خاطرة الجمعة /451
الجمعة 14 يونيو 2024م
(دعاء يوم عرفة)
قصةٌ حقيقيةٌ كتبتها إحدى الفُضليات تتحدث عن أخيها «خالد» فتقول:
كان صبياً بعد بنتين، ما شاء الله، وأي صبي! طار الجميع فرحاً، فلم يكن أي
صبي؛ جميل الملامح، أبيض البشرة، واسع العينين فأي صبي! تمنيتُ أن يكون اسمه
«خالداً» تيمناً ب«خالد ابن الوليد» فكان لي ماتمنيتُ. مضى قرابة الشهر الأول منذ
ولادته ثم حدث ما لم يكن في الحُسبان؛ كل شيءٍ صار فجأةً وبلمح البصر: سعالٌ
شديدٌ، حمى، ثم خارت قوى الصغير الأمير الوسيم، وخارت قوانا حزناً عليه، حلّ الضيق
والكدر ضيفاً ثقيلاً، فسُبحان من له الدوام. أُدخل «خالد» قسم الطوارئ بالمُستشفى،
قلَّبَه الأطباء، حاول الأطباء، عجز الأطباء، ولا نتيجة واضحة! أثنوا جسده الصغير
بأقسى ما يكون لسحب عينةٍ من النُخاع للوصول لأية نتيجةٍ، ولا نتيجة واضحة! أعيوا
أطرافه الصغيرة سحباً من أوردتها حتى ما عاد وريدٌ يظهر، ولا نتيجة واضحة! ثم
ألقوا بجسده الصغير المكبّل بالأجهزة على سريرٍ كبيرٍ أكرهه، وقالوا: "اشتباه
حمّى شوكية"!
كان شقيقي الصغير الجميل الذي أسميته مُلقىً على طرف السرير الكبير -الذي
أكرهه- لا يستره سوى حفّاضةٍ بلون بشرته وقلبه الصغير، لا زلتُ أتذكر ذبول عينيه
وبكائي على ذاك الذبول. أخبر الأطباء والديّ أن يدعوا لفلذة كبديهما بالخير
فمستقبله لا يُبشر بخيرٍ، ولربما ذاك هو الأفضل، فأية قسوةٍ! دعوةٌ قاسيةٌ أرى
فيها من القُنوط ما فيها! كثيرٌ ممن حولي سمعتهم يدعون بدعاء اليائسين -حتى
والديّ- بعد أن أقنطهم الأطباء، كنتُ أغضب؛ فالله قديرٌ ورحيمٌ وعليم، الله عظيمٌ
حيث لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، فماذا لو قالوا شفاه الله وأبقاه؟!!
لِمَ اليأس والقنوط ولدينا ربٌ كريم؟!!
بقي «خالد» في مكانه في قسم العناية الفائقة بلا تحسنٍ يُذكر لعدة أيام،
حتى حلّت خير أيام الدنيا، كانت مثل هذه الأيام من شهر ذي الحجة، فاغتنمنا الفرصة
بفضلٍ من الله ومِنةٍ، الجميع كان يدعو ل«خالد» في يوم عرفة، الجميع صوب ملاذٍ
واحدٍ؛ فارج الكُرَب ومُنتهى الآمال والأحلام سُبحانه. حرصتُ في ذلك اليوم أن
أتواصل مع كل صديقاتي ممن أحسبهم على خيرٍ -والله حسيبهم- وأطلب منهم الدعاء
ل«خالد» عند الإفطار بعد الصيام؛ إذ أن (دعاء يوم عرفة)، خاصةً وقت إفطار الصائم،
فيه استجابةٌ بإذن الله. أما أنا فكان لي شأنٌ آخر؛ كان لي موعدٌ مع ربي رجوتُ أن
لا يردني فيه، قُبيل أذان المغرب توضأتُ للصلاة ودخلتُ غرفتي، أغلقتُ الباب على
نفسي، وجثوتُ على رُكبتيّ، أشعثتُ شَعر رأسي، قد يستغرب البعض ولكني أحببتُ أن
أُبدي كامل مسكنتي وذُلي لربي علّه يغفر لي ذنبي ويرحمني فيستجيب دعائي، كان أجمل
ذلٍ وأروع مسكنةٍ، ذلٌ يرفعك لتسمو! دعوتُ الله وبكيتُ وبكيتُ وبكيت، كنتُ أشعر أن
بكائي يخرج من عُمق صدري، ثم اطمأننتُ فقد أرسلتُ أُمنياتي إلى حيث لا خيبة، فكيف
تكون خيبةٌ مع (دعاء يوم عرفة)؟ مضت أيامٌ قلائل ثم شُفي «خالد» والحمد لله؛ فكانت
فرحةً لا تُوصف، بقي لأشهرٍ في زياراتٍ دوريةٍ للمُستشفى، وعلاجاتٍ روتينيةٍ،
والحمد لله على كل حالٍ "مرّت وعدّت" كما يقولون. بعد مُضي عدة أشهرٍ
رأيتُ فيما يرى النائم وكأنّي أغسل كفّيّ أتوضأ وضوئي للصلاة، وفجأةً خُلِع أحد
كفٌيّ من مِفصله ونُزع من مكانه، فكأنني استحييتُ فأعدتُ تركيب كفّي إلى مفصله
وخرجتُ وانتهت الرؤيا؛
تعجبتُ من هذه الرؤيا فاتصلتُ بأحد المُفسرين المحمودين في ذلك الشأن -ولا
أزكيه على الله- قال لي: "هل كان لديكم قريبٌ مريضٌ مرضاً شديداً شارف على
الهلاك وقد شفاه الله؟"، بصعوبةٍ تذكرتُ أخي فأخبرته؛ أكثَرَ من الاستغفار
والذِكر ثم قال: "إذا صدقت الرؤيا فإن ذاك الصبي قد قُدّر له قَدَرٌ وردّه
الله إليكم بدعائكم والله أعلم!"، فسُبحان الله الكريم، سُبحان الملك العظيم،
سُبحانه ما كان ﴿لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾.
أخي «خالد» الآن -ما شاء الله لا قوة إلا بالله- شابٌ يافعٌ في الثامنة
عشرة من عُمره، لطيفٌ ومحبوبٌ، على مشارف الجامعة، دعواتكم له بدوام الصحة وطول
العُمر والبركة.
أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى وقعت أحداثها يوم وقفة عرفة كذلك،
يقول صاحب القصة:
إنه لم يكن دعاءً بل حوارٌ مع الله، حينما حدث لزوجتي في يوم عرفة فجأةً
نزيفٌ داخليٌ وكادت تموت بين يديّ، ولم أجد أحداً يُسعفني. توجهتُ بسرعةٍ إلى
المُستشفى لإجراء عمليةٍ لوقف النزيف؛ فطلب مني الطبيب ثلاثة أكياس دمٍ من فصيلةٍ
نادرةٍ، ولم أجد سوي كيسٍ واحدٍ فقط في بنك الدم ومطلوبٌ أمامه عشرة مُتبرعين
أصحاء، ولم يبقَ من الوقت سوي ساعةٍ، ولم يكن معي سوى مُتبرعٍ واحدٍ يصلح لذلك
الأمر، تخيلتُ وقتها أن أطفالي سوف يكونون يتامى، خاصةً صغيرهم الذي لم يتعدَ
عُمره سنواتٍ ثلاث، أحسستُ بالعجز وكنتُ على وشك البكاء؛ فهرولتُ نحو نافذةٍ
بعيداً عن الناس، وتطلعتُ إلى السماء أُناجي ربي؛ كيف يتركني وحيداً عاجزاً، وهو
دائماً بجواري؟ كيف لهذا الطفل الصغير ألا يرى أمه ثانيةً؟ كنتُ أبكي كثيراً وأنا
أتحدث إلى الله سُبحانه وتعالى وأتضرع إليه بالدعاء، و(دعاء يوم عرفة) مُستجابٌ
بإذن الله. غمرني شعورٌ بأني راضٍ بقضاء الله وقدره. عُدتُ إلى بنك الدم فإذا كل
شيءٍ قد تغير؛ كأن هنالك جنوداً مُجندةً هبطت من السماء؛ فالجميع يُهرول ويُساعدني
بدون معرفةٍ، والطبيب قام بالعملية بغير أن ينتظرني، هرولتُ بهذا الكيس من الدم
وخرجت زوجتي من غرفة العمليات، وشعرتُ ببعض الراحة؛ فقد أرسل الله جنوده إليّ
وكأنه سُبحانه يقول لي "لا تحزن فأنا معك". الطبيب يحتاج إلى كيس دمٍ
آخر بشكلٍ عاجلٍ حيث نزفت زوجتي كثيراً؛ فنظرتُ إلى السماء في صمتٍ فإذا بشخصٍ لا
أعرفه يُخبرني بأنه وجد كيساً وسوف يذهب لإحضاره لي! حمدتُ الله على نعمته. فوجئتُ
بالطبيب يطلب كيساً ثالثاً؛ فإذا بشخصٍ ثانٍ يُخبرني أنه وجد كيساً آخر وسوف يأتي
في الصباح ومعه مُتبرعين، وبالفعل حضر ومعه المُتبرعون! الحمد لله تم شفاء زوجتي،
وشعرتُ أن الله بجواري، وأنني بالفعل وجدتُ جنوداً من عنده هُم مَن قاموا بتسهيل
كل شيء! إنه (دعاء يوم عرفة) المستجاب؛ فهو سُبحانه الله القائل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أفضلُ أيامِ الدُنيا أيامُ العشْرِ]
ويُجمع الفقهاء على أن المقصود بها الأيام العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة. ويوم
عرفة هو آخر هذه الأيام قبل يوم التضحية؛ لذا فإن فيه خير الدعاء؛ يقول المُصطفى
صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا
قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ] فهذا هو أكثر الذِكر بركةً وأعظمه ثواباً وأقربه إجابةً. ويقول عليه الصلاة
والسلام: [ما مِنْ يَومٍ أَكْثرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيهِ
عَبدًا أو أَمةً منَ النَّارِ مِن يومِ عَرَفةَ]، فالله عزَّ وجلَّ فضَّل بعض
الأيام على بعض، والأيام الفاضلة هي مواسم لنفحات الله وعطاياه لعباده، يغفر فيها
الذنوب، ويرفع فيها الدرجات، ومن تلك الأيام الفاضلة يوم عرفة، وفي هذا الحديث
يُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يكون في يوم عرفة من الخلاص عن العذاب،
والعتق من النار، أكثر مما يكون في سائر الأيام.
يقول أهل العلم إن يوم عرفة يُعَد فرصةً للتوبة النصوحة والإنابة إلى الله،
والاستغفار والتوسل إليه بصالح الأعمال، كما يتوجب على المسلمين في يوم عرفة -لغير
الحاج- الصيام والدعاء والاستغفار، واستغلال هذا اليوم العظيم بكل ما يُقرِّب إلى
الله من الأعمال الصالحة.
أحبتي.. يوم عرفة يوم استجابة الدعاء وتحقيق الأمنيات بإذن الله، يومٌ يفوز
المسلم فيه إذا أحسن استغلال هذا اليوم بالعمل الصالح والصيام والطاعة وقراءة
القرآن وغيرها من العبادات التي تجعل العباد ينالون مغفرة الله ورحمته.
وغداً يوم عرفة؛ ارفعوا أكفكم واطرحوا أمانيكم واعرضوها على ملك الملوك فلن
يردها صفراً؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ حيِىٌّ كريمٌ يستحي إذا
رفعَ الرَّجلُ إليْهِ يديْهِ أن يردَّهما صفرًا خائبتينِ].
اللهم هذا (دعاء يوم عرفة) نتقرب به إليك، فتقبل منا صيامنا ودعاءنا وصالح
أعمالنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار. اللهم
إنا ظلمنا أنفسنا ظُلماً كثيراً كبيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا
مغفرةً من عندك، وارحمنا رحمةً نسعد بها في الدارين، وتُب علينا توبةً نصوحاً لا
ننكثها أبداً، وألزمنا سبيل الاستقامة لا نزيغ عنها أبداً. اللهم انقلنا من ذُل
المعصية إلى عِز الطاعة، واكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، ونوِّر
قلوبنا، وابعد عنا الشر كله، واكتب لنا الخير كله. اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى
والعفاف والغنى. اللهم يسرِّنا لليُسرى وجنبنا العُسرى، وارزقنا طاعتك ما أبقيتنا،
إنك سُبحانك على كل شيءٍ قدير.
https://bit.ly/45rlkEP