الجمعة، 24 أكتوبر 2025

حفظ الجميل

 

خاطرة الجمعة /522

الجمعة 24 أكتوبر 2025م

(حفظ الجميل)

 

مقطع ڤيديو بعنوان "طبيبةٌ إيرانيةٌ تشكر أباها" انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، تظهر فيه فتاةٌ تلبس زي التخرج، تقف أمام جامعة «طهران»، تشكر والدها بطريقةٍ مؤثرةٍ ولافتةٍ؛ لتضحياته لتأمين احتياجاتها طوال سنوات دراستها فتقول: "يا أبي، انظر إلى ملابسي، أليست جميلة؟ لقد تخرجتُ اليوم وأصبحتُ طبيبةً، أنت تراني الآن وأنا أرتدي معطف التخرج الذي ذكَّرني بمعطفك القديم الذي كنتَ ترتديه لمدة 15 عاماً في جميع المُناسبات الهامة بل وفي حفلات الزفاف أيضاً، وها أنا أرتدي اليوم معطف التخرج بسبب حُبك لي وتضحياتك من أجلي. هل تتذكر يا أبي عندما كُنتَ تعود من عملك الشاق يومياً فلا تكاد ترتاح قليلاً حتى تتحامل على نفسك وتذهب لعملٍ إضافيٍ كسائق أُجرةٍ بسيارتك القديمة؟ لم تكن تشتري لنفسك شيئاً، كُنتَ تهتم باحتياجاتي أكثر مما تهتم باحتياجاتك أنت. كُنتَ تُمسك أسنانك فجأةً أثناء تناول الطعام، كان لديك ألمٌ في الأسنان تُحاول إخفاءه عني، لكنك كُنتَ تُفضِّل أن أذهب أنا إلى طبيب الأسنان عندما أشكو من أي ألمٍ ولو كان قليلاً في أسناني فكُنتَ تُرسلني إلى ذلك الطبيب. هل تتذكر يا أبي كيف كُنتَ تُحفزني؟ كُنتَ تقول: 'ابنتي، ادرسي جيداً؛ حتى لا تُصبحي مثلي، وتكون حياتك صعبةً'. أُريد أن أقول لك الآن يا أبي: حُلمي الآن هو أن أكون مثلك؛ في إيثارك وتضحياتك، وأَعِدَك يا أبي أن أكون مِثْلك في التعامل الإنساني والإحساس بالغير، وأجعلك فخوراً بي وتقول في نفسك: 'أحسنتِ يا ابنتي'. أتمنى أن أكون عظيمةً ونزيهةً مِثْلك يا أبي".

كان هذا الڤيديو مثالاً للوفاء و(حفظ الجميل)، وبعد نشره توالت التعليقات ممن شاهدوه، ومن تلك التعليقات:

"مؤثرةٌ جداً، ووفاؤها لوالدها يُعبِّر عن عظمة التربية والأخلاق والتماسك الأُسري".

"تستحق الإشادة؛ فما أجمل العطاء لمن يستحقه، ضحى من أجلها صادقاً، وبذل كل ما في وسعه، واليوم جاء دورها لتشكره وتُثني عليه وتكافئه، مُعتزةً به وبمبادئه، إنها رائعةٌ حقاً".

"النجاح إن لم يكن بشكر النِعم والمُنعم أولاً فلا طعم له".

"عندما يكون الأب مثالياً وصالحاً، تكون الذُرية صالحةً".

"كلماتٌ مؤثرةٌ؛ خرجت من القلب فوصلت إلى القلب، ما أجمل الصفاء والنقاء".

"الأب مثل الشمعة؛ تحترق لتضيء لمن حولها، يُضحي دائماً لأجل مُستقبل أبنائه وكرامتهم، فهنيئاً لها على هذا الوفاء لوالدها".

"كلماتٌ أبكتني، كم أنتَ عظيمٌ أيها الأب، كم تشقى وكم تتعب وكم تُقاوم وكم تُناضل، ولا تَكِّل أو تَمِّل، الأب هو الشخص الوحيد بالعالم الذي يتمنى أن يكون أبناؤه أفضل منه في كل شيء".

"رائعٌ، فمِن أعظم النعم -بعد نعمة الإسلام- أن يرزقك الله أبناء صالحين، يُقدِّرون تضحياتك التي تُبذلها لأجل أن يكونوا ناجحين".

 

أحبتي في الله.. تلك كانت كلماتٍ صادقةً للتعبير عن الوفاء و(حفظ الجميل) من ابنةٍ لأبيها؛ تقديراً منها لإيثاره وتضحياته التي كانت سبباً في نجاحها. فهل الوفاء والشكر قاصران فقط على الآباء؟ بالطبع لا؛ فقد تكون الأُم هي التي قامت بما لم يقم به أبٌ قصَّر في أداء واجباته فيما يتعلق بتربية أبنائه. وهل يكون الوفاء والشكر للأب الحقيقي البيولوجي فقط؟ أم يكون للأب الذي اهتم وقام بدوره في التربية والرعاية حتى ولو كان زوجاً للأُم؟ القصة التالية تُجيب عن هذا السؤال؛ فهذا ابنٌ وفيٌ كتب يقول:

وُلدتُ في أُسرةٍ غير مُكتملةٍ؛ ما إن تعلمتُ المشي حتى انفصل والداي. أخذتني أُمي إلى قريةٍ بعيدةٍ في منطقةٍ ريفيةٍ فقيرةٍ. لا أذكر ملامح والدي بوضوحٍ، لكنني أعلم أن سنواتي الأولى كانت تفتقر إلى الكثير مادياً ومعنوياً.

عندما كنتُ في الرابعة، تزوجت أُمي من رجلٍ يعمل في الفاعل، جاء إلى حياتها بلا شيءٍ: لا بيت، ولا مال، ليس معه إلا ظهرٌ نحيلٌ، بشرةٌ مُحترقةٌ من الشمس، ويدان مُتشققتان من الأسمنت. في البداية لم أُحبه: كان يُغادر باكراً ويعود مُتأخراً، ورائحته دوماً خليطٌ من العَرق وغُبار البناء، لكنه كان أول مَن أصلح دراجتي القديمة، وأول مَن رتق وخيَّط لي حذائي المُمزق. حين كُنتُ أُحْدِث فوضى لم يكن يُوبِّخني، وعندما تعرضتُ للتنمر في المدرسة، لم يصرخ في وجهي كما فعلت أُمي؛ بل جاء بهدوءٍ بدراجته القديمة ليُقلّني، وفي طريق العودة لم يقل سوى جملةٍ واحدةٍ: "لن أُجبرك أن تُناديني بأبي، لكن اِعلم أني سأكون دائماً خلفك إذا احتجتَ إليّ”. مهما بلغ إرهاقه، لم ينسَ أن يسألني: "كيف كان يومك في المدرسة؟”. لم يكن مُتعلماً تعليماً عالياً، لكنه كان دائماً يقول لي: “قد لا تكون الأول في الصف، لكن عليك أن تجتهد؛ أينما ذهبتَ، سيحترمك الناس بعِلمك”. أُمي كانت فلاحةً، وزوجها عامل بناءٍ، كنا نعيش بدخلٍ ضئيلٍ. وكُنتُ طالباً مُجتهداً، أذكر حين اجتزتُ امتحان القبول بجامعة «الأزهر»، بكت أُمي؛ بينما سارع زوجها في اليوم التالي إلى بيع دراجته النارية، وبمساعدة مُدخرات جدتي، تمكن من إرسالي إلى الجامعة. يوم أوصلني إلى المدينة الجامعية، وقبل أن يُغادر السكن الجامعي، نظر إليّ وقال: "ابذل جهدك يا ولدي، ادرس جيداً”.

درستُ أربع سنواتٍ في الجامعة، ثم واصلتُ الدراسات العليا، وواصل زوج أُمي العمل حتى صارت يداه أخشن، وظهره أكثر انحناءً. وعندما عُدتُ يوماً لزيارة أُسرتي رأيته جالساً عند باب البيت، يلهث بعد يومٍ شاقٍ من رفع الأحمال؛ فانكسر قلبي وطلبتُ منه أن يرتاح، لكنه قال: “ما زلتُ قادراً، وحين أشعر بالتعب، أُفكر قليلاً في أني أُربي دكتوراً فأشعر بالفخر والراحة”، ابتسمتُ، ولم أجرؤ أن أُخبره أن الدكتوراه تعني سنواتٍ أطول من التضحية، لكنه كان في الواقع هو السبب الذي جعلني لا أستسلم أبداً.

في يوم مُناقشة رسالتي للدكتوراه في كُلية الزراعة جامعة «الأزهر» توسلتُ له طويلًا حتى وافق على الحضور. استعار بدلةً من ابن عمه، واستعار حذاءً أضيق من مقاسه بدرجةٍ، وجلس في الصف الأخير من القاعة، يُحاول الجلوس باستقامةٍ، عيناه مُثبتتان عليّ.

بعد انتهاء المناقشة، جاء الأستاذ الدكتور رئيس لجنة المناقشة ليُصافحني ويُهنئ عائلتي، وعندما وصل إلى زوج أُمي، توقف فجأةً، نظر إليه عن قُربٍ وابتسم: “أنت فلان، أليس كذلك؟ لقد كان منزلي بجوار موقع عمارةٍ تحت الإنشاء في «أشمون»، ما زلتُ أذكرك حين حملتَ زميلك المُصاب لسقوطه من على السقالة، رغم أنك كنتَ مجروحاً أنت أيضاً.. لقد أنقذتَ حياته، ذلك الرجل كان عمي”. ساد الصمت القاعة. في لحظةٍ واحدةٍ تلاشت الألقاب والشهادات والدرجات؛ فلم أكن أنا في صدارة المشهد، وإنما كان زوج أُمي. لم يكن مُجرد عامل بناءٍ، لكن بالنسبة لي -وللكثيرين الذين مرّوا في طريقه- كان بانياً لأكثر من مُجرد بيوتٍ، لقد بنى الأمان، وبنى الكرامة، وبنى المستقبل. شهادة الدكتوراه قد تحمل اسمي، لكن كل حرفٍ فيها منقوشٌ بالعَرق الذي سال من جبينه، وبالشقوق التي حُفرت في كفيه، وبالليالي التي عاد فيها مُرهقاً ومع ذلك كان يسألني: “كيف كان يومك في المدرسة؟”. الآباء لا يُعرفون بصلة الدم، بل بالحُب والتربية والتضحية والإيثار، وأحياناً، يكون الرجل الذي تفوح منه رائحة الأسمنت والغُبار، هو نفسه الذي يحملنا طوال الطريق إلى أحلامنا؛ لقد كان زوج أُمي يعمل في الفاعل لمدة 25 عاماً، وهو الذي ربّاني حتى أنهيتُ الدكتوراه، ولا أجد اليوم كلماتٍ تُعبر عن شكري له، وتقديري لتضحياته، وفخري به. أدعو الله سُبحانه وتعالى أن يُجازيه خير الجزاء، وأن يُكثر من أمثاله.

 

إن الوفاء و(حفظ الجميل) من أعظم وأشرف ما يتصف به الناس؛ لذا فقد مدح الله سُبحانه وتعالى الأوفياء؛ يقول تعالى في صفات المتقين: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. ومن باب (حفظ الجميل) وشُكر الناس أمرنا الله أن نُحسن إلى عباده كما أحسنوا إلينا؛ فالجزاء من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

وها هو رسول الله يُخبرنا أن نشكر من قدَّم لنا معروفاً وأن نُجزل له الثناء؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [لاَ يَشْكُر اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُر النَّاسَ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ].

 

وأَية مشاعر أرق من الشعور بالوفاء، وأيُّ فضلٍ -بعد فضل الله- أحق من الاعتراف بالفضل، وشُكر أصحابه، و(حفظ الجميل) لهم.

ومع أهمية الوفاء للأُم وشُكرها وتقدير كل ما تقوم به لأبنائها، فإن مِن الآباء مَن يستحقون من الأبناء الوفاء والشكر والتقدير.

 

وعن الأب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه]، "أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ" أي: خير أبواب الجنة أو أحسنها، "فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه"، يقول شُرَّاح الحديث: ليس المُراد التخيير بين الأمرين، بل المُراد التوبيخ على ترك هذا الباب، فكأنه يقول إنها الغنيمة العظيمة؛ فاستثمر غنيمتك، أو أضِعها.

كما يقول عليه الصلاة والسلام: [لا يَجزِي ولدٌ والِدَه، إلا أن يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه]، "لا يَجزِي" أي: لا يُكافئ ويُساوي، "ولدٌ والِدَه"؛ بما قدَّم إليه من تربيةٍ ورعايةٍ وإحسانٍ، وكونه سبباً في وجوده، "إلا أنْ يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه"، أي: أن تلك هي الحالة الوحيدة ليُكافأ بها على ما قدَّمه له، وهو أن يجعله حُراً إن كان مملوكاً.

وقال صلى الله عليه وسلم لرجلٍ اشتكى له أنَّ أباه اجتاحَ ماله: [أنتَ ومالُكَ لأبيكَ] على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وليس المُراد بالحديث إباحة مال الابن على إطلاقه للأب أن يأخذ منه ما يشاء.

 

وعن (حفظ الجميل) قال الشاعر:

وَمَنْ يَسْدِ مَعْروفاً إلَيْكَ فُكُنْ لَهُ

شَكوراً يَكُنْ مَعْروفُهُ غَيْرَ ضائِعِ

 

أحبتي.. قيل إن الوفاء عملةٌ نادرةٌ، والقلوب هي المصارف، وقليلةٌ هي المصارف التي تتعامل بهذا النوع من العُملات.

وأقول إن (حفظ الجميل) خُلُقٌ أصيل، لا ينتبه إليه إلا القليل، رغم أنه أمرٌ فضيل، وعملٌ جليل، النفوس إليه تميل.

فلنحرص على أن نكون أوفياء لكل من كانت له أيادٍ بيضاء علينا، سواءً كانوا والدينا، أو مُعلمينا أو شيوخنا، أو غيرهم ممن تفضلوا علينا بمعروفٍ، وأسدوا لنا خيراً دون انتظار أي مُقابل. ولنقدِّم لهؤلاء الشُكر والتقدير والثناء؛ عرفاناً منا بجميلهم.

اللهم اغفر لمن أحسن إلينا، واجزه خير الجزاء، واهدنا لنكون من الأوفياء الشاكرين.

https://bit.ly/4nw7ysg

الجمعة، 17 أكتوبر 2025

صِدق التوكل على الله

 

خاطرة الجمعة /521

الجمعة 17 أكتوبر 2025م

(صِدق التوكل على الله)

 

في أحد أيام شهر رمضان المُبارك، خرج رجلٌ يمنيٌ مُقيمٌ في «المملكة العربية السعودية» ويعمل سائقاً، خرج برفقة كفيله الذي يرغب في توزيع زكاة ماله على المُحتاجين في القُرى الفقيرة الواقعة على خط الساحل.

يقول السائق: كانت الزكاة مُوزعةً في أظرُفٍ، كل ظرفٍ يحتوي على خمسة آلاف ريال، وبينما كُنا نُغادر إحدى القُرى مُتجهين نحو طريق «جدة – جيزان»، لمحنا رجلاً مُسِّناً يمشي وحيداً على الطريق العام، كان يبدو في السبعين من عُمره، لكنه قوي البنية، ثابت الخُطى، استغرب كفيلي وقال: “ما الذي يفعله هذا الرجل في هذا المكان، وفي هذا الوقت، وسط الصحراء؟”، فقلتُ له: “لا شك أنه يمنيٌ دخل تهريباً”، توقفنا عنده وسلّمنا عليه وسألناه: “مِن أين أنتَ؟”، فأجاب: “مِن «اليمن»”، قُلنا: “إلى أين تتجه؟”، قال: “إلى بيت الله، مُشتاقٌ له”، سألناه: “هل دخلتَ البلاد بطريقةٍ نظاميةٍ؟”، قال: “لا واللهِ، دخلت تهريباً”، سألناه عن السبب؛ فقال: “كان عليّ أن أدفع ألفي ريال تأمين، وليس لدي سوى مئتي ريال، دفعتُ مائةً للركوب، وبقيت لي مائةٌ فقط”، سأله كفيلي: “كم مضى عليك وأنت تمشي؟”، فأجاب: “ستة أيامٍ”، ثم سأله: “هل تُفطر؟”، فقال: “لا، أنا صائمٌ”، سألناه كيف تجاوز خلال هذه الأيام نقاط التفتيش الأمنية دون أن يُستوقَف؛ فقال: “واللهِ الذي لا إله إلا هو، كُنتُ أمرّ أمامهم ولا يُكلمني أحد”، سألناه: “هل جئتَ للعمل؟”، فقال: “لا واللهِ، جئتُ مُشتاقاً لبيت الله، أُريد أن أؤدي عُمرةً”. ثم أخبرنا أنه قبل خمسين كيلو متر أوقفته دوريةٌ ونقلته بالسيارة إلى مركز شُرطة على بُعد كيلو مترٍ واحدٍ من مكاننا، حققوا معه، فحلف لهم أنه يقصد بيت الله، فأطلقوا سراحه. سُبحان الله الذي سخَّر له رجال الأمن لينقلوه إلى هذا المكان الذي نحن فيه، حتى يُيسر له أمره!

دعاه كفيلي لأن يركب معنا سيارتنا، كي يرتاح قليلاً؛ فركب معنا، وبعد أن استراح، أخرج كفيلي ظرفين من أظرُف الزكاة وأعطاهما للرجل، وقال له: “خُذ هذه من زكاة المال”، شكرنا الرجل، دون أن يعلم كم المبلغ داخل الظرفين، فسألناه: “هل تعرف العملة السعودية؟”، قال: “نعم”، فقُلنا له: “افتح الظرفين وخبّئ المال في حزامك حتى لا يضيع”. فتح الرجل الظرفين، وعندما رأى عشرة آلاف ريالٍ، نظر إلينا مذهولاً وقال: “هل هذا كله لي؟”، قُلنا: “نعم، لك”، ففوجئنا به يسقط مغشياً عليه داخل السيارة، أحضرنا زجاجة ماءٍ وبدأنا نرش عليه الماء حتى أفاق وظل يصيح: “هل هذا المال كله لي؟ هل هذا المال كله لي؟” ثم انفجر في بُكاءٍ شديدٍ، بُكاءٍ يهزّ الحجر، سألناه: “يا عم، لماذا هذا البُكاء الشديد؟”، قال الرجل: “لديّ بيتٌ في «اليمن»، وبجانبه قطعة أرضٍ وهبتها لله، وبنيتُ عليها أنا وأولادي مسجداً من الحجر والطين، اكتمل بناء المسجد، لكن بقي الفرش وبعض الأمور البسيطة، وكنتُ أُفكر كيف أفرشه؟”. بكينا تأثراً، وقام كفيلي بإعطائه ظرفين إضافيين، ليُصبح المبلغ عشرين ألف ريال. وقبل أن ينزل الرجل من السيارة، كان يُتمتم بالدُعاء وهو يبكي.

 

وهذا أحد الأفاضل يروي عن (صِدق التوكل على الله) قصةً أُخرى فيقول: في إحدى الليالي شعرتُ بشيءٍ من القلق والضّيقِ، فخرجتُ أتمشَّى في الهواء الطلق، وبينما أنا أمشي في الحيّ مَررتُ بمسجدٍ فقلتُ: لِمَ لا أدخل وأُصلِّي فيه ركعتين لعلِّي أجد الراحة والاطمئنان؟ دخلتُ، فإذا بالمسجدِ رجلٌ قد استقبل القِبلة، ورفع يديه يدعو ربَّه ويُلِّحُّ عليه في الدُعاء، فعرَفتُ مِن طريقته وصوته أنَّه إنسانٌ مكروبٌ مهمومٌ جداً، بقيتُ أنتظر حتى فرغ الرجل من دعائه، فاقتربتُ منه وقُلتُ له: "يا أخي، رأيتُك تدعو وتُلحّ في الدُّعاء كأنَّكَ مهمومٌ ومكروبٌ، فما خبرك؟"، قال: "واللهِ يا أخي، عليَّ دَيْنٌ أرَّقني وأقلَقني"، فقلتُ له: "كَم يبلغ دَيْنُك؟"، قال: "أربعة آلاف درهمٍ"، فأخرجتُ من جيبي أربعة آلاف درهمٍ وأعطيتُها إيَّاه، فكاد الرجلُ يطيرُ من شِدَّة الفرَح، وشكرني كثيراً، ودعا لي كثيراً، أخذتُ بِطاقةً فيها اسمي ورقم هاتفي وعنوانُ مكتبي، وقُلتُ له: "يا أخي، خُذ هذه البِطاقة، وإذا كان لك أيّة حاجةٍ مهما كانت فلا تتردَّد في زِيارتي أو الاتصالِ بي متى شئت"، ظننتُ أنَّه سيفرحُ بهذا العرض، لكنني فوجئتُ بجوابه إذ قال: "لا يا أخي، جَزاكَ اللهُ خيراً، لا أحتاج إلى هذه البِطاقة، فكلما احتجتُ حاجةً سأُصلي للهِ وأرفعُ يديَّ إليه وأطلبُ منه حَاجتي، وسَيُسِّخرُ الله قضاءها كما يسّرها هذه المرَّة"!

 

أحبتي في الله.. التوكل على الله عبادة الصادقين، وسبيل المُخلصين، أمر الله تعالى به أنبياءه المُرسلين؛ يقول رب العالمين: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِير﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وأمر به عباده المؤمنين؛ يقول تعالى في سبعة مواضع من القرآن الكريم: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

 

هاتان القصتان تُجسدان قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾؛ ففي القصة الأولى لم يكن هَم الرجل مالاً ولا وظيفةً، بل كانت غايته عُمرةً في بيت الله، فأتاه المال مُضاعفاً من حيث لا يحتسب، كما أن بكاءه حين رأى المال، لم يكن بكاء طمعٍ، بل بكاء شُكرٍ، لأنه يستطيع الآن أن يستكمل فرش المسجد الذي بناه لله. وفي موقف رجال دورية الأمن الذين أوصلوه لمركز الشُرطة القريب من هذين الرجلين الذين يسعيان إلى توزيع مال الزكاة، وتصديق المُحققين بمركز الشُرطة له وإطلاقهم سراحه، ووجود رجل الخير الذي أعطاه من أموال الزكاة، في كل ذلك تتجلى رحمة الله التي يسوقها على أيدي عباده، لمن صدق في نيته، وأخلص في وجهته؛ فالرجل اليمني لم يكن يملك إلا مئتي ريالٍ، لكنه حمل في قلبه شوقاً صادقاً إلى بيت الله، وصَبَرَ على المشقة، وصام في السفر، وتوكل على الله حق التوكل؛ ففتح الله له أبواباً من الرحمة ومن الرزق لم تخطر له على بال. فمِن (صِدق التوكل على الله)، أن يسعى الإنسان بقلبه قبل قدمه، وأن يثق في أن الله لن يُضيِّعه ولو مشى على قدميه ستة أيامٍ في الصحراء.

إنها قصةٌ تُكتب بماء العين، وتُروى لتُحيي القُلوب، وتُعلِّمنا أن من جعل الله غايته، جعل الله له كل شيءٍ وسيلةً. لقد صدق فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومَن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ].

وفي القصة الثانية تجسيدٌ حيٌ للحديث الشريف: [لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزق الطيرَ: تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا]؛ فهذا الرجل صاحب الدَيْن علِم أن حل مُشكلته يكمن في إخلاص الدُعاء لله سُبحانه، واثقاً بغير شكٍ في أن الله عزَّ وجلَّ سوف يستجيب لدعائه؛ فهو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فسمى الدُعاء عبادةً، ووعد من دعا بالاستجابة، وتوَّعد من استكبر عن الدُعاء بدخول النار. وأتى تدبير الله سُبحانه مُحقِقاً لوعده؛ إذ سخَّر له مَن شعر بالقلق والضيق؛ فخرج من منزله ليتمشى في الهواء الطلق؛ فشاهد مسجداً؛ فقرَّر دخوله ليشعر بالراحة والاطمئنان؛ فوجد ذلك الرجل صاحب الدَيْن؛ فسأله عن حاجته، فيسَّر الله تعالى له أن يكون في جيبه هذا المال، فأعطاه للرجل الغريب ليسد دَيْنه! وهذا كله من تدبير الله سُبحانه وتعالى لرجلٍ توكَّل عليه وصَدَقَ في توكله.

 

ولا يتنافى (صِدق التوكل على الله) مع ضرورة الأخذ بالأسباب؛ يقول العُلماء إن الأخذ بالأسباب هو هَدي سيد المُتوكلين على الله –صلوات الله وسلامه عليه- في يوم الهجرة وفي غيره؛ إذ أن عدم الأخذ بالأسباب قدحٌ في التشريع، والاعتقاد في الأسباب قدحٌ في التوحيد؛ قال رجُلٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟ قال: [اعقِلْها وتوكَّلْ]؛ لذا فإن عدم السعي ليس من التوكل في شيءٍ، وإنما هو اتكالٌ أو تواكلٌ حذَّرنا منه شرعنا الحنيف.

 

وعن (صِدق التوكل على الله) قال الشاعر:

توكلتُ في رزقي على اللهِ خالقي

وأيقنتُ أن اللهَ لا شكَ رازقي

وما يكُ مِن رزقي فليسَ يفوتني

ولو كانَ في قاعِ البحارِ العوامقِ

سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بفضلهِ

وَلَو لَمْ يَكُن مِني اللِسـانُ بِناطِقِ

ففي أي شيءٍ تَذهَبُ النَفْسُ حَسْرةً

وَقَد قَسَمَ الرَحْمَنُ رِزْقَ الخَلائقِ

وقال آخر:

وكيفَ أخافُ الفقرَ واللهُ رازقي

ورازقُ هذا الخَلقَ في العُسْر ِوَاليُسْرِ

تَكَفَّلَ بِالأَرْزاقِ لِلْخَلقِْ كُلِهم

وَلِلْضَبِ في البَيْداءِ وَالحُوتِ في البَحْرِ

وقال ثالثٌ:

إذا عَزَمتَ لِفِعلِ أمْرٍ

فاجْعَل التَوكلَ مَرْكَبةَ العُبورْ

وإذا عَصاكَ الدَهْرُ يَوْماً

فاسألَ المَولى لتَسْهيلِ الأمورْ

لا تَجْزَعْ لِضيقِ الرِزقِ أبَداً

يَرْزُقُ العُصْفورَ مِنْ بَيْن النسورْ

وَاعْلَم بأنَّ اللهَ يَعْلَمُ

نَظْرَةَ العَينِْ وما تُخْفي الصُدورْ

كُنْ شاكِراً ما دُمْتَ حَياً

وَاعْلَم بأنَّ الدُنيا أيامٌ تَدورْ

 

أحبتي.. يقول أهل العِلم إن (صِدق التوكل على الله) وتفويض الأمر إليه سُبحانه، وتعلق القلوب به جلَّ وعلا، من أعظم الأسباب التي يتحقق بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، وتُقضى بها الحاجات، وكلما تمكنت معاني التوكل من القلوب تحقق المقصود أتم تحقيق.

اللهم ألهمنا رُشدَنا، وسَدِّد خُطانا، وارزقنا حُسن التوكل عليك، واجعلنا من المتوكلين عليك في جميع أمورنا، وفي كل أوقاتنا.

https://bit.ly/498VSYF

الجمعة، 10 أكتوبر 2025

لا تتسرع

 

خاطرة الجمعة /520

الجمعة 10 أكتوبر 2025م

(لا تتسرع)

 

هذه قصةٌ رواها مُدير مدرسةٍ كتب يقول: كنتُ -وأنا مُعلمٌ- دائماً ما أراقب الطلاب في الفترة المسائية أثناء انصرافهم من الطابور باتجاه فصولهم، حتى يتم إخلاء الساحة المدرسية من كافة الطلاب؛ ثم أنتظر قليلاً لأتفاجأ يومياً بطالبين أو ثلاثة مُتأخرين عن موعد الحضور؛ فأضطر إلى مُعاقبتهم ثم أسمح لهم بالالتحاق ببقية زملائهم في فصولهم. بعد مرور فترةٍ من بداية العام الدراسي لفت انتباهي أن طالباً مُعيناً يكون يومياً من بين هؤلاء الطلاب المتأخرين، خلافاً عن بقية الطلاب الذين لا يتأخر أحدهم بالعادة إلا لظرفٍ طارئ، فكنتُ حين أعاقب هذا الطالب بالعصاة التي أحملها أرى على وجهه علامات الأسى والحُزن، لكنه كان دائماً يتقبل العقوبة بمنتهى البساطة وينصرف إلى فصله، استمر على هذا النهج يومياً!

بدأتُ أُقلب الأمر في رأسي؛ أي طالبٍ عنيدٍ هذا؟! وأية عقليةٍ يحملها؟! كيف يكون حزيناً وهو يتلقى العقوبة ولا يسعى ليُغيِّر من حاله ويحضر إلى المدرسة في الموعد المحدد؟!

ومع هذا قررتُ أن أستمر في منهجي نحوه: تأخير = عُقوبة، حتى يُعدِّل من سلوكه. استمرت الأيام على هذا الحال؛ دون أي تغيير، إلى أن قررتُ أن آخذ زمام المبادرة لحل المشكلة؛ فاستوقفته ذات يومٍ قبل أن أُعاقبه؛ وسحبته من يده الى مكتبي وسألته: "يا بُني لماذا تتأخر كل يوم؟ لماذا لا تحضر مثل بقية الطلاب قبل الطابور المدرسي؟! إذا كانت العقوبة تؤثر في نفسك هكذا فلماذا لا تُغيِّر من سلوكك؟"، سكت الطالب بُرهةً من الزمن وأطرق بنظراته إلى الأرض ثم أجاب على استحياءٍ: "يا أُستاذ أنا لا أتأخر عن المدرسة بإرادتي، يا أُستاذ ظُروفنا المالية في المنزل سيئةٌ وقاسيةٌ؛ فوالدي عاطلٌ عن العمل، وأنا وأخي لا نملك إلا قميصاً مدرسياً واحداً، هو يرتديه أثناء ذهابه إلى المدرسة في الفترة الصباحية؛ وأنا أنتظر عودته على باب المنزل بفارغ الصبر لأخذه منه وأرتديه وأحضر إلى المدرسة في الفترة المسائية، وهذا هو سبب تأخري كل يوم! ومع هذا فإنك تُعاقبني وأنا لا أستطيع الاعتراض وأتقبل الأمر لأني لا أرغب في ترك المدرسة بسبب ضيق حالنا!".

يقول الأستاذ -والحديث على لسانه-: واللهِ إن الدنيا أظلمت أمامي لم أعد أرى أو أسمع شيئاً، أحسستُ أن الزمن توقف عند تلك اللحظة؛ فقدتُ القدرة على الكلام، ولم أعد أُفكر إلا في شريط الذكريات؛ وأنا أُعاقبه بالعصاة على يديه على مدى كل تلك الأيام، وهو يتألم من الضرب، ومع هذا لا يتحدث ولا يعترض!! نزلت كلمات الطالب على مسامعي كأنها ضربٌ بسياط القهر والأسى، ولم أستطع أن أتمالك نفسي واندفعت الدموع من عينيّ بصمت؛ فسألته وصوتي يتحشرج في حُنجرتي وكلماتي لا تطاوعني للخروج من فمي: "لماذا لم تُخبرني بذلك يا بني؟"، أجاب وهو يطرق بناظريه إلى الأرض أمامه: "إنك لم تسألني ما السبب؛ كنتَ تُعاقبني فقط"، عندئذٍ فقط أدركتُ فداحة ما اقترفته! أخذتُ الطالب من يده إلى فصله في ذلك اليوم دون أن أُعاقبه، وطلبتُ منه عند انتهاء اليوم المدرسي أن يحضر إلى مكتبي، وانصرفت. في نهاية اليوم الدراسي حضر الطالب إليّ كما طلبتُ منه، خرجنا من المدرسة سوياً، وأخذته معي في جولةٍ إلى السوق، واشتريتُ له قميصاً مدرسياً جديداً على حسابي الخاص، فكم كانت فرحته بهذا القميص؛ كان وكأنه قد نجح في امتحان آخر العام الدراسي، وتوجه إلى منزله مسروراً. ومن ذلك اليوم الحاسم لم أُشاهده إلا في مُقدمة الطابور المدرسي.

يواصل الأستاذ حديثه: كانت هذه الحادثة مفصلاً هاماً في مسار نهجي التعليمي والتربوي؛ فقد أدركتُ معها أن المُعلم والمُربي المثالي عليه أن يكون أولاً أباً لطلابه قبل أن يكون مُدرساً ومُعلماً، عليه أن يشعر بهم، ويُناقشهم، ويتفهم الآمهم وأوجاعهم، قبل أن يُصدر عليهم أحكامه، وألا يتسرع في تنفيذ العقوبة التي قد تكون جائرةً وهو لا يعلم!!

 

أحبتي في الله.. لو ان هذا المُعلم تريث قليلاً وقال لنفسه (لا تتسرع) لأوقف عقاب الطالب في وقتٍ مبكرٍ، ووفرَّ على نفسه الإحساس بالندم.

 

وعن أهمية عدم التسرع يُحكى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً في القطار مع ابنٍ له يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً، والذي بدت على وجهه الكثير من البهجة والفضول؛ إذ كان يجلس بجانب النافذة؛ فأخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ: "أبي أُنظر جميع الأشجار إنها تسير وراءنا!" فتبسَّم الرجل العجوز مُتماشياً مع فرحة ابنه. وكان يجلس بجانبهما زوجان يستمعان إلى ما يدور من حديثٍ بين الأب وابنه، وشعرا بقليلٍ من الإحراج؛ فكيف يتصرف شابٌ في عُمْر الخامسة والعشرين عاماً كالطفل؟! فجأةً صرخ الشاب مرةً ثانيةً: "أبي، أُنظر إلى البِركة وما فيها من حيواناتٍ، أُنظر يا أبي.. الغيوم تسير مع القطار!"، واستمر تعجب الزوجين من حديث الشاب مرةً أُخرى. ثم بدأ هطول الأمطار، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب، الذي امتلأ وجهه بالسعادة وصرخ مرةً أُخرى: "أبي إنها تُمطر، والماء لمس يديّ، أُنظر يا أبي!". في هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت وسألوا الرجل العجوز: "لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟"، هنا قال الرجل العجوز: "إننا قادمون من المُستشفى حيث أن ابني قد أصبح بصيراً لأول مرةٍ في حياته".

ولو أن أحد الزوجين -أو كلاهما- قال لنفسه (لا تتسرع) لجنَّب نفسه الإحساس بالحرج.

 

عن التسرع والاستعجال يقول تعالى في وصفه للإنسان: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾. وورد النهي عن الاستعجال الذي يؤدي إلى التهور والاندفاع بغير تبصرٍ ولا حكمةٍ في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾، وفي قوله سُبحانه: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾.

وورد ذم الاستعجال والتسرع في مثل قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ﴾.

وفي المُقابل وردت آياتٌ تحث على السُرعة ولكن في طلب المغفرة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، يقول المُفسرون: المُسارعة إلى الشيء المُبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخٍ، وهو أمرٌ مُجازٌ في الحرص والمُنافسة إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة. وورد نفس المعنى ولكن بلفظ "سابقوا" كما في قوله سُبحانه: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

 

وفي السُنة المشرفة بيانٌ لمدى الخُسران الذي يتحقق نتيجة التسرع والعجلة؛ قال رسول اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي]، وبيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ: [التَّأنِّي مِن الله، والعَجَلة مِن الشَّيطان]. وقال عليه الصلاة والسلام مادحاً أحد الصحابة رضي الله عنهم، وحاثاً على عدم التسرع: [إنَّ فيك خصلَتينِ يحِبُّهما اللَّهُ: الحِلمَ والأناةَ].

 

وقالت العرب: "العَجَلةُ مُوكَّلٌ بها النَّدَمُ، وما عَجِلَ أحَدٌ إلَّا اكتَسَب ندامةً واستفاد مذَمَّةً". وقالوا كذلك: "لا حِكمةَ لجاهِلٍ، ولا طائِشٍ، ولا عَجولٍ".

 

أما أهل الاختصاص فيقولون إن للتسرع عواقب وخيمةٌ منها: خُسارة الأهداف لعدم الصبر والسعي إلى تحقيق نتائج سريعة. البُعد عن القيم بترك الغرائز تتحكم في السلوك والأفعال. الندم -وقت لا ينفع فيه ندمٌ- على المواقف التي لم يُحسَن التصرف فيها. الخُسارة والكآبة جراء التهور والسلوك غير المدروس وعدم التقدير السليم للمواقف.

 

وقال الشاعر:

لا تَعْجَلَن لأمرٍ أنتَ طالبُهُ

فَقَّلَما يُدرِكُ المَطْلوبَ ذو العَجَلِ

فَذو التأني مُصيبٌ في مَقاصِدِهِ

وَذو التَعَجُلِ لا يَخْلو عَنْ الزَلَلِ

وقال آخر:

الْرِفْقُ يُمْنٌ وَالأناةُ سَعادَةٌ

فَتَأنَّ في رِفْقٍ تَلاقِ نَجاحا

 

أحبتي.. يقولون إن الحياة ملأى بالقصص والأحداث التي إن تأملنا فيها أفادتنا حكمةً واعتباراً، والعاقل لا ينخدع بالقُشور عن اللُباب، ولا بالمظهر عن المخبر، ولا بالشكل عن المضمون.

يجب ألا نتسرع في إصدار الأحكام، وأن نسبر غوْر ما نرى. إن الكثير منا يتسرع فيما يعتقد أنه صوابٌ، والحقيقة قد تكون أبعد شيءٍ عما نُفكر فيه؛ فعلينا ألا نتسرع في الحُكم على الآخرين؛ فهناك دائماً شيءٌ ما نجهله، فلنُحسِن الظن بالآخرين، ونلتمس الأعذار لهم؛ ورد في الأثر: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عُذراً، فإن لم تجد له عُذراً فقل: لعل له عذراً لا أعرفه". لابد أن تكون لدينا تلك الروح وتلك الحكمة وذلك التريث في الحُكم على أشياء يفعلها المحيطون بنا من أزواجٍ أو أبناءٍ أو أصدقاءٍ أو زملاء أو جيرانٍ؛ فرُبما لديهم من الأسباب والأعذار ما يُغنينا عن سوء الظن، ويوفر علينا مغبة وعواقب التسرع. فلنعوِّد أنفسنا أن نقول دائماً لأنفسنا (لا تتسرع) قبل أن نحكم على الأمور بظواهرها، وأن نتأنى ونجتهد في معرفة الحقائق قبل أن نكتشف خطأ ظنوننا.

اللهم ألهمنا الصواب والسداد، وزودنا بالحكمة التي تجعلنا لا نتسرع في الحُكم على الآخرين، وندخر تسرعنا لما ينفعنا من العبادات والنوافل وأعمال الخير والبِر، حتى تصل سُرعتنا إلى درجة الفرار؛ استجابةً للأمر الإلهي: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، ويكون لسان حالنا يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ﴾.

إنك سُبحانك وتعالى القادر على ضبط إيقاع سُرعتنا لتكون فيما ينفعنا، ولا يضرنا أو يضر غيرنا.

https://bit.ly/4n4z3Zz

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

استشعار النِعم

 

خاطرة الجمعة /519

الجمعة 3 أكتوبر 2025م

(استشعار النِعم)

 

كتب يقول: إحدى الكاتبات كانت تعرضتْ لحُروقٍ صعبةٍ جداً؛ وأجرت قُرابة عشرين عمليةً، ومع ذلك فإن أثر الحُروق -رغم مُرور سنواتٍ عديدةٍ- ما زال باقياً وظاهراً بوضوحٍ. ذكرتْ في أحد منشوراتها أنها مُنعتْ من ملامسة الماء لجِلدها لمدة عامٍ كاملٍ، فلما كانت أول مرةٍ سُمِح لها بذلك، وكانت قد اشتاقت كثيراً لأن يمس الماء بشرة وجهها، كانت لحظتها تلك، مع سيلان الماء على وجهها، هي أسعد ما حصل لها في حياتها؛ لدرجة أنها تمنت أن يقف الزمن وقتها، وكتبت بعدها تقول: "أين نحن من (استشعار النِعم)؟ إن هناك نِعماً عظيمةً جداً يرتع فيها الإنسان وهو لا يُحس؛ من ذلك نِعمة القُدرة على غسل الوجه بالماء دون خوفٍ من أن يسقط جِلد الوجه"!

كتب ناشر هذه القصة عن نفسه يقول: عشتُ الأسبوع الماضي كله، خاصةً آخر ثلاثة أيامٍ منه، مع ذلك المعنى، معنى (استشعار النِعم)؛ حين أحسستُ بألمٍ شديدٍ جداً في حلقي، لم أشعر بمثله مُنذ ولدتني أُمي، وذلك بمُجرد أن أبلع ريقي، لدرجة أنني بدأتُ أُدرِّبُ نفسي على أطول فترةٍ زمنيةٍ لا أبلع فيها ريقي؛ أول مرةٍ كانت دقيقةً واحدةً، ثاني مرةٍ كانت دقيقتين وعشر ثوانٍ، أما الرقم القياسي فكان خمس دقائق وخمس ثوانٍ! لكن ذلك كله لم يُفلح في شيءٍ؛ لأني توقفتُ بعد الرقم القياسي مُباشرةً؛ حيث جفَّ حلقي تماماً فاحتجتُ لبلع ريقي مراتٍ مُتتاليةٍ سريعةٍ فكان ذلك عذاباً ما بعده عذاب.

كنتُ على سفرٍ، وحللتُ في مكانٍ يبعد عن بيتي قُرابة الألف كيلومتر، ولا أعرف أحداً نهائياً في ذلك المكان؛ فبحثتُ عن صيدليةٍ وشرحتُ للصيدلي ما أُعاني منه، فنصحني بتناول بعض الأدوية، اشتريتها منه وبدأتُ في تناولها بالطريقة وفي التوقيتات التي أخبرني بها، ولكن كل ذلك كان بلا فائدةٍ، أو على الأقل لم ألحظ أنا أي تغييرٍ يُذكر! رجعتُ للصيدلي فقال لي: "يجب أن تُراجع طبيباً، أما أنا فلا أملك لك شيئاً، لقد أعطيتك العلاج الصحيح بجانب أحد أقوى المُسكنات"، قلتُ له: "أعطني مُسكناً أقوى منه"، قال لي: "مُستحيل"، لم أعرف لماذا مُستحيل، لكني مشيتُ بعدما أخذتُ نوع استحلابٍ آخر غير الذي أعطانيه في المرة الأولى، وقررتُ الصبر يوماً آخر فإن لم أشعر بتحسنٍ أُحاول العثور على طبيبٍ بأي شكلٍ كان. زاد الألم لدرجة أنه منعني من النوم، وأيقظني قُبيل الفجر بساعةٍ؛ فدعوتُ الله سُبحانه وتعالى، وأنا على السرير، قلتُ: "يا رب لم أعد أستطيع التحمل". كانت كل بلعة ريقٍ عبارةً عن عذابٍ فعلاً، كأنني أُمَرِّر حجراً من ثُقب إبرةٍ، الحجر هو ريقي، وثُقب الإبرة هو حلقي! بعد سفرٍ طويلٍ يزيد عن عشر ساعاتٍ بدون توقف عدتُ إلى بيتي مساءً، ذهبتُ إلى أقرب صيدليةٍ لصعوبة وجود طبيبٍ وقتها، وهي صيدلية قريبٍ لي، هو أكفأ صيدليٍ في المنطقة؛ فلمّا لم أجده في الصيدلية اتصلتُ به ـ وهو أمرٌ أكرهه لعلمي بانشغاله ـ ثم قلتُ له: "أنا مُتعلقٌ بالله، ثم بك"، قال: "خير.. ما الذي جرى؟"، حكيتُ له ما حدث؛ فقال لي: "مُر عليَّ في الصيدلية بعد نصف ساعةٍ تجدني في انتظارك هناك"، وقد كان، رأى الأدوية التي كانت معي، فقال: "الأدوية صحيحةٌ وفعّالةٌ لعلاج حالتك، لكنها تحتاج وقتاً". نفس الشيء قاله لي بعدها بنصف ساعةٍ صديقٌ آخر، وهو طبيب أنفٍ وأُذنٍ وحنجرةٍ، أرسلتُ له صور تلك الأدوية؛ فقال لي: "سأُكتب لك شيئاً مفعوله سريعٌ يُخفف ما تجد"، وكتب لي حُقنةً وحذّرني مُسبقاً قائلاً: "هذه الحقنة تحتاج إلى رجلٍ شديدٍ، لكنك ستستيقظ فلا تجد ألماً يُذكر إن شاء الله". أخذتُ الحُقنة، ولأول مرةٍ مُنذ أسبوعٍ أنام بشكلٍ طبيعيٍ البارحة، وكان أول شيءٍ فعلتُه بعدما فتحتُ عينيّ وأنا على السرير أن أُجرِّب بلع ريقي؛ فتم الأمر بشكلٍ طبيعيٍ وأنا في ذهولٍ؛ فقد كانت هذه المرة الأولى التي بلعتُ فيها ريقي بلا ألمٍ بعد آلاف المرات المصحوبة بالألم!

 

أحبتي في الله.. علَّق الكاتب بقوله: إنك ترتع في نِعَم الله سُبحانه وتعالى، منها ما تعرف، ومنها ما لا تعرف أصلاً أنها نِعمةٌ، لكنك ستعرف إنها كذلك حين تُسلب منك، من ذلك أن تغسل وجهك بالماء فلا يسقط جِلد وجهك في يدك! وأن تبلع ريقك دون أن تُحس بأنك تبتلع روحك مع الريق من شدة الألم!

 

ومن العجيب، أن وصلتني وأنا أُعد لهذه الخاطرة عن (استشعار النِعم) رسالةٌ من صديقٍ عزيزٍ، كأنه يعلم ما أنا بصدد الحديث عنه! فكان ممّا كتب تحت عنوان: "هل استشعرتَ ذلك؟": الكثير منا تسكنه الصحة والعافية، وغيرنا يسكن المُستشفيات، فالحمد لله على الصحة وتمام العافية، والحمد لله أنّ لديك عائلةً حولك، وأنك تسكن بيتاً، ولديك نوافذ تفتحها لتستنشق الهواء العليل، الحمد لله أنك تعيش حياتك بشكلٍ طبيعيٍ وبيسرٍ وسهولةٍ؛ تنام وتصحو، وتقضي حاجتك دون مُساعدةٍ، وتمشي برجليك، وتستعمل يديك، وتستطعم الأكل، وتشرب الماء، وتسمع، وترى، وتُمارس أنشطتك المُعتادة يومياً، دون أن تشعر بهذه النِعم التي حباك الله بها، وربما لم يُعطِها لغيرك؛ فهل استشعرتَ ذلك؟ أم لأنك اعتدتَ على هذه النِعم، أصبحتْ منسيةً في تفكيرك؟ نحن دائماً نتقلب في نِعم الله، فتارةً يُسرٌ وتارةً عسرٌ، وكلاهما نِعمةٌ؛ ففي اليُسر يكون الشُكر؛ يقول تعالى: ‏﴿وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾، وفي العُسر يكون الصبر؛ يقول تعالى: ‏﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ فيا أيها الشاكي من حياتك وظروفك أنت تعيش في نِعمٍ من الله عزَّ وجلَّ لو استشعرتها لأصبحتَ ترى أنك لابد من أن تسجد لله شاكراً؛ فاللهم لك الحمد في السراء والضراء، وعلى كل حالٍ، حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه.

 

إن (استشعار النِعم) يستوجب شكر المُنعم الوهاب الكريم الرحمن الرحيم ذي الفضل العظيم، الله جلَّ جلاله؛ لما له من عظيم النِعم على عباده، يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾، كما يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ويقول كذلك: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

 

يقول أهل العِلم إن على المُسلم أن يُداوم على الطلب من ربِّه تعالى أن يُعينه على شُكره؛ فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يوصي أحد الصحابة فيقول له: [لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"]. والشُكر على النِّعَم سببٌ في زيادتها، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. ويكون الشُكر بتحقيق أركانه الثلاثة؛ وهي: شُكر القلب، وشُكر اللسان، وشُكر الجوارح.

بالقلب: خُضوعاً واستكانةً، واستشعاراً بقيمة النِعم التي أنعمها الله على عباده، وبأن المُنعم بهذه النِعم الجليلة هو الله وحده لا شريك له؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾.

وباللسان: ثناءً واعترافاً، لفظاً ونُطقاً، سِراً وجهراً، بأن المُنعِم هو الله تعالى وحده دون غيره؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا].

وبالجوارح: طاعةً وانقياداً، بأن يُسخِّر العبد جوارحه في طاعة الله، ويُجنِّبها ارتكاب ما نهى الله عنه من المعاصي والآثام؛ يقول تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً﴾، وقال صلى الله عليه وسلم حين تفطرت قدماه من قيام الليل: [يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا].

 

ونحن مأمورون بالشُكر؛ يقول سُبحانه: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وفائدة الشُكر تعود علينا نحن والله غنيٌ عنها؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.

ولِنَعْلَم أن شُكر النِعم هو في حد ذاته نعمةٌ تحتاج إلى شُكرٍ، وهكذا يبقى العبد مُتقلباً في نِعم ربِّه، شاكراً له على تلك النِعم، حامداً إياه أن وفَّقه ليكون من الشاكرين الحمّادين الذين يقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ].

 

قال الشاعر:

الشُكرُ للهِ شُكراً ليسَ يَنْصَرِمُ

شُكراً يُوافقُ ما يَجْري بِهِ القَلَمُ

يَأتي البَلاءُ لِتَمْحيصٍ وَتَذْكِرَةً

كأنَّ كُلُ بَلاءٍ نازِلٍ نِعَمُ

لا أَشْكو البَلاءَ وَلا أَراهُ

إلا احْتِفاءً سَاقَهُ كَرَمُ

مَصائبُ الدِينِ أَنْكىٰ ما نُصابُ بِهِ

وما عَداهُنَّ فِيهِ الأَجْرُ يُغْتَنَمُ

وقال آخر:

الحمدُ للهِ مَوْصُولاً كَما وَجَبا

فَهُو الذي بِرِداءِ العِزّةِ احْتَجَبا

وَالشُّكرُ للهِ في بِدْءٍ وَمُخْتَتَمِ

فاللهُ أكرَمُ مَنْ أعْطىٰ وَمَنْ وَهَبا

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾؛ فلن نستطيع مهما حاولنا أن نعِّد أو نحصر أو نُحصي نِعم الله علينا، لكن ما نستطيعه وما هو في وِسع كلٍ منا أن نكون من المُداومين على شُكر الله على نِعمه وآلائه؛ عظيمها وبسيطها، كثيرها وقليلها، ظاهرها وباطنها، ما نعلمه منها وما لا نعلمه، وأن نكون من الشاكرين لله بقلوبنا على ما أنعم به علينا، عِلماً ويقيناً بأنه هو وحده واهب هذه النِعم. ومن الشاكرين لله بألسنتنا؛ بعد الاستيقاظ من النوم أنْ وهب لنا الحياة، وبعد الطعام والشراب أن رزقنا إياهما وتفضَّل بهما علينا، وفي كل نِعمةٍ نراها في أنفسنا، نُديم ذِكره وحمده والثناء عليه. ومن الشاكرين لله بجوارحنا؛ بأن لا نستخدم أعيننا ولا آذاننا في مُشاهدة أو الاستماع إلى إثمٍ أو خطيئةٍ، ولا نمشي بأرجلنا إلى أماكن مُحرَّمةٍ، ولا نستعمل أيدينا في مُنكرٍ، أو عملٍ يُغضب الله، وإنما نُسخِّر جميع جوارحنا في طاعته تعالى؛ بالعبادات والطاعات وأعمال الخير؛ كقراءة القُرآن وكُتب العِلم المفيد، وسماع ومُشاهدة ما ينفعنا شرعاً، والسعي في قضاء حوائج الناس، وغير ذلك من وجوه البِر والتقوى والعمل الصالح.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى يكون (استشعار النِعم) مُلهماً لنا لدوام شُكره وحمده والثناء عليه. اللهم أعنِّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/3ISnTsQ

https://bit.ly/3ISnTsQ

الجمعة، 26 سبتمبر 2025

رحمة الله

 

خاطرة الجمعة /518

الجمعة 26 سبتمبر 2025م

(رحمة الله)

 

يروي هذه القصة أحد القُضاة، أنقلها لكم بتصرفٍ يسيرٍ، كتب يقول: عندما كنتُ وكيلاً للنيابة العامة في بداية عملي في سلك القضاء دخل عليّ رجلٌ كبيرٌ في السن وعلامات الحزن ظاهرةٌ عليه، يشتكي من سرقة سيارته، وعلمتُ منه أنَّ لديه أطفالاً عمياناً لا يُبصرون -وهذه القصة التي سأرويها لكم ما زلتُ أتذكرها على الرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً على حدوثها وقد تأثرتُ بها كثيراً- إذ دخل مكتبي هذا الرجل وأبلغني بحادثة سرقة سيارته وماله؛ فقال: "عملتُ خلال السنتين الماضيتين لجمع ألفي دينارٍ لعلاج عيون اثنين من أبنائي، وقد سمعتُ عن طبيبٍ مُختصٍ خطَّطتُ أن أُسافر له اليوم لإجراء العملية الجراحية بهذا المبلغ، وقد تركتُ المبلغ الذي جمعته لهما في دُرج السيارة، إلا أنها سُرقت صباح هذا اليوم فضاع كل جهدي وتعبي". كنتُ أستمع له بإنصاتٍ وأنا أقول في نفسي سُبحان الله يا له من ابتلاءٍ، وأحببتُ أن أُخفف عنه مُصابه فقلتُ له: "لا تعلم؛ عسى أن يكون ما حدث لك من (رحمة الله)"؛ فشعرتُ من قسمات وجهه أن كلامي لم يُعجبه، انتهى الأمر، انصرف الرجل، وعُدتُ إلى مُمارسة عملي كالمُعتاد.

بعد أسبوعٍ من حادثة السرقة اتصل بي رجال المباحث وأبلغوني أنهم وجدوا السيارة المسروقة في الصحراء، وليس فيها وقودٌ؛ فقالوا ربما سرقها صبيانٌ صغارٌ للتسلية ولما انتهى الوقود تركوها بالصحراء؛ فقلتُ لهم: "المُهم افتحوا دُرج السيارة وابحثوا عن المبلغ الذي تركه صاحبها"، فأخبروني أنهم وجدوا ألفي دينارٍ؛ ففرحتُ كثيراً بهذا الخبر وطلبتُ منهم أن يُحضروا السيارة والمبلغ، واستدعيتُ الرجل صاحب الشكوى، وأنا سعيدٌ لأني سأُسعده بالخبر وأُساعده على إجراء عملية ابنيه ليُبصرا بعد العمى؛ فلما دخل عليّ استقبلته بقولي: "يا عم عندي لك مُفاجأةٌ وبِشارةٌ"، فرَّد عليّ بنفس الأُسلوب والطريقة وقال: "وأنا عندي لك مُفاجأةٌ وبِشارةٌ"، فتوقفتُ قليلاً، ظننتُ أن رجال المباحث أبلغوه بالخبر رغم إني أوصيتهم ألا يُخبروه، ثم قلتُ له وأنا على يقينٍ أنه لا يعرف أننا وجدنا السيارة والمبلغ: "أخبرني ما هي مُفاجأتك؟"، فقال: "أنت أخبرني أولاً ما هي بِشارتك؟"، فقلتُ: "أُبشرك أننا وجدنا السيارة سليمةً، وكذلك وجدنا فيها الألفي دينارٍ في المكان الذي وصفته لنا؛ فلم يذهب تعبك سُدىً"، كنتُ أقول الخبر وأنا مُبتسمٌ وفَرِحٌ وأراقب ردة فعله، فكان يستمع للخبر وكأنه أمرٌ عاديٌ، ولم يتأثر به كثيراً، فقلتُ في نفسي: "الله يستر، ربما حدث شيءٌ لأطفاله"، ثم تمالكتُ نفسي وقلتُ له: "والآن جاء دورك فأخبرني ما هي بِشارتك؟"، فسألني: "هل تذكر ما قُلتَه لي؟"، قلتُ: "نعم"، فقال: "رجاءً ردده مرةً أُخرى"، فقلتُ: "لا تعلم؛ عسى أن يكون ما حدث لك من (رحمة الله)"، فقال: "ماذا كنتَ تعني؟"، قلتُ: "كنتُ أعني أنَّ الله تعالى يُقدِّر الابتلاء للإنسان بما فيه مصلحته، ولكن الإنسان أحياناً يعترض على القضاء والقدر ولا يعلم أن ما قدَّره الله تعالى فيه خيرٌ له، وهذا من (رحمة الله)"؛ فابتسم وقال: "صدقتَ، كلامك صحيح مائةٌ بالمائة، ونِعمَ بالله؛ فالله لا يختار لعباده إلا الخير"، فقلتُ له: "أخبرني الآن، ما هي بِشارتك؟"، فقال: "أُبشرك؛ من (رحمة الله) أن الطفلين اللذيْن جمعتُ من أجلهما المال قد صارا بعد يومين من حادثة السرقة يُبصران كما لو لم يكن بهما عمىً وأبصرا بغير حاجةٍ إلى إجراء العملية!"، فقلتُ له: "سُبحان الله، انظر إلى الحكمة من قَدَر الله ولُطفه ورحمته بك؛ أخذ منك سيارتك ومالك الذي جمعته من أجل علاجهما، ثم ردَّ على طفليك بصرهما، وبعدها ردَّ عليك سيارتك ومالك، أي رحمةٍ أعظم من هذه؟!"، فقال: "الحمد لله، سُبحانه هو الرحمن الرحيم".

 

أحبتي في الله.. ومن (رحمة الله) أيضاً -وهي كثيرةٌ لا تُعد ولا تُحصى- ما حدث يوم الأربعاء الموافق 28 يوليو سنة 1976م؛ حين استيقظت مدينةٌ كاملةٌ في «الصين» على وجود كلابٍ بريةٍ مُفترسةٍ في مدينتهم، تنبح بشكلٍ هستيريٍ غير طبيعيٍ إطلاقاً.. كلابٍ مُرعبةٍ ومُزعجةٍ، حتى أنه لم يكن أمام أهل تلك المدينة حلٌ غير مُغادرتها وإخلائها لحين انتهاء أزمة الكلاب! رحل تسعون ألف شخصٍ من بيوتهم بسبب تلك الكلاب البرية! كان شعور أهل المدينة وقتها الغضب، وكانوا يتمنون أن تنشق الأرض لتبتلع تلك الكلاب التي أربكت حياتهم. لكن الغريب أنه بعد ساعاتٍ من خروج السُكان من مدينتهم وقع أكبر زلزالٍ شهدته «الصين» وهو زلزال «تانغشان» العظيم، دمَّر أبنية المدينة كلها! عرف وقتها أهل المدينة أنّ الكلاب البرية كانت تنبح لأنها أحست بالزلزال قبل وقوعه، ومن (رحمة الله) أن حرَّك الكلاب في الوقت المُناسب كي تُنقذ حياة تسعين ألفاً من سُكان المدينة من موتٍ مُحققٍ؛ كانوا يَرَوْن أنّ الكلاب في المدينة نِقمةً فإذا بها نعمةٌ ورحمةٌ من الله.

 

إنها رحمةٌ من الله؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾.

 

ويقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: [إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ]. يقول شُرَّاح الحديث كم من موقفٍ بين البشر أو الحيوان من الرحمة والعطف، والحنان والعفو، والصفح والوِد؟ كل هذا في الدنيا برحمةٍ واحدةٍ، أنزلها الله للدُنيا؛ ليعيش الناس في نوعٍ من الأمان والخير.

وقد بشَّرنا المُصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: [إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ]، قال العُلماء إن الله جلَّ جلاله كتب على نفسه الرحمة؛ فهو "الرحيم" في أفعاله "الرحمن" في ذاته، وهذان الاسمان من أسماء الله تعالى مُشتقّان من الرّحمة، وهما من صيغ المُبالغة، و"الرحمن" أبلغ من "الرحيم"، و"الرحمن" اسمٌ خاصّ بالله لا يُسمّى ولا يوصف به غيره.

إنَّ الرحمة في اللغة تعني طلب المغفرة من الله، وجاء ذلك في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾. وهي تعني رقة القلب والشفقة. والرحمة هي خيرٌ ونعمةٌ من الله يُقسِّمها العُلماء إلى نوعين:

-الرحمة العامة: وتشمل الخلق جميعاً؛ المؤمن منهم والكافر، الصغير والكبير، العاقل وغير العاقل، فكل من يعيش في هذا الكون يكون تحت (رحمة الله)؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾، ولا تكون هذه الرحمة إلا في الحياة الدُنيا.

-الرحمة الخاصة: وهي الرحمة التي خصصها الله تعالى لعباده المؤمنين فقط؛ يقول سُبحانه: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾، وهي رحمةٌ تشمل الدُنيا والآخرة.

 

إنها (رحمة الله) لا تعز على عبدٍ من عباده، في أي زمانٍ وفي أي مكانٍ وعلى أي حال: وجدها إبراهيم –عليه السلام- في النار. ووجدها يوسف -عليه السلام- في الجُب، كما وجدها في السجن. ووجدها يونس -عليه السلام- في بطن الحوت في ظُلماتٍ ثلاثٍ. ووجدها موسى –عليه السلام- في اليم وهو طفلٌ مُجردٌ من كل قوةٍ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدوٌ له مُتربصٌ به ويبحث عنه. ووجدها الفتية في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور؛ فقال بعضهم لبعض: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾. ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار. ووجدها كل من آوى إليها، قاصداً باب الله وحده دون جميع الأبواب.

 

ويرى أهل العِلم أن (رحمة الله) بعباده تأتي على أوجهٍ مُتعددةٍ، وصورٍ مُختلفةٍ، لا يُمكن حصرها، ولا يُستطاع عدُها؛ منها: أن بعث الله عزَّ وجلَّ في عباده رسلاً مُبشّرين ومُنذرين، يُعَرِّفونهم ربَّهم، ويدعونهم إلى عبادته وإخلاص الدين له، ويُعلمونهم الحق، ويُحذّرونهم من سُبل الباطل والضلال. ومن صور رحمته بنا: أن بعث فينا سيدَ الأولين والآخرين، وجعل رسالته رحمةً للخلق أجمعين؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، ويقول: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. ومن صور تلك الرحمة: أن أنزل الشريعة الكاملة في مبادئها ونُظُمِها وقِيَمها وأخلاقها، وجعلها شريعةً شاملةً صالحةً لجميع البشر في كل زمانٍ ومكانٍ. ومن مظاهر هذه الرحمة: أنها شريعةٌ مُيسرةٌ سهلةٌ لا مشقة فيها؛ يقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾. ومن مظاهر رحمته جلَّ جلاله بعباده: قبول التوبة والعفو عن العُصاة، ومغفرته لذنوبهم؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ فالله كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: [يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا]، وقال عليه الصلاة والسلام: [يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟]، وكل ذلك رحمةٌ منه تعالى بعباده.

ومن الصور الدالة على رحمته سُبحانه: أنه تكفّل برزق عباده جميعاً، وسَخّر لعباده ما في السماء والأرض جميعاً منه؛ يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

 

ومن صور (رحمة الله) كرمه على عباده؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [يقولُ اللَّهُ: إذا أرادَ عَبْدِي أنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فلا تَكْتُبُوها عليه حتَّى يَعْمَلَها، فإنْ عَمِلَها فاكْتُبُوها بمِثْلِها، وإنْ تَرَكَها مِن أجْلِي فاكْتُبُوها له حَسَنَةً، وإذا أرادَ أنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْها فاكْتُبُوها له حَسَنَةً، فإنْ عَمِلَها فاكْتُبُوها له بعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ].

ومن صور هذا الكرم يقول الشاعر:

وتشاءُ أنتَ من البشائرِ قَطرةً

ويشاءُ ربُك أنْ يُغيثكَ بالمَطرْ

وتشاءُ أنتَ من الأماني نَجمةً

ويشاءُ ربكَ أن يُناولكَ القَمرْ

وتظلُ تَسعى جاهداً في هِمةٍ

واللهُ يُعطي مَنْ يشاءُ إذا شَكرْ

اللهُ يمنعُ إن أرادَ بحِكمةٍ

لابدَ أنْ ترضى بما حَكَمَ القَدَرْ

 

أحبتي.. لا تكاد تخلو حياة أيٍ منا من بعض مُنغصاتٍ يكره حدوثها، لكنه يكتشف بعد فترةٍ أنها كانت رحمةً من الله: زواجٌ لم يتم، ‏وظيفةٌ لم يستطع اللحاق بها، خسارة مالٍ، حادث سيارةٍ، إصابةٌ بمرضٍ، غدر صديقٍ، حَمْلٌ لم يتم، وغير ذلك من مُنغصاتٍ نراها صعوباتٍ ومشاكل، لكنها في واقع الأمر قد تكون -برحمة الله- تنبيهاتٍ لتدفع عنا ضرراً أكبر؛ فلا يوجد أفضل من التسليم لإرادة الله عزَّ وجلَّ، وهو القادر على تسخير الكون كله لإسعادنا وراحتنا وحمايتنا من كل شرٍ، وكل ما في الكون جندٌ من جُنده.

اللهم تُب علينا وارحمنا؛ وأنت سُبحانك ﴿التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، واجعلنا مقصد رحمتك، وسخَّر لنا جنودك؛ فننعم بعفوك وعافيتك في الدُنيا والآخرة.

https://bit.ly/4nUY7TQ

الجمعة، 19 سبتمبر 2025

قَدَر الله

 

خاطرة الجمعة /517

الجمعة 19 سبتمبر 2025م

(قَدَر الله)

 

كتبت قصتها وحكت عن نفسها فقالت: اسمي «علياء» لكنني في الحقيقة مُتواضعةٌ في كل شيءٍ؛ فكما يقول الناس: "لا مال ولا جمال ولا حسب ولا نسب"، نسكن في قريةٍ صغيرةٍ هادئةٍ، أبي رجلٌ بسيطٌ كان يعمل سائقاً على إحدى سيارات الأُجرة التي لم يكن يملكها، لكنه كان يقتسم العائد المادي مع صاحب السيارة في نهاية كل يومٍ. كان أبي رجلاً طيباً، وأُمي امرأةٌ ريفيةٌ مُكافحةٌ وشريفةٌ كانت تقف مع زوجها جنباً إلى جنب، تجمع اللبن والجُبن والبيض من نساء القرية كل مساءٍ، وفي الصباح الباكر تذهب إلى سوق المدينة كي تبيعه، منهم من يمنحها جنيهاً زائداً عن حقها، ومنهم قليل الذوق شحيح الكرم يقطع أنفاسها في محاولةٍ منه لتقليل الثمن جُنيهاً أو جُنيهين، غير مُقدِّرٍ لما تُعانيه هذه المسكينة من شظف العيش وتدني الدخل. كنتُ أحمل معها حاجياتها كل صباحٍ لأُوصلها إلى مكانها المُعتاد بالسوق، ثُم أتجه إلى جامعتي بثيابي البسيطة، وهيئتي العادية جدّاً. كنتُ مُطمئنةً بخصوص مسألة زواجي حيث أن «عادل» جارنا يُحبني، ولطالما أخبر أُمي بأنه ينوي أن يتقدم لخطبتي بمجرد أن يجمع مبلغاً معقولاً من المال يُمَكِنَّه من الزواج بي. يوماً ما تعرض أبي لحادثٍ فظيعٍ تُوفي على إثره، تركنا أبي من دون مُقدماتٍ، من غير وداعٍ أو استعدادٍ للحياة من دونه، لم تحتمل أُمي الصدمة فأُصيبت بالشلل التام، وفجأةً وجدتُ نفسي أمام المدفع؛ فقد أصبحتُ العائل الوحيد لأُسرتي؛ لأُمي المريضة ولأخي الصغير ولنفسي.

قررتُ أن أترك الجامعة على الأقل هذا العام، لكن حُلماً بعيداً بالتخرج كان دائماً يُراود أبي جعلني أتراجع عن قراري رغبةً مني في تحقيق أُمنيته بأقرب وقتٍ، وبعد تفكيرٍ طويلٍ، قررتُ إكمال المشوار والبدء من حيث انتهت أُمي: من الغد سأجمع أنا البيض والجُبن واللبن من نساء القرية، وسأذهب به إلى سوق المدينة، وسأحاول جاهدةً بيعه ثم الذهاب سريعاً إلى الجامعة لألحق ما يُمكن اللحاق به!

بعد يومين كنتُ أفترش أرض السوق، وأمامي حقائب بها بعض زُجاجات اللبن وقطعٌ من الجُبن وقليلٌ من البيض، وبحجري كتابٌ عنوانه "الإحصاء التطبيقي" يشرد بصري بين سطوره، أقرأ الكلمات وأكاد لا أعي منها شيئاً! بعد دقائق كان «عادل» بقامته الطويلة يقف مُتلعثماً أمامي، وجهه مُحمَّرٌ وأعصابه مشدودةٌ، أدركتُ أنه يُريد أن يقول شيئاً هاماً، بالفعل استجمع شجاعته وقال لي: "«علياء»، أنا آسف؛ أُمي رفضت أمر زواجي منكِ رفضاً تاماً، قالت إنها لن تقبل أبداً أن تُزوجني من بائعة لبن"! قلتُ له في صدمةٍ وبصوتٍ مبحوحٍ: "وما الذي يعيب بائعة اللبن؟ إنها تُكافح من أجل والدتها المريضة وأخيها اليتيم"! لم يرد، أعطاني ظهره وانصرف. بكيتُ في هذا اليوم كما لم أبكِ من قبل، لعنتُ الظروف والفقر والمرض، في الحقيقة كنتُ أتحمل رحيل أبي، أما رحيل «عادل» كنتُ أضعف من أن أتحمله!

بعد هذه الحادثة بأسبوعٍ، تم طردي من المُحاضرة، المُعيد الغبي لم يحتمل فكرة أنني لم أقتنِ الكتاب حتى الآن ونعتني بـالمُستهترة، لم أستطع إخباره أن الفقر هو السبب، خرجتُ من المُحاضرة باكيةً، وقرَّرتُ أن أترك الجامعة بلا عودة! في اليوم التالي كنتُ أفترش أرضية السوق، وأمامي حقائب بها بعض زُجاجات اللبن وقطعٌ من الجُبن وقليلٌ من البيض، وبعد وقتٍ قصيرٍ فوجئت بذلك المُعيد القاسي يقف أمامي ويداه خلف ظهره، يبدو أن بهما شيئاً يُحاول إخفاءه، تلقائيّاً غطيتُ وجهي بوشاحي ظنّاً مني أنه بالتأكيد سيتذكرني إن رأى وجهي فآثرتُ إخفاءه، لكنه ضحك ضحكةً طويلةً ثم قال: "أيُعقل أن يخجل المُكافح من كفاحه؟!"، ثم أخرج شيئاً من وراء ظهره وهو يقول: "هذا هو الكتاب الذي قمتُ بطردك بالأمس لأجله، ومعه كل الكُتب التي تحتاجينها، لم أقصد إهانتك، ظننتكِ فتاةً لعوباً مُستهترةً، وأنا أكره هذا الصنف من الفتيات، أيُمكنكِ أن تقبلي اعتذاري؟!"، فبكيتُ، يبدو أن ضميره أنَّبه بعد طردي؛ فسأل عني وعرف ظُروفي ومكاني في السوق فجاءني مُعتذراً. في اليوم التالي ذهبتُ إلى الجامعة، كنتُ وقتها راضيةً عن الفقر والظروف والمرض، كنتُ مُعجبةً بكفاحي، ومؤمنةً بأن هذه هي معركتي التي خلقني الله لأجلها. جاء المُعيد وبدأ مُحاضرته قائلاً: "لم أكن مُرفهاً يوماً، ولم أُولد وبفمي ملعقةٌ من ذهبٍ، في وقتٍ مضى اشتغلتُ باليومية، وعملتُ سائق سيارة أُجرة، وسباكاً، وكثيراً كثيراً ما نمتُ وأنا جائعٌ!"، ثم تابع: "أحببتُ أن أُشارككم جُزءاً من قصتي". في قرارة نفسي كنتُ أعلم أنه يخصني أنا بهذا الجُزء، أنه يقصدني أنا من بين ألف طالبٍ؛ فأحببتُ الحياة ورضيتُ عنها، ما زال في هذه الدنيا أُناسٌ طيبون لا يبخلون بالكلمة الطيبة ولا يحبسون الاعتذار في صدورهم! وفي اليوم التالي وبينما أنا جالسةٌ بالسوق أُمارس عملي -لأنه مصدر رزقنا الوحيد- إذا به يقف أمامي ببذلته الأنيقة ورباط عُنقه الجميل مُتسائلًا: "كيف حال بائعة اللبن؟!"، قلتُ: "بخيرٍ، أظن أنها لم تعد تخجل من عملها، بل وتُحبه، إنه (قَدَر الله)، كيف للمرء أن يكرهه؟!"، ومن دون مُقدماتٍ جلس ببذلته الأنيقة إلى جانبي على الأرض، وتعالى صوته: "البيض والجُبن واللبن.. من يريد؟ الزُجاجة بثلاثين جُنيهاً!"، ضحكتُ من أعماقي، وآمنتُ أن الخير يكمن فيما نحسبه شراً، وأن الله ما انتزع منا شيئاً إلا ليُعوضنا بشيءٍ أفضل منه، إن الله كريم! في ذلك اليوم أنهيتُ عملي باكراً بفضل تصرفه الجميل الذي لفت أنظار المُشترين؛ فكيف لأنيقٍ مثل هذا الشاب أن يبيع اللبن بسوقٍ شعبيٍ كهذا؟! في نفس اليوم بدأ المُحاضرة بقوله: "بالمُناسبة نسيتُ أن أُخبركم أنه يوماً ما، إلى جانب عملي كسائقٍ وعاملٍ باليومية وسباكٍ عملتُ بائعاً للبن"!

بعد أيامٍ قليلةٍ كنتُ أُزَف لأُستاذي بالجامعة، إنه يُحبني بفقري، بعبء أُمي وأخي، بملامحي البسيطة والتي أشعر أنها لم تعد كذلك؛ في الحقيقة أصبحتُ أُحس أنني جميلةٌ جداً، أشعر أنني توهجتُ منذ أن أحبني هذا الرجل الصادق، صرتُ «علياء» بحق!

تساءلتُ: أين ذهب «عادل»، وأين ذهبت والدته؟! الحمد لله أنه قد تخلى عني من البداية، والحمد لله أنني طُردتُ من الجامعة، والحمد لله على فقري، وممتنةٌ جدّاً جدّاً لعملي بائعةً للبن؛ فكُل هذه الصعاب جذبتني رغماً عني لتضعني في طريق الرجل الصحيح. أكتب قصتي هذه موقنةً بأن (قَدَر الله) سُبحانه وتعالى رتَّب لي ما لم أكن أتوقعه يوماً أو أحلم به، وعوضني عما كنتُ أحسب أنه خيرٌ لي بما هو أفضل وأحسن؛ أنعم عليّ بزوجٍ صالحٍ طيبٍ وعطوفٍ، يُحبني، يرعاني ويرعى أُمي المريضة وأخي الصغير، ويُدللني، ويُحب أن ينعتني دائماً بقوله: "يا ابنة بائعة اللبن"!

 

أحبتي في الله.. أحداثٌ ومواقف نمر بها في حياتنا تُثبت لنا -يوماً بعد آخر- كم هو لُطف الله بعباده، وكم هو جهل الإنسان بأن الله سُبحانه وتعالى أرحم به من رحمته هو بنفسه، مهما بدا الأمر على العكس من ذلك.

وهذا موقفٌ حدث لأحد الطلاب يؤكد هذه الحقيقة؛ ففي لمحة عينٍ، تحوَّل يومٌ عاديٌ لطالب طبٍ واعدٍ إلى كابوسٍ مُروِّعٍ؛ إذ كان يقف أمام كليته، يتبادل الضحكات مع زملائه، حين انطلقت سيارةٌ طائشةٌ مُسرعةٌ كأنها قذيفةٌ اختارته هو بالذات من بين الجميع، صوت اصطدامٍ عنيفٍ، صرخاتٌ، ثم ظلام. استيقظ على الأضواء الساطعة بالمُستشفى، وعلى أصوات الأجهزة الطبية المُركبة بجسده، والتي لا تهدأ. نظر حوله فإذا بالأطباء يُحيطون به وقد ارتسمت على وجوههم علامات القلق، اقترب منه أحدهم وقال له: “كليتك تنزف بشدةٍ، ويجب أن نستأصلها فوراً، وإلا فإن حياتك في خطر”، في تلك اللحظة، وجد الطالب نفسه أمام خيارٍ صعبٍ: إما أن يتخلى عن جُزءٍ من جسده ليعيش، أو يتمسك به ويموت، اختار الحياة، لكنه شعر بأن جُزءاً من روحه قد مات بالفعل. بعد أيامٍ، بينما كان غارقاً في بحرٍ من الاكتئاب واليأس في غُرفته المُعتمة بالمُستشفى، فُتح باب الغُرفة فجأةً، وإذ بالجرّاح الذي أجرى له عملية استئصال الكلية يسأله، وعلى وجهه ابتسامةٌ غامضةٌ لم يفهم الطالب معناها: “هل تؤمن بالقضاء والقدر؟”، أجاب الطالب بصوتٍ خافتٍ يملأه الحزن: “أجل يا دكتور، لكني خسرتُ الكثير"، اقترب الجراح منه ثم قال بنبرةٍ تحمل الكثير من التأثر: “كنتُ أسمع عن (قَدَر الله) مثلك، حتى رأيته بعينيّ معك؛ فأثناء العملية، لاحظنا شيئاً غريباً في كليتك التي استأصلناها، فأخذنا عينةً أرسلناها للمختبر، ووصلتني النتيجة اليوم، كانت النتيجة مُذهلةً؛ كانت كليتك المُصابة تحتوي على خلايا سرطانيةٍ في مراحلها الأولى، ورمٌ خبيثٌ كان سينمو بصمتٍ ويُنهي حياتك دون أن تُتاح لك فرصة اكتشافه إلا بعد فوات الأوان”، اتسعت عينا الطالب في ذهولٍ، وبدأ يربط الخيوط ببطءٍ، همس بصوتٍ مُتقطعٍ: “هل تقصد أن الحادثة لم تكن عشوائيةً؟ وأن السيارة اختارتني أنا بالذات من بين جميع أصدقائي، وحدَّدت مكان الإصابة بدقةٍ متناهيةٍ لتمنحني فرصةً ثانيةً للحياة؟”، ابتسم الجراح ابتسامةً واسعةً وقال: “تخيّل هذا! وهل تعتقد بعد ذلك أنها كانت مُجرد صدفةٍ؟!، لا إنه (قَدَر الله) يُجريه على عباده بحكمته ورحمته".

لأول مرةٍ مُنذ وقع الحادث، ارتسمت ابتسامة رضا وحمدٍ وامتنانٍ على وجه الطالب، ونظر إلى السماء وقال والدموع تترقرق في عينيه: “الحمد لله؛ على تدبيرك ورحمتك بي يا إلهي”.

 

يقول تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، ويقول كذلك: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَو أنَّ الخلقَ كُلَّهُم جميعًا أَرادوا أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ لَكَ، لَم يَقدِروا عليهِ، أو أرادوا أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ علَيكَ، لَم يقدِروا علَيهِ … واعلَم أنَّ ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك، وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ] يقول شُرّاح الحديث إنَّه لنْ تَحصُلَ مَنفعةٌ لك إلَّا ما قد كتَبَه اللهُ لك، ولو اجتمَعَ على مَنفعتِك أهلُ الأرضِ جميعاً، وأنه لنْ يَبلُغَك ضُرٌّ إلَّا ما قدَّرَه اللهُ عليك، ولو اجتمَعَ على ضَرِّك أهلُ الأرضِ جميعاً. أي ما حصل لك من الخير والنِعم، أو الشر والنِقم، وما قدَّره الله تعالى لك أو عليك، لم يكن ليجاوزك إلى غيرك، وما قدَّر أنه لا يُصيبك فإنه لن يُصيبك أبداً. وأن ما يُصيبك من ابتلاءاتٍ ومصائب أو نِعمٍ وخيرٍ فهي من (قَدَر الله) عليك، ولم يكن من المُمكن أن يفوتك أو يُصرَف عنك. إنَّ ما قضاه الله سُبحانه على العبد فهو نافذٌ وواقعٌ به لا محالة، لا يستطيع أحدٌ رده ولا دفعه، وأي شيءٍ في الكون فإنما يقع بقضاء الله وقدره، وإذا عرف الإنسان هذا المعنى فإنه لا يتحسر بسبب ما ينزل به من الكُروب والمصائب، ولا يفتح للشيطان باباً بأن يقول لو كان كذا لكان كذا؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [إنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ]، بل عليه الصبر، وأن يحتسب عند الله تعالى الأجر، ولو أن الإنسان استحضر هذا المعنى استحضاراً كاملاً فإنه يحصل له كمال اليقين، وكمال التوكل، وكمال الرضا بما يُقدِّره الله سُبحانه له أو عليه، مع التسليم الكامل بأن الله عزَّ وجلَّ يختار للمؤمن ما فيه خيره وصلاحه، حتى ولو بدا غير ذلك.

أعجبني قول أحد العارفين في وصفه (قَدَر الله) كتب يقول: ‏وتظن أنها النهاية، وفجأةً يُصلح الله كل شيء! تظن أن القصة انتهت، ثم يُغيِّر الله كل شيءٍ، ويُعيد ترتيب المَشاهد! في اللحظة التي تشعر فيها أن كل شيءٍ يُعاكس رغباتك تذكر قوله تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾.

 

أحبتي.. قال أحد العُلماء: “لو عَلِم العبد كيف يُدبِّر الله له أموره، لعلم يقيناً أن الله أرحم به من أُمه وأبيه، ولذاب قلبه محبةً لله”. فلنقترب من الله أكثر وأكثر، بالمُحافظة على أداء الفروض والإكثار من النوافل حتى نصل إلى حُب الله ورضاه؛ يقول عزَّ وجلَّ في الحديث القُدسي: {وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ}. ولنُحسن الظن بالله ونُداوم على ذِكره، ونتقرب إليه لننعم بمعيته؛ يقول تعالى في حديثٍ قُدسيٍ آخر: {أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً}.

حفظنا الله من كل مكروهٍ، وكتب لنا جميعاً الخير، من حيث نحتسب ومن حيث لا نحتسب، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.

https://bit.ly/4nE29Qa