الجمعة، 7 نوفمبر 2025

الدنيا دوَّارة

 

 خاطرة الجمعة /524

الجمعة 7 نوفمبر 2025م

(الدنيا دوَّارة)

 

"لمدة 12 عاماً كنتُ أمسح حمّاماتهم، ولم يكونوا يعلمون أن الطفل الصغير الذي أحضرته معي سيكون يوماً أملهم الوحيد في النجاة".

هذه عبارةٌ كتبتها إحدى النساء على صفحتها على أحد برامج التواصل الاجتماعي، بدأت بعدها في عرض التفاصيل؛ فكتبت تقول: أتذكر الآن عندما كُنتُ في التاسعة والعشرين من عُمري حين بدأتُ العمل كخادمةٍ في منزل إحدى العائلات التي تسكن في ضاحيةٍ راقية على أطراف المدينة. كنتُ أرملةً؛ توفي زوجي في حادثٍ، ولم يبقَ لي في هذه الدنيا سوى ابني الصغير. أتذكر عندما توسلتُ إلى الهانم سيدة المنزل أن تُعطيني عملاً؛ فقد كُنتُ بحاجةٍ للعمل لنعيش أنا وابني، نظرت إليّ من رأسي إلى قدمي، ثم قالت ببرود: “يُمكنكِ البدء غداً، لكن يجب أن يبقى ابنك بعيداً عن الأنظار، اجعليه في الخلف"، هززتُ رأسي مُوافقةً؛ فلم يكن لدي خيارٌ آخر. أعطونا غُرفةً صغيرةً بجانب المراحيض، فيها مرتبةٌ قديمةٌ، وسقفٌ يتسرب منه الماء. كل صباحٍ كنتُ أُنظف الأرضيات الرخامية، وأُلمِّع المراحيض، وأُرتّب غُرف وأَسِرِّة أولاد الهانم الذين لم يلتفت أحدٌ منهم إليّ بنظرة تعاطفٍ أو رحمةٍ، لكن ابني كان يفعل ذلك كل يومٍ، وكان يقول لي: “أُمي، يوماً ما سأبني لكِ بيتاً أكبر من هذا”. علّمته الحساب بقطع طباشير مكسورةٍ وكرتونٍ مُمزقٍ، وكان يقرأ الصُحف القديمة كأنها كتبٌ دراسية. وحين بلغ السابعة، توسلتُ إلى الهانم سيدة المنزل: “من فضلكِ، دعيه يذهب إلى مدرسة أولادك الخاصة؛ سأعمل ساعاتٍ إضافيةٍ وأدفع التكاليف”، ضحكت بسخريةٍ وقالت: “أولادي لا يختلطون بأبناء الخادمات”؛ فأدخلته المدرسة الحكومية العامة القريبة، كان يذهب إليها يومياً سيراً على الأقدام، وأحياناً بأحذيةٍ مُمزقة، ولم يتذمّر قط. وببلوغه الرابعة عشرة، صار يفوز في مُسابقاتٍ أكاديميةٍ على مستوى المُحافظة. وعندما التحق بالجامعة لاحظ تفوقه أستاذٌ من الجامعة؛ فساعده في الحصول على منحةٍ دراسيةٍ في الخارج؛ فقُبِل ابني في برنامجٍ علميٍ مرموقٍ. وبدأنا نستعد أنا وابني للسفر إلى الخارج، حينها أخبرتُ الهانم سيدة المنزل بالأمر، تجمدت مكانها وقالت: “ذلك ابنك؟!”، قلتُ لها: “نعم، هو نفسه الذي نشأ بينما كُنتُ أنظف حماماتكم”.

مرَّت سنواتٌ، وأُصيب سيد المنزل الذي كُنتُ أعمل فيه بأزمةٍ قلبيةٍ، ثم بفشلٍ كلويٍ، وبدأت رحلة علاجٍ مُكلفةٍ، ذهبت ثروتهم شيئاً فشيئاً، ولأول مرةٍ عرفوا طعم الحاجة واليأس. قرَّر الأطباء أن يزرعوا للرجل كِليةً، وقالوا إنه نظراً لكبر سنه ووجود ضعفٍ في قلبه فإن من يُجري له عملية الزرع لابد أن يكون طبيباً عالمياً مُتخصصاً، ورشحوا بالفعل جرّاحاً يعمل خارج الدولة، وافقت الأسرة، وأرسل الأطباء التقرير الطبي الخاص بالمريض إلى الجرّاح، فوافق على الحضور، وأخبرهم بأنه يعرف هذا الرجل شخصياً! عندما وصل الجرّاح مُحاطاً بفريقه الطبي، نظر مُباشرةً إلى الهانم سيدة المنزل وقال لها: “يوماً ما قُلتِ إن أولادك لا يختلطون بأبناء الخادمات، واليوم حياة زوجك بين يديّ واحدٍ منهم”. أجرى الجرّاح -ابن الخادمة- العملية ونجحت، ورفض أن يأخذ أي مُقابلٍ ماديٍ.

تقول الأُم: كان ابني قد اصطحبني للإقامة معه في الخارج، وبعد أن أنهى دراسته وعمل كطبيبٍ في مشفىً شهيرٍ وفَّى بوعده؛ بنى لي بيتاً كبيراً عند البحر، ولطالما حلمتُ برؤية المُحيط، اليوم أجلس كل مساءٍ على الشُرفة، أستمع إلى صوت الأمواج، وعندما أسمع اسم ابني يتردّد في الأخبار أبتسم لأنني كنتُ يوماً الخادمة، واليوم، أنا أُمّ الرجل والطبيب والبروفيسور الذي لم يكن بإمكان رب تلك الأسرة النجاة من دونه.

 

أحبتي في الله.. صدق من قال (الدنيا دوَّارة)؛ فالقوي صار ضعيفاً، والغني أصبح فقيراً، والخادمة أضحت ملكةً في عيني ابنها، أما الابن فلم يعد ذلك الصبي الصغير، هو الآن من أكبر جراحي زراعة الأعضاء في العالم!

 

"دوام الحال من المُحال"، و"كما تدين تُدان"، و"الجزاء من جنس العمل"، كل هذه الأقوال تؤكد على أن (الدنيا دوَّارة) وأن ما تقوم به لا يضيع أبداً؛ يعود لك إن كان خيراً، ويعود عليك إن كان شراً؛ فهذه مُمرضةٌ كتبت تقول: عندما كنتُ أعمل مُنتدبةً في دارٍ للمُسنات بإحدى المُدن، كنتُ أزورهم مرتين أُسبوعياً لإجراء فحوصاتٍ دوريةٍ للسيدات كبيرات السن، وكانت تشدُّ انتباهي دائماً امرأةٌ غريبة الأطوار، لا يتجاوز عُمرها الخمسين عاماً، كانت لا تجتمع مع أحدٍ، وكُلما زُرتُ الدار أجدها تجلس وحيدةً في غُرفتها، مُحافظةً على مظهرها وأناقتها، وكان واضحاً عليها أنها ذات شخصيةٍ قويةٍ، لم تكن كباقي المُسنّات. مع مرور الأسابيع، كان فضولي يزداد؛ فقد كانت لا تُجيب عن أية أسئلةٍ، ولا تشكو لي همومها كباقي النزيلات. حتى جاء ذلك اليوم وسألتها: "اعذريني سيدتي، لماذا لا تتفاعلين مع أحدٍ في الدار؟ اعتبريني مثل ابنتك، وافتحي لي قلبك"، نظرت إليَّ نظرةً مليئةً بالدموع، كأن في عينيها كلامٌ كثيرٌ، صمتت قليلاً، ثم نظرت إليَّ وقالت: "هل أُخبركِ لماذا أنا هنا؟"، قُلتُ لها: "بصراحةٍ، أُريد أن أعرف، فالجميع هنا يشتكي إلا أنتِ"، قالت: "أنا هنا مُنذ أربع سنواتٍ، رزقني الله بابنٍ واحدٍ كان مُتفوقاً في دراسته، توفي أبوه وهو في المرحلة الثانوية، فأكمل دراسته والتحق بالجامعة، وبسبب تفوقه حصل على بعثةٍ لإكمال الماجستير والدكتوراه في «أمريكا»، تزوج قبل سفره، وسكن هو وزوجته معي في شقتنا، وكانت زوجته تتضايق كثيراً من وجودي وتُعاملني بجفاء. يوم أن أنهى ابني أوراق السفر، صُدمتُ حين قال لي: "أُمي، أنا مُسافرٌ أنا وزوجتي، وقد تطول سفرتنا لسبع سنواتٍ، ابحثي عن أحدٍ من أخوالي لتقيمي عنده، وسآتي لزيارتكم بين الحين والآخر"، شعرتُ وقتها بقهرٍ شديدٍ؛ فقلتُ له: "لا، أُفضّل الذهاب إلى دار المسنين على أن أكون عالةً على أحد"؛ ففوجئتُ برده حيث قال لي: "افعلي ما يُريحك يا أُمي"! في تلك اللحظة، دارت بي الدُنيا، وتذكرتُ وقتها ما كنتُ قد فعلته بحماتي -أُم زوجي- قبل سنين. واللهِ إني أستحق ما حدث لي؛ كنتُ أحرم زوجي من الجلوس مع أُمه، وأختلق المشاكل بينهما، كانت تسكن في الطابق الثاني، وكان زوجي يحرص دائماً على أن نصعد لنتناول طعام الغداء والعشاء معاً، لكني كنتُ أصعد قبل عودته من عمله لأُعطيها غداءها وعشاءها مُبكراً، حتى نأكل نحن -أنا وزوجي- في الأسفل بدونها. وكان زوجي يُعاتبها دائماً قائلاً: "لماذا لا تتناولين الغداء معنا يا أُمي؟". فكانت تقول له: "أنا أجوع وأنت تتأخر". وكانت -رحمها الله- لا تشتكي لولدها أبداً، وكنتُ أجرحها بكلامي كثيراً؛ فكانت تبكي وتقول لي: (الدنيا دوَّارة)، ثم تنظر إليَّ بصمتٍ وتهز رأسها. واللهِ لن أنسى نظرتها تلك ما حييتُ، ولكني لم أكن ألتفتُ لِما تقول. لقد ظلمتها كثيراً، ولا أعلم إن كانت قد سامحتني أم لا. أُصيبت بجلطةٍ ودخلت في غيبوبةٍ، ثم ماتت دون أن أطلب منها السماح. والآن، اللهُ يُجازيني في الدُنيا بكل ما فعلته بها، ولا أعلم كيف سيكون عقابي في الآخرة. ابني لا يُكلمني إلا في الأعياد. قد أموت قبل أن تنتهي السنوات السبع التي قال إنه سيرجع بعدها، وربما أعود لأسكن معه وزوجته لا ترعاني. الله يُسامحني". بكت كثيراً ورددت: "الله يُسامحني"، قبّلتُ رأسها وقلتُ لها: "لعلها سامحتكِ"، قالت: "لا أظنها سامحتني؛ لقد فعلتُ بها الأفاعيل".

استأذنتُها في نشر قصتها، فقالت: "انشري لكن لا تذكري اسمي"، فوعدتها بذلك، وها أنا ذا أنشر قصتها، لعل من يقرأها يتعظ منها ويعلم بأن (الدنيا دَوَّارة) بالفعل.

 

يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؛ فعلى المرء ألَّا يستهينَ بخيرٍ عمله مهما كان صغيراً، وألَّا يستهينَ بشرٍّ عمله مهما كان حقيراً، فإن مُحقَّرات الذنوب لا تزال تجتمعُ على الرجل حتى تُهلكَه، وكما أن في ذلك إشارةً إلى الحساب في الآخرة إلا أنه يتضمن كذلك الإشارة إلى الجزاء في الدنيا.

 

ويقول سُبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، قوله ﴿نُداوِلُها﴾ من المُداولة، وهي نقل الشيء من واحدٍ إلى آخر. والمعنى: أن أيام الدنيا هي دُولٌ بين الناس، لا يدوم سرورها ولا غمها لأحدٍ؛ فهي تارةً لهؤلاء وتارةً لأولئك.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ].

 

وأهل العلم يقولون إن الدهر لا يصفو على حالٍ؛ فالأيام فيه دُولٌ، يومٌ لنا ويومٌ علينا، ومن سُنة الحياة عدم ثبات الأحوال؛ فتمر بنا هذه الأيام ما بين: يُسرٍ وعُسرٍ، وصحةٍ ومرضٍ، وغنىً وفقر، وضحكٍ وبكاءٍ، وفرحٍ وغمٍ؛ فمن سرَّه زمنٌ ساءته أزمان. ستدور الدُنيا، وتُعاد المشاهد، وتتبدل الأدوار، وكل ساقٍ سيُسقى بما سقى.

 

قال أحدهم: يوماً ما ستفهم أن الدنيا تدور ثم تعود وتقف عندك، لتفعل بك ما فعلته أنت بغيرك، تذكَّر ذلك جيداً يا من تؤلم وتؤذي غيرك وتمضي كأنك لم تفعل شيئاً. وأنت يا من سلب أحدهم سنواتٍ من عُمرك سيرمي الله في طريقه من يسلب حياته كاملةً، والذي رماك بعيوبٍ ليست فيك سيلقى من يفضح عيوبه الحقيقية، والذي باعك بثمنٍ بخسٍ سيجد من يبيعه بلا مقابل!

الذي اخترتَه لتزداد به قوةً فخذلك، سيحتاجك في أقصى درجات وهنه ولن يجدك، والذي بكيتَ خيانته ستخونه كل الأشياء من حوله بما في ذلك دموعه حين يطلبها!

 

وقال آخر: (الدنيا دوَّارة) عبارةٌ قصيرةٌ في مبناها، ذات دلالةٍ كبيرةٍ في معناها؛ فالدنيا يُصبح فيها الصغير كبيراً والكبير صغيراً، ويكون الفقير فيها غنياً والغني فقيراً. إلا أن حقيقة أن (الدنيا دوَّارة) لا يُدركها الحمقى والمستكبرون، وأصحاب الرؤى الضيقة الذين يغرهم الجُزء الظاهر والبسيط من المشهد الذي يرونه، ولا يُدركون امتداده واتصاله بمشاهد أُخرى مُستقبليةٍ، ستنقلب عليهم دون استطاعتهم تجنب آثارها.

 

قال الشاعر:

وَما الدَهرُ يَوماً واحِداً في اختِلافِهِ

وَما كُلُّ أَيّامِ الفَتى بِسَواءِ

وَما هُوَ إِلّا يَومُ بُؤسٍ وَشِدَّةٍ

وَيَومُ سُرورٍ مَرَّةً وَرَخاءِ

 

أحبتي.. كلما تأملنا في نصوص الوحي، وفي حوادث التاريخ، وفي سُنن الله عزَّ وجلَّ في أرضه، نجد أنها لا تتخلف عن هذه السُنة "الجزاء من جنس العمل"، و"كما تدين تُدان" و(الدنيا دوَّارة)، وذلك من مُقتضى عدله وحكمته سُبحانه وتعالى، فمن عاقبك بجنس ذنبك لم يَظلمك، ومن دانك بما دِنته به لم يتجاوز؛ وتذكَّر قول إخوة يوسف عليه السلام: ﴿هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾، وتذكَّر قوله تبارك وتعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.

ولأن (الدنيا دوَّارة) والعاقل من اتعظ بغيره؛ فلماذا لا نُقدم الخير دائماً والله تعالى يقول: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؟ لماذا يضعف بعضنا فيطيع ما توسوس به نفسه الأمارة بالسوء؟ لماذا الظلم؟ لماذا الكِبر؟ لماذا التفاخر والتعالي ومُعاملة الغير بازدراءٍ واحتقارٍ ودونيةٍ وإذلال؟ ألا يجدر بنا أن نتعظ بما عانى منه غيرنا من حسرةٍ وندمٍ وقت لا ينفع الندم؟

فلنُقدِّم في حاضرنا لمستقبلنا من الأعمال الصالحة ما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا، ولنتقي الله سُبحانه وتعالى بأن نصون أنفسنا عن كل ما نهانا عنه، وأن نعلم علم اليقين أننا سنلقاه فيُحاسبنا على أعمالنا ويُجازينا عليها بما نستحق.

اللهم اهدنا لخير الأعمال وخير الأقوال لا يهدي لها إلا أنت، وقِنا شر أنفسنا لا يقينا منها إلا أنت، واجعلنا اللهم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

https://bit.ly/47uBuQK


الجمعة، 31 أكتوبر 2025

يهدي إلى الرُشد

 خاطرة الجمعة /523

الجمعة 31 أكتوبر 2025م

(يهدي إلى الرُشد)

 

من أعجب قصص اعتناق الإسلام؛ قصة «توني»، وهي سيدةٌ أمريكيةٌ، كان عُمرها ستاً وعشرين سنةً عندما أظهرت التحليلات الطبية إصابتها بسرطان المبيض -وهذا معناه الموت المؤكد، واستحالة الإنجاب- انخرطت في بكاءٍ هستيريٍ مُتواصلٍ؛ فقد كانت أعظم أُمنيةٍ لها في الحياة أن تكون أُمّاً. ظلت لعدة أسابيع في حالة انهيارٍ نفسيٍ كاملٍ، لكن -وكما قيل بحقٍ- فإنه بعد المحنة تأتي المنحة. راحت تستعرض ما مضى من حياتها، وأفاقت على الحقيقة التي شاء الله سُبحانه وتعالى أن تهتدي إليها. قالت لنفسها: "إن لم يكن أمامي مفرٌ من الموت المؤكد فيجب -على الأقل- أن أُحاول الوصول إلى هذا الإله الذي خلقني وخلق الأطباء والمرض؛ فلا ريب أنه يعلم كيف يشفيني". لقد تملّكها اليأس تماماً من أسباب البشر؛ فلماذا لا تُجرّب الاستعانة بقوةٍ عُليا تقدر على ما لا يقدر عليه أحد؟ راحت تُناجي الخالق باكيةً: "أيها الإله العظيم.. إني أعلم أنك تراني وتسمع كلامي، حتى لو كنتُ لا أراك ولا أسمعك.. سامحني، فأنا لا أعلم كيف أُصلى لك على الوجه الذي ترضى به.. أرني الطريق إليك.. دُلني عليك.. أنت وحدك القادر على ما لا يقدرون عليه.. أنت تشفيني إن شئتَ.. أعطني طفلاً، كما أعطيتَ «مريم» طفلاً بلا أب، وكما خلقتَ اّدم بلا أبٍ أو أُمٍ.. يا من بيده كل شيءٍ أعلمه أو أجهله.. أنا أحتاج إليك فلا تتخلّى عني".

قررت «توني» أن تقضي ما تبقّى من حياتها القصيرة في البحث والقراءة؛ فاتجهت إلى مكتبةٍ عامةٍ قريبةٍ من بيتها، وراحت تقرأ كل ما عثرت عليه من كُتب الأديان والعقائد المُختلفة، لكنها لم تقتنع بشيءٍ منها، حتى عثرت على ترجمةٍ لمعاني القراّن الكريم، وفور قراءة معاني بعض السُور الكريمة أدركت أنها قد وجدت ربها الواحد الأحد، الذي لا شريك له ولا ولد. ذهبت بعد عدة أيامٍ إلى أحد المساجد حيث تعلّمت المزيد عن الإسلام ونطقت بالشهادة. غمرتها سَكينةٌ عجيبةٌ بعد أن اعتنقت الإسلام، ولم تعد تُبالي بالمرض. صارت أكثر شجاعةً فقد تعلّمت أنه: ﴿لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا﴾، وأن صبر المُسلم على الشدائد والابتلاءات من أعظم أنواع العبادات والقربات، واستمرت في الصلاة وقراءة القراّن الكريم، والابتهال إلى الله تعالى لعله يرزقها بطفل. بعد بضعة شهورٍ وقعت المعجزة.. استبد الذهول بالأطباء المعالجين لها؛ لقد أثبت أحدث التحاليل أنها حامل!! طلبوا منها إجراء تحليلاتٍ أُخرى لعل هناك خطأٌ ما في التحليل الأول، لكن التحليل الثاني ثم الثالث فالرابع قطعت جميعها بوجود الجنين داخل رحمها! وهكذا منّ الله على «توني» فولدت طفلاً سمّته «يوسف» جعله الله قرة عينٍ لها كما أرادت. ثم كانت المُفاجأة الثانية خلال أقل من عامين على إسلامها، وهي اكتشاف ضمور الخلايا السرطانية بجسدها، واقترابها من الشفاء الكامل! لم يُصدّق الأطباء ما ترى أعينهم.. سألوها عما إذا كانت قد تعاطت بعض الأدوية بدون علمهم.. ابتسمت والسعادة تُشرق على كل وجهها وكيانها، وقالت لهم: "الدواء من عند الطبيب الأعظم.. إنه الله تعالى الخالق القادر الرازق.. هو الذي أعطاني الطفل، وهو أيضاً الذي شفاني بعد أن هداني".

مضى الآن ما يزيد على 15 سنةً على اعتناق «توني» للإسلام، ثم شفائها من السرطان، بعد أن كان أكثر أطبائها تفاؤلاً يعتقد أنها لن تعيش أكثر من أربع سنوات! ورغم أن أبويها من الكارهين للإسلام، إلا أنها رفضت الانتقال إلى بلدٍ عربيٍ تلقت عروضاً للزواج والإقامة فيه -بعد انفصالها عن والد طفلها- وقالت إنها لن تتوقف عن رعاية والديها الطاعنين في السن، لأن إخوتها وأخواتها غير المسلمين تخلوا عنهما، وهما بحاجةٍ إليها، وقد أمرها الإسلام العظيم بالبرّ بالوالدين وإن كانا كافرين. وتُصرّ «توني» على ارتداء الحجاب، مع أنها تعيش بوسط «الولايات المتحدة الأمريكية»، في منطقةٍ سُكّانها من أشد الطوائف تعصباً وكراهيةً للإسلام والمُسلمين، ورغم صعوبة الحياة بينهم -خاصةً للمسلمات- إلا أنها شديدة الحرص على الالتزام الكامل، وتقول: "لن أترك ديني أو حجابي مهما فعلوا بي، فالحجاب حمايةٌ وتكريمٌ وشرفٌ للمسلمة في الدنيا والآخرة، وسوف أُواصل مُعاملة الجميع بكل رفقٍ وعطفٍ، وأشرح لمن يُريد منهم كل ما أعلمه من الدين الحنيف؛ فالله تعالى قادرٌ على أن يهديهم كما هداني إلى الإسلام". وعندما سألها أحد الصحفيين عن رأيها في تعدد الزوجات بادرت بالقول: "لا نستطيع أن نأخذ شيئاً من القرآن الكريم ونترك أشياء، الإسلام يجب أن يؤخذ كله، فهو عدلٌ ورحمةٌ وحكمةٌ كله؛ فمن يُلاحظ الزيادة الهائلة في أعداد النساء في عصرنا سوف يلمس بوضوحٍ حكمة تشريع التعدد النبيل، وفوائده العظيمة للنساء، مع إلزامه للرجال بالعدل بين الزوجات، وكل الخير والبركة والسعادة في اتباع ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".

 

أحبتي في الله.. كانت هذه قصة امرأةٍ تأثرت بما قرأته من آيات القرآن الكريم مُترجمةً، فانشرح صدرها للإسلام، لِمَ لا وهو الذي وصفه عزَّ وجلَّ بأنه (يهدي إلى الرُشد)، بل وزاد سُبحانه وتعالى في وصفه فقال عنه: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.

 

وهذا طبيبٌ ألمانيٌ أسلم بتدبر آيتين من القرآن الكريم من سورة الكهف؛ يقول الطبيب الألماني: كنتُ مُسافراً يوماً وصادفني في المطار شابٌ قدَّم لي نسخةً مُترجمةً من القرآن الكريم، شكرته ووضعتُ النسخة في جيبي على نية إلقائها في سلة المهملات بعد أن يتوارى الشاب عني حتى لا أُحرجه! نسيتُ النسخة في جيبي وصعدتُ إلى الطائرة، وبسبب طول الرحلة والملل الذي يتخللها أخرجتُ نسخة القرآن من جيبي ثم فتحتها وقلَّبتُ الصفحات فوقعت عيني على سورة «الكهف»، فقرأتُ آياتٍ منها، إلى أن استوقفتني آيتان؛ وهما قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ...﴾، والآية: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ...﴾، قلتُ في نفسي: إن تقليب الفتية وهم نائمون مفهومٌ من أجل أن لا تتقرح أجسامهم إذا بقوا نائمين على وضعيةٍ واحدةٍ، لكن ما أدهشني قوله سُبحانه إن الشمس تدخل الكهف كل يومٍ لكنها لا تأتي على أجسامهم مُباشرةً؛ فهذا معروفٌ في علم الطب، فحتى لا تحصل تقرحات السرير يجب أن تكون الغرفة مُهواةً وتدخلها الشمس دون أن تكون مُباشِرةً على الجسم! ثم عدتُ للتفكر في الآية التالية؛ فعلاً حتى لا تحصل التقرحات يجب أن يُقلَب الراقد حتى لا يتقرح الجسم ويتعفن، لكن الذي أدهشني أكثر أن كلبهم لم يكن يُقلَب مثلهم، وإنما كان باسطاً ذراعيه بالوصيد على وضعيةٍ واحدةٍ طوال 309 سنة، ولم يتقرح جسمه ولم يتعفن! دفعني هذا الأمر إلى دراسة فسيولوجية الكلاب، وأدهشني أني وجدتُ أن الكلاب تنفرد بوجود غُددٍ تحت جلدها تُفرز مادةً تمنع تقرح الجلد ما دام في جسد الكلب حياةٌ ولو لم يتقلب؛ لذلك لم يكن كلبهم يُقلَب مثلهم في الكهف". وقد أسلم هذا الطبيب بسبب هذا الأمر الإعجازي، فسُبحان الله العظيم، إن الطبيب الألماني من أول قراءته للسورة استوقفته أمورٌ إعجازيةٌ لم يمر عليها مرور الكرام كما يفعل غيره.

 

وهذه امرأةٌ أخرى تأثرت بسماع بعض آياتٍ قرآنيةٍ تُتلى؛ يحكي صاحب القصة ويقول: كنتُ شاباً عربياً أدرس في إحدى الجامعات الأُسترالية وأعمل سائق سيارة أُجرة لأُغطي بعض نفقات الدراسة، كان من عادتي أثناء توصيل الرُكاب من المطار أن أُشَغِّل بعض الأغاني والموسيقى الأجنبية لتلطيف الجو، وفي أحد الأيام ركبت معي امرأةٌ أجنبيةٌ بدت مُتعبةً واشتكت من صداعٍ شديدٍ؛ عرضتُ عليها سماع بعض الموسيقى لعلها ترتاح لكنها رفضت وقالت إن الصداع يزداد مع الأصوات، وبينما أبحث عن محطةٍ هادئةٍ في مذياع السيارة ضغطتُ دون قصدٍ على محطة إذاعة القُرآن الكريم؛ فأسرعتُ بإغلاقها خجلاً ظناً مني أنها لن تتقبل سماع القرآن لأنها غير مسلمةٍ، لكنها فاجأتني بطلبها أن أُعيد تشغيله لأنها شعرت براحةٍ غريبةٍ أثناء سماعه، فتركته حتى نهاية الطريق، وكانت تُنصت في صمتٍ وسكينةٍ. بعد أن أوصلتها إلى الفندق تبادلنا أرقام هواتفنا للاتصال في حال احتاجت سيارة أُجرة، وغادرت. في اليوم التالي اشتريتُ لها نسخةً من القرآن الكريم المُترجم، مع شريطٍ مسموعٍ، وأرسلته إليها، مرّت شهورٌ كدتُ أنسى خلالها ذلك الموقف؛ حتى وصلتني منها رسالةٌ عن طريق الهاتف تُخبرني فيها أنها دخلت في الإسلام بعد استماعها للقرآن الذي كان سبباً في هدايتها، حينها أدركتُ أن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً هيأ له الأسباب، ولو دون قصدٍ منه. من يومها وأنا لا أُشغَّل في سيارتي إلا القرآن الكريم طول الوقت؛ فهو (يهدي إلى الرُشد).

يُعلق ناشر هذه القصة عليها بقوله: رُبَّ آيةٍ تُسمع بلا نيةٍ تفتح قلباً مُغلقاً؛ فالهداية بيد الله وحده، وما نحن إلا أسبابٌ يسوقها الله لمن يشاء؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [...فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ].

يقول العُلماء إن للقرآن العظيم أهمِّيةً كُبرى وأثراً عظيماً في انتشار الدعوة بين الناس قديماً وحديثاً، ويظهر ذلك في كثيرٍ من شهادات الذين اعتنقوا الإسلام، علماً بأن هذه الشَّهادات عن الإسلام أو القرآن، لا تعدو كونها تأكيداً لحقائق قائمةٍ وأصولٍ ثابتةٍ في ديننا، كما أن الإسلام عموماً والقرآن خصوصاً ليسا بحاجةٍ إلى شهادةٍ مِن بَشَرٍ، كائناً مَنْ كان، وأن شهادات هؤلاء الذين أنصفوا الإسلام، إنَّما نذكر بعضها لنبيِّنَ إنصافهم وحيادهم، لا لنبيِّن جمال الإسلام وروعته، فهو في غِناءٍ تامٍ عن شهاداتهم.

من هذه الشَّهادات ما قاله المُغني السابق البريطاني المشهور «كات ستيفنز» سابقاً «يوسف إسلام» حالياً، الذي حاز الشهرة والمال، وجمع متع هذه الحياة الدُنيا الزائلة، حتى ظنَّ أنه مِنْ أسعد الناس، إلى أن اهتدى بعد أن أهداه شقيقه «ديڤيد» نسخةً مُترجمةً من القرآن، وعلى الرغم من عدم اعتناق «ديڤيد» الإسلام إلا أنه أحس بشيءٍ غريبٍ تجاه هذا الكتاب، وتوقع أن يُعجب أخاه وأن يجد فيه ضالته، يقول «يوسف»: "عندما قرأتُ الكتاب وجدتُ فيه الهداية؛ فقد أخبرني عن حقيقة وجودي، والهدف من الحياة، وحقيقة خَلقي، ومِن أين أتيتُ، وعندها أيقنتُ أن هذا هو الدين الحق، وكلما قرأتُ المزيد من القرآن عرفتُ الكثير عن الصلاة والزكاة وحُسن المعاملة"؛ فكان القرآن سبباً في اعتناقه الإسلام وأصبح من الدُعاة إلى هذا الدِّين.

وهذا «براون» قرأ القرآن الكريم حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾، وفي هذه الآية إشارةٌ إلى البحر العميق الذي اكتشفه العلماء حديثاً حينما استطاعوا الغوص في أعماقٍ كبيرةٍ حيث الظلام التَّام، والظُلمات المُتراكبة في تلك البحار، والبرودة الشديدة، هنا سأل «براون» أحد عُلماء مُسلمي «الهند»: هل ركب نبيُّكم «مُحمدٌ» البحر؟ فقال: لا. فقال «براون»: فمن الذي علَّمَه علوم البحار؟ لقد قرأتُ في كتاب الإسلام آيةً لا يعرف أعماق ما فيها إلا مَنْ أُوتي عِلماً واسعاً في مجال البحار، ثم قرأ عليه الآية، وقال: فإذا كان «محمدٌ» لم يركب البحر، ولم يتلَقَّ علوم البحار على أيدي أساتذةٍ مُتخصِّصين، ولم يدرس في جامعةٍ أو معهدٍ بل كان أُمياً، فَمَنْ الذي علَّمه هذا العِلم النافع؟ إلاَّ أن يكون وحياً صادقاً من خالق الكائنات، فإني أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وأن مُحمداً رسول الله".

وكانت الآية الكريمة ﴿أَيَحْسَبُ الإِِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ . بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ سبباً في إسلام عالِمٍ ألمانيٍ، أدركته رحمة الله تعالى فأسلم، وأعلن إسلامه على ملأٍ من العُلماء، ولمَّا سُئل عن سبب إسلامه قال: "إن هذه الآية تُشير إلى بصمات الأنامل، وهو كشفٌ لم تعرفه أوروبا -فضلاً عن العرب- إلاَّ في زماننا هذا؛ إذن هو كلام الله لا كلام البشر".

ومما قاله أحد المُسلمين الجدد: "بعد تعمُّقي في دراسة الإسلام، وخاصةً القرآن الكريم، أعلنتُ إسلامي وأشهرته رسمياً، فأنا أعتقد يقيناً أني لو كنتُ إنساناً وجودياً لا يؤمن بوجود خالقٍ لهذا الكون ولا برسالةٍ من الرسالات السَّماوية، وجاءني نفرٌ من الناس وحدَّثني بما سبق به القرآنُ العِلمَ الحديثَ في كل مناحيه: من طبٍّ، وفلكٍ، وجغرافيا، وجيولوجيا، وقانونٍ، واجتماعٍ، وتاريخٍ، لآمنتُ بربِّ العزَّة والجبروت، خالقِ السَّماوات والأرض، ولن أُشرك به أحداً".

وهذا آخر حين سُئِلَ عن سبب إسلامه قال: "تتبَّعتُ كُل الآيات القرآنية التي لها ارتباطٌ بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستها من صِغري وأعلمها جيداً، فوجدتُ هذه الآيات مُنطبقةً كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمتُ؛ لأنني تيقنتُ أن مُحمداً أتى بالحقِّ الصُّراح قبل ألف سنةٍ، مِنْ قَبْلِ أن يكون هناك مُعلمٌ من البشر، ولو أن كل صاحب علمٍ من العلوم، قارن الآيات القرآنية المُرتبطة بما تعلَّم جيداً -كما قارنتُ أنا- لأسلم بلا شكٍ، إنْ كان عاقلاً خالياً من الأغراض".

ومن الأمثلة التي تدلُّ على أثر القرآن العظيم في نفوس مُستمعيه ما ذكره هذا القس؛ حيث قال: "سبب إسلامي كان نتيجةً لوجودي في مُحاضرةٍ، عبارة عن مُجادَلةٍ بين مُسلمٍ ومسيحيٍ، ولقد اقتنعتُ أثناء هذه المحاضرة بسورةِ «مريم» وسورةٍ أُخرى وبأن الإسلام هو دين الحق".

وهذا مُسلمٌ جديدٌ كان يهودياً قبل أن يُسلم، قال: "حينما شرعتُ في مُطالعة القرآن الكريم، للمرة الأولى وَلِعْتُ به وَلَعَاً شديداً، وكنتُ أطرب لتلاوة آياته. لا أظن أن ثَمَّةَ شيئاً يؤثر في المرء الذي أدرك حقيقة الإسلام بقدر تأثير تلاوة آيات القرآن المجيد على مشاعره، فيغمره الإحساس الفيَّاض باتصاله الرُّوحاني، وتجتذِبُه مَهَابةُ الإله جلَّ جلالُهُ، فيقرّ بكل خشوعٍ بعجزه وضعفه أمام كلام ربه العظيم".

وهذه امرأةٌ بريطانيةٌ أتمت دراسة الفلسفة، تتحدث عن تجربتها الذاتية مع القرآن العظيم، فتقول: "لن أستطيعَ مهما حاولتُ، أن أَصِفَ الأثَرَ الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أَكَدْ أنتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتني ساجدةً لخالق هذا الكون، كانت هذه أول صلاةٍ لي في الإسلام".

أما هذا فهو شخصٌ هنديٌ أسلم، ويتحدث عن تجربته مع القرآن العظيم، فيقول: "تناولتُ نُسخةً من ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية وشرعتُ في قراءته وتدبر معانيه، لقد استقطب جُلَّ اهتمامي، وكَمْ كانت دهشتي عظيمةً حين وجدتُ الإجابة المُقنعة عن سؤالي المُحَيِّرِ: ما هو الهدف من الخَلق؟ وجدتُ الإجابة في الصَّفحات الأُولى من القرآن الكريم؛ الآيات [30-39] من سورة البقرة، وهي آياتٌ توضِّح الحقيقةَ بِجَلاءٍ لكل دارس مُنصفٍ، وهي تُخبرنا بكل وضوحٍ وجلاءٍ، وبطريقةٍ مُقنعةٍ قصة الخَلق".

 

يقول أهل العِلم إن القرآن العظيم أَثَّرَ في بعض الأعاجم الذين لا يَعْرِفُون العربية تأثيراً كبيراً، مما دفع بعضهم إلى أن يُعلن إسلامه، ويَذكر الأثر الذي أحدثه القرآن في نفسه، رغم أنهم يجهلون معاني القرآن، ولا يعرفونه إلاّ من خلال ترجماتٍ لا تنبض بالحياة، فضلاً عن أنها قد تكون غير دقيقة.

أحبتي.. إِنْ كان سِحْرُ أسلوب القرآن يُحْدِثُ مِثلَ هذا التأثير في نفوس أجانب لا يمتُّون إلى العرب ولا إلى المُسلمين بصلةٍ، فإلى أي مدى يؤثر فينا القرآن الكريم، ونحن عربٌ ومُسلمون نزلت الآيات بلغتنا الجميلة؟

لنُراجع صلتنا بكتاب الله، ونُجدد العهد بعدم هجرانه، بإلزام أنفسنا بوِردٍ يوميٍ، كثيرٍ أو قليلٍ، لا نتركه أبداً ولا ليومٍ واحدٍ. أليس من المُخجل ألا ينسى أحدنا تناول إحدى وجبات طعامه ليُشبع احتياجات جسده، ثم هو يُهمِل ما يُشبع به احتياجات روحه وقلبه، فتمر عليه أيامٌ وأيامٌ لا يقرأ فيها من كتاب الله ولا حتى صفحةً واحدةً، رغم عِلمه ويقينه بأنه (يهدي إلى الرُشد)؟

اللهم حبِّب إلينا تلاوة القرآن الكريم، وساعِدنا على تدبر معانيه، وسهِّل علينا حفظ ما تيسر منه، واجعله اللهم دستوراً لنا في جميع مناحي حياتنا، نُطبق أحكامه: نلتزم بأوامره، ونبتعد عن نواهيه؛ فتنصلح بذلك أحوالنا، ونُصبح عبيداً لك ربنا على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/4nq4Xjf

الجمعة، 24 أكتوبر 2025

حفظ الجميل

 

خاطرة الجمعة /522

الجمعة 24 أكتوبر 2025م

(حفظ الجميل)

 

مقطع ڤيديو بعنوان "طبيبةٌ إيرانيةٌ تشكر أباها" انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، تظهر فيه فتاةٌ تلبس زي التخرج، تقف أمام جامعة «طهران»، تشكر والدها بطريقةٍ مؤثرةٍ ولافتةٍ؛ لتضحياته لتأمين احتياجاتها طوال سنوات دراستها فتقول: "يا أبي، انظر إلى ملابسي، أليست جميلة؟ لقد تخرجتُ اليوم وأصبحتُ طبيبةً، أنت تراني الآن وأنا أرتدي معطف التخرج الذي ذكَّرني بمعطفك القديم الذي كنتَ ترتديه لمدة 15 عاماً في جميع المُناسبات الهامة بل وفي حفلات الزفاف أيضاً، وها أنا أرتدي اليوم معطف التخرج بسبب حُبك لي وتضحياتك من أجلي. هل تتذكر يا أبي عندما كُنتَ تعود من عملك الشاق يومياً فلا تكاد ترتاح قليلاً حتى تتحامل على نفسك وتذهب لعملٍ إضافيٍ كسائق أُجرةٍ بسيارتك القديمة؟ لم تكن تشتري لنفسك شيئاً، كُنتَ تهتم باحتياجاتي أكثر مما تهتم باحتياجاتك أنت. كُنتَ تُمسك أسنانك فجأةً أثناء تناول الطعام، كان لديك ألمٌ في الأسنان تُحاول إخفاءه عني، لكنك كُنتَ تُفضِّل أن أذهب أنا إلى طبيب الأسنان عندما أشكو من أي ألمٍ ولو كان قليلاً في أسناني فكُنتَ تُرسلني إلى ذلك الطبيب. هل تتذكر يا أبي كيف كُنتَ تُحفزني؟ كُنتَ تقول: 'ابنتي، ادرسي جيداً؛ حتى لا تُصبحي مثلي، وتكون حياتك صعبةً'. أُريد أن أقول لك الآن يا أبي: حُلمي الآن هو أن أكون مثلك؛ في إيثارك وتضحياتك، وأَعِدَك يا أبي أن أكون مِثْلك في التعامل الإنساني والإحساس بالغير، وأجعلك فخوراً بي وتقول في نفسك: 'أحسنتِ يا ابنتي'. أتمنى أن أكون عظيمةً ونزيهةً مِثْلك يا أبي".

كان هذا الڤيديو مثالاً للوفاء و(حفظ الجميل)، وبعد نشره توالت التعليقات ممن شاهدوه، ومن تلك التعليقات:

"مؤثرةٌ جداً، ووفاؤها لوالدها يُعبِّر عن عظمة التربية والأخلاق والتماسك الأُسري".

"تستحق الإشادة؛ فما أجمل العطاء لمن يستحقه، ضحى من أجلها صادقاً، وبذل كل ما في وسعه، واليوم جاء دورها لتشكره وتُثني عليه وتكافئه، مُعتزةً به وبمبادئه، إنها رائعةٌ حقاً".

"النجاح إن لم يكن بشكر النِعم والمُنعم أولاً فلا طعم له".

"عندما يكون الأب مثالياً وصالحاً، تكون الذُرية صالحةً".

"كلماتٌ مؤثرةٌ؛ خرجت من القلب فوصلت إلى القلب، ما أجمل الصفاء والنقاء".

"الأب مثل الشمعة؛ تحترق لتضيء لمن حولها، يُضحي دائماً لأجل مُستقبل أبنائه وكرامتهم، فهنيئاً لها على هذا الوفاء لوالدها".

"كلماتٌ أبكتني، كم أنتَ عظيمٌ أيها الأب، كم تشقى وكم تتعب وكم تُقاوم وكم تُناضل، ولا تَكِّل أو تَمِّل، الأب هو الشخص الوحيد بالعالم الذي يتمنى أن يكون أبناؤه أفضل منه في كل شيء".

"رائعٌ، فمِن أعظم النعم -بعد نعمة الإسلام- أن يرزقك الله أبناء صالحين، يُقدِّرون تضحياتك التي تُبذلها لأجل أن يكونوا ناجحين".

 

أحبتي في الله.. تلك كانت كلماتٍ صادقةً للتعبير عن الوفاء و(حفظ الجميل) من ابنةٍ لأبيها؛ تقديراً منها لإيثاره وتضحياته التي كانت سبباً في نجاحها. فهل الوفاء والشكر قاصران فقط على الآباء؟ بالطبع لا؛ فقد تكون الأُم هي التي قامت بما لم يقم به أبٌ قصَّر في أداء واجباته فيما يتعلق بتربية أبنائه. وهل يكون الوفاء والشكر للأب الحقيقي البيولوجي فقط؟ أم يكون للأب الذي اهتم وقام بدوره في التربية والرعاية حتى ولو كان زوجاً للأُم؟ القصة التالية تُجيب عن هذا السؤال؛ فهذا ابنٌ وفيٌ كتب يقول:

وُلدتُ في أُسرةٍ غير مُكتملةٍ؛ ما إن تعلمتُ المشي حتى انفصل والداي. أخذتني أُمي إلى قريةٍ بعيدةٍ في منطقةٍ ريفيةٍ فقيرةٍ. لا أذكر ملامح والدي بوضوحٍ، لكنني أعلم أن سنواتي الأولى كانت تفتقر إلى الكثير مادياً ومعنوياً.

عندما كنتُ في الرابعة، تزوجت أُمي من رجلٍ يعمل في الفاعل، جاء إلى حياتها بلا شيءٍ: لا بيت، ولا مال، ليس معه إلا ظهرٌ نحيلٌ، بشرةٌ مُحترقةٌ من الشمس، ويدان مُتشققتان من الأسمنت. في البداية لم أُحبه: كان يُغادر باكراً ويعود مُتأخراً، ورائحته دوماً خليطٌ من العَرق وغُبار البناء، لكنه كان أول مَن أصلح دراجتي القديمة، وأول مَن رتق وخيَّط لي حذائي المُمزق. حين كُنتُ أُحْدِث فوضى لم يكن يُوبِّخني، وعندما تعرضتُ للتنمر في المدرسة، لم يصرخ في وجهي كما فعلت أُمي؛ بل جاء بهدوءٍ بدراجته القديمة ليُقلّني، وفي طريق العودة لم يقل سوى جملةٍ واحدةٍ: "لن أُجبرك أن تُناديني بأبي، لكن اِعلم أني سأكون دائماً خلفك إذا احتجتَ إليّ”. مهما بلغ إرهاقه، لم ينسَ أن يسألني: "كيف كان يومك في المدرسة؟”. لم يكن مُتعلماً تعليماً عالياً، لكنه كان دائماً يقول لي: “قد لا تكون الأول في الصف، لكن عليك أن تجتهد؛ أينما ذهبتَ، سيحترمك الناس بعِلمك”. أُمي كانت فلاحةً، وزوجها عامل بناءٍ، كنا نعيش بدخلٍ ضئيلٍ. وكُنتُ طالباً مُجتهداً، أذكر حين اجتزتُ امتحان القبول بجامعة «الأزهر»، بكت أُمي؛ بينما سارع زوجها في اليوم التالي إلى بيع دراجته النارية، وبمساعدة مُدخرات جدتي، تمكن من إرسالي إلى الجامعة. يوم أوصلني إلى المدينة الجامعية، وقبل أن يُغادر السكن الجامعي، نظر إليّ وقال: "ابذل جهدك يا ولدي، ادرس جيداً”.

درستُ أربع سنواتٍ في الجامعة، ثم واصلتُ الدراسات العليا، وواصل زوج أُمي العمل حتى صارت يداه أخشن، وظهره أكثر انحناءً. وعندما عُدتُ يوماً لزيارة أُسرتي رأيته جالساً عند باب البيت، يلهث بعد يومٍ شاقٍ من رفع الأحمال؛ فانكسر قلبي وطلبتُ منه أن يرتاح، لكنه قال: “ما زلتُ قادراً، وحين أشعر بالتعب، أُفكر قليلاً في أني أُربي دكتوراً فأشعر بالفخر والراحة”، ابتسمتُ، ولم أجرؤ أن أُخبره أن الدكتوراه تعني سنواتٍ أطول من التضحية، لكنه كان في الواقع هو السبب الذي جعلني لا أستسلم أبداً.

في يوم مُناقشة رسالتي للدكتوراه في كُلية الزراعة جامعة «الأزهر» توسلتُ له طويلًا حتى وافق على الحضور. استعار بدلةً من ابن عمه، واستعار حذاءً أضيق من مقاسه بدرجةٍ، وجلس في الصف الأخير من القاعة، يُحاول الجلوس باستقامةٍ، عيناه مُثبتتان عليّ.

بعد انتهاء المناقشة، جاء الأستاذ الدكتور رئيس لجنة المناقشة ليُصافحني ويُهنئ عائلتي، وعندما وصل إلى زوج أُمي، توقف فجأةً، نظر إليه عن قُربٍ وابتسم: “أنت فلان، أليس كذلك؟ لقد كان منزلي بجوار موقع عمارةٍ تحت الإنشاء في «أشمون»، ما زلتُ أذكرك حين حملتَ زميلك المُصاب لسقوطه من على السقالة، رغم أنك كنتَ مجروحاً أنت أيضاً.. لقد أنقذتَ حياته، ذلك الرجل كان عمي”. ساد الصمت القاعة. في لحظةٍ واحدةٍ تلاشت الألقاب والشهادات والدرجات؛ فلم أكن أنا في صدارة المشهد، وإنما كان زوج أُمي. لم يكن مُجرد عامل بناءٍ، لكن بالنسبة لي -وللكثيرين الذين مرّوا في طريقه- كان بانياً لأكثر من مُجرد بيوتٍ، لقد بنى الأمان، وبنى الكرامة، وبنى المستقبل. شهادة الدكتوراه قد تحمل اسمي، لكن كل حرفٍ فيها منقوشٌ بالعَرق الذي سال من جبينه، وبالشقوق التي حُفرت في كفيه، وبالليالي التي عاد فيها مُرهقاً ومع ذلك كان يسألني: “كيف كان يومك في المدرسة؟”. الآباء لا يُعرفون بصلة الدم، بل بالحُب والتربية والتضحية والإيثار، وأحياناً، يكون الرجل الذي تفوح منه رائحة الأسمنت والغُبار، هو نفسه الذي يحملنا طوال الطريق إلى أحلامنا؛ لقد كان زوج أُمي يعمل في الفاعل لمدة 25 عاماً، وهو الذي ربّاني حتى أنهيتُ الدكتوراه، ولا أجد اليوم كلماتٍ تُعبر عن شكري له، وتقديري لتضحياته، وفخري به. أدعو الله سُبحانه وتعالى أن يُجازيه خير الجزاء، وأن يُكثر من أمثاله.

 

إن الوفاء و(حفظ الجميل) من أعظم وأشرف ما يتصف به الناس؛ لذا فقد مدح الله سُبحانه وتعالى الأوفياء؛ يقول تعالى في صفات المتقين: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. ومن باب (حفظ الجميل) وشُكر الناس أمرنا الله أن نُحسن إلى عباده كما أحسنوا إلينا؛ فالجزاء من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

وها هو رسول الله يُخبرنا أن نشكر من قدَّم لنا معروفاً وأن نُجزل له الثناء؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [لاَ يَشْكُر اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُر النَّاسَ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ].

 

وأَية مشاعر أرق من الشعور بالوفاء، وأيُّ فضلٍ -بعد فضل الله- أحق من الاعتراف بالفضل، وشُكر أصحابه، و(حفظ الجميل) لهم.

ومع أهمية الوفاء للأُم وشُكرها وتقدير كل ما تقوم به لأبنائها، فإن مِن الآباء مَن يستحقون من الأبناء الوفاء والشكر والتقدير.

 

وعن الأب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه]، "أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ" أي: خير أبواب الجنة أو أحسنها، "فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه"، يقول شُرَّاح الحديث: ليس المُراد التخيير بين الأمرين، بل المُراد التوبيخ على ترك هذا الباب، فكأنه يقول إنها الغنيمة العظيمة؛ فاستثمر غنيمتك، أو أضِعها.

كما يقول عليه الصلاة والسلام: [لا يَجزِي ولدٌ والِدَه، إلا أن يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه]، "لا يَجزِي" أي: لا يُكافئ ويُساوي، "ولدٌ والِدَه"؛ بما قدَّم إليه من تربيةٍ ورعايةٍ وإحسانٍ، وكونه سبباً في وجوده، "إلا أنْ يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه"، أي: أن تلك هي الحالة الوحيدة ليُكافأ بها على ما قدَّمه له، وهو أن يجعله حُراً إن كان مملوكاً.

وقال صلى الله عليه وسلم لرجلٍ اشتكى له أنَّ أباه اجتاحَ ماله: [أنتَ ومالُكَ لأبيكَ] على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وليس المُراد بالحديث إباحة مال الابن على إطلاقه للأب أن يأخذ منه ما يشاء.

 

وعن (حفظ الجميل) قال الشاعر:

وَمَنْ يَسْدِ مَعْروفاً إلَيْكَ فُكُنْ لَهُ

شَكوراً يَكُنْ مَعْروفُهُ غَيْرَ ضائِعِ

 

أحبتي.. قيل إن الوفاء عملةٌ نادرةٌ، والقلوب هي المصارف، وقليلةٌ هي المصارف التي تتعامل بهذا النوع من العُملات.

وأقول إن (حفظ الجميل) خُلُقٌ أصيل، لا ينتبه إليه إلا القليل، رغم أنه أمرٌ فضيل، وعملٌ جليل، النفوس إليه تميل.

فلنحرص على أن نكون أوفياء لكل من كانت له أيادٍ بيضاء علينا، سواءً كانوا والدينا، أو مُعلمينا أو شيوخنا، أو غيرهم ممن تفضلوا علينا بمعروفٍ، وأسدوا لنا خيراً دون انتظار أي مُقابل. ولنقدِّم لهؤلاء الشُكر والتقدير والثناء؛ عرفاناً منا بجميلهم.

اللهم اغفر لمن أحسن إلينا، واجزه خير الجزاء، واهدنا لنكون من الأوفياء الشاكرين.

https://bit.ly/4nw7ysg

الجمعة، 17 أكتوبر 2025

صِدق التوكل على الله

 

خاطرة الجمعة /521

الجمعة 17 أكتوبر 2025م

(صِدق التوكل على الله)

 

في أحد أيام شهر رمضان المُبارك، خرج رجلٌ يمنيٌ مُقيمٌ في «المملكة العربية السعودية» ويعمل سائقاً، خرج برفقة كفيله الذي يرغب في توزيع زكاة ماله على المُحتاجين في القُرى الفقيرة الواقعة على خط الساحل.

يقول السائق: كانت الزكاة مُوزعةً في أظرُفٍ، كل ظرفٍ يحتوي على خمسة آلاف ريال، وبينما كُنا نُغادر إحدى القُرى مُتجهين نحو طريق «جدة – جيزان»، لمحنا رجلاً مُسِّناً يمشي وحيداً على الطريق العام، كان يبدو في السبعين من عُمره، لكنه قوي البنية، ثابت الخُطى، استغرب كفيلي وقال: “ما الذي يفعله هذا الرجل في هذا المكان، وفي هذا الوقت، وسط الصحراء؟”، فقلتُ له: “لا شك أنه يمنيٌ دخل تهريباً”، توقفنا عنده وسلّمنا عليه وسألناه: “مِن أين أنتَ؟”، فأجاب: “مِن «اليمن»”، قُلنا: “إلى أين تتجه؟”، قال: “إلى بيت الله، مُشتاقٌ له”، سألناه: “هل دخلتَ البلاد بطريقةٍ نظاميةٍ؟”، قال: “لا واللهِ، دخلت تهريباً”، سألناه عن السبب؛ فقال: “كان عليّ أن أدفع ألفي ريال تأمين، وليس لدي سوى مئتي ريال، دفعتُ مائةً للركوب، وبقيت لي مائةٌ فقط”، سأله كفيلي: “كم مضى عليك وأنت تمشي؟”، فأجاب: “ستة أيامٍ”، ثم سأله: “هل تُفطر؟”، فقال: “لا، أنا صائمٌ”، سألناه كيف تجاوز خلال هذه الأيام نقاط التفتيش الأمنية دون أن يُستوقَف؛ فقال: “واللهِ الذي لا إله إلا هو، كُنتُ أمرّ أمامهم ولا يُكلمني أحد”، سألناه: “هل جئتَ للعمل؟”، فقال: “لا واللهِ، جئتُ مُشتاقاً لبيت الله، أُريد أن أؤدي عُمرةً”. ثم أخبرنا أنه قبل خمسين كيلو متر أوقفته دوريةٌ ونقلته بالسيارة إلى مركز شُرطة على بُعد كيلو مترٍ واحدٍ من مكاننا، حققوا معه، فحلف لهم أنه يقصد بيت الله، فأطلقوا سراحه. سُبحان الله الذي سخَّر له رجال الأمن لينقلوه إلى هذا المكان الذي نحن فيه، حتى يُيسر له أمره!

دعاه كفيلي لأن يركب معنا سيارتنا، كي يرتاح قليلاً؛ فركب معنا، وبعد أن استراح، أخرج كفيلي ظرفين من أظرُف الزكاة وأعطاهما للرجل، وقال له: “خُذ هذه من زكاة المال”، شكرنا الرجل، دون أن يعلم كم المبلغ داخل الظرفين، فسألناه: “هل تعرف العملة السعودية؟”، قال: “نعم”، فقُلنا له: “افتح الظرفين وخبّئ المال في حزامك حتى لا يضيع”. فتح الرجل الظرفين، وعندما رأى عشرة آلاف ريالٍ، نظر إلينا مذهولاً وقال: “هل هذا كله لي؟”، قُلنا: “نعم، لك”، ففوجئنا به يسقط مغشياً عليه داخل السيارة، أحضرنا زجاجة ماءٍ وبدأنا نرش عليه الماء حتى أفاق وظل يصيح: “هل هذا المال كله لي؟ هل هذا المال كله لي؟” ثم انفجر في بُكاءٍ شديدٍ، بُكاءٍ يهزّ الحجر، سألناه: “يا عم، لماذا هذا البُكاء الشديد؟”، قال الرجل: “لديّ بيتٌ في «اليمن»، وبجانبه قطعة أرضٍ وهبتها لله، وبنيتُ عليها أنا وأولادي مسجداً من الحجر والطين، اكتمل بناء المسجد، لكن بقي الفرش وبعض الأمور البسيطة، وكنتُ أُفكر كيف أفرشه؟”. بكينا تأثراً، وقام كفيلي بإعطائه ظرفين إضافيين، ليُصبح المبلغ عشرين ألف ريال. وقبل أن ينزل الرجل من السيارة، كان يُتمتم بالدُعاء وهو يبكي.

 

وهذا أحد الأفاضل يروي عن (صِدق التوكل على الله) قصةً أُخرى فيقول: في إحدى الليالي شعرتُ بشيءٍ من القلق والضّيقِ، فخرجتُ أتمشَّى في الهواء الطلق، وبينما أنا أمشي في الحيّ مَررتُ بمسجدٍ فقلتُ: لِمَ لا أدخل وأُصلِّي فيه ركعتين لعلِّي أجد الراحة والاطمئنان؟ دخلتُ، فإذا بالمسجدِ رجلٌ قد استقبل القِبلة، ورفع يديه يدعو ربَّه ويُلِّحُّ عليه في الدُعاء، فعرَفتُ مِن طريقته وصوته أنَّه إنسانٌ مكروبٌ مهمومٌ جداً، بقيتُ أنتظر حتى فرغ الرجل من دعائه، فاقتربتُ منه وقُلتُ له: "يا أخي، رأيتُك تدعو وتُلحّ في الدُّعاء كأنَّكَ مهمومٌ ومكروبٌ، فما خبرك؟"، قال: "واللهِ يا أخي، عليَّ دَيْنٌ أرَّقني وأقلَقني"، فقلتُ له: "كَم يبلغ دَيْنُك؟"، قال: "أربعة آلاف درهمٍ"، فأخرجتُ من جيبي أربعة آلاف درهمٍ وأعطيتُها إيَّاه، فكاد الرجلُ يطيرُ من شِدَّة الفرَح، وشكرني كثيراً، ودعا لي كثيراً، أخذتُ بِطاقةً فيها اسمي ورقم هاتفي وعنوانُ مكتبي، وقُلتُ له: "يا أخي، خُذ هذه البِطاقة، وإذا كان لك أيّة حاجةٍ مهما كانت فلا تتردَّد في زِيارتي أو الاتصالِ بي متى شئت"، ظننتُ أنَّه سيفرحُ بهذا العرض، لكنني فوجئتُ بجوابه إذ قال: "لا يا أخي، جَزاكَ اللهُ خيراً، لا أحتاج إلى هذه البِطاقة، فكلما احتجتُ حاجةً سأُصلي للهِ وأرفعُ يديَّ إليه وأطلبُ منه حَاجتي، وسَيُسِّخرُ الله قضاءها كما يسّرها هذه المرَّة"!

 

أحبتي في الله.. التوكل على الله عبادة الصادقين، وسبيل المُخلصين، أمر الله تعالى به أنبياءه المُرسلين؛ يقول رب العالمين: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِير﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وأمر به عباده المؤمنين؛ يقول تعالى في سبعة مواضع من القرآن الكريم: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

 

هاتان القصتان تُجسدان قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾؛ ففي القصة الأولى لم يكن هَم الرجل مالاً ولا وظيفةً، بل كانت غايته عُمرةً في بيت الله، فأتاه المال مُضاعفاً من حيث لا يحتسب، كما أن بكاءه حين رأى المال، لم يكن بكاء طمعٍ، بل بكاء شُكرٍ، لأنه يستطيع الآن أن يستكمل فرش المسجد الذي بناه لله. وفي موقف رجال دورية الأمن الذين أوصلوه لمركز الشُرطة القريب من هذين الرجلين الذين يسعيان إلى توزيع مال الزكاة، وتصديق المُحققين بمركز الشُرطة له وإطلاقهم سراحه، ووجود رجل الخير الذي أعطاه من أموال الزكاة، في كل ذلك تتجلى رحمة الله التي يسوقها على أيدي عباده، لمن صدق في نيته، وأخلص في وجهته؛ فالرجل اليمني لم يكن يملك إلا مئتي ريالٍ، لكنه حمل في قلبه شوقاً صادقاً إلى بيت الله، وصَبَرَ على المشقة، وصام في السفر، وتوكل على الله حق التوكل؛ ففتح الله له أبواباً من الرحمة ومن الرزق لم تخطر له على بال. فمِن (صِدق التوكل على الله)، أن يسعى الإنسان بقلبه قبل قدمه، وأن يثق في أن الله لن يُضيِّعه ولو مشى على قدميه ستة أيامٍ في الصحراء.

إنها قصةٌ تُكتب بماء العين، وتُروى لتُحيي القُلوب، وتُعلِّمنا أن من جعل الله غايته، جعل الله له كل شيءٍ وسيلةً. لقد صدق فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومَن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ].

وفي القصة الثانية تجسيدٌ حيٌ للحديث الشريف: [لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزق الطيرَ: تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا]؛ فهذا الرجل صاحب الدَيْن علِم أن حل مُشكلته يكمن في إخلاص الدُعاء لله سُبحانه، واثقاً بغير شكٍ في أن الله عزَّ وجلَّ سوف يستجيب لدعائه؛ فهو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فسمى الدُعاء عبادةً، ووعد من دعا بالاستجابة، وتوَّعد من استكبر عن الدُعاء بدخول النار. وأتى تدبير الله سُبحانه مُحقِقاً لوعده؛ إذ سخَّر له مَن شعر بالقلق والضيق؛ فخرج من منزله ليتمشى في الهواء الطلق؛ فشاهد مسجداً؛ فقرَّر دخوله ليشعر بالراحة والاطمئنان؛ فوجد ذلك الرجل صاحب الدَيْن؛ فسأله عن حاجته، فيسَّر الله تعالى له أن يكون في جيبه هذا المال، فأعطاه للرجل الغريب ليسد دَيْنه! وهذا كله من تدبير الله سُبحانه وتعالى لرجلٍ توكَّل عليه وصَدَقَ في توكله.

 

ولا يتنافى (صِدق التوكل على الله) مع ضرورة الأخذ بالأسباب؛ يقول العُلماء إن الأخذ بالأسباب هو هَدي سيد المُتوكلين على الله –صلوات الله وسلامه عليه- في يوم الهجرة وفي غيره؛ إذ أن عدم الأخذ بالأسباب قدحٌ في التشريع، والاعتقاد في الأسباب قدحٌ في التوحيد؛ قال رجُلٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟ قال: [اعقِلْها وتوكَّلْ]؛ لذا فإن عدم السعي ليس من التوكل في شيءٍ، وإنما هو اتكالٌ أو تواكلٌ حذَّرنا منه شرعنا الحنيف.

 

وعن (صِدق التوكل على الله) قال الشاعر:

توكلتُ في رزقي على اللهِ خالقي

وأيقنتُ أن اللهَ لا شكَ رازقي

وما يكُ مِن رزقي فليسَ يفوتني

ولو كانَ في قاعِ البحارِ العوامقِ

سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بفضلهِ

وَلَو لَمْ يَكُن مِني اللِسـانُ بِناطِقِ

ففي أي شيءٍ تَذهَبُ النَفْسُ حَسْرةً

وَقَد قَسَمَ الرَحْمَنُ رِزْقَ الخَلائقِ

وقال آخر:

وكيفَ أخافُ الفقرَ واللهُ رازقي

ورازقُ هذا الخَلقَ في العُسْر ِوَاليُسْرِ

تَكَفَّلَ بِالأَرْزاقِ لِلْخَلقِْ كُلِهم

وَلِلْضَبِ في البَيْداءِ وَالحُوتِ في البَحْرِ

وقال ثالثٌ:

إذا عَزَمتَ لِفِعلِ أمْرٍ

فاجْعَل التَوكلَ مَرْكَبةَ العُبورْ

وإذا عَصاكَ الدَهْرُ يَوْماً

فاسألَ المَولى لتَسْهيلِ الأمورْ

لا تَجْزَعْ لِضيقِ الرِزقِ أبَداً

يَرْزُقُ العُصْفورَ مِنْ بَيْن النسورْ

وَاعْلَم بأنَّ اللهَ يَعْلَمُ

نَظْرَةَ العَينِْ وما تُخْفي الصُدورْ

كُنْ شاكِراً ما دُمْتَ حَياً

وَاعْلَم بأنَّ الدُنيا أيامٌ تَدورْ

 

أحبتي.. يقول أهل العِلم إن (صِدق التوكل على الله) وتفويض الأمر إليه سُبحانه، وتعلق القلوب به جلَّ وعلا، من أعظم الأسباب التي يتحقق بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، وتُقضى بها الحاجات، وكلما تمكنت معاني التوكل من القلوب تحقق المقصود أتم تحقيق.

اللهم ألهمنا رُشدَنا، وسَدِّد خُطانا، وارزقنا حُسن التوكل عليك، واجعلنا من المتوكلين عليك في جميع أمورنا، وفي كل أوقاتنا.

https://bit.ly/498VSYF

الجمعة، 10 أكتوبر 2025

لا تتسرع

 

خاطرة الجمعة /520

الجمعة 10 أكتوبر 2025م

(لا تتسرع)

 

هذه قصةٌ رواها مُدير مدرسةٍ كتب يقول: كنتُ -وأنا مُعلمٌ- دائماً ما أراقب الطلاب في الفترة المسائية أثناء انصرافهم من الطابور باتجاه فصولهم، حتى يتم إخلاء الساحة المدرسية من كافة الطلاب؛ ثم أنتظر قليلاً لأتفاجأ يومياً بطالبين أو ثلاثة مُتأخرين عن موعد الحضور؛ فأضطر إلى مُعاقبتهم ثم أسمح لهم بالالتحاق ببقية زملائهم في فصولهم. بعد مرور فترةٍ من بداية العام الدراسي لفت انتباهي أن طالباً مُعيناً يكون يومياً من بين هؤلاء الطلاب المتأخرين، خلافاً عن بقية الطلاب الذين لا يتأخر أحدهم بالعادة إلا لظرفٍ طارئ، فكنتُ حين أعاقب هذا الطالب بالعصاة التي أحملها أرى على وجهه علامات الأسى والحُزن، لكنه كان دائماً يتقبل العقوبة بمنتهى البساطة وينصرف إلى فصله، استمر على هذا النهج يومياً!

بدأتُ أُقلب الأمر في رأسي؛ أي طالبٍ عنيدٍ هذا؟! وأية عقليةٍ يحملها؟! كيف يكون حزيناً وهو يتلقى العقوبة ولا يسعى ليُغيِّر من حاله ويحضر إلى المدرسة في الموعد المحدد؟!

ومع هذا قررتُ أن أستمر في منهجي نحوه: تأخير = عُقوبة، حتى يُعدِّل من سلوكه. استمرت الأيام على هذا الحال؛ دون أي تغيير، إلى أن قررتُ أن آخذ زمام المبادرة لحل المشكلة؛ فاستوقفته ذات يومٍ قبل أن أُعاقبه؛ وسحبته من يده الى مكتبي وسألته: "يا بُني لماذا تتأخر كل يوم؟ لماذا لا تحضر مثل بقية الطلاب قبل الطابور المدرسي؟! إذا كانت العقوبة تؤثر في نفسك هكذا فلماذا لا تُغيِّر من سلوكك؟"، سكت الطالب بُرهةً من الزمن وأطرق بنظراته إلى الأرض ثم أجاب على استحياءٍ: "يا أُستاذ أنا لا أتأخر عن المدرسة بإرادتي، يا أُستاذ ظُروفنا المالية في المنزل سيئةٌ وقاسيةٌ؛ فوالدي عاطلٌ عن العمل، وأنا وأخي لا نملك إلا قميصاً مدرسياً واحداً، هو يرتديه أثناء ذهابه إلى المدرسة في الفترة الصباحية؛ وأنا أنتظر عودته على باب المنزل بفارغ الصبر لأخذه منه وأرتديه وأحضر إلى المدرسة في الفترة المسائية، وهذا هو سبب تأخري كل يوم! ومع هذا فإنك تُعاقبني وأنا لا أستطيع الاعتراض وأتقبل الأمر لأني لا أرغب في ترك المدرسة بسبب ضيق حالنا!".

يقول الأستاذ -والحديث على لسانه-: واللهِ إن الدنيا أظلمت أمامي لم أعد أرى أو أسمع شيئاً، أحسستُ أن الزمن توقف عند تلك اللحظة؛ فقدتُ القدرة على الكلام، ولم أعد أُفكر إلا في شريط الذكريات؛ وأنا أُعاقبه بالعصاة على يديه على مدى كل تلك الأيام، وهو يتألم من الضرب، ومع هذا لا يتحدث ولا يعترض!! نزلت كلمات الطالب على مسامعي كأنها ضربٌ بسياط القهر والأسى، ولم أستطع أن أتمالك نفسي واندفعت الدموع من عينيّ بصمت؛ فسألته وصوتي يتحشرج في حُنجرتي وكلماتي لا تطاوعني للخروج من فمي: "لماذا لم تُخبرني بذلك يا بني؟"، أجاب وهو يطرق بناظريه إلى الأرض أمامه: "إنك لم تسألني ما السبب؛ كنتَ تُعاقبني فقط"، عندئذٍ فقط أدركتُ فداحة ما اقترفته! أخذتُ الطالب من يده إلى فصله في ذلك اليوم دون أن أُعاقبه، وطلبتُ منه عند انتهاء اليوم المدرسي أن يحضر إلى مكتبي، وانصرفت. في نهاية اليوم الدراسي حضر الطالب إليّ كما طلبتُ منه، خرجنا من المدرسة سوياً، وأخذته معي في جولةٍ إلى السوق، واشتريتُ له قميصاً مدرسياً جديداً على حسابي الخاص، فكم كانت فرحته بهذا القميص؛ كان وكأنه قد نجح في امتحان آخر العام الدراسي، وتوجه إلى منزله مسروراً. ومن ذلك اليوم الحاسم لم أُشاهده إلا في مُقدمة الطابور المدرسي.

يواصل الأستاذ حديثه: كانت هذه الحادثة مفصلاً هاماً في مسار نهجي التعليمي والتربوي؛ فقد أدركتُ معها أن المُعلم والمُربي المثالي عليه أن يكون أولاً أباً لطلابه قبل أن يكون مُدرساً ومُعلماً، عليه أن يشعر بهم، ويُناقشهم، ويتفهم الآمهم وأوجاعهم، قبل أن يُصدر عليهم أحكامه، وألا يتسرع في تنفيذ العقوبة التي قد تكون جائرةً وهو لا يعلم!!

 

أحبتي في الله.. لو ان هذا المُعلم تريث قليلاً وقال لنفسه (لا تتسرع) لأوقف عقاب الطالب في وقتٍ مبكرٍ، ووفرَّ على نفسه الإحساس بالندم.

 

وعن أهمية عدم التسرع يُحكى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً في القطار مع ابنٍ له يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً، والذي بدت على وجهه الكثير من البهجة والفضول؛ إذ كان يجلس بجانب النافذة؛ فأخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ: "أبي أُنظر جميع الأشجار إنها تسير وراءنا!" فتبسَّم الرجل العجوز مُتماشياً مع فرحة ابنه. وكان يجلس بجانبهما زوجان يستمعان إلى ما يدور من حديثٍ بين الأب وابنه، وشعرا بقليلٍ من الإحراج؛ فكيف يتصرف شابٌ في عُمْر الخامسة والعشرين عاماً كالطفل؟! فجأةً صرخ الشاب مرةً ثانيةً: "أبي، أُنظر إلى البِركة وما فيها من حيواناتٍ، أُنظر يا أبي.. الغيوم تسير مع القطار!"، واستمر تعجب الزوجين من حديث الشاب مرةً أُخرى. ثم بدأ هطول الأمطار، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب، الذي امتلأ وجهه بالسعادة وصرخ مرةً أُخرى: "أبي إنها تُمطر، والماء لمس يديّ، أُنظر يا أبي!". في هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت وسألوا الرجل العجوز: "لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟"، هنا قال الرجل العجوز: "إننا قادمون من المُستشفى حيث أن ابني قد أصبح بصيراً لأول مرةٍ في حياته".

ولو أن أحد الزوجين -أو كلاهما- قال لنفسه (لا تتسرع) لجنَّب نفسه الإحساس بالحرج.

 

عن التسرع والاستعجال يقول تعالى في وصفه للإنسان: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾. وورد النهي عن الاستعجال الذي يؤدي إلى التهور والاندفاع بغير تبصرٍ ولا حكمةٍ في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾، وفي قوله سُبحانه: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾.

وورد ذم الاستعجال والتسرع في مثل قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ﴾.

وفي المُقابل وردت آياتٌ تحث على السُرعة ولكن في طلب المغفرة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، يقول المُفسرون: المُسارعة إلى الشيء المُبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخٍ، وهو أمرٌ مُجازٌ في الحرص والمُنافسة إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة. وورد نفس المعنى ولكن بلفظ "سابقوا" كما في قوله سُبحانه: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

 

وفي السُنة المشرفة بيانٌ لمدى الخُسران الذي يتحقق نتيجة التسرع والعجلة؛ قال رسول اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي]، وبيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ: [التَّأنِّي مِن الله، والعَجَلة مِن الشَّيطان]. وقال عليه الصلاة والسلام مادحاً أحد الصحابة رضي الله عنهم، وحاثاً على عدم التسرع: [إنَّ فيك خصلَتينِ يحِبُّهما اللَّهُ: الحِلمَ والأناةَ].

 

وقالت العرب: "العَجَلةُ مُوكَّلٌ بها النَّدَمُ، وما عَجِلَ أحَدٌ إلَّا اكتَسَب ندامةً واستفاد مذَمَّةً". وقالوا كذلك: "لا حِكمةَ لجاهِلٍ، ولا طائِشٍ، ولا عَجولٍ".

 

أما أهل الاختصاص فيقولون إن للتسرع عواقب وخيمةٌ منها: خُسارة الأهداف لعدم الصبر والسعي إلى تحقيق نتائج سريعة. البُعد عن القيم بترك الغرائز تتحكم في السلوك والأفعال. الندم -وقت لا ينفع فيه ندمٌ- على المواقف التي لم يُحسَن التصرف فيها. الخُسارة والكآبة جراء التهور والسلوك غير المدروس وعدم التقدير السليم للمواقف.

 

وقال الشاعر:

لا تَعْجَلَن لأمرٍ أنتَ طالبُهُ

فَقَّلَما يُدرِكُ المَطْلوبَ ذو العَجَلِ

فَذو التأني مُصيبٌ في مَقاصِدِهِ

وَذو التَعَجُلِ لا يَخْلو عَنْ الزَلَلِ

وقال آخر:

الْرِفْقُ يُمْنٌ وَالأناةُ سَعادَةٌ

فَتَأنَّ في رِفْقٍ تَلاقِ نَجاحا

 

أحبتي.. يقولون إن الحياة ملأى بالقصص والأحداث التي إن تأملنا فيها أفادتنا حكمةً واعتباراً، والعاقل لا ينخدع بالقُشور عن اللُباب، ولا بالمظهر عن المخبر، ولا بالشكل عن المضمون.

يجب ألا نتسرع في إصدار الأحكام، وأن نسبر غوْر ما نرى. إن الكثير منا يتسرع فيما يعتقد أنه صوابٌ، والحقيقة قد تكون أبعد شيءٍ عما نُفكر فيه؛ فعلينا ألا نتسرع في الحُكم على الآخرين؛ فهناك دائماً شيءٌ ما نجهله، فلنُحسِن الظن بالآخرين، ونلتمس الأعذار لهم؛ ورد في الأثر: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عُذراً، فإن لم تجد له عُذراً فقل: لعل له عذراً لا أعرفه". لابد أن تكون لدينا تلك الروح وتلك الحكمة وذلك التريث في الحُكم على أشياء يفعلها المحيطون بنا من أزواجٍ أو أبناءٍ أو أصدقاءٍ أو زملاء أو جيرانٍ؛ فرُبما لديهم من الأسباب والأعذار ما يُغنينا عن سوء الظن، ويوفر علينا مغبة وعواقب التسرع. فلنعوِّد أنفسنا أن نقول دائماً لأنفسنا (لا تتسرع) قبل أن نحكم على الأمور بظواهرها، وأن نتأنى ونجتهد في معرفة الحقائق قبل أن نكتشف خطأ ظنوننا.

اللهم ألهمنا الصواب والسداد، وزودنا بالحكمة التي تجعلنا لا نتسرع في الحُكم على الآخرين، وندخر تسرعنا لما ينفعنا من العبادات والنوافل وأعمال الخير والبِر، حتى تصل سُرعتنا إلى درجة الفرار؛ استجابةً للأمر الإلهي: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، ويكون لسان حالنا يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ﴾.

إنك سُبحانك وتعالى القادر على ضبط إيقاع سُرعتنا لتكون فيما ينفعنا، ولا يضرنا أو يضر غيرنا.

https://bit.ly/4n4z3Zz

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

استشعار النِعم

 

خاطرة الجمعة /519

الجمعة 3 أكتوبر 2025م

(استشعار النِعم)

 

كتب يقول: إحدى الكاتبات كانت تعرضتْ لحُروقٍ صعبةٍ جداً؛ وأجرت قُرابة عشرين عمليةً، ومع ذلك فإن أثر الحُروق -رغم مُرور سنواتٍ عديدةٍ- ما زال باقياً وظاهراً بوضوحٍ. ذكرتْ في أحد منشوراتها أنها مُنعتْ من ملامسة الماء لجِلدها لمدة عامٍ كاملٍ، فلما كانت أول مرةٍ سُمِح لها بذلك، وكانت قد اشتاقت كثيراً لأن يمس الماء بشرة وجهها، كانت لحظتها تلك، مع سيلان الماء على وجهها، هي أسعد ما حصل لها في حياتها؛ لدرجة أنها تمنت أن يقف الزمن وقتها، وكتبت بعدها تقول: "أين نحن من (استشعار النِعم)؟ إن هناك نِعماً عظيمةً جداً يرتع فيها الإنسان وهو لا يُحس؛ من ذلك نِعمة القُدرة على غسل الوجه بالماء دون خوفٍ من أن يسقط جِلد الوجه"!

كتب ناشر هذه القصة عن نفسه يقول: عشتُ الأسبوع الماضي كله، خاصةً آخر ثلاثة أيامٍ منه، مع ذلك المعنى، معنى (استشعار النِعم)؛ حين أحسستُ بألمٍ شديدٍ جداً في حلقي، لم أشعر بمثله مُنذ ولدتني أُمي، وذلك بمُجرد أن أبلع ريقي، لدرجة أنني بدأتُ أُدرِّبُ نفسي على أطول فترةٍ زمنيةٍ لا أبلع فيها ريقي؛ أول مرةٍ كانت دقيقةً واحدةً، ثاني مرةٍ كانت دقيقتين وعشر ثوانٍ، أما الرقم القياسي فكان خمس دقائق وخمس ثوانٍ! لكن ذلك كله لم يُفلح في شيءٍ؛ لأني توقفتُ بعد الرقم القياسي مُباشرةً؛ حيث جفَّ حلقي تماماً فاحتجتُ لبلع ريقي مراتٍ مُتتاليةٍ سريعةٍ فكان ذلك عذاباً ما بعده عذاب.

كنتُ على سفرٍ، وحللتُ في مكانٍ يبعد عن بيتي قُرابة الألف كيلومتر، ولا أعرف أحداً نهائياً في ذلك المكان؛ فبحثتُ عن صيدليةٍ وشرحتُ للصيدلي ما أُعاني منه، فنصحني بتناول بعض الأدوية، اشتريتها منه وبدأتُ في تناولها بالطريقة وفي التوقيتات التي أخبرني بها، ولكن كل ذلك كان بلا فائدةٍ، أو على الأقل لم ألحظ أنا أي تغييرٍ يُذكر! رجعتُ للصيدلي فقال لي: "يجب أن تُراجع طبيباً، أما أنا فلا أملك لك شيئاً، لقد أعطيتك العلاج الصحيح بجانب أحد أقوى المُسكنات"، قلتُ له: "أعطني مُسكناً أقوى منه"، قال لي: "مُستحيل"، لم أعرف لماذا مُستحيل، لكني مشيتُ بعدما أخذتُ نوع استحلابٍ آخر غير الذي أعطانيه في المرة الأولى، وقررتُ الصبر يوماً آخر فإن لم أشعر بتحسنٍ أُحاول العثور على طبيبٍ بأي شكلٍ كان. زاد الألم لدرجة أنه منعني من النوم، وأيقظني قُبيل الفجر بساعةٍ؛ فدعوتُ الله سُبحانه وتعالى، وأنا على السرير، قلتُ: "يا رب لم أعد أستطيع التحمل". كانت كل بلعة ريقٍ عبارةً عن عذابٍ فعلاً، كأنني أُمَرِّر حجراً من ثُقب إبرةٍ، الحجر هو ريقي، وثُقب الإبرة هو حلقي! بعد سفرٍ طويلٍ يزيد عن عشر ساعاتٍ بدون توقف عدتُ إلى بيتي مساءً، ذهبتُ إلى أقرب صيدليةٍ لصعوبة وجود طبيبٍ وقتها، وهي صيدلية قريبٍ لي، هو أكفأ صيدليٍ في المنطقة؛ فلمّا لم أجده في الصيدلية اتصلتُ به ـ وهو أمرٌ أكرهه لعلمي بانشغاله ـ ثم قلتُ له: "أنا مُتعلقٌ بالله، ثم بك"، قال: "خير.. ما الذي جرى؟"، حكيتُ له ما حدث؛ فقال لي: "مُر عليَّ في الصيدلية بعد نصف ساعةٍ تجدني في انتظارك هناك"، وقد كان، رأى الأدوية التي كانت معي، فقال: "الأدوية صحيحةٌ وفعّالةٌ لعلاج حالتك، لكنها تحتاج وقتاً". نفس الشيء قاله لي بعدها بنصف ساعةٍ صديقٌ آخر، وهو طبيب أنفٍ وأُذنٍ وحنجرةٍ، أرسلتُ له صور تلك الأدوية؛ فقال لي: "سأُكتب لك شيئاً مفعوله سريعٌ يُخفف ما تجد"، وكتب لي حُقنةً وحذّرني مُسبقاً قائلاً: "هذه الحقنة تحتاج إلى رجلٍ شديدٍ، لكنك ستستيقظ فلا تجد ألماً يُذكر إن شاء الله". أخذتُ الحُقنة، ولأول مرةٍ مُنذ أسبوعٍ أنام بشكلٍ طبيعيٍ البارحة، وكان أول شيءٍ فعلتُه بعدما فتحتُ عينيّ وأنا على السرير أن أُجرِّب بلع ريقي؛ فتم الأمر بشكلٍ طبيعيٍ وأنا في ذهولٍ؛ فقد كانت هذه المرة الأولى التي بلعتُ فيها ريقي بلا ألمٍ بعد آلاف المرات المصحوبة بالألم!

 

أحبتي في الله.. علَّق الكاتب بقوله: إنك ترتع في نِعَم الله سُبحانه وتعالى، منها ما تعرف، ومنها ما لا تعرف أصلاً أنها نِعمةٌ، لكنك ستعرف إنها كذلك حين تُسلب منك، من ذلك أن تغسل وجهك بالماء فلا يسقط جِلد وجهك في يدك! وأن تبلع ريقك دون أن تُحس بأنك تبتلع روحك مع الريق من شدة الألم!

 

ومن العجيب، أن وصلتني وأنا أُعد لهذه الخاطرة عن (استشعار النِعم) رسالةٌ من صديقٍ عزيزٍ، كأنه يعلم ما أنا بصدد الحديث عنه! فكان ممّا كتب تحت عنوان: "هل استشعرتَ ذلك؟": الكثير منا تسكنه الصحة والعافية، وغيرنا يسكن المُستشفيات، فالحمد لله على الصحة وتمام العافية، والحمد لله أنّ لديك عائلةً حولك، وأنك تسكن بيتاً، ولديك نوافذ تفتحها لتستنشق الهواء العليل، الحمد لله أنك تعيش حياتك بشكلٍ طبيعيٍ وبيسرٍ وسهولةٍ؛ تنام وتصحو، وتقضي حاجتك دون مُساعدةٍ، وتمشي برجليك، وتستعمل يديك، وتستطعم الأكل، وتشرب الماء، وتسمع، وترى، وتُمارس أنشطتك المُعتادة يومياً، دون أن تشعر بهذه النِعم التي حباك الله بها، وربما لم يُعطِها لغيرك؛ فهل استشعرتَ ذلك؟ أم لأنك اعتدتَ على هذه النِعم، أصبحتْ منسيةً في تفكيرك؟ نحن دائماً نتقلب في نِعم الله، فتارةً يُسرٌ وتارةً عسرٌ، وكلاهما نِعمةٌ؛ ففي اليُسر يكون الشُكر؛ يقول تعالى: ‏﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، وفي العُسر يكون الصبر؛ يقول تعالى: ‏﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ فيا أيها الشاكي من حياتك وظروفك أنت تعيش في نِعمٍ من الله عزَّ وجلَّ لو استشعرتها لأصبحتَ ترى أنك لابد من أن تسجد لله شاكراً؛ فاللهم لك الحمد في السراء والضراء، وعلى كل حالٍ، حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه.

 

إن (استشعار النِعم) يستوجب شكر المُنعم الوهاب الكريم الرحمن الرحيم ذي الفضل العظيم، الله جلَّ جلاله؛ لما له من عظيم النِعم على عباده، يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾، كما يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ويقول كذلك: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

 

يقول أهل العِلم إن على المُسلم أن يُداوم على الطلب من ربِّه تعالى أن يُعينه على شُكره؛ فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يوصي أحد الصحابة فيقول له: [لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"]. والشُكر على النِّعَم سببٌ في زيادتها، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. ويكون الشُكر بتحقيق أركانه الثلاثة؛ وهي: شُكر القلب، وشُكر اللسان، وشُكر الجوارح.

بالقلب: خُضوعاً واستكانةً، واستشعاراً بقيمة النِعم التي أنعمها الله على عباده، وبأن المُنعم بهذه النِعم الجليلة هو الله وحده لا شريك له؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾.

وباللسان: ثناءً واعترافاً، لفظاً ونُطقاً، سِراً وجهراً، بأن المُنعِم هو الله تعالى وحده دون غيره؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا].

وبالجوارح: طاعةً وانقياداً، بأن يُسخِّر العبد جوارحه في طاعة الله، ويُجنِّبها ارتكاب ما نهى الله عنه من المعاصي والآثام؛ يقول تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً﴾، وقال صلى الله عليه وسلم حين تفطرت قدماه من قيام الليل: [يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا].

 

ونحن مأمورون بالشُكر؛ يقول سُبحانه: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وفائدة الشُكر تعود علينا نحن والله غنيٌ عنها؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.

ولِنَعْلَم أن شُكر النِعم هو في حد ذاته نعمةٌ تحتاج إلى شُكرٍ، وهكذا يبقى العبد مُتقلباً في نِعم ربِّه، شاكراً له على تلك النِعم، حامداً إياه أن وفَّقه ليكون من الشاكرين الحمّادين الذين يقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ].

 

قال الشاعر:

الشُكرُ للهِ شُكراً ليسَ يَنْصَرِمُ

شُكراً يُوافقُ ما يَجْري بِهِ القَلَمُ

يَأتي البَلاءُ لِتَمْحيصٍ وَتَذْكِرَةً

كأنَّ كُلُ بَلاءٍ نازِلٍ نِعَمُ

لا أَشْكو البَلاءَ وَلا أَراهُ

إلا احْتِفاءً سَاقَهُ كَرَمُ

مَصائبُ الدِينِ أَنْكىٰ ما نُصابُ بِهِ

وما عَداهُنَّ فِيهِ الأَجْرُ يُغْتَنَمُ

وقال آخر:

الحمدُ للهِ مَوْصُولاً كَما وَجَبا

فَهُو الذي بِرِداءِ العِزّةِ احْتَجَبا

وَالشُّكرُ للهِ في بِدْءٍ وَمُخْتَتَمِ

فاللهُ أكرَمُ مَنْ أعْطىٰ وَمَنْ وَهَبا

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾؛ فلن نستطيع مهما حاولنا أن نعِّد أو نحصر أو نُحصي نِعم الله علينا، لكن ما نستطيعه وما هو في وِسع كلٍ منا أن نكون من المُداومين على شُكر الله على نِعمه وآلائه؛ عظيمها وبسيطها، كثيرها وقليلها، ظاهرها وباطنها، ما نعلمه منها وما لا نعلمه، وأن نكون من الشاكرين لله بقلوبنا على ما أنعم به علينا، عِلماً ويقيناً بأنه هو وحده واهب هذه النِعم. ومن الشاكرين لله بألسنتنا؛ بعد الاستيقاظ من النوم أنْ وهب لنا الحياة، وبعد الطعام والشراب أن رزقنا إياهما وتفضَّل بهما علينا، وفي كل نِعمةٍ نراها في أنفسنا، نُديم ذِكره وحمده والثناء عليه. ومن الشاكرين لله بجوارحنا؛ بأن لا نستخدم أعيننا ولا آذاننا في مُشاهدة أو الاستماع إلى إثمٍ أو خطيئةٍ، ولا نمشي بأرجلنا إلى أماكن مُحرَّمةٍ، ولا نستعمل أيدينا في مُنكرٍ، أو عملٍ يُغضب الله، وإنما نُسخِّر جميع جوارحنا في طاعته تعالى؛ بالعبادات والطاعات وأعمال الخير؛ كقراءة القُرآن وكُتب العِلم المفيد، وسماع ومُشاهدة ما ينفعنا شرعاً، والسعي في قضاء حوائج الناس، وغير ذلك من وجوه البِر والتقوى والعمل الصالح.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى يكون (استشعار النِعم) مُلهماً لنا لدوام شُكره وحمده والثناء عليه. اللهم أعنِّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/3ISnTsQ

https://bit.ly/3ISnTsQ