الجمعة، 16 أغسطس 2024

عطاء الله

 

خاطرة الجمعة /460

الجمعة 16 أغسطس 2024م

(عطاء الله)

 

تقول صاحبة القصة: بعد تخرجي من الجامعة بتقدير جيد جداً، والتحاقي بعملٍ مناسبٍ وانشغالي به، وعدم إيجادي أياً من مواصفات الشريك المُناسب فيمن تقدّموا لي، زاد انشغالي بعملي الذي أُحبه حتى بلغتُ الرابعة والثلاثين من عُمري، إلى أن تقدّم لخطبتي شابٌ يكبرني بعامين يمرّ بظروفٍ صعبةٍ مالياً، لكني رضيتُ خوفاً من فوات فرصة الزواج. بعد الاتفاق على موعد عقد القران، وانشغالي بالترتيبات، اتصلت بي والدته وطلبت مقابلتها بأسرع وقت، ذهبتُ لأقابلها رغم عدم معرفتي سبب إصرارها على مقابلتي خارج المنزل، بدا على وجهها الضيق بشكلٍ واضحٍ، حاولتُ التحدث بمواضيع مختلفةٍ لتخفيف التوتر، لكنها وبشكلٍ مفاجئٍ طلبت مني رؤية بطاقتي الشخصية، وكان أول سؤالٍ منها: "هل تاريخ ميلادي فيها صحيح؟"، أجبتها: "نعم"، قالت: "إذاً أنتِ تقتربين من الأربعين من العُمر"، صدمتني بجملتها، لكنني حاولتُ أن أتمالك نفسي وأجبتها: "أنا في الرابعة والثلاثين فقط"، قالت: "لن يختلف الأمر فقد تجاوزتِ الثلاثين، وقلّت فرص إنجابك، وأريد أن أرى أحفادي". وهكذا انتهى الحديث بيننا بفسخ الخطوبة. مرت عليّ ستة أشهرٍ عصيبةٍ مليئةٍ بالاكتئاب والحزن، لاحظ والدي تغير حالي فاقترح عليّ الذهاب لأداء العُمرة أغسل بها الحزن والهمّ، وأُحسِّن نفسيتي.

بعد أيامٍ ذهبنا فعلياً وأدينا العُمرة، وجلستُ في البيت العتيق أُصلي وأبكي وأدعو الله أن يُهيئ لي من أمري رشداً، أنهيتُ صلاتي، ولفت انتباهي صوت امرأةٍ ترتّل: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ بصوتٍ فائق الجمال، فقدتُ السيطرة على نفسي فبكيتُ رغماً عني، اقتربت هذه السيدة مِني، وأخذت تُردد قول الله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾، هدأت نفسي وكأنني أسمعها لأول مرة.

عُدنا إلى «القاهرة»، وصلنا إلى المطار، وبعد نزولنا من الطائرة وجدنا زوج صديقتي في صالة الانتظار، سأله والدي عن سبب مجيئه فأجابه بأنه في انتظار صديقٍ عائدٍ على نفس الطائرة التي جئنا بها، جاء صديقه لأجد أنه كان جارنا في مقاعد الطائرة. غادرنا المطار، وما إن وصلنا إلى المنزل إذ بصديقتي تتصل بي لتقول لي إن صديق زوجها أُعجب بي، ويرغب برؤيتي في بيتها في نفس الليلة لأنّ خير البر عاجله. استشرتُ والدي في الأمر، فشجعني على الذهاب ففعلت. لم تمضِ أيامٌ حتى تقدّم لخطبتي، وأتممنا أمور الزواج خلال شهرين لا أكثر، وبدأت حياتي الزوجية بتفاؤلٍ؛ إذ وجدتُ في زوجي كل ما أردت. مرت شهورٌ ولم تظهر أي علاماتٍ للحمل، كنتُ قلقةً خاصةً أني تجاوزت السادسة والثلاثين، ما دفعني لأن أطلب من زوجي إجراء بعض التحاليل والفحوصات، لم يرفض طلبي وذهبنا سوياً إلى طبيبةٍ مختصةٍ، وعند استلام النتائج فاجأتنا بخبر حملي!

أثناء حملي حرصتُ على ألّا أعرف نوع الجنين لإيماني بأن كل ما سيأتيني من الله خير، وكلما شكوتُ لطبيبتي من إحساسي بكبر حجم بطني فسرّته بسبب تقدّمي في السن. مرت الشهور بصعوبتها إلى أن حان موعد ولادتي، وأجريتُ عملية ولادة قيصرية بنجاحٍ، ونُقلتُ إلى غرفتي في المستشفى بانتظار رؤية طفلي، جاءت الطبيبة تستفسر مني عن نوع الجنين الذي أرغب، فأجبتها بأني تمنيتُ من الله مولوداً يتمتع بصحةٍ جيدةٍ فقط ولا يهمني نوعه، فكان ردها صادماً: "ما رأيك في أنكِ أنجبتِ ثلاثة توائم!!"، لم أدرك ما قالته، فطلبت مني التحكم بردود فعلي، إذ أن الله تعالى قد عوّضني بثلاثة أطفالٍ دفعةً واحدةً رحمةً منه، وأخبرتني أنها كانت على علمٍ بأني حاملٌ بتوأمٍ لكنها لم تُبلغني بذلك؛ حتى لا أتوتر خلال حملي، تذكرتُ لحظتها قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.

 

أحبتي في الله.. ونِعْمَ بالله؛ إنه (عطاء الله) الذي إذا أعطى أدهش بعطائه. وعن العطاء يقول تعالى مخاطباً سيدنا سليمان: ﴿هَـٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: هذا الذي أعطيناك من المُلك التام، والسلطان الكامل؛ كما سألتنا. ويقول سُبحانه واصفاً ثواب المؤمنين: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ غير مجذوذٍ أي غير مقطوع. ويقول أيضاً: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ أي أن رزق ربك ليس ممنوعاً ولا منقوصاً عن جميع عباده في الدنيا؛ سواءً منهم من يُريد الدنيا ومن يريد الآخرة، ثم يختلف بهما الحال في المآل، فالعطاء لطْفٌ إلهيٌّ لا يُشترط فيه الاستحقاقُ والأهلية. ويقول واصفاً عطاءه لعباده المؤمنين: ﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي جازاهم جزاءً كثيراً كافياً ووافياً.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ ليُعطي الدُّنيَا مَن يُحبُّ ومَن لا يُحبُّ، ولا يُعطِي الدِّينَ إلَّا مَن يُحبُّ، فمَن أعطاه اللهُ الدِّينَ فقد أحبَّه] فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فلو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء.

 

ولأن الدنيا بطبيعتها دار ابتلاءٍ وليست بالضرورة دار ثوابٍ وعطاء، يقول العُلماء إنه ومهما كان العطاء الدنيوي كثيراً فإنه يبقى أشبه بالعدم في مُقابل العطاء الأُخروي؛ ولذلك سمى القرآن العطاء الدُنيوي متاعاً، وسماه متاعاً قليلاً، وسماه متاع الغرور، لأن من طبيعة العطاء الدنيوي -بخلاف الأخروي- أنه قليل القدر، قصير المُدة، وعَكِرٌ لا صفاء فيه.

 

ويقول العارفون عن (عطاء الله):

"عطاء الله مُدهِشٌ، وعوض الله عزيزٌ لا حدَّ له ولا مُنتهى؛ فلا أحد ييأس ويستصعب شيئاً أمام قُدرة الله، إذا جعلك تصبر كثيراً تأكَّد أنَّك ستنال ضعف ما كنتَ تتمنَّى وستندهش من كرمه". "إنما الأعمال، والأرزاق، والحياة كلها بالنيَّات؛ يُعطي الله كل شخصٍ على قدر نيته، فلا تتعجب عندما يُنجيك الله من أي أزمةٍ تُقابلك، لا تتعجب عندما تجد الخير يُلاحقك دون سببٍ واضحٍ، طالما أن نيتَّك صافيةٌ وقلبك سليمٌ، وتُعامل الناس بقلبك، وتُحب الخير للجميع، ولا تحمل ذرة كُرهٍ لأحد، ستجد كرم الله يُلاحقك أينما ذهبت، ودون أي سببٍ واضحٍ، فقط لأنك صافي القلب والنيَّة". ‏"إن الله يُعطي العبد على نيته ما لا يُعطيه على عمله؛ لأن النية لا رياء فيها، فجمِّلوا نواياكم بالنقاء والطُهر فهي تُعرض على الرحمن". ‏"الله عندما يُعطي قد يُعطيك ما تحتاجه وليس ما تريده، وفرقٌ بين العطائين؛ فلا تعلم ما ينفعك أو يضرك، تطلب من الله ما تظن أنه خيرٌ لك فيعطيك ما يعلم أن فيه الخير لك". "عندما يُعطيك الله ما هو أعلى من سقوف أُمنياتك، عوِّد قلبك على الشكر، عوِّد قلبك على أن يوقن أنك إذا حَمدتَ واهب نعمتك؛ سيُغنيك، ويزيدك، ويُكرمك". و"(عطاء الله) قد يتأخر، لكن عندما يُعطي يُدهشك بعطائه!".

 

ويقول الشاعر عن (عطاء الله):

وإني لأدعو الله حتى كأنني

أرى بجميل الظنِ ما الله فاعلُهْ

أمدُ يدي في غيرِ يأسٍ لعله

يجودُ على عاصٍ كمثلي يواصلُهْ

وأقرعُ أبوابَ السماواتِ راجياً

عطاءَ كريمٍ قطُّ ما خابَ سائلُهْ

فيا ليتَ شِعري كيف ينساهُ عاقلٌ!؟

ونعماؤه تترى وتترى جَمائلُـهْ

 

أحبتي.. فليقترب كلٌ منا من الله سُبحانه وتعالى أكثر وأكثر؛ فكلما اقترب بإخلاصٍ ويقينٍ أدهشه الله بعطائه. وحذارِ أن يكون منا من يعبد اللهَ تعالى لمصلحةٍ دنيويةٍ طامعاً في (عطاء الله)، فمتى تحققت مصلحته عاد إلى ما كان عليه، بعيداً عن طريق الله! وحذارِ أن يكون منا من يعبد الله اختباراً له سُبحانه بغيرٍ يقينٍ ولا ثقةٍ فيه فهو يُجرِّب إلهه؛ إذا أصابته مصيبةٌ ارتد عن طريق الصواب الذي بدأه للتو! بل يجب أن يكون إسلامنا إسلام المخلوق لخالقه، ومُدبِّر أمره ورازقه، بكل إخلاصٍ وبكل يقين.

اللهم أتمم علينا عطاياك ظاهرةً وباطنةً، وبارك لنا فيها، ولا تحرمنا عطاياك لقلة شكرنا وغفلتنا.

https://bit.ly/4cuLrg0

الجمعة، 9 أغسطس 2024

لا تحقرن من المعروف شيئاً

 

خاطرة الجمعة /459

الجمعة 9 أغسطس 2024م

(لا تحقرن من المعروف شيئاً)

 

رجلٌ بسيطٌ يعمل في أحد مصانع تجميد الأسماك، يتمتع بالبشاشة والحُبور؛ مما يزيد من محبة الناس له دون حتى أن يكون قريباً منهم، توجه كعادته كل يومٍ إلى عمله، ولم يكن في حسبانه ما سيمر به؛ إذ قضى يوم عمله كالمعتاد إلى أن حل موعد الانصراف، إلا أنه قبل أن ينصرف توجه إلى ثلاجة التبريد لإنهاء بعض العمل، ونتيجةً لخطأٍ ما أُغلق باب ثلاجة التجميد عليه، وظل يصرخ ويُنادي لكنه لم يجد أية استجابةٍ؛ فقد غادر جميع العاملين والموظفين المصنع، فظل الرجل حبيس ثلاجة التبريد لعددٍ من الساعات، خارت فيها قواه وشارف على الموت، إلا أنه فجأةً تم فتح أبواب ثلاجة التبريد وتم إنقاذه بعد أن كان على وشك الموت، وكان المنقذ هو حارس المصنع!

سألوا هذا الحارس: "ما الذي جعلك تدخل إلى المصنع وتنقذ هذا الرجل؟ وكيف عرفتَ أنه مازال بالداخل؟"، فقال الحارس: "أنا أعمل في هذا المصنع منذ ما يزيد عن خمسةٍ وثلاثين عاماً، أقف على بوابة المصنع ولا يُلاحظني أحدٌ أو يُخاطبني أحدٌ من العاملين والموظفين وهُم يدخلون إلى المصنع ويخرجون منه، إلا هذا الرجل فهو كلما حضر في الصباح استقبلني بابتسامته ووجهه البشوش وسؤاله عن حالي، وكذلك عند خروجه يودعني بتلك البسمة على وعدٍ باللقاء، وفي ذلك اليوم انتظرته بين الوجوه الخارجة من المصنع إلا أنني لم أجده؛ فاعتقدتُ أنه تخلّف لأن لديه عملاً بالداخل، ظللتُ أنتظر خروجه إلا أنّ الأمر طال كثيراً فقررتُ الدخول إلى المصنع والبحث عنه.

 

أحبتي في الله.. العبرة من هذه القصة هي أن هذا المعروف البسيط الذي كان يُقدمه العامل للحارس كل يومٍ، ببساطةٍ وبنيةٍ مخلصةٍ وبغير غرضٍ، لم يذهب هباءً؛ فرغم أنه لم يُكلف صاحبه شيئاً، ورغم أنه يبدو بسيطاً إلا أنه كان سبباً في انقاذ هذا العامل من موتٍ مُحقق، وكأن هذا العامل كان يعلم بالحديث الشريف: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).

 

وهذا مُعلمٌ بإحدى مدارس «جدة» يقول: كنتُ في غُرفة المُعلمين وقت الراحة؛ فصببتُ كأس شايٍ لأشربه، فإذا بالجرس يُقرع، ومُدير المدرسة شديدٌ جداًَ، يحب أن يتوجه المُعلمون فوراً إلى الصفوف عند قرع الجرس، وكان الشاي حاراً جداً لا أستطيع أن أشربه، ورأيتُ فراشاً فلبينياً ابتسمتُ في وجهه وأعطيته كأس الشاي. في اليوم التالي جاءني الفراش وقال لي أنه متفاجئٌ؛ فهذه أول مرةٍ يرى مُعلماً يبتسم في وجهه، بل ويُعطيه كأساً من الشاي! قال إنه لم يتعود على ذلك، ولم يكن يتوقعه، قلتُ وأنا مُحرَجٌ: "أردتُ أن أُكرمك؛ فنحن مُسلمون وهذا من أخلاقنا"، قال: "أعمل بهذه المُدرسة منذ عامين، لم يُكلمني أحدٌ منكم بكلمةٍ، ولم يُعيرني اهتماماً ولو بابتسامة"، ثم أخبرني بأنه يحمل شهادة الماجستير في العلوم، وأن شدة الفقر والحاجة جعلته يقبل بهذه الوظيفة، لم أُصدقه، وأردتُ أن أختبره فدعوته إلى البيت؛ إذ كانت ابنتي في الصف الحادي عشر لديها سؤالٌ في العلوم فأجاب عنه بطلاقةٍ ما بعدها طلاقة، تأكدتُ حينها من صحة كلامه. ظل يزورني كل جمعةٍ، وبعد فترةٍ أعلن إسلامه، ثم أقنع أكثر من عشرين من أصدقائه فاعتنقوا الإسلام، والسبب كان ابتسامةً مع كأس شاي!

 

وإنْ تعجب فعجبٌ هي هذه القصة؛ يقول أحدهم بأنه كان ذات مرةٍ، وهو صغير السن، يقف في المخبز لشراء خُبزٍ لأهله، يقول: "وجدتُ الرجال يتدافعون لأخذ الخُبز وكلما أخرج الخباز من الفرن خُبزاً تلقفته أيديهم، وأنا واقفٌ لا أستطيع مزاحمتهم، وبينما أنا كذلك إذ التفت إليّ رجلٌ لا أعرفه وأعطاني ما أريد؛ فذهبتُ دون أن أشكره؛ لصغر سني وجهلي بما يجب عليّ أن أفعله. نسيتُ ذلك الرجل وهيأته، ونسيتُ ذلك الموقف تماماً. بعد أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً، وبينما أنا ساجدٌ في صلاة التهجد في الثُلُث الأخير من الليل إذ بي أتذكر ذلك الموقف بتفاصيله، وكأنه يحدث أمام عينيّ أنظر إليه، فدعوتُ لذلك الرجل بما فتح الله عليّ. بعدما أنهيتُ صلاتي أخذتُ أتعجب كيف ذكرَّني الله بذلك الرجل بعد كل هذه السنين، وفي هذا الوقت المُبارك الذي يستجيب فيه الله سُبحانه وتعالى للدعاء؟! قلتُ في نفسي سُبحان الله؛ عملٌ قام به ذلك الرجل لم يُكلفه مالاً ولا جُهداً، يُذكِّرك الله به بعد كل هذه السنين وأنت ساجدٌ لتدعو له، وقد تكون دعوتك مُستجابةً ينتظرها ذلك الرجل!".

 

يقول الله سُبحانه وتعالى داعياً إلى عمل الخير: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾، ويُخبر سُبحانه أن عمل الخير مهما كان صغيراً فإن المُسلم يُثاب عليه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، ويقول حاثاً على فعل الخير ولو كان قليلاً: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويُبين عزَّ وجلَّ أنّ فعل الخير سببٌ للفلاح: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

 

يقول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، [لَا تَحْقِرَنَّ]؛ أي: لا تستقلنَّ [مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، فتتركه لقلَّته؛ فقد يكون سبب الوصول إلى مرضاة الله تعالى. ويقول عليه الصلاة والسلام: [بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ فأخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [بينما كلبٌ يطيف برَكِيَّةٍ -أي: ببئرٍ- قد كاد يقتُلُه العطَش، إذ رأَتْه بغيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنزَعَتْ مُوقَها -أي: خُفها- فاستَقَتْ له به، فسقَتْه إيَّاه، فغُفِر لها به]، وفي روايةٍ أخرى للحديث: [أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ، حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ].

 

يقول أهل العلم إنّ جنَّة الرحمن ليسَتْ مقصورةً وخاصَّةً لِمَن باعُوا أرواحَهم، وبذَلُوا أموالهم في سبيل الله، مغفرةُ الرحمن ليسَتْ وقفاً للعِباد النُسَّاك، والصُوَّام والقُوَّام، بل رحمة الله وجنَّته تُدرَك بأعمالٍ يسيرةٍ، صغيرةٍ في أعيُنِ كثيرٍ من الناس، كبيرةٍ عند الله سُبحانه وتعالى، وهي سببٌ لأن يتمتع أصحابها بالسعادة السرمديَّة، والمُتعة الأبديَّة، عملٌ قليلٌ في نظر الناس، قد لا يُكلّف من الجُهد أو الوقت شيئاً، لكنّ الله تعالى بواسع رحمته وعظيم كرمه جعل فعله سبباً في مغفرة الذنوب ودخول الجنة.

 

قال الشاعر:

الناسُ للناسِ مادام الوفاءُ بهم

‏والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وساعاتُ

وأفضَلُ النَّاسِ ما بين الوَرَىٰ رَجلٌ

‏تُقضَىٰ علىٰ يَدهِ للناسِ حاجاتُ

لا تمنَعنَّ يدَ المَعْروفِ عَن أحَدٍ

‏ما دُمْتَ مُقتَدِراً فالسَعْدُ تاراتُ

واشكر فضائِلَ صنعِ الله إذ جُعِلتْ

‏إليكَ لَا لكَ عند النَّاسِ حاجاتُ

قَد ماتَ قومٌ ومَا ماتَت فَضائِلهم

‏وعاشَ قومٌ وَهُمْ في النَّاسِ أمواتُ

 

أحبتي.. استَكثِروا من فِعْل الخيرات، ولا تستَصغِروا شيئاً من صالح العمل و(لا تحقرن من المعروف شيئاً). كل معروفٍ يُمكنك فعله افعله، مهما كان صغيراً. وجدتَ قطعة زجاجٍ بالطريق من المحتمل أنها ستؤذي الناس أَمِطْها عن الطريق تُجزَى خيراً. وجدتَ شخصاً كبيراً في السن يحتاج أحداً أن يوصله أوصله؛ ربما يكون ذلك سبباً في نجاتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. وجدتَ شخصاً مكروباً في أمسّ الحاجة لمن يُفرِّج عنه كربه، فرِّج عنه؛ ربما تكون هي المُنجية. وجدتَ إنساناً لا يُريد منك إلا ابتسامةً، ابتسم تُكتب لك صدقة. وجدتَ شخصاً يُريدك أن تشفع له عند أحدهم، اشفع له ولا تتردد. وجدتَ فقيراً أو مسكيناً في حاجةٍ إلى مالٍ أو طعامٍ أو كساءٍ أو دواءٍ سارِع إلى تقديم ما يُمكنك من مساعدةٍ وإعانةٍ. باختصار؛ افعل كل معروفٍ ولو صَغُرَ في عينيك فإنك لا تعلم بأي معروفٍ يُغفر لك، وبأي عمل خيرٍ تنال رحمة الله فتدخل الجنة.

اللهم استعملنا في الخير، وأرشدنا إليه، ويسِّره لنا، ونقِّه من الرياء والنفاق والسُمعة، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، وتقبله منا؛ إنك سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/46HDMcV

الجمعة، 2 أغسطس 2024

نعمة الإسلام

 

خاطرة الجمعة /458

الجمعة 2 أغسطس 2024م

(نعمة الإسلام)

 

يقول أحدهم: زارني أحد أقربائي في المنزل وهو يعمل في السنترال الخاص بإحدى المُستشفيات في مدينة «جدة»، وعمله هو الرد على المُكالمات، وتشغيل صوت الأذان وقت الصلاة. قلتُ له: "لماذا لا تستغل الوقت من بعد صلاة الفجر إلى الساعة الثامنة صباحاً بتشغيل القرآن بالمستشفى بصوتٍ هادئ"، فرحب بالفكرة وأعطيته مجموعة تلاوات قرآنٍ متنوعةٍ لعددٍ من القُراء، وقلتُ له: "استعن بالله واخدم دينك وأنت في عملك". بالفعل بدأ بتشغيل مقاطع من القرآن الكريم. حكى لي بعدها أنه في أحد الأيام، وكان من ضمن المقاطع التي يُشغلها تلاوةٌ لسورة «ق» لشيخٍ صوته مؤثرٌ جداً، فجأةً وإذا بصوت باب السنترال يُطرَق بشدةٍ، فتحتُ الباب وإذا بالطبيبة الأجنبية التي تعمل في الدور الثاني نزلت إليّ وهي تبكي، فتعجبتُ من ذلك، ومن حُسن الحظ أني أستطيع الحديث باللغة الإنجليزية، سألتني: "ما هذا الصوت؟!"، قلتُ لها: "هذا صوت القرآن"، قالت: "وما هو القرآن؟!"، قلتُ: "هذا كلام الله ونحن المسلمون نفهمه ونتعبد به"، قالت: "وما هو الإسلام؟!"، فطلبتُ منها أن تجلس، وذهبتُ لأتصل بطبيبٍ مناوبٍ أعرفه، ملتزمٌ مُحبٌ للخير ولغته الإنجليزية أفضل مني؛ فحضر إليّ وقابل الطبيبة وحدّثها بنبذةٍ بسيطةٍ عن الإسلام، ثم قال لها: "هناك مواقع على الإنترنت تُخبركِ أكثر عن الإسلام سأزودكِ بقائمةٍ بها، وسأحضر لكِ بعض الكُتيبات التي تُعرِّف بالإسلام باللغة الإنجليزية". وأحضر لها في اليوم التالي قائمةً بروابط لمواقع إنترنت موثوقةٍ، ومجموعةً من الكُتيبات الصغيرة.

دخلت الطبيبة الأجنبية إلى مواقع الإنترنت، وقرأت الكُتيبات. بعد أسبوع قابلني ذلك الطبيب الذي أخبرها عن الإسلام وقال لي: "أُبشرك؛ الطبيبة اعتنقت الإسلام بسبب صوت القرآن". وبعد قُرابة شهرٍ تقريباً، رأيتها وهي لابسةٌ العباءة السوداء والطرحة، ووجهها يُشع نوراً.

 

أحبتي في الله.. مجرد الاستماع إلى تلاوةٍ للقرآن الكريم كان سبباً في اعتناق أختنا الطبيبة الأجنبية للإسلام، رغم عدم معرفتها للغة العربية، وعدم إدراكها لمعاني الآيات التي استمعت إليها! لقد حرَّك القرآن شيئاً بداخلها، فسألت فعرفت وقرأت فعلمت فالتزمت.

ومن حكمة الله سُبحانه وتعالى أنه لم يجعل لدخول الإسلام إلى قلوب الناس سبباً واحداً، بل يكاد يكون لكل معتنقٍ جديدٍ للإسلام سببٌ خاصٌ يختلف عن غيره! فهذه طبيبةٌ أخرى اعتنقت الإسلام لسببٍ مُختلفٍ تماماً؛ تروي الطبيبة قصتها فتقول: أنا طبيبة نساءٍ وولادةٍ، أعمل بإحدى المُستشفيات في «الولايات المتحدة الأمريكية» منذ ثمانية أعوام، في العام الماضي أتت امرأةٌ مُسلمةٌ عربيةٌ لتضع مولودها بالمُستشفى، فكانت تتألم وتتوجع قُبيل الولادة، ولكن لم أرَ أية دمعةٍ تسقط من عينيها، وحينما اقترب موعد انتهاء دوامي أخبرتها أنني سأعود إلى المنزل وسيتولى أمر توليدها طبيبٌ غيري زميلٌ لنا؛ فبدأت تبكي وتصيح بحرارةٍ وبلا تردد: "لا، لا أريد طبيباً رجلاً"، تعجبتُ من شأنها؛ فأخبرني زوجها أنها لا تريد أن يدخل عليها رجلٌ ليراها؛ فهي طيلة عمرها لم يرَ وجهها سوى محارمها: والدها وإخوانها وأعمامها وأخوالها. ضحكتُ وقلتُ له باستغرابٍ شديدٍ: "أنا لا أظن أن هناك رجلاً في «أمريكا» لم يرَ وجهي بعد! المهم، استجبتُ لطلبها، وقررتُ أن أجلس معها حتى تضع؛ فقامت هي وزوجها بشكري، وجلستُ ساعتين إلى حين وضعت. في اليوم التالي حضرتُ للاطمئنان عليها بعد الوضع وأخبرتها أن هناك الكثير من النساء يُعانين من الأمراض والالتهابات بسبب إهمالهن لفترة النِفاس؛ فأخذت تشرح لي الوضع بالنسبة للنِفاس عندهم في الإسلام، وتعجبتُ جداً لما ذكرته. وبينما كنتُ في انسجامٍ في الحديث معها؛ دخلت طبيبة الأطفال لتطمئن على المولود وكان مما قالته للأُم: "من الأفضل أن ينام المولود على جنبه الأيمن لتنتظم دقات قلبه"، فقال الأب: "إننا نضعه على جنبه الأيمن تطبيقاً لسُنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم"؛ فتعجبتُ لهذا الأمر أيضاً؛ انقضى عمرنا لنصل لهذا العلم، وهُم يعرفونه من دينهم! فقررتُ أن أتعرف على هذا الدين؛ فأخذتُ إجازةً لمدة شهرٍ، وذهبتُ إلى مدينةٍ أُخرى فيها مركزٌ إسلاميٌ كبيرٌ حيث قضيتُ أغلب الوقت فيه للسؤال والاستفسار والالتقاء بالمسلمين العرب والأمريكيين، وحينما هممتُ بالرحيل؛ حملتُ معي بعض النشرات التعريفية بالإسلام، فأصبحتُ أقرأ فيها، وكنتُ على اتصالٍ مستمرٍ ببعض أعضاء ذلك المركز. والحمد لله أنني أعلنتُ إسلامي بعد عدة أشهر.

 

الحمد لله على (نعمة الإسلام)، وما أعظمها من نعمةٍ، ولأننا وُلدنا مُسلمين، ونشأنا في أُسَرٍ مُسلمةٍ، وعشنا في مُجتمعاتٍ دينها الإسلام؛ فنكاد لا نشعر بما يشعر به الأجانب عندما يتعرفون على الإسلام لأول مرة.. فكم نستمع إلى آيات القرآن الكريم تتُلى؛ في صلواتنا بالمساجد، في مُناسبات العزاء، في إذاعاتنا، وفي القنوات التلفزيونية، وربما لا يتحرك بداخلنا شيءٌ كما تحرك مع الطبيبة الأولى التي كانت تستمع إلى القرآن الكريم لأول مرة؛ إذ انتابها شعورٌ بالاندهاش ممزوجٌ بطمأنينة نفسٍ لم تعهدها من قبل. أما مع الطبيبة الثانية فإن ما نعرفه -نحن المُسلمين- عن فترة النِفاس أو عن النوم على الشِق الأيمن يجعلها مسألةً اعتياديةً بالنسبة لنا، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة للطبيبة الأمريكية، بل وكانت سبباً لرحلة بحثٍ بدأت بالاتصال مع المركز الإسلامي ومقابلة عددٍ من المُسلمين والاطلاع على كُتيبات تعريفية وانتهت باعتناقها الإسلام.

 

يقول أهل العلم إن نِعم الله على العبد كثيرةٌ من أجَلِّها (نعمة الإسلام)، ودلائل القرآن والسُنة تثبت أن أفضل نعمةٍ على الإنسان هي هدايته للإسلام، وهي منبع كل خيرٍ، وأصل كل سعادةٍ في الدُنيا والآخرة، وهي النِعمة العُظمى التي رضيها الله لنا وأكملها وأحسنها وامتّن بها علينا؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمِ دِينًا﴾ يقول المُفسرون لهذه الآية: هذه أكبر نِعم الله عزَّ وجلَّ على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دينٍ غيره، ولا إلى نبيٍ غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرّعه. يقول سُبحانه في نهاية الآية: ﴿رَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبّه، وبعث به أفضل رُسُلِه الكرام، وأنزل به أشرف كُتُبِه، وكل شيءٍ أخبر به فهو حقٌ وصدقٌ لا كذب فيه؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لنا تمت النِعمة علينا. كما يقول: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يعني بالنِعمة الإسلام، وما فرض من شرائع دينه. ويقول أيضاً: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ أي صرتم بنِعمة الإسلام إخواناً في الدين. ويقول كذلك: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ أي: يكفرون بما أنعم الله عليهم من دين الإسلام.

إن نِعمة الإسلام نِعمةٌ من أجَّل النِعم وأوفاها وأعلاها، ويجب على المُسلم أن يحمد الله تعالى ليل نهار على هذه النِعمة الكُبرى والمِنة العُظمى، إذ جعله من أهل التوحيد الخالص والدين الحق؛ فهو دائم الشُكر على (نعمة الإسلام) لما لهذا الدين من خصائص وفضائل منها: أن الإسلام هو الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده، دين الفطرة، دين التوحيد الخالص، دين العِلم والمعرفة، دين العدل والمساواة بين البشر، دين السماحة وعدم الإكراه، دين اليُسر ورفع الحرج، دين الوسطية والتوزان، دين العزة والقوة، وهو دين الفضيلة ومكارم الأخلاق. وحمدُ الله تعالى على (نعمة الإسلام) يستوجب الفهم العميق لمبادئ الإسلام ولتشريعاته الخالدة، والتطبيق العملي لتلك التعاليم والتشريعات حتى تُصبح واقعاً ملموساً وسلوكاً مشاهداً، وحتى يُدرك الناس أن عالمية الإسلام ليست شعاراً يُرفع ولا كلماتٍ تُقال بل هي أثرٌ يُدرَك وأملٌ ينُشَد.

 

قال الشاعر:

الحَمدُ لِلَّهِ عَلى الإِسلامِ

إِنعامُهُ مِن أَفضَلِ الإِنعامِ

 

أحبتي.. الحمد لله على (نعمة الإسلام) وما أعظمها من نِعمة. ولما كانت بالشكر تدوم النِعم؛ فلنُلزم أنفسنا بألا يمر يومٌ إلا ونُصبح ونُمسي فيه شاكرين لله سُبحانه وتعالى جميع نِعمه وآلائه، ونخص بالشكر أن أنعم علينا بأكمل وأتم نِعمةٍ (نعمة الإسلام)، وأن هدانا عزَّ وجلَّ للإيمان، ولسان حالنا يُردد: ﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَن هَدانَا اللَّهُ﴾.

https://bit.ly/4c9NYMv

 

 

الجمعة، 26 يوليو 2024

ليست صدفة

 

خاطرة الجمعة /457

الجمعة 26 يوليو 2024م

(ليست صدفة)

 

خرج الطبيب الجراح الشهير «س» على عجلٍ كي يذهب إلى المطار للمشاركة في المؤتمر العلمي الدولي الذي سيُكرم فيه على إنجازاته الفريدة في عالم الطب، وفجأةً وبعد ساعةٍ من الطيران أُعلن أنّ الطائرة أصابها عطلٌ؛ بسبب صاعقةٍ وستهبط هبوطاً اضطرارياً في أقرب مطار. توجه الطبيب إلى استعلامات المطار، وقال: "أنا طبيبٌ عالميٌ، وكل دقيقةٍ تُساوي أرواح ناس، وأنتم تُريدون أن أبقى 16 ساعةً بانتظار طائرة؟"، فأجابه الموظف: "يا دكتور، إذا كنتَ مُستعجلًا يُمكنك استئجار سيارةٍ والذهاب بها، فرحلتك لا تبعد عن هُنا سوى ثلاث ساعاتٍ فقط بالسيارة. وافق الطبيب «س» على مضضٍ، وقام باستئجار سيارةٍ وظلّ يسوق، فجأةً تغير الجو، وبدأ المطر يهطل مدرارً، وأصبح من العسير أن يرى أيّ شيءٍ أمامه، وبعد ساعتين أيقن أنّه قد ضلّ طريقه وأحس بالجوع والتعب، فرأى أمامه بيتاً صغيراً، فتوقف عنده.

دقّ الباب، فسمع صوتاً لامرأةٍ عجوزٍ تقول: "تفضل بالدخول كائناً مَن كنتَ؛ فالباب مفتوح"، فدخل الطبيب وطلب من العجوز المقعدة أن يستعمل الهاتف، ضحكت العجوز وقالت: "أيّ هاتفٍ يا بُني؟ ألا ترى أين أنت؟ هُنا لا كهرباء ولا هواتف، ولكن تفضل واسترح وصُب لنفسك فنجاناً من الشاي الساخن، وهناك طعامٌ على الطاولة، فكُلْ حتى تشبع وتسترد قوتك". شكر الطبيب «س» المرأة وجلس يأكل، بينما كانت العجوز تُصلي وتدعي انتبه فجأةً إلى طفلٍ صغيرٍ نائمٍ بلا حراكٍ على سريرٍ قُرب العجوز، وهي تهزه بين كل صلاةٍ وصلاة، واستمرت العجوز بالصلاة والدعاء طويلاً، فتوجه «س» لها قائلاً: "يا أُماه، والله لقد أخجلني كرمك ونُبل أخلاقك، وعسى الله أن يستجيب لكل دعواتك"، قالت له العجوز: "يا ولدي، أنت ابن سبيلٍ أوصى بك الله، أما دعواتي فقد أجابها الله -سُبحانه وتعالى- كلها إلّا واحدة"، فسألها الطبيب «س»: "وما هي تلك الدعوة يا أُماه؟"، قالت العجوز: "هذا الطفل الذي تراه حفيدي، وهو يتيم الأبوين، وقد أصابه مرضٌ عضالٌ عجز عنه كل الأطباء عندنا، وقيل لي إنّ طبيباً واحداً يستطيع علاجه يُقال له «س»، ولكنه يعيش بعيداً من هُنا، ولا طاقة لي بأخذ هذا الطفل إلى هناك، وأخشى أن يأخذ الله أمانته، ويبقى هذا المسكين بلا حول ولا قوة، فدعوتُ الله أن يُسهل أمري"، بكى الطبيب «س» وقال: "يا أُماه إنّ دعاءك والله قد عطّل الطائرات، وضرب الصواعق، وأمطر السماء كي يسوقني إليك سَوْقاً، أنا هو الطبيب «س»! والله ما أيقنتُ أنّ الله -عزَّ وجلَّ- يُسبب الأسباب لعباده المؤمنين بالدعاء، حتى هذه اللحظة. سبحانك، لا إله إلا أنت إني كنتُ من الظالمين".

 

أحبتي في الله.. (ليست صدفة) أبداً، إنه تقدير الله سُبحانه وتعالى.

إن حُسن الظن بالله، والثقة به، والتوكل عليه، واللجوء إليه بالدعاء عند الشدة والبلاء، من أسباب استجابة الله الدعاء، ليظهر لنا كما لو كان صُدفة!

كما أن القُرب من الله -عزَّ وجلَّ- يُحقق للإنسان معجزاتٍ تُدهشه؛ فهذا طبيبٌ سعوديٌ كتب على صفحته على فيس بوك يقول: ذهبتُ مع العائلة إلى «دبي» عن طريق البر، على غير العادة؛ إذ كُنا مُعتادين على السفر بالطائرة. وفي طريق العودة، وبعد أن تجاوزنا حدود «الإمارات» إلى «السعودية» اكتشفتُ أنني قد أخطأتُ الطريق وتجاوزتُ التحويلة المؤدية إلى «الرياض».. كان الطريق مُزدوجاً؛ فحاولتُ إصلاح الخطأ بالاستدارة للعودة إلى الطريق الصحيح بعبور الجزيرة في مُنتصف الطريق، كانت الجزيرة مليئةً بمادةٍ سوداء تُشبه مادة القار التي تُستخدم في سفلتة الطُرق، ظننتُ أن المادة صلبةٌ ويُمكن العبور عليها، لكن يبدو أنها تحولت مع شدة الحر إلى مادةٍ لزجةٍ، حيث كُنا في شهر أغسطس.. حدث ما لم أكن أتوقعه وتوقفت السيارة وسط مادة القار! لا حول ولا قوة إلا بالله.. السيارة مُحملةٌ بالعفش والجو حارٌ جداً.. بعد طول انتظارٍ توقفت لنا سيارة شحنٍ سائقها أخٌ يمنيٌ، ربط سيارتي الصغيرة بسيارته الكبيرة وسحب سيارتي خارج مُستنقع القار.. ثم أخذنا بعد ذلك إلى مغسلةٍ للسيارات لغسل سيارتي التي تلطخت بمادة القار اللزجة.. أثناء ذلك، تبادلت مع السائق -واسمه «أحمد»- أطراف الحديث عن أحواله وأهله؛ فقال: "الحمد لله، لكن لديّ طفلٌ يُعاني من مشاكل صحيةٍ، ونصحني أطباء الأطفال بالذهاب إلى استشاري لأمراض الجهاز الهضمي، وأنا حالتي المادية محدودةٌ جداً، كما أني دائم السفر على الطُرق كما ترى"، توقف «أحمد» عن الكلام حينما رأي عينيّ وقد اغرورقت بالدموع، وسألني: "ما بك؟"، قلتُ له: "يا «أحمد»، ما هي الخبيئة التي بينك وبين الله؛ ليسوق استشاري الجهاز الهضمي لدى الأطفال إليك سَوْقاً من «الرياض» على غير العادة أن يسلك طريق البر للذهاب إلى «دبي»، ثم يُخطئ الطريق ويقع في مُستنقع القار ليقابلك على غير موعدٍ؟! إنها ليست صدفةً، بل هو قَدَر الله وتدبيره"، سألني مُتعجباً: "هل أنت استشاري جهاز هضمي؟"، قلتُ: "نعم، وللأطفال بشكلٍ خاص!"، فبكى.

 

‏سبحان الله مالك الكون، ومُقدر الأقدار، القادر على تسخير وتدبير وتصريف خلقه كيف ومتى شاء.. هذه المواقف وأمثالها (ليست صدفة)، بل هي من أقدار الله؛ يقول تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، ويقول كذلك: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]، إنه نظامٌ مُحكمٌ تُسيّر به أحوال المخلوقات بتقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ، لا يوجد في الحياة صدفةٌ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ والقَدَر هو كل ما قدَّره الله سُبحانه من أُمور خَلْقِه، فهو يُسيّر هذا الكوْن بكل تفاصيله، ويُحيط بعلمه الأزلي كل ما حدث وسيحدث في هذا الكون من أحداثٍ، مهما صغُرت أو كبُرت، ويعلم أين ومتى سيحدث كل شيءٍ، وما يسبقه من مقدماتٍ وما يتبعه من آثار.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يجوز للمسلم أن يقول: "قابلتُ فلاناً صدفةً؟"، أفتى العلماء بأن قول الإنسان "قابلتُ فلاناً صدفةً" ليس مُحرّماً أو شِركاً، لأن المُراد من هذه العبارة "قابلته دون سابق وعدٍ أو اتفاقٍ على اللقاء مثلاً"، وليس في هذا المعنى حرجٌ، وليس المُراد أنه قابله بدون تقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ؛ فالصدفة بالنسبة لفعل الإنسان أمرٌ واقعٌ، لأن الإنسان لا يعلم الغيب؛ فقد يُصادفه الشيء من غير شعورٍ به ومن غير مُقدماتٍ له ولا توقعٍ لحدوثه، ولكن بالنسبة لفعل الله لا يقع هذا؛ فإن كل شيءٍ عند الله معلومٌ، وكل شيءٍ عنده بمقدارٍ، وهو سُبحانه وتعالى لا تقع الأشياء بالنسبة إليه صدفةً أبداً.

 

تُعرِّف معاجم اللغة العربية الصُدفة على أنها "ما يحدث عرضاً على غير انتظارٍ، دون توقع". يقول أحد الكُتّاب: إن الصُدف هي من النِعم التي يشمل الله بها عباده، ويُرسل لهم من خلالها مصادر الدعم والمدد، كما أنها إحدى المنح الخفية، التي يسوقها لنا القدر، لتربط على قلوبنا، وتمنحنا السلام والسكينة والطمأنينة أحياناً، وكم مِن صُدفةٍ غيرت مسارنا دون أن ندري في حينها ما قد يترتب عليها مُستقبلاً، لتظل الصُدفة إحدى الأسرار التي يجب أن نحترمها، والغيبيات التي لا يُمكن أن نتوقعها؛ فهي سياقاتٌ ربانيةٌ خالصةٌ تدفعنا لأقدارنا دون حولٍ منا ولا قوة.

 

أحبتي.. الثابت أن ما نعتقد أنها صدفةٌ (ليست صدفة) إنما هو قَدَر الله وقضاؤه؛ لذا فكلما اقتربنا من الله أكثر، وكلما أحسنا الظن به، وتوكلنا عليه بيقينٍ، ودعوناه بإخلاصٍ وتذللٍ وانكسارٍ وإلحاحٍ واثقين من إجابة الدعاء، كلما كان ذلك أدعى لسرعة الاستجابة، التي قد تأتي -في بعض الأحيان- بشكلٍ مُفاجئٍ وغير متوقعٍ يبدو لنا أنه صدفةٌ لكنه ليس كذلك، بل هو تدبير رب العالمين.

اللهم إنا نسألك إعانتنا على القُرب منك، بأداء الفروض، وجبرها بالنوافل، وتحسين أعمالنا على الوجه الذي يُرضيك.. وتقبّل اللهم منا دعاءنا، واستجب رجاءنا، وارحم ضعفنا، والطف بأقدارنا. وأنعِم اللهم علينا بفضلك وكرمك باستجابة دعواتنا، وإدهاشنا بعطائك، ظاهراً وباطناً، بأسبابٍ نعرفها أو صُدفٍ نجهل متى وأين وكيف تتكرم بها علينا.

https://bit.ly/4diRjdb

 

الجمعة، 19 يوليو 2024

مشاهير في السماء

 

خاطرة الجمعة /456

الجمعة 19 يوليو 2024م

(مشاهير في السماء)

 

انتشرت في الأيام الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي قصةٌ من أعجب القصص الواقعية التي حدثت في موسم الحج الذي انتهي منذ حوالي شهر، نُشرت القصة تحت عنوان: "للسماء رجالٌ!"، كتبها أحد الأمراء المسئولين في «المملكة العربية السعودية»، كتب يقول: خرجتُ للحج هذا العام -مثل الأعوام السابقة- فأنا أُحب الحج كفريضةٍ، وأُحبه أيضاً كرحلةٍ إيمانية. في حج هذا العام حدث شيءٌ مُختلفٌ زلزّل كل مفاهيمي عن الحياة؛ كنتُ في ليلة التروية في مُخيم «مِنى»، وكنتُ أُقيم في مُخيمٍ من أفخم المُخيمات، إن لم يكن بالفعل هو أفخمها. سبحان الله، أحسستُ بضيقٍ في نَفَسي وخنقةٍ في صدري، بعد صلاة العشاء بوقتٍ طويل، وأحسستُ أني أحتاج لأن أمشي؛ خرجتُ وحدي بدون حراسةٍ، معي هاتفي، أسير على غير هدىً نحو الجبال.

هناك وفي الظلام، وعلى صخرةٍ بعيدةٍ، شاهدتُ رجلاً عجوزاً تجاوز السبعين من عُمره يجلس وحيداً، حين اقتربتُ منه ورآني فوجئتُ به يسألني: "هل أنت مَن أحضرتَ اللحم لي؟"، ذُهلتُ من كلامه وسألته: "وهل أنت تنتظر أحداً يوصل لك اللحم في هذا المكان؟ هل طلبتَ اللحم من مطعمٍ مثلاً؟"، قال لي بكل ثقةٍ: "بل طلبتها من الله ربِ كل أصحاب المطاعم؛ فأنا لم آكل أي شيءٍ منذ العصر، وقد طلبتُ من الله اللحم وأنتظر مَن يؤتيني به"، ضحكتُ غصباً عني من هذا العجوز الجائع الذي ينتظر اللحم في عز الليل في منطقةٍ مقطوعةٍ، وقلتُ في نفسي: "والله لأُحضرن له طلبه"، اتصلتُ بأحد المسئولين في المُخيم وطلبتُ منه طبقاً كبيراً فيه أجود أنواع اللحم، وأرسلتُ له موقعي، بعد قليلٍ أتى أحد العمال بطبق اللحم فوضعته أمام الرجل العجوز، فهلّل وكبّر وسمى الله وأكل بنهمٍ شديدٍ يبدو منه أنه كان جائعاً حقاً. بعد أن انتهى من أكل اللحم، سمعته يقول: "شكراً لك يا رب؛ رزقتني اللحم وكان حُلواً، والآن أنا أريد أن أشرب كوباً من الشاي بالنعناع، فأنا لا أحب الشاي من غير نعناعٍ يا رب"، استغربتُ من دعائه؛ هل ينتظر كوب شايٍ وبالنعناع في هذا المكان المقطوع؟! المهم أنه نظر إليّ وسألني: "هل تُريد ما تبقى من الأكل؟"، قلتُ: "لا، شكراً"، فجمع بقية الطعام وأعطاه لأول جماعةٍ مرّت من أمامنا، أعتقد أنهم من أهل الشام، وقال لهم: "هذا رزقٌ من الله لكم"، فشكره الناس ومضوا لحال سبيلهم، الغريب أنه بعد لحظاتٍ عاد أحدهم وفي يده كوب شايٍ وقال للعجوز: "يا شيخ هذا لك؛ أرجو أن تقبله منا كما قبلنا منك اللحم"، فقال العجوز: "وهل في الشاي نعناع؟"، قال له الرجل: "لا، لكن معنا نعناعٌ، ثوانٍ أُحضره لك"، فقال له الرجل العجوز: "هل مُمكن أن تُحضر كوباً آخر لهذا الرجل بجانبي فهو الذي أرسله الله لي ولكم باللحم"، ذهب الرجل وعاد ومعه كوب شايٍ بالنعناع أعطاه لي، كنتُ مذهولاً مما يحدث، ومن شدة ذهولي لم أنطق أو أعترض، أخذتُ كوب الشاي وشربته، وأقسم بالله لم أذق حلاوة مثل هذا الشاي من قبل. بعد أن شرب الرجل العجوز الشاي في صمتٍ وهدوءٍ وسكينةٍ، حمد الله، ودُهشتُ حين سمعته يطلب من الله وسادةً لينام عليها إذ قال: "يا رب ارزقني بوسادةٍ؛ أنت تعلم أني لا أستطيع النوم على الصخر من غير وسادة!"، أُقسم بالله العظيم، إنه ما انتهى من دعائه إلا ومجموعةٌ من الحجاج من دولة «المغرب»، عرفتهم من كلامهم، جلسوا بجانبنا وفرشوا سجادةً ووضعوا وسائدهم عليها، فاستأذنهم الرجل العجوز في واحدةٍ من الوسائد أخذها ونام، وسمعته يقول: "يا رب الجو حرٌ حتى في الليل؛

أرسل لنا نسمة هواءٍ كي أستطيع أن أنام!"، أُقسم بالله العظيم أن نسمة هواءٍ هبّت بالفعل! وقتها لم أتمالك نفسي؛ فقلتُ وعيناي تدمعان: "الله أكبر، الله أكبر، مَن أنت يا شيخ؟!"، قال لي: "عبدٌ من عبيد الله، دعني أنام، فأمامنا غداً يومٌ طويلٌ، دعني وإلا دعوتُ عليك"، تملكني الرعب؛ فأسلمتُ ساقاي للريح جرياً إلى المُخيم، وهناك قابلتُ رجل الدين الشيخ الذي يُرافقنا في المخيم -وهو واحدٌ من أشهر مشايخ المملكة، وهو حيٌ يُرزق وشاهدٌ على ما أقول- حكيتُ له ما حدث، فقال لي: "والله إني لأُحب أن ألتقي بهذا الرجل الذي يدعو بأي شيءٍ فيستجيب له الله سُبحانه وتعالى في الحال"، فذهبتُ أنا وهو إلى الموقع الذي كنتُ أرسلته لطلب اللحم، لنجد أن الرجل العجوز قد قام من نومه وتحرك، فسألته: "إلى أين يا حاج؟" قال لي: "اقترب موعد أذان الفجر؛ سأبحث عن مكانٍ أتوضأ فيه كي أُصلي الفجر"، فقلتُ له: "يا حاج هل تعرف من أنا؟ ومن هذا الشيخ الذي معي؟"، فرد قائلاً: "نعم أعرفكما؛ فأنتما عبدان من عبيد الله، مثلي"، فقلتُ له اسمي واسم الشيخ الذي معي، فقال بدون أي اهتمامٍ إطلاقاً: "عبدان من عبيد الله، مثلي"، فعرضتُ عليه أن يُكمل الحج معنا فرفض، وقال: "أُفضّل أن أحج على طريقتي"، فأعطيته بطاقةً فيها رقم هاتفي الشخصي حتى يتصل بي في أي وقتٍ لو احتاج أي شيءٍ، فقال لي بصوتٍ كله إيمانٌ: "ولِمَ أُكلمك وأطلب منك وأنت عبدٌ فقيرٌ، مثلك مثلي، لو احتجتُ شيئاً فأنا أطلبه من ربي وربك، ولو شاء لجعل الخير يأتيني على يديك، ولو شاء لجعل الخير يأتيني من غيرك"، ومضى في طريقه، ناديتُ عليه وقلتُ له: "لي طلبٌ عندك؛ أرجو أن تدعو لي يا حاج"، فقال لي بلهجة الواثقين: "ولماذا لا تدعو أنت لنفسك؟"، فقلتُ له: "أنت دعاؤك ما شاء الله يُستجاب"، فقال لي: "تقرّب إلى الله حتى يُصبح دعاؤك أنت الآخر مُستجاباً"، ثم قال ونحن نسمعه: "اللهم ارزقني بسيارةٍ تنقلني إلى المسجد؛ فقدماي لا تقويان على المشي"، وبينما هو يتحرك ببطءٍ بسبب سِنه وضعف جسمه، رأينا -أنا والشيخ الجليل الذي معي- سيارة دوريةٍ للحجيج رأته فوقفت له وركب معهم، فالتفتُ لي الشيخ الذي كان معي وقال لي: "يا سيادة الأمير نحن رجالٌ معروفون في الأرض، لكنّ هناك رجالاً (مشاهير في السماء)، وكما أن ترتيبنا في الدنيا مُختلفٌ فكذلك ترتيبنا في السماء مُختلفٌ، وأعتقد أننا التقينا برجلٍ معروفٍ في السماء أكثر مما نحن معروفون في الأرض".

 

أحبتي في الله.. هذا الرجل العجوز واحدٌ من البشر المعروفين في السماء رغم أنهم مجهولون في الأرض، يعيشون بيننا لا نكاد نُدركهم أو نشعر بهم، إنهم من (المشاهير في السماء) يعملون للدار الآخرة التي يجعلها الله سُبحانه وتعالى ﴿لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾؛ فالشُهرة في السماء تحتاج إلى مَن لا يُسابق إلى مواطن العُلو في الأرض، و(المشاهير في السماء) هُم -كما يقول العلماء- الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وأبصروا بقلوبهم قبل عيونهم كيف أنها دار فناءٍ، وأن الآخرة هي دار البقاء، فعاشوا في الدنيا يعملون لآخرتهم، عاشوا في الأرض غُرباء لا يبحثون عن شُهرةٍ وإنما يعملون -بإخلاصٍ- كي يُصبحوا مشهورين في الآخرة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ]، ومن هؤلاء الغُرباء مَن وصفهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثه: [رُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ]، {ذي طمرين أي ذي ثوبين باليين. لا يؤبه له: لا يُهتم بأمره ولا يُحتفل به} وفي حديثٍ آخر قال عليه الصلاة والسلام: [ألا أُخْبِرُكم عَنْ مُلُوكِ أهْلِ الجَنَّةِ؟]، قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: [كُلُّ ضَعِيفٍ أغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ].

وكانت حياته عليه الصلاة والسلام نموذجاً وقدوةً نحتذي بها؛ وهو القائل: [مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]، عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة المُلك والشُهرة في الدنيا فرفضها.

 

يصف أحد الكُتاب (المشاهير في السماء) فيقول عن أحدهم: بالمنظور الدنيوي، هو مجهولٌ، لكنه كعابر سبيلٍ، لا يأبه إن كان معروفاً أو مجهولاً، مشهوراً أو مغموراً، لا يكمن فرحه في ذِكر اسمه بين أهل الأرض، بل غايته ورجاؤه أن يُذكر في السماء. إنه ذاك التقيّ الذي يعيش في الدنيا بجسده، بينما روحه مُعلقةٌ بالآخرة، يرى فيها حياته وخلوده، يري الحُلم في أسمى معانيه حينما يكون بعيداً عن أنظار الناس. غرس سِكينةً في قلب الرياء، ومزّق رِداء الكِبر، وسقى نبتة الإخلاص بدموع الخشية من الله، والرغبة في الجنة، والصمود في وجه رياح الفِتن العواتي في زمانٍ المتمسك فيه بدِينه، كالقابض على الجمر. غريبٌ كأن الدنيا ليست موطنه؛ فلا يأبه إن كان له نصيبٌ منها أم لم يكن، لا يطمع في مالٍ أو جاهٍ، لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، غِناه في قلبه، يكتفي بالرضا، والقليل من الزاد؛ فإن زاده الحقيقي هو ذِكر الله، موطنه الأصلي هو السماء، لا يشعر بالوحدة؛ إذ هو مستأنسٌ بمعية الله، هو مجهولٌ في الأرض لا يأبه له الناس، فلكأنه في شفافيته ونقائه من ملائكة السماء الذين ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

 

وليست هذه دعوةٌ للانعزال عن الناس والانقطاع عن الدُنيا بالكُلية؛ فلا رهابنية في الإسلام؛ فهو دين الحنيفية السمحاء، دين اليُسر والوسطية بين الإفراط والتفريط، جاء ليُسعد الإنسان في دنياه وآخرته؛ فديننا ينهى عن ترك الاشتغال بأمر المعاش والانقطاع الكامل للعبادة، وينهى عن الغلو في الزهد والتقشف، ويحث على الوسطية ومنهج الإسلام يتمثل في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ . يقول أحد العارفين: الارتباط بالناس والانخراط في المجتمع، ومُكابدة المشاق من طبيعة الحياة، ولا حياة بغير اجتماع الناس والتآلف معهم ومُشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، بل لا حياة للمُصلحين إلا بين الناس، يُصلحون أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم وأُمتهم. ورد في الأثر: "حُق على العالِم أن لا ينشغل عن أربع ساعاتٍ: ساعةٌ يُناجي فيها ربه، وساعةٌ يُحاسِب فيها نفسه، وساعةٌ يُفضي فيها إلى إخوانه الذين يصدقونه عيوبه وينصحونه في نفسه، وساعةٌ يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمُل؛ فإن هذه الساعة عونٌ للساعات الثلاث الأخرى، واستجمامٌ للقلوب، وعلى العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مُمسكاً بلسانه، مُقبلاً على شأنه".

 

يقول الشاعر:

تَجِدُ الفَتى تَشْتَهيهِ الأرْضُ وَالبَشَرْ

وَما لَهُ في السَماءِ لَوْ ذَرَةُ قَدَرْ

تَطْفو وَجاهَتُه في الأرْضِ مَنْزِلَةً

وَفي القِيامَةِ قَدْ هَشَتْ لَهُ سَقَرْ

 

أحبتي.. اللهم ارفع مقامنا عندك، واجعلنا ممن إذا دَعَوْكَ استجبتَ لهم.. اللهم اجعلنا من (المشاهير في السماء)، ولو كُنا مجهولين في الأرض، وأعنّا على أن نكون من المتقين الصالحين، ومن المُصلحين في الأرض، ومن عبادك الذين ينفعهم صدقهم فتكون لهم ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.. وأعنّا اللهم على أنفسنا؛ فلا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وإنما اجعلها مزرعةً لآخرتنا، نُحسن فيها الحرث والبذر والزرع والري لنجني ثمرة ذلك في الآخرة جنةً ونعيماً أبدياً مُقيماً.

اللهم اجعلنا ممن يُعطَوْنَ صحيفتهم باليمين؛ فيفرحوا ويطوفوا على الناس يقولون لهم: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾، إنها البُشرى على الخُلد في الجنة والبقاء في النعيم الأبدي. اللهم اجعلنا من خير العباد، وارزقنا السداد وحُسن الاستعداد، ولا تفضحنا يوم يقوم الأشهاد.

https://bit.ly/4d5fZWu

 

 

الجمعة، 12 يوليو 2024

فقد النِعمة

 خاطرة الجمعة /455

الجمعة 12 يوليو 2024م

(فقد النِعمة)

 

أعلنت إحدى دُور السينما أن فيلماً مُدته ثماني دقائق فاز بلقب أحسن فيلمٍ قصيرٍ في العالم، وأنها سوف تقوم بعرض هذا الفيلم؛ فاحتشد جمعٌ كبيرٌ من الناس لمشاهدته؛ فالدعاية كانت له جاذبة! بدأ الفيلم بلقطةٍ لسقف غرفةٍ خاليةٍ من أي ديكور، وخاليةٍ من أية تفاصيل؛ مجرد سقفٍ أبيض! مضت ثلاث دقائق دون أن تتحرك الكاميرا! ولم تنتقل إلى أي مشهدٍ آخر، أو أي جزءٍ آخر من السقف بالغرفة نفسها! مرت ثلاث دقائق أخرى دون أن تتحرك الكاميرا، ودون أن يتغير المشهد! بعد ست دقائق مُملةٍ بدأ المشاهدون بالتذمر؛ منهم من كان على وشك مُغادرة قاعة العرض، ومنهم من اعترض على مسؤولي السينما؛ لأنه ضيَّع وقته في مشاهدة سقف!

وفجأةً -وقبل أن يهم أغلب المشاهدين بالانصراف- تحركت عدسة الكاميرا رويداً رويداً على حائطٍ خالٍ من أية تفاصيل أيضاً حتى وصلت للأسفل، نحو الأرض، هناك ظهر طفلٌ مُلقىً على سرير، يبدو أن الطفل مُعاقٌ كُلياً بسبب انقطاع الحبل الشوكي في جسده الصغير. انتقلت الكاميرا شيئاً فشيئاً إلى جانب سرير المُعاق، ليظهر مقعدٌ متحركٌ بدون ظهر، ثم انتقلت الكاميرا إلى موقع الملل والضجر؛ إلى السقف، مرةً أخرى، لتظهر جُملةٌ: «لقد عرضنا عليكم ثماني دقائق فقط من النشاط اليومي لهذا الطفل.. فقط ثماني دقائق من المنظر الذي يُشاهده هذا الطفل المُعاق في جميع ساعات حياته، وأنتم تذمرتم ولم تصبروا لست دقائق! ولم تتحملوا مشاهدته!!».

 

أحبتي في الله.. أحس المُشاهدون جميعهم وقتئذٍ -بلا شك- بنعمة الصحة، وهي واحدةٌ من نِعم الله عزَّ وجلَّ الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى، وهي -مثلها مثل جميع النِعم- لا نُحس بها إلا إذا فقدناها.

ذكرتني قصة هذا الفيلم القصير عن (فقد النِعمة) بما كتبه أحدهم؛ يقول الكاتب:

أذكر أنني زرتُ إحدى المستشفيات في «جدة» وكان معي أحد الأصدقاء وكان هذا المستشفى أغلبه للعناية بالمُعاقين وأصحاب الحوادث -نسأل الله أن يُشفي مرضانا وجميع مرضى المسلمين- فمررنا بغرفةٍ كان فيها أحد الشباب المُعاقين من أثر حادث سيارة، قلتُ له بعد السلام عليه والتعرف به والاطمئنان عن صحته: "كم صار لك في المستشفى؟"، نظر إليّ وقال: "تريدها بالأيام أم بالسنين؟" تعجبتُ مما سمعتُ منه، وقلتُ له: "إن كانت قليلةً قُلها بالأيام، وإن كانت كثيرةً فقلها بالسنين"، سألني: "كم تاريخ اليوم؟"، قلتُ له: "1430.10.15هـ"، قال: "إن كنتَ تريدها بالأيام صار لي 2310 يوماً، وإن كنتَ تريدها بالسنين صار لي سبع سنواتٍ وخمسة شهورٍ تقريباً"، ثم قال: "وقت أن كنتُ صحيحاً وأمشي كنتُ لا أهتم بالأيام والسنين، أما الآن والله أني أعدها وأتمنى الخروج من المستشفى اليوم قبل غداً؛ لكي أذهب للمسجد وأواظب على الصلاة، وأُكثر من أعمال الخير التي كنتُ مُقصراً فيها".

 

يقول أهل العلم إنّ الله سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان بنِعمه ظاهرةً وباطنةً، وهي نِعمٌ كثيرةٌ لا تُعدّ ولا تُحصى، وإنَّ أكبر نِعمةٍ أنعمها الله عليه هي خَلْقُه في أحسن تقويمٍ وأجمل صورةٍ، وميّزه عن جميع المخلوقات بالعقل، وسخّر له جميع مخلوقاته من حيواناتٍ ونباتاتٍ وجماداتٍ ليستفيد منها ويستخدمها لمصلحته، ووفّر له جميع سُبل الحياة الكريمة، كما أرسل إليه الأنبياء والرسل ليدلّوه على عبادة الله تعالى والتخلص من ظُلمة الكُفر والعُبودية لغيره سبحانه، ويُرشدوه إلى الخير وطريقة استغلال النِعم بالشكل الأمثل. ومن نِعم الله على الإنسان أيضاً أنّه هيَّأ له جميع ظروف الحياة، وجعله حُراً في تصرفه، بشرط أن يكون تصرفه ضمن ضوابط الشريعة. ومن واجب الإنسان أن يشكر الله على النِعم التي أنعمها عليه، وكلما كان تقدير الإنسان لهذه النِعم أكبر، كلما غمرت السعادة قلبه بشكلٍ أكبر، وكلّما كان شعوره بالرضى أكبر، خصوصاً أنَّ النِعم التي يراها الإنسان في الدنيا ما هي إلا جزءٌ بسيطٌ جداً من النِعم الكثيرة التي سيراها المؤمنون في الآخرة. وكلما زاد الشكر زادت هذه النِعم؛ فالله تعالى يقول في مُحكم التنزيل: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. يجهل بعض الناس أهمية النِعم التي لديهم، ولا يُحسنون استغلالها، ولا يشكرون الله عليها، كما أنهم لا يعرفون قيمتها إلا إذا فقدوها. ومن بين هذه النِعم: البصر والسمع والصحة التامة والجسد القوي، ولو أصاب الإنسان مرضٌ يكون سبباً في (فقد النِعمة) يعرف وقتها أهمية تلك النِعمة التي فقدها. إنّ توفر النِعم يجعل البعض يرى أنّ وجودها أمرٌ مسلّمٌ به فيغفل عن شكر المُنعم سُبحانه وتعالى عليها. وعند (فقد النِعمة) يتذكر مَن فقدها بأن هناك نِعماً يجب أن يشكر المُنعم عليها، وأن يُحافظ عليها، ويُرشّد استخدامها؛ فلا يعلم قدر الصحة مثل المريض، ولا يعرف قيمة المال مثل الفقير، ولا يُقدّر نِعمة الطعام مثل الجائع، ولا يتمنى نِعمة الولد مثل العقيم، ولا يشعر بقيمة الأمن مثل الذي يعيش في خوفٍ ورُعب.

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ فما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفع إلا بتوبةٍ؛ ففقد نِعمة الأمن سببه انتشار المعاصي والذنوب بين الناس، ولم تجد مَن يُنكرها ويمنعها فعمَّهم الله عزَّ وجلَّ بعذابٍ، وكلما كانت المُنكرات أكبر والسكوت عنها أكبر كان العذاب أكبر وأشد وأعظم وأشمل.

والله من تمام عدله لا يُغيِّر نِعمةً أنعمها على أحدٍ إلاَّ بسبب ذنبٍ ارتكبه؛ يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، أي أن النقص في الأموال والأنفس والزروع والثمرات بسبب المعاصي ابتلاءٌ من الله واختبارٌ ومجازاةٌ على ما أحدث الناس من المُنكرات لعلهم يتعظون؛ فمن أعرض عن ذِكر الله وعصاه وخالف أوامره وشرعه سلَّط الله عليه من مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها وشدتها جزاءً وِفاقاً بما كسبت يداه، ولا يظلم ربك أحداً.

وللوقاية من (فقد النِعمة) كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ].

ولأنّ للمؤمن عند الله مكانةً فأمْرُهُ كله خير؛ يقول المُصطفى صلى الله عليه وسلم: [عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ].

إنّ النِعم تُقيّد بالشكر، وتزول بالكُفر، والله عزّ وجلَّ غنيٌ عن عباده، غير أنّ الإنسان في حاجةٍ دائمةٍ للتقرّب إلى الله حتى ينال سعادة الدنيا والآخرة.

 

أحبتي.. يتوجب على كلٍ منا أن يشكر المُنعم في كل الأحوال وفي جميع الظروف، ولا نكون مثل مَن لا يشعرون بالنِعمة إلا حين يفقدونها. إنَّ الشكر على النِعم سببٌ لدوامها؛ فلا نغفل عن شكر الله تعالى والثناء عليه في كل وقتٍ، ونستغل أوقاتنا بكثرة الأعمال الصالحة. علينا مراجعة أنفسنا، فيبادر كل مُقصرٍ بالتوبة والرجوع إلى الله. وعلينا جميعاً أنْ نُقدِّر قيمة كل ثانيةٍ من حياتنا -نقضيها ونحن في صحةٍ وعافية- لنحمد الله سُبحانه وتعالى ونشكره على كل نِعمةٍ أنعم بها علينا؛ فلا ننتظر (فقد النِعمة) حتى نشعر بوجودها ونقدِّر قيمتها؛ فالنِعم إذا ذهبت قد لا تعود.

اللهم لا تجعلنا من الغافلين عن شكرك على نِعمك الكثيرة التي لا تُحصى، واحفظها علينا، وبارك لنا فيها.

https://bit.ly/3xKcAgX

الجمعة، 5 يوليو 2024

الظُلم ظُلمات

 

خاطرة الجمعة /454

الجمعة 5 يوليو 2024م

(الظُلم ظُلمات)

 

قصةٌ حقيقةٌ حدثت في مدينة «القَطْن» بمُحافظة «حضرموت» باليَمَن قبل قُرابة عشرين عاماً!

في يومٍ من أيام الصيف المُمطرة، وبعد هطول الأمطار الغزيرة على المنطقة ذهب شابان إلى إحدى مغاسل السيارات بتلك المدينة لغسيل شاحنتهما من آثار الطين والوحل؛ فقام أحد عُمال المغسلة بغسلها وتنظيفها على أفضل ما يكون. وبعد الانتهاء من غسل السيارة، وأثناء استلام الشاحنة، اتهم الشابان العامل المسكين ظُلماً وبُهتاناً بسرقة مبلغ 10 آلاف ريال من السيارة، أنكر العامل البسيط هذا الادعاء جُملةً وتفصيلاً؛ فتم استدعاء صاحب المغسلة الذي خَوَّن عامله ولم يقف معه، وخيره بين أمرين مريرين: إما استدعاء الشرطة وطرده من العمل، أو إعادة ذلك المبلغ إلى الشابين المُدعيين، حاول ذلك العامل المسكين بقدر المستطاع دفع ذلك الاتهام الباطل عن نفسه دون فائدةٍ، وفكّر ملياً بالخيار الأول لصاحب المغسلة؛ إذا تم استدعاء الشرطة فسوف يُحجز أياماً عديدةً على ذمة القضية، ولديه أطفالٌ ووالدته مريضةٌ وكبيرةٌ بالسن وهو العائل الوحيد لأسرته، والخيار الثاني هو دفع ذلك المبلغ من جيبه واتقاء ذلك الشر المُستطير وتوكيل أمره لله ربِ العالمين؛ فقرر أن يذهب إلى بيته لإحضار مبلغ 10 آلاف ريال لدفع الشر عن نفسه وعن أسرته ومستقبله وسمعته. أحضر المبلغ وسلمه إلى الشابين الكاذبين أمام صاحب العمل وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل؛ وكلتُ أمري للملك القهار". انصرف الشابان فرحين بنجاح تلك العملية الجبانة! أما صاحب العمل فبعد ذهاب الشابين قام بطرد العامل من وظيفته مُتحججاً بأنه لا يُريد أن تتشوه سُمعة مغسلته بوجود لصٍ يعمل عنده؛ فبكى العامل كثيراً، وانصرف إلى منزله بعد أن حاسبه صاحب العمل وأعطاه بقية حسابه.

لم تنتهِ القصة هنا، ولكن كانت تلك بدايتها، وبداية عدالة ربِ السماء والأرض، وانتقامه من هذين الشابين الظالمين؛ فبعد استلامهما المبلغ الحرام من ذلك العامل المسكين ذهبا إلى أحد الأسواق واشتريا من أحد المطاعم وجبة غداءٍ، وذهبا إلى أحد الأماكن الطبيعية لتناول ذلك الغداء، وربما للتخطيط لعملية نصبٍ أخرى! قام الشابان بإيقاف سيارتهما بجانب جُرفٍ جبليٍ لتناول الغداء تحت ظل ذلك الجُرف، ولكن القَدَر كان لهما بالمرصاد، وعدالة ربِ العالمين قد نزلت عليهما بعد دعوة المظلوم؛ فتدحرجت صخرةٌ عظيمةٌ وضخمةٌ جداً من فوق ذلك الجُرف الجبلي وقامت بسحقهما تماماً هما وسيارتهما، ثم استقرت فوق السيارة! هُرعت الجهات المختصة لمكان الحادث، وتم إخراج الشابين بصعوبةٍ؛ فالأول سُحق تماماً وتُوفي على الفور، والثاني كانت به بعض الروح، وفي سكرات الموت الأخيرة كان أول ما نطق به قبل موته: "ظلمنا عامل المغسلة، وهذه عدالة ربنا فينا"، ومات موتةً شنيعةً!

عرف الناس بتلك القصة، وعرف صاحب العمل بالحادثة؛ فبكى كثيراً على ظُلمه وتسرعه في الحكم على إنسانٍ يعمل عنده ويعرف أخلاقه جيداً، فقام بإعادته إلى العمل وجعله رئيساً للعمال، بل وأرجع له مبلغ 10 آلاف ريال.

 

أحبتي في الله.. يقول ناشر القصة: هذه قصةٌ حقيقيةٌ وواقعيةٌ حدثت في تلك المنطقة، وصارت تلك السيارة وفوقها الصخرة مزاراً للناس، يتأملون العبرة والعدالة الإلهية السريعة التي لا ترضى بالظُلم والجَوْر بين الناس.

 

إن (الظُلم ظُلمات)، يقول أهل العلم إنّ للظُلم عواقب سيئةٌ على الأُمم والأفراد، وهو خُلقٌ ذميمٌ، وذنبٌ عظيمٌ، يُحيل حياة الناس إلى شقاءٍ وجحيمٍ، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات؛ فعلى مستوى المجتمعات؛ يقول الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾؛ فالله سُبحانه وتعالى يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا يُقيم الدولة الظالمة وإن كانت مُسلمةً. وعلى مستوى الأفراد؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. ويقول عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا ليسَ بيْنَهَا وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ] أي تجنب الظُلم لئلا يدعو عليك المظلوم؛ فإنّ دعوة المظلوم كالرصاصة القوية؛ تُسافر في سماء الأيام بقوةٍ، لتستقر في أغلى ما يملك الظالم، وما من ذنبٍ أسرع إلى تعجيل نقمةٍ وتبديل نعمةٍ من الظُلم والبغي على الناس بغير حقٍ. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ]، فقال رجلٌ: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: [وَإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ]. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ]؛ فلا يهتدي الظالم يوم القيامة سبيلاً حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم. ويقول عليه الصلاة والسلام: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم] منهم [دعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ]. ولشدة خطر الظُلم وعظيم أثره كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من الاستعاذة منه فيقول: [اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ]. وحتى يتقي المُسلم عواقب الظُلم الوخيمة، ويقي نفسه من تلك العواقب في الدُنيا والآخرة فإن عليه أن يُسارع إلى رد المظالم إلى أهلها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه].

 

ولأن (الظُلم ظُلمات) جاء التحذير الإلهي من الظُلم ليرتدع الظالمون. كما أنّ العدل الإلهي استوجب تحذيراً من موالاة الظالمين أو تقديم أي عونٍ أو دعمٍ لظُلمهم وبغيهم في الأرض، مُنبهاً على العقوبة المُترتبة على ذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، يرى المُفسرون أنّ المقصود بالركون هو محبة الظالم والميل إليه بالقلب، والرضا بظُلمه، الأمر الذي يجعل مُساعد الظالم ظالماً؛ فكل من ساعد ظالماً أو قدّم له عوناً أو دعماً أو حتى تأييداً هو ظالمٌ مثله، وشريكٌ له في الإثم والوِزر، بقدر ما قدّم، وبقدر ما أيّد وساند، وهذا يشمل جميع أشكال الموالاة بِدءاً بالميل القلبي، مُروراً بالرضا بأفعال الظالمين ومُداهنتهم والتودد إليهم، وانتهاءً بمساعدتهم وتقديم الدعم والعون لهم. ويُحذرنا النبي من إعانة الظالمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ].

 

قال الشاعر:

لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً

فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ

تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ

يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ

 

أحبتي.. لينظر كلٌ منا إلى نفسه بتجردٍ ونزاهة، ويُحاسِب نفسه قبل أن يُحاسَب؛ هل ظلم نفسه بتقصيره في أداء العبادات المفروضة؟ أو ببُعده عن الصراط المستقيم؟ هل ظلم غيره: أباه أو أُمه؟ زوجه؟ أبناءه؟ إخوانه أو أخواته؟ أخواله أو أعمامه؟ جيرانه؟ أصدقاءه أو زملاءه أو مرؤوسين له في العمل؟ أو أي إنسانٍ آخر؟ فإن كان فعل فليُبادر إلى رد المظالم إلى أهلها فوراً ودون إبطاء. وإن وجد نفسه لم يظلم أحداً فليُتابع مُحاسبته لنفسه ويسأل: هل ساعدتُ ظالماً وأعنته على ظُلمه؟ هل رضيتُ يوماً عن ظُلمٍ طال غيري؟ هل أشعر في قرارة نفسي بالميل إلى ظالمٍ فأحببتُه؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلا يظن أنه ناجٍ من العذاب؛ فسوف تَمَسَه النار لركونه إلى هذا الظالم أو ذاك، إلا أن يمتنع على الفور عن تقديم أي شكلٍ من أشكال العون والمُساعدة للظالم، وأن يتوقف تماماً عن اتباع هوى نفسه بمحبة الظالم والميل إليه. ولنتذكر جيداً المقولة المشهورة "إن لم تستطع قول الحق، فلا تُصفق للباطل". ولنأخذ العبرة من قصة المثل المشهور "أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض"؛ فضعاف النفوس من الناس، هُم كالذين وقفوا يتفرجون على الثور الأبيض وهو يؤكل، لم يهمهم بطش الظالم إذ كان بعيداً عنهم؛ فلنتعظ ونعلم أن الأمر يبدأ دائماً بالغير ثم -إذا سكتنا ورضينا بما يفعل الظالم ولم نأخذ على يده- يطالنا ظُلمُه كما طال غيرَنا؛ فلنحترس ولا نقع فريسةً للخداع والغفلة، والمؤمن كما ورد في الأثر: "كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ".

لنتعاهد إذن على ألا يظلم أحدُنا أحداً. ونتعاهد أيضاً على ألا نُقدِّم العون لظالمٍ، وأن ننزع من قلوبنا حبه والميل إليه. ولنتذّكر أن (الظُلم ظُلمات) وأن من الحكمة اتقاء دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا من أتباعهم وأعوانهم، ولا ممن يركنون إليهم. اللهم طهّر قلوبنا من الظُلم، ولا تجعل في نفوسنا رضىً بأعمال الظالمين، ولا في قلوبنا محبةً لهم.

https://bit.ly/3VTdkrX

 

الجمعة، 28 يونيو 2024

أُم مثالية

 

خاطرة الجمعة /453

الجمعة 28 يونيو 2024م

(أُم مثالية)

 

كتبت تقول: أريد أن أروي قصتي من البداية البعيدة، وأن أرجع بذاكرتي إلى الوراء حين كنتُ طفلةً في العاشرة من عمري، مقبولة الشكل والطبع، لكنني نحيفةٌ هزيلةٌ، أمرض كثيراً لضعفٍ في صدري يُصيبني بنزلات البرد المؤلمة خمس أو ست مراتٍ في الصيف والشتاء، فلا أكاد أبرأ من نوبة سُعالٍ حتى تُصيبني نوبةٌ أخرى، بسبب شدة الرطوبة التي تنفثها جدران شقة أُسرتي المُظلمة ليلاً ونهاراً، والتي لا تزيد عن حجرةٍ وصالةٍ وحمامٍ في بيتٍ قديمٍ بأحد أحياء القاهرة، وقد كنتُ –في تلك الفترة من عمري- في نهاية المرحلة الابتدائية، أعيش مع أُسرتي المكونة من: أبٍ عجوزٍ، أُجيب زميلاتي حين يسألن عن عمله بأنه بالمعاش وأنا لا أعرف معنى هذه الكلمة، و(أُم مثالية) طيبةٍ عطوفٍ، وخمس بناتٍ، وولدٍ واحدٍ، هو أكبر الأبناء.

وكنتُ أذهب إلى مدرستي مُرتديةً مريلةً بسيطةً لكنها نظيفة، وحاملةً حقيبةً من القُماش أضع فيها كُتبي، وأرتدي في قدميّ الصغيرتين حذاءً من البلاستيك، كانت تشتريه أُمي لي من سوق الخُضار بعشرة قروشٍ لا غير، ويُضايقني كثيراً لأنه يلتصق مع العَرَق بقدميّ، ويُشعرني بالحرج بين زميلاتي؛ لأنه الحذاء البلاستيك الوحيد بين أحذيتهن، حتى لقد كانت أُمنيتي الوحيدة في الحياة -وأنا في العاشرة من عمري- هي أن تسمح ظروف أُسرتي ذات يومٍ بشراء حذاءٍ لي من الجلد بتسعةٍ وتسعين قرشاً، كما كان سعره في تلك الأيام، وأن يُخلصني الله من السُعال الذي يُنهكني، لكن ظروف أُسرتي لم تسمح بتحقيق هذا الحُلم الجميل؛ فقد كان معاش أبي من وظيفته الصغيرة ضئيلاً للغاية، وراتبه ككاتبٍ صغيرٍ بإحدى الشركات التي عمل بها بعد المعاش أقل من القليل، لهذا فقد كانت أسعد لحظاتي حين تُعجب زميلةٌ لي بالمدرسة بحذائي البلاستيك، لأنه فريدٌ من نوعه، فتبادلني به -من باب التغيير ولبعض الوقت- حذاءها المصنوع من الجلد، وحين كان يحدث ذلك كنتُ أروح وأجئ بين الناس ليروه في قدميّ وأنا في قمة الابتهاج.

أما بعد العودة من المدرسة، فقد كنتُ أُغادر البيت مع أُختين لي حاملةً صينيةً مملوءةً بالترمس الذي صنعته أُمي في البيت لنبيعه للمارة على شاطئ النيل بقرشٍ وبنصف قرشٍ لمن يُريد، ويومنا السعيد يأتي حين يرانا رجلٌ طيبٌ يُدرك بفطنته حالنا؛ فيشتري منا كمية الترمس كلها بخمسة قروشٍ؛ فأهرول إلى أُمي لأعطيها القروش الخمسة التي ستكون مصروف البيت وعماده في اليوم التالي، وتُكافئني أُمي على اجتهادي بنصف قرشٍ فأخرج لألعب في الشارع حتى الغروب. أما في الإجازة فقد كنتُ أخرج في الصباح مع أُمي الطيبة المُدبّرة، التي حرمتها الظروف من الحصول على أية شهادةٍ، لنشتري طعام الإفطار للأسرة، فأراها تجلس في الفرن البلدي لأكثر من ساعةٍ بين بعض النسوة المُنتظرات مثلها أن يعود إلى الفُرن الخُبز "الرجوع"، الذي تُباع الأرغفة الثلاثة منه بقرشٍ، في حين يُباع الرغيف الواحد من الخبز الطازج بنصف قرشٍ، وكان هذا الخبز الجاف الذي تُبلله أُمنا بالماء هو طعامنا الأساسي، مع صنفين لا ثالث لهما من أصناف الطبيخ الخالي من اللحم هما: الملوخية والبطاطس المطهوة بالصلصة، إلى جانب طبق الفول في الصباح، فنأكل هنيئاً مريئاً ونسمع أبانا وأُمنا يُرددان دعاءهما اليومي أن يحفظ الله علينا نعمته. أما في صباح عيد الأضحى فقد كانت أُمي تصطحبني معها إلى عمارةٍ شاهقةٍ بجوار حديقة الحيوان لتأخذ لحم الأُضحية من إحدى الأسر الطيبة، من أهل الخير، وترجع شاكرةً تدعو لهم الله أن يزيدهم من فضله، وتدعو لأبنائها هي بأن يُصبحوا ذات يومٍ أهل خيرٍ مثلهم، وفي البيت يأكل أبناؤها من يديها أشهى وجبة لحمٍ، وألذ طبق حساءٍ في الكون كله. وكنتُ أشكر ربي كثيراً حين أشبع، وحين يجف صدري من السُعال الخانق. ومضت بي الأيام فالتحقتُ بالمدرسة الثانوية، وازددتُ حياءً ونظافةً، وعرفتُ دِيني أكثر فارتديتُ الحجاب، وسمعتُ من أُمي قصص الأنبياء؛ فقد كانت -برغم عدم حصولها على شهادة- موسوعةً في هذا المجال، بسبب قراءتها اليومية في المُصحف المُفسر بعد صلاة الفجر. كما تحسنت ظروفي فأصبح مصروفي –وأنا طالبةٌ بالمدرسة الثانوية- قرشين كاملين تُعطيهما لي أُمي مع سندويتشات الفول في الصباح، فأذهب إلى المدرسة وأقف أمام "الكانتين" مُترددةً ماذا أشتري بهما؟ ثم أقول لنفسي: "لماذا أشتري شيئاً وقد تناولتُ إفطاري وشبعتُ والحمد لله؟"، فتكون النتيجة أن أعود بالقرشين إلى أُمي، في معظم الأيام، وأُعطيهما لها مرةً أخرى فأجد البيت في حاجةٍ ماسةٍ إليهما! وبرغم بساطة حياتنا فلقد كانت أُمي شديدة التفاؤل بالمستقبل، وتثق بربها ثقةً لا حدود لها، وكثيراً ما جلست بيننا تؤكد لنا أنّ كلاً منا سيصبح له في المستقبل إن شاء الله شأنٌ كبيرٌ، وستعمل هذه أستاذةٌ بالجامعة، ويعمل هذا مُديراً كبيراً، وسيكون لكلٍ منا شقةٌ واسعةٌ وأثاثٌ جميلٌ وسيارةٌ، إلخ؛ فنضحك نحن من تفاؤلها الزائد عن الحد، ونُشفق عليها من هذه الأحلام الخيالية، ونحن نراها تُكافح كفاح الأبطال لتلبية مطالبنا، وقد أضافت إلى مصادر دخلها في هذه الفترة بيع الحلوى في حديقة الحيوان، وكانت تحصل علي "البضاعة" القليلة من تاجرٍ طيبٍ يُعطيها لها بلا مُقدم ثمن، ولا يتقاضى منها ثمنها إلا بعد أن تبيعها، ومن عجبٍ أنها كانت تُوزع بعضها، وهي عائدةٌ، على الأطفال الفقراء. وكنا نراها تذهب إلى مدارسنا للتقدم بطلب إعفائنا من الرسوم المدرسية لظروفنا الاجتماعية، أو تبيع –تحت ضغط بعض الظروف الطارئة وحاجة بعضنا لشراء الملابس- بعض أوانيها النحاسية لكي توفر لنا ثمنها. ومع ذلك كله فلم تكن آثار الفقر باديةً علينا؛ فنحن جميعاً ملابسنا نظيفةٌ ومظهرنا مقبولٌ في حدود إمكاناتنا، وحتى والدنا الذي كان وقتها يُقارب السبعين من عمره، ويعمل كاتباً بسيطاً بإحدى الشركات بعد إحالته إلى المعاش، كانت تبدو عليه الوجاهة أيضاً؛ فيحسبه البعض مُديراً بهذه الشركة! وقد كان كل ما نستطيع أن نُقدمه لأُمنا هو ألاّ نخذلها بالفشل والرسوب، فتقدمنا جميعاً في دراستنا، والتحق شقيقنا الوحيد بالجامعة، وخرج للعمل إلى جانب الدراسة، وبدأ يُساعد أبانا في الإنفاق علينا، وبخروجه للعمل بدأت الأُم الطيبة المُتفائلة تستغني عن بيع الحلوى. ثم توالت بعد ذلك التطورات في حياتنا فتخرج شقيقنا، وعمل بالشركة نفسها التي كان يعمل بها والدنا –رحمة الله عليه- وأنفق على نفسه أيضاً فحصل على الماجستير، وتزوج وأنجب وسكن في شقةٍ جميلةٍ بعمارةٍ كبيرةٍ وأصبحت له سيارةٌ بسيطةٌ ظريفةٌ، كما توقعت له أُمي في أحلامها المُتفائلة، أما شقيقاته فقد تخرجن كُلهن في الجامعة، وتزوجن وأقمن في مساكن جميلةٍ بعماراتٍ شاهقةٍ، وأصبح لكلٍ منهن سيارةٌ وزوجٌ في غاية الكرم والطيبة معها، أما أنا -الطفلة ذات الحذاء البلاستيك- فقد أصبحتُ زوجةً لمديرٍ طيبٍ يُحبني ويُحب أولاده حُباً جماً، وأُماً لثلاثة أطفالٍ صغارٍ وبنتٍ واحدةٍ، وقد بلغتُ الآن الرابعة والثلاثين من عمري، وأعمل أستاذةً جامعيةً، بالضبط كما تنبأت لي أُمي التي أصبحت جدةً يلتف حولها 12 حفيداً تسعد بهم، وأقيم في مسكنٍ جميلٍ بعمارةٍ شاهقةٍ، وأُوزع لحم الأضاحي في عيد الأضحى المبارك، وكُلما رأيتُ طفلةً صغيرةً جاءت مع أُمها لتأخذ لحم الأُضحية، تذكرتُ نفسي وأنا في مثل سنها وموقفها؛ فيمتلأ قلبي بالعطف عليها والحُب لها، وأجد نفسي أُردد ما ورد في الأثر من دعاء: "ربِ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك". كما أجد نفسي أُردد الدعاء ذاته كلما اصطحبتُ أولادي إلى حديقة الحيوان واسترجعتُ في خيالي صورة أُمي الطيبة، وهي تقف في المكان نفسه لتبيع بعض الحلوى الرخيصة وتكسب قروشاً تعول بها أطفالها. وأُردده كذلك كلما دخلتُ شقتي الواسعة المُضيئة التي تدخلها الشمس، وكل شيءٍ فيها أبيض، من الحوائط إلى الأثاث إلى الستائر إلى أغلب ملابسي وأحذيتي، عفواً حين أقول "أحذيتي" فقد أصبح لي بفضل الله وكرمه 15 حذاءً صالحةً للاستعمال، وكُلها من "الجِلد" أبدلنيها ربي –له الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه- بحذائي البلاستيك القديم، وأهمس بها لنفسي حين أرى من نافذة غرفة نومي، وأنا مستلقيةٌ في فراشي، قرص الشمس الأُرجواني الجميل وقت الأصيل، وقرص القمر الساطع في الليل فتمتلئ نفسي بهجةً وسروراً وعرفاناً، فإذا كان في شقتي عيبٌ من العيوب، فهي أنها مُضيئةٌ أكثر من اللازم، وقد نصحني البعض بأن أضع على زجاجها ستائر داكنةً تُخفف من ضوء النهار الساطع دائماً فيها، لكنني أرفض ذلك وأُفضِّل الستائر البيضاء؛ لكي أستمتع أكثر بضياء الشمس ونورها.

 

أحبتي في الله.. عرضت كاتبة القصة بأمانةٍ بعضاً من ملامح حياةٍ يوميةٍ عاشتها مع (أُم مثالية)، قامت بدورها بصبرٍ وحكمةٍ ومحبة، لا تنتظر الشكر أو التكريم من أحدٍ، ولا تسعى إليه، وإنما تفعل ذلك إرضاءً لله سُبحانه وتعالى، مثلها في ذلك مثل الملايين من الأُمهات المثاليات اللاتي عِشْنَ ومُتْنَ وقد أَدْيَنَ واجبهن على أحسن ما يكون.

وأنهت الكاتبة قصتها بقولها: كتبتُ هذه القصة لأطلب من كل إنسانٍ أنعم الله عليه بأُمٍ كأُمي، وأبٍ حنونٍ، وأسرةٍ مُتحابةٍ مُتماسكةٍ، أو بزوجٍ طيبٍ وأولادٍ صالحين، وعيونٍ ترى، وآذانٍ تسمع، وقلبٍ لا يحقد على أحدٍ، أطلب منه ومنكم جميعاً أن تُحسّوا بنِعم الله عليكم، التي لا تُعد ولا تُحصى، وأن تشكروه عليها، قولوا دائماً: "ربِ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك"؛ فبالشكر تدوم النِعم.

 

يقول أهل العلم إنّ الأمومة عاطفةٌ رُكزت في الأُنثى السوية، تدفعها إلى مزيدٍ من الرحمة والشَفقة. وإنّ أُمّ كل شيءٍ: مُعظمه، ويُقال لكل شيءٍ اجتمع إليه شيءٌ آخر فضمّه: هو أُمٌ له؛ وبهذا المعنى ورد تعبير "أُم الكتاب" و"أُم القُرى".

ولقد أوصى القرآن الكريم بالأُم، وكرر تلك الوصية لفضل الأُم ومكانتها؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وفَضْلُ الأم على الأب له موجباته وهو الحمل والرضاع والرعاية. وجعل الله سُبحانه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتٍ للمؤمنين من حيث واجب البِر وحُرمة الزواج والحقوق الواجبة لهن من الاحترام والتقدير؛ يقول تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾. ومن الأمثلة التي ضربها الله سُبحانه في القرآن للأُمهات المثاليات أُم موسى عليه السلام؛ إذ احتفل بها القرآن وحكى قصتها مع ولدها زمن فرعون؛ فقال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ...﴾، وقال: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى ...﴾، وقال: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ ...﴾.

وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: [أُمُكَ]. قيل: ثم من؟ قال: [أُمُكَ]. قيل: ثم من؟ قال: [أُمُكَ]. قيل: ثم من؟ قال: [أَبُوكَ]. الأمر الذي يؤكد حرص الإسلام على مُضاعفة العناية بالأُم والإحسان إليها.

وجاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: [هل لَكَ مِن أمٍّ؟] قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]، وهذا يُبين عِظَم منزلة الأُم في الإسلام.

 

يقول عُلماء الاجتماع إنّ الأُم هي صمام أمان الأسرة وأساس تماسكها وتلاحم أفرادها؛ لِما تقوم به من دورٍ وجهدٍ في سبيل تربية أبنائها ورعاية بيتها وزوجها، وهي القلب الحنون الذي يضم الجميع تحت لوائه ويحتويهم بحُبٍ ورفقٍ وسعادة، وهي العمود الفقري داخل الأسرة سواءً في وجود الأب أو في عدم وجوده، وهي المسئولة الأولى عن تربية الأبناء. وهناك صفاتٌ كثيرةٌ تستحق الأُم بسببها الاحتفاء والتكريم، وأن ينطبق عليها وصف (أُم مثالية)؛ أهمها أن تكون قدوةً لأبنائها تلتزم بالعبادات والفرائض، وتُعلم أبناءها القيم الجميلة النبيلة، وتُجنبهم العادات السيئة، وتربطهم دائماً بالدين. كما ينبغي أن تتحلى كل (أُم مثالية) بالصبر والحكمة في الحياة الزوجية، وتُعلي مصلحة صغارها فوق كل مصلحةٍ، وتصبر من أجل أولادها، وتتحمل مسئولية البيت والأبناء.

 

أحبتي.. رحم الله كل (أُم مثالية) أنجبت وربّت، وجعلت من أبنائها رجالاً صالحين ونساءً صالحات. ووَفّق الله كل أُمٍ ما تزال تُجاهد وتُكافح لتُربي أبناءها تربيةً إسلاميةً صحيحة. وهدى الله كل فتاةٍ وكل زوجةٍ في طريقها لتكون أُماً في المستقبل إلى الطريق المستقيم والسبيل القويم لتنشئة أبنائها على ما يُحب الله ويرضى. وعلى كلٍ منا -آباءً وأُمهاتٍ- أن يرعوا الله في تربية بناتهن ليكنّ أُمهاتٍ مثالياتٍ يُقدِّمن للبشرية أفضل وأصلح وأتقى الأبناء.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا عِلماً.

https://bit.ly/3VMesgW