الجمعة، 23 مايو 2025

الأُم البديلة

 

خاطرة الجمعة /500

الجمعة 23 مايو 2025م

(الأُم البديلة)

هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت في «سلطنة عُمان». المكان: قاعة المُغادرين في مطار «مسقط» الدولي. الزمن: الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل. كتب الفتى صاحب القصة رسالةً لأُمه قال فيها:

أكتب إليك يا أُمّي من مطار «مسقط» الدوليّ، ها أنا الآن في القاعة رقم 23 بانتظار الحافلة التي سوف تُقلّني إلى سُلّم الطائرة في طريقي إلى «الهند». الجو باردٌ، وأحسُّ بانتعاشٍ لرؤيتي منظر الأطفال نائمين بأحضان أُمهاتهم؛ الهدوء يعم القاعة لم يقطعه سوى صوت المذياع الداخلي يُخبر المتأخّرين بالتعجيل لتخليص إجراءاتهم، أما أنا فقد أخرجتُ ورقتي وقلمي من سُترتي، وبدأتُ أكتب إليكِ مُستغلاً الوقت المُتبقي قبل موعد الإقلاع.

أتمنى أن تُفكري بكل حرفٍ سوف أخطّه لكِ، وتتمعّني فيه، وتسترجعي ذاكرتكِ إلى الوراء قبل أربعة عشر عاماً؛ عندما حملتِ بي، تسعة أشهرٍ من المُعاناة، خرجتُ بعدها إلى الدُنيا، ثم تركتيني بعد مُضي شهرين لتُكمل الشغّالة الهندية «كوماري» الحِمل الثقيل الذي أحسستِ بأنّه سوف يقتل أحلامكِ وطموحكِ الوظيفيّ، وفوق ذلك تفقدين رشاقتكِ، وتذبلين مثل الوردة التي يُمنع عنها الماء. نعم هذه هي الحقيقة التي دأبت «كوماري» تُلقّني إياها، وكأنها تقصد تنشئتي على حُبها وكُرهكِ أنتِ؛ حتى لا يضيع تعبُها سدىً، ولا أعلم ما الذي كان يدور في خَلَدها؟ الذي أعلمه الآن أنّ حُبي لها حقيقيٌ نابعٌ من قلبي الذي لم يعرف أُماً سواها! مُنذ نشأتي، في كلّ مرّةٍ تمنيتُ بأن تستقطعي من وقتك الثمين ولو بضع دقائق لكي أحكي لكِ ما يدور بخاطري، وأشرح لكِ ألمي لابتعادكِ عني، وابتعاد مشاعري لغيركِ، وأبوح لكِ بما أشعر به بعد أن عادت «كوماري» إلى بلدها «الهند». صدّقيني أُمي، وأنا أُناديك بهذا الاسم ولا أشعر به، ولا أشعر بأنه من قلبي، لكن هي الفطرة وحدها لقنتني هذه الكلمة، أما الإحساس الحقيقيّ فلا يوجد لديّ لكي أمنحكِ إياه؛ فقد استهلكته شغّالتنا الهندية، وشربتْ منه وارتوت ثم رحلَت، وتركت طفلها الذي لم تلدْه، ولكن ربّته على حُبّها! كانت تحكي لي كيف كانت الأيام الأولى بعد مُضي شهرين من ولادتي، كيف تركتِيني وعُدتِ إلى عملكِ، مع أنّه تمّ منحكِ إجازة ثلاثة أشهر، ولكنّ حُبّكِ لعملكِ أفقدكِ إحساسكِ بطفلك. عند بلوغي سن الفهم لم أجد إلا «كوماري» (الأُم البديلة) التي تُخفف مُعاناتي وصرخاتي وأنيني وتوجعي، كانت تسهر لراحتي، وتجلب الدواء لي، وتسقيني من الحليب المُصنّع، وأنتِ يا من تدَّعين بأنّي طفلكِ -بالاسم فقط- تغطّين في سُباتٍ عميقٍ لا تُحبين سماع بكائي، يؤذيك صراخي، ويُنغّص عليكِ نومكِ الهانئ، فضّلتِ النوم المريح على رعايتي والاهتمام بي؛ حتى تقومين في الصباح وتذهبين إلى عملكِ نشيطةً، وقبل خروجكِ إلى العمل تمرّين بي طابعةً على خدي قُبلةً صغيرةً، وكأني دميةٌ تتركينها صباحاً ثم تعودين إليها بعد الظُهر. كم مرّةً بكيتُ وأنا ابن السنتين أجري خلفكِ صباحاً وأنتِ ذاهبةٌ إلى العمل، ومساءً وأنتِ ذاهبةٌ للتسوّق، أتمنى أن تأخذيني بحُضنكِ، ولكن دون جدوى؛ فتضمني «كوماري» إلى حُضنها الدافئ، وقلبها الحنون والبلسم الشافي. كبرتُ ولم أجدكِ أمامي، وجدْتُها هي تُلاعبني تُلاطفني، تسقيني إذا عطشتُ، تُطعمني إذا جُعتُ، تُبدل لي ملابسي إذا اتّسخت، تمسح دمعتي إذا بكيتُ، تقوم على راحتي حتى عندما أمرض وأحتاج إليكِ لا أجدكِ لكني أجدها، هي من تنام بجانبي، تهتم بأمري، خاصةً إذا مرضتُ، كانت هي من تُعطيني الدواء، وتقيس حرارتي، ولا تنام إلا إذا أغمضتُ عينيّ. مرّت السنوات وكبر حُبي لها وصغرتِ أنت بعينيّ، وبدأتُ أعي كل ما حولي وأفهم كل شيءٍ، وكبر تعلقي بها لأنها لم تُفارقني منذ اليوم الأول لي بالمدرسة؛ كانت تُعدّ لي الإفطار، وتنتظرني عند موقف الحافلة لكي تتأكد من ركوبي سالماً، ولا تكتفِ بذلك إنما تُلوِّح بيدها إلى أن تُفارق الحافلة ناظرها، كانت لي هي (الأُم البديلة)، وأنتِ بالجانب الآخر تضعين المساحيق، وتتزينين للخروج للعمل، ولا تُكلفي نفسكِ ولو بالسؤال عني، وعند عودتي من المدرسة أجدها تنتظرني عند باب البيت تحمل حقيبتي عني، وتُغيِّر ملابسي، وتُجهز لي الغداء. وأنتِ يا من تُدعين أُمي لم أستطع أن أتذكر لكِ -ولو بصورةٍ في مُخيّلتي- أي موقفٍ يشفع لكِ اليوم، فها أنا قد كبرتُ وبلغتُ، والآن أحمل حقائبي مُعلناً حسم الصراع الذي يدور في داخلي مُنذ اليوم الأول لسفر شغّالتنا «كوماري»، وإلى اليوم، لم أعد أستطيع الجلوس؛ فقد ضاقت الدنيا عليّ بما رحبت، وبلغتُ من الوجع والألم والاشتياق مبلغاً لا أُريد أن يُؤذَىٰ أحدٌ به، فإني أُحسّ بأن رأسي سوف ينفجر، ومثلما تركتموني أنتِ وأبي وأنا طفلٌ صغيرٌ، ما الذي يُضيركم وأنا شابٌ يافعٌ ابن أربع عشرة أن أختار حياتي وما أُريد؟

وداعاً أُمّاه، كم تمنّيتُ أن تخرج هذه الكلمة من قلبي، حتى وأنا أُودّعك الوداع الأخير، ولكنكِ قتلتِ فيّ كلّ شيءٍ جميلٍ، وكلّ إحساسٍ ومشاعر للأُم في صدري.. لقد ذبحتيني من الوريد إلى الوريد، هذا ما جنيتِ، وجناه أبي عليّ.

اعذريني الآن؛ فقد جاءت الحافلة التي تُقلنا إلى سُلّم الطائرة المُتّجهة إلى حيث تعيش أُمّي لأبقى معها بقيّة عُمري. ونصيحةٌ لكِ لا تُحاولي البحث عنّي، أو إرغامي على العودة؛ فإني إن عُدْتُ أعود جُثةً هامدةً لا فائدة منها. نصيحةٌ أخرى لكِ أنتِ ولأبي إذا أنجبتم ابناً آخر اتخذوني درساً لبقيّة حياتكما.

 

أحبتي في الله.. القصة مؤثرةٌ جداً، ورغم أن الفتى ما يزال في سنٍ صغيرةٍ، فإنه استخدم لغةً قاسيةً في مُخاطبة أُمه، تجاوز فيها كل الحدود، كما يبدو أن سفره كان على غير رغبة والديه ودون علمهما، إلا أن الفتى عبَّر عن مشاعره وأحساسيه بصراحةٍ، وأوضح في طيات ما كتب آلام المحروم من حنان أُمه، وهي أمام عينيه، ووجد الحنان لدى الشغالة فكانت له بمثابة (الأُم البديلة). طمست قسوة قلب الفتى بصيرته حتى شرد عن الحق والواجبات والأصول، إلا أنه أوضح بصدقٍ دون مُجاملةٍ أو مُواربةٍ شعور الأطفال الذين لم يعرفوا أحضان أُمهاتهم، بل عرفوا أحضان الشغالات.

لقد كانت الرسالة التي كتبها لأُمه بمثابة جرس إنذارٍ يُنبه الجميع، ويُلفت النظر إلى خطورة هذا الأمر، خاصةً إذا كانت الشغالة ليست مُسلمةً، وتنتمي إلى ثقافةٍ مُغايرة لثقافتنا.

 

يقول أهل العِلم إن من أهم وظائف المرأة -كما حددها الشرع- رعاية الأبناء؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [.. والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا..]، ولذا جعل الشرع الحضانة حقاً للأُم خاصةً في مراحل الطفولة الأولى.

والأصل أن محل تواجد المرأة هو البيت؛ لقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. والمرأة لا تحتاج للخروج إلى العمل إلا أن تكون هناك حاجةً لها لا يسدها رجلٌ ‏من أهلها، أو أن يحتاج المُجتمع المُسلم حاجةً لا تقوم بها إلا النساء، وأن يكون هذا العمل بين ‏النساء خاصةً لا اختلاط فيه مع الرجال.

والأصل هو بقاء المرأة في بيتها؛ تُربي أبناءها، وترعى شئؤن بيتها بنفسها، وفي ذلك من المصالح ما لا يتحقق بدونه، ويترتب على تركه من المفاسد ما الله به عليم. ولا ينبغي للمرأة أن تُخالف ذلك الأصل فتخرج من بيتها، وتترك تربية أبنائها للشغالة التي تتحول إلى (الأُم البديلة)، إلا لضرورةٍ، فعليها حينئذٍ أن تلتزم بالضوابط الشرعية؛ أن لا تعمل في مكانٍ تختلط فيه مع الرجال، وإن كانت طبيعة عملها تستوجب التعامل مع الرجال فليكن ذلك بدون اختلاطٍ، وبأقصى درجات الحذر؛ فتكون مُتحجبةً بالحجاب الشرعي، ومُحتشمةً، وإن اضُطرت إلى مُكالمة الرجال فلا تخضع بالقول؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾، وألا تسمح لنفسها بالخلوة بأحدٍ من الرجال. وللأُم -في حالة الاضطرار- أن تستأجر شغالةً تُعينها على أعمال المنزل، مع مُراعاة الضوابط الشرعية التي منها أن تكون الشغالة مُسلمةً، وأن تلتزم بالحجاب، وأن تقوم بالعبادات كالصلاة والصيام، مع مُراعاة عدم دخول الرجال عليها، وعدم الخلوة بها، وعدم الاختلاط المُحرم. كما ينبغي أن لا يوكل لها أمر تربية الأولاد؛ لأن تربيتهم مسؤولية الوالدين، ومن مفاسد إسناد تربيتهم للشغالات أن ذلك يُفقد الطفل الجانب العاطفي تجاه والديه، لا سيما أُمه، فيفتقد الحنان الذي هو العُنصر الأساسي في التوجيه والإرشاد للأطفال.

 

ويقول عُلماء الاجتماع إن أغلب الأُسر في مُجتمعاتنا العربية بصفةٍ عامةٍ، والخليجية بصفةٍ خاصةٍ، تعتمد اعتماداً كبيراً على الشغالات في إدارة أمور البيوت وتربية الأطفال. وهذه ظاهرةٌ من الظواهر الاجتماعية التي أصبحت مخاطرها تُهدد كيان الأسرة، وتؤثر سلباً على تنشئة الأجيال؛ ففي ظل انشغال الوالدين يكون للشغالات تأثيرٌ كبيرٌ على تربية الأبناء، وأخطر هذا التأثير ما يكون على المُعتقدات الدينية بشكلٍ خاصٍ، وعلى الجوانب الثقافية التي يجب أن يتربى الأبناء عليها؛ إذ يكتسبون كثيراً من العادات والتقاليد الدخيلة على مُجتمعاتنا، فضلاً عن التأثيرات السلوكية والأخلاقية؛ وما يستتبع ذلك من عقوق الأبناء لأُمهاتهم وآبائهم، وتفضيلهم الشغالات اللاتي يُحْسِّن العناية بهم أكثر من أُمٍ تخلت عن واجبها، وأبٍ مشغول؛ وصدق من قال:

لَيَسَ اليَتيمُ مَنْ انْتَهَى أبَوَاهُ

مِنْ هَمِ الحَياةِ وَخَلَّفاهُ ذَليلا

إنَّ اليَتيمَ هُوَ الْذي تَلْقَى لَهُ

أُمّاً تَخَلَّتْ أَوْ أَباً مَشْغولا

 

وفي المقابل؛ فإن بعض الشغالات الأجنبيات غير مؤتمناتٍ على الأطفال، وقد سمعنا عن الكثير من جرائمهن الفظيعة، ومنها: تعرض الطفل للعُنف، والمُعاملة القاسية، والعقاب المُبالَغ فيه، والضرب المُبرح، وتَعَمُد إحداث الأذى، مما قد يؤدي إلى الموت أو التشويه أو الإصابات الشديدة، فأين نحن من قول الشاعر:

أوْلادُنا بَيْنَنا

أكْبادُنا تَمْشي عَلَى الأرْضِ

إنْ هَبَّتْ الريحُ عَلىٰ بَعْضِهِمْ

لَمْ تَشْبَعْ العَيَنُ مِنَ الغَمْضِ

 

إن مشاهدة الواقع، ومصير البيوت والأبناء الذين تربوا في أحضان الشغالات، دليل إثباتٍ لا شك فيه على تلك الجناية التي تُرتكب في حق الأبناء حين يُتركون لتقوم الشغالة بتربيتهم، وأية جنايةٍ أكبر من ذلك؟ وأي ثمنٍ أفدح من فقد الطفل عاطفته تجاه والديه -وخاصةً أُمه- وتعلقه بالشغالة التي ربته؟

 

أحبتي.. يقول أحد المُهتمين بهذا الشأن إن الأُم المُستهترة التي تخلت عن دورها ومسؤوليتها، واعتقدت أنها قائمةٌ بواجبها إن هي قدمت لأبنائها الطعام والشراب والرعاية بواسطة الشغالة (الأُم البديلة)، وتحرمهم من حنانها وعطفها ورعايتها بسبب كسلها، وضعف همتها، وركونها إلى الراحة والدَعة، أو انشغالها بالذهاب إلى العمل، أو الخروج للأسواق والزيارات، أو تعلقها بأسباب اللهو: التلفاز، والمجلات، والاتصال بالهاتف، ومُتابعة مواقع التواصل الاجتماعي، فلا ترى ابنها إلا نادراً، مثل هذه الأُم تندم -حين لا ينفع الندم- حين ترى ابنها أشد تعلقاً بالشغالة منها. نصيحتنا لكل أُمٍ أن تتقي الله ولا تحرم أبناءها من حنانها، وأن تهتم ببيتها الذي هو مملكتها، وأن تصرف جُهدها للاهتمام بزوجها وتربية أبنائها ورعاية مصالحهم؛ فتقر عينها في الدنيا برضى الزوج ومحبة الأبناء، وفي الآخرة برضا المولى عزَّ وجلَّ، ولتتذكر كل أُمٍ إن الأمومة نعمةٌ، محرومٌ منها غيرها، فلتحمد الله وتشكره عليها؛ فبالحمد والشكر تدوم النعم.

اللهم اهدنا، واهدِ زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا ونساء المسلمين، إلى ما فيه الخير والصواب والرشاد والسداد.

https://bit.ly/4jhExhF

الجمعة، 16 مايو 2025

تأثير القرآن

 

خاطرة الجمعة /499

الجمعة 16 مايو 2025م

(تأثير القرآن)

مُسلمٌ جديدٌ كان نصرانياً بروستانتياً من «كندا»، وكانت عائلته تعيش على هواها؛ فهي غير مُتدينةٍ، لكنه كان شغوفاً جداً بمعرفة مَن خلقه؟ وما هو الدين الحق؟ ومَن هو الإله الذي خلقه؟ يروي قصته فيقول:

قررتُ شراء جميع الكُتب العقائدية لدراستها، لكن بالطبع إلا القرآن الخاص بالمُسلمين؛ فهُم -كما يُصورهم الإعلام الغربي وكما يقول عنهم أعداؤهم- إرهابيون. قرأتُ كل تلك الكُتب، وخرجتُ بنتيجةٍ واحدةٍ هي أن جميع هذه العقائد لا يُمكن أن تكون من لَدُن الله خالق هذا الكون الرهيب. كنتُ مُتفوقاً في دراستي، ولدَيّ ولعٌ كبيرٌ جداً بالثقافة والعُلوم، فحكيتُ لزملائي في الجامعة مُشكلتي التي تؤرقني ليل نهار؛ فأهداني زميلٌ فلسطينيٌ كتاباً أخبرني بأنه نسخةٌ من القرآن الكريم مُترجَماً إلى اللغة الإنجليزية، وقال لي: "اقرأ هذا؛ وأؤكد لك أنك ستجد فيه حتماً ما تبحث عنه"، لم أشأ أن أُحرجه أمام الزملاء خصوصاً أنه لم يكن صديقاً بل كنتُ في الأصل أنفر منه، فاستلمتُ منه الكتاب الذي أعطاني إياه، ثم عندما عُدتُ إلى المنزل ألقيته على الأريكة وقلتُ: "لن أقرأ هذا الشيء"!

وفي أحد الأيام كان عندي فراغٌ في الوقت، وأنا أجلس على الأريكة لمحتُ الكتاب بجواري فتذكرته، وقلتُ أُسلّي نفسي فقط بعض الدقائق؛ لأستمتع بما أتوقعه فيه من أوامر القتل والاغتصاب والغوغاء و..و..و..، فتحته فوقعت عيناي مُباشرةً على الآيتين: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾، ضحكتُ وقلتُ: "حدودٌ بين البحار؟! هذا كلامٌ خطأٌ تماماً" فأغلقتُ الكتاب وألقيتُ به مرةً أُخرى، ثم فتحتُ التليفزيون أمامي فوجدتُ برنامجاً لاثنين من أكبر عُلماء «كندا» يشرحان تجربة غوصهم في «خليج هدسون» الشهير بشمال شرق البلاد، ويوضحون ما لا يعرفه الناس أن المياه بينها حواجز تفصلها عن بعضها البعض؛ لأن المياه أجناسٌ مُختلفةٌ، وكل جنس مياهٍ مُختلفٌ عن الجنس الآخر؛ حيث كل مياهٍ لها خصائص مُحددةٌ مُختلفةٌ عن غيرها، وليس كما نعتقد أن المياه كلها واحدةٌ مُتداخلةٌ في بعضها، بمجرد النظر السطحي دون دراساتٍ مُتعمقةٍ وتحليلاتٍ بالأجهزة؛ فكل مياهٍ لها كثافةٌ ودرجة حرارةٍ وعناصر ومُلوحةٌ وضغطٌ وأحياءٌ غليظةٌ وأحياءٌ دقيقةٌ تختلف عن غيرها من المياه الأخرى، ولو انتقلت الأحياء من مياهٍ لأخرى تهلك وتموت، فوجدنا أن هناك حواجز تمنع انتقال الأحياء من مياهٍ لأخرى، وتلك الحواجز موجودةٌ بصورةٍ أُفقيةٍ بين مُختلف البحار والأنهار والمُحيطات، وموجودةٌ أيضاً رأسياً في نفس المياه، فقد غُصنا 20 متراً في نوعية مياهٍ حسب قياساتنا بالأجهزة، ثم وجدنا طبقةً ثانيةً مُختلفةً، سُمكها مترين فقط، فانتبهنا لذلك واهتممنا ثم هبطنا إلى طبقةٍ ثالثةٍ عميقةٍ سُمكها يمتد حتى القاع، وفي الحقيقة هذه الطبقة الثانية ما هي إلا حاجزٌ بين الطبقتين العُليا والسُفلي، وليست طبقةً بحد ذاتها! فتذكرتُ ما قرأته للتو في القرآن -بقَدَر الله بالطبع- وقفزتُ من على الأريكة وكأن شيئاً ما دفعني وحرَّكني! نظرتُ إلى القرآن باندهاشٍ وبتعجبٍ شديدين، وسألتُ نفسي: "ما هذا؟ كيف يكون مذكوراً في كتابٍ منذ 14 قرناً أن بين المياه حواجز تفصلها؟!". اقشعّر جلدي كاملاً، ووقف شعر جسمي، وقلتُ: "هل هذا فعلاً كتاب الله وليس من تأليف مُحمد؟"، هل هذا توفيقٌ من الله بأن أقرأ تلكما الآيتين ثم أُشاهد البرنامج التلفزيوني بعد ذلك مباشرةً؟! هل تلك مُجرد صُدفة؟". شعرتُ أن الله معي تماماً، بل ويُخاطبني، ويُريد أن يهديني لأنني بحثتُ عنه طويلاً بصدقٍ؛ فقررتُ قراءة القرآن بالكامل بتركيزٍ تامٍ وتمعنٍ واحترامٍ شديد. أول ما لفت نظري أن هذا الكتاب يتحدث عن جميع العلوم: فلكٌ وفيزياء وكيمياء وجغرافيا وطبٌ وعلوم الأجنة ووو ... إلخ. كيف هذا؟ كيف لرجلٍ أُميٍ عاش حياته كلها في الصحراء منذ 14 قرناً من الزمان أن يخوض في كل شيءٍ؟ بالتأكيد سيقع في أخطاء وسيفضح نفسه، ما كُل تلك الجُرأة؟ شخصٌ غير سيدنا مُحمدٍ كان شغل نفسه بتحليل وتسهيل جميع المُحرَّمات لجذب الناس، وليس أن يخوض في كل العلوم ويفرض أقسى شريعةٍ بين العقائد؛ فواضحٌ أنه فعلاً رسولٌ مُبّلِغٌ لما أُنزل إليه من الله سُبحانه وتعالى. والعجيب أنه بمراجعة تلك العلوم وُجد أنها كُلها صحيحةٌ 100% بل وتسبق علومنا في كثيرٍ من الأحيان، فكيف لكتابٍ منذ 14 قرناً من الزمان أن يكون بهذه الجُرأة وتلك الصحة؟ لا محالة، إنه كتاب الله عزَّ وجلَّ نزل إلينا من خارج كوكب الأرض، الفارق بينه وبين الكُتب الأخرى شاسعٌ، بل لا مُقارنة أصلاً من الأساس؛ فأعلنتُ إسلامي وحاولتُ إقناع أُسرتي لكنهم رفضوا؛ فالله ليس في قُلوبهم مثلي، بل الدُنيا فقط هي التي في قُلوبهم!".

 

أحبتي في الله.. إنه (تأثير القرآن) على نفوسٍ صدقت مع نفسها، وأخلصت النية لله سُبحانه وتعالى أن تبحث عن الحق لاتباعه، فلما عرفته لم تنكث، ولم تحنث بوعدها، ولم تتكبر، ولم تجحد، بل سلَّمت وأسلَّمت وخشعت.

مثالٌ آخر نرى فيه (تأثير القرآن) العظيم في نفس واحدٍ من الذين حازوا الشُهرة والمال، وجمعوا مُتع هذه الحياة الدنيا الزائلة، حتى ظنَّوا أنهم أسعد الناس، إلى أن استمع للقرآن الكريم؛ فعلِم أنه لم يعرف للسَّعادة طريقاً، ولم يذق لها طعماً يُقارب السعادة واللذة التي شعر بها عند استماعه للقرآن العظيم، فأعلن إسلامه وأصبح من الدُعاة إلى هذا الدِّين، هذا الرجل هو المُطرب السابق البريطاني المشهور «كات ستيفنز» الذي قال: "في تلك الفترة من حياتي -يعني قبل إسلامه- بدا لي وكأنني فعلتُ كلَّ شيءٍ، وحقَّقتُ لنفسي النجاح، ونلتُ المال والشُهرة وكل شيءٍ، ولكني كنتُ مثل القرد أقفز من شجرةٍ إلى أخرى، ولم أكن قانعاً أبداً، حتى كانت قراءتي القرآن؛ كانت لحظةً فارقةً؛ إذ كانت بمثابة توكيدٍ لكل شيءٍ بداخلي كنتُ أراه حقاً، وكان الوضع مثل مواجهة شخصيتي الحقيقية".

وهذا عالِمٌ ألمانيٌ كانت الآيتان الكريمتان ﴿أَيَحْسَبُ الإِِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ . بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ سبباً في أن أسلم وأعلن إسلامه على ملأٍ من العُلماء، ولمَّا سُئل عن سبب إسلامه قال: هذه الآية ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾؛ فإن الكشف عن أمر بصمات الأنامل لم تعرفه أوروبا -فضلاً عن العرب- إلاَّ في زماننا هذا؛ إذن فهو كلام الله لا كلام البشر".

وأحد الذين كان (تأثير القرآن) سبباً في إسلامهم قال حين سُئِلَ عن ذلك: "لقد تتبَّعتُ كلَّ الآيات القرآنية التي لها ارتباطٌ بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستها من صِغري وأعلمها جيداً، فوجدتُ هذه الآيات مُنطبقةً كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمتُ؛ لأنني تيقنتُ أن مُحمداً -صلى الله عليه وسلم- أتى بالحقِّ الصُّراح قبل ألف سنةٍ، مِنْ قَبْلِ أن يكون هناك مُعلَّمٌ أو مُدرسٌ من البشر، ولو أن كل صاحب فنٍ من الفنون، أو علمٍ من العُلوم، قارن كل الآيات القرآنية المُرتبطة بما تعلَّم -كما قارنتُ أنا- لأسلم بلا شكٍ، إنْ كان عاقلاً خالياً من الأغراض".

وعن (تأثير القرآن) في النفوس يقول أحدهم عن سبب إسلامه: "حضرتُ مُناظرةً بين مُسلمٍ ومسيحيٍ، واقتنعتُ أثناءها بما سمعته من سورةِ مريم؛ إذ أدركتُ أن الإسلام هو دين الحق".

أما هذا -وقد كان يهودياً قبل أن يُسلم- فيقول: "حينما شرعتُ في مُطالعة القرآن الكريم للمرة الأولى وَلِعْتُ به وَلَعَاً شديداً، ولا أظن أن ثَمَّةَ شيئاً يؤثر في المرء الذي أدرك حقيقة الديانة الإسلامية وروحيتها بقدر تأثير تلاوة آيات القرآن المجيد على مشاعره، فيغمره الإحساس الفيَّاض باتصاله الرُّوحاني، وتجتذِبُه مَهَابةُ الإله جلَّ جلالُهُ، فيقرّ بكل خشوعٍ بعجزه وضعفه أمام كلام ربه العظيم".

و(تأثير القرآن) كان واضحاً على هذه الشابة البريطانية التي تحدثت عن تجربتها الذاتية مع القرآن العظيم فقالت: "لن أستطيعَ مهما حاولتُ، أن أَصِفَ الأثر الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أكد أنتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتني ساجدةً لخالق هذا الكون، كانت هذه أول صلاةٍ لي في الإسلام".

 

إنه (تأثير القرآن) الذي وصفه الله عزَّ وجلَّ بالعديد من الصفات منها: ﴿هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ﴾، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾، ﴿أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾، و﴿جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.

 

إنه (تأثير القرآن) كتاب الله العظيم، الذي قيل في وصفه أجمل وأفضل وأشمل وصف: "فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الألْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا: ﴿إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ﴾، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".

بل ووصفه أحد عُتاة الكُفار من «قُريش» بقوله: "واللَّهِ إنَّ لهُ لحلاوةً، وإنَّ عليهِ لطلاوةً، وإنَّ أعلاهُ لمُثمرٌ، وإنَّ أسفلَهُ لمُغدقٌ، وإنَّهُ ليعلو وما يُعلَى عليه".

 

أحبتي.. هذه لمحاتٌ بسيطةٌ مما أثرَّ به القرآن في نفوس غير المُسلمين فأسلَموا، فما هو (تأثير القرآن) في نفوسنا نحن الذين وُلدنا مُسلمين؟ هل نواظب على قراءته بالأساس؟ هل لنا وِردٌ يوميٌ منه؟ هل نؤْثره بأفضل أوقاتنا أم نُفضِّل عليه ما هو دونه فلا يبقى له إلا فضلة أوقاتنا؟ هل نُحْسِن تلاوته؟ هل تعلمنا تجويده؟ هل نفهم ما أشكل علينا من كلماته؟ هل عَقِلنا معانيه؟ هل اطلعنا على تفسيره؟ هل تدَّبرنا مقاصد آياته؟ هل عرفنا أحكامه؟ هل نفذَّنا ما به من أوامر؟ هل تجنَّبنا كل ما نهانا عنه؟ هل تحاكمنا به؟ هل ارتضيناه منهج حياةٍ لنا ولأُسرنا ومُجتمعاتنا؟ هل علَّمناه لأبنائنا؟ أم اكتفينا بأن اتخذناه زينةً في منازلنا؟ وتبركنا به في سياراتنا؟ ووزعناه هدايا في مُناسبات عزاء أحبابنا؟ وجعلنا منه أحجبةً وتمائم لأبنائنا؟ وصنعنا نماذج منه من الذهب تُزين به نساؤنا صدورهن؟!

على كلٍ منا أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، ويُجيب عنها بصدقٍ ويعمل بجدٍ حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً له، وهو الذي وصفته السيدة عائشة بقولها: "كان خُلُقُه القُرآنَ".

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هُم أهلك وخاصتك، واجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً، وفي القيامة شفيعاً، وعن النار سِتراً وحجاباً، وإلى الجنة قائداً، وإلى الخير دليلاً وإماماً، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا ممن يُحل حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويعمل بمُحْكَمِه، ويؤمن بمُتشابهه، ويتلوه حق تلاوته، اللهم اجعلنا ممن يُقيم حُروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يُقيم حُروفه ويُضيِّع حدوده، اللهم ألبسنا به الحُلَل، وأسكنِّا به الظُلَل، وادفع عنا به النِقم، وزدنا به من النِعم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، اللهم اجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا.

https://bit.ly/4mjKg9j

الجمعة، 9 مايو 2025

لا تغضب

 

خاطرة الجمعة /498

الجمعة 9 مايو 2025م

(لا تغضب)

 

يقول الراوي: كنتُ في زيارةٍ لأحد الأصدقاء في السجن المركزي بمدينة «الرياض» قبل سنتين، وجلس معنا سجينٌ مُدانٌ بالقتل، وكانت قضيته أن شخصاً لطمه في السوق؛ فقام بسحب مُسدسه وقتله. قال لي ناصحاً: "إذا معك سلاحٌ آليٌ أو مُسدسٌ، وجاء شخصٌ ولطمك على خدك، أعطه خدك الثاني وقُل له زِدني كفاً، أما إذا لم يكن معك سلاحٌ ولطمك فتضارب أنت وهو بالأيدي والأقدام ما شئتما؛ فذلك أهون لكما؛ فإذا أنت سحبتَ السلاح في حالة الغضب، فلا تلومن إلا نفسك؛ فستجد أصابعك قد أسرعت بالضغط على الزناد، ثم تُفاجئ بأنك تحولتَ في لحظة إلى قاتل. سيكون استخدامك للسلاح وقتها سبباً في ذُلِّك، وذُل أُمك وأبيك وزوجتك وأبنائك وأهلك أجمعين، وستجد نفسك بعد لحظة الغضب مُنتظراً لصدقاتٍ من الناس حتى تأكل، وتبرعاتٍ من فاعل الخير حتى تستطيع أن تلبس، ويجعل أهلك يقبِّلون أقدام الناس حتى يُسامحوك، وتكون نتيجة ذلك أن تظل حبيس أربع جُدرانٍ لسنواتٍ قبل يأتوا بك إلى ساحةٍ واسعةٍ، يطرحونك على بطنك مُقيد اليدين والقدمين، معصوب العينين، ويقطعون رأسك بالسيف أمام الناس. ضربك بالكف ليس ذُلاً، إنما الذل يكون لحظة رقودك على بطنك، وأبوك وعائلتك ينظرون إليك، هذا أكبر ذُلٍ في حياتك، ذُلٍ أكبر كثيراً من مليون لطمة، والقصة كلها حملك السلاح، واستخدامه وقت الغضب؛ فنصيحتي لك (لا تغضب)".

 

أحبتي في الله.. يقود الغضب إلى الانفعال والتصرف دون تبصرٍ وبغير رويةٍ، وكأن العقل قد شُل؛ ما يؤدي إلى سوء العاقبة، مثلما حدث مع هذا الرجل السجين المحكوم عليه بالإعدام نتيجةً لقتله شخصاً لطمه على خده.

ويُمكن للغضب أن يؤدي إلى نتائج أُخرى؛ منها مثلاً هذه القصة المؤثرة لرجلٍ كان يُنظف سيارته الجديدة، فشاهد ابنه الصغير يُمسك بمسمارٍ ويخدش به في جانب السيارة؛ فأخذ الأب -وبغضبٍ بالغٍ- يضرب يد ابنه من دون أن يشعر بأنه كان يضربها بشدةٍ بأداةٍ حادةٍ صادف أنها كانت في يدهّ! ومع صُراخ الابن انتبه الأب مُتأخراً لما حصل منه تحت تأثير الغضب، نظر فرأي يد ابنه تنزف فأسرع باصطحابه إلى المُستشفى، وفي الطوارئ كان قرار الأطباء هو بتر أصابع يد الابن فوراً حتى لا تمتد الغرغرينا إلى باقي اليد، ولم يجد الأب بُداً من المُوافقة، وافق وقلبه يكاد يتوقف من شدة الندم. تم البتر وفقد الابن أصابع يده اليُمنى بسبب الكسور الكثيرة التي أحدثها الضرب، لم يتمالك الأب نفسه فأُجهش بالبكاء، ظل يبكي وقت لا يفيد البكاء في شيء. عاد الأب وابنه إلى المنزل، وعندما أراد الأب أن يقوم بالتغيير على الجرح نظر الابن إلى يده وسأل أباه ببراءةٍ: "متى ستنبت أصابعي يا أبي؟!"، كان للسؤال وقع الصاعقة على الأب؛ فخرج وتوجه إلى سيارته وضربها عدة مراتٍ، وجلس أمام سيارته وكله ندمٌ على ما بدر منه في لحظة غضبٍ، ثم نظر إلى المكان الذي خدشه ابنه في جانب السيارة؛ فإذا به يُفاجئ بأن ابنه كان يكتب بالمسمار "أُحبك يا أبي"!

 

ومن عواقب الغضب أن يفقد الشخص احترام الناس له، وتنزل مكانته في عيونهم؛ فهذا مُديرٌ لأحد المصانع ترك مكتبه ونزل لتفقد أحوال العمال، وخلال تجواله في المصنع لاحظ وجود شابٍ يستند إلى الحائط، ولا يقوم بأي عملٍ، استشاط المُدير غضباً حينما رأى الشاب ينظر إليه ولا يأبه لوجوده، ومما زاد في غضب المُدير أن الشاب لم يُبادر بالاعتذار أو حتى يتظاهر بالعمل؛ فاقترب منه وسأله بعصبيةٍ: "كم هو مُرتبك في الشهر؟"، كان الشاب هادئاً، ويبدو على وجهه أنه مُتفاجئ بهذا السؤال، لكنه أجاب: "500 دولار شهرياً"، لماذا تسأل يا سيدي؟"، لم يُجب المُدير، لكنه أخرج محفظته وسحب منها 500 دولار نقداً وأعطاها للشاب -بمثابة إنهاء خدمةٍ- ثم قال للشاب: "أنا أدفع للناس هنا ليعملوا، لا ليقفوا بلا عمل، الآن هذا راتبك الشهري مُقدماً، اخرج ولا تعد"، استدار الشاب وأسرع في الابتعاد عن الأنظار. نظر المُدير إلى باقي العمال -المُندهشين مما يحدث-وقال لهم بنبرة تهديدٍ: "هذا ينطبق على الكل في هذه الشركة؛ من لا يعمل نُنهي عقده في الحال"، ثم اقترب من أحد العمال وسأله: "مَن هذا الشاب الذي قُمتُ بطرده للتو؟"، فجاءه الرد الذي لم يكن يتوقعه أبداً: "ذلك الشاب يا سيدي هو عامل توصيل الطلبات ويعمل في محل البيتزا المُجاور"!

 

هذا بعض ما يجر إليه تصرف الإنسان وقت الغضب، ومع ذلك، ومع غيره من النتائج الوخيمة للغضب، فإنه وللأسف صار شائعاً بين الناس أن المُدير لا يكون مُهاباً بين الموظفين وناجحاً في إدارته إلا إذا كان من أهل الغضب والعبوس، وأن الأب لا يكون مسموع الكلمة في البيت إلا إذا كان غضوباً، وأن الزوج لا يكون قوي الشخصية مع أهله إلا إذا كان شديد الغضب.

 

يقول العُلماء إن الشريعة الإسلامية قد ذمّت الغضب ونهتْ عنه، إلا إذا كان في الحق، وأرشدتْ مَنْ يقع فيه ويصير سلوكاً مُضراً له ولغيره أن يبتعد عنه وعن أسبابه، وأن يستعين بالله تعالى ويتوكل عليه في كلِّ شؤونه، ويتخذ الإجراءاتِ المساعدةَ له على دفع الغضب؛ كالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن يسكتَ، ويتوضأ إذا غضب، وأن يُغَيِّرَ هيئته، وأن يتحلَّى بخُلق العفو، وألَّا يتسرع، وأن يكظم غيظه ليتمكن من التحكم في نفسه، وأن يعلم أن كلامه محسوبٌ عليه ولو في وقت الغضب، وإن وجد سبيلاً آخر مُباحاً يُساعده فلا بأس به؛ وأولاً وآخراً يدعو الله تعالى أن يقيه شرَّ ما يضرّه؛ فلا مِراء في أن الشخص إذا تصرف وهو على حال الغضب فإن تصرفه لن يكون محموداً؛ بل سيفعل ما لا تُحمد عواقبه، ويندم عليه بعد ذلك غالباً؛ لأن الغضب نارٌ تشتعل في الجسم فلا يكون الإنسان معها مُتحكِّماً في انفعالاته وتصرفاته؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا وَإِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ]، لهذه الخطورة التي يُحدثها الغضب ذمَّت الشريعة الإسلامية الغضب وحذَّرت منه ومن عواقبه؛ قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِياكَ وَالْغَضَبَ، فَإِنَّ الغَضَبَ يُفْسدُ الإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ العَسَلَ]؛ فلخطورة ما يترتب على الغضب، وما قد يَؤُول صاحبه إليه، كان الغضب من حيث الأصل منهيّاً عنه شرعاً؛ لذلك حينما قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: [لاَ تَغْضَبْ] وردد مراراً، قال: [لاَ تَغْضَبْ]؛ فهذا يدل على أن الغضب في أصله منهيٌّ عنه شرعاً، كما يدل الحديث الشريف على أن الابتعاد عن أسباب الغضب وعدم التعرض له وسيلةٌ من وسائل اجتنابه.

إن تطبيق سياسة (لا تغضب) يتطلب وسائل تُساعد الشخص على التخلص من الغضب؛ ومن ذلك:

الابتعاد عن أسباب الغضب؛ بمحاولة التحكم في النفس وكظم الغيظ؛ يقول الله تعالى في وصف عباده المُتقين الذين يستحقون مغفرته: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي: المُمسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، ولا يظهر له أثر]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ؛ مَلأَ الله قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا]. وفي روايةٍ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ].

ومما يُساعد على تطبيق سياسة (لا تغضب) مُداومة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنها تُذهب عن الإنسان كل ما يجد من ضيق النفس والغضب؛ يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

كذلك السكوت؛ فإن الإنسان إذا سكت فقد حافظ على نفسه من الغضب، وساعد نفسه على تهدئة الروع؛ ولذا أوصت السُنة بذلك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ].

والوضوء أيضاً؛ فإن الوضوء يطفئ لهيب الغضب، ويقضي على شرارته؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ].

ومن الوسائل كذلك، ذِكر الله سُبحانه وتعالى؛ فذِكر الله يبعث في القلب خشيةً تُعين الإنسان على التأدب والتحكم في الغضب.

وأن يُغيِّر الإنسان هيئته؛ فإنَّ في ذلك عوناً له على الخروج من حالة الغضب التي هو عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ].

وأيضاً التحلي بخُلُق العفو؛ فمن صارت هذه الصفة خُلُقاً من أخلاقه، صار يصفح عن زلات الناس؛ مما يجعل وقوعه في دائرة الغضب صعباً؛ لذا فقد حثت الشريعة على التحلي بالعفو؛ يقول الله تعالى عن المستحقين لمغفرته: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾.

ومن أساليب تطبيق سياسة (لا تغضب) التأني وعدم التسرع؛ فإذا غضب الإنسان فعليه ألا يقوم بردّ الفعل على الفور، وأن يمتلك نفسه، وأن يُؤجّل قراره إلى حين زوال الغضب؛ فيكون ذلك أنفع له؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ].

وكذلك أن يعلم الإنسان أن الكلمة محسوبةٌ عليه ولو في وقت الغضب؛ وليتذكر أن المؤمن عليه ألا يُخرج من فمه إلا الكلام الطيب.

 

قال الشاعر:

وَلَم أَرَ فَضلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ

وَلَم أَرَ عَقلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَب

وَلَم أَرَ في الأَعداءِ حينَ خَبَرتُهُم

عَدُوّاً لِعَقلِ المَرءِ أَعدى مِنَ الغَضَب

وقال آخر:

لا تغضبنَّ وتعتذرْ

لكنْ تَحَلّمْ وادّكِرْ

غضبٌ يؤول إلى اعتذارٍ

مِنك ضَعفٌ فافتكرْ

ومع ذلك فإن هناك حالاتٍ يكون الغضب فيها مطلوباً، وهي إذا كان هذا الغضب من أجل إحقاق حقٍّ أو إبطال باطلٍ ونحو ذلك؛ فالغضب فيه قد يكون واجباً، وهو: الغضب على أهل الباطل وإنكاره عليهم بما يجوز، وقد يكون مندوباً إليه، وهو الغضب على المخطئ إذا علمتَ أن في إبداء غضبك عليه ردعاً له وباعثاً على الحق.

 

أحبتي.. يُقال إن الغضب الشديد ليس من أخلاق الرجال الكاملين، وأهل الفضائل العاقلين، وإنما يتخلق به أهل اللؤم والعجز والنقص والضعف، فيعوضون عن عجزهم بسرعة غضبهم؛ فلننأى بأنفسنا أن نكون منهم، وذلك بأن نُلزم أنفسنا بسياسة (لا تغضب)، ولا يكون ذلك إلا بأمرين: أولاً أن نتجنب أسباب الغضب، وثانياً -إذا غضبنا- أن نكظم غيظنا، ونضبط أعصابنا، ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ يقول تعالى: ﴿وّإمَّا يّنزّغّنَّكّ مٌنّ الشَّيًطّانٌ نّزًغِ فّاسًتّعٌذً بٌاللَّهٌ إنَّهٍ سّمٌيعِ عّلٌيمِ﴾، ولنتذكر أن الله سُبحانه وتعالى قد امتدح المؤمنين الذين من صفاتهم أنهم: ﴿يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.

اللهم اجعلنا أكثر حِلماً وأوسع صدراً، وأكثر قدرةً على ضبط النفس، واجعلنا اللهم ممن يملكون أنفسهم عند الغضب، وأعنِّا على أن نكون من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/4d6yWt2

الجمعة، 2 مايو 2025

قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع

 

 خاطرة الجمعة /497

الجمعة 2 مايو 2025م

(قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع)

 

رجلٌ سوريٌ صالحٌ كان يرعى أرملةً كبيرةً في السن ومُقعدة، تُقيم في إحدى الغُرف الملحقة بجامعٍ يقع في حي «المُهاجرين» بمدينة «دمشق». لم يكن لهذه الأرملة أحدٌ؛ فأخذ الرجل على عاتقه أن يأتيها كل يومٍ بطعامها وشرابها ويُنظف لها غُرفتها، ثم انتقل إلى سكنٍ جديدٍ بعيدٍ بحي «المزة»، وكَبُر في السن، وصار عُمره ثمانين سنة، ومع ذلك استمر في الذهاب إلى تلك الأرملة كل يومٍ، رغم أنه -كي يصل إليها- يُضطر إلى أن يستقل أكثر من حافلةٍ، فضلاً عن سيره مشياً على الأقدام بعد نزوله من آخر حافلةٍ؛ فأشفق عليه أهله، وقالوا له لقد خدمتها عشرين سنةً، كفى، اترك هذا الأمر لغيرك؛ فكان رده: "لا أستطيع؛ هذا عملٌ التزمتُ به"، فلما رأوه مُصِّراً على خدمتها اقترحوا عليه أن يأتي بها لتُقيم معهم في إحدى غُرف المنزل، فيكونون مُشاركين له في الثواب، ومُخففين عنه ما يُضطر إلى بذله من جهد؛ فجاء بها إلى بيته، وبعد سبعة أيامٍ توفاها الله. هذا عملٌ طيبٌ وَفَّقَ الله سُبحانه وتعالى هذا الرجل وأسرته لعمله، وختم لهم بالتمام والكمال.

 

أحبتي في الله.. وعلى العكس من ذلك؛ هناك من يظل الشيطان يُحاول معه حتى ينتكس؛ فهذا شابٌ خدم والدته اثنتي عشرة سنةً، ثم ضجر، وفي ساعة غضبٍ أسمع أُمه كلماتٍ قاسيةً؛ قال لها: "أليس لكِ أولادٌ غيري؟"؛ فبكت، واتصلت بأحد أولادها الآخرين، وطلبت منه أن تنتقل إلى بيته، وبعدها بيومين توفاها الله؛ فخسر ذلك الشاب ثواب عمله الصالح الذي ظل يُقدمه إلى أُمه كل تلك السنوات.

وهذه شابةٌ كانت نفسها الأمارة بالسوء هي التي تسببت في إنتكاستها؛ فقد كانت منذ صغرها ترتدي الحجاب إرضاءً لأبيها، فلما مات انتكست وخلعت حجابها! يُعلق راوي هذا الخبر بقوله: "يا ليتها تمسكت بالحجاب؛ فشتّان ما بين أن تموت وهي مُحجبةٌ مُلتزمةٌ بتعاليم دينها، أو أن تموت وهي عاصيةٌ تاركةٌ حجابها".

 

يقول أهل العلم إن الشرائع والعبادات ما شُرِّعت للمشقة على الناس، وإزهاق الأنفس، ولا لإهلاك الأبدان، وإنما شُرِّعت لتكون مصدر راحةٍ وسعادةٍ وطُمأنينةٍ، ولإدخال السرور على النفس بالطاعة والعبادة والإنس بالله والإقبال عليه بحُبٍ ورغبةٍ، ومحبة الوقوف بين يديه؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿طَهَ . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾؛ فالدِين يُسرٌ لا عُسر.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أُمته إلى الطريق الصحيح للدِين والتدين؛ فأوضح أنه ينبغي على المؤمن أن يقوم بما يُطيقه من العبادة، مع الترغيب في القصد في العمل؛ حتى لا يُصاب بالملل والفتور؛ فإلزام النفس بما لا تُطيق أمرٌ لا يستحق الثناء لمخالفته السُنة، والدِين الحق هو في مُتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بسُننه، وليس في التشديد على النفس وإرهاقها بالعبادة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ]، ويقول شُرَّاح الأحاديث إن الإسلام حثَّ على مُلازمة الرفق في الأعمال، والاقتصار على ما يطيق المسلم، ويُمكنه المُداومة عليه؛ فكما قيل (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع)، فقوله صلى الله عليه وسلم: "أدْوَمُها"، معناه العمل المُستمر غير المُنقطع إلا بعُذر، وقوله: "وإن قَلَّ" معناه وإن كان ذلك العمل قليلاً.

 

وكان صلى الله عليه وسلم لا يُعجبه أن يقسو الإنسان على نفسه في العبادة، وأن يُحمِّلها ما لا تُطيق؛ لأن مثل هذا العمل لا تستقيم عليه النفس، ولا تستمر عليه ولا تُداوم؛ يقول النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [علَيْكُم بما تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا] أي لا يتوقف الله عن إعطائكم الثواب، حتى تملوا أنتم من العمل وتتركوه، وقيل إن معناه: "مهْما عَمِلْتَ مِن عمَلٍ فإنَّ اللهَ يُجازِيك عليه، فاعمَلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ مِن ثَوابِك حتَّى تَمَلَّ مِن العمَلِ"، والمقصود: لا تكلفوا أنفسكم من الأعمال ما يشق عليكم، فتتركوه بعد ذلك؛ لأنَّ بالدَّوام على القليل تدوم الطَّاعة، والذِّكر، والمُراقَبة، والنِّيَّة، والإخلاص، والإقبال على الخالق سُبحانه وتعالى، ويُثمر القليل الدائم ما يزيد على الكثير المُنقطع أضعافاً كثيرةً.

 

ومما يُروى من حديثٍ في هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذا الدِينَ مَتينٌ؛ فأوْغِلوا فيهِ برِفقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِكَ عِبادَةَ اللهِ، فإنَّ المُنبَتَّ لا أرْضًا قَطَع ولا ظَهرًا أبقَى] فعلى المُسلم أن يتخير عملاً يستطيعه ويقدر عليه؛ من صلاةٍ أو صدقةٍ أو بِرٍ أو صِلةٍ أو غير ذلك، يتقرب به إلى الله، ويُداوم عليه؛ حتى يكون من أحب الناس إلى الله، وليتذكر دائماً الحكمة التي تقول: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).

ومن أيسر تلك الأعمال ما وصفه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله "هو خَيْرٌ مِن خادِمٍ" إذا أوى المُسلم إلى فراشه، أو أخذ مضجعه، [كَبِّر ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وسَبِّح ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وحَمَد الله ثَلاثًا وثَلاثِينَ].

 

وهل أيسر من قولك "الله أكبر" عند كل صعودٍ، وقولك "سُبحان الله" عند كل نزولٍ، سواءً بمصعدٍ أو على دَرَج؟ أو أن تقرأ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرف؟ أو إماطتك الأذى عن الطريق؟ أو إرشادك الغريب والتائه والضال فتكون له هادياً؟ أو أن تُعوِّد نفسك على قول [سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ] في أوقات انتظارك وأوقات فراغك؟

 

إن الأعمال الصالحة مُحيطةٌ بنا حتى ونحن في منازلنا، وفي أماكن عملنا، بل وفي طُرقنا، وبالإجمال في كل مكانٍ يُحيط بنا، بإمكاننا أن نُثقِّل موازين أعمالنا يومياً بما لا يُحصى من الحسنات بالكثير من تلك الأعمال، المُهم: أولاً: إخلاص النية؛ بأن يكون العمل لوجه الله سُبحانه وتعالى وحده، وثانياً: أن يكون مُوافقاً لشرع الله وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أهمية تبييت النية، والاستمرار في العمل دون انقطاع؛ من ذلك: مُحافظتك على الصلاة المفروضة على وقتها مع الجماعة، وِردك اليومي من تلاوة القرآن الكريم ولو بصفحةٍ واحدةٍ، قيامك الليل وتهجدك ولو بركعتين، إحياؤك لسُنةٍ من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم، ترطيب لسانك بذِكر الله، توكلك على الله، تصدقك على المحتاجين، استغفارك عن ذنوبك، لزومك أدعية الصباح والمساء، مُحافظتك على السُنن الرواتب، حرصك على صلة رحمك، دعاؤك لأخيك بظهر الغيب فيقول لك المَلَك "وَلَكَ بمِثْلٍ"، مشيك في مصلحة الناس، حفظك حقوق جارك، إصلاحك بين مُتخاصمين، إعانتك المُحتاج، مُساعدتك الفقراء والمساكين، تبسمك في وجه أخيك، إصغاؤك لحديثٍ مُمِّلٍ لجبر خاطر مُتحدثٍ، مُلاطفتك لطفلٍ، إكرامك لضيفك، نصيحتك لغيرك، إطعامك الفقراء، دعاؤك لميتٍ، عدم ردك سائلاً، وغير ذلك من فرصٍ كثيرةٍ ومُتعددةٍ لتثقيل ميزان حسناتك، المهم في الأمر هو المُداومة والاستمرار؛ وصدق من قال: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).

 

أحبتي.. علينا أن نُعمِّر أوقاتنا بكل عملٍ صالحٍ مُمكن، والعزم على المُداومة عليه، وعدم الانقطاع عنه بغير عُذرٍ، عسى الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتنا.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان. اللهم اغفر لنا ما مضى، وأصلح لنا ما تبقى، وارزقنا رضاك وحُسن الخاتمة، والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم تُب علينا واغفر لنا وارحمنا، وارحم والدينا، ومن لهم فضلٌ علينا وجميع المسلمين. واجعل اللهم خير أيامنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، وأعنِّا ربنا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.  

https://bit.ly/4iIKqEc

الجمعة، 25 أبريل 2025

أرحنا بها يا بلال

 

خاطرة الجمعة /496

الجمعة 25 إبريل 2025م

(أرحنا بها يا بلال)

 

عبَّرت بصراحةٍ تُحسد عليها عن موقفٍ مرَّ بها، وكان هدفها توعية غيرها ممن قد يمرون بنفس الموقف؛ كتبت هذه الفتاة على منصة X تقول:

كنتُ أَمرُّ بفترةِ اكتئابٍ وسخطٍ على الدنيا، كان كل شيءٍ ينال مني، أما أنا فلم أنلْ شيئاً. في ذلك اليوم كنتُ في الجامعة وسمعتُ أذان الظهر، وفي العادة، عندما نسمع الأذان، كنا -أنا وزميلاتي- نستعد فوراً للصلاة؛ فنتوضأ، ثم نُصلي في مسجد الكلية معاً.

لكن في ذلك اليوم، لا أعرف ما الذي دهاني؛ كنتُ واقفةً قرب المسجد وسمعتُ الأذان، لكنني كنتُ منهكةً، كأن حجراً ثقيلاً جاثماً على صدري، حتى إنني سمعتُ الأذان ولم أتحرك للوضوء. وقتها قررتُ ألا أتوضأ، وألا أُصلي، ولا حتى أُكمل اليوم الدراسي! قررتُ أنني سأعود إلى البيت لأنام، ولن أُصلي حين أصل إلى البيت! ولأؤكد لنفسي أنني لا أتدلل، وأن التعب حقيقيٌّ، زيَّن لي الشيطان أن أنام -حين أصل إلى البيت- بالحذاء ولا أخلعه!

وبالفعل؛ ما زلتُ أسمع الأذان، لكني كنتُ أبتعد عن المسجد عائدةً إلى البيت. توجهتُ إلى موقف الحافلات، ركبتُ حافلةً صغيرةً، وفي الطريق، ومن شدة الإرهاق غفَت عيناي. وفجأةً صحوتُ على صراخ الركاب: "انتبه! انتبه!" ثم انقلبت الحافلة مرتين أو ثلاثاً، لا أتذكر. حينها لم أكن أرى ما حولي، لكنني كنتُ أسمع صوتاً داخلياً يسأل: "أأنا ميتةٌ الآن؟ أم لا أزال حيةً؟ وإن متُّ فهل أموت وأنا عازمةٌ على ترك الصلاة؟ يا ليتني كنتُ قد نويتُ الصلاة في البيت! لم أفعل، بل كنتُ عازمةً على عدم الصلاة مُطلقاً! يا الله! إنها الصلاة! أول ما سوف أُسأل عنه، فماذا سيكون ردي؟!".

وبينما أنا غارقةٌ في أفكاري داخل الحافلة المُنقلبة، غير مُدركةٍ لأي شيءٍ في العالم الخارجي، لم أفُقْ إلا على قطراتٍ من البنزين تتساقط على ملابسي. فخفتُ أن تحترق الحافلة وأنا لا أزال داخلها، ناجيتُ ربي: "ربِّ، إني غير مُستعدةٍ للموت على هذه النية! ربِّ، أمهِلني كي أعود إلى رُشدي"! نظرتُ حولي، فرأيتُ الجميع قد خرجوا من الحافلة، ولم يبقَ فيها سواي، ولولا أن سخَّر الله سبحانه وتعالى لي من يُخرجني منها، لكنتُ احترقتُ بداخلها.

الحمد لله؛ احترقت الحافلة بعد أن خرجنا جميعاً منها بسلامٍ، مع كسورٍ وجروحٍ طفيفة. ركبتُ حافلةً أخرى، وظللتُ أبكي طوال الطريق، حتى وصلتُ إلى بيتي. لم أكن أبكي من الجروح، ولا من الكدمات التي تُغطي جسدي كله، لكنني كنتُ أبكي شفقةً على نفسي، وخجلاً من كرم ربي الذي منحني فرصةً جديدةً. أول شيءٍ فعلته حين وصلتُ: توضأتُ وصليتُ. كنتُ أستطيع الصلاة جالسةً -لما في جسدي من كدماتٍ- لكنني قررتُ أن أُعاقب نفسي؛ فصليتُ واقفةً بكل ما بي من ألمٍ، أبكي كما لم أبكِ من قبل؛ لأنني شعرتُ أن هذا أقل شيءٍ أستطيع أن أُعاقب به نفسي عن سوء نيتي. وكان لسان حالي يقول: "إلا الصلاة، قد فهمتُ الدرس: لا ينفع أن نربط حالتنا النفسية بالصلاة".

تلك الحادثة كانت صفعةً قويةً أستحقها، ودعوتُ الله سبحانه وتعالى أن يُعيدني إليه بأي طريقةٍ كلما ابتعدتُ عنه، ولا يقبض روحي إلا وأنا تائبةٌ. أما عن الصلاة؛ فلا يجب أن تكون اختياراً مُرتبطاً بحالتنا النفسية: إن ساءت نفسيتنا، تركناها! بل على العكس تماماً؛ هي التي تُخرجنا من همومنا، وتُخفف أحزاننا، وتجعلنا بخير. تعجبتُ كيف غفلتُ عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"؟ أنا الآن أُذكركم، وأُذكِّر نفسي في عز انتكاستي: "اذكروا هذا كلما انتكستم! عودوا إلى طريق الصواب بأسرع ما يُمكن، حتى لو انتكستم ألف مرةٍ قبلها؛ فإننا لا نعلم متى؟ ولا على أي حالٍ يُدركنا الموت؟ فلنكن مُستعدين له في كل لحظةٍ؛ بالعمل الصالح، أو على الأقل بالنية الصالحة، وإن أخطأنا عُدنا سريعاً وتُبنا، ولا نُصِّر على ما فعلنا؛ فالله يُحب التوابين، وخير الخطائين التوابون".

 

أحبتي في الله.. لله دَرُّ هذه الفتاة؛ كم كانت صريحةً، وكم كانت صادقةً في التعبير عن مشاعرها، وكم كانت شجاعةً؛ فالكثير منا يمر بمواقف شبيهةٍ ويخجل أن يعترف بها علانيةً، فيُضيِّع على نفسه ما حصلت عليه هذه الفتاة من ثوابٍ؛ إذ نبهَّت غيرها إلى ما كان الشيطان سيوصلها إليه، لولا رحمةُ الله عز وجل.

تفاعلت كثيرٌ من الفتيات مع تلك الفتاة بعد أن نشرت قصتها، وكتبن لها إنهن يشعرن بانتكاسةٍ ولا يعرفن كيف يخرجن منها، ففتح الله عليها بفكرةٍ طيبةٍ، لعل فيها مزيداً من الأجر والثواب؛ إذ أنشأت مجموعةً على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، وكتبت تقول: "إن هدفنا من هذه المجموعة أن نكون سنداً لبعضنا؛ فيُقوي بعضُنا بعضاً وقت الانتكاسة، أنا لستُ أقوى منكن، بل قد أكون أضعفكن، لكنني أُحاول، وأُحب مَن يحاول. صحيحٌ أنني قد أتأخر عن الصلاة، لكنني -مثلكن- أخشى أن أموت وألقى ربي وأنا على هذه الحال، اللهم اهدنا يا رب العالمين".

 

وعلَّقت إحداهن على قصة الفتاة فقالت: "حدث لي مرةً أن نمتُ عن صلاة العشاء كسلاً، وقلتُ: إذا قمتُ لصلاة الفجر أُصليها. وكان المطر ينهمر بشدةٍ، وأنا على سريري أتهيأ للنوم، فسمعتُ صوت رعدٍ شديدٍ جداً، فمن الخوف قمتُ وصليتُ! استيقظ ضميري بعد سُباتٍ، شعرتُ أن ربي أرسل لي إشارةً واضحةً ألا أتكاسل، ولله الحمد".

وكتبت أُخرى: "ثبَّتكَ وثبَّتنا الله. الراحة التي أشعر بها حين أؤدي الصلوات الخمس لا تُوصف، كأنني فعلتُ شيئاً عظيماً، وصدق النبي الكريم حينما قال: أرحنا بها يا بلال. أما إذا جمعتُ صلاتين غصباً عني، فإني أحزن جداً، لم أكن أتخيل أن أصل إلى هذه المرحلة. اللهم ثبِّتنا حتى نلقاك".

وكتبت ثالثةٌ: "على ذكر ما حدث: كنتُ في المترو ذات مرةٍ فمال بشدةٍ وكاد أن ينقلب، فلم يخطر ببالي وقتها إلا: يا إلهي، لم أُصلِّ الظهر لأنني كنتُ مُتعجلةً! اللهم اغفر لي، وامنحني فرصةً لمراجعة نفسي، ولا أترك صلاةً إلا وصليتُها في وقتها".

وهذه رابعةٌ كتبت: "يحدث معي نفس الشيء في صلاة الفجر؛ أُؤجلها حتى قُبيل الأذان، فيوسوس الشيطان: نامي، أنتِ مُتعبةٌ! وغداً عندك محاضرات! وأنا من داخلي أعلم أنني أُريد الصلاة، لكن الكسل يغلبني. أسأل الله الهداية".

وأما الخامسة، فقد كانت لا تقل شجاعةً عن الفتاة التي نشرت القصة؛ فكتبت تقول: "أُحس أن قصتك صفعةٌ لي. صرتُ أتهاون في الصلاة بعد رمضان وأجمعها في آخر اليوم. إن شاء الله لا أعود لذلك. جزاكِ الله خيراً، لقد نبهتيني، ادعِ لي بالثبات والهداية".

وكتب شابٌ آخر يقول صراحةً: "مررتُ بنفس الموقف، كل بابٍ يُغلق في وجهي حتى قُلتُ: لن أُصلي العشاء! وكانت أول صلاةٍ أتخلف عنها مُنذ صغري. زيَّن لي الشيطان أن أقول: أنا دائماً أُصلي، ماذا يضر لو تركتُ صلاةً واحدةً؟! وحين قرأتُ قصتك؛ أحسستُ بمدى تقصيري وبغفلتي، جزاكِ الله خيراً، اللهم ثبِّتنا على الإيمان حتى نلقاك".

وكان هذا آخر تعليقٍ: "أنتِ محظوظةٌ بفضل الله سبحانه وتعالى؛ أولاً: لأنه نجاكِ من الموت ومنحك فرصةً جديدةً، وغيرُك حُرِمَها. ثانياً: لأنك استفدتِ من الموقف وتعلمتِ ألا تتخلي عن الصلاة مهما كانت حالتك النفسية، ومهما كانت ضغوط الحياة، وغيرُك قد لا يشعر بذلك. ثالثاً: لأنك التزمتِ بالمُداومة على الصلاة حقاً، وغيرُك قد لا يلتزم".

 

يقول الله سبحانه وتعالى عن الصلاة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، يقول المفسرون: إن الصلاة صعبةٌ إلا على الخاضعين المُخبتين المُطمئنةِ قلوبُهم وجوارحُهم لله تعالى؛ لأنهم موقنون أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا، والسعادة في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها سروراً يجعل نفوسهم تنشط إليها -كلما حلَّ وقتُها- بهمةٍ وإخلاص.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [يا بلالُ، أقمِ الصلاةَ، أرحنا بها] ويقول شُرَّاح الحديث: الصلاة أعظم أركان الإسلام العملية، ولها أهميتها الخاصة في الشرع، وفيها من الروحانيات والصلة بالله ما يجعل القلب يرتاح ويخرج من متاعب الدنيا إلى معية الحق سبحانه، وفي هذا الحديث يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلالٍ رضي الله عنه أن يرفع أذان الصلاة لتُقام؛ فنستريح بها، وكأن دخوله فيها هو الراحة من تعب الدنيا ومشاغلها؛ لما فيها من مُناجاةٍ لله تعالى، وراحةٍ للروح والقلب. وفي الحديث أن الصلاة راحةٌ للقلب من تعب الدنيا ومشاغلها، وفيه بيان عِظَم قدر الصلاة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها ينبغي أن تكون كذلك عند كل مُسلم.

ولا عجب في ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو القائل: [وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ]، وهذا بيانٌ لعظيم محبته لها؛ لما فيها من القُرب من المولى عز وجل؛ فلا شيء يُسعده ويُدخل عليه السرور بمثل ما تُدخل عليه الصلاة؛ فـقُرَّةُ العين" يُعبَّر بها عن المسرة ورؤية ما يُحبه الإنسان.

ومن عجبٍ أن البعض عندما يمر بأزمةٍ أو تتكالب عليه المشاكل أو يجور عليه الناس، ينسى ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف؛ إذ كان "إذا حَزِبَهُ أمْرٌ صلَّى" {حَزِبَهُ أمرٌ: أي أحزنه أو أصابه همٌّ}؛ ذلك أن الصلاة -كما يقول شارحو الحديث- صِلةٌ بين العبد وربه، وهي عبادةٌ جليلةٌ، فيها تصفو الروح من الكدر والمُنغصات، وفيها يقف العبد بين يدي ربه يدعوه لتفريج همومه؛ فهو وحده القادر على إزالة الهَم والحزن وتسهيل الصعاب. وفي هذا الحديث توجيهٌ لنا إلى حُسن التوكل على الله، واللجوء إليه في كل الأمور، واللجوء إلى الصلاة وقت الضيق، وحين تُحيط بنا الشدائد.

 

وتحت عنوان (أرحنا بها يا بلال) يقول الشاعر:

الصَّلاةُ ارْتِقاءٌ إلى ذي الْجَلالْ

وَبِها يَرْتَقي كُلُّ فِعْلٍ حَلالْ

لَمْ تَزَلْ تَمْلَأُ الْقَلْبَ أَنْوارُها

وَبِأَنْوارِها تَسْتَقيمُ الْخِصالْ

كَمْ تُنَظِّمُنا بِمَواعيدِها

فَمَواعيدُها لَيْسَ فيها اخْتِلالْ

هِيَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِخَيْرِ الْوَرى

وَلَنا نَحْنُ أَيْضاً، فَيا لَلْجَمالْ

وَهْيَ نَهْرُ الْأُجورِ، وَمِنْ مائِها

نَتَطَهَّرُ مِمّا يَشينُ الْفِعالْ

وَإذا ما وَجَدْنا بِها راحَةً

فَالرَّسولُ لَنا يا أَحِبّاءُ قالْ

يا لَهُ مِنْ رَسولٍ وَمِنْ قائِلٍ

حينَ قالَ: (أَرِحْنا بِها يا بِلالْ)

 

أحبتي.. لتكن الصلاة أول ما نهتم به، نُحافظ على إقامتها على وقتها، أياً كان ما نمر به من ظروفٍ، وعلى أي حالٍ كُنا؛ فلا نترك للشيطان علينا سبيلاً.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، واجعل الصلاة قُرة عينٍ لنا، واجعلنا نتأسى بقدوتنا صلى الله عليه وسلم؛ فنقول في أنفسنا مع كل أذانٍ: (أرحنا بها يا بلال).

https://bit.ly/4iR0ILD

الجمعة، 18 أبريل 2025

ذات الدِّين

 

خاطرة الجمعة /495

الجمعة 18 إبريل 2025م

(ذات الدِّين)

 

يقول راوي القصة: كنتُ أُرافق زوجتي في أحد الأيام لزيارة طبيب عظامٍ؛ لأنها كانت قد تعرضت للسقوط على ساقها. جلسنا في عيادة الطبيب، وكل شخصٍ كان مشغولاً بشيءٍ ما؛ أحدهم كان يُمسك بهاتفه المحمول، وآخر كان يتحدث مع الشخص الذي بجواره، وثالثٌ كان يقف ليُدخِّن سيجارةً في شُرفة العيادة، وكان الشعور بالضيق والملل واضحاً على وجوه الجميع. شعرتُ بالملل، فخرجتُ قليلاً إلى الشُرفة بعد أن غادرها من كان يُدخِّن سيجارته، ثم عُدتُ بعد قليلٍ، وعندما جلستُ أدركتُ أن شعور الإنسان عند قراءة كلماتٍ في مقالٍ أو كتابٍ أو منشورٍ على وسائل التواصل الاجتماعي يختلف تماماً عن شعوره عندما يُشاهد هذه الكلمات حيةً أمام عينيه، هذا ما حدث معنا ونحن في العيادة؛ إذ فجأةً، ساد الصمت، وجلس الجميع في صمتٍ تامٍ حتى جاء موعد أذان العشاء، الذي استمعنا له من هاتف أحد الموجودين، رددَّنا الأذان مع المؤذن، وعُدنا إلى صمتنا الذي لم يقطعه إلا صوت طفلٍ - لا يزيد عُمره عن سبع سنواتٍ - يسأل أُمه وهو يُشمِّر عن ثيابه: "أين الحمّام؟"، أخذته أُمه وذهبت معه إلى الحمّام، لكنه توقف فجأةً، ونظر إلينا وقال: "هل ستظلون جالسين هنا؟ ألن يُصلي أحدٌ منكم؟"، ضحكنا على كلامه، ثم عُدنا إلى السكوت.

ترك الطفل يد أمه وهو غاضبٌ، وذهب ليتوضأ وعاد بوجهٍ مُشرقٍ كالقمر، ثم بدأ يبحث عن شيءٍ يُصلي عليه، دخلت السكرتيرة وأحضرت له سجادة صلاةٍ، وقف الطفل على السجادة وقال: "هل سأُصلي وحدي؟" ظل الجميع صامتين، ثم قال الطفل ببراءةٍ: "أليس الله الذي نُصلي له هو الذي يشفيكم؟ وأنتم هُنا من أجل أن يشفيكم، كيف سيشفيكم إذا لم تشكروه أو تحمدوه أو تتحصنوا بفضله؟". دمعت عيون الحاضرين من كلامه، وأكمل هو قائلاً: "على أية حال، كل شخصٍ مسؤولٌ عن أعماله"، ثم قال: "سأُكَبِّر وأبدأ في الصلاة"، قمتُ ووقفتُ إلى جانبه، وقلتُ له: "انتظر، سأُصلي معك".

وفور دخولي الحمّام لأتوضأ، قام باقي الرجال الذين كانوا مُنتظرين في العيادة ودخلوا ليتوضؤوا، وبعد أن انتهى الرجال من الوضوء دخلت النساء للوضوء كذلك. عندما أصبحنا كُلنا مُستعدين للصلاة أخذتنا السكرتيرة إلى غُرفةٍ خاليةٍ لنُصلي فيها، وفيما كُنا نستعد للصلاة، خرج الطبيب من غُرفته وسأل: "لماذا لم يدخل أحدٌ؟ أين السكرتيرة؟"، شرحت له السكرتيرة الموقف، فوقف مصدوماً للحظةٍ، ثم مسح على رأس الطفل بفخرٍ، وقال ووجهه يُعبر عن سعادته: "انتظروني قليلاً حتى أتوضأ؛ سأُصلي معكم". صلينا جميعاً معاً، وبعد الصلاة استغفرنا الله قليلاً، ثم حدث ما لم يكن في الحُسبان؛ فاجأنا الطبيب بأنه قرَّر عدم أخذ أية أتعابٍ من أي مريضٍ في تلك الليلة، وجعل جميع الاستشارات مجانيةً، ووهب حسنات ذلك للطفل.

بكت والدة الطفل من الفرحة، وقالت ويداها ترتجفان: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟"، ثم أمسكت بهاتفها المحمول واتصلت بزوجها - الذي عَلِمْنا فيما بعد أنه مُسافرٌ ومُقيمٌ في الخارج - وأخبرته بما حدث، ومن شدة سعادته، كنا نسمع ضحكته وفرحته عن بُعد.

في تلك اللحظة، قلتُ في نفسي: "نِعْمَ الأُم (ذات الدِّين).

 

أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت أُم ذلك الطفل أُمّاً يصدق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.

 

أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت أُم ذلك الطفل أُمًّا يُصدَق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.

 

وينطبق هذا الوصف أيضاً على الكثير من الأُمهات المؤمنات، ومنهن هذه الأُم التي يحكي عنها أحد مُعلمي القرآن الكريم في أحد المساجد، كتب يقول: أتاني ولدٌ صغيرٌ يُريد التسجيل في حلقة التحفيظ، فسألته: "هل تحفظ شيئاً من القرآن؟"، فقال: "نعم"، فقلتُ له: "اقرأ من جُزء عمَّ"؛ فقرأ، فقلتُ: "هل تحفظ سُورة تبارك؟"، فقال: "نعم"، فتعجبتُ من حفظه برغم صغر سنه؛ فسألته عن سُورة النحل؛ فإذا به يحفظها فزاد عجبي، فأردتُ أن أعرف إن كان يحفظ شيئاً من السور الطوال فسألته: "هل تحفظ سُورة البقرة؟"، فأجابني بنعم؛ وإذا به يقرأ ولا يُخطئ، فسألته: "يا بُني، هل تحفظ القرآن كله؟"، فقال: "نعم"! طلبتُ منه أن يأتي في اليوم التالي ويُحضر ولي أمره. كنتُ أتعجب؛ كيف يُمكن أن يكون ذلك الأب؟ فكانت المُفاجأة حينما حضر الأب ورأيته وليس في مظهره ما يدل على التزامه بالسُّنَّة، فبادرني قائلاً: "أعلم أنك مُتعجبٌ من أنني والده، لكني سأقطع حيرتك؛ إن وراء هذا الولد (ذات الدِّين) أقصد زوجتي وأُم أبنائي، وأُبشرك؛ إن لديّ في البيت ثلاثة أبناء كلهم يحفظون القرآن، وأن ابنتي الصغيرة التي تبلغ من العُمر أربع سنواتٍ تحفظ جزء عمَّ"، فتعجبتُ وسألته: "كيف ذلك؟!"، فقال لي: "عندما يبدأ الطفل منهم في الكلام تبدأ أُمه معه بتحفيظه القرآن، وتُشجع جميع أبنائنا على ذلك؛ فمن يحفظ أولاً هو من يختار وجبة العشاء في تلك الليلة، ومن يُراجع أولاً هو من يختار أين نذهب في عُطلة نهاية الأُسبوع، ومن يختم أولاً هو من يختار أين نُسافر في الإجازة، وبهذه الطريقة تجعلهم أُمهم يتنافسون في الحفظ والمُراجعة".

 

ما أعظم المرأة؛ أُمًّا وزوجةً وأُختاً وبنتاً عندما تكون ممن مدحها النبي صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها (ذات الدِّين) عندما قال: [تُنكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].

والمعنى كما يقول شارحو الأحاديث: أن اللائق بذي المُروءة أن يكون الدِّين مطمحَ نظره في كل شيءٍ، لا سيما فيمن تطول صحبته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم باختيار (ذات الدِّين) التي يقول أهل العلم عن صفاتها إن منها:

طاعة الزوج، وعدم مُخالفته إذا أمر بالحق؛ سُئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ فقال: [الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ].

والتي تُعين الزوج على إيمانه ودِينه، تأمره بالطاعات، وتمنعه من المحرَّمات؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ].

ومن صفات (ذات الدِّين) أن تكون مُطيعةً لربها، وقائمةً بحق زوجها في ماله، وفي نفسها، ولو في حال غياب الزوج؛ يقول تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، يقول المفسرون: ﴿قَانِتَاتٌ﴾ أي: مُطيعاتٌ لله تعالى، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي: مُطيعاتٌ لأزواجهن، حتى في الغيب تحفظ زوجها في نفسها، وماله.

والمرأة الصالحة من السعادة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ]، والمرأة الصالحة هي خير متاع الدنيا؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ].

وهي خير النساء إذا توافرت فيها صفات حُسن صُحبة زوجها؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ].

 

ومن معاني (ذات الدِّين) قيام المرأة بالطاعات، والأعمال الصالحات، والعفة عن المُحرَّمات؛ فتجمع بين: طاعة ربها بفعل ما أمر به من الواجبات، وترك ما نهى عنه من المُحرَّمات، وطاعة زوجها، وهي التي بشَّرها النبي بكرامةٍ عاليةٍ عند دخول الجنة؛ يقول عليه الصلاة والسلام:
[إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ].

وبهذا يُعرف أن "الدِّين" كلمةٌ جامعةٌ، تشمل أصنافاً من العبادات، وأنواعاً من الطاعات، وأخلاقاً وشمائل، وكلما كانت المرأة أكثر حياءً، وعِلماً، وعبادةً، كانت أقرب للمقصود من (ذات الدِّين)؛ فتُربي أبناءها خير تربية.

وما أروع تلك الأُم المثالية التي ربّت أبناءها على الصلاة، وعلى حفظ القرآن الكريم، وشجعتهم، وحفزتهم على ذلك.

وكأني بها وقد اطّلعت على حديث النبي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ رَاعٍ، ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]، واختص المرأة بقوله: [وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا].

فهنيئاً لتلك المرأة، وهنيئاً لزوجها بها، وهنيئاً للأبناء بأُمهم، وللوالدين بأبنائهما.

هنيئاً لهذه المرأة الصالحة (ذات الدِّين) التي أمّنت مُستقبل أبنائها، وحرصت على أن يكونوا مع المُحافظين على صلواتهم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [أوَّلُ ما يُحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ: الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ، فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه].

كما حرصت على تحفيظهم القرآن الكريم الذي يأتي شفيعاً لهم يوم القيامة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ وارتَقِ، ورَتِّل كما كنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا].

وقال أيضاً: [وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ، وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا].

فهنيئاً لوالدَي أولئك الأبناء من حفظة القرآن، وهما واقفان يوم المحشر، ينظران إلى أبنائهما يرتقون، ويرتفعون إلى أعلى منزلةً، ويلبسون تاج الوقار، ورُفِع على رأسي الوالدين تاجٌ، وأُلبِسا حُلَّتين من حُلَل الجنة. يا له من تكريمٍ يتمناه كلٌّ منا.

إن التربية عمليةٌ يشترك فيها الأب والأُم، لكن العبء الأكبر يقع على عاتق الأُم، كما أن مسؤولية الوالدين تتضاعف في تربية البنات، وإعدادهن ليكنَّ أُمّهاتٍ صالحاتٍ؛ فهُنَّ مُربيات الأجيال اللواتي أشار لهنَّ الشاعر بقوله:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدتَها

أعدَدتَ شعباً طيِّبَ الأعْراقِ

 

أحبتي .. بارك الله في كل امرأةٍ، وكل بنتٍ، وكل أمٍ ممن تربين تربيةً صالحة، جعلت كل واحدةٍ منهن من المُسْلمات (ذات الدِّين)، وأكثرَ من أمثالهن؛ فكم هي رائعةٌ تلك الأُم التي غرست في أبنائها الحرص على إقامة الصلاة على وقتها، وتلك التي شجعت أبناءها على حفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظفارهم، لينشأ هؤلاء جميعاً نشأةً دينيةً صحيحةً، ويكونوا حجر الأساس لجيلٍ صالحٍ لأنفسهم، مُصلحٍ لغيرهم.

اللهم أعنّا على أن نكون آباءً وأُمهاتٍ صالحين، نافعين لأنفسنا، ولأبنائنا، ولمجتمعنا.
ووفقنا اللهم لنكون من الصالحين، ولنكون من المُصلحين.

https://bit.ly/4ioxgfI