الجمعة، 8 أغسطس 2025

اليقين بالله

 

خاطرة الجمعة /511

الجمعة 8 أغسطس 2025م

(اليقين بالله)

 

قصة هذا الأسبوع قصةٌ واقعيةٌ كتبها صاحبها بالعامية المصرية، ونشرها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، اطلعتُ عليها، وأعجبتني؛ فقمتُ بإعادة صياغتها بلغةٍ عربيةٍ فصحى سهلةٍ. إليكم القصة على لسان صاحبها:

في طريق عودتي من مدينة «الإسماعيلية»، وبينما تلفح رياح السفر وجهي، توقفتُ عند بوابة تحصيل الرسوم، مددتُ يدي إلى جيبي لأكتشف أن كُل ما أملكه من مالٍ نقديٍ هو ورقةٌ ماليةٌ باليةٌ من فئة العشرين جُنيهاً، وقد نال منها الزمن حتى بدت ممزقة الأطراف، قدمتها للعامل عند البوابة، فرمقها بنظرةٍ رافضةٍ وقال إنها لا تصلح، أخبرته بأسفٍ: “واللهِ لا أملك غيرها”، نظر إليّ الرجل نظرة تفهُّمٍ، ولوَّح بيده قائلاً: “لا بأس، امضِ في طريقك، ولكن لي عندك رجاء… خُذ هذه السيدة معك، وأوصلها إلى مُستشفى العيون في «القاهرة»، وهي ستدلك على العنوان، واعلم أنها شبه كفيفةٍ، فكُن لها عوناً”، التفتُّ لأرى امرأةً وقوراً تقف على استحياءٍ، يبدو على وجهها أثر الزمن وصبر السنين، أومأتُ لها أن تفضلي بالركوب، فركبت بجانبي في صمت. انطلقنا، وبدأت تروي حكايتها عندما سألتُها مُتعجباً: “كيف وصلتِ إلى هنا وأنتِ بهذه الحال؟”، أجابت بصوتٍ خفيضٍ يملأه الرضا: “أُعاني من مياهٍ زرقاء في عينيّ كادت تسرق مني نورهما. قصدتُ مُستشفى العيون في «القاهرة» بحثاً عن بصيص أملٍ في العلاج، استقللتُ حافلةً صغيرةً، لكنها تعطلت فجأةً عند هذه البوابة، فتفرق الرُكاب كلٌّ إلى سبيله، وساقني أهل الخير إليك”.

تملكني شعورٌ بالشفقة، وسألتها بقلقٍ: “وكيف ستعودين؟”، ردت بيقينٍ راسخٍ كالجبال: “لا تقلق، فالذي دبَّر لي لقاءك، قادرٌ على أن يُدبِّر لي طريق العودة”، هززتُ رأسي مُوافقاً، لكنني استدركتُ قائلاً: “نعم، ولكن الحياة ليست بهذه السهولة دائماً”، ابتسمت ابتسامةً هادئةً أضاءت وجهها المُتعَب وقالت: “بل الحياة سهلةٌ جداً لمن يكون يقينه بالله قوياً؛ فيتوكل عليه حق التوكل”. وصلنا إلى المُستشفى، وعندما هممتُ بمُساعدتها على النزول، رأيتُ مشهداً عجيباً؛ فقد كان هناك مُمرِضٌ يقف عند الباب وكأنه ينتظرها هي بالذات، فاستقبلها مني بحفاوةٍ وأخذ بيدها وأجلسها على مقعدٍ مُتحركٍ. شعرتُ أن قلبي يتمزق من أجلها؛ فقررتُ في نفسي أن أنتظرها، فكيف أتركها تائهةً في مدينةٍ كبيرةٍ لا ترحم، وهي بالكاد تُبصر طريقها بصعوبةٍ بالغة؟ صعدتُ خلفها، ورأيتُ المُمرِض يُجلسها على مقعدٍ عاديٍ ثم ينصرف. جلستُ بعيداً أُراقبها، فسمعتها تهمس بدعاءٍ خاشعٍ يهز الوجدان: “يا رب، سهّلها من عندك.. يا رب، هوِّنها.. يا رب، يسِّرها برحمتك.. يا رب افرجها فليس لي سواك أتوكل عليه”. وظلَّت تُردد هذه الكلمات تُناجي بها الله سُبحانه وتعالى. بعد فترةٍ وجيزةٍ جاءت مُمرِضةٌ واقتادتها إلى غُرفة الطبيب، وبعد أن أتمت الكشف، أعادتها المُمرِضة إلى المقعد ذاته، اقتربتُ منها وسألتها: “طمنيني، ما الأخبار؟”، ابتسمت وقالت: “ألم تُغادر بعد؟”، قلتُ: “آثرتُ أن أنتظرك لأُعيدك إلى محطة الحافلات”، ضحكت وقالت: “هيا بنا إذن”. في طريقنا للخارج، سألتها وأنا أرى الفرحة تُشع من وجهها: “يبدو أن الطبيب قد وصف لك علاجاً شافياً”، نظرت إليّ وقالت: “لا، بل أخبرني أن حالتي مُتأخرةٌ جداً، ولا علاج لها سوى عمليةٍ جراحيةٍ باهظة التكاليف”، ثم ضحكت ضحكةً صافيةً كأنها لم تسمع للتو خبراً يهدم آمالها في العلاج، قلتُ لها في ذهولٍ: “وتضحكين؟!”، أجابت بإيمانٍ غريبٍ: “الذي دبَّر لي كل هذا، ألن يُدبِّر الباقي؟”، قلتُ مُتشككاً: “نعم، قد يُدبِّر لك مواصلةً أو يداً حانيةً تسندك، لكن مبلغاً كبيراً لعمليةٍ كهذه، من أين سيأتي؟”، ردت بصوتٍ يفيض باليقين: “إن ربي يصنع العجائب، أليس هو الذي شقَّ البحر لموسى وقومه؟ أفلا يقدر أن يشق هذه العتمة في عينيّ ويبعث لي نوراً من نوره؟”.

وصلنا إلى محطة الحافلات، وأصررتُ على أخذ رقم هاتفها لأطمئن عليها. اليوم -وبعد فترةٍ- تذكرتها، فخطر لي أن أتصل بها، ردَّت عليّ بصوتٍ تملؤه السعادة، وزفَّت إليّ خبراً كان كالمُعجزة؛ لقد أجرت العملية ولم تدفع إلا مبلغاً رمزياً، ما حدث أن الطبيب نفسه الذي كشف عليها في المُستشفى اتصل بها في ذات اليوم، وأخبرها أنه سيُجري لها العملية في مُستشفىً خيريٍ، وأنه مُتنازلٌ عن أجره كاملاً. أنهت كلامها وهي تقول بفرحٍ غامرٍ: “ألم أقل لك؟ إن الله قادرٌ على أن يشق العتمة بنوره”. في تلك اللحظة، أدركتُ أن الإيمان ليس مُجرد كلمةٍ تُقال، بل هو قوةٌ تُحوِّل المُستحيل إلى حقيقةٍ، وأن من كان يقينه بالله قوياً، وتوكله على الله خالصاً، فإن الله لا يخذله أبداً، عليه فقط أن يُحسن الظن بالله، ويكون موقناً تمام اليقين بقدرة الله عزَّ وجلَّ ولطفه بالعباد.

 

أحبتي في الله.. (اليقين بالله)، عندما يكون قوياً وصادقاً تتحقق معه المُعجزات؛ فهذه قصةٌ أخرى حكاها أحد رجال الدين الموثوق بهم، قال:

أخبرني واحدٌ من أهل «الشيشان» بموقفٍ عجيبٍ حدث معه في زمن «الاتحاد السوڤييتي» السابق؛ قال لي: كُنا مجموعةٌ من المُسلمين مُجتمعين في أحد البيوت نتدارس القُرآن خفيةً، وإذا بقواتٍ روسيةٍ جاءت وحاصرت البيت، وحين همَّ الجنود الروس باقتحام البيت للقبض علينا هرب مَن هرب، وبقيتُ أنا لا أدري أين أذهب، رأيتُ حُفرةً قريبةً من البيت يُلقَى فيها محصول البطاطس، ألقيتُ نفسي فيها، شاهدتُ الجنود وقد اقتحموا البيت وبدأوا في التفتيش وعلا صياحهم، ثم اقتربوا من مكاني في الحُفرة، وأنا ليس معي سلاحٌ، ولا أستطيع أن أهرب، لكن كان بقلبي يقينٌ قويٌ بالله، وتذكرتُ موقفاً من السيرة للنبي صلى الله عليه وسلم مع الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهُما في الغار، كما تذكرتُ آيةً من القُرآن الكريم ظللتُ أقرأها بيقينٍ كاملٍ في الله سُبحانه وتعالى، لم أشعر بأي خوفٍ، بل أحسستُ بسَكينةٍ تملأ روحي، واطمئنانٍ يغشى قلبي. بعد لحظاتٍ سمعتُ القائد يقول للجُندي: "اذهب وفتِّش الحُفرة"، وسمعتُ وقع أقدام الجُندي وهو يقترب شيئاً فشيئاً من الحُفرة وأنا فيها مثل الفأر بالمصيدة، ومع ذلك لم يُساورني أي شكٍ في أن الله سيُنجيني. وصل الجُندي ونظر إلى الحُفرة، وأطلَّ عليّ ثم ذهب، وسمعته يقول للقائد: "لا يوجد أحدٌ في الحُفرة!"، تعجبتُ جداً فقد كان ينظر إليّ، عيناه في عينيّ، لكنه لم يرني!

سأل رجل الدين الرجل الشيشاني: "وماذا كُنتَ تقرأ من القرآن وقتها؟"، قال: "كنتُ أقرأ الآية الكريمة من سورة يس: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

 

عن اليقين يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. ويقول أيضاً: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾.

 

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنُونَ بالإجابةِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ لا يَستجيبُ دُعاءً من قلْبٍ غافِلٍ لَاهٍ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [صلاحُ أوَّلِ هذه الأُمَّةِ بِالزُّهدِ واليَقينِ، ويَهْلَكُ آخِرُها بِالبُخْلِ والأّمَلِ].

وكان من دعائه: [اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا].

 

ويقول أهل العِلم إن اليقين شعبةٌ عظيمةٌ من شُعب الإيمان، وصِفةٌ من صفات أهل التقوى والإحسان.

و(اليقين بالله) هو الإيمان الراسخ والقوي بوجود الله وقُدرته، وهو درجةٌ عاليةٌ من الإيمان تتجاوز مُجرد الاعتقاد إلى الثقة التامة بأن الله هو المُدَبِّر والمُتصرف في كُل الأمور. ويتضمن ذلك: الإيمان المُطلق والتسليم الكامل بقُدرة الله وعِلمه وحكمته، والثقة بأنه لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء. والتوكل الصادق والاعتماد الكُلي على الله، مع الأخذ بالأسباب والتسليم بأنها كُلها بيد الله وأنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذنه. والرضا بقضاء الله والقبول بكل ما يُقدِّره، سواءً كان خيراً أو شراً، عِلماً بأن الله لا يقضي إلا بالخير لعباده المؤمنين. والطمأنينة مع شعور القلب بالسكينة والراحة في كُل الأحوال؛ لأن العبد يعلم أن الله معه. والصبر وتحمل الشدائد والمصاعب بثباتٍ وثقةٍ في الله، مع الإيمان الكامل بأن الله سيجعل بعد العُسر يُسراً.

يقول العُلماء إن (اليقين بالله) هو منزلةٌ عاليةٌ في الدين، وهو أساس السعادة والنجاح في الدُنيا والآخرة، وهو الذي يُحقق المُستحيل. (اليقين بالله) هو أن تكون كُل الأبواب مُغلقةً، وكُل الظروف صعبةً، وكُل المؤشرات توحي بعكس ما تتمناه، لكنك على يقينٍ بأن الله سيُصلح كل شيءٍ وسيتكفل بكل شيءٍ. (اليقين بالله) هو العِلم التام الذي ليس فيه أدنى شكٍ، وهو الاستقرار النفسي، والطُمأنينة لقدرة الله، والإيمان الجازم الذي لا يشوبه شائبة.

و(اليقين بالله) له مراتب ودرجاتٌ يرتقي بها المرء كلما عمر الإيمان قلبه، وهذه المراتب هي: عِلم اليقين، عين اليقين، ثم حق اليقين. وقد مثَّل أحد العُلماء لهذه المراتب الثلاث بقوله: "مَن أَخبَرك أنَّ عنده عسلاً وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقيناً، ثم ذُقتَ منه، فالأول عِلم اليقين، والثاني عَين اليقين، والثالث حق اليقين"؛ فعِلْمُنا بالجَنَّة والنار عِلم اليقين، فإذا أُزْلِفتِ الجَنَّة للمُتقين، وشاهدَها الخلائق، وبُرِّزت الجحيم للغاوين، وعايَنها الخلائق، فذلك عَينُ اليقين، فإذا دخَل أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النارِ النارَ، فذلك حينئذٍ حق اليقين.

أما عن صفات أصحاب (اليقين بالله) والخصال التي تُميزهم، فإنها تتمثل في تقبلهم مصائب الدنيا بصدرٍ رحبٍ وعدم القنوط من رحمة الله والتحلي بالصبر تجاه المُصيبة، وطُمأنينة قلوبهم وراحة نفوسهم وقوة توكلهم على الله وتفويض أمورهم إليه. وكثرة إنفاقهم في سبيل الله بالمال والنفس، وإيمانهم بأن الله هو الرزّاق والمُعطي والمُعين. وخشوعهم في الصلاة قياماً وركوعاً وسجوداً. وزُهدهم في الدُنيا وتَرَفُعهم عن أمور الحياة، وطمعهم في الآخرة ولقاء وجه الله الكريم. مع قيامهم بكُل ما يستطيعون من النوافل وأعمال الخير والبِر التي تُقربهم إلى الله عزَّ وجلَّ.

ويقول العُلماء إنه مع اليقين الكامل بالله قد تأتي إجابة الدُعاء مُختلفةً أو مُتأخرةً وقد لا تأتي، وقتها يكون اليقين الحق أن الله يختار لنا الخير دائماً، وقد يكون الخير فيما أبعده أو أخره عنا، هذا هو اليقين الكامل.

 

عن (اليقين بالله) قال الشاعر:

عِنْدي يَقينٌ بِرَبِ الكَوْنِ يَحْدوني

‏إني قَريبٌ -يَقولُ اللهُ- فادْعوني

يُغيثُني اللهُ مَهْما أَظْلَمَتْ سُبُلي

‏كَما أَغاثَ بِبَطنِْ الْحوتِ ذا النونِ!

وقال آخر:

رَبي مَعي فَمَنْ الَذي أَخْشىٰ إِذَاً

ما دامَ رَبي يُحْسِنُ التَدْبيرا

وَهُو الذي قَدْ قالَ في قُرْآنِهِ

"وَكَفَىٰ بِرَبِكَ هادياً وَنَصيرا"

 

أحبتي.. يقول أحدُهم: "لقد جربتُ ولم تُفلح تجربتي؛ دعوتُ الله فلم يُجب دعوتي، ولم أجد ثمرةً لدعائي"، نقول له إن الله لا يُجَرَّب، إن عطاءه قائمٌ على اليقين لا على التجربة، وكم رأينا بأعيننا استجابةً لأدعيةٍ كُنا نظن أنها مُستحيلةٌ، لكنها تحققت عند اليقين الكامل والقوي بالله سُبحانه وتعالى.

علينا أن ننوي ونعمل ونسعى، ونأخذ بالأسباب ما وسعنا ذلك، ثُم نتوكل على الله ونحن موقنون بأنه سُبحانه لا يُعطي إلا خيراً، وأن ما نسأل الله به بيقينٍ إن كان فيه خيرٌ لنا فهو آتٍ بلا شك في الوقت المُناسب، وعلينا أن نكون في كُل الأحوال صابرين شاكرين.

اللهم بجلال وجهك، وعظيم سُلطانك، ارزقنا الإيمان التام المليء باليقين. وارزقنا اللهم يقيناً لا يتزحزح، وقرة عينٍ لا تنفد، اللهم آمين.

https://bit.ly/3J4hMl3

ليست هناك تعليقات: