الجمعة، 6 سبتمبر 2024

حَمَلة المباخر

 

خاطرة الجمعة /463

الجمعة 6 سبتمبر 2024م

(حَمَلة المباخر)

 

كان «طه حسين» طالباً في الجامعة المصرية القديمة، وتقرر إرساله في بعثةٍ إلى «أوروبا» فأراد حضرة «السلطان حسين» رحمه الله أن يُكرِّمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالاً كريماً، وحباه هديةً قَيّمةَ المغزى والمعنى. وكان من خُطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيبٌ فصيحٌ مُتكلمٌ مُقتدرٌ، وكان السلطان رحمه الله مواظباً على صلاة الجمعة؛ فصلى الجمعة مرةً بمسجدٍ قريبٍ من قصره، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لتلك الجمعة، وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن يُنوه بما أكرم به «طه حسين»، ولكن خانته فصاحته وغلبه حب التعالي في المدح، فزل زلةً لم تقم له قائمةٌ من بعدها؛ إذ قال أثناء خطبته "جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى".

وكان من شهود هذه الصلاة الشيخ «محمد شاكر» وكيل الأزهر سابقاً -رحمه الله- فقام بعد الصلاة وقال للناس في المسجد إن صلاتهم باطلةٌ؛ لأن الخطيب كفر بما شتم به النبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لا تصريحاً؛ لأن الله سُبحانه عتب على رسوله الكريم حين جاءه «ابن أم مكتوم» الأعمى وهو يُحدِّث بعض صناديد قريشٍ يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه؛ فأنزل الله عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة، ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يُريد أن يتملق عظمة السلطان فمدحه بما يُوهم السامع أنه يُريد إظهار منقبةٍ لعظمة السلطان، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، فكان صنع الخطيب المسكين تعريضاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا يرضى به مُسلمٌ، وفي مقدمة من يُنكره السلطان نفسه. وأمرهم الشيخ الغيور على دينه بأن يُعيدوا صلاتهم فأعادوها.

لكن الله لم يَدَع لهذا الإمام المنافق جُرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى؛ فأُقسمُ بالله -يقول كاتب القصة- لقد رأيتُه بعينيّ رأسي بعد بضع سنين -وبعد أن كان مُتعالياً مُتنفخاً مُستعزاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء- رأيتهُ مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجدٍ من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المُصلين يحفظها لهم في ذلةٍ وصغارٍ، حتى لقد خجلتُ أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقةً عليه؛ فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتةً فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيتُ فيه من عبرةٍ وموعظة.

 

أحبتي في الله.. هكذا هو حال (حَمَلة المباخر) من المتزلفين الذين يُنافقون كل صاحب سلطةٍ، يظنون أنهم بذلك يحظون بمكانةٍ عاليةٍ عندهم، بل ويتسابقون في ذلك، ويتنافسون ويُبدعون، وكأنهم في سباقٍ للفوز بكأس عظيم المنافقين أو زعيم المتزلفين! تجدهم في كل عصرٍ وزمان، يمدحون كل ذي مُلكٍ وسلطانٍ، ويُداهنون كل مسئولٍ؛ ومن ذلك ما حدث عندما قُدِّم لأحد الأمراء طعامٌ به كثيرٌ من الباذنجان، فأكل وأعلن إعجابه به وقال: "تَميلُ نفسي إلى أكل الباذنجان"؛ فسارع أحد الخدم إلى مدح الباذنجان وبيان فضائله؛ فقال: "الباذنجان! بارك الله في الباذنجان، هو سيد المأكولات، شحمٌ بلا لحم، سمكٌ بلا حسك، يؤكل مقلياً ويؤكل مشويّاً، فهو من أشهى المآكل، إن أكلته مقليّاً بقي طعمه على لسانك طول النهار، وإن أكلته محشيّاً كان شيخ المحاشي". وبعد عدة أيامٍ قدموا للأمير الباذنجان فلم يُعجبه وقال: "أكلتُ منه قبل أيامٍ فنالني كَرْبٌ وتوجعتُ منه"؛ فسارع نفس الخادم إلى ذم الباذنجان وهجائه؛ وقال: "الباذنجان! لعنة الله على الباذنجان، فإنه ثقيلٌ غليظٌ، إنه طعامٌ رديءٌ، إن أكلته مقليّاً سبّب لك تضخّماً في المُصران، وإن أكلته محشيّاً سبّب لك أحلاماً مُزعجة، وإن أكلته مكبوساً سبّب لك الغثيان، وإن أكلته مُتبّلاً سبّب لك انتفاخاً في البطن" فقال الأمير: "ويحك! تَمدَحُ الشيءَ وتذمُّه في وقتٍ واحد؟!، أيها الأحمق مدحتَ الباذنجان بالأمس، وقلتَ إنه ألذّ وأفضل المآكل، فما بالك تهجوه اليوم وتجعل فيه كلّ العلل؟!"، فأجاب: "أنا خادم الأمير ولست خادم الباذنجان؛ إذا قال الأمير نعم قلتُ نعم، وإذا قال لا قلتُ لا!".

 

كنتُ مع أحد الأصدقاء العرب نتحدث في هذا الموضوع، فأخبرني أنه في بلدهم، وفي جمعٍ حاشدٍ، قام أحد (حَمَلة المباخر) بوصف مسئولٍ بأنه نبيٌ مرسلٌ من الله! الغريب -يقول صديقي- أنه لم يعترض على هذا الوصف أحدٌ من الحاضرين، بل وربما انتشى المسئول -والذي كان حاضراً ذلك الجمع- مما سمع!

 

ذمَّ الله سبحانه وتعالى المنافقين في العديد من آيات القرآن الكريم؛ ومن ذلك وصفهم بأنهم ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾. يقول تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ].

 

يقول أهل العلم إن النفاق هو إظهار المرء خلاف ما يُبطن، وينقسم إلى: نفاق اعتقادٍ، ونفاق عمل؛ أما نفاق الاعتقاد فهو أن يُبطن الإنسان الكفر ويُظهر الإسلام، وهذا صاحبه مخلدٌ في الدرك الأسفل من النار؛ فهو ليس في عداد الموحدين. وأما نفاق العمل -وهو المنتشر بين الناس الآن- فصاحبه مُوحِدٌ غير مُخلدٍ في النار، لكنه مُحاسبٌ على نفاقه الذي فيه خيانة الأمانة، والكذب في الحديث، وعدم الوفاء بالعهد، والفجور في الخصومة، وهذه هي صفات (حَمَلة المباخر) الذين يمدحون كل ذي سلطةٍ طمعاً في رضاه أو خوفاً من بطشه.

 

إن نفاق العمل أو قُل النفاق الاجتماعي صار -للأسف- مُنتشراً بين الناس، وأكثر ما يكون في مدح المُلوك والسلاطين والحُكَّام حتى أن دراسةً منشورةً تقول إنَّ الأُمراء العرب قديماً وظَّفوا شعراءَ كثيرينَ في بلاطهم، مُهمتهم مدحُ الأُمراءِ. وقد وثَّقوا هذا المدح في سجلات الشعرِ بعد أن صاغوا النِّفاق في طرائفَ خالدةٍ في أدبنا العربي؛ من أبرزَها بيت الشعر الذي قاله أحدهم، بعد حدوثِ زلزالٍ في «مصر»، قال:

ما زُلزلت مِصرُ من كَيدٍ ألمَّ بها

بل رقصتُ من عَدلِكم طَرَبا

ولم يتوقف النِّفاقُ على هذه الصورة الغريبة، بل وصل الحالُ ببعضِ الشعراءِ إلى أنَّهم انتهكوا المُقدسات، فهذا شاعرٌ أندلسيٌ يمدح أحد السلاطين بقصيدةٍ كان مطلعها:

شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت

بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار!

فكان هذا البيت سبباً في ظهور المثل الشهير "أول القصيدة كُفر"!

وهذا آخر مَدَحَ أحد السلاطين؛ فقال:

ما شئتَ، لا ما شاءتْ الأقدارُ

فاحكم فأنتَ الواحدُ القهَّارُ

وكأنما أنتَ النبيُ محمدٌ

وكأنما أنصارُك الأنصارُ

أنت الذي كانت تُبشِّرنا به

في كتْبها الأخبارُ والأحبارُ

هذا الذي تُرجىَ النجاةُ به

وبه يُحَطُّ الإصرُ والأوزارُ

أما هذا الشاعر فقد صاغ الأبيات التالية يصف بها السلطان وهو ذاهبٌ إلى صلاة العيد:

يَجِدُونَ رُؤْيتكَ التي فازوا بها

مِنْ أَنْعُم الله التي لا تُكْفَرُ

ذكَروا بطلعتِكَ النَّبيَّ، فهلُّلوا

لمَّا طلعتَ عن الصُّفوفِ وكبَّروا

حتى انتهيتَ إلى المُصَلَّى، لابسًا

نُورَ الهُدى يبدو عليك ويَظهرُ

ومَشَيْتَ مِشْيَةَ خاشِعٍ متواضِعٍ

لله لا يُزْهَى ولَا يَتَكَبرُ

فلوَ أنَّ مُشتاقًا تكلَّفَ فوقَ ما في

وُسْعِهِ لمشَى إليكَ المِنْبَرُ!

كما نرى أحدهم يمدح سلطاناً قائلاً: "كأنك بعد الرسولِ رسولُ"، بينما وصف غيره بأنه "ظِلُ الله الممدودُ بينه وبين خَلْقِه"، ويرفع شاعرٌ مَلِكاً إلى أعلى ما نتخيل واصفاً إياه قائلاً:

ألم ترَ أن الله أعطاكَ سُورةً

ترى كلَ مُلْكٍ دُونها مُتذبذبُ

فإنك شمسٌ والنجومُ كواكبُ

إذا طلعتَ لَمْ يَبدُ مِنهن كوكبُ

وانتهت الدراسة إلى القول: إنَّ النفاق، والمدح الزائف من أبرز تُراث العرب الشِعري، وما مادحو الأمراء والسلاطين من الإعلاميين المعاصرين سوى نُسخةٍ مُشوَّهةٍ من أدب المدح العربي، إنها نُسخةٌ تخلو من الإبداع والطرافة، هُم مُقلدون، غير مُبدعين!

 

يقول أحد العُلماء إن أزمتنا المُعاصرة تكمن في تفشي تلك الظاهرة لدرجة اعتبارها أسلوب حياةٍ ولغة عصرٍ وشعار زمانٍ، وتتطور في بعض الأمم لتصبح حالةً كارثيةً من الكذب الصريح، وطمس الوقائع، وتزييف الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه. وكثيرٌ من (حَمَلة المباخر) هُم من المنافقين الذين يأكلون على كل الموائد؛ فهُم أشخاصٌ تطأ هاماتهم وجباههم الأرض، ويلعقون الثرى تقرباً وتودداً لمن يبغون مصلحتهم عنده، ثم لا يمنعهم ذلك من أن يهيلوا التراب عليه إذا انقضت غاياتهم منه، أو ذَوَىَ مَن تملقوه عن منصبه فأصبح لا حول له ولا قوة. وإنْ تعجب فعجبٌ أن تعرف أن هناك درجاتٍ في إتقان النفاق، وأعظم المنافقين وأعلاهم درجةً هو الذي لا يُدرِك أنه يُنافق لأنه يكذب بصدق!

 

يقول الشاعر:

لا يخدعنك هتافُ القومِ بالوطنِ

فالقومُ في السرِ غيرُ القومِ في العلنِ

 

أحبتي.. يُقال إن خيطاً رفيعاً يفصل بين المُجاملة والنفاق، لذا لا يجب أن نُبالغ في المُجاملة حتى لا نسقط في بئر النفاق، ولا نُبالغ في الصراحة حتى لا نسقط في وحل الوقاحة. ولا يجب علينا أن نخلط بين محادثة الناس بلين الكلام، ومناداتهم بأفضل ما يُحبون، وبين النفاق الذي يبغي الشخص من ورائه تحقيق نفعٍ أو تجنب ضرر. ولنَحذر المنافقين من حولنا؛ حيث تقول الحكمة: "إذا سمعتَ إنساناً يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك".

اللهم لا تجعلنا من المنافقين، وطهِّر قلوبنا حتى لا نُنافق غيرنا ولا نُفتن بما يُنافقنا به الغير، واهدنا واكتبنا اللهم من المتقين الصادقين.

https://bit.ly/3AX207y

الجمعة، 30 أغسطس 2024

الصبر على أقدار الله

 

خاطرة الجمعة /462

الجمعة 30 أغسطس 2024م

(الصبر على أقدار الله)

 

أحد المشايخ ماتت زوجته -رحمها الله- فحزن عليها حُزناً شديداً.. واشتُهر حُزنه عليها؛ فأرسلت إليه إحدى صديقات زوجته رسالةً تُصبره فيها. وإليكم رسالتها إليه:

السلام عليكم يا شيخ.. أنا إحدى صديقات زوجتك. بلغني خبر وفاتها.. وبلغني حُزنك الذي مرَّ بك.. فاقرأ قصتي.. ليست أول قصةٍ تُحكى عن الفقد والألم؛ فهناك المئات مثلي يُعانون الفقد والحرمان.. بدأت قصتي يوم 27 من شهر رمضان عام 1431هـ، في آخر ساعةٍ من ذلك اليوم.. يومها اتفقنا جميعاً على أن نركب سيارةً واحدةً ونُغادر ذهاباً إلى بيت الله الحرام في «مكة» لنؤدي العُمرة. ومن أقدار الله -سُبحانه وتعالى- أن إخواني رفضوا يركبون سياراتهم وجاءوا معنا.. فكُنا ثمانية أشخاصٍ؛ أنا ووالديّ وأخواتي وإخواني.. كان والدي يقود السيارة وأمي تجلس بجانبه.. اتفقنا وقتها على أن يُمسك المُصحف كل واحدٍ منا ويقرأ ويدعي إلى أن نصل.. حتى نختم القرآن بذلك اليوم.. واستمرينا بقراءة القرآن في صمتٍ وخشوعٍ كأننا لن نقرأه مرةً أُخرى! كانت أُختي تقرأ وتبكي، والأخرى تنظر إليّ وتبكي وتدعي.. كنتُ أسألهم لماذا الدموع؟ فقالت إحداهن: "أشعر بأن صوت الله قريبٌ مني وأنا اقرأ".. أثناء ذلك..

أظن أن الوالد -رحمة الله عليه- غلبه النعاس.. وانحرفت السيارة من أعلى الجبل.. سقطت بنا السيارة في الوادي.. استمرت في السقوط مسافةً طويلةً، وانقلبت بنا عدة مراتٍ، وكلما تدحرجت خرج أحد إخواني من السيارة وسقط.. أما أنا فقد وقعتُ على شجرةٍ، والباقين سقطوا في قاع الوادي.. وقع الحادث وقت أذان المغرب، وكُنا صائمين.. عندها.. أُغميَ عليّ ونزفتُ كثيراً.. أذكر أني صحيتُ وصرختُ أبحث عن أهلي.. وكنتُ -رغم ما بي من كسورٍ وإصاباتٍ- أمشي مرةً وأحبو مراتٍ.. لم يشاهدنا أحدٌ أثناء سقوط السيارة.. بدأتُ أزحف إلى أن وصلتُ إليهم.. حاولت تغطية أخواتي.. وجدتهم فارقوا الحياة وكل واحدةٍ رافعةً السبابة وقد تشهدوا ولله الحمد.. جمعتهم في مكانٍ واحدٍ.. حينها حلَّ الظلام.. وتملكني الخوف من أصوات الحيوانات ومن الظلام.. لم أجد إخواني أبداً.. زحفتُ ووجدتُ أمي قد فارقت الحياة وقد تشهدت.. وعباءتها ملتفةٌ عليها كالكفن؛ لم يظهر منها سوى أُصبعها وقد تشهدت.. حتى الغطاء لم يسقط.. بقيتُ بحضنها أُكلمها لعلها تسمعني.. ولا فائدة.. وصلتُ لأبي ووجدته مازال حياً وينزف.. فرحتُ وضممته إلى صدري؛ فرحتُ أنه مازال معي.. فقال لي: "أوصيك بنفسك.. لا تبقين هنا كثيراً.. واطلعي الجبل ونادي على من يساعدك.. ويُساعد أخواتك وأمك".. عندها خفتُ من صوت الكلاب حولي ومن ظلام الليل؛ فبقيتُ بحضن أبي.. وقلتُ له: "أنا أنزف ولا أستطيع الحركة وسأبقى معك".. وقتها أخذني على صدره.. وكان يوصيني بأن أكون كما عهدني.. وظل يدعي لي.. وسمعته يتشهد ثم فارق الحياة.. بقيتُ لوحدي أبكي وأدعي إلى أن دخلتُ في غيبوبة.. لم أُحس بنفسي؛ فقد أُغمي عليّ من النزيف.. مرَّ علينا يومٌ كاملٌ لم يرنا أحد.. وفي عصر اليوم الثاني وجدنا راعي غنم.. وأبلغ الدوريات.. فجاءت فرق الدفاع المدني بالطيارات والسيارات.. وتم انتشالنا على دفعات.. لم أَفُق من الغيبوبة إلا بعد خمسة أشهر.. بقيتُ بعدها أتعالج سنتين في «كندا».. وكنتُ كلما تذكرتُ ما حصل أشعر وكأنه خيالٌ أو حُلم.. أُصبت بكسورٍ خطيرةٍ في الرأس والرقبة والظهر والحوض، والأهم من ذلك أني فقدتُ -بسبب النزيف- نعمة أن أكون أمّاً.. رغم محاولاتٍ كثيرةٍ فشل فيها الأطباء؛ فكان الاختيار إما حياتي.. أو العملية التي قد تُفقدني نعمة الأبناء.. وكان اختياراً صعباً.. لكني صبرتُ.. وها أنا بخيرٍ وعافيةٍ والحمد الله.

تعمدتُ أن أخبرك بقصتي يا شيخ حتى تعلم أنك لستَ الوحيد الذي فقد عزيزاً وغالياً.. وأن الدُنيا لن تنتهي بفقد أحدٍ مهما كان حُبنا له وارتباطنا به.. لكن علينا (الصبر على أقدار الله) التي هي من تمام الإيمان.. والحمد الله ها أنا عُدتُ لعملي.. وانتقلتُ إلى «الرياض» وبدأتُ أعيش وأتعايش مع حياتي الجديدة.. والحمد لله على كل حال..

نسيتُ أن أقول لك.. كان قد بقي على موعد زفاف أخواتي أسبوعان.. وكُنا نُريد أن نعتمر قبل زفافهم.. وإلى الآن ما تزال فساتين زفافهم معي، أحتفظ بها إلى أن أموت.

 

أحبتي في الله.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]. يقول شُرَّاح الحديث: القناعة من أجَّل أخلاق المؤمنين، وهي علامةٌ على الرضا بقَدَر الله، كما أنها تُهَوِّن صعوبة الحياة. وفي هذا الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ] أي: من هو أقل منكم في أمور الدنيا وتقسيمها، [ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ]؛ فإن هذا النظر [أجْدَرُ]، أي: أحق [أنْ لا تَزْدَرُوا]، أي: لا تحتقروا [نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]؛ وذلك أن نظر الإنسان إلى من هو أعلى منه؛ يؤدي إلى استحقار ما عند نفسه من النِعم، فيستقل النعمة ويُعرِض عن الشكر؛ فيكفر نعمة الله عليه، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، يقول المفسرون: أي لا تمد عينيك مُعجباً، ولا تُكرر النظر مُستحسناً إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المُزخرفة، والنساء المُجَمَّلة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجاباً بأبصار المُعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، وتقتل مُحبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنةً واختباراً، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً. وفي الحديث: بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُداوياً للقلوب، فعلَّمها كيف تصنع، ووصف لها الدواء. وفيه: إرشادٌ إلى الاعتبار بأحوال الدنيا، وأن السعادة ليست مالاً فقط. وفيه: أن من أعظم ما يُعين على استشعار النعم كثرة التأمل فيها والنظر في حال من هُم أقل حالاً منك.

 

ويقول العلماء إن (الصبر على أقدار الله) والقناعة والرضا بما قسم الله تشمل جميع نِعم الله؛ ففي مجال الصحة تكون القناعة بأني -مع ما بي من مرضٍ أو عاهةٍ- أفضل حالاً ممن مرضه أشد من مرضي أو عاهته أصعب من عاهتي، فيكون ذلك سبباً في شكري لله سُبحانه وتعالى. أما إذا نطرتُ إلى من هو أكثر مني صحةً، فقد يتملكني -والعياذ بالله- شعورٌ بأني لستُ في نعمةٍ تستوجب الشكر؛ من هنا يكون فهمنا لهذا التوجيه النبوي العظيم لكلٍ منا إذا رأى شخصاً قد ابتلاه الله سُبحانه وتعالى بشيءٍ لم يبتلينا به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا" لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ]. ويقول شُرَّاح الحديث: الابتلاء بأنواعه كلها فيه فتنةٌ واختبارٌ للعبد، وينبغي عليه الصبر والدُعاء لله، أما العبد الذي عافاه الله؛ فإنه في نعمةٍ ينبغي شكر الله عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: [مَنْ رَأَى مُبْتَلىً] بأي بليةٍ في البدن كمرضٍ، أو في الدنيا كفقرٍ، أو في الدين كعصيان، والمُراد برؤياه: النظر إليه أو السماع بحاله، [فَقَالَ] في نفسه بحيث لا يسمعه المُبتلى؛ لئلا يكون شامتاً به: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي]، أي: نجاني وأنقذني [مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ] دعا الله عزَّ وجلَّ وحمده على حفظه من ذلك البلاء، [وَفَضَّلَنِي]، أي: صيرني أفضل منك، وأكثر خيراً، وأحسن حالاً بالعافية والسلامة من الابتلاء من ذلك أو أعم [عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا] وهذا فيه شكرٌ لله على السلامة من الشرور [لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ]، أي: كان ذِكر الله وحمده سبباً في أن يحفظ المرء ويحميه من هذا البلاء الذي وقع بغيره؛ لأنه لا يأمن أن يقع به؛ ولأن الله يُعافيه ويرحمه بدعائه، فينبغي للعبد أن لا يزال ذاكراً نِعم الله عليه مُعتبِراً في رؤية العباد، ومُقِراً أن ما به من نعمةٍ؛ فمن الله. وفي الحديث: أن ذِكر الله والثناء عليه يحفظ الإنسان، ويُعافيه من البلايا. ويؤكد العلماء على أن يقول هذا الذِكر سِرّاً، بحيث لا يسمعه المُبتلى، لئلا يتألَّم قلبه ويتأذى بذلك، بل إذا لقيه عليه أن يُحسن خُلُقه معه ويُظهر له التعاطف معه، ويدعو الله له بالشفاء والعافية.

ويمتد مجال الابتلاء ليشمل كل ابتلاءٍ دُنيويٍ: كفقرٍ أو مرضٍ أو عاهةٍ ونحو ذلك، وكل ابتلاءٍ دينيٍ: كفِسقٍ أو ظُلمٍ أو بدعةٍ أو كُفرٍ وغيرها.

 

أحبتي.. الرضا بما قسمه الله و(الصبر على أقدار الله) من تمام الإيمان؛ فلنرضى، ونصبر، ونحمد الله عزَّ وجلَّ على كل حال، خاصةً وقت الشدائد والمِحن، فتنقلب -برحمة الله- إلى عطايا ومِنَح. ومع كل ابتلاءٍ علينا -مع الصبر والشكر- أن ننظر إلى من كان ابتلاؤه أكثر وأشد وأصعب، لنرضى بما قسمه الله لنا، ونحمده عليه، لا أن نسخط وننقم ونُعرِض؛ فالابتلاء الأكبر لا يكون في المُصيبة ذاتها وإنما هو في تصرفنا وسلوكنا بعد حدوثها؛ يقول تعالى على لسان سليمان عليه الصلاة والسلام: ﴿لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ﴾. فلنحتسب مع كل ابتلاءٍ، ونشكر ونصبر ونسترجع، عسى الله أن يكتبنا من الشاكرين الصابرين.

اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، وقدِّره لنا، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه. واجعلنا اللهم من الراضين بقضائك وقدرك، الحامدين لك على كل حال.

https://bit.ly/3ADW4jq

الجمعة، 23 أغسطس 2024

عسَّله الله

 

خاطرة الجمعة /461

الجمعة 23 أغسطس 2024م

(عسَّله الله)

 

أمام منزله الأنيق في «أُستراليا» يصطف أسطولٌ من السيارات المُبهرة، على رأسها واحدةٌ تُعد أقوى وأسرع سيارةٍ في العالم “سبايدر فيراري” حيث تبلغ قيمتها وحدها 600,000 دولار.

يلبس في يده سوارٌ من الماس قيمته 70.000 دولار. أما غرفته الخاصة فهي مليئةٌ بالملابس والحقائب والأحذية الرياضية والساعات والنظارات والقُبعات والأغراض الأخرى التي أُعدت خصيصاً له من قِبَل أشهَر بيوت الأزياء العالمية المقدر كلٌ منها بآلاف الدولارات. حياة المليونير المُسلم «عليّ بنات» المليئة بالثروة والرفاهية، قُلبت رأساً على عقبٍ حين تم تشخيص ما يُعاني منه بمرض السرطان من الدرجة الرابعة، وقرّر الأطباء بأنه لن يعيش أكثر سبعة أشهر، وهو الشاب البالغ من العمر ثلاثةٌ وثلاثون عاماً.

يقول «عليّ»: “الحمد لله.. رزقني الله بمرض السرطان الذي كان بمثابة الهدية، التي منحتني الفرصة لأتغير إلى الأفضل" مُضيفاً: "عندما علمتُ بالأمر شعرتُ برغبةٍ شديدةٍ في أن أتخلص من كل شيءٍ أمتلكه، وأن أقترب من الله أكثر، وأُصبح أكثر التزاماً تجاه ديني، وأن أرحل من هذه الدنيا خاوياً على أن أترك أثراً طيباً وأعمالاً صالحةً تصبح هي ثروتي الحقيقة في الآخرة”. قرر المليونير الشاب «عليّ بنات» أن يتبرع بكامل ثروته من أجل فُقراء المُسلمين في أعماق «إفريقيا».. تحول «عليّ» من أكبر تُجار الدنيا، إلى التجارة مع الله، تبرع بكل ماله، حتى ملابسه تبرع بها. وأنشأ مؤسسةً خيريةً مُوجهةً لخدمة فُقراء المُسلمين سماها "المُسلمون حول العالم“. قامت المؤسسة ببناء المنازل والمساجد والمدارس وآبار المياه والمراكز الطبية والبيوت التي تأوي الأرامل والأيتام، كما قام ببناء أول مقبرةٍ للمُسلمين في «توجو» بالإضافة إلى الإمدادات الطبية والغذائية.

سُئل «عليّ»: "بعدما علمتَ حقيقة الدُنيا، سيارتك الفارهة كم تُساوي؟"،

فقال: "لا تُساوي في قلبي قيمة نعل حمَّام، وإن ابتسامة طفلٍ فقيرٍ أفضل عندي من هذه السيارة". ثم يقول: "إن اللحظات التي قضاها في «إفريقيا» مع فقراء المُسلمين هي الأسعد في حياته على الإطلاق، سعادةٌ لا يُمكن شراؤها بالمال، ولا يُمكن أن تُعوضها وسائل الرفاهية باهظة الثمن".

كان «عليّ» في سباقٍ مع الزمن، يُريد أن يُنجز كل ما يستطيع خلال فترة الشهور السبعة المُتبقية من عُمره، لكن الله سُبحانه وتعالى أمدَّ في عُمره حتى مات بعد ثلاث سنواتٍ من تشخيص مرضه، فكان يوماً حزيناً على المُسلمين في كلٍ من «أُستراليا» و«إفريقيا».. رحل ونحن لا نعلم هل كان السرطان حقاً هديةً له من الله، أم أن «عليّاً» كان هو الهدية التي منحها الله لفقراء المُسلمين؟ رحل في جنازةٍ مهيبةٍ تُحيطه مئات الآلاف من الدعوات المُباركة التي سبقته إلى السماء.. رحل «عليّ» وقبل رحيله عرَّفنا حقيقة الدنيا ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

 

أحبتي في الله.. رحم الله «عليّ بنات»، كان رجل أعمالٍ أُستراليٍ من أُصولٍ فلسطينيةٍ، امتلك شركاتٍ في عدة مجالاتٍ، وبعد أن تم تشخيصه بالسرطان، كرَّس ما تبقى من حياته للعمل في المجال الخيري. باع شركاته وقدَّم المُساعدات الإنسانية للمُسلمين في كلٍ من «توجو» و«غانا» و«بوركينا فاسو». رحمه الله، ورحم الله كل من كان على شاكلته، لقد (عسَّله الله) وأنعم عليه بحُسن الخاتمة؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾؛ فقد مات كل من (عسَّله الله) وهو مسلمٌ، عبد ربه حتى أتاه اليقين وهو الموت؛ يقول رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ» قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ».

 

وممن (عسَّله الله) من الناس رجلٌ أمريكيٌ كان خبيراً مُتخصصاً، حصل على عددٍ من الشهادات والأوسمة في «أمريكا»، يقول عن نفسه: "قبل أن آتي إلى «الرياض» مسؤولاً كبيراً في الشركة الأمريكية لم أكن أشغل بالي بالدين ونصوصه وتعاليمه، حياتي كلُّها مادةٌ وعملٌ وظيفيٌ ناجحٌ، وإجازاتٌ أُروِّح عن نفسي فيها بما أشاء من وسائل الترويح المُباحة وغير المُباحة". وبعد شهورٍ من العمل لفت انتباهه لأول مرَّةٍ منظر جمعٍ غفيرٍ من المُسلمين السعوديين وغير السعوديين يتجهون إلى المسجد، قال: "سمعتُ الأذان لأوَّل مرةٍ، وشعرتُ حينما سمعتُه بشعورٍ لم أعهده من قبل، هبَّت من خلاله نسائم لا أستطيع أن أصفها، وانقدح في ذهني سؤال: لماذا يصنع هؤلاء الناس ما أرى؟ وكأنهم يتسابقون إلى مكانٍ يدفع لهم نقوداً وهدايا ثمينةً تستحق هذا الاهتمام! صوت الأذان، الإقامة، الإمام يقول "السلام عليكم" فإذا بحشود المُصلِّين يخرجون، ويُصافح بعضهم بعضاً، يا له من نظامٍ رائع!".

أمريكيٌ أبيض، يُشرق قلبه بنور الإيمان، فيسلم ويعرف حلاوة الإسلام، وبعد مرور شهرين على إسلامه ينطلق لأداء العُمرة وزيارة البيت الحرام برفقة صديقين سُعوديين من زملاء العمل، أتمَّ الرجل عُمرته قبل صلاة العشاء، وكان حريصاً على الصلاة في الصف الأوَّل أمام الكعبة المشرفة، وبدأت صلاة العشاء، وكان الرجل في حالةٍ من الخُشوع العجيب، يقول أحد مُرافقيه: "حينما قُمنا من التشهُّد الأوَّل لم يقم، وظننته قد استغرق في حالته الروحية فنسي القيام، ومددتُ يدي إلى رأسه مُنبهاً له، فلم يستجب، وعندما سلَّم الإمام وأنهى الصلاة تبيَّن لنا أن صاحبنا قد فارق الحياة. لقد صعدت روحه التي تعلقت بالله في أطهر رحاب الله". يقول المُرافق: "لقد شعرتُ بفضل الله العظيم على ذلك الرجل -رحمه الله- وشعرتُ بالمعنى العميق لحُسن الخاتمة، وودَّعته مُشيعاً حيث تم دفنه في «مكة المُكرمة» بعد استئذان أهله في «أمريكا». لقد (عسّله الله) ففتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم قبضه عليه، وطيَّب ثناءه، أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعام إذا جُعل فيه العسل.

(عسَّله الله) فوفقه قبل موته للبُعد عما يُغضب المولى عزَّ وجلَّ، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.

شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم ما رزق الله العبد من العمل الصالح قبل الموت، بالعسل الذي هو الطعام الصالح الذي يحلو به كل شيءٍ.

 

كل من (عسَّله الله) قد فهم حقيقة الحياة واختار لنفسه الخيار الصحيح؛ يقول الشاعر:

نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية

طفلُ الملوكِ كطفل الحاشية

ونغادر الدنيا ونحن كما ترى

متشابهون على قبور حافية

أعمالنا تُعلي وتَخفض شأننا

وحسابُنا بالحق يوم الغاشية

حور، وأنهار، قصور عالية

وجهنمٌ تُصلى، ونارٌ حامية

فاختر لنفسك ما تُحب وتبتغي

ما دام يومُك والليالي باقية

وغداً مصيرك لا تراجع بعده

إما جنان الخلد وإما الهاوية

 

أحبتي.. على كلٍ منا أن يكون دائم السعي لحُسن الخاتمة، ولأننا لا نعرف متى تُقبض أرواحنا فإن علينا المبادرة إلى التوبة والإنابة لله سُبحانه وتعالى قبل غلق باب الإجابة، فما دُمنا على قيد الحياة فإن باب التوبة يظل مفتوحاً، وأبواب الخير عظيمةٌ فلنجتهد بما ينفعنا وينفع غيرنا من المسلمين. لا نؤجل ولا نُسوِّف إن أردنا الفلاح وأردنا أن يُعسِّلنا الله، لا نركن إلى التسويف والأمل حتى يأتينا الأجل، وليسأل كلٌ منا نفسه: "كيف أُعسَّل؟"، أنت أدرى بنفسك من غيرك؛ فالحرص كل الحرص على أن تُعسِّل أعمالك حتى يُعسِّلك الله.

اللهم عسِّلنا، وافتح لنا عملاً صالحاً قبل الممات، واقبضنا عليه، وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمارنا أواخرها وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اغفر لنا ما مضى، وأصلح لنا ما تبقى، وارزقنا رضاك وحسن الخاتمة، والفوز بالجنة والنجاة من النار.

https://bit.ly/3ADf3e8

الجمعة، 16 أغسطس 2024

عطاء الله

 

خاطرة الجمعة /460

الجمعة 16 أغسطس 2024م

(عطاء الله)

 

تقول صاحبة القصة: بعد تخرجي من الجامعة بتقدير جيد جداً، والتحاقي بعملٍ مناسبٍ وانشغالي به، وعدم إيجادي أياً من مواصفات الشريك المُناسب فيمن تقدّموا لي، زاد انشغالي بعملي الذي أُحبه حتى بلغتُ الرابعة والثلاثين من عُمري، إلى أن تقدّم لخطبتي شابٌ يكبرني بعامين يمرّ بظروفٍ صعبةٍ مالياً، لكني رضيتُ خوفاً من فوات فرصة الزواج. بعد الاتفاق على موعد عقد القران، وانشغالي بالترتيبات، اتصلت بي والدته وطلبت مقابلتها بأسرع وقت، ذهبتُ لأقابلها رغم عدم معرفتي سبب إصرارها على مقابلتي خارج المنزل، بدا على وجهها الضيق بشكلٍ واضحٍ، حاولتُ التحدث بمواضيع مختلفةٍ لتخفيف التوتر، لكنها وبشكلٍ مفاجئٍ طلبت مني رؤية بطاقتي الشخصية، وكان أول سؤالٍ منها: "هل تاريخ ميلادي فيها صحيح؟"، أجبتها: "نعم"، قالت: "إذاً أنتِ تقتربين من الأربعين من العُمر"، صدمتني بجملتها، لكنني حاولتُ أن أتمالك نفسي وأجبتها: "أنا في الرابعة والثلاثين فقط"، قالت: "لن يختلف الأمر فقد تجاوزتِ الثلاثين، وقلّت فرص إنجابك، وأريد أن أرى أحفادي". وهكذا انتهى الحديث بيننا بفسخ الخطوبة. مرت عليّ ستة أشهرٍ عصيبةٍ مليئةٍ بالاكتئاب والحزن، لاحظ والدي تغير حالي فاقترح عليّ الذهاب لأداء العُمرة أغسل بها الحزن والهمّ، وأُحسِّن نفسيتي.

بعد أيامٍ ذهبنا فعلياً وأدينا العُمرة، وجلستُ في البيت العتيق أُصلي وأبكي وأدعو الله أن يُهيئ لي من أمري رشداً، أنهيتُ صلاتي، ولفت انتباهي صوت امرأةٍ ترتّل: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ بصوتٍ فائق الجمال، فقدتُ السيطرة على نفسي فبكيتُ رغماً عني، اقتربت هذه السيدة مِني، وأخذت تُردد قول الله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾، هدأت نفسي وكأنني أسمعها لأول مرة.

عُدنا إلى «القاهرة»، وصلنا إلى المطار، وبعد نزولنا من الطائرة وجدنا زوج صديقتي في صالة الانتظار، سأله والدي عن سبب مجيئه فأجابه بأنه في انتظار صديقٍ عائدٍ على نفس الطائرة التي جئنا بها، جاء صديقه لأجد أنه كان جارنا في مقاعد الطائرة. غادرنا المطار، وما إن وصلنا إلى المنزل إذ بصديقتي تتصل بي لتقول لي إن صديق زوجها أُعجب بي، ويرغب برؤيتي في بيتها في نفس الليلة لأنّ خير البر عاجله. استشرتُ والدي في الأمر، فشجعني على الذهاب ففعلت. لم تمضِ أيامٌ حتى تقدّم لخطبتي، وأتممنا أمور الزواج خلال شهرين لا أكثر، وبدأت حياتي الزوجية بتفاؤلٍ؛ إذ وجدتُ في زوجي كل ما أردت. مرت شهورٌ ولم تظهر أي علاماتٍ للحمل، كنتُ قلقةً خاصةً أني تجاوزت السادسة والثلاثين، ما دفعني لأن أطلب من زوجي إجراء بعض التحاليل والفحوصات، لم يرفض طلبي وذهبنا سوياً إلى طبيبةٍ مختصةٍ، وعند استلام النتائج فاجأتنا بخبر حملي!

أثناء حملي حرصتُ على ألّا أعرف نوع الجنين لإيماني بأن كل ما سيأتيني من الله خير، وكلما شكوتُ لطبيبتي من إحساسي بكبر حجم بطني فسرّته بسبب تقدّمي في السن. مرت الشهور بصعوبتها إلى أن حان موعد ولادتي، وأجريتُ عملية ولادة قيصرية بنجاحٍ، ونُقلتُ إلى غرفتي في المستشفى بانتظار رؤية طفلي، جاءت الطبيبة تستفسر مني عن نوع الجنين الذي أرغب، فأجبتها بأني تمنيتُ من الله مولوداً يتمتع بصحةٍ جيدةٍ فقط ولا يهمني نوعه، فكان ردها صادماً: "ما رأيك في أنكِ أنجبتِ ثلاثة توائم!!"، لم أدرك ما قالته، فطلبت مني التحكم بردود فعلي، إذ أن الله تعالى قد عوّضني بثلاثة أطفالٍ دفعةً واحدةً رحمةً منه، وأخبرتني أنها كانت على علمٍ بأني حاملٌ بتوأمٍ لكنها لم تُبلغني بذلك؛ حتى لا أتوتر خلال حملي، تذكرتُ لحظتها قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.

 

أحبتي في الله.. ونِعْمَ بالله؛ إنه (عطاء الله) الذي إذا أعطى أدهش بعطائه. وعن العطاء يقول تعالى مخاطباً سيدنا سليمان: ﴿هَـٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: هذا الذي أعطيناك من المُلك التام، والسلطان الكامل؛ كما سألتنا. ويقول سُبحانه واصفاً ثواب المؤمنين: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ غير مجذوذٍ أي غير مقطوع. ويقول أيضاً: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ أي أن رزق ربك ليس ممنوعاً ولا منقوصاً عن جميع عباده في الدنيا؛ سواءً منهم من يُريد الدنيا ومن يريد الآخرة، ثم يختلف بهما الحال في المآل، فالعطاء لطْفٌ إلهيٌّ لا يُشترط فيه الاستحقاقُ والأهلية. ويقول واصفاً عطاءه لعباده المؤمنين: ﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي جازاهم جزاءً كثيراً كافياً ووافياً.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ ليُعطي الدُّنيَا مَن يُحبُّ ومَن لا يُحبُّ، ولا يُعطِي الدِّينَ إلَّا مَن يُحبُّ، فمَن أعطاه اللهُ الدِّينَ فقد أحبَّه] فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فلو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء.

 

ولأن الدنيا بطبيعتها دار ابتلاءٍ وليست بالضرورة دار ثوابٍ وعطاء، يقول العُلماء إنه ومهما كان العطاء الدنيوي كثيراً فإنه يبقى أشبه بالعدم في مُقابل العطاء الأُخروي؛ ولذلك سمى القرآن العطاء الدُنيوي متاعاً، وسماه متاعاً قليلاً، وسماه متاع الغرور، لأن من طبيعة العطاء الدنيوي -بخلاف الأخروي- أنه قليل القدر، قصير المُدة، وعَكِرٌ لا صفاء فيه.

 

ويقول العارفون عن (عطاء الله):

"عطاء الله مُدهِشٌ، وعوض الله عزيزٌ لا حدَّ له ولا مُنتهى؛ فلا أحد ييأس ويستصعب شيئاً أمام قُدرة الله، إذا جعلك تصبر كثيراً تأكَّد أنَّك ستنال ضعف ما كنتَ تتمنَّى وستندهش من كرمه". "إنما الأعمال، والأرزاق، والحياة كلها بالنيَّات؛ يُعطي الله كل شخصٍ على قدر نيته، فلا تتعجب عندما يُنجيك الله من أي أزمةٍ تُقابلك، لا تتعجب عندما تجد الخير يُلاحقك دون سببٍ واضحٍ، طالما أن نيتَّك صافيةٌ وقلبك سليمٌ، وتُعامل الناس بقلبك، وتُحب الخير للجميع، ولا تحمل ذرة كُرهٍ لأحد، ستجد كرم الله يُلاحقك أينما ذهبت، ودون أي سببٍ واضحٍ، فقط لأنك صافي القلب والنيَّة". ‏"إن الله يُعطي العبد على نيته ما لا يُعطيه على عمله؛ لأن النية لا رياء فيها، فجمِّلوا نواياكم بالنقاء والطُهر فهي تُعرض على الرحمن". ‏"الله عندما يُعطي قد يُعطيك ما تحتاجه وليس ما تريده، وفرقٌ بين العطائين؛ فلا تعلم ما ينفعك أو يضرك، تطلب من الله ما تظن أنه خيرٌ لك فيعطيك ما يعلم أن فيه الخير لك". "عندما يُعطيك الله ما هو أعلى من سقوف أُمنياتك، عوِّد قلبك على الشكر، عوِّد قلبك على أن يوقن أنك إذا حَمدتَ واهب نعمتك؛ سيُغنيك، ويزيدك، ويُكرمك". و"(عطاء الله) قد يتأخر، لكن عندما يُعطي يُدهشك بعطائه!".

 

ويقول الشاعر عن (عطاء الله):

وإني لأدعو الله حتى كأنني

أرى بجميل الظنِ ما الله فاعلُهْ

أمدُ يدي في غيرِ يأسٍ لعله

يجودُ على عاصٍ كمثلي يواصلُهْ

وأقرعُ أبوابَ السماواتِ راجياً

عطاءَ كريمٍ قطُّ ما خابَ سائلُهْ

فيا ليتَ شِعري كيف ينساهُ عاقلٌ!؟

ونعماؤه تترى وتترى جَمائلُـهْ

 

أحبتي.. فليقترب كلٌ منا من الله سُبحانه وتعالى أكثر وأكثر؛ فكلما اقترب بإخلاصٍ ويقينٍ أدهشه الله بعطائه. وحذارِ أن يكون منا من يعبد اللهَ تعالى لمصلحةٍ دنيويةٍ طامعاً في (عطاء الله)، فمتى تحققت مصلحته عاد إلى ما كان عليه، بعيداً عن طريق الله! وحذارِ أن يكون منا من يعبد الله اختباراً له سُبحانه بغيرٍ يقينٍ ولا ثقةٍ فيه فهو يُجرِّب إلهه؛ إذا أصابته مصيبةٌ ارتد عن طريق الصواب الذي بدأه للتو! بل يجب أن يكون إسلامنا إسلام المخلوق لخالقه، ومُدبِّر أمره ورازقه، بكل إخلاصٍ وبكل يقين.

اللهم أتمم علينا عطاياك ظاهرةً وباطنةً، وبارك لنا فيها، ولا تحرمنا عطاياك لقلة شكرنا وغفلتنا.

https://bit.ly/4cuLrg0

الجمعة، 9 أغسطس 2024

لا تحقرن من المعروف شيئاً

 

خاطرة الجمعة /459

الجمعة 9 أغسطس 2024م

(لا تحقرن من المعروف شيئاً)

 

رجلٌ بسيطٌ يعمل في أحد مصانع تجميد الأسماك، يتمتع بالبشاشة والحُبور؛ مما يزيد من محبة الناس له دون حتى أن يكون قريباً منهم، توجه كعادته كل يومٍ إلى عمله، ولم يكن في حسبانه ما سيمر به؛ إذ قضى يوم عمله كالمعتاد إلى أن حل موعد الانصراف، إلا أنه قبل أن ينصرف توجه إلى ثلاجة التبريد لإنهاء بعض العمل، ونتيجةً لخطأٍ ما أُغلق باب ثلاجة التجميد عليه، وظل يصرخ ويُنادي لكنه لم يجد أية استجابةٍ؛ فقد غادر جميع العاملين والموظفين المصنع، فظل الرجل حبيس ثلاجة التبريد لعددٍ من الساعات، خارت فيها قواه وشارف على الموت، إلا أنه فجأةً تم فتح أبواب ثلاجة التبريد وتم إنقاذه بعد أن كان على وشك الموت، وكان المنقذ هو حارس المصنع!

سألوا هذا الحارس: "ما الذي جعلك تدخل إلى المصنع وتنقذ هذا الرجل؟ وكيف عرفتَ أنه مازال بالداخل؟"، فقال الحارس: "أنا أعمل في هذا المصنع منذ ما يزيد عن خمسةٍ وثلاثين عاماً، أقف على بوابة المصنع ولا يُلاحظني أحدٌ أو يُخاطبني أحدٌ من العاملين والموظفين وهُم يدخلون إلى المصنع ويخرجون منه، إلا هذا الرجل فهو كلما حضر في الصباح استقبلني بابتسامته ووجهه البشوش وسؤاله عن حالي، وكذلك عند خروجه يودعني بتلك البسمة على وعدٍ باللقاء، وفي ذلك اليوم انتظرته بين الوجوه الخارجة من المصنع إلا أنني لم أجده؛ فاعتقدتُ أنه تخلّف لأن لديه عملاً بالداخل، ظللتُ أنتظر خروجه إلا أنّ الأمر طال كثيراً فقررتُ الدخول إلى المصنع والبحث عنه.

 

أحبتي في الله.. العبرة من هذه القصة هي أن هذا المعروف البسيط الذي كان يُقدمه العامل للحارس كل يومٍ، ببساطةٍ وبنيةٍ مخلصةٍ وبغير غرضٍ، لم يذهب هباءً؛ فرغم أنه لم يُكلف صاحبه شيئاً، ورغم أنه يبدو بسيطاً إلا أنه كان سبباً في انقاذ هذا العامل من موتٍ مُحقق، وكأن هذا العامل كان يعلم بالحديث الشريف: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).

 

وهذا مُعلمٌ بإحدى مدارس «جدة» يقول: كنتُ في غُرفة المُعلمين وقت الراحة؛ فصببتُ كأس شايٍ لأشربه، فإذا بالجرس يُقرع، ومُدير المدرسة شديدٌ جداًَ، يحب أن يتوجه المُعلمون فوراً إلى الصفوف عند قرع الجرس، وكان الشاي حاراً جداً لا أستطيع أن أشربه، ورأيتُ فراشاً فلبينياً ابتسمتُ في وجهه وأعطيته كأس الشاي. في اليوم التالي جاءني الفراش وقال لي أنه متفاجئٌ؛ فهذه أول مرةٍ يرى مُعلماً يبتسم في وجهه، بل ويُعطيه كأساً من الشاي! قال إنه لم يتعود على ذلك، ولم يكن يتوقعه، قلتُ وأنا مُحرَجٌ: "أردتُ أن أُكرمك؛ فنحن مُسلمون وهذا من أخلاقنا"، قال: "أعمل بهذه المُدرسة منذ عامين، لم يُكلمني أحدٌ منكم بكلمةٍ، ولم يُعيرني اهتماماً ولو بابتسامة"، ثم أخبرني بأنه يحمل شهادة الماجستير في العلوم، وأن شدة الفقر والحاجة جعلته يقبل بهذه الوظيفة، لم أُصدقه، وأردتُ أن أختبره فدعوته إلى البيت؛ إذ كانت ابنتي في الصف الحادي عشر لديها سؤالٌ في العلوم فأجاب عنه بطلاقةٍ ما بعدها طلاقة، تأكدتُ حينها من صحة كلامه. ظل يزورني كل جمعةٍ، وبعد فترةٍ أعلن إسلامه، ثم أقنع أكثر من عشرين من أصدقائه فاعتنقوا الإسلام، والسبب كان ابتسامةً مع كأس شاي!

 

وإنْ تعجب فعجبٌ هي هذه القصة؛ يقول أحدهم بأنه كان ذات مرةٍ، وهو صغير السن، يقف في المخبز لشراء خُبزٍ لأهله، يقول: "وجدتُ الرجال يتدافعون لأخذ الخُبز وكلما أخرج الخباز من الفرن خُبزاً تلقفته أيديهم، وأنا واقفٌ لا أستطيع مزاحمتهم، وبينما أنا كذلك إذ التفت إليّ رجلٌ لا أعرفه وأعطاني ما أريد؛ فذهبتُ دون أن أشكره؛ لصغر سني وجهلي بما يجب عليّ أن أفعله. نسيتُ ذلك الرجل وهيأته، ونسيتُ ذلك الموقف تماماً. بعد أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً، وبينما أنا ساجدٌ في صلاة التهجد في الثُلُث الأخير من الليل إذ بي أتذكر ذلك الموقف بتفاصيله، وكأنه يحدث أمام عينيّ أنظر إليه، فدعوتُ لذلك الرجل بما فتح الله عليّ. بعدما أنهيتُ صلاتي أخذتُ أتعجب كيف ذكرَّني الله بذلك الرجل بعد كل هذه السنين، وفي هذا الوقت المُبارك الذي يستجيب فيه الله سُبحانه وتعالى للدعاء؟! قلتُ في نفسي سُبحان الله؛ عملٌ قام به ذلك الرجل لم يُكلفه مالاً ولا جُهداً، يُذكِّرك الله به بعد كل هذه السنين وأنت ساجدٌ لتدعو له، وقد تكون دعوتك مُستجابةً ينتظرها ذلك الرجل!".

 

يقول الله سُبحانه وتعالى داعياً إلى عمل الخير: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾، ويُخبر سُبحانه أن عمل الخير مهما كان صغيراً فإن المُسلم يُثاب عليه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، ويقول حاثاً على فعل الخير ولو كان قليلاً: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويُبين عزَّ وجلَّ أنّ فعل الخير سببٌ للفلاح: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

 

يقول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، [لَا تَحْقِرَنَّ]؛ أي: لا تستقلنَّ [مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، فتتركه لقلَّته؛ فقد يكون سبب الوصول إلى مرضاة الله تعالى. ويقول عليه الصلاة والسلام: [بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ فأخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [بينما كلبٌ يطيف برَكِيَّةٍ -أي: ببئرٍ- قد كاد يقتُلُه العطَش، إذ رأَتْه بغيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنزَعَتْ مُوقَها -أي: خُفها- فاستَقَتْ له به، فسقَتْه إيَّاه، فغُفِر لها به]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ، حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ].

 

يقول أهل العلم إنّ جنَّة الرحمن ليسَتْ مقصورةً وخاصَّةً لِمَن باعُوا أرواحَهم، وبذَلُوا أموالهم في سبيل الله، مغفرةُ الرحمن ليسَتْ وقفاً للعِباد النُسَّاك، والصُوَّام والقُوَّام، بل رحمة الله وجنَّته تُدرَك بأعمالٍ يسيرةٍ، صغيرةٍ في أعيُنِ كثيرٍ من الناس، كبيرةٍ عند الله سُبحانه وتعالى، وهي سببٌ لأن يتمتع أصحابها بالسعادة السرمديَّة، والمُتعة الأبديَّة، عملٌ قليلٌ في نظر الناس، قد لا يُكلّف من الجُهد أو الوقت شيئاً، لكنّ الله تعالى بواسع رحمته وعظيم كرمه جعل فعله سبباً في مغفرة الذنوب ودخول الجنة.

 

قال الشاعر:

الناسُ للناسِ مادام الوفاءُ بهم

‏والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وساعاتُ

وأفضَلُ النَّاسِ ما بين الوَرَىٰ رَجلٌ

‏تُقضَىٰ علىٰ يَدهِ للناسِ حاجاتُ

لا تمنَعنَّ يدَ المَعْروفِ عَن أحَدٍ

‏ما دُمْتَ مُقتَدِراً فالسَعْدُ تاراتُ

واشكر فضائِلَ صنعِ الله إذ جُعِلتْ

‏إليكَ لَا لكَ عند النَّاسِ حاجاتُ

قَد ماتَ قومٌ ومَا ماتَت فَضائِلهم

‏وعاشَ قومٌ وَهُمْ في النَّاسِ أمواتُ

 

أحبتي.. استَكثِروا من فِعْل الخيرات، ولا تستَصغِروا شيئاً من صالح العمل و(لا تحقرن من المعروف شيئاً). كل معروفٍ يُمكنك فعله افعله، مهما كان صغيراً. وجدتَ قطعة زجاجٍ بالطريق من المحتمل أنها ستؤذي الناس أَمِطْها عن الطريق تُجزَى خيراً. وجدتَ شخصاً كبيراً في السن يحتاج أحداً أن يوصله أوصله؛ ربما يكون ذلك سبباً في نجاتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. وجدتَ شخصاً مكروباً في أمسّ الحاجة لمن يُفرِّج عنه كربه، فرِّج عنه؛ ربما تكون هي المُنجية. وجدتَ إنساناً لا يُريد منك إلا ابتسامةً، ابتسم تُكتب لك صدقة. وجدتَ شخصاً يُريدك أن تشفع له عند أحدهم، اشفع له ولا تتردد. وجدتَ فقيراً أو مسكيناً في حاجةٍ إلى مالٍ أو طعامٍ أو كساءٍ أو دواءٍ سارِع إلى تقديم ما يُمكنك من مساعدةٍ وإعانةٍ. باختصار؛ افعل كل معروفٍ ولو صَغُرَ في عينيك فإنك لا تعلم بأي معروفٍ يُغفر لك، وبأي عمل خيرٍ تنال رحمة الله فتدخل الجنة.

اللهم استعملنا في الخير، وأرشدنا إليه، ويسِّره لنا، ونقِّه من الرياء والنفاق والسُمعة، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، وتقبله منا؛ إنك سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/46HDMcV

الجمعة، 2 أغسطس 2024

نعمة الإسلام

 

خاطرة الجمعة /458

الجمعة 2 أغسطس 2024م

(نعمة الإسلام)

 

يقول أحدهم: زارني أحد أقربائي في المنزل وهو يعمل في السنترال الخاص بإحدى المُستشفيات في مدينة «جدة»، وعمله هو الرد على المُكالمات، وتشغيل صوت الأذان وقت الصلاة. قلتُ له: "لماذا لا تستغل الوقت من بعد صلاة الفجر إلى الساعة الثامنة صباحاً بتشغيل القرآن بالمستشفى بصوتٍ هادئ"، فرحب بالفكرة وأعطيته مجموعة تلاوات قرآنٍ متنوعةٍ لعددٍ من القُراء، وقلتُ له: "استعن بالله واخدم دينك وأنت في عملك". بالفعل بدأ بتشغيل مقاطع من القرآن الكريم. حكى لي بعدها أنه في أحد الأيام، وكان من ضمن المقاطع التي يُشغلها تلاوةٌ لسورة «ق» لشيخٍ صوته مؤثرٌ جداً، فجأةً وإذا بصوت باب السنترال يُطرَق بشدةٍ، فتحتُ الباب وإذا بالطبيبة الأجنبية التي تعمل في الدور الثاني نزلت إليّ وهي تبكي، فتعجبتُ من ذلك، ومن حُسن الحظ أني أستطيع الحديث باللغة الإنجليزية، سألتني: "ما هذا الصوت؟!"، قلتُ لها: "هذا صوت القرآن"، قالت: "وما هو القرآن؟!"، قلتُ: "هذا كلام الله ونحن المسلمون نفهمه ونتعبد به"، قالت: "وما هو الإسلام؟!"، فطلبتُ منها أن تجلس، وذهبتُ لأتصل بطبيبٍ مناوبٍ أعرفه، ملتزمٌ مُحبٌ للخير ولغته الإنجليزية أفضل مني؛ فحضر إليّ وقابل الطبيبة وحدّثها بنبذةٍ بسيطةٍ عن الإسلام، ثم قال لها: "هناك مواقع على الإنترنت تُخبركِ أكثر عن الإسلام سأزودكِ بقائمةٍ بها، وسأحضر لكِ بعض الكُتيبات التي تُعرِّف بالإسلام باللغة الإنجليزية". وأحضر لها في اليوم التالي قائمةً بروابط لمواقع إنترنت موثوقةٍ، ومجموعةً من الكُتيبات الصغيرة.

دخلت الطبيبة الأجنبية إلى مواقع الإنترنت، وقرأت الكُتيبات. بعد أسبوع قابلني ذلك الطبيب الذي أخبرها عن الإسلام وقال لي: "أُبشرك؛ الطبيبة اعتنقت الإسلام بسبب صوت القرآن". وبعد قُرابة شهرٍ تقريباً، رأيتها وهي لابسةٌ العباءة السوداء والطرحة، ووجهها يُشع نوراً.

 

أحبتي في الله.. مجرد الاستماع إلى تلاوةٍ للقرآن الكريم كان سبباً في اعتناق أختنا الطبيبة الأجنبية للإسلام، رغم عدم معرفتها للغة العربية، وعدم إدراكها لمعاني الآيات التي استمعت إليها! لقد حرَّك القرآن شيئاً بداخلها، فسألت فعرفت وقرأت فعلمت فالتزمت.

ومن حكمة الله سُبحانه وتعالى أنه لم يجعل لدخول الإسلام إلى قلوب الناس سبباً واحداً، بل يكاد يكون لكل معتنقٍ جديدٍ للإسلام سببٌ خاصٌ يختلف عن غيره! فهذه طبيبةٌ أخرى اعتنقت الإسلام لسببٍ مُختلفٍ تماماً؛ تروي الطبيبة قصتها فتقول: أنا طبيبة نساءٍ وولادةٍ، أعمل بإحدى المُستشفيات في «الولايات المتحدة الأمريكية» منذ ثمانية أعوام، في العام الماضي أتت امرأةٌ مُسلمةٌ عربيةٌ لتضع مولودها بالمُستشفى، فكانت تتألم وتتوجع قُبيل الولادة، ولكن لم أرَ أية دمعةٍ تسقط من عينيها، وحينما اقترب موعد انتهاء دوامي أخبرتها أنني سأعود إلى المنزل وسيتولى أمر توليدها طبيبٌ غيري زميلٌ لنا؛ فبدأت تبكي وتصيح بحرارةٍ وبلا تردد: "لا، لا أريد طبيباً رجلاً"، تعجبتُ من شأنها؛ فأخبرني زوجها أنها لا تريد أن يدخل عليها رجلٌ ليراها؛ فهي طيلة عمرها لم يرَ وجهها سوى محارمها: والدها وإخوانها وأعمامها وأخوالها. ضحكتُ وقلتُ له باستغرابٍ شديدٍ: "أنا لا أظن أن هناك رجلاً في «أمريكا» لم يرَ وجهي بعد! المهم، استجبتُ لطلبها، وقررتُ أن أجلس معها حتى تضع؛ فقامت هي وزوجها بشكري، وجلستُ ساعتين إلى حين وضعت. في اليوم التالي حضرتُ للاطمئنان عليها بعد الوضع وأخبرتها أن هناك الكثير من النساء يُعانين من الأمراض والالتهابات بسبب إهمالهن لفترة النِفاس؛ فأخذت تشرح لي الوضع بالنسبة للنِفاس عندهم في الإسلام، وتعجبتُ جداً لما ذكرته. وبينما كنتُ في انسجامٍ في الحديث معها؛ دخلت طبيبة الأطفال لتطمئن على المولود وكان مما قالته للأُم: "من الأفضل أن ينام المولود على جنبه الأيمن لتنتظم دقات قلبه"، فقال الأب: "إننا نضعه على جنبه الأيمن تطبيقاً لسُنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم"؛ فتعجبتُ لهذا الأمر أيضاً؛ انقضى عمرنا لنصل لهذا العلم، وهُم يعرفونه من دينهم! فقررتُ أن أتعرف على هذا الدين؛ فأخذتُ إجازةً لمدة شهرٍ، وذهبتُ إلى مدينةٍ أُخرى فيها مركزٌ إسلاميٌ كبيرٌ حيث قضيتُ أغلب الوقت فيه للسؤال والاستفسار والالتقاء بالمسلمين العرب والأمريكيين، وحينما هممتُ بالرحيل؛ حملتُ معي بعض النشرات التعريفية بالإسلام، فأصبحتُ أقرأ فيها، وكنتُ على اتصالٍ مستمرٍ ببعض أعضاء ذلك المركز. والحمد لله أنني أعلنتُ إسلامي بعد عدة أشهر.

 

الحمد لله على (نعمة الإسلام)، وما أعظمها من نعمةٍ، ولأننا وُلدنا مُسلمين، ونشأنا في أُسَرٍ مُسلمةٍ، وعشنا في مُجتمعاتٍ دينها الإسلام؛ فنكاد لا نشعر بما يشعر به الأجانب عندما يتعرفون على الإسلام لأول مرة.. فكم نستمع إلى آيات القرآن الكريم تتُلى؛ في صلواتنا بالمساجد، في مُناسبات العزاء، في إذاعاتنا، وفي القنوات التلفزيونية، وربما لا يتحرك بداخلنا شيءٌ كما تحرك مع الطبيبة الأولى التي كانت تستمع إلى القرآن الكريم لأول مرة؛ إذ انتابها شعورٌ بالاندهاش ممزوجٌ بطمأنينة نفسٍ لم تعهدها من قبل. أما مع الطبيبة الثانية فإن ما نعرفه -نحن المُسلمين- عن فترة النِفاس أو عن النوم على الشِق الأيمن يجعلها مسألةً اعتياديةً بالنسبة لنا، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة للطبيبة الأمريكية، بل وكانت سبباً لرحلة بحثٍ بدأت بالاتصال مع المركز الإسلامي ومقابلة عددٍ من المُسلمين والاطلاع على كُتيبات تعريفية وانتهت باعتناقها الإسلام.

 

يقول أهل العلم إن نِعم الله على العبد كثيرةٌ من أجَلِّها (نعمة الإسلام)، ودلائل القرآن والسُنة تثبت أن أفضل نعمةٍ على الإنسان هي هدايته للإسلام، وهي منبع كل خيرٍ، وأصل كل سعادةٍ في الدُنيا والآخرة، وهي النِعمة العُظمى التي رضيها الله لنا وأكملها وأحسنها وامتّن بها علينا؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمِ دِينًا﴾ يقول المُفسرون لهذه الآية: هذه أكبر نِعم الله عزَّ وجلَّ على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دينٍ غيره، ولا إلى نبيٍ غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرّعه. يقول سُبحانه في نهاية الآية: ﴿رَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبّه، وبعث به أفضل رُسُلِه الكرام، وأنزل به أشرف كُتُبِه، وكل شيءٍ أخبر به فهو حقٌ وصدقٌ لا كذب فيه؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لنا تمت النِعمة علينا. كما يقول: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يعني بالنِعمة الإسلام، وما فرض من شرائع دينه. ويقول أيضاً: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ أي صرتم بنِعمة الإسلام إخواناً في الدين. ويقول كذلك: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ أي: يكفرون بما أنعم الله عليهم من دين الإسلام.

إن نِعمة الإسلام نِعمةٌ من أجَّل النِعم وأوفاها وأعلاها، ويجب على المُسلم أن يحمد الله تعالى ليل نهار على هذه النِعمة الكُبرى والمِنة العُظمى، إذ جعله من أهل التوحيد الخالص والدين الحق؛ فهو دائم الشُكر على (نعمة الإسلام) لما لهذا الدين من خصائص وفضائل منها: أن الإسلام هو الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده، دين الفطرة، دين التوحيد الخالص، دين العِلم والمعرفة، دين العدل والمساواة بين البشر، دين السماحة وعدم الإكراه، دين اليُسر ورفع الحرج، دين الوسطية والتوزان، دين العزة والقوة، وهو دين الفضيلة ومكارم الأخلاق. وحمدُ الله تعالى على (نعمة الإسلام) يستوجب الفهم العميق لمبادئ الإسلام ولتشريعاته الخالدة، والتطبيق العملي لتلك التعاليم والتشريعات حتى تُصبح واقعاً ملموساً وسلوكاً مشاهداً، وحتى يُدرك الناس أن عالمية الإسلام ليست شعاراً يُرفع ولا كلماتٍ تُقال بل هي أثرٌ يُدرَك وأملٌ ينُشَد.

 

قال الشاعر:

الحَمدُ لِلَّهِ عَلى الإِسلامِ

إِنعامُهُ مِن أَفضَلِ الإِنعامِ

 

أحبتي.. الحمد لله على (نعمة الإسلام) وما أعظمها من نِعمة. ولما كانت بالشكر تدوم النِعم؛ فلنُلزم أنفسنا بألا يمر يومٌ إلا ونُصبح ونُمسي فيه شاكرين لله سُبحانه وتعالى جميع نِعمه وآلائه، ونخص بالشكر أن أنعم علينا بأكمل وأتم نِعمةٍ (نعمة الإسلام)، وأن هدانا عزَّ وجلَّ للإيمان، ولسان حالنا يُردد: ﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَن هَدانَا اللَّهُ﴾.

https://bit.ly/4c9NYMv

 

 

الجمعة، 26 يوليو 2024

ليست صدفة

 

خاطرة الجمعة /457

الجمعة 26 يوليو 2024م

(ليست صدفة)

 

خرج الطبيب الجراح الشهير «س» على عجلٍ كي يذهب إلى المطار للمشاركة في المؤتمر العلمي الدولي الذي سيُكرم فيه على إنجازاته الفريدة في عالم الطب، وفجأةً وبعد ساعةٍ من الطيران أُعلن أنّ الطائرة أصابها عطلٌ؛ بسبب صاعقةٍ وستهبط هبوطاً اضطرارياً في أقرب مطار. توجه الطبيب إلى استعلامات المطار، وقال: "أنا طبيبٌ عالميٌ، وكل دقيقةٍ تُساوي أرواح ناس، وأنتم تُريدون أن أبقى 16 ساعةً بانتظار طائرة؟"، فأجابه الموظف: "يا دكتور، إذا كنتَ مُستعجلًا يُمكنك استئجار سيارةٍ والذهاب بها، فرحلتك لا تبعد عن هُنا سوى ثلاث ساعاتٍ فقط بالسيارة. وافق الطبيب «س» على مضضٍ، وقام باستئجار سيارةٍ وظلّ يسوق، فجأةً تغير الجو، وبدأ المطر يهطل مدرارً، وأصبح من العسير أن يرى أيّ شيءٍ أمامه، وبعد ساعتين أيقن أنّه قد ضلّ طريقه وأحس بالجوع والتعب، فرأى أمامه بيتاً صغيراً، فتوقف عنده.

دقّ الباب، فسمع صوتاً لامرأةٍ عجوزٍ تقول: "تفضل بالدخول كائناً مَن كنتَ؛ فالباب مفتوح"، فدخل الطبيب وطلب من العجوز المقعدة أن يستعمل الهاتف، ضحكت العجوز وقالت: "أيّ هاتفٍ يا بُني؟ ألا ترى أين أنت؟ هُنا لا كهرباء ولا هواتف، ولكن تفضل واسترح وصُب لنفسك فنجاناً من الشاي الساخن، وهناك طعامٌ على الطاولة، فكُلْ حتى تشبع وتسترد قوتك". شكر الطبيب «س» المرأة وجلس يأكل، بينما كانت العجوز تُصلي وتدعي انتبه فجأةً إلى طفلٍ صغيرٍ نائمٍ بلا حراكٍ على سريرٍ قُرب العجوز، وهي تهزه بين كل صلاةٍ وصلاة، واستمرت العجوز بالصلاة والدعاء طويلاً، فتوجه «س» لها قائلاً: "يا أُماه، والله لقد أخجلني كرمك ونُبل أخلاقك، وعسى الله أن يستجيب لكل دعواتك"، قالت له العجوز: "يا ولدي، أنت ابن سبيلٍ أوصى بك الله، أما دعواتي فقد أجابها الله -سُبحانه وتعالى- كلها إلّا واحدة"، فسألها الطبيب «س»: "وما هي تلك الدعوة يا أُماه؟"، قالت العجوز: "هذا الطفل الذي تراه حفيدي، وهو يتيم الأبوين، وقد أصابه مرضٌ عضالٌ عجز عنه كل الأطباء عندنا، وقيل لي إنّ طبيباً واحداً يستطيع علاجه يُقال له «س»، ولكنه يعيش بعيداً من هُنا، ولا طاقة لي بأخذ هذا الطفل إلى هناك، وأخشى أن يأخذ الله أمانته، ويبقى هذا المسكين بلا حول ولا قوة، فدعوتُ الله أن يُسهل أمري"، بكى الطبيب «س» وقال: "يا أُماه إنّ دعاءك والله قد عطّل الطائرات، وضرب الصواعق، وأمطر السماء كي يسوقني إليك سَوْقاً، أنا هو الطبيب «س»! والله ما أيقنتُ أنّ الله -عزَّ وجلَّ- يُسبب الأسباب لعباده المؤمنين بالدعاء، حتى هذه اللحظة. سبحانك، لا إله إلا أنت إني كنتُ من الظالمين".

 

أحبتي في الله.. (ليست صدفة) أبداً، إنه تقدير الله سُبحانه وتعالى.

إن حُسن الظن بالله، والثقة به، والتوكل عليه، واللجوء إليه بالدعاء عند الشدة والبلاء، من أسباب استجابة الله الدعاء، ليظهر لنا كما لو كان صُدفة!

كما أن القُرب من الله -عزَّ وجلَّ- يُحقق للإنسان معجزاتٍ تُدهشه؛ فهذا طبيبٌ سعوديٌ كتب على صفحته على فيس بوك يقول: ذهبتُ مع العائلة إلى «دبي» عن طريق البر، على غير العادة؛ إذ كُنا مُعتادين على السفر بالطائرة. وفي طريق العودة، وبعد أن تجاوزنا حدود «الإمارات» إلى «السعودية» اكتشفتُ أنني قد أخطأتُ الطريق وتجاوزتُ التحويلة المؤدية إلى «الرياض».. كان الطريق مُزدوجاً؛ فحاولتُ إصلاح الخطأ بالاستدارة للعودة إلى الطريق الصحيح بعبور الجزيرة في مُنتصف الطريق، كانت الجزيرة مليئةً بمادةٍ سوداء تُشبه مادة القار التي تُستخدم في سفلتة الطُرق، ظننتُ أن المادة صلبةٌ ويُمكن العبور عليها، لكن يبدو أنها تحولت مع شدة الحر إلى مادةٍ لزجةٍ، حيث كُنا في شهر أغسطس.. حدث ما لم أكن أتوقعه وتوقفت السيارة وسط مادة القار! لا حول ولا قوة إلا بالله.. السيارة مُحملةٌ بالعفش والجو حارٌ جداً.. بعد طول انتظارٍ توقفت لنا سيارة شحنٍ سائقها أخٌ يمنيٌ، ربط سيارتي الصغيرة بسيارته الكبيرة وسحب سيارتي خارج مُستنقع القار.. ثم أخذنا بعد ذلك إلى مغسلةٍ للسيارات لغسل سيارتي التي تلطخت بمادة القار اللزجة.. أثناء ذلك، تبادلت مع السائق -واسمه «أحمد»- أطراف الحديث عن أحواله وأهله؛ فقال: "الحمد لله، لكن لديّ طفلٌ يُعاني من مشاكل صحيةٍ، ونصحني أطباء الأطفال بالذهاب إلى استشاري لأمراض الجهاز الهضمي، وأنا حالتي المادية محدودةٌ جداً، كما أني دائم السفر على الطُرق كما ترى"، توقف «أحمد» عن الكلام حينما رأي عينيّ وقد اغرورقت بالدموع، وسألني: "ما بك؟"، قلتُ له: "يا «أحمد»، ما هي الخبيئة التي بينك وبين الله؛ ليسوق استشاري الجهاز الهضمي لدى الأطفال إليك سَوْقاً من «الرياض» على غير العادة أن يسلك طريق البر للذهاب إلى «دبي»، ثم يُخطئ الطريق ويقع في مُستنقع القار ليقابلك على غير موعدٍ؟! إنها ليست صدفةً، بل هو قَدَر الله وتدبيره"، سألني مُتعجباً: "هل أنت استشاري جهاز هضمي؟"، قلتُ: "نعم، وللأطفال بشكلٍ خاص!"، فبكى.

 

‏سبحان الله مالك الكون، ومُقدر الأقدار، القادر على تسخير وتدبير وتصريف خلقه كيف ومتى شاء.. هذه المواقف وأمثالها (ليست صدفة)، بل هي من أقدار الله؛ يقول تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، ويقول كذلك: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]، إنه نظامٌ مُحكمٌ تُسيّر به أحوال المخلوقات بتقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ، لا يوجد في الحياة صدفةٌ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ والقَدَر هو كل ما قدَّره الله سُبحانه من أُمور خَلْقِه، فهو يُسيّر هذا الكوْن بكل تفاصيله، ويُحيط بعلمه الأزلي كل ما حدث وسيحدث في هذا الكون من أحداثٍ، مهما صغُرت أو كبُرت، ويعلم أين ومتى سيحدث كل شيءٍ، وما يسبقه من مقدماتٍ وما يتبعه من آثار.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يجوز للمسلم أن يقول: "قابلتُ فلاناً صدفةً؟"، أفتى العلماء بأن قول الإنسان "قابلتُ فلاناً صدفةً" ليس مُحرّماً أو شِركاً، لأن المُراد من هذه العبارة "قابلته دون سابق وعدٍ أو اتفاقٍ على اللقاء مثلاً"، وليس في هذا المعنى حرجٌ، وليس المُراد أنه قابله بدون تقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ؛ فالصدفة بالنسبة لفعل الإنسان أمرٌ واقعٌ، لأن الإنسان لا يعلم الغيب؛ فقد يُصادفه الشيء من غير شعورٍ به ومن غير مُقدماتٍ له ولا توقعٍ لحدوثه، ولكن بالنسبة لفعل الله لا يقع هذا؛ فإن كل شيءٍ عند الله معلومٌ، وكل شيءٍ عنده بمقدارٍ، وهو سُبحانه وتعالى لا تقع الأشياء بالنسبة إليه صدفةً أبداً.

 

تُعرِّف معاجم اللغة العربية الصُدفة على أنها "ما يحدث عرضاً على غير انتظارٍ، دون توقع". يقول أحد الكُتّاب: إن الصُدف هي من النِعم التي يشمل الله بها عباده، ويُرسل لهم من خلالها مصادر الدعم والمدد، كما أنها إحدى المنح الخفية، التي يسوقها لنا القدر، لتربط على قلوبنا، وتمنحنا السلام والسكينة والطمأنينة أحياناً، وكم مِن صُدفةٍ غيرت مسارنا دون أن ندري في حينها ما قد يترتب عليها مُستقبلاً، لتظل الصُدفة إحدى الأسرار التي يجب أن نحترمها، والغيبيات التي لا يُمكن أن نتوقعها؛ فهي سياقاتٌ ربانيةٌ خالصةٌ تدفعنا لأقدارنا دون حولٍ منا ولا قوة.

 

أحبتي.. الثابت أن ما نعتقد أنها صدفةٌ (ليست صدفة) إنما هو قَدَر الله وقضاؤه؛ لذا فكلما اقتربنا من الله أكثر، وكلما أحسنا الظن به، وتوكلنا عليه بيقينٍ، ودعوناه بإخلاصٍ وتذللٍ وانكسارٍ وإلحاحٍ واثقين من إجابة الدعاء، كلما كان ذلك أدعى لسرعة الاستجابة، التي قد تأتي -في بعض الأحيان- بشكلٍ مُفاجئٍ وغير متوقعٍ يبدو لنا أنه صدفةٌ لكنه ليس كذلك، بل هو تدبير رب العالمين.

اللهم إنا نسألك إعانتنا على القُرب منك، بأداء الفروض، وجبرها بالنوافل، وتحسين أعمالنا على الوجه الذي يُرضيك.. وتقبّل اللهم منا دعاءنا، واستجب رجاءنا، وارحم ضعفنا، والطف بأقدارنا. وأنعِم اللهم علينا بفضلك وكرمك باستجابة دعواتنا، وإدهاشنا بعطائك، ظاهراً وباطناً، بأسبابٍ نعرفها أو صُدفٍ نجهل متى وأين وكيف تتكرم بها علينا.

https://bit.ly/4diRjdb

 

الجمعة، 19 يوليو 2024

مشاهير في السماء

 

خاطرة الجمعة /456

الجمعة 19 يوليو 2024م

(مشاهير في السماء)

 

انتشرت في الأيام الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي قصةٌ من أعجب القصص الواقعية التي حدثت في موسم الحج الذي انتهي منذ حوالي شهر، نُشرت القصة تحت عنوان: "للسماء رجالٌ!"، كتبها أحد الأمراء المسئولين في «المملكة العربية السعودية»، كتب يقول: خرجتُ للحج هذا العام -مثل الأعوام السابقة- فأنا أُحب الحج كفريضةٍ، وأُحبه أيضاً كرحلةٍ إيمانية. في حج هذا العام حدث شيءٌ مُختلفٌ زلزّل كل مفاهيمي عن الحياة؛ كنتُ في ليلة التروية في مُخيم «مِنى»، وكنتُ أُقيم في مُخيمٍ من أفخم المُخيمات، إن لم يكن بالفعل هو أفخمها. سبحان الله، أحسستُ بضيقٍ في نَفَسي وخنقةٍ في صدري، بعد صلاة العشاء بوقتٍ طويل، وأحسستُ أني أحتاج لأن أمشي؛ خرجتُ وحدي بدون حراسةٍ، معي هاتفي، أسير على غير هدىً نحو الجبال.

هناك وفي الظلام، وعلى صخرةٍ بعيدةٍ، شاهدتُ رجلاً عجوزاً تجاوز السبعين من عُمره يجلس وحيداً، حين اقتربتُ منه ورآني فوجئتُ به يسألني: "هل أنت مَن أحضرتَ اللحم لي؟"، ذُهلتُ من كلامه وسألته: "وهل أنت تنتظر أحداً يوصل لك اللحم في هذا المكان؟ هل طلبتَ اللحم من مطعمٍ مثلاً؟"، قال لي بكل ثقةٍ: "بل طلبتها من الله ربِ كل أصحاب المطاعم؛ فأنا لم آكل أي شيءٍ منذ العصر، وقد طلبتُ من الله اللحم وأنتظر مَن يؤتيني به"، ضحكتُ غصباً عني من هذا العجوز الجائع الذي ينتظر اللحم في عز الليل في منطقةٍ مقطوعةٍ، وقلتُ في نفسي: "والله لأُحضرن له طلبه"، اتصلتُ بأحد المسئولين في المُخيم وطلبتُ منه طبقاً كبيراً فيه أجود أنواع اللحم، وأرسلتُ له موقعي، بعد قليلٍ أتى أحد العمال بطبق اللحم فوضعته أمام الرجل العجوز، فهلّل وكبّر وسمى الله وأكل بنهمٍ شديدٍ يبدو منه أنه كان جائعاً حقاً. بعد أن انتهى من أكل اللحم، سمعته يقول: "شكراً لك يا رب؛ رزقتني اللحم وكان حُلواً، والآن أنا أريد أن أشرب كوباً من الشاي بالنعناع، فأنا لا أحب الشاي من غير نعناعٍ يا رب"، استغربتُ من دعائه؛ هل ينتظر كوب شايٍ وبالنعناع في هذا المكان المقطوع؟! المهم أنه نظر إليّ وسألني: "هل تُريد ما تبقى من الأكل؟"، قلتُ: "لا، شكراً"، فجمع بقية الطعام وأعطاه لأول جماعةٍ مرّت من أمامنا، أعتقد أنهم من أهل الشام، وقال لهم: "هذا رزقٌ من الله لكم"، فشكره الناس ومضوا لحال سبيلهم، الغريب أنه بعد لحظاتٍ عاد أحدهم وفي يده كوب شايٍ وقال للعجوز: "يا شيخ هذا لك؛ أرجو أن تقبله منا كما قبلنا منك اللحم"، فقال العجوز: "وهل في الشاي نعناع؟"، قال له الرجل: "لا، لكن معنا نعناعٌ، ثوانٍ أُحضره لك"، فقال له الرجل العجوز: "هل مُمكن أن تُحضر كوباً آخر لهذا الرجل بجانبي فهو الذي أرسله الله لي ولكم باللحم"، ذهب الرجل وعاد ومعه كوب شايٍ بالنعناع أعطاه لي، كنتُ مذهولاً مما يحدث، ومن شدة ذهولي لم أنطق أو أعترض، أخذتُ كوب الشاي وشربته، وأقسم بالله لم أذق حلاوة مثل هذا الشاي من قبل. بعد أن شرب الرجل العجوز الشاي في صمتٍ وهدوءٍ وسكينةٍ، حمد الله، ودُهشتُ حين سمعته يطلب من الله وسادةً لينام عليها إذ قال: "يا رب ارزقني بوسادةٍ؛ أنت تعلم أني لا أستطيع النوم على الصخر من غير وسادة!"، أُقسم بالله العظيم، إنه ما انتهى من دعائه إلا ومجموعةٌ من الحجاج من دولة «المغرب»، عرفتهم من كلامهم، جلسوا بجانبنا وفرشوا سجادةً ووضعوا وسائدهم عليها، فاستأذنهم الرجل العجوز في واحدةٍ من الوسائد أخذها ونام، وسمعته يقول: "يا رب الجو حرٌ حتى في الليل؛

أرسل لنا نسمة هواءٍ كي أستطيع أن أنام!"، أُقسم بالله العظيم أن نسمة هواءٍ هبّت بالفعل! وقتها لم أتمالك نفسي؛ فقلتُ وعيناي تدمعان: "الله أكبر، الله أكبر، مَن أنت يا شيخ؟!"، قال لي: "عبدٌ من عبيد الله، دعني أنام، فأمامنا غداً يومٌ طويلٌ، دعني وإلا دعوتُ عليك"، تملكني الرعب؛ فأسلمتُ ساقاي للريح جرياً إلى المُخيم، وهناك قابلتُ رجل الدين الشيخ الذي يُرافقنا في المخيم -وهو واحدٌ من أشهر مشايخ المملكة، وهو حيٌ يُرزق وشاهدٌ على ما أقول- حكيتُ له ما حدث، فقال لي: "والله إني لأُحب أن ألتقي بهذا الرجل الذي يدعو بأي شيءٍ فيستجيب له الله سُبحانه وتعالى في الحال"، فذهبتُ أنا وهو إلى الموقع الذي كنتُ أرسلته لطلب اللحم، لنجد أن الرجل العجوز قد قام من نومه وتحرك، فسألته: "إلى أين يا حاج؟" قال لي: "اقترب موعد أذان الفجر؛ سأبحث عن مكانٍ أتوضأ فيه كي أُصلي الفجر"، فقلتُ له: "يا حاج هل تعرف من أنا؟ ومن هذا الشيخ الذي معي؟"، فرد قائلاً: "نعم أعرفكما؛ فأنتما عبدان من عبيد الله، مثلي"، فقلتُ له اسمي واسم الشيخ الذي معي، فقال بدون أي اهتمامٍ إطلاقاً: "عبدان من عبيد الله، مثلي"، فعرضتُ عليه أن يُكمل الحج معنا فرفض، وقال: "أُفضّل أن أحج على طريقتي"، فأعطيته بطاقةً فيها رقم هاتفي الشخصي حتى يتصل بي في أي وقتٍ لو احتاج أي شيءٍ، فقال لي بصوتٍ كله إيمانٌ: "ولِمَ أُكلمك وأطلب منك وأنت عبدٌ فقيرٌ، مثلك مثلي، لو احتجتُ شيئاً فأنا أطلبه من ربي وربك، ولو شاء لجعل الخير يأتيني على يديك، ولو شاء لجعل الخير يأتيني من غيرك"، ومضى في طريقه، ناديتُ عليه وقلتُ له: "لي طلبٌ عندك؛ أرجو أن تدعو لي يا حاج"، فقال لي بلهجة الواثقين: "ولماذا لا تدعو أنت لنفسك؟"، فقلتُ له: "أنت دعاؤك ما شاء الله يُستجاب"، فقال لي: "تقرّب إلى الله حتى يُصبح دعاؤك أنت الآخر مُستجاباً"، ثم قال ونحن نسمعه: "اللهم ارزقني بسيارةٍ تنقلني إلى المسجد؛ فقدماي لا تقويان على المشي"، وبينما هو يتحرك ببطءٍ بسبب سِنه وضعف جسمه، رأينا -أنا والشيخ الجليل الذي معي- سيارة دوريةٍ للحجيج رأته فوقفت له وركب معهم، فالتفتُ لي الشيخ الذي كان معي وقال لي: "يا سيادة الأمير نحن رجالٌ معروفون في الأرض، لكنّ هناك رجالاً (مشاهير في السماء)، وكما أن ترتيبنا في الدنيا مُختلفٌ فكذلك ترتيبنا في السماء مُختلفٌ، وأعتقد أننا التقينا برجلٍ معروفٍ في السماء أكثر مما نحن معروفون في الأرض".

 

أحبتي في الله.. هذا الرجل العجوز واحدٌ من البشر المعروفين في السماء رغم أنهم مجهولون في الأرض، يعيشون بيننا لا نكاد نُدركهم أو نشعر بهم، إنهم من (المشاهير في السماء) يعملون للدار الآخرة التي يجعلها الله سُبحانه وتعالى ﴿لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾؛ فالشُهرة في السماء تحتاج إلى مَن لا يُسابق إلى مواطن العُلو في الأرض، و(المشاهير في السماء) هُم -كما يقول العلماء- الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وأبصروا بقلوبهم قبل عيونهم كيف أنها دار فناءٍ، وأن الآخرة هي دار البقاء، فعاشوا في الدنيا يعملون لآخرتهم، عاشوا في الأرض غُرباء لا يبحثون عن شُهرةٍ وإنما يعملون -بإخلاصٍ- كي يُصبحوا مشهورين في الآخرة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ]، ومن هؤلاء الغُرباء مَن وصفهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثه: [رُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ]، {ذي طمرين أي ذي ثوبين باليين. لا يؤبه له: لا يُهتم بأمره ولا يُحتفل به} وفي حديثٍ آخر قال عليه الصلاة والسلام: [ألا أُخْبِرُكم عَنْ مُلُوكِ أهْلِ الجَنَّةِ؟]، قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: [كُلُّ ضَعِيفٍ أغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ].

وكانت حياته عليه الصلاة والسلام نموذجاً وقدوةً نحتذي بها؛ وهو القائل: [مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]، عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة المُلك والشُهرة في الدنيا فرفضها.

 

يصف أحد الكُتاب (المشاهير في السماء) فيقول عن أحدهم: بالمنظور الدنيوي، هو مجهولٌ، لكنه كعابر سبيلٍ، لا يأبه إن كان معروفاً أو مجهولاً، مشهوراً أو مغموراً، لا يكمن فرحه في ذِكر اسمه بين أهل الأرض، بل غايته ورجاؤه أن يُذكر في السماء. إنه ذاك التقيّ الذي يعيش في الدنيا بجسده، بينما روحه مُعلقةٌ بالآخرة، يرى فيها حياته وخلوده، يري الحُلم في أسمى معانيه حينما يكون بعيداً عن أنظار الناس. غرس سِكينةً في قلب الرياء، ومزّق رِداء الكِبر، وسقى نبتة الإخلاص بدموع الخشية من الله، والرغبة في الجنة، والصمود في وجه رياح الفِتن العواتي في زمانٍ المتمسك فيه بدِينه، كالقابض على الجمر. غريبٌ كأن الدنيا ليست موطنه؛ فلا يأبه إن كان له نصيبٌ منها أم لم يكن، لا يطمع في مالٍ أو جاهٍ، لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، غِناه في قلبه، يكتفي بالرضا، والقليل من الزاد؛ فإن زاده الحقيقي هو ذِكر الله، موطنه الأصلي هو السماء، لا يشعر بالوحدة؛ إذ هو مستأنسٌ بمعية الله، هو مجهولٌ في الأرض لا يأبه له الناس، فلكأنه في شفافيته ونقائه من ملائكة السماء الذين ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

 

وليست هذه دعوةٌ للانعزال عن الناس والانقطاع عن الدُنيا بالكُلية؛ فلا رهابنية في الإسلام؛ فهو دين الحنيفية السمحاء، دين اليُسر والوسطية بين الإفراط والتفريط، جاء ليُسعد الإنسان في دنياه وآخرته؛ فديننا ينهى عن ترك الاشتغال بأمر المعاش والانقطاع الكامل للعبادة، وينهى عن الغلو في الزهد والتقشف، ويحث على الوسطية ومنهج الإسلام يتمثل في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ . يقول أحد العارفين: الارتباط بالناس والانخراط في المجتمع، ومُكابدة المشاق من طبيعة الحياة، ولا حياة بغير اجتماع الناس والتآلف معهم ومُشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، بل لا حياة للمُصلحين إلا بين الناس، يُصلحون أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم وأُمتهم. ورد في الأثر: "حُق على العالِم أن لا ينشغل عن أربع ساعاتٍ: ساعةٌ يُناجي فيها ربه، وساعةٌ يُحاسِب فيها نفسه، وساعةٌ يُفضي فيها إلى إخوانه الذين يصدقونه عيوبه وينصحونه في نفسه، وساعةٌ يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمُل؛ فإن هذه الساعة عونٌ للساعات الثلاث الأخرى، واستجمامٌ للقلوب، وعلى العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مُمسكاً بلسانه، مُقبلاً على شأنه".

 

يقول الشاعر:

تَجِدُ الفَتى تَشْتَهيهِ الأرْضُ وَالبَشَرْ

وَما لَهُ في السَماءِ لَوْ ذَرَةُ قَدَرْ

تَطْفو وَجاهَتُه في الأرْضِ مَنْزِلَةً

وَفي القِيامَةِ قَدْ هَشَتْ لَهُ سَقَرْ

 

أحبتي.. اللهم ارفع مقامنا عندك، واجعلنا ممن إذا دَعَوْكَ استجبتَ لهم.. اللهم اجعلنا من (المشاهير في السماء)، ولو كُنا مجهولين في الأرض، وأعنّا على أن نكون من المتقين الصالحين، ومن المُصلحين في الأرض، ومن عبادك الذين ينفعهم صدقهم فتكون لهم ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.. وأعنّا اللهم على أنفسنا؛ فلا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وإنما اجعلها مزرعةً لآخرتنا، نُحسن فيها الحرث والبذر والزرع والري لنجني ثمرة ذلك في الآخرة جنةً ونعيماً أبدياً مُقيماً.

اللهم اجعلنا ممن يُعطَوْنَ صحيفتهم باليمين؛ فيفرحوا ويطوفوا على الناس يقولون لهم: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾، إنها البُشرى على الخُلد في الجنة والبقاء في النعيم الأبدي. اللهم اجعلنا من خير العباد، وارزقنا السداد وحُسن الاستعداد، ولا تفضحنا يوم يقوم الأشهاد.

https://bit.ly/4d5fZWu