الجمعة 21
فبراير 2025م
(تارك
الصلاة)
يقول صاحب القصة: منذ ٣٥ سنةً، وفي أول حياتي العملية، ذهبتُ لإجراء
مُقابلةٍ في «السفارة الكويتية» في «القاهرة» للعمل مُعلماً للغة العربية بدولة
«الكويت»، أدخلوني إلى صالةٍ كبيرةٍ مليئةٍ بمئات المُتقدمين لشغل هذه الوظيفة في
انتظار المثول أمام اللجنة. فجأةً؛ أُذن لصلاة الظهر ونحن ننتظر دورنا؛ فخرج رئيس
اللجنة إلى صالة الانتظار، وأُقيمت الصلاة جماعةً فصلى إماماً في بهو الصالة
بمُعظم الحاضرين، بينما وقف البعض في شُرفةٍ كبيرةٍ في آخر الصالة دون أن يُصلوا،
وظل آخرون جالسين على كراسيهم يقرأون الصحف. انتهت الصلاة وكانت المفاجأة؛ استدار
الإمام -رئيس اللجنة - وقال بالحرف الواحد: "كل الجالسين والواقفين في
الشُرفة يتفضلوا يروحوا على بيوتهم ولن يدخلوا المقابلة"، ثم أمر المأمومين
خلفه الذين صلوا معه أن يُسَلِّموا جوازات سفرهم للسكرتارية لتوقيع العقود واستلام
تذاكر الطيران تمهيداً لسفرهم بعد أُسبوع، وبدون عمل مقابلةٍ، ثم قال مُوجهاً
كلامه للجميع: "كيف آمن على الناشئة والتلاميذ من أستاذٍ لا يُصلي ولا يحرص
على الصلاة؟". انتهى الموقف وسط ذهول الجميع وخيبة أمل الذين لم يُصلوا
-وكنتُ منهم- وساقونا إلى خارج السفارة زُمُراً كأعجاز نخلٍ خاويةٍ! ورغم حُزني
ساعتها إلا أنني فرحتُ ولم أغضب؛ أن كانت الصلاة هي المُقابلة، وقُلتُ لزملائي
الذين نجحوا في هذا الاختبار: "أنجتكم صلاتكم".
أحبتي في الله.. هذه القصة تُبين جانباً محدوداً -لكنه مؤثرٌ- مما يضيع من
فرصٍ على (تارك الصلاة)، وهي في هذه القصة، كانت فرصة عملٍ يحلم بها جميع
المتقدمين، صارت درساً لمن حضر هذا الموقف، وربما كانت سبباً في انتباه المُقصرين
في أداء الصلاة على وقتها ليتداركوا أنفسهم. لكن آخرين -في مواقف أُخرى- لا تتوفر
لهم فرصة إصلاح أمورهم والعودة إلى الطريق القويم، ومن ذلك القصة التالية التي
يرويها أحدهم؛ كتب يقول:
كنتُ تاركاً للصلاة.. نصحني أبي وأُمي وإخوتي وأخواتي، لكني لم أكن أعبأ بنصيحة
أيٍ منهم.. إلى أنرنّ هاتفي ذات يومٍ فإذا بشيخٍ كبيرٍ -لا أعرف من هو- يسألني وهو
يبكي: "«أحمد»؟"، قُلتُ: "نعم!"، قال: "أحسن الله عزاءك
في «سالم»؛ وجدناه ميتاً على فراشه صباح اليوم"، صرختُ: "«سالم»؟! لا
يُمكن؛ لقد كان معي البارحة!"، بكى الشيخ وقال: "سنُصلي عليه في الجامع
الكبير بعد صلاة الظهر". أغلقتُ الهاتف وبكيتُ، وسألتُ نفسي: "كيف يموت
«سالم» وهو شابٌ؟"، أحسستُ أن الموت يسخر من سؤالي. دخلتُ المسجد باكياً..
لأول مرةٍ أُصَّلي على ميتٍ، بحثتُ عن «سالم» فإذا هو ملفوفٌ بقطعة قماشٍ.. موضوعٌ
على الأرض أمام الصفوف.. لا يتحرك.. صرختُ لما رأيته.. أخذ الناس بالمسجد يتلفتون
وينظرون إليّ.. غطيتُ وجهي بغُترتي وخفضتُ رأسي.. حاولتُ أن أتجلد لأبدو
متماسكاً.. جرّني أبي إلى جانبه وهمس في أذني: "صلِّ قبل أن يُصلَى
عليك"! فكأنما أطلق أبي ناراً لا كلاماً.. أخذتُ أنتفض وأنظر إلى «سالم».. ثم
سألتُ نفسي: "لو قام من الموت.. تُرى ماذا سيتمنى؟ سيجارةً؟ صديقةً؟ سفراً؟
أغنيةً؟"، تخيلتُ نفسي مكانه، وتذكرتُ الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن
سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾. صلينا صلاة الجنازة، ثم
انصرفنا إلى المقبرة.. أنزلنا «سالم» في قبره.. أخذتُ أُفكر: "إذا سُئل عن
عمله ماذا سيقول؟ عشرون أغنيةً! وستون فيلماً! وآلاف السجائر!"، بكيتُ
كثيراً.. لا صلاةً تشفع.. ولا عملاً ينفع.. لم أستطع أن أتحرك.. انتظرني أبي
كثيراً.. فتركتُ «سالم» في قبره ومضيتُ أمشي، وهو يسمع قرع نعالي.
ومن القصص بالغة القِصَر عن ترك الصلاة: سألوه: "كيف انتظمتَ في
الصلاة؟"؛ فقال: "سمعتُ شيخاً يقول يا (تارك الصلاة) مُصيبتك أعظم من
مُصيبة إبليس؛ لأن إبليس رفض أن يسجد لآدم، وأنت ترفض أن تسجد لرب آدم! فما الذي
بينك وبين الله حتى تكره لقاءه؟ صلِ قبل أن يُصلى عليك، ما نحن إلا جنائز مؤجلةٌ
فاستقم ولا تتبع الهوى".
أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالصلاة في
العديد من آيات القرآن الكريم؛ ومنها: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾،
و﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ﴾. وتوعد سُبحانه من يتكاسل عن الصلاة بالويل؛ يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾. وترك الصلاة سببٌ في
دخول جهنم؛ يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ
فِيسَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾. وعمّن يُضيعون الصلاة يقول
تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا﴾ فاتحاً برحمته باب التوبة والعودة إلى الإيمان والعمل الصالح أمام
هؤلاء.
وقد اتفق الفُقهاء على أنّ مَن ترك الصلاة جُحوداً بها، وإنكاراً لها، فهو
كافرٌ، خارجٌ عن الملة بالإجماع؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: [بَيْنَ
الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلاةِ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [بَيْنَ
الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ]، ويقول أيضاً: [إِنَّ
الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ
كَفَرَ]. أما من ترك الصلاة مع إيمانه بها، واعتقاده بفرضيتها، ولكنه تركها
تكاسلاً، أو تشاغلاً عنها، فهو في خطرٍ عظيمٍ.
يقول العلماء إن من أعظم البلايا التي تُصيب المرء أن يُملي له الشيطانُ أن
يستمر على المعاصي والشهوات التي تهواها النفس فلا يردها ولا يمنعها، ويُملي له أن
يترك الأعمال التي أوجبها الله عليه فيستجيب ولا يؤديها! يُسوّل له الشيطان أنه ما
دام يقول: "لا إله إلا الله" فهو على خيرٍ، فليس يضر معقول هذه الكلمات
أي ذنبٍ؛ فيكون بهذا من أعظم الخاسرين؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾. غفل المسكين عن أن
الإسلام ليس كلماتٍ يُرددها المرء بلسانه دون أن يُصدقها بعمله وجوارحه وبعبادته
لله جلَّ وعلا. إنه لمن المُضحك المُبكي أن كثيراً من الناس يظن أن الإسلام صِفةٌ
يرثها من أبويه فقط؛ فهو مُسلمٌ وإن لم يُصلِ ولم يصم ولم يعمل أي عملٍ تعبديٍ
يُخلص به التوجه نحو ربه عزَّ وجلَّ، وإلا فما معنى أن يكون المرء مُسلماً ثم هو
لا يستسلم لربه بالخضوع والإنابة والعبادة؟!
يقول أحد الشيوخ: كل أولئك الذين لا يُصَلُّون لم يعرفوا للحياة طعماً، لم
يعرفوا لاضطراب قلوبهم دواءً، يُكابرون بادعائهم السعادة! كل النجاحات التي جنوها
ما هي إلا نجاحاتٌ دُنيويةٌ واهيةٌ، لا تُحقق شيئاً من السعادة؛ فأي سعادةٍ تلك
التي يشعر شخصٌ لم يتصل بخالقه ولم يُبح له عمّا في قلبه أو يودعه أُمنياته في
سجوده؟! أي سعادةٍ تلك التي سيمتلكها شخصٌ ليس بينه وبين شهواته رادع؟! عن أي
سكينةٍ يتحدث وكل تلك النجاحات ما هي إلا كلوحةٍ آسرةٍ لمن ينظر إليها من بعيدٍ،
ولا يُدرك ما وراءها من مآسٍ يعلمها بالتأكيد (تارك الصلاة) إذا ما اختلى بنفسه
علم أنه مقبوض القلب كئيبٌ، ناجحٌ في الدنيا، خاسرٌ في الآخرة؟
وَجَّه أحد الكُتّاب إلى (تارك الصلاة) السؤال التالي: لماذا تترك صلاتك؟
هل من أجل المال؟ والمال رزقٌ من الله يستوجب شكره بالصلاة، واستخدمه في عبادة
الله بالطيب من النفقات والزكاة والحج والعُمرة والصدقات، ولا تجعله غايتك ومقصدك
في هذه الحياة. أَم لأجل تلفازٍ تود مشاهدة الأفلام والمُسلسلات؟ وهي مُضيعةٌ
للوقت، لاهيةٌ لك عن عبادتك من غير فائدةٍ تُذكر.
أَم لأجل نومٍ؟ وما أطول نومك وغفلتك عن قيام الليل والتهجد وصلاة الفجر.
ألا تخاف من الله؟ ألا تخشى الموت؟ ألم تعلم بأن من العقوبات التي تلحق (تارك
الصلاة) سوء الخاتمة، والمعيشة الضنك؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْمَى﴾؟ ألم تسمع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [أولُ ما يُحاسبُ بهِ العبدُ
يومَ القيامةِ الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ
فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه]؟ ماذا يكون جوابك لربك حين يسألك عن الصلاة؟ لماذا تترك
صلاتك؟ أتظن السعادة هي في الراحة الموهومة التي تظن أنك ستحصل عليها؟ وهَبْ أنك
حصلتَ عليها؛ فإلى متى ستدوم؟ سبعين سنة؟ ثمانين أو تسعين سنة؟ أفتحرص على سعادةٍ
موهومةٍ لمدةٍ محدودةٍ، تورثك يوم القيامة شقاءً حقيقياً قد تخلد فيه أبداً؟!
أيحرص عاقلٌ على صفقةٍ هذا مآلها؟!
وعن (تارك الصلاة) قال الشاعر:
ناداكَ رَبُكَ لِلِقاءِ بِخَمْسَة ٍ
وَتَقولُ يا رَبِ لَسْتُ بآت ِ
أَكَثيرٌ عَلَىَ مَنْ خَلَقَ الوَرَى دَقائِقٌ
وَعَلَىَ حَبيبَكَ تَهْدِرُ الأَوْقات ِ
أَوَلا تَخافُ مِنَ المَنيةِ بَغْتَة ً
وَتَخافُ أنْ تأخُذَكَ في لَحَظات ِ
فاخْتَر طَريقَكَ في الحَياة فإنِما
أعْمارُنا ساعاتٌ في ساعات ِ
وَاسْمَع نَصيحَةَ مُشْفِق ٍ تَنْجُ بِها
مِنْ بَيْن أَهْوال ٍوَمِنْ كُرُبات ِ
ارْجَع لِرَبِكَ تَرْتَضيهِ تَذَلُلاً
وَابكِ بُحوراً مِنَ العَبَرات ِ
وَاللهَ أسْألَ أنْ يُذيقَكَ لَذْة ً
وَسَكينَة ً تأتيكَ في السَجَدات ِ
فاغْفِر إلَهي ذَنْبَ كُلِ مُقَصِر ٍ
وَارْزُقْنا جِبالاً مِنَ الحَسَناتِ
أحبتي.. أختم بنصيحة مُسلمٍ كان قد ترك الصلاة، ثم هداه الله فتاب توبةً
نصوحاً كتب بعدها يقول:
الصلاة هي عمود الدِين؛ لا قيام للدِين من دونها؛ إن أقمناها بحقٍ أقمنا
ديننا وحفظناه، وإن ضيعناها كُنا لما سواها من الفرائض أضيع؛ فلننتبه لذلك ونتدارك
أنفسنا قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه ندمٌ، ونحن اليوم في فسحةٍ من العُمر والصحة،
وفرصة الإنابة مُتاحةٌ لنا، فإن اغتنمناها سَعِدنا وفُزنا في الآخرة أعظم الفوز،
وإن ضيّعناها فإن هذا هو الخُسران المُبين في الدارين؛ في الدنيا تكون حياة الضنك
والنكد وضيق الصدر، وفي الآخرة تكون الحسرة والندامة، على ما فرَّطنا في حق أنفسنا
وفي حق ربنا.. هذه فرصتنا اليوم لنُراجع أنفسنا ونستدرك ونتوب ونؤوب قبل فوات
الأوان وحصول الندم؛ فهيا قُم يا (تارك الصلاة) فتوضأ وتطَّهر للصلاة، واسجد لله
عزَّ وجلَّ بخضوعٍ وتذللٍ وانكسارٍ، وقُل بعزيمةٍ صادقةٍ لا تعرف التردد أو الضعف:
"ها أنا ذا يا ربِ قد عدتُ إليك فاقبلني، ها أنا ذا قد عدتُ إليك فاغفر لي،
ها أنا ذا قد عدتُ إليك فتُب عليّ وثبتني"، وستجد الله سُبحانه وتعالى غفوراً
رحيماً؛ يغفر الذنب، ويقبل التوب، يُبدل سيئات التائب الصادق في توبته إلى حسناتٍ،
واعداً إياه بالجنة وعظيم الدرجات في الآخرة، وواهباً له رضى النفس وانشراح الصدر
في حياته الدنيا.
نسأل الله الهداية والثبات قبل الممات.