خاطرة الجمعة /510
الجمعة1 أغسطس 2025م
(العفو والصفح)
كنتُ أتصفح
واحدةً من منصات التواصل الاجتماعي قبل حوالي ثلاثة أسابيع، واستوقفتني مُشاركةٌ
من شخصٍ لا أعرفه، تعجبتُ لها كثيراً؛ كانت مُشاركته تعليقاً على وفاة أُستاذٍ
جامعيٍ بإحدى الجامعات المصرية، فوسط سيلٍ من التعازي التقليدية كتب ذلك الشخص ما
يلي: "اللهم إنك تعلم أن لي مظلمةً عند عبدك هذا، اللهم إني أُشهدك أني لم
أُسامحه، ولن أُسامحه، حتى نقف بين يديك فتقتص لي منه، اللهم لا تغفر له، اللهم لا
ترحمه، اللهم لا تُكرم نُزله، اللهم لا تُوسِّع مُدخله، اللهم لا تُلقنه حجته،
اللهم ضيِّق عليه قبره، واجعله حفرةً من حُفر النيران، اللهم إنه استبطأ غضبك، ولم
يتقيك فيّ، ولم يعمل لك أي حسابٍ، اللهم إنه نسي قُدرتك وعظمتك وظلمني، اللهم
عامله بعدلك وجبروتك ونيرانك، اللهم إنه أخيراً قد وَفِد إليك، فعامِله بما هو
أهله، يا من وعدتَ ووعدُك الحق بنُصرة دعوة المظلوم حيث قلتَ جلَّ شأنك: {وعزتي
وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}، وصلِّ اللهم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه
وسلِّم".
هذا ما كتبه
في المساحة المُخصصة لنشر العزاء، بعيداً عن (العفو والصفح) مُخالفاً بذلك ما جرى
عليه العُرف بنشر التعازي والدُعاء بالرحمة للمُتوفى".
رغم عدم
معرفتي بأيٍ من طرفي العلاقة -لا المُتوفى، ولا مَن كتب هذا الدُعاء- فقد بادرتُ
بالدخول إلى صفحة الأخير وكتبتُ له على الخاص ما يلي: "في هذا المقام لا
يسعنا إلا أن نتواصى بما ورد في الآية الكريمة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ
أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. أعلم أنه من الصعب على المظلوم أن يعفو ويصفح، لكني أرى أن
مُجاهدة النفس للوصول لهذه الدرجة من التسامح تؤهل صاحبها لأمرٍ نتمناه كُلنا
جميعاً لأنفسنا؛ ألا وهو "مغفرة الله". فهنيئاً لمن أتاح الله سُبحانه
وتعالى له فرصة الحصول على هذه المغفرة؛ إنه وعد الله، و﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ
وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فبادِر إلى اغتنام هذه
الفُرصة. أرجوك أن تتكرم وتتفضل بحذف دعائك وأن تكتب بدلاً منه عبارةً واحدةً فقط:
﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ وفوِّض أمرك كله لله سُبحانه
وتعالى".
لم يصلني
ردٌ على هذه الرسالة، ولا تم حذف الدُعاء المُشار إليه.
أحبتي في
الله.. لا أعرف سبب ذلك الدُعاء الصعب الذي يخلو من (العفو والصفح)، كما أني لستُ
مُتأكداً من صحة ادعاء المظلوم، لكن لأن ذلك الدُعاء كان فظيعاً رهيباً ومُرعباً،
تساءلتُ بيني وبين نفسي: "هل يصل الإحساس بالظُلم إلى هذه الدرجة، درجة عدم
مُسامحة الظالم وقت وفاته؟ هل يا تُرى هناك مُبالغةٌ من المظلوم في دعائه؟ هل هي
حالةٌ فرديةٌ أم أن الظُلم يصل بالمظلوم إلى هذه الدرجة العالية من الشماتة في
الظالم حين يموت؟".
سُبحان
الله؛ وصلني الرد على هذه الأسئلة مُنذ يومين؛ ففي ذات الموقع من مواقع التواصل
الاجتماعي اطلعتُ قَدَرَاً على ما نشره أحد المُصلين بأحد المساجد؛ كتب يصف الموقف
الذي حدث أمامه فقال: كُنا نستعد لصلاة الجنازة على واحدٍ من أموات المُسلمين،
وكالعادة أشار الإمام -قبيل بدء الصلاة- بأنه إذا كانت على المُتوفى ديونٌ ماديةٌ
فليُسارع أهله بسدادها، وإن كانت لأحدٍ عليه مظلمةٌ فليصفح ويُسامح. وما إن
انتهينا من الصلاة إذا برجلٍ من آخر الصفوف يقول بصوتٍ عالٍ، وبنبرةٍ غاضبةٍ:
"يا ربِ، أنت تعلم بصدق ما أقول، لقد أمِنْتُ هذا المُتوفى على مالي، وكُل
مُدخراتي، وثمن شقائي على مدار سنواتٍ عديدةٍ في بلاد الغُربة، وكان المُتوفى
صاحبي، فطلب مني أن ندخل في شراكةٍ معاً، ولما وافقتُ وسلمته مُدخراتي كُلها خدعني
وأكل حقي، ورفض أن يُعيد لي مالي. يا ربِ: بحق كل يومٍ كُسِرتُ فيه بسببه أمام
أبنائي، بحق سنوات الشقاء التي ضاعت من عُمري هباءً، بحق المرض الذي أصابني نتيجة
قهري وحُزني، بحق كل شيءٍ كنتُ أتمنى شراءه لأُسرتي ولم أستطع، بحق كل شيءٍ طلبه
مني أبنائي ولم أتمكن من تحقيقه لهم، بحق كل عيدٍ مرَّ علينا أنا وأهل بيتي كأننا
أيتام، بحق تعب زوجتي ومرضها النفسي من شدة الحاجة واضطرارنا لمد أيدينا وطلب
المُساعدة من الغير، بحق وقفتي الآن ودُموعي تسبق كلامي من الذُل والقهر والغضب
والغيظ.. بحق ذلك كُله؛ برِّد قلبي فيه يا ربِ، اجعل قبره جحيماً، واجعل مثواه
جهنم، واجعل كل لحظة تعبٍ عشناها عذاباً أبدياً له في النار. لن أقبل إعادة مالي
لي الآن ولو ضوعف لي عشر مراتٍ. لن أُسامحه؛ فيا ربِ بعزتك وجلالك لا تكسر قلبي
وتُسامحه".
قال ذلك ثم
هَمَّ بمُغادرة المسجد؛ فتجمع حوله المُصلون عارضين عليه أن يجلس مع أبناء
المُتوفى وإخوانه ليصلوا إلى حلٍ ربما يُعيدون له حقه، قال لهم: "ذهبتُ إليهم
كُلهم -قبل وفاة الرجل- ولم يستجب أيٌ منهم، والآن لو أعطوني أعمارهم لن أقبلها!
ميتهُم الآن عند الحَكَم العادل، وحقي لن يضيع عنده عزَّ وجلَّ، هو سُبحانه الذي
يفصل بيننا". ظلَّ الرجل يبكي، وسط مُحاولاتٍ من الناس أن يُسامح المُتوفى،
حتى أن أحد الموجودين عرض دفع المبلغ كاملاً، لكن صاحب المظلمة رفض ومشي وهو يقول:
"عند الله تجتمع الخصوم، حقي ربنا سيحفظه لي، إياكم وأكل الحرام، إياكم
وخيانة أمانة مَن استأمنكم، خافوا الله يا بشر من هذه اللحظة، تذكروا أنّ الظُلم
ظلماتٌ، وأنه لا مهرب من الموت، وأنه مهما فتحت لكم الدنيا ذراعيها، فلابد من هذه
اللحظة، لحظة الموت، إنها آتيةٌ لا محالة، لن يهرب منها أحدٌ، ثم يكون وقوفنا
للحساب بين يدي الله سُبحانه وتعالى، إن في ذلك لعبرةً لمن يعتبر".
عن حُكم
الدُعاء على الميت الظالم يقول العُلماء إن الأفضل للمُسلم الواقع عليه الظُلم أن
يأخذ بأسباب (العفو والصفح) عن الظالم رجاء الحصول على الأجر من الله؛ يقول تعالى:
﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾. ورجاء أن يغفر الله له
ويرحمه؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن
يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، ويقول: ﴿وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. ورجاء أن ينال أجر أُولي العزم من الصابرين
الغافرين؛ يقول سُبحانه: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ﴾. ورجاء أن ينال خير الصابرين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ
خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾. ورجاء أن يُعزه الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[ما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا]. ورجاء الفوز بثواب كاظمي الغيظ؛ يقول
عليه الصلاة والسلام: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وهوَ قادِرٌ على أنْ يُنْفِذَهُ؛ دعاهُ
اللهُ سبحانَهُ على رُؤوسِ الخَلائِقِ (يومَ القيامةِ) حتى يُخَيِّرَهُ مِن
الحُورِ العِينِ ما شاءَ].
ويُشرَع
للمسلم الإمساك عن (العفو والصفح) ليلقى المُذنبُ ربَه بما اقترف من الإثم، لكن
-كما قال بعض السلف- ما يُفيدك أن يُعذِّب الله أحداً لأجلك؟ مع ما يفوتك من أجر
العفو، لو عفوتَ.
ويُشرَع له
أيضاً الدُعاء على الظالم؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول:
[سَمِعَ اللهُ لِمَن حمِده، ربَّنا ولك الحمدُ] ويدعو: [اللَّهمَّ اشدُدْ وطأتَك
على مُضَرَ واجعَلْها عليهم سِنينَ كسِنِي يوسُفَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام:
[ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم] منها: [دعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ فوق الغمامِ
وتُفتَّحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ الرَّبُّ وعزَّتي لأنصُرنَّك ولو بعد
حينٍ].
كما يُشرَع
له كذلك المقاصة ومُقابلة السيئة بمثلها دون تجاوزٍ؛ لقوله تعالى: ﴿وَجَزَاء
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ
ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾.
ولا شك أن
مقام (العفو والصفح) هو أعلى المقامات، وأفضل الخيارات، لما جاء فيه من الأجر
والثواب.
إن وقوع
الظُلم على المُسلم ذنبٌ في حقه يُسوِّغ له الدُعاء على الظالم، دون تجاوز. وعلى
العبد إذا ابتُلي بما يكره من ظُلمٍ أن يصبر، وأن يعفو ويصفح، وأن يحتسب الأجر عند
الله تعالى، وليستشعر قوله صلى الله عليه وسلم: [ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ
المُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بها عنْه، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها].
أحبتي..
أختم برسالتين: الرسالة الأولى إلى كل ظالمٍ: "اتعظ بغيرك، أَفِق مما يُزينه
لك شيطانك، لا تغتر بقوتك أو منصبك أو مالك أو صحتك، صبر الله عليك رغم ظلمك ليس
رضاً منه وإنما هو إمهالٌ لك علَّك تتوب، لا تُضيع فُرصتك، تُب بإخلاص، تدارك أمرك
فوراً، رُد المظالم إلى أهلها، اطلب (العفو والصفح) ممن ظلمتهم، وتوقف عن ظُلم
الآخرين، قبل أن يأتيك الموت فجأةً؛ فيدعو عليك المظلومون، ويستجيب الله
لهم". وأقول لكل ظالمٍ بقصد النُصح لا بقصد الإساءة: "إذا كنتَ ظالماً
فلا تكن غبياً، كُن ذكياً واختر لنفسك ما ينفعك في الدُنيا والآخرة".
أما الرسالة
الثانية فهي لكل مظلومٍ أقول فيها: "إن قول الله تعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾؛ يُعطيك الحق في الدُعاء
على من ظلمك، لكن بقَدْر ظُلمه وبغير تجاوزٍ، أما إذا صفحتَ وعفوتَ فإن لك أجراً
عظيماً؛ فالأولى والأفضل أن تُفوِّض أمرك إلى الله تعالى وتقول: ﴿حَسْبُنَا اللهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ،و﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ تكون بذلك
قد نقلتَ ملف قضية الظُلم من قاضي الأرض إلى قاضي السماء الحَكَم العدل فيقتص لك
ويُعوضك عما أصابك ويجزيك أجر الصبر وثواب حُسن الظن به".
اللهم اهدِ
كل ظالمٍ؛ ليفيق من غفلته قبل موته، ويرد المظالم إلى أهلها، حتى يُقابلك بقلبٍ
صافٍ، تطهّر من الآثام والخطايا والأوزار، وتخلص من الدُعاء عليه.
اللهم لا
تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يركنون إليهم، واجعلنا إذا ظُلمنا أن نكون من
الصابرين، وساعِدنا على (العفو والصفح) عمّن ظلمنا، واكتب لنا أجر الصبر وثواب
المُسامحة، إنك سُبحانك وليّ ذلك والقادر عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق