطى قميصه للفتاة، لكن الله رتّب له أن تعيش زوجته نفس الموقف، ويحدث لها ما كان قد حدث للفتاة، بل وقيَّض الله لها مَن يسترها بنفس الطريقة التي كان زوجها قد اتبعها من قبل.

 

يقول الشاعر:

اَلنَّاسُ بِالنَّاسِ مَادَامَ اَلْحَيَاءُ بِهُمْ

وَالسَّعْدُ لَا شَكَ تَارَاتٌ وَهِبَاتُ

وَأَفْضَلُ اَلنَّاسِ مَا بَيْنَ اَلْوَرَى رَجُلٌ

تُقْضَى عَلَى يَدِهِ لِلنَّاسِ حَاجَاتُ

لَاتَمْنَعَنَ يَدَ اَلْمَعْرُوفِ عَنْ أَحَدٍ

مَا دُمْتَ مُقْتَدِراً فَالسَّعْدُ تَارَاتُ

وَاشْكُرُ فَضَائِلَ صُنْعِ اَللَّهِ إِذْ جَعَلَتْ

إِلَيْكَ لَا لَكَ عِنْدَ اَلنَّاسِ حَاجَاتُ

قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمْهُمْ

وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي اَلنَّاسِ أَمْوَاتُ

وقال آخر:

أَحْسِنْ إذا كانَ إِمْكانٌ وَمَقْدِرَةٌ

فَلَنْ يَدومَ عَلَى الإنْسانِ إِمْكانُ

وقال ثالث:

مَنْ يفعَلِ الخَيرَ لا يَعْدَمْ جَوَازيهُ

لا يَذْهَبْ العُرُفُ بَيْنَ اللهِ وَالنّاسِ

 

أحبتي.. الإحسان ليس مُجرد فعلٍ عابرٍ، بل هو دائرةٌ مُتصلةٌ تدور بين الناس، وما يزرعه الإنسان من خيرٍ في تعامله مع غيره، يجده أمامه في وقتٍ قد يكون هو الأكثر احتياجاً إليه؛ لذلك، ينبغي أن نُبادر إلى الإحسان دون انتظار مُقابل، واثقين من أن من يعمل الخير، فإن الله يرده له بطُرقٍ لا تخطر على باله.

إنها (دائرة الإحسان)، الخير الذي يُقدّمه الإنسان لا يفنى، بل يعود إليه في الدنيا، فضلاً عن ثوابه العظيم في الآخرة؛ فلنحرص على زرع الخير ليعود إلينا وقت حاجتنا إليه؛ فلنذكر الله دائماً ولا ننساه، فإنه لا ينسانا في مصالحنا، بل هو دائم الاطِّلاع على كلِّ أحوالنا، يصرِّفها حسب حكمته، لا يكون شيءٌ من ذلك إلا في الوقت الذي حدده له وأراده.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وحبِّب إلينا فعل الخيرات ومساعدة المحتاجين، واجعلنا اللهم ممن يقضون حوائج الناس ويقفون معهم وقت الشدة والضيق.

 

https://bit.ly/4e2fKxc

 

ليست هناك تعليقات: