خاطرة الجمعة /505
الجمعة 27 يونيو 2025م
(التكافل الاجتماعي)
هذا رجلٌ من «مِصر»، وتحديداً من قرية «أمين باشا» التابعة ل«سيدي غازي»
ب«كفر الدوار» في «مُحافظة البُحيرة»، اشترى من جاره قطعة أرضٍ مساحتها ثلاثة
فدادين ونصف، وبيتاً بداخل هذه الأرض، وبعد إتمام البيع انتقل الجار الذى باع
الأرض والبيت، هو وأُسرته، إلى مكانٍ جديد. بعد مُرور سنةٍ كاملةٍ حدثت للبائع
أزمةٌ جعلت بقاءه في مكانه الجديد مُستحيلاً، وضاقت به الدنيا؛ فعاد والتقى بالرجل
الذي اشترى منه الأرض والبيت، وشرح له أزمته، وعرض عليه الرجوع في عملية البيع،
بفارق سعرٍ أعلى؛ فقال له الشاري: "اترك الأمر لله، أعطني فرصةً حتى أستشير
أولادي". لم يستشر الرجل أولاده في شيءٍ -كما قال- بل طلب منهم أن يُنظفوا
البيت تنظيفاً جيداً، ويُرتبوه ترتيباً مُتميزاً، ثم أمرهم أن يُجهزوا طعاماً
ويخبزوا ويستعدوا لاستقبال ضيوفٍ كثيرين، ثم أرسل لصاحب الدار الأصلي -البائع-
رسالةً كتب فيها: "ارجع غداً بأُسرتك لبيتك، وستجد بيتك كما تركته، وفيه
الأكل والشُرب وكل ما تحتاجونه، وستجد أرضك مزروعةً وحالها يسر خاطرك".
عاد البائع إلى بيته بالفعل، وسط جيرانه الذين كان قد ابتعد عنهم، وجد
بيته أفضل مما تركه حين باعه، ثم نظر إلى الأرض فوجدها مزروعةً وعلى وشك الحصاد،
قال له المُشتري: "هذه أرضك وهذا بيتك بدون أي فارق سعرٍ"، عندها غضب
أحد أبناء المُشتري بسبب إرجاع الأرض والبيت بعد سنةٍ بدون فارق سعرٍ، وبدون حتى
تكلفة الزراعة التي هي على وشك الحصاد، بل وسلَّمه عقود ملكية الأرض كاملةً، كما
أنه لم يتحصل منه على ما سبق وأن دفعه ثمناً لشراء الأرض والبيت إلا بعد فترة.
مرَّت عدة سنواتٍ، وقرَّر أحد جيران هذا الرجل الشهم النبيل بيع مساحةٍ
مُشابهةٍ للتي كان قد اشتراها ثم أعادها لصاحبها، لكن هذه الأرض الأخرى أكثر
تميزاً من حيث الموقع، وكان سعرها عالياً جداً، وأصرّ صاحبها أنه لن يبيعها إلا
لهذا الرجل النبيل الكريم، فأخبره الرجل بأنه يرغب في الشراء إلا أنه غير مُستعدٍ
مادياً، ولا يملك القُدرة على سداد سعر هذه الأرض؛ فلما علم أهل القرية بذلك
اجتمعوا على قلب رجلٍ واحدٍ، وجمعوا من بعضهم كل ما استطاعوا من مالٍ، لم يتخلف
منهم أحدٌ، ثم سلموا ما جمعوه لهذا الرجل، حتى النساء كانت الواحدة منهن تُقسم
عليه أن يأخذ ذهبها: حَلَقها أو خاتمها، ليُساعده في تدبير ثمن الأرض، ومع إلحاح
أهل القرية وافق على شراء الأرض، وأمر أبناءه أن يحصروا كل من قدَّم له مُساعدةً
ماليةً أو عينيةً، رجلاً كان أو امرأةً، وأن يكتبوا لكلٍ منهم إيصالاً بقيمة ما
قدَّم، واعتبر ما تسلَّمه منهم دَيْناً عليه. بعد أقل من سنتين تمكن الرجل من سداد
جميع ما عليه من ديونٍ لأهل القرية؛ فأعاد إليهم أموالهم وذهب نسائهم. تُوفي
الرجل، ورجع إلى ربه، ودُفن -رحمة الله تعالى عليه- بعدما ضرب أروع الأمثلة في
الإيثار والشهامة والكرم.
أحبتي في الله.. أدهشني هذا الموقف النبيل للرجل الذي قدّر ظروف جاره،
وأعاد له أرضه وبيته، رغم أنه كان قد دفع كامل الثمن، بل وقام بزراعة الأرض، ويملك
أوراقاً وعقوداً تُثبت انتقال ملكية الأرض له. كان من المُمكن أن يمتنع عن ذلك،
ولن يلومه أحدٌ، وحتى لو وافق على الرجوع عن عملية البيع كان يُمكنه الحصول على
سعرٍ أعلى من السعر الذي اشترى به قبل عام، وأكثر من ذلك كان يُمكن له أن يُعيد
الأرض والبيت بالسعر القديم ويأخذ فوق ذلك ما تكلَّفه من أجل زراعة الأرض التي كان
محصولها على وشك الحصاد. ترك كل ذلك شهامةً ونُبلاً وكرماً، واعتبر هذا واجباً لا
يستحق أن يُشكر عليه.
كما أدهشني كذلك موقف الجار الآخر صاحب الأرض المُميزة؛ حين أصر على عدم
بيع تلك الأرض إلا لذلك الرجل الشهم تقديراً منه لمُروءته ونُبله وكرمه.
لكن أكثر ما أثار دهشتي هو الموقف الجماعي لأهل هذه القرية الطيبة، الذين
قدَّروا للرجل الشهم الكريم موقفه، وتكاتفوا كلهم جميعاً -في موقفٍ مُشرفٍ- وقاموا
بمُساعدته مادياً حتى تمكن من شراء الأرض الأخرى الأكثر تميزاً.
إنها صورةٌ مثاليةٌ لحالةٍ من حالات (التكافل الاجتماعي) ذكَّرتني بخبرٍ
كنتُ قد اطلعتُ عليه قبل أكثر من أربع سنواتٍ، وكان عن قريةٍ مصريةٍ اسمها «زاوية
الناعورة» بمحافظة «المنوفية». قال الخبر إن أهالي تلك القرية سطروا ملحمةً كبيرةً
في مُساعدة بعضهم البعض، والوقوف معاً في أوقات الشدائد والأزمات؛ وذلك عقب جمع
مبلغ 645 ألف جنيه لغرضين: الأول؛ سداد ديون أحد شباب القرية المُغتربين، والذي
كان قد تعرض لعملية نصبٍ من صاحب محلٍ فرَّ هارباً خارج البلاد بمبلغ 800 ألف
جنيه. قام والد الشاب بسداد جُزءٍ من هذا المبلغ، وسدَّد الشاب جُزءاً آخر، لكن لم
يتم إكمال الباقي فحُبس الشاب إلى حين يتم سداد مبلغ 300 ألف جنيه.
أما الغرض الثاني فكان لإجراء عملية زراعة كبدٍ لأحد أهالي القرية، غير
القادر على دفع مبلغ 345 ألف جنيه لإجراء العملية في أسرع وقتٍ مُمكن.
قرر أهالي القرية جميعهم التعاون والتكاتف لسداد الدين عن ابن القرية،
ومُساعدة ابن القرية الآخر في إجراء عملية زرع الكبد. وبالفعل نجحوا في جمع المبلغ
المطلوب لكلٍ منهما؛ فأُفرِج عن الشاب وغادر دولة الغُربة وعاد إلى أُسرته، كما تم
إجراء العملية الجراحية بنجاح.
إنها صُورٌ طيبةٌ ونماذج يُحتذى بها في مجال (التكافل الاجتماعي) والترابط
والتماسك المُجتمعي، وهي تطبيقٌ عمليٌ للتوجيهات الشرعية التي تحث على ذلك؛ ومنها
يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، ويقول سُبحانه:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿ولْتَكُنْ منْكمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ،
وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ
يشدُّ بَعضُهُ بعضًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم،
وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ
سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]، ويقول أيضاً: [يدُ اللَّهِ معَ
الجَماعةِ].
إنها صُورٌ مُضيئةٌ ومُلهِمةٌ في مجال (التكافل الاجتماعي) الذي يُعرِّفه
عُلماء الاجتماع بأنّه "العملية التي تُساهم في تحقيق الأهداف التي لا يُمكن
للأشخاص تحقيقها بمفردهم، وذلك من خلال عمل أفراد المُجتمع معاً، وتبادل الخبرات
والموارد والمسؤوليات فيما بينهم، لتحقيق هدفٍ مُعينٍ، مما يؤدي إلى إتاحة الخدمات
والفُرص، وتوفير الدعم اللازم لتنمية المُجتمع وأفراده".
ويقولون إن (التكافل الاجتماعي) يؤدّي دوراً مِحوَريّاً في تعزيز العلاقات
بين أفراد المُجتمع الواحد، وتوطيدها، وبهذا التضامن تُبنى جسور التواصل والترابط
بين مُختلف شرائح المجتمع، ونتيجةً لذلك تتشكَّل شبكة دعمٍ اجتماعيٍ متينةٌ
ومُتماسكةٌ تُمثِّل مِظلَّة حمايةٍ للجميع، وهذه الشبكة ذات أهميةٍ، لاسِيَّما
للفئات الأكثر ضعفاً وحاجةً في المُجتمع، وبهذا النسيج الاجتماعي القوي يُصبح
المُجتمع أكثر قُدرةً على تلبية احتياجات أفراده جميعهم، وتوفير الدعم المادّي
والمعنوي اللازم لهم.
أما عُلماء الشريعة فيقولون إن ديننا الإسلاميّ الحنيف يحثّ على التعاون
ومُساندة المُسلمين بعضهم بعضاً، ويُشجّع على التشارك والعمل الجماعي باعتباره
واجباً لا غِنى عنه، والقاعدة الفقهية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب".
ويرون أن (التكافل الاجتماعي) صفةٌ شاملةٌ لصورٍ كثيرةٍ من التعاون والتآزر
والمُشاركة في سد الثغرات، تتمثل بتقديم العون والحماية والنُصرة والمواساة، إلى
أن تُقضى حاجة المُضطر، ويزول هَم الحزين، ويندمل جرح المُصاب، وهذا التكافل لا
يبرز بأسمى صوره إلا كُلما تعمقت معاني الأُخوة والإيثار، واندثرت جذور الأنانية
والاستئثار. إن الإسلام يُشجع على تعاون المُسلمين بعضهم مع بعضٍ، ويحث على
الأُخوة، والتراحم، والتماسك، والتعاضد فيما بينهم، من غير مُخالفةٍ لشرع الله
تعالى، وهذا التراحم، والتعاضد يُقوّي التلاحم بين أفراد المُجتمع بخاصةٍ، والأُمة
بعامةٍ، وبالتالي يقود إلى الاستقرار، والتقدم والرُقي؛ فإن العمل الجماعي في إطار
الدعوة إلى الخير والتكافل أمرٌ مرغوبٌ فيه شرعاً. والواقع يُرينا أن المرء قليلٌ
بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وأن جهود الأفراد مهما توافر لها من إخلاصٍ، تبقى محدودةً
ضعيفة الأثر، أما العمل الجماعي، فيضم الجهود بعضها إلى بعض، ويُنسِّق بينها،
ويوجهها إلى خدمة الهدف المقصود، ويجعل من اللَّبنات الضعيفة بمفردها بُنياناً
مرصوصاً يشدُّ بعضه بعضاً.
أحبتي.. إن التراحم والتعاطف و(التكافل الاجتماعي) بين الناس قيمٌ
أخلاقيةٌ، وسماتٌ حضاريةٌ ومبادئ إنسانيةٌ؛ لها أثرها البالغ في الحياة
الاجتماعية، ولها دورها الكبير في إشاعة روح التضامن والتعاضد والترابط بين الناس،
إن مُجتمعاً يشيع فيه التكافل هو مُجتمعٌ مُتماسكٌ تشيع فيه روح الحُب والتعاون
والوفاء، بينما مُجتمع الأنانية والبُخل مُتصدعٌ من الداخل؛ تأكله العداوات
والأحقاد؛ فأي المُجتمعين نختار لأنفسنا؟
لا شك أننا نختار العيش في مُجتمعٍ مُتكافلٍ مُتعاونٍ تسوده المحبة والمودة
والوئام؛ فهذا مطلبٌ شرعيٌ إذا نجحنا في تحقيقه كُنا من أسعد الناس في الدُنيا،
فضلاً عمّا يعدنا به المولى عزَّ وجلَّ من أجر ٍوثوابٍ في الآخرة.
اللهم وفقنا لما فيه الخير لنا ولغيرنا، وألهمنا الصواب، وسدِّد خُطانا،
ووحِّد صفوفنا، واجبر كسرنا، وقوِّ ضعفنا، وحبِّب إلينا كل عملٍ يُرضيك عنا
ويُقرِّبنا إليك.
https://bit.ly/4l2miyv