خاطرة الجمعة /465
الجمعة 20 سبتمبر 2024م
(المرأة الصالحة)
يقول راوي القصة: رجلٌ مرضت امرأته، فبكى عليها بكاءً شديداً، فسألته:
"لِمَ تبكي عليها هذا البكاء؟"، فقال: "إنني أخشى أن تموت"،
ثم شرع يقص بعض شأنها معه، يقول: "إنها ابنة مُقاولٍ كبيرٍ وشهيرٍ وصاحب
مالٍ، وكنتُ عاملاً عنده، فلما لمس المقاول مني الإخلاص والأمانة والجد والتفاني
جعلني رئيساً للعمال، فمارستُ عملي الجديد بكل إخلاصٍ وود، فأراد الرجل الذكي أن
يحتفظ بماله عند يدٍ أمينةٍ؛ فلربما قال في نفسه: "أُزوج ابنتي من هذا
الرجل"، فزوجني ابنته، فحفظتُ له هذا المعروف. وكنتُ فقيراً، لم يكن عندي من
المال ما أستطيع أن أجعل ابنته في مستوى معيشة أبيها، فكانت الأيام والأسابيع
وربما الشهور تمضي علينا لا نأكل لحماً، وكان موعدنا كل يوم جمعةٍ عند والدها على
مائدة الغداء، فيأتي بما لذَّ وطاب وما تشتهيه الأنفس وتسر به الأعين، فكنتُ ألاحظ
دائماً أنها لا تأكل شيئاً من اللحم ولا من الدجاج ولا من البط، رغم أنها لا ترى
هذه الأصناف في بيتنا. ظلت على ذلك زمناً وأنا لا أعرف السبب، حتى قالت لي والدتها
ذات يومٍ: "لا تجعل ابنتي تأكل لحماً دائماً حتى تأكل منه عندما تأتي إلينا؛
فكلما سألناها لماذا لا تأكلين من اللحم تقول تعبنا من كثرة أكل هذه الأشياء، نأكل
لحماً ودجاجاً وبطاً كل يوم"، فذرفت عينايّ، وصرتُ أُحضر لها بعضاً من اللحم
كلما استطعت ذلك.
يقول الراوي فقلتُ له: "يحق لك أن تبكي؛ فإن (المرأة الصالحة) لا تفضح
زوجها ولا تكشف ستره أبداً".
أحبتي في الله.. إنها بالفعل امرأةٌ صالحةٌ؛ تعمل بأصلها وتستر على زوجها
وتصون سره وتحفظ كرامته وتُعلي من قدره في عيون الآخرين، تبذل كل جهدها كي يظل في
نظر الناس رجلاً كاملاً، حتى ولو لم يكن كذلك، ومن فينا الكامل؟
(المرأة الصالحة) هي عونٌ لزوجها ليكون ناجحاً، توفر له الجو الذي يُساعده
على تحقيق أهدافه في الحياة، وهي تعلم أن العمل هو حياة الرجل كما البيت بالنسبة
للمرأة، يحرص دائماً على النجاح والتفوق في عمله؛ فتُساعده زوجته الصالحة بكل ما
تستطيع.
يُذكرني هذا بقصةٍ حدثت منذ أكثر من قرنٍ من الزمان بمدينة «ديترويت» في
«الولايات المتحدة الأمريكية» حيث كان أحد الشباب يعمل كميكانيكي بشركةٍ مُتواضعةٍ
يحصل علىٰ راتبٍ صغيرٍ أسبوعياً مُقابل مدة عملٍ طويلةٍ في اليوم الواحد، لكنه كان
طموحاً؛ فحين يصل إلى منزله في المساء يقضي نصف الليل في حظيرةٍ خلف بيته، عاكفاً
على مُحاولة صُنع نوعٍ جديدٍ من المُحركات. وفيما كان والده الفلاح يعتبر مُحاولات
ابنه ضرباً من العبث، كانت زوجة الشاب هي الوحيدة بين أهله وجيرانه التي تُشجعه،
وكانت تقضي معه طيلة الليل تشد من أزره وتُلهب حماسه. وعندما يحل فصل الشتاء كانت
تحمل له في يدها مصباح الغاز لتضيء له، بينما أسنانها تصطك من شدة البرد، وكان
زوجها يُطلق عليها لقب "المؤمنة". استمرت معه على هذه الحال ثلاث سنوات.
في عام 1893م أشرف العمل على نهايته، وكان الشاب يومئذٍ قد قارب الثلاثين من
عُمره، وفي يومٍ من أيام تلك السنة تناهى إلى سمع الجيران صوتٌ غريبٌ لم يألفوه من
قبل؛ فهُرعوا على أثره إلى نوافذهم فرأوا عجباً؛ رأوا الشاب الذي كانوا يسخرون منه
«هنري فورد» وزوجته يركبان عربةً تجري بلا خيولٍ، وشاهدوا بأعينهم المُحملقة
المذهولة تلك العربة العجيبة تصل إلى نهاية الشارع ثم تعود. يومئذٍ شهد العالم
مولد اختراعٍ جديدٍ كان له أبلغ الأثر في تطور المدنية الحديثة، ألا وهو اختراع
محرك السيارة! وإذا كان «هنري فورد» هو "أبو هذا الاختراع" فقد استحقت
زوجته عن جدارةٍ أن تكون "أم هذا الاختراع". وقد سُئل «هنري فورد» بعد
أكثر من أربعين عاماً من تاريخ اختراعه، ماذا يُحب أن يكون لو عاش على الأرض حياةً
ثانية؟ أجاب بقوله: "لا يهمني ماذا أكون بقدر ما يهمني أن تكون زوجتي بجانبي
فيها".
حقاً؛ إن وراء كُل رجلٍ عظيمٍ تقف (المرأة الصالحة) مُحفزةً لزوجها، داعمةً
له، تشد من أزره وتُعينه. وحقاً أيضاً؛ إن كُل امرأةٍ صالحةٍ قادرةٌ بوفائها
وعطائها على أن تُقدم للعالَم أعظم الرجال.
عن (المرأة الصالحة) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ،
وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، ويقول عليه الصلاة
والسلام: [مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ
زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ؛ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا
سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا
نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ]. وهذا إرشادٌ وتوجيهٌ من النبي صلى الله عليه
وسلم للرجال والشباب باختيار (المرأة الصالحة) للزواج؛ لأنها من أعظم النعم على
الإنسان في الدنيا، يفرح بالنظر إليها، وبطاعتها له، وهي عفيفةٌ تحفظ نفسها إذا
غاب عنها، وأمينةٌ تحفظ ماله، فهي صالحةٌ في دينها ونفسها، ومُصلحةٌ لحال زوجها.
يقول أهل العلم إن (المرأة الصالحة) هي التي تحفظ نفسها وعِرضها في حضور
زوجها ومغيبه، وفي الصغير والكبير. يقول سبحانه وتعالى: ﴿فالصَّالِحَاتُ
قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ﴾. وهي التي تتحلى بالخُلُق
الحسن، والأدب الرفيع، فلا يُعرف منها بذاءة لسانٍ ولا خبث جنانٍ ولا سوء عشرةٍ،
بل تتحلى بالطيب والنقاء والصفاء، وتتزين بحُسن الخطاب، ولُطف المُعاملة، وتتقبل
النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجدال والمِراء
والكبرياء. وخير النساء التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا حُرمت صبرت، تسرك إذا نظرتَ،
وتطيعك إذا أمرتَ. وهي المؤمنة التقية التي تسعى دوماً إلى تقوية صلتها بربها؛ فلا
تترك فرضاً، وتحرص على شيءٍ من النفل، وتُقدِّم رضى الله سبحانه على كل ما سواه.
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].
وهي التي ترى فيها مُربيةً صادقةً لأبنائك، تُعلمهم الإسلام والخُلُق
والقرآن، وتغرس فيهم حب الله وحب رسوله وحب الخير للناس، ولا يكون همُّها من
دنياهم فقط أن يبلغوا مراتب الجاه والمال والشهادات، بل مراتب التقوى والديانة
والخلق والعلم.
ووفاء (المرأة الصالحة) لزوجها يعني أن تُعاشره بحُسن السمع والطاعة -إلا
فيما يُغضب الله تعالى فلا طاعة لبشرٍ في معصية الله تعالى- إنما الطاعة في
المعروف. إنها تجعل من بيتها مُستقراً لراحة زوجها وسكنه، لا ترتفع في بيتها
الأصوات، ولا يكون بيتها مكاناً للخصام ولا للشقاق ولا للعناد.
يقول العلماء إن من صور وفاء (المرأة الصالحة) لزوجها وإكرامها له ألا
تقطعه من أهله، بل تُعينه على صلتهم والتقرب إليهم، ومن الوفاء إحسانها إلى أبويه
والتودد إليهما والصبر عليهما والتحبب إلى ذوي أرحامه إكراماً له.
ومن الوفاء أن تحفظ زوجها في غيابه وحضوره، وتحفظ العهد وترعاه ولا تخونه
أبداً، وتحفظ ماله بعدم الهدر والمساعدة بحُسن التدبير، وتستر زوجها فلا تُفشي
أسراره، وتدعمه في الأزمات.
أحبتي.. هنيئاً لكل رجلٍ فاز بامرأةٍ صالحةٍ تُعينه على أمور دينه ودنياه.
وإذ يقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؛
فحريٌ بمن أنعم الله عليه بمثل تلك المرأة أن يشكر ربه، ويُصلح من عمله، ويُحسن
إلى زوجته، ويحافظ عليها، ويُقابل وفاءها بالوفاء، وحبها بالمودة والرحمة والود
وحُسن العشرة. ومن لم يُنعم عليه ربه بهذه النعمة عليه أن ينظر إلى نفسه أولاً
فيصلحها، ثم يأخذ بيد زوجته باللين والمداراة واللُطف حتى يصل بها إلى أن تكون
(المرأة الصالحة) التي تستقيم معها الحياة؛ فتسعد هي وتُسعد غيرها.
كما أن علينا أن نجتهد في تعليم بناتنا كيف يكُنّ زوجاتٍ صالحاتٍ نافعاتٍ
لأنفسهن ولغيرهن حتى يرضى الله عنهن، ويوفقهن في الدنيا والآخرة.
اللهم ارزقنا الصلاح والفلاح، واجعلنا ربنا من الشاكرين.
https://bit.ly/3TyVrOE