الجمعة، 22 أغسطس 2025

أُمك ثم أُمك ثم أُمك

 

 خاطرة الجمعة /513

الجمعة 22 أغسطس 2025م

(أُمك ثم أُمك ثم أُمك)

 

يحكي أحدهم عن موقفٍ حدث بينه وبين أُمه فقال:

حدث خلافٌ بيني وبين أُمي وصل إلى عُلو الأصوات، كانت بين يديّ بعض الأوراق الدراسية رميتها على المكتب وذهبتُ إلى سريري، والهموم واللهِ تغشى قلبي وعقلي، وضعتُ رأسي على الوسادة كعادتي كلما أثقلتني الهُموم؛ حيث أجد أن النوم خير مفرٍ منها.

في صباح اليوم التالي -وكانت أُمي لا تزال نائمةً- توجهتُ إلى الجامعة، أخرجتُ هاتفي المحمول وأنا على بوابة الجامعة وكتبتُ رسالةً أُداعب بها قلب أُمي الحنون؛ فكان مما كتبتُ: "عَلِمتُ للتو أن باطن قدم الإنسان يكون أكثر ليونةً ونعومةً من ظاهرها يا غالية؛ فهل يأذن لي قدمُكم، ويسمح لي كبرياؤكم بأن أتأكد من صحة هذه المقولة بشفتيّ؟". أدخلتُ هاتفي في جيبي وأكملتُ يومي بالجامعة، ولمّا عدتُ إلى البيت وفتحتُ الباب وجدتُ أُمي تنتظرني في الصالة وهي بين دموعٍ وفرحٍ، قالت لي: "لا، لن أسمح لك بذلك؛ لأنني متأكدةٌ من صحة هذه المقولة؛ فقد تأكدتُ من ذلك عندما كنتُ أُقبِّل قدميك ظاهراً وباطناً

وقت أن كنتَ صغيراً". لا أذكر سوى دموعي وهي تتساقط، وأنا أُقبِّل رأس أُمي وألثم يديها، وأعتذر لها، وأطلب منها السماح والصفح.

 

أحبتي في الله.. تعليقاً على هذا الموقف، كتب الشاب الذي نشره في نهاية منشوره يقول:

سيرحلون يوماً بأمر ربنا؛ فَتقربوا إليهن قبل أن تفقدوهن، وتذكروا وصية نبينا الكريم u (أُمك ثم أُمك ثم أُمك)، وإن كُنَّ قد رحلن فترحموا عليهن وادعوا لهن.

ذَكَّرني هذا الموقف بموقفٍ حدث بين شابٍ آخر وأُمه، وإن كانت نهاية الموقف مُختلفةً؛ إذ سقط كوب الحليب من يد الأُم وانكسر، فصرخ ابنها في وجهها، ثم ترك البيت وخرج غاضباً؛ ناسياً وصية النبي صلى الله عليه وسلم بحُسن صحبة الأُم حين قال: (أُمك ثم أُمك ثم أُمك). جلست الأُم على مقعدها حزينةً مكسورة الخاطر، وكتبت رسالةً لابنها. عندما عاد ابنها وجدها نائمةً على مقعدها كالعادة، وفي حجرها رسالةٌ، أخذ الرسالة وقرأها، فوجد فيها ما يلي:

ابني وحبيبي وقُرة عيني: أنا آسفةٌ؛ فقد أصبحتُ عجوزاً، ترتعش يداي فيسقط طعامي على صدري، ولم أعد أنيقةً جميلةً طيبةَ الرائحة؛ فلا تلمني. وأنا لا أقوى على لبس ملابسي وحذائي؛ فساعدني. وﻻ تحملني قدماي إلى الحمام؛ فأمسك بيديّ. تذكر كم أخذتُ بيدك كي تستطيع أن تمشي. لا تضجر من ضعف ذاكرتي، وبُطء كلماتي؛ فسعادتي اﻵن تكمن فقط في أن أكون معك. ضحكاتك كانت تُفرحني عندما كنتَ صغيراً فلا تحرمني من ابتسامتك اﻵن. لقد كنتُ معك حين ولدتك، فكُن معي حين أموت، فأنا ببساطةٍ أنتظر الموت!

مسح الابن دموعه في طرف ثوب أُمه وأخذ يُقبِّل يديها ويقول لها: "سامحيني"، لكن يديها كانتا باردتين كالثلج، أدرك وقتها أنه قد فات أوان الاعتذار، وأُجهش بالبكاء، شاعراً بالحسرة والندم، أن ماتت أُمه قبل أن يعتذر لها ويطلب رضاها.

 

وهذا شابٌ ثالثٌ، يصف علاقته بأُمه في سؤالٍ أرسله إلى أحد المواقع الإسلامية يطلب النصيحة، قال في سؤاله:

أُمي كبيرةٌ في السن، وهي عصبيةٌ، وفي نفس الوقت هي من النساء التي تُصر على رأيها حتى لو كان غير صحيحٍ، وأنا -يعلم اللهُ- أني أُريد رضاها، وكم من مرةٍ أُحاول حتى ترضى التزاماً مني بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أُمك ثم أُمك ثم أُمك)، ثم لا نتفق في نقطةٍ أُخرى أو لا نتفاهم، مع العلم بأني عصبيٌ جداً -وهي تعلم ذلك- ومع ذلك تستفزني دائماً، وأنا أُحاول تجنبها، وهي دائماً ما تربط بين طلباتها ورضاها عني؛ فتقول لي "برضاي عليك افعل كذا" حتى لو كان خطأً، فإن فعلتُ فهي راضيةٌ عني، وإن لم أفعل فأنا مغضوبٌ عليّ. يعلم اللهُ أني احترتُ كيف أُرضيها، أفيدوني ماذا أفعل؟

وكان مما أجاب به المسئول عن ذلك الموقع قوله:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلعل من المُناسب أن نُذَكِّر الأخ ببعض ما جاء في فضل بِر الوالدين، والأُم على وجه الخصوص، لا سيما عند كِبَرها، لعلَّ في ذلك ما يُعينه على بِرها واحتساب الأجر على ما يُلاقيه من تعبٍ ومشقةٍ في هذا السبيل، من هذه النصوص؛ قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ]، قيل: من يا رسول الله؟ قال: [مَنْ أدركَ أبويه عِندَ الكِبَر: أحدُهما أو كليهما فَلَم يَدْخُل الجَنّة]. وحين جاء إليه رجلٌ يستأذنه في الجهاد، قال له صلى الله عليه وسلم: [أحيٌ والداك؟] قال: نعم، قال: [ففيهما فَجاهِد]. وهذا آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردتُ أن أغزو، وقد جئتُ أستشيرك؟ فقال: [هَل لكَ أُمٌ؟] قال: نعم، قال: [فالزَمْها فإن الجَنّةَ تَحْتَ رِجْليها]، وفي روايةٍ أُخرى قال: [وَيْحَك، أحيةٌ أُمُك؟] قال: نعم يا رسول الله، قال: [وَيْحَك، الْزَم رِجْلَها فَثَمَّ الجَنّة]، قال شُرّاح هذا الحديث إن التواضع للأُمهات سببٌ لدخول الجنة.

هذه الآيات والأحاديث، وكلام العُلماء يُبين ما للأُم من حقٍ على أولادها أوجبه الله ورسوله، ثم إنّ لها فضلاً، مهما فعلتَ فلن توفيها حقها أو تجزيها جزاءً يُقابل أفضالها وإحسانها؛ فهي التي قاست أشهر الحمل، وعانت آلام الولادة، وسهرت، وأرضعت، وربَّت، وتحملت الكثير والكثير من أجلِك، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فنوصيك بالصبر الجميل على بِرها والإحسان إليها. مع العلم بأن الطاعة إنما تكون في المعروف، وفيما أحلَّ الله وأباح، أما إذا كان الأمر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، مع لزوم المُصاحبة بالمعروف، وفقنا الله وإياكَ لبِر أُمهاتنا وآبائنا.

 

يقول الشاعر:

أَوْجَبُ الواجِباتِ إِكْرامُ أُمي

إِنَّ أُمي أَحَقُ بِالإكْرامِ

حَمَلَتْني ثقلاً وَمِنْ بَعْد حَمْلي

أَرْضَعَتْني إلَى أَوانِ فِطامي

وَرَعَتْني في ظُلْمَةِ اللَيلِ حَتى

تَرَكَتْ نَوْمَها لِأَجْلِ مَنامي

وَبِلُطْفٍ تَعَهَدَّتْني إِلَى أَنْ

زالَ ضَعْفي وَاشْتَدَ لينُ عِظامي

عَنيَتْ بي عِنايةً وَاستَمَرَتْ

بِشَرابي مُهْتَمَةً وَطَعامي

فَلَها الحَمْدُ بَعْدَ حَمْدي إلَهي

وَلَها الشُكْرُ في مَدَى الأيامِ

 

أحبتي.. ربما تكون بعض تلك القصص صحيحةً، وربما كانت غير صحيحةٍ، لكن ما بها من أحداثٍ يتكرر-للأسف- في مُجتمعاتنا الإسلامية؛ فكم من عاقٍ ضرب أُمه، وكم من عاقٍ جرح أُمه بكلمةٍ، وكم من عاقٍ طرد أُمه من المنزل إرضاءً لزوجته، إن من يزور دور رعاية كبار السن يجد بها أُمهاتٍ أصبح مصيرهن فيتلك الدُور بسبب ابنٍ عاق، خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جَاءَه رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: [أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أبُوكَ]؛ فأحسِن صحبة أُمك، لا تكسر قلبها بكلمةٍ، ولا تجرحه بإهمالٍ أو استهزاء. ابتسم لها دائماً، اتصل بها يومياً إن كنتَ بعيداً عنها، اطلب منها المشورة، ولا تُبالغ في عرض مشاكلك عليها فيُصيبها الحُزن والهم، وطمئنها فور حل تلك المشاكل كي تسعد، تحسس احتياجاتها ولبي طلباتها قبل أن تطلبها، فاجئها ببعض الهدايا التي تُفرحها حتى ولو تمنعت، استمع لها حتى ولو كان كلامها مُكرراً، قبِّل رأسها ويديها؛ فالجنة تحت أقدامها.

 

اللهم احفظ أُمهاتنا وأَطِل في أعمارهن، واجعلنا قُرة عينٍ لهن، وسبباً في سعادتهن.

أما من تُوفيت أُمه؛ فعليه أن يتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ شيءٌ أَبَرُّهما به بعد موتِهما؟ قال: [نَعَم، الصَلاةُ عَلَيهِما، وَالاسْتِغَفارُ لَهُما، وَإنْفاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلَّا بِهِما، وَإكْرامُ صَديقِهِما].

اللهم اجعلنا من البارين بأُمهاتنا أحياءً كُنَّ أو أمواتاً، واجعلنا نتذكر دائماً وصية نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- حينما قال: (أُمك ثم أُمك ثم أُمك).

https://bit.ly/41jzabF

الجمعة، 15 أغسطس 2025

إنها صلاة الفجر

 

خاطرة الجمعة /512

الجمعة 15 أغسطس 2025م

(إنها صلاة الفجر)

         

قصةٌ واقعيةٌ هي من أعجب ما قرأتُ، نشرها صاحبها بعنوان "أنا والفَجر"، كتب يقول:

يا إلهي، إلى متى سوف أبقى مُقصِّراً في صلاة الفجر؟! يوماً حاضراً وعشرة أيامٍ قضاءً، يوماً في المسجد ومائة يومٍ في البيت، متى سيُصلح الله حالي؟! ولأنه كما يُقال: "ما خاب مَن استشار"؛ فقد سألتُ وسألتُ، وكانت خلاصة التوصيات كما يلي:

-"الدعاء؛ فأنت بالله قويٌّ وبنفسك ضعيفٌ؛ فاسألِ اللهَ العونَ". 

-"النوم مبكِّرًا؛ فقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلَّم يَكره النومَ قبل العشاء، والسمرَ بعدها". 

-"لا تَنَم خلال النهار؛ حتى لا تُصاب بالقلق عند النوم، ولِتجد الرغبة الشديدة فيه مُباشرةً بعد صلاة العشاء".  

-"استخدِمْ مُنبهاً؛ حتى يُعينك على الاستيقاظ". 

-"لا تنم إلا على طُهور".

-"لا نوم بعد صلاة الفجر؛ فهو وقت خيرٍ وبركةٍ ورزق". 

وبدأتُ أعمل بالتوصيات. لم أشعر بالنُّعاس في أول يومٍ، لكن ظللتُ راقداً؛ حتى تعتاد نفسي الأمر، ولم أنم بعد الفجر ولا أثناء النهار، وبالكاد استطعتُ أن أبقى مُستيقظاً حتى صلاة العشاء، وبمُجرد انتهائي من الصلاة، كان أجمل شيءٍ في الدُنيا هي الوسادة، وذهبتُ في نومٍ عميقٍ لم أستيقظ منه إلا في التاسعة صباحاً. يا إلهي! ألم يعمل المُنبه؟! بلى، عَمِل لكني لم أسمعه؛ فقد رُزقتُ نوماً ثقيلاً. شكوتُ للناصحين ما حدث معي؛ فنصحني أحدُهم بزيادة عدد المُنبهات إلى اثنين، والتنويع في أنواعها، وكانت النتيجة: الاستيقاظ في العاشرة صباحاً! شكوتُ للناصحين ثانيةً؛ فقال أحدهم: "سأرن جرس شقتك"، قُلتُ: "أنا في الطابق الثاني، وباب العمارة مُغلقٌ، فأنَّى لك الولوج؟!" قال: "اترك بابَ العمارة مفتوحاً، وسأصعد بعد أذان الفجر، وأرن جرس شقتك وأُوقظك"، عاتبتُه في الصباح: "لماذا لم ترِن؟" قال مُتعجباً: "أنا لم أرِن؟! رننتُ الجرس ورننتُ ورننتُ، حتى حان وقت إقامة الصلاة ولم تستيقظ؛ فذهبتُ إلى المسجد حتى لا تفوتني الصلاة" قلتُ له: "واللهِ ما شعرتُ بشيء". 

شكوتُ للناصحين مرةً أُخرى؛ فقال أحدُهم: "اربط رِجلَك بحبلٍ، ودَلِّه لي من النافذة، وسأسحب الحبل لإيقاظك". نعم، لقد استيقظتُ للصلاة -بحمد الله- ثلاثة أيامٍ، لكن في اليوم الرابع عاتبتُه: "لماذا لم توقظني للصلاة؟" قال: "حسبتك قد فارقتَ الحياة، فقد سحبتُ الحبل وسحبتُ وسحبتُ، حتى ظننتُك ميتاً"، قلتُ: "واللهِ ما شعرتُ بشيء". 

خطرت ببالي فكرةٌ غريبةٌ، ذهبتُ لمهندسٍ كهربائيٍ وقلتُ له: "هذا جرسٌ بحجم جرس المدرسة، أريدك أن تصِلَهُ بالمُنبِّه ليرن بدلاً من جرس المُنبه"، وبالفعل أجابني لمَا طلبتُ، وصنع لي دائرةً كهربائيةً خاصةً بذلك، وأصبح جرس المدرسة يرنّ بدلاً من المُنبه، ويتوقف بإيقاف المُنبِّه، ولا أُخفِي عليكم شدةَ الفزع الذي أصابني لمّا رنَّ جرسُ المدرسة لأول مرةٍ، وكيف سارعتُ إلى إغلاقه، لقد استمرَّ قلبي يخفق لعشرة دقائق مُتواصلةٍ بسرعةٍ كبيرةٍ من شدة الفزع، وبحمد الله عشرة أيامٍ مُتواصلةٍ لم تفُتْني صلاةُ الفجر جماعةً في المسجد، حتى جاء اليوم الحادي عشر، حيث استيقظتُ في الثامنة صباحاً؛ قلتُ في نفسي: "لا حول ولا قوة إلا بالله، هل نسيتُ ضبط المُنبه أمس؟"؛ لكن عندما نظرتُ إلى المُنبه، وجدتُ جرس المدرسة مُتفحماً "يا الله! ما الذي حدث؟!"، وبمُجرَّد خُروجي من العمارة، وجدتُ الجيران بانتظاري، كُلهم يشكو لي ما أصابهم وعيالَهم مِن فزعٍ؛ بسبب مُنبِّه المدرسة، الذي بقي يرنّ ويرنّ، والجيران يطرقون باب المنزل، وأنا نائمٌ، ولا حياة لمن تُنادي، واللهِ ما سمعتُ صوتاً، ولا شعرتُ بشيءٍ مِن حولي! قال لي الجميع: "إنك معذورٌ؛ فأنتَ قد ابتلاك الله بهذا النوم العميق، وأنت حالةٌ نادرةٌ لا علاج لها". 

لكني أُحبُّ صلاة الفجر، ويعزّ عليَّ أن أُصلّيها قضاءً، وكيف يُصلي إخواني في المسجد، وأُصلي في البيت كما النساء؟! لا، لا عذر لي، فما العمل؟ ذهبتُ إلى المسجد، صلّيتُ العِشاء، وبعد فراغ الناس وانصرافهم، شاغلتُ المؤذِّن قبل إغلاقه للباب الخلفي، ودخلتُ وبِتُّ في المسجد، فوجئ بي عند أذان الفجر، وسألني: "كيف دخلتَ؟!" وزجرني عن فعل ذلك ثانيةً. قلتُ: "سأبيتُ، لا حل لمُشكلتي سوى ذلك"، رفض رفضاً صارماً. جاء اليوم التالي، أخرَجَ المؤذن الجميع بعد صلاة العشاء، وكان حريصاً على إخراجي، قُلتُ له: "سأبيتُ عند باب المسجد من الخارج"، وبالفعل لمّا اكتسى الليل بالسواد، وخلَتِ الشوارع من المارة، أخذتُ وسادتي وغطائي، وذهبتُ إلى الباب الخلفي وبِتُ عنده. أيقظني المؤذن قُبيل أذان الفجر وقال لي: "فعلتَها؟" قُلتُ: "نعم، إن لم تسمح لي بالنوم في الداخل، سأنام في الخارج". واستمرَّ الحالُ ثلاثة أيامٍ، حتى شعر بصدق حالي، فأعطاني نسخةً من مفتاح المسجد، وسمح لي بالمبيت داخله، لم تفُتْني تكبيرةُ الإحرام خلال خمس سنواتٍ، بحمد الله. 

هل انتهى الأمر؟ كلاَّ، ابتلاءٌ جديدٌ؛ فقد تزوَّجتُ! قُلتُ لزوجتي: "نومي ثقيلٌ، فعليكِ الاعتمادُ بعد الله -عزَّ وجلَّ- في إيقاظي لصلاة الفجر". قالت: "لا تعتمد عليَّ؛ فإني أستيقظ أحياناً، وأحياناً أُخرى لا أستيقظ؛ فالحال بعضه من بعض"، سألتها: "فما العمل؟ أنا لا أستطيع الآن المبيت في المسجد"، قالت: "لا أدري". حزنتُ حُزناً شديداً، ما العمل؟ تذكرتُ قولهم: "معذورٌ؛ فأنتَ قد ابتلاك الله بهذا النوم العميق، وأنت حالةٌ نادرةٌ لا علاج لها". قُلتُ: "كلاَّ، يا زوجتي، يا حبيبتي، أمامك خياران؛ فأنت لستِ أغلى عليَّ من ديني: أن أُطلِّقك وأعود للمبيت بالمسجد، أو أن نتقاسم الليل؛ تسهرين إلى مُنتصف الليل وأنامه، ثم توقظينني وتنامين، فإن أذَّن الفجر أيقظتكِ، تُصلين في البيت وأُصلي في المسجد"، فاختارت زوجتي الخيار الثاني؛ فكسبنا كلَّ يومٍ قيامَ الليل في الثُلث الأخير، ولم تَفُتْنا صلاةُ فجرٍ أبداً، وصِرنا قُدوةً حسنةً لأبنائنا، وأسأله -سُبحانه وتعالى- أن يغفر لنا تقصيرنا، ويقبل صلاتنا، وأن يُدخلنا الجنة من باب الصلاة.

 

أحبتي في الله.. لا أدري؛ أهذه القصة هي الأعجب أم تلك التي سبق ونشرتها في "خاطرة الجمعة" رقم 375 المنشورة قبل حوالي ثلاث سنواتٍ، بعنوان "الصلاة خيرٌ من النوم"، وأُلخصها فيما يلي:

مجموعةٌ من جُنود الكتيبة الصينية المُشارِكة في حرب الخليج عام 1991م اعتنقوا الإسلام، وبدأوا في أداء الصلوات في أوقاتها، بعيداً عن قادتهم، لكن المشكلة واجهتهم في صلاة الفجر؛ فعندما علم قادتهم بتجمعهم في خيمةٍ واحدةٍ ليتناوبوا السهر كي لا تفوتهم صلاة الفجر فرَّقوهم بين الخيام، فأخذ كلٌ منهم ساعته المُنبهة معه، لكنها صودرت منهم، وكلما وجدوا طريقةً للاستيقاظ قُبيل الفجر لأداء الصلاة في وقتها حاربهم هؤلاء القادة وسدوا عليهم المنافذ والأبواب، وفجأةً توصلوا لطريقةٍ مُبتكرةٍ للاستيقاظ! اتفقوا على أن يشرب كل واحدٍ منهم كمياتٍ كبيرةٍ من الماء قُبيل النوم لكي يستيقظ للذهاب للخلاء، ومن ثَمَّ ينظر إلى ساعته ويعلم كم بقي من الزمن لصلاة الفجر، فإن قارب الوقت انتظر وصلى، وإلا شرب كميةً أُخرى من الماء. ومع تكرار التجربة مِراراً قدَّرَ كُل واحدٍ منهم الكمية المُناسبة التي يشربها من الماء وتجعله يستيقظ في وقتٍ مناسبٍ لصلاة الفجر!

 

وليس بعيداً عما نتحدث عنه ما اطلعتُ عليه من شكوى أحسب أنها من أغرب الشكاوى؛ تقول الشاكية:

نحن خمس شقيقاتٍ، أنا أكثرهن غِنىً، لكن لا أدري لماذا يأتي أقاربي لزيارة أخواتي بكثرةٍ، وحينما يأتي موعد زيارتي لا يأتي سوى القليل منهم؟ فهم يزورون أخواتي الأربع كل يومٍ، أما أنا فلا أكاد أرى إلا القِلة منهم؛ فهم مُقصرون جداً في زيارتي، بل وينقطعون عن زيارتي أياماً عدة، ورُبما أسابيع وشهور، حتى أن بعضهم لا أكاد أراه مُطلقاً وكأنني سقطتُ من اهتمامهم. بعض من يأتي منهم لزيارتي يأتي وبه كسلٌ وخمولٌ غريبٌ! أما من هو مُصرٌ على عدم زيارتي فإنه يُقدِّم أعذاراً غير مقبولةٍ مُطلقاً.. ماذا أفعل؟! أنا أكثر أخواتي عطاءً لمن يأتيني، لا أتهم أخواتي بالتقصير أبداً.. ولكن الكُل يعرف أني الأكثر عطاءً.. كثيرون ينصحون أقاربي بأن يأتونني؛ فلديّ خيرٌ كثيرٌ، وأُعطي بكرمٍ من يأتيني، ومع ذلك يبتعدون عني.. وكأن لا حياة لمن تُنادي.. ما المشكلة؟! لماذا هذا الهجران؟! ألستُ واحدةً من خمس أخواتٍ؟!! لماذا يحرمونني أُنسهم؟! لماذا ينسونني؟!

هل تعلمون أحبتي في الله من هي صاحبة الشكوى؟! إنها الغالية صلاة الفجر. 

نعم (إنها صلاة الفجر)، التي يقول عنها العارفون إنّ مَن لم يجعلها ‌هدفاً أولياً يبدأ بها يومه فلا خير في نومه، ولا خير في يومه؛ إنها الوحيدة التي يُقال في أذانها "الصلاة خيرٌ من النوم"؛ ذلك أن النوم استجابةٌ لنداء النفس، والصلاة استجابةٌ لنداء الله تعالى، هي خيرٌ من النوم؛ لأن النوم موتٌ والصلاة حياة، هي خيرٌ من النوم؛ لأن النوم راحةٌ للبدن، والصلاة راحةٌ للروح، هي خيرٌ من النوم؛ لأن المؤمن والكافر يشتركان في النوم، والصلاة لا يُصليها إلا المؤمن.

 

(إنها صلاة الفجر) قيل عنها إن هواءها نقيٌ، وصلاتها براءةٌ من النفاق، هي يقظة قلبٍ ذاق أسرار الحياة، وراحة روحٍ عرفت الطريق إلى الله، سجداتها تُسقط هموماً تراكمت على أكتافنا، وتُريح قلوباً تضجّرت بالألم والحزن؛ فلا نبالغ إذا قُلنا إن صلاة الفجر جنّة الدُنيا وسعادتها. 

 

ما أجمل الفجر؛ قُرآنه مشهودٌ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾. وسُنته [خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَما فِيهَا] كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وفريضته مَن صلّاها [فَهو في ذِمَّةِ اللهِ] كما قال عليه الصلاة والسلام، وله بشائر أُخرى كثيرةٌ أخبرنا بها المُصطفى صلى الله عليه وسلم، منها: [بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، و[لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا]، و[مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ]، و[مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ، صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ، وَصَلاَتُهُمْ عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ]، و[مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ الفجر فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ]، ولا يُضيِّع كُل هذه الأُجور عاقلٌ؛ فمن باب المنطق والمصلحة -كما قال أحد الصالحين- لو أن أحداً قال لك إن مَلِكاً من ملوك الدنيا ينتظرك الساعة الرابعة فجراً كيف سيكون شعورك؟ وهذا مَلِكٌ من ملوك الدُنيا بَشَرٌ مثلك، فكيف بملِك الملوك [يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟] كما أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، هل ستنام عن هذا الموعد؟ بالطبع لا. ولو أن لديك سفرةً بالطائرة موعدها الساعة الرابعة فجراً، هل ستنام عن هذا الموعد؟ بالطبع لا. بل لو قالوا لك أن من يُصلي الفجر في المسجد يحصل على ألف ريالٍ تُسلم له وهو خارجٌ من باب المسجد هل كُنتَ تفوِّت هذه الفُرصة، وتنام عن هذه الفريضة؟ بالطبع لا.

ومن باب الذكاء والفطنة وحُسن الاختيار -والمؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ- أن يُبعِد المُسلم عن نفسه شُبهة النفاق؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا، وَلقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فيُصَلِّيَ بالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي برِجَالٍ معهُمْ حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ بالنَّارِ].

 

(إنها صلاة الفجر) قيل عنها شعراً:

صَلاةُ الفجْرِ عُنوانُ الفَلاحِ

ومِفْتاحُ السَّعادَةِ، والنَّجَاحِ

إذا نَادَى المؤَذِّنُ، أوْ تَناهَى

إلَى أذْنيَّ "حَيَّ عَلى الفَلاحِ"

تَعَوَّدْتُ البُكورَ بِكلِّ حَزْمٍ

وأسْرَعْتُ الخُطَى قبْلَ الصَّبَاحِ

سَألتُ اللهَ أنوَارًا، وهَدْيًا

وتَوفِيقًا إلى سُبُلِ الصَّلاحِ

ألَا يَا مَسْجدِي يمَّمْتُ وَجْهي

إلَيكَ، وفِيكَ أبوابُ انشِرَاحِي

وَعِنْدَ الفَجْرِ يملَؤني شُعُورٌ

بأنَّكَ رَاحَتِي، كُلُّ ارتيَاحِي

هُدُوءُ الكَونِ، والظَّلْماءُ حَوْلي

وحُبُّ اللهِ يخفُقُ في جَنَاحِي

تسَابيحٌ إذَا أوقَدْتُ منهَا

سَرَى دِفْءٌ إلى كلِّ النَّواحِي

وَحِينَ أُقِيمُ وجْهي في صَلَاتي

وقدْ فكَّرتُ في الآيِ المِلاحِ

أعودُ، وقدْ سَكَبتُ على الحنايَا

سُرورَ الرُّوحِ يسْرِي في اندِياحِ

نداءُ الفجْرِ أَبدَلني بِنَومِي

حَياةَ الرُّوحِ يعبقُ للرّوَاحِ

فيا ربي أدِمْ راحَاتِ قلبي

على الطاعَاتِ، واختمْ بالنجَاحِ

 

أحبتي.. إن أهل الفجر -كما يوصفون- فئةٌ مُوفقةٌ، وجوههم مُسفِرةٌ، وجباههم مُشرِقةٌ، وأوقاتهم مُبارَكةٌ، فإن كنتَ واحداً منهم فاحمد الله أن هداك لهذا، ومَنَّ عليك بهذه النعمة، وادعوه أن يُثبِّتك عليها ولا يحرمك منها، وإن لم تكن منهم فاضرع إلى الله بالدُعاء أن يجعلك منهم، وخُذ بالأسباب، خاصةً أسباب الاستيقاظ قُبيل صلاة الفجر.

اللهم اجعلنا ممن قُلتَ فيهم: ‏﴿وَالذين هُمْ عَلَىٰ صَلَواتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، واجعلنا اللهم من أهل صلاة الفجر على وقتها، مع جماعة المُسلمين في بيتٍ من بيوتك، حُباً وليس فرضاً، وثبِّتنا على أدائها على الوجه الذي يُرضيك عنا. اللهم لا تحرمنا لذة الوقوف بين يديك في كل صلاةٍ، واجعل صلاة الفجر أحب لنا من الدُنيا وما فيها، واجعلها شاهدةً لنا لا علينا، واجعلنا نرتاح بها وليس منها، إنك -سُبحانك- على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3HxJpCx

الجمعة، 8 أغسطس 2025

اليقين بالله

 

خاطرة الجمعة /511

الجمعة 8 أغسطس 2025م

(اليقين بالله)

 

قصة هذا الأسبوع قصةٌ واقعيةٌ كتبها صاحبها بالعامية المصرية، ونشرها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، اطلعتُ عليها، وأعجبتني؛ فقمتُ بإعادة صياغتها بلغةٍ عربيةٍ فصحى سهلةٍ. إليكم القصة على لسان صاحبها:

في طريق عودتي من مدينة «الإسماعيلية»، وبينما تلفح رياح السفر وجهي، توقفتُ عند بوابة تحصيل الرسوم، مددتُ يدي إلى جيبي لأكتشف أن كُل ما أملكه من مالٍ نقديٍ هو ورقةٌ ماليةٌ باليةٌ من فئة العشرين جُنيهاً، وقد نال منها الزمن حتى بدت ممزقة الأطراف، قدمتها للعامل عند البوابة، فرمقها بنظرةٍ رافضةٍ وقال إنها لا تصلح، أخبرته بأسفٍ: “واللهِ لا أملك غيرها”، نظر إليّ الرجل نظرة تفهُّمٍ، ولوَّح بيده قائلاً: “لا بأس، امضِ في طريقك، ولكن لي عندك رجاء… خُذ هذه السيدة معك، وأوصلها إلى مُستشفى العيون في «القاهرة»، وهي ستدلك على العنوان، واعلم أنها شبه كفيفةٍ، فكُن لها عوناً”، التفتُّ لأرى امرأةً وقوراً تقف على استحياءٍ، يبدو على وجهها أثر الزمن وصبر السنين، أومأتُ لها أن تفضلي بالركوب، فركبت بجانبي في صمت. انطلقنا، وبدأت تروي حكايتها عندما سألتُها مُتعجباً: “كيف وصلتِ إلى هنا وأنتِ بهذه الحال؟”، أجابت بصوتٍ خفيضٍ يملأه الرضا: “أُعاني من مياهٍ زرقاء في عينيّ كادت تسرق مني نورهما. قصدتُ مُستشفى العيون في «القاهرة» بحثاً عن بصيص أملٍ في العلاج، استقللتُ حافلةً صغيرةً، لكنها تعطلت فجأةً عند هذه البوابة، فتفرق الرُكاب كلٌّ إلى سبيله، وساقني أهل الخير إليك”.

تملكني شعورٌ بالشفقة، وسألتها بقلقٍ: “وكيف ستعودين؟”، ردت بيقينٍ راسخٍ كالجبال: “لا تقلق، فالذي دبَّر لي لقاءك، قادرٌ على أن يُدبِّر لي طريق العودة”، هززتُ رأسي مُوافقاً، لكنني استدركتُ قائلاً: “نعم، ولكن الحياة ليست بهذه السهولة دائماً”، ابتسمت ابتسامةً هادئةً أضاءت وجهها المُتعَب وقالت: “بل الحياة سهلةٌ جداً لمن يكون يقينه بالله قوياً؛ فيتوكل عليه حق التوكل”. وصلنا إلى المُستشفى، وعندما هممتُ بمُساعدتها على النزول، رأيتُ مشهداً عجيباً؛ فقد كان هناك مُمرِضٌ يقف عند الباب وكأنه ينتظرها هي بالذات، فاستقبلها مني بحفاوةٍ وأخذ بيدها وأجلسها على مقعدٍ مُتحركٍ. شعرتُ أن قلبي يتمزق من أجلها؛ فقررتُ في نفسي أن أنتظرها، فكيف أتركها تائهةً في مدينةٍ كبيرةٍ لا ترحم، وهي بالكاد تُبصر طريقها بصعوبةٍ بالغة؟ صعدتُ خلفها، ورأيتُ المُمرِض يُجلسها على مقعدٍ عاديٍ ثم ينصرف. جلستُ بعيداً أُراقبها، فسمعتها تهمس بدعاءٍ خاشعٍ يهز الوجدان: “يا رب، سهّلها من عندك.. يا رب، هوِّنها.. يا رب، يسِّرها برحمتك.. يا رب افرجها فليس لي سواك أتوكل عليه”. وظلَّت تُردد هذه الكلمات تُناجي بها الله سُبحانه وتعالى. بعد فترةٍ وجيزةٍ جاءت مُمرِضةٌ واقتادتها إلى غُرفة الطبيب، وبعد أن أتمت الكشف، أعادتها المُمرِضة إلى المقعد ذاته، اقتربتُ منها وسألتها: “طمنيني، ما الأخبار؟”، ابتسمت وقالت: “ألم تُغادر بعد؟”، قلتُ: “آثرتُ أن أنتظرك لأُعيدك إلى محطة الحافلات”، ضحكت وقالت: “هيا بنا إذن”. في طريقنا للخارج، سألتها وأنا أرى الفرحة تُشع من وجهها: “يبدو أن الطبيب قد وصف لك علاجاً شافياً”، نظرت إليّ وقالت: “لا، بل أخبرني أن حالتي مُتأخرةٌ جداً، ولا علاج لها سوى عمليةٍ جراحيةٍ باهظة التكاليف”، ثم ضحكت ضحكةً صافيةً كأنها لم تسمع للتو خبراً يهدم آمالها في العلاج، قلتُ لها في ذهولٍ: “وتضحكين؟!”، أجابت بإيمانٍ غريبٍ: “الذي دبَّر لي كل هذا، ألن يُدبِّر الباقي؟”، قلتُ مُتشككاً: “نعم، قد يُدبِّر لك مواصلةً أو يداً حانيةً تسندك، لكن مبلغاً كبيراً لعمليةٍ كهذه، من أين سيأتي؟”، ردت بصوتٍ يفيض باليقين: “إن ربي يصنع العجائب، أليس هو الذي شقَّ البحر لموسى وقومه؟ أفلا يقدر أن يشق هذه العتمة في عينيّ ويبعث لي نوراً من نوره؟”.

وصلنا إلى محطة الحافلات، وأصررتُ على أخذ رقم هاتفها لأطمئن عليها. اليوم -وبعد فترةٍ- تذكرتها، فخطر لي أن أتصل بها، ردَّت عليّ بصوتٍ تملؤه السعادة، وزفَّت إليّ خبراً كان كالمُعجزة؛ لقد أجرت العملية ولم تدفع إلا مبلغاً رمزياً، ما حدث أن الطبيب نفسه الذي كشف عليها في المُستشفى اتصل بها في ذات اليوم، وأخبرها أنه سيُجري لها العملية في مُستشفىً خيريٍ، وأنه مُتنازلٌ عن أجره كاملاً. أنهت كلامها وهي تقول بفرحٍ غامرٍ: “ألم أقل لك؟ إن الله قادرٌ على أن يشق العتمة بنوره”. في تلك اللحظة، أدركتُ أن الإيمان ليس مُجرد كلمةٍ تُقال، بل هو قوةٌ تُحوِّل المُستحيل إلى حقيقةٍ، وأن من كان يقينه بالله قوياً، وتوكله على الله خالصاً، فإن الله لا يخذله أبداً، عليه فقط أن يُحسن الظن بالله، ويكون موقناً تمام اليقين بقدرة الله عزَّ وجلَّ ولطفه بالعباد.

 

أحبتي في الله.. (اليقين بالله)، عندما يكون قوياً وصادقاً تتحقق معه المُعجزات؛ فهذه قصةٌ أخرى حكاها أحد رجال الدين الموثوق بهم، قال:

أخبرني واحدٌ من أهل «الشيشان» بموقفٍ عجيبٍ حدث معه في زمن «الاتحاد السوڤييتي» السابق؛ قال لي: كُنا مجموعةٌ من المُسلمين مُجتمعين في أحد البيوت نتدارس القُرآن خفيةً، وإذا بقواتٍ روسيةٍ جاءت وحاصرت البيت، وحين همَّ الجنود الروس باقتحام البيت للقبض علينا هرب مَن هرب، وبقيتُ أنا لا أدري أين أذهب، رأيتُ حُفرةً قريبةً من البيت يُلقَى فيها محصول البطاطس، ألقيتُ نفسي فيها، شاهدتُ الجنود وقد اقتحموا البيت وبدأوا في التفتيش وعلا صياحهم، ثم اقتربوا من مكاني في الحُفرة، وأنا ليس معي سلاحٌ، ولا أستطيع أن أهرب، لكن كان بقلبي يقينٌ قويٌ بالله، وتذكرتُ موقفاً من السيرة للنبي صلى الله عليه وسلم مع الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهُما في الغار، كما تذكرتُ آيةً من القُرآن الكريم ظللتُ أقرأها بيقينٍ كاملٍ في الله سُبحانه وتعالى، لم أشعر بأي خوفٍ، بل أحسستُ بسَكينةٍ تملأ روحي، واطمئنانٍ يغشى قلبي. بعد لحظاتٍ سمعتُ القائد يقول للجُندي: "اذهب وفتِّش الحُفرة"، وسمعتُ وقع أقدام الجُندي وهو يقترب شيئاً فشيئاً من الحُفرة وأنا فيها مثل الفأر بالمصيدة، ومع ذلك لم يُساورني أي شكٍ في أن الله سيُنجيني. وصل الجُندي ونظر إلى الحُفرة، وأطلَّ عليّ ثم ذهب، وسمعته يقول للقائد: "لا يوجد أحدٌ في الحُفرة!"، تعجبتُ جداً فقد كان ينظر إليّ، عيناه في عينيّ، لكنه لم يرني!

سأل رجل الدين الرجل الشيشاني: "وماذا كُنتَ تقرأ من القرآن وقتها؟"، قال: "كنتُ أقرأ الآية الكريمة من سورة يس: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

 

عن اليقين يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. ويقول أيضاً: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾.

 

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنُونَ بالإجابةِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ لا يَستجيبُ دُعاءً من قلْبٍ غافِلٍ لَاهٍ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [صلاحُ أوَّلِ هذه الأُمَّةِ بِالزُّهدِ واليَقينِ، ويَهْلَكُ آخِرُها بِالبُخْلِ والأّمَلِ].

وكان من دعائه: [اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا].

 

ويقول أهل العِلم إن اليقين شعبةٌ عظيمةٌ من شُعب الإيمان، وصِفةٌ من صفات أهل التقوى والإحسان.

و(اليقين بالله) هو الإيمان الراسخ والقوي بوجود الله وقُدرته، وهو درجةٌ عاليةٌ من الإيمان تتجاوز مُجرد الاعتقاد إلى الثقة التامة بأن الله هو المُدَبِّر والمُتصرف في كُل الأمور. ويتضمن ذلك: الإيمان المُطلق والتسليم الكامل بقُدرة الله وعِلمه وحكمته، والثقة بأنه لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء. والتوكل الصادق والاعتماد الكُلي على الله، مع الأخذ بالأسباب والتسليم بأنها كُلها بيد الله وأنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذنه. والرضا بقضاء الله والقبول بكل ما يُقدِّره، سواءً كان خيراً أو شراً، عِلماً بأن الله لا يقضي إلا بالخير لعباده المؤمنين. والطمأنينة مع شعور القلب بالسكينة والراحة في كُل الأحوال؛ لأن العبد يعلم أن الله معه. والصبر وتحمل الشدائد والمصاعب بثباتٍ وثقةٍ في الله، مع الإيمان الكامل بأن الله سيجعل بعد العُسر يُسراً.

يقول العُلماء إن (اليقين بالله) هو منزلةٌ عاليةٌ في الدين، وهو أساس السعادة والنجاح في الدُنيا والآخرة، وهو الذي يُحقق المُستحيل. (اليقين بالله) هو أن تكون كُل الأبواب مُغلقةً، وكُل الظروف صعبةً، وكُل المؤشرات توحي بعكس ما تتمناه، لكنك على يقينٍ بأن الله سيُصلح كل شيءٍ وسيتكفل بكل شيءٍ. (اليقين بالله) هو العِلم التام الذي ليس فيه أدنى شكٍ، وهو الاستقرار النفسي، والطُمأنينة لقدرة الله، والإيمان الجازم الذي لا يشوبه شائبة.

و(اليقين بالله) له مراتب ودرجاتٌ يرتقي بها المرء كلما عمر الإيمان قلبه، وهذه المراتب هي: عِلم اليقين، عين اليقين، ثم حق اليقين. وقد مثَّل أحد العُلماء لهذه المراتب الثلاث بقوله: "مَن أَخبَرك أنَّ عنده عسلاً وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقيناً، ثم ذُقتَ منه، فالأول عِلم اليقين، والثاني عَين اليقين، والثالث حق اليقين"؛ فعِلْمُنا بالجَنَّة والنار عِلم اليقين، فإذا أُزْلِفتِ الجَنَّة للمُتقين، وشاهدَها الخلائق، وبُرِّزت الجحيم للغاوين، وعايَنها الخلائق، فذلك عَينُ اليقين، فإذا دخَل أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النارِ النارَ، فذلك حينئذٍ حق اليقين.

أما عن صفات أصحاب (اليقين بالله) والخصال التي تُميزهم، فإنها تتمثل في تقبلهم مصائب الدنيا بصدرٍ رحبٍ وعدم القنوط من رحمة الله والتحلي بالصبر تجاه المُصيبة، وطُمأنينة قلوبهم وراحة نفوسهم وقوة توكلهم على الله وتفويض أمورهم إليه. وكثرة إنفاقهم في سبيل الله بالمال والنفس، وإيمانهم بأن الله هو الرزّاق والمُعطي والمُعين. وخشوعهم في الصلاة قياماً وركوعاً وسجوداً. وزُهدهم في الدُنيا وتَرَفُعهم عن أمور الحياة، وطمعهم في الآخرة ولقاء وجه الله الكريم. مع قيامهم بكُل ما يستطيعون من النوافل وأعمال الخير والبِر التي تُقربهم إلى الله عزَّ وجلَّ.

ويقول العُلماء إنه مع اليقين الكامل بالله قد تأتي إجابة الدُعاء مُختلفةً أو مُتأخرةً وقد لا تأتي، وقتها يكون اليقين الحق أن الله يختار لنا الخير دائماً، وقد يكون الخير فيما أبعده أو أخره عنا، هذا هو اليقين الكامل.

 

عن (اليقين بالله) قال الشاعر:

عِنْدي يَقينٌ بِرَبِ الكَوْنِ يَحْدوني

‏إني قَريبٌ -يَقولُ اللهُ- فادْعوني

يُغيثُني اللهُ مَهْما أَظْلَمَتْ سُبُلي

‏كَما أَغاثَ بِبَطنِْ الْحوتِ ذا النونِ!

وقال آخر:

رَبي مَعي فَمَنْ الَذي أَخْشىٰ إِذَاً

ما دامَ رَبي يُحْسِنُ التَدْبيرا

وَهُو الذي قَدْ قالَ في قُرْآنِهِ

"وَكَفَىٰ بِرَبِكَ هادياً وَنَصيرا"

 

أحبتي.. يقول أحدُهم: "لقد جربتُ ولم تُفلح تجربتي؛ دعوتُ الله فلم يُجب دعوتي، ولم أجد ثمرةً لدعائي"، نقول له إن الله لا يُجَرَّب، إن عطاءه قائمٌ على اليقين لا على التجربة، وكم رأينا بأعيننا استجابةً لأدعيةٍ كُنا نظن أنها مُستحيلةٌ، لكنها تحققت عند اليقين الكامل والقوي بالله سُبحانه وتعالى.

علينا أن ننوي ونعمل ونسعى، ونأخذ بالأسباب ما وسعنا ذلك، ثُم نتوكل على الله ونحن موقنون بأنه سُبحانه لا يُعطي إلا خيراً، وأن ما نسأل الله به بيقينٍ إن كان فيه خيرٌ لنا فهو آتٍ بلا شك في الوقت المُناسب، وعلينا أن نكون في كُل الأحوال صابرين شاكرين.

اللهم بجلال وجهك، وعظيم سُلطانك، ارزقنا الإيمان التام المليء باليقين. وارزقنا اللهم يقيناً لا يتزحزح، وقرة عينٍ لا تنفد، اللهم آمين.

https://bit.ly/3J4hMl3

الجمعة، 1 أغسطس 2025

العفو والصفح

 

خاطرة الجمعة /510

الجمعة1 أغسطس 2025م

(العفو والصفح)

 

كنتُ أتصفح واحدةً من منصات التواصل الاجتماعي قبل حوالي ثلاثة أسابيع، واستوقفتني مُشاركةٌ من شخصٍ لا أعرفه، تعجبتُ لها كثيراً؛ كانت مُشاركته تعليقاً على وفاة أُستاذٍ جامعيٍ بإحدى الجامعات المصرية، فوسط سيلٍ من التعازي التقليدية كتب ذلك الشخص ما يلي: "اللهم إنك تعلم أن لي مظلمةً عند عبدك هذا، اللهم إني أُشهدك أني لم أُسامحه، ولن أُسامحه، حتى نقف بين يديك فتقتص لي منه، اللهم لا تغفر له، اللهم لا ترحمه، اللهم لا تُكرم نُزله، اللهم لا تُوسِّع مُدخله، اللهم لا تُلقنه حجته، اللهم ضيِّق عليه قبره، واجعله حفرةً من حُفر النيران، اللهم إنه استبطأ غضبك، ولم يتقيك فيّ، ولم يعمل لك أي حسابٍ، اللهم إنه نسي قُدرتك وعظمتك وظلمني، اللهم عامله بعدلك وجبروتك ونيرانك، اللهم إنه أخيراً قد وَفِد إليك، فعامِله بما هو أهله، يا من وعدتَ ووعدُك الحق بنُصرة دعوة المظلوم حيث قلتَ جلَّ شأنك: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}، وصلِّ اللهم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم".

هذا ما كتبه في المساحة المُخصصة لنشر العزاء، بعيداً عن (العفو والصفح) مُخالفاً بذلك ما جرى عليه العُرف بنشر التعازي والدُعاء بالرحمة للمُتوفى".

رغم عدم معرفتي بأيٍ من طرفي العلاقة -لا المُتوفى، ولا مَن كتب هذا الدُعاء- فقد بادرتُ بالدخول إلى صفحة الأخير وكتبتُ له على الخاص ما يلي: "في هذا المقام لا يسعنا إلا أن نتواصى بما ورد في الآية الكريمة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. أعلم أنه من الصعب على المظلوم أن يعفو ويصفح، لكني أرى أن مُجاهدة النفس للوصول لهذه الدرجة من التسامح تؤهل صاحبها لأمرٍ نتمناه كُلنا جميعاً لأنفسنا؛ ألا وهو "مغفرة الله". فهنيئاً لمن أتاح الله سُبحانه وتعالى له فرصة الحصول على هذه المغفرة؛ إنه وعد الله، و﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فبادِر إلى اغتنام هذه الفُرصة. أرجوك أن تتكرم وتتفضل بحذف دعائك وأن تكتب بدلاً منه عبارةً واحدةً فقط: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ وفوِّض أمرك كله لله سُبحانه وتعالى".

لم يصلني ردٌ على هذه الرسالة، ولا تم حذف الدُعاء المُشار إليه.

 

أحبتي في الله.. لا أعرف سبب ذلك الدُعاء الصعب الذي يخلو من (العفو والصفح)، كما أني لستُ مُتأكداً من صحة ادعاء المظلوم، لكن لأن ذلك الدُعاء كان فظيعاً رهيباً ومُرعباً، تساءلتُ بيني وبين نفسي: "هل يصل الإحساس بالظُلم إلى هذه الدرجة، درجة عدم مُسامحة الظالم وقت وفاته؟ هل يا تُرى هناك مُبالغةٌ من المظلوم في دعائه؟ هل هي حالةٌ فرديةٌ أم أن الظُلم يصل بالمظلوم إلى هذه الدرجة العالية من الشماتة في الظالم حين يموت؟".

سُبحان الله؛ وصلني الرد على هذه الأسئلة مُنذ يومين؛ ففي ذات الموقع من مواقع التواصل الاجتماعي اطلعتُ قَدَرَاً على ما نشره أحد المُصلين بأحد المساجد؛ كتب يصف الموقف الذي حدث أمامه فقال: كُنا نستعد لصلاة الجنازة على واحدٍ من أموات المُسلمين، وكالعادة أشار الإمام -قبيل بدء الصلاة- بأنه إذا كانت على المُتوفى ديونٌ ماديةٌ فليُسارع أهله بسدادها، وإن كانت لأحدٍ عليه مظلمةٌ فليصفح ويُسامح. وما إن انتهينا من الصلاة إذا برجلٍ من آخر الصفوف يقول بصوتٍ عالٍ، وبنبرةٍ غاضبةٍ: "يا ربِ، أنت تعلم بصدق ما أقول، لقد أمِنْتُ هذا المُتوفى على مالي، وكُل مُدخراتي، وثمن شقائي على مدار سنواتٍ عديدةٍ في بلاد الغُربة، وكان المُتوفى صاحبي، فطلب مني أن ندخل في شراكةٍ معاً، ولما وافقتُ وسلمته مُدخراتي كُلها خدعني وأكل حقي، ورفض أن يُعيد لي مالي. يا ربِ: بحق كل يومٍ كُسِرتُ فيه بسببه أمام أبنائي، بحق سنوات الشقاء التي ضاعت من عُمري هباءً، بحق المرض الذي أصابني نتيجة قهري وحُزني، بحق كل شيءٍ كنتُ أتمنى شراءه لأُسرتي ولم أستطع، بحق كل شيءٍ طلبه مني أبنائي ولم أتمكن من تحقيقه لهم، بحق كل عيدٍ مرَّ علينا أنا وأهل بيتي كأننا أيتام، بحق تعب زوجتي ومرضها النفسي من شدة الحاجة واضطرارنا لمد أيدينا وطلب المُساعدة من الغير، بحق وقفتي الآن ودُموعي تسبق كلامي من الذُل والقهر والغضب والغيظ.. بحق ذلك كُله؛ برِّد قلبي فيه يا ربِ، اجعل قبره جحيماً، واجعل مثواه جهنم، واجعل كل لحظة تعبٍ عشناها عذاباً أبدياً له في النار. لن أقبل إعادة مالي لي الآن ولو ضوعف لي عشر مراتٍ. لن أُسامحه؛ فيا ربِ بعزتك وجلالك لا تكسر قلبي وتُسامحه".

قال ذلك ثم هَمَّ بمُغادرة المسجد؛ فتجمع حوله المُصلون عارضين عليه أن يجلس مع أبناء المُتوفى وإخوانه ليصلوا إلى حلٍ ربما يُعيدون له حقه، قال لهم: "ذهبتُ إليهم كُلهم -قبل وفاة الرجل- ولم يستجب أيٌ منهم، والآن لو أعطوني أعمارهم لن أقبلها! ميتهُم الآن عند الحَكَم العادل، وحقي لن يضيع عنده عزَّ وجلَّ، هو سُبحانه الذي يفصل بيننا". ظلَّ الرجل يبكي، وسط مُحاولاتٍ من الناس أن يُسامح المُتوفى، حتى أن أحد الموجودين عرض دفع المبلغ كاملاً، لكن صاحب المظلمة رفض ومشي وهو يقول: "عند الله تجتمع الخصوم، حقي ربنا سيحفظه لي، إياكم وأكل الحرام، إياكم وخيانة أمانة مَن استأمنكم، خافوا الله يا بشر من هذه اللحظة، تذكروا أنّ الظُلم ظلماتٌ، وأنه لا مهرب من الموت، وأنه مهما فتحت لكم الدنيا ذراعيها، فلابد من هذه اللحظة، لحظة الموت، إنها آتيةٌ لا محالة، لن يهرب منها أحدٌ، ثم يكون وقوفنا للحساب بين يدي الله سُبحانه وتعالى، إن في ذلك لعبرةً لمن يعتبر".

 

عن حُكم الدُعاء على الميت الظالم يقول العُلماء إن الأفضل للمُسلم الواقع عليه الظُلم أن يأخذ بأسباب (العفو والصفح) عن الظالم رجاء الحصول على الأجر من الله؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾. ورجاء أن يغفر الله له ويرحمه؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، ويقول: ﴿وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. ورجاء أن ينال أجر أُولي العزم من الصابرين الغافرين؛ يقول سُبحانه: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. ورجاء أن ينال خير الصابرين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾. ورجاء أن يُعزه الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما زَادَ اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عِزًّا]. ورجاء الفوز بثواب كاظمي الغيظ؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وهوَ قادِرٌ على أنْ يُنْفِذَهُ؛ دعاهُ اللهُ سبحانَهُ على رُؤوسِ الخَلائِقِ (يومَ القيامةِ) حتى يُخَيِّرَهُ مِن الحُورِ العِينِ ما شاءَ].

ويُشرَع للمسلم الإمساك عن (العفو والصفح) ليلقى المُذنبُ ربَه بما اقترف من الإثم، لكن -كما قال بعض السلف- ما يُفيدك أن يُعذِّب الله أحداً لأجلك؟ مع ما يفوتك من أجر العفو، لو عفوتَ.

ويُشرَع له أيضاً الدُعاء على الظالم؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول: [سَمِعَ اللهُ لِمَن حمِده، ربَّنا ولك الحمدُ] ويدعو: [اللَّهمَّ اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ واجعَلْها عليهم سِنينَ كسِنِي يوسُفَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم] منها: [دعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ فوق الغمامِ وتُفتَّحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ الرَّبُّ وعزَّتي لأنصُرنَّك ولو بعد حينٍ].

كما يُشرَع له كذلك المقاصة ومُقابلة السيئة بمثلها دون تجاوزٍ؛ لقوله تعالى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾.

 

ولا شك أن مقام (العفو والصفح) هو أعلى المقامات، وأفضل الخيارات، لما جاء فيه من الأجر والثواب.

إن وقوع الظُلم على المُسلم ذنبٌ في حقه يُسوِّغ له الدُعاء على الظالم، دون تجاوز. وعلى العبد إذا ابتُلي بما يكره من ظُلمٍ أن يصبر، وأن يعفو ويصفح، وأن يحتسب الأجر عند الله تعالى، وليستشعر قوله صلى الله عليه وسلم: [ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بها عنْه، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها].

 

أحبتي.. أختم برسالتين: الرسالة الأولى إلى كل ظالمٍ: "اتعظ بغيرك، أَفِق مما يُزينه لك شيطانك، لا تغتر بقوتك أو منصبك أو مالك أو صحتك، صبر الله عليك رغم ظلمك ليس رضاً منه وإنما هو إمهالٌ لك علَّك تتوب، لا تُضيع فُرصتك، تُب بإخلاص، تدارك أمرك فوراً، رُد المظالم إلى أهلها، اطلب (العفو والصفح) ممن ظلمتهم، وتوقف عن ظُلم الآخرين، قبل أن يأتيك الموت فجأةً؛ فيدعو عليك المظلومون، ويستجيب الله لهم". وأقول لكل ظالمٍ بقصد النُصح لا بقصد الإساءة: "إذا كنتَ ظالماً فلا تكن غبياً، كُن ذكياً واختر لنفسك ما ينفعك في الدُنيا والآخرة".

أما الرسالة الثانية فهي لكل مظلومٍ أقول فيها: "إن قول الله تعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾؛ يُعطيك الحق في الدُعاء على من ظلمك، لكن بقَدْر ظُلمه وبغير تجاوزٍ، أما إذا صفحتَ وعفوتَ فإن لك أجراً عظيماً؛ فالأولى والأفضل أن تُفوِّض أمرك إلى الله تعالى وتقول: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ،و﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ تكون بذلك قد نقلتَ ملف قضية الظُلم من قاضي الأرض إلى قاضي السماء الحَكَم العدل فيقتص لك ويُعوضك عما أصابك ويجزيك أجر الصبر وثواب حُسن الظن به".

اللهم اهدِ كل ظالمٍ؛ ليفيق من غفلته قبل موته، ويرد المظالم إلى أهلها، حتى يُقابلك بقلبٍ صافٍ، تطهّر من الآثام والخطايا والأوزار، وتخلص من الدُعاء عليه.

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يركنون إليهم، واجعلنا إذا ظُلمنا أن نكون من الصابرين، وساعِدنا على (العفو والصفح) عمّن ظلمنا، واكتب لنا أجر الصبر وثواب المُسامحة، إنك سُبحانك وليّ ذلك والقادر عليه.

https://bit.ly/3UHDZaU

الجمعة، 25 يوليو 2025

مُسبب الأسباب

 

خاطرة الجمعة /509

الجمعة 25 يوليو 2025م

(مُسبب الأسباب) 

 

الذي رزقه الله ومشى على رُخام أرضية الحرم في «مكة» يعلم كم هو باردٌ حتى في عز الصيف وارتفاع درجة حرارة الجو بشكلٍ كبيرٍ تصل إلى خمسين درجةً مئوية. هذا الرُخام عجيبٌ لدرجة أن بعض الناس تعتقد أنه يوجد تحت الرُخام نظام تبريدٍ قويٌ وفعّال.

لكن حقيقة الأمر هي في قصةٍ بدأت عندما استلم المُهندس محمد كمال إسماعيل رئاسة مشروع توسعة الحرم المكي، وكان يُفكر بالفعل في أن يضع نظام تبريدٍ تحت الرُخام بصحن الحرم لتخفيف درجة حرارته خاصةً في فصل الصيف، إلا أن (مُسبب الأسباب) جعله يبحث عن بديلٍ لذلك فظلَّ يبحث إلى أن عَلِم أن هناك نوعاً من الرُخام الأبيض النادر جداً اسمه "التاسوس" يعكس الضوء والحرارة وأشعة الشمس، ويتعامل مع الرطوبة في الليل بنظامٍ وفي الصباح بنظامٍ آخر، يتميز بشدة برودته رغم الحرارة الشديدة، رخامٌ غريبٌ جداً ليس موجوداً إلا في جبلٍ بإحدى الجُزر اليونانية؛ فذهب إلى «اليونان» وتعاقد مع الشركة المُنتجة لهذا الرُخام على شراء الكمية الكافية منه للحرم المكي، وكانت الكمية التي اشتراها تُعادل نِصف الكمية الموجودة لدى الشركة تماماً، وعاد بالرُخام الأبيض، وتم فعلاً وضعه في كل أرضية الحرم المكي.

تمر السنوات، وبعد خمسة عشر عاماً، تطلب الحكومة السعودية منه وضع نفس نوع الرُخام بالضبط بالحرم النبوي في «المدينة المنورة». يقول المُهندس محمد كمال: عندما طلب مني مكتب جلالة الملك تغطية الحرم النبوي بنفس نوع الرُخام خفت جداً؛ فلا يوجد على الأرض برحابتها هذا النوع من الرُخام إلا بجبلٍ واحدٍ فقط في جزيرةٍ يونانيةٍ، وقد سبق أن اشتريتُ نصف الكمية من هُناك، ولعل الكمية التي تبقَّت قد بيعت كلها! ذهبتُ إلى نفس الشركة، وطلبتُ مُقابلة رئيسها، وسألته عن الكمية المُتبقية، فأخبرني أنه قد تم بيعها بالكامل. حزنتُ كما لم أحزن في حياتي كلها، حتى أني لم أشرب قهوتي وغادرتُ الشركة، وحجزتُ للعودة إلى «المملكة العربية السعودية» في اليوم التالي، وعندما خرجتُ من مكتب رئيس الشركة رأيتُ السكرتيرة؛ فسبحان (مُسبب الأسباب) الذي جعلني أسألها: "مَن اشترى الكمية المُتبقية؟"، قالت لي: "هذا أمرٌ مرَّت عليه سنواتٌ طويلةٌ، ويصعب البحث عن بيانات المُشتري"، قلتُ لها: "ما زال أمامي يومٌ في «اليونان» أرجوكِ ابحثي، وهذا رقم هاتفي بالفندق". تركتُ الرقم وذهبتُ وأنا حزين. بعدما خرجتُ سألتُ نفسي: "لماذا أُريد معرفة مَن المُشتري؟"، فتذكرتُ الآية الكريمة: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾. في اليوم التالي -وقبل ساعاتٍ قليلةٍ من ذهابي إلى المطار- اتصلت بي السكرتيرة وقالت: "تعالَ إلى الشركة؛ فقد وجدتُ عنوان المُشتري". ذهبتُ مُتباطئاً مُتسائلاً: "وماذا أفعل بعنوان مَن اشترى؟!". كانت ما تزال هناك بعض ساعاتٍ مُتبقيةٍ على موعد السفر؛ فذهبتُ مرةً أخرى إلى الشركة وقابلتُ السكرتيرة، فأعطتني عنوان الشركة التي اشترت الرُخام. يقول المُهندس: خفق قلبي بشدةٍ عندما وجدتُ أن المُشتري كان شركةً سعوديةً! طِرتُ مُباشرةً إلى «السعودية»، ثم من المطار إلى الشركة التي اشترت الرُخام، ودخلتُ على صاحب الشركة وسألته: "ماذا فعلتَ بالرُخام الأبيض الذي اشتريته مُنذ سنواتٍ من «اليونان»؟"، قال: "لا أذكر"، اتصل بالمخازن وسألهم عن الرُخام الأبيض اليوناني، فأخبروه بأن الكمية كُلها موجودةٌ كما هي في المخازن! يقول المهندس محمد كمال: "واللهِ، بكيتُ بكاءً كالأطفال تماماً!" فتعجَّب صاحب الشركة وسألني: "يا أخي، لماذا تبكي؟!"، فحكيتُ له القصة كاملةً وقلتُ له: "هذا شيكٌ على بياضٍ، اكتب المبلغ الذي تُريده"؛ فلما عَلِم أن الرُخام للحرم النبوي قال لي: "واللهِ الذي لا إله إلا هو، لا آخذ ريالاً واحداً، والرُخام كُله في سبيل الله؛ ألا ترى أن (مُسبب الأسباب) عزَّ وجلَّ هو الذي أنساني هذا الرُخام في المخازن كُل هذه المُدة بعد أن جعلني أشتريه، ليكون هُنا لهذه المهمة؟".

 

أحبتي في الله.. سُبحان الله، هذا النوع من الرُخام غير موجودٍ حتى الآن في الأرض كُلها إلا في الحرمين الشريفين فقط! وقد يكون الله عزَّ وجلَّ خلق هذا الجبل بهذه النوعية والكمية من الرُخام ليكون أرضيةً للحرمين فقط، وألا يبقى منه فائضٌ لأي مكانٍ آخر!

بعد نشر هذه القصة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، توالت تعليقات القُراء؛ ومن بين ذلك:

-قصةٌ أغرب من الخيال، سُبحان الله، إنها ارادة ربنا فوق كُل شيء.

-إذا أراد ربُّك شيئاً، هيّأ له أسبابه، ولو كان من المُستحيلات.

-لا تعجب من تدبير الله؛ فهو (مُسبب الأسباب)، يُقرِّب ما نظن أنه بعيد المنال، وإذا أراد شيئاً قال له: "كُن فيكون".

 

يُذكر أن المهندس/ محمد كمال إسماعيل "1908-2008م"، هو مُهندسٌ معماريٌ مصريٌ وُلد بمدينة «ميت غمر» بمُحافظة «الدقهلية»، ودرس في مدارسها الابتدائية، بعدها انتقلت أُسرته إلى مدينة «الإسكندرية» وهناك أنهى تعليمه الثانوي، وكان أصغر من حصل على الثانوية في تاريخ «مصر»، توجه بعدها إلى «القاهرة» للالتحاق بجامعة فؤاد الأول "جامعة القاهرة حالياً" ودرس الهندسة بها، فكان أصغر من دخل مدرسة الهندسة الملكية، وكان واحداً من أفراد دفعته التي لم يتعدَ عددهم سبعة دارسين، وأصغر من تخرج فيها، سافر بعدها إلى «فرنسا» ليكون أصغر من تم ابتعاثه إلى «أوروبا» للحصول على الدكتوراه في العمارة، التي حصل عليها بتقدير امتياز عام 1933م؛ فكان أصغر من حمل لقب دكتور في الهندسة، ثم بعد سنواتٍ قليلةٍ حصل على دكتوراه أخرى في الإنشاءات، ليعود إلى «مصر» ويلتحق بالعمل في مصلحة المباني الأميرية، فكان أول مُهندسٍ مصريٍ يحل محل المُهندسين الأجانب الذين كانوا يعملون بتلك المصلحة، وظلَّ بها حتى شغل منصب مديرها في العام 1948م، وكانت وقتها تُشرف على بناء وصيانة جميع المباني والمصالح الحكومية، لتُصمم يداه العديد من المباني المُميزة؛ منها: دار القضاء العالي، مصلحة التليفونات "سنترال رمسيس حالياً"، مسجد صلاح الدين بالمنيل، مسجد المُرسي أبو العباس بالإسكندرية، ومُجمع المصالح الحكومية الشهير بمُجمع التحرير الذي أُنشئ عام 1951م وبلغ ارتفاعه أربعة عشر طابقاً، وكان لتصميم هذا المبنى على شكل القوس دوراً في تحديد شكل ميدان التحرير، وما تفرع عنه من شوارع.

وعلى الرغم من أنه كان قد تتلمذ على يد أساتذةٍ من «إنجلترا» و«سويسرا» درَّسوا له في الجامعة فنون العمارة العالمية إلا أنه تأثر بشدةٍ بفن العمارة الإسلامية ليُبدع فيه عقب تخرجه، ويكون مُلهمه لعمل دراسةٍ شاملةٍ عن المساجد المصرية؛ حتى أنه أصدر مؤلفاً بعنوان "موسوعة مساجد مصر"، في أربعة مُجلداتٍ باللغتين العربية والإنجليزية، عرض فيها لتصميمات المساجد المصرية وطُرُزها وسماتها المعمارية التي تُعبِّر كلٌ منها عن مرحلةٍ من مراحل الحضارة الإسلامية، وقد طُبعت تلك الموسوعة فيما بعد في أوروبا، ونفدت -كما يقول المتخصصون- فلم يعد منها أية نُسخٍ سوي في المكتبات الكُبرى، وقد كانت تلك الموسوعة سبباً في حصوله على رُتبة البكوية وعلى وشاح النيل من الملك فاروق، فكان أيضاً أصغر من حصل عليهما، كما أن (مُسبب الأسباب) عزَّ وجلَّ يَسرَّ للملك فهد بن عبد العزيز أن يطلع على تلك الموسوعة، فيُعجب بها، فيختار مؤلفها ويوكل إليه مُهمة إعداد التصميمات الخاصة بمشروع توسعة كلٍ من الحرم المكي والحرم النبوي، والإشراف على عمليات التنفيذ، وكانت تلك أكبر عملية توسعةٍ للحرمين الشريفين، إضافةً إلى تكليفه بمشروع توسعة «البقيع».

وقد وُصِفَت توسعة المسجد الحرام في ذلك الوقت بأنها أكبر توسعةٍ خلال أربعة عشر قرناً، لاستيعاب العدد المُتزايد من الحُجاج الذين يؤدون فريضة الحج والعُمرة؛ إذ أصبحت مساحة المسجد حوالي356,800 متراً مُربعاً، ويتسع لما يصل إلى 820 ألف مُصلٍ في الأيام العادية، وأكثر من مليون خلال موسم الحج وشهر رمضان، إضافةً إلى ما تضمنته مشروعات التوسعة من مظلاتٍ وتكييفاتٍ وجراجٍ تحت الأرض يتسع لخمسة آلاف سيارة، حيث بلغ إجمالي تكلفة تلك الأعمال 18 مليار دولار.

هذا وقد تمَّ تكريم هذا المُهندس العبقري من قِبَل مُنظمة المؤتمر الإسلامي بحصوله على جائزة التفوق في العمارة، سلمَّها له الملك فهد شخصياً، ومنحته «السعودية» جائزة الملك فهد للعمارة، كما أسبغت عليه نقابة المُهندسين المصرية لقب "أُستاذ الأجيال"، وكرمته «ألمانيا» لدوره في إيجاد صناعةٍ جديدةٍ بها من خلال المظلات الكهربائية، التي طلبها وشاهدها العالم لأول مرةٍ وهي تُزين ساحات الحرم، وعددها 21 مظلة لحماية المُصلين.

ومن المعروف أن المُهندس/ محمد كمال إسماعيل -رحمة الله عليه- رفض أن يتقاضى أجراً مُقابل عمله، على الرغم من مُحاولات الملك فهد وشركة بن لادن لإقناعه بالحصول على أجر، وقال: "كيف آخذ مالاً نظير عملي في أقدس الأماكن في الدنيا؟ كيف أواجه الله يوم القيامة لو فعلتُ ذلك؟".

 

يقول العُلماء إن عقيدة أهل السُنة والجماعة في القدر أنه لا يحصل شيءٌ إلا والله مُقدِّره، وما من سببٍ إلا والله مُسبِّبه، وهذا من باب الإخبار عن الله تعالى؛ فهو سُبحانه الحي الفعّال لما يشاء، العليم القدير الحكيم، الخبير الرحيم الودود، لا إله إلا هُو، وكُل ما سواه فقيرٌ إليه، وهُو غنيٌ عما سواه، وهو خالق الأسباب والمُسببات.

 

أحبتي.. إن الله سُبحانه وتعالى ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾؛ فهو (مُسبب الأسباب) وموجدها منعدمٍ، لتنفذ مشيئته؛ فهو سُبحانه ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾. إنها إرادة الله ﴿إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ وهو ﴿بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾. وإن كُنا -نحن البشر- نأخذ بالأسباب، فإننا نؤمن بقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾؛ فلا نحزن على شيءٍ فاتنا، ولا نفرح ونفخر لشيءٍ نجحنا فيه؛ فكُل ذلك هو بقدر الله عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [...اعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ]. صحيحٌ أننا مأمورون بأن نأخذ بالأسباب ما وسعنا ذلك، إلا أنه يجب أن يرسخ في وجداننا ويتأصل في يقيننا أن مشيئة (مُسبب الأسباب) نافذةٌ، وأنه يختار للمُسلم المؤمن التقي ما فيه خيره وصلاح أمره، حتى ولو لم يُدرك ذلك إلا بعد حين.

خلاصة الأمر أنه إذا علمتَ أن الله تعالى يوجد الأسباب، وأنه لا يستقل سببٌ منها عن قُدرته وإرادته وحكمته؛ فكُن في معية الله المُدبِّر المُصرِّف المُقتدر، (مُسبب الأسباب)، رب الأرباب؛ يُهيئ لك من أمرك رشداً.

اللهم يا (مُسبب الأسباب)، الأبواب‏، يا فاتح ياسامع الأصوات، يا مُجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، أرشدنا إلى طريق الصواب، وزِد إيماننا، وثبِّت يقيننا، وقوِ عزائمنا، واجعلنا من العاملين المُجتهدين المُتوكلين عليك حق التوكل، مُسَلِّمين بقُدرتك، راضين بقضائك، حامدين شاكرين لأفضالك وآلائك، واجعل اللهم بيوتنا عامرةً بذِكرك، هانئةً بشُكرك، سعيدةً بفضلك، مُطمئنةً بكرمك. اللهم سبِّب لنا من الأسباب ما ينفعنا ويُصلح أحوالنا، ويُذهب غمّنا وهمومنا، ويُغنينا بفضلك عمن سواك.

https://bit.ly/3IMDsBQ

الجمعة، 18 يوليو 2025

مَنْجَم الخير

 

خاطرة الجمعة /508

الجمعة 18 يوليو 2025م

(مَنْجَم الخير)   

 

حكى لي صديقنا العزيز أنه بعد تخرجه من كلية الطب تم تكليفه للعمل في فترة الامتياز بمُستشفىً خاصٍ، وباعتباره طبيباً جديداً فقد حددت له إدارة المُستشفى عيادةً يعمل بها، في توقيتٍ غريبٍ، من الساعة السابعة وحتى التاسعة صباحاً، حيث يحضر بعدها الطبيب الاستشاري ليبدأ عمله بنفس العيادة. ربما كان في تقدير المسئول الذي حدد هذه الفترة الصباحية أنه لن يحضر في هذا التوقيت المُبكر من المرضى من يطلب الكشف والمُعاينة، ويكون المسئول بذلك قد أخلى مسئوليته إزاء شغل فترة الامتياز لصديقنا بشكلٍ رسميٍ ولو كان صُورياً!

لكن ما حدث بالفعل كان على عكس ما توقعه ذلك المسئول؛ فقد أثنى المُراجعون للعيادة على عمل صديقنا، وحُسن تعامله، وبشاشته وتواضعه، وتناقل الناس هذه السمعة الطيبة؛ فأصبح العديد منهم يختارون هذا الوقت الغريب لمُراجعة المُستشفى، ثقةً في هذا الطبيب الشاب حديث التخرج!

وحدث في أحد الأيام أن حضر الاستشاري في موعده الساعة التاسعة صباحاً، فوجد عدداً كبيراً من المُراجعين، في انتظار دورهم في الكشف عند صديقنا، فتعجب، ثم فتح باب غُرفة الطبيب بغير إذنٍ، بل ولم يُكلِّف نفسه بأن يطرق على الباب قبل دخوله، وجد صديقنا جالساً على مقعد مكتبٍ يكتب وصفةً طبيةً، وأدباً من صديقنا قام عن المكتب تاركاً المقعد ليجلس عليه الاستشاري، واستمر في كتابة الوصفة الطبية مُتكئاً على حرف المكتب، فإذا بالاستشاري يوجه كلامه للمُراجعين ويقول لهم: "أنا الطبيب الاستشاري في هذه العيادة؛ من يُريد منكم المُراجعة فليُراجعني أنا، ولا يُراجع غيري"! تصرف صديقنا بحكمةٍ؛ فلم يُبدِ أي رد فعلٍ وفضَّل تجاهل ما قاله الاستشاري، واستمر في كتابة الوصفة الطبية، وبعد أن انتهى من ذلك سلَّم الوصفة للمُراجع، ثم غادر العيادة عائداً إلى منزله، خاصةً وأن وقت عمله كان قد انتهى. في اليوم التالي فوجئ صديقنا باستدعائه إلى مكتب مُدير المستشفى، فتوجه إليه، وإذا به يجد الاستشاري موجوداً، واتضح أنه قدَّم شكوى للمدير بأن صديقنا يسحب منه المُراجعين ويُقنعهم بأن يُراجعوه هو دون غيره، فلما سأل المُدير صديقنا عن ذلك، ردَّ بقوله إن المُراجعين منهم مُهندسون وضباطٌ ومحامون ومحاسبون وأشخاصٌ مُثقفون؛ فكيف يُمكن أن يلغوا عقولهم ويستمعوا له لو أنه كان قد طلب منهم ما هو منسوبٌ له في الشكوى؟ فسأله المُدير: "بماذا إذن تُفسر كثرة عدد المُراجعين لك رغم حداثة عملك وصِغر سِنك وقِلة خبرتك والتوقيت المبكر لدوامك بالعيادة؟"، فكان رد صديقنا بسيطاً وصادقاً ورُبما مُفاجئاً؛ قال للمُدير: "يبدو أن الله سُبحانه وتعالى استجاب لدُعاء أُمي؛ إذ كانت تدعو لي دائماً بأن يُحبِّب اللهُ فيّخَلْقَه"!

 

أحبتي في الله.. إنها إذن دعوةٌ صادقةٌ من قلب أُمٍ حنونٍ يستجيب لها الله عزَّ وجلَّ، في وقت احتياج الابن لها. يا لها من رحمةٍ إلهيةٍ ممن وصف نفسه بأنه هو ﴿الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾؛ فقد جعل دُعاء الأُم بمثابة (مَنْجَم الخير) للأبناء.

صديقنا الطبيب صار الآن طبيباً استشارياً، لكنه لم يتغير ولم يتبدل؛ فظلَّ حتى اليوم خلوقاً مُتواضعاً خدوماً كريماً محبوباً من الناس، ذكرتني قصته بمقالٍ كنتُ قد قرأته في إحدى الصُحف تحت عنوان "دعوات أُمي"، قال فيه كاتبه:

"رُوح.. ربنا يحبب فيك الرب والعبد، حتى الحصى في الأرض"، "ربنا يحبب فيك خَلْقه، ويجعل لك في كل طريق رفيق"، "ربنا يرزقك رزق بارد، ما له مُطارد"، "روح ربي وقلبي راضيين عليك إلى يوم الدين"، "يعطيك العمر الطويل والرزق الكتير"، و"تشيلك الركايب لرزقك اللي غايب". هذه أبرز دعوات أُمي رحمها الله، كانت تُرددها على مسامعي صباح مساء، وتُلاحقني بها كُلما غادرتُ المنزل ذاهباً إلى عملي أو خارجاً إلى مشوارٍ قصيرٍ، وتُكثِّف منها عندما أُسافر خارج «مصر». أعترف أنني لم أكن أفهم معنى هذه الدعوات ومغزاها في بعض الأحيان، رغم أنها ظلَّت تُرددها لأكثر من ثلاثين عاماً، بنفس الحماسة والرجاء من الله بالاستجابة لها، كأنها تنطق بها لأول مرةٍ في حياتها. بشكلٍ عامٍ كنتُ أشعر براحةٍ نفسيةٍ كبيرةٍ عندما كانت تمد يديها لأعلى للدُعاء، أقف لبرهةٍ لأسمع صوتها الطيب الحنون ودعواتها الصادقة الخارجة من القلب، أشعر ساعتها بأن الملائكة يُرددون خلفها "آمين"، وأن هذه الدعوات الطيبة تُحيط بي أينما ذهبتُ.

ظلَّت دعوات أُمي تُلاحقني أينما ذهبتُ؛ ففي منطقة «حلايب» بجنوب شرق «مصر»، وقبل مُدةٍ طويلةٍ أردتُ أن أذهب إلى شاطئ «البحر الأحمر»، مياه البحر قريبةٌ أراها بعينيّ، وأُريد أن أسبح فيها، سِرتُ لأكثر من ثلاث ساعاتٍ نحو الشاطئ، وكُلما ظننتُ أنني أقترب أكتشف أن ما أراه سراباً وليسمياه البحر الحقيقة! واصلتُ السير، وبعد ساعاتٍ طويلةٍ وصلتُ إلى الشاطئ، فجأةً ارتبكتُ لأن الليل كان قد حلَّ ومعه الظلام الدامس، والمنطقة خاليةٌ من الكهرباء؛ فما العمل؟ كيف سأعود من حيث أتيتُ وأنالا أرى أمتاراً أمامي؟ سِرتُ ما يقرب من ساعةٍ تائهاً في الصحراء وفجأةً وجدتُ سيارةً تقترب مني، سألني قائدها: "إلى أين أنت ذاهب؟"، فقلتُ له: "إنني تائهٌ"، وسردتُ له ما حدث، أوصلني للمكان الذي تحركتُ منه، وفي طريق العودة وصف ما قمتُ به بأنه مُغامرةٌ وجُنونٌ؛ فهذا المكان خالٍ من البشر، ومعروفٌ بانتشار ظاهرة السراب، هنا تذكرتُ دعاء أمي: "يجعل لك في كل طريق رفيق".

وفي مدينة «كيب تاون» عاصمة «جنوب أفريقيا»، وبينما كنتُ تائهاً أتخبط في الشوارع، لا أعرف مكان الفندق الذي أُقيم به أو موقع المؤتمر الذي جئتُ لحضوره، وجدتُ أمامي شخصاً من «جنوب أفريقيا» يقترب مني ويسألني عن سر قلقي، ويُرشدني بعدها نحو وجهتي الصحيحة، بل وعمل لي مُرشداً طوال الأيام الأربعة، التي قضيتها في المدينة الساحلية الجميلة التي تشبه مدينة «الإسكندرية»، يدلّني على الشوارع التي يجب أن أتجنب الذهاب إليها لخطورتها، ينصحني بعدم حيازة نقودٍ كثيرةٍ أو محفظةٍ في جيبي، يُحذرني من الصعود لهذه التبة ليلاً، ويُرشدني لأفضل المطاعم.

وعندما تهتُ في مطار «هيثرو» العملاق بالعاصمة البريطانية «لندن»، وذلك في أول زيارةٍ لي إلى «بريطانيا» وجدتُ فجأةً سيدةً مصريةً كانت تشغل منصب نائب رئيس أحد البنوك المصرية الكُبرى، تتجه نحوي وتسألني باسمي الشخصي: "كيف حالك؟ هل تحتاج مُساعدة؟"، هنا تنفستُ الصُعداء وعاد لي نَفَسي الطبيعي، وهدأت ضربات قلبي، وحفاظاً على كرامتي اكتفيتُ بشكرها، لكني تتبعتُ خُطواتها من بعيدٍ سائراً خلفها حتى أخرج من هذا المطار الكبير، الذي تتجمع فيه طائرات العالم وشعوب الكرة الأرضية.

في كُل مرةٍ كنتُ أتعرض فيها لموقفٍ حرجٍ، كنتُ أتذكر على الفور دُعاء أُمي: "ربنا يحبب فيك خلقه، ويجعل لك في كل طريق رفيق".

 

ألا يُثبت كُل ذلك -ومثله كثيرٌ-أن دُعاء الأُم لأبنائها هو بالفعل (مَنْجَم الخير)؟

يقول أهل العِلم إن إجابة الدُعاء أمرٌ وعد الله عزَّ وجلَّ به عباده، وحاشاه سُبحانه أن يُخلف وعده؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾. وإن بِر الوالدين من أوكد الواجبات على الإنسان؛ فقد قَرَنَ الله تعالى شُكر الوالدين بشكره؛ فقال: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، وقَرَنَ الإحسان إليهما بتوحيده سُبحانه؛ فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، بل وأمر عزَّ وجلَّ بالإحسان إليهما ومُصاحبتهما بالمعروف، ولوكانا كافرَيْن يُجاهدان ابنهما ليُشرك بالله؛ يقول سُبحانه: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم بِر الوالدين من أفضل الأعمال بعد الصلاة مُباشرةً، وقدَّمه على الجهاد في سبيل الله؛ فحين سُئل عليه الصلاة والسلام أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصَّلاةُ علَى وقْتِها]، قيل: ثم أي؟ قال: [ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ]، قيل: ثم أي؟ قال: [الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ].

 

وللأُم مكانةٌ خاصةٌ؛ فحين جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، أحد الصحابة رضي الله عنهم فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: [هل لَكَ مِن أمٍّ؟] قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]. وهي أولى الوالدين بالإحسان، وهي مُقدَمةٌ في البِر على الأب؛ لأنها اختُصت بأمورٍ لم يُشاركها فيها الأب مثل: ألم الحمل ومعاناته، وطلقات الولادة وشدتها، ثم الإرضاع حَوْلَيْن كاملين. وقد أشار القرآن الكريم إلى عظيم فضلها على الولد وتحملها من أجله بعد أن أمر ببِر الوالدين معاً، فقال سُبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾.

 

وعن الدليل القرآني عن الدُعاء بحُب الله سُبحانه وتعالى للعبد؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾، وجاء في تفسير تلك الآية: "يُحبُّهم ويُحبِّبُهم إلى خلقه". وأما الدليل من السُنة الشريفة؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أحَبَّ اللهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ عليه السلام: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبَّهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ].

 

واستجابة دُعاء الأُم لولدها ثابتٌ بدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [ثلاثُ دَعواتٍ لا تُرَدُّ: دعوةُ الوالِد ِلِولدِهِ، ودعوةُ الصائِمِ، ودعوةُ المسافِرِ]. يقول شارحو الحديث: إن الله يستجيب لثلاثة أنواعٍ من الدعوات يقيناً ولا يردها أبداً؛ منها "دعوةُ الوالِدِ لِولدِهِ". وقوله: "الوالد" يشمل الأُم أيضاً؛ وقيل: لم تُذكر الوالدة؛ لأن حقها أعظم فدعاؤها أولى أن يُستجاب له.

 

يُستفاد من كُل ذلك أن مَن ما زالت أُمه على قيد الحياة فهو في نعمةٍ عظيمةٍ؛ إذ أن دُعاءها مُستجابٌ بإذن الله، وما على أبنائها إلا البِر بها وحُسن صُحبتها، وطلب الدُعاء منها. وأما إن كانت الأُم قد توفاها الله، فيكون من واجب الأبناء الدُعاء لها، مما يرفع درجتها في الجنة بإذن الله؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ] منهم [وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ لَيرفعُ الدَّرجةَ للعَبدِ الصَّالِحِ في الجنَّةِ فيقولُ: يا ربِّ أنَّى لي هذهِ؟ فيقولُ: باستِغفارِ ولدِك لكَ]؛ فإنَّ استغفار الولد لوالديه بعد موتهما كاستغفاره هو لنفسه؛ فإنَّه من كسبهما؛ فعمله كأنَّه عملهما.

 

أحبتي.. أختم بملاحظاتٍ ثلاثٍ: الأولى؛ ألا تكتفي الأُم بالدُعاء لأبنائها سِراً وبظهر الغيب؛ فالأفضل أنتُضيف إلى ذلك دعاءها لهم جَهْراً بحيث يسمع الأبناء دُعاءها لهم؛ فهذا أمرٌ بالغ الأهمية، له مردودٌ نفسيٌ عظيمٌ في نفوس الأبناء. الثانية؛ أن لا حرج من أن يطلب الأبناء -مهما بلغوا من العُمر أو العِلم أو الثروة أو الجاه- من أُمهاتهن الدُعاء لهم، ولا يُفرِّطون في هذا الكنز الكبير الذي أسميتُه (مَنْجَم الخير). الثالثة؛ أن دُعاء الأُم مُستجابٌ بإذن الله، سواءً دعت لأبنائها أو دعت عليهم، فليحرص الأبناء على رضا أُمهاتهم، ولتتقِ اللهَ الأُمهاتُ فلا تدعين على أبنائهن خاصةً في حالات الغضب والانفعال.

اللهم احفظ لنا أُمهاتنا الأحياء، وارحم الأموات منهن. واجعلنا اللهم بارين بهن أحياءً وأمواتاً. وألهمنا ربنا رُشدنا، واهدنا سواء الصراط.   

 

https://bit.ly/46bAZuy