خاطرة الجمعة /522
الجمعة 24 أكتوبر 2025م
(حفظ الجميل)
مقطع ڤيديو بعنوان "طبيبةٌ إيرانيةٌ تشكر أباها" انتشر على مواقع
التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، تظهر فيه فتاةٌ تلبس زي التخرج، تقف أمام
جامعة «طهران»، تشكر والدها بطريقةٍ مؤثرةٍ ولافتةٍ؛ لتضحياته لتأمين احتياجاتها
طوال سنوات دراستها فتقول: "يا أبي، انظر إلى ملابسي، أليست جميلة؟ لقد
تخرجتُ اليوم وأصبحتُ طبيبةً، أنت تراني الآن وأنا أرتدي معطف التخرج الذي ذكَّرني
بمعطفك القديم الذي كنتَ ترتديه لمدة 15 عاماً في جميع المُناسبات الهامة بل وفي
حفلات الزفاف أيضاً، وها أنا أرتدي اليوم معطف التخرج بسبب حُبك لي وتضحياتك من أجلي.
هل تتذكر يا أبي عندما كُنتَ تعود من عملك الشاق يومياً فلا تكاد ترتاح قليلاً حتى
تتحامل على نفسك وتذهب لعملٍ إضافيٍ كسائق أُجرةٍ بسيارتك القديمة؟ لم تكن تشتري
لنفسك شيئاً، كُنتَ تهتم باحتياجاتي أكثر مما تهتم باحتياجاتك أنت. كُنتَ تُمسك
أسنانك فجأةً أثناء تناول الطعام، كان لديك ألمٌ في الأسنان تُحاول إخفاءه عني،
لكنك كُنتَ تُفضِّل أن أذهب أنا إلى طبيب الأسنان عندما أشكو من أي ألمٍ ولو كان
قليلاً في أسناني فكُنتَ تُرسلني إلى ذلك الطبيب. هل تتذكر يا أبي كيف كُنتَ
تُحفزني؟ كُنتَ تقول: 'ابنتي، ادرسي جيداً؛ حتى لا تُصبحي مثلي، وتكون حياتك
صعبةً'. أُريد أن أقول لك الآن يا أبي: حُلمي الآن هو أن أكون مثلك؛ في إيثارك
وتضحياتك، وأَعِدَك يا أبي أن أكون مِثْلك في التعامل الإنساني والإحساس بالغير،
وأجعلك فخوراً بي وتقول في نفسك: 'أحسنتِ يا ابنتي'. أتمنى أن أكون عظيمةً ونزيهةً
مِثْلك يا أبي".
كان هذا الڤيديو مثالاً للوفاء و(حفظ الجميل)، وبعد نشره توالت التعليقات
ممن شاهدوه، ومن تلك التعليقات:
"مؤثرةٌ جداً، ووفاؤها لوالدها يُعبِّر عن عظمة التربية والأخلاق
والتماسك الأُسري".
"تستحق الإشادة؛ فما أجمل العطاء لمن يستحقه، ضحى من أجلها صادقاً،
وبذل كل ما في وسعه، واليوم جاء دورها لتشكره وتُثني عليه وتكافئه، مُعتزةً به
وبمبادئه، إنها رائعةٌ حقاً".
"النجاح إن لم يكن بشكر النِعم والمُنعم أولاً فلا طعم له".
"عندما يكون الأب مثالياً وصالحاً، تكون الذُرية صالحةً".
"كلماتٌ مؤثرةٌ؛ خرجت من القلب فوصلت إلى القلب، ما أجمل الصفاء
والنقاء".
"الأب مثل الشمعة؛ تحترق لتضيء لمن حولها، يُضحي دائماً لأجل مُستقبل
أبنائه وكرامتهم، فهنيئاً لها على هذا الوفاء لوالدها".
"كلماتٌ أبكتني، كم أنتَ عظيمٌ أيها الأب، كم تشقى وكم تتعب وكم
تُقاوم وكم تُناضل، ولا تَكِّل أو تَمِّل، الأب هو الشخص الوحيد بالعالم الذي
يتمنى أن يكون أبناؤه أفضل منه في كل شيء".
"رائعٌ، فمِن أعظم النعم -بعد نعمة الإسلام- أن يرزقك الله أبناء
صالحين، يُقدِّرون تضحياتك التي تُبذلها لأجل أن يكونوا ناجحين".
أحبتي في الله.. تلك كانت كلماتٍ صادقةً للتعبير عن الوفاء و(حفظ الجميل)
من ابنةٍ لأبيها؛ تقديراً منها لإيثاره وتضحياته التي كانت سبباً في نجاحها. فهل
الوفاء والشكر قاصران فقط على الآباء؟ بالطبع لا؛ فقد تكون الأُم هي التي قامت بما
لم يقم به أبٌ قصَّر في أداء واجباته فيما يتعلق بتربية أبنائه. وهل يكون الوفاء
والشكر للأب الحقيقي البيولوجي فقط؟ أم يكون للأب الذي اهتم وقام بدوره في التربية
والرعاية حتى ولو كان زوجاً للأُم؟ القصة التالية تُجيب عن هذا السؤال؛ فهذا ابنٌ
وفيٌ كتب يقول:
وُلدتُ في أُسرةٍ غير مُكتملةٍ؛ ما إن تعلمتُ المشي حتى انفصل والداي.
أخذتني أُمي إلى قريةٍ بعيدةٍ في منطقةٍ ريفيةٍ فقيرةٍ. لا أذكر ملامح والدي
بوضوحٍ، لكنني أعلم أن سنواتي الأولى كانت تفتقر إلى الكثير مادياً ومعنوياً.
عندما كنتُ في الرابعة، تزوجت أُمي من رجلٍ يعمل في الفاعل، جاء إلى حياتها
بلا شيءٍ: لا بيت، ولا مال، ليس معه إلا ظهرٌ نحيلٌ، بشرةٌ مُحترقةٌ من الشمس،
ويدان مُتشققتان من الأسمنت. في البداية لم أُحبه: كان يُغادر باكراً ويعود
مُتأخراً، ورائحته دوماً خليطٌ من العَرق وغُبار البناء، لكنه كان أول مَن أصلح
دراجتي القديمة، وأول مَن رتق وخيَّط لي حذائي المُمزق. حين كُنتُ أُحْدِث فوضى لم
يكن يُوبِّخني، وعندما تعرضتُ للتنمر في المدرسة، لم يصرخ في وجهي كما فعلت أُمي؛
بل جاء بهدوءٍ بدراجته القديمة ليُقلّني، وفي طريق العودة لم يقل سوى جملةٍ
واحدةٍ: "لن أُجبرك أن تُناديني بأبي، لكن اِعلم أني سأكون دائماً خلفك إذا
احتجتَ إليّ”. مهما بلغ إرهاقه، لم ينسَ أن يسألني: "كيف كان يومك في
المدرسة؟”. لم يكن مُتعلماً تعليماً عالياً، لكنه كان دائماً يقول لي: “قد لا تكون
الأول في الصف، لكن عليك أن تجتهد؛ أينما ذهبتَ، سيحترمك الناس بعِلمك”. أُمي كانت
فلاحةً، وزوجها عامل بناءٍ، كنا نعيش بدخلٍ ضئيلٍ. وكُنتُ طالباً مُجتهداً، أذكر
حين اجتزتُ امتحان القبول بجامعة «الأزهر»، بكت أُمي؛ بينما سارع زوجها في اليوم
التالي إلى بيع دراجته النارية، وبمساعدة مُدخرات جدتي، تمكن من إرسالي إلى
الجامعة. يوم أوصلني إلى المدينة الجامعية، وقبل أن يُغادر السكن الجامعي، نظر
إليّ وقال: "ابذل جهدك يا ولدي، ادرس جيداً”.
درستُ أربع سنواتٍ في الجامعة، ثم واصلتُ الدراسات العليا، وواصل زوج أُمي
العمل حتى صارت يداه أخشن، وظهره أكثر انحناءً. وعندما عُدتُ يوماً لزيارة أُسرتي
رأيته جالساً عند باب البيت، يلهث بعد يومٍ شاقٍ من رفع الأحمال؛ فانكسر قلبي
وطلبتُ منه أن يرتاح، لكنه قال: “ما زلتُ قادراً، وحين أشعر بالتعب، أُفكر قليلاً
في أني أُربي دكتوراً فأشعر بالفخر والراحة”، ابتسمتُ، ولم أجرؤ أن أُخبره أن
الدكتوراه تعني سنواتٍ أطول من التضحية، لكنه كان في الواقع هو السبب الذي جعلني
لا أستسلم أبداً.
في يوم مُناقشة رسالتي للدكتوراه في كُلية الزراعة جامعة «الأزهر» توسلتُ
له طويلًا حتى وافق على الحضور. استعار بدلةً من ابن عمه، واستعار حذاءً أضيق من
مقاسه بدرجةٍ، وجلس في الصف الأخير من القاعة، يُحاول الجلوس باستقامةٍ، عيناه
مُثبتتان عليّ.
بعد انتهاء المناقشة، جاء الأستاذ الدكتور رئيس لجنة المناقشة ليُصافحني
ويُهنئ عائلتي، وعندما وصل إلى زوج أُمي، توقف فجأةً، نظر إليه عن قُربٍ وابتسم:
“أنت فلان، أليس كذلك؟ لقد كان منزلي بجوار موقع عمارةٍ تحت الإنشاء في «أشمون»،
ما زلتُ أذكرك حين حملتَ زميلك المُصاب لسقوطه من على السقالة، رغم أنك كنتَ
مجروحاً أنت أيضاً.. لقد أنقذتَ حياته، ذلك الرجل كان عمي”. ساد الصمت القاعة. في
لحظةٍ واحدةٍ تلاشت الألقاب والشهادات والدرجات؛ فلم أكن أنا في صدارة المشهد،
وإنما كان زوج أُمي. لم يكن مُجرد عامل بناءٍ، لكن بالنسبة لي -وللكثيرين الذين
مرّوا في طريقه- كان بانياً لأكثر من مُجرد بيوتٍ، لقد بنى الأمان، وبنى الكرامة،
وبنى المستقبل. شهادة الدكتوراه قد تحمل اسمي، لكن كل حرفٍ فيها منقوشٌ بالعَرق
الذي سال من جبينه، وبالشقوق التي حُفرت في كفيه، وبالليالي التي عاد فيها مُرهقاً
ومع ذلك كان يسألني: “كيف كان يومك في المدرسة؟”. الآباء لا يُعرفون بصلة الدم، بل
بالحُب والتربية والتضحية والإيثار، وأحياناً، يكون الرجل الذي تفوح منه رائحة
الأسمنت والغُبار، هو نفسه الذي يحملنا طوال الطريق إلى أحلامنا؛ لقد كان زوج أُمي
يعمل في الفاعل لمدة 25 عاماً، وهو الذي ربّاني حتى أنهيتُ الدكتوراه، ولا أجد
اليوم كلماتٍ تُعبر عن شكري له، وتقديري لتضحياته، وفخري به. أدعو الله سُبحانه
وتعالى أن يُجازيه خير الجزاء، وأن يُكثر من أمثاله.
إن الوفاء و(حفظ الجميل) من أعظم وأشرف ما يتصف به الناس؛ لذا فقد مدح الله
سُبحانه وتعالى الأوفياء؛ يقول تعالى في صفات المتقين: ﴿وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ
وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. ومن باب (حفظ الجميل) وشُكر
الناس أمرنا الله أن نُحسن إلى عباده كما أحسنوا إلينا؛ فالجزاء من جنس العمل؛
يقول تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿هَلْ
جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.
وها هو رسول الله يُخبرنا أن نشكر من قدَّم لنا معروفاً وأن نُجزل له
الثناء؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [لاَ يَشْكُر اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُر النَّاسَ]،
ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ،
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ
كَافَأْتُمُوهُ].
وأَية مشاعر أرق من الشعور بالوفاء، وأيُّ فضلٍ -بعد فضل الله- أحق من
الاعتراف بالفضل، وشُكر أصحابه، و(حفظ الجميل) لهم.
ومع أهمية الوفاء للأُم وشُكرها وتقدير كل ما تقوم به لأبنائها، فإن مِن
الآباء مَن يستحقون من الأبناء الوفاء والشكر والتقدير.
وعن الأب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ،
فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه]، "أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ" أي:
خير أبواب الجنة أو أحسنها، "فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه"، يقول
شُرَّاح الحديث: ليس المُراد التخيير بين الأمرين، بل المُراد التوبيخ على ترك هذا
الباب، فكأنه يقول إنها الغنيمة العظيمة؛ فاستثمر غنيمتك، أو أضِعها.
كما يقول عليه الصلاة والسلام: [لا يَجزِي ولدٌ والِدَه، إلا أن يجدَه
مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه]، "لا يَجزِي" أي: لا يُكافئ ويُساوي،
"ولدٌ والِدَه"؛ بما قدَّم إليه من تربيةٍ ورعايةٍ وإحسانٍ، وكونه سبباً
في وجوده، "إلا أنْ يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه"، أي: أن تلك هي
الحالة الوحيدة ليُكافأ بها على ما قدَّمه له، وهو أن يجعله حُراً إن كان مملوكاً.
وقال صلى الله عليه وسلم لرجلٍ اشتكى له أنَّ أباه اجتاحَ ماله: [أنتَ
ومالُكَ لأبيكَ] على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من
مال نفسه، وليس المُراد بالحديث إباحة مال الابن على إطلاقه للأب أن يأخذ منه ما
يشاء.
وعن (حفظ الجميل) قال الشاعر:
وَمَنْ يَسْدِ مَعْروفاً إلَيْكَ فُكُنْ لَهُ
شَكوراً يَكُنْ مَعْروفُهُ غَيْرَ ضائِعِ
أحبتي.. قيل إن الوفاء عملةٌ نادرةٌ، والقلوب هي المصارف، وقليلةٌ هي
المصارف التي تتعامل بهذا النوع من العُملات.
وأقول إن (حفظ الجميل) خُلُقٌ أصيل، لا ينتبه إليه إلا القليل، رغم أنه
أمرٌ فضيل، وعملٌ جليل، النفوس إليه تميل.
فلنحرص على أن نكون أوفياء لكل من كانت له أيادٍ بيضاء علينا، سواءً كانوا
والدينا، أو مُعلمينا أو شيوخنا، أو غيرهم ممن تفضلوا علينا بمعروفٍ، وأسدوا لنا
خيراً دون انتظار أي مُقابل. ولنقدِّم لهؤلاء الشُكر والتقدير والثناء؛ عرفاناً
منا بجميلهم.
اللهم اغفر لمن أحسن إلينا، واجزه خير الجزاء، واهدنا لنكون من الأوفياء
الشاكرين.
https://bit.ly/4nw7ysg