الجمعة، 5 ديسمبر 2025

خُلُق الإيثار

 خاطرة الجمعة /528

الجمعة 5 ديسمبر 2025م

(خُلُق الإيثار)

 

كتبت إحدى الأخوات الفُضليات عن موقفٍ حدث معها وقت أن كانت تؤدي شعائر العُمرة، كتبت تقول: أوقفتني إحدى الأخوات في صحن مسجد رسول الله قبل صلاة المغرب، لتسألني بالإنجليزية: "من أين أستطيع أن أشتري عباءةً مثل هذه؟ هل هي من هنا؟" تقصد «المدينة»، قلتُ لها: "هي من «مصر»، وددتُ لو أُحضر لكِ مثلها، من أين أنتِ؟"، قالت لي: "أنا أعيش في «أمريكا»، وأنا هنا مع زوجي في زيارة عملٍ، نحن أطباء، جئنا من «مكة» إلى «المدينة» نقضي فيها يومين ثم نذهب إلى «الأردن» بعد فجر الغد، هل تعتقدين أن أجد مثل هذه العباءة في «الأردن»؟"، قلتُ لها: "ادعِ الله أن يرزقك مثلها بل وأفضل منها"، سألتني: "هل ستذهبين إلى الحج هذا العام؟"، أجبتها: "نعم، إن شاء الله"، قالت: "ادعِ لي بأن يرزقني الله الحج العام المقبل"، قلتُ لها: "إن شاء الله"، ثم سألتها: "هل دعوتِ بذلك في «الروضة الشريفة»؟"، قالت لي: "لم أستطع زيارة «الروضة الشريفة»؛ لم يُسمح لي بحجز موعدٍ عن طريق تطبيق «نُسُك»؛ قد يكون لأنّنا في زيارة عملٍ، لا أعلم، ولكن دعوتُ الله كثيراً أن يرزقني دخولها". قلتُ في نفسي: "سُبحان الله مُجيب الدعوات"، ثم قلتُ لها: "لديّ موعدٌ اليوم الساعة الحادية عشرة مساءً، أي قُبيل سفرك بساعاتٍ إن شاء الله، والحمد لله هذه المرة الثالثة لي لزيارة «الروضة الشريفة» خلال يومين، فماذا لو جئتِ بالموعد ودخلتِ مكاني؟"، قالت لي: "هل هذا يجعلني أكذب على الأمن؟ بمعنى أني أنتحل شخصيتك؟ أنا لا أُحب الكذب"، قلتُ لها: "لا، ليس كذباً، الصدق يُنجي، هكذا علّمنا رسول الله ﷺ ونحن في مسجده، سأشرح لرجال الأمن الموقف، وإن شاء الله يوافقون على أن تدخلي بدلاً عني، هُم لن يسمحوا بدخولنا سوياً بالتصريح نفسه، لكن ما يهمهم هو دخول شخصٍ واحدٍ بالتصريح؛ اتفقنا؟"، قالت لي: "آخذ الموافقة من زوجي أولاً، وسأحدثك هاتفياً إن وافق إن شاء الله"، وتبادلنا أرقام هواتفنا.

حدثتني الساعة الحادية عشرة إلا رُبع وقالت بفرحٍ: "وافق زوجي، هل أنتِ متأكدةٌ من قرارك أن تتنازلي لي عن موعدك بالدخول إلى «الروضة الشريفة»؟" قلتُ لها: "يقول تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾". وبالفعل وصلنا إلى باب الدخول، وشرحتُ لرجال الأمن الموقف؛ فنظر إلى تصريح الدخول ووافق، ودخلت هي، حضنتني قبل الدخول، مُمتنةً لله أولاً أن استجاب دعاءها، ثم شاكرةً لي بكل عبارات الامتنان. وما إن هممتُ بالرحيل حتى ناداني فردٌ من الأمن وقال: "ادخلي أنتِ أيضاً؛ أنتِ أحسنتِ للمرأة، ألسنا أولى بأن نكون من المُحسنين؟ ادخلي يا حجية؛ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟"، دخلتُ، وكانت قد سبقتني، لكنها شاهدتني أدخل بعدها فانتظرتني لندخل معاً، وطلبت مني أن أشرح لها ما حدث وكيف دخلتُ، شرحتُ لها ما كان من فرد الأمن -جازاه الله خيراً- فبكت بكاءً شديداً، ودعت كثيراً بلسانٍ أعجميٍ، لم أفهم دُعاءها، لكني كنتُ موقنةً بالإجابة، لي ولها، ولِمَ لا؟ ألم يقل سُبحانه وتعالى: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾؟ علينا الدُعاء، وعليه الإجابة.

 

أحبتي في الله.. من حُسن خُلُق صاحبة هذا الموقف أنها لم تتكلم عن أن ما قامت به نحو تلك المُسلمة الأجنبية هو (خُلُق الإيثار)، ربما تحرجت لئلا يكون في ذلك تزكية نفسٍ منهيٌ عنها؛ فختمت عرضها للموقف بالتأكيد على استجابة الله سُبحانه وتعالى للدُعاء، وهو ما يظهر جلياً بالفعل، وبوضوحٍ، في الموقف المذكور.

 

يقول أهل العلم إن (خُلُق الإيثار) خُلُقٌ جليلٌ في الإسلام، أشاد به القرآن الكريم في مواضع مُتعددةٍ، وهو خصلةٌ نبيلةٌ تحلى بها المُسلمون الأوائل من الصحابة الكرام؛ إذ لم يصلوا إلى درجات الرِفعة والمكانة والعزة إلا حين تخلصوا من الأنانية وحُب الذات وحُب الدنيا، وامتثلوا تعاليم القرآن الكريم التي تدعو إلى السماحة والعفو والصفح والأخوة الإيمانية الحقيقية و(خُلُق الإيثار)، فكانوا من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، يقول المفسرون إن هذه الآية تصف الأنصار الذين كانوا يُعطون المُهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أي: ولو كان بهم حاجةٌ وفاقةٌ فإنهم يُقدِّمون حاجة المُهاجرين على حاجة أنفسهم. وعن سبب نزول هذه الآية أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا]، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً؛ فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: [ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فعالِكُمَا] فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

 

يقول العلماء إن (خُلُق الإيثار) من علامات محبَّة الخير للآخرين، وفيه تطهيرٌ للنفس من الأنانية والكراهية والشحناء؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]، فمَنْ لليتيم إذا فشت الأنانية وحُب الذات في المُجتمع؟! ومَنْ للأرملة المسكينة؟! ومَنْ للفقير الجائع؟! مَن لهؤلاء إذا أصبح الكُل يقول: "نفسي نفسي"، ولا يهمه إلا مصالحه ومآربه؟

 

و(خُلُق الإيثار) هو مرتبةٌ من مراتب البذل والعطاء؛ فهل هناك فروقٌ بين: السخاء والجُود والإيثار؟

ذكر العلماء فروقاً بين كلٍّ مِنها؛ فمع أنَّها كلَّها أفعال بذلٍ وعطاءٍ، إلا أنها مراتب ثلاثٌ: مرتبة السخاء: وهو أن لا يُنقِص البذلُ المُعطي ولا يصعب عليه. ومرتبة الجُود: وهو أن يُعطي الأكثر ويُبقي لنفسه شيئاً، أو يُبقي مثل ما أعطى. ثم مرتبة الإيثار: وهو أن يؤثر غيره بالشَّيء مع حاجته إليه، وهي أعلى مراتب البذل والعطاء.

 

يقول الله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، بمعنى لن تنالوا وتُدركوا البرَّ، الذي هو اسمٌ جامعٌ للخيرات، وهو الطَّريق الموصل إلى الجنَّة، حتى تُنفقوا ممَّا تُحبُّون، من أطيب أموالكم وأزكاها؛ فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدلِّ الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جُبلت النّفوس على قوة التعلق بها؛ فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذُروة العُليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه. ولا يكون الإيثار بإنفاق المال أو الإطعام فقط، وإنما يتعدى ذلك إلى تقديم الغير على النفس في كل ما يملك من جهدٍ أو وقتٍ، وغير ذلك مما يحتاجه لنفسه؛ فيتنازل عنه ويُعطيه لغيره إيثاراً وتفضيلاً.

 

ومن ثمرات (خُلُق الإيثار) ما روته لنا أُم المؤمنين عائشة؛ قالت رضي الله عنها: جاءتني مسكينةٌ تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمراتٍ؛ فأعطت كل واحدةٍ منهما تمرةً، ورفعت إلى فيها "أي: إلى فمها" تمرةً لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة -التي كانت تُريد أن تأكلها- بينهما؛ فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعت لرسول الله ﷺ فقال: [إنَّ اللَّهَ قدْ أَوْجَبَ لَهَا بهَا الجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بهَا مِنَ النَّارِ].

 

ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد أحسن من قال:

فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ

وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ

وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ

وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ

إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ

وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ

فَيا لَيتَ شُربي مِن وِدادِكَ صافِياً

وَشُربِيَ مِن ماءِ الفُراتِ سَرابُ

 

أحبتي.. إذا كُنتم ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل فأنتم من أهل السخاء، وإن كُنتم ممن يُعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم شيئاً فأنتم من أهل الجُود، أما إن كُنتم ممن يُعطون الآخرين مع حاجتكم إلى ما أعطيتم لكنكم قدمتم غيركم على أنفسكم فقد وصلتم إلى مرتبة الإيثار، وهي أعلى المراتب، لا تنشأ إلا عن قوة الإيمان، ومحبة مرضاة الله، والصبر على المشقة، رغبةً في الأجر والثواب.

ولو لم يكن من فوائد الإيثار إلا أنه وقايةٌ لنا من الشُّحِّ لكفى، أليس ذلك سبباً لنكون من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؟

نسأل الله العظيم أن يقينا شُح أنفسنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين المُفلحين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم.

 

https://bit.ly/4oxr2Np

الجمعة، 28 نوفمبر 2025

البِر لا يبلى

 

خاطرة الجمعة /527

الجمعة 28 نوفمبر 2025م

(البِر لا يبلى)

 

قال راوي القصة: في عام 2002م، كنتُ طالباً في كلية الهندسة بجامعة «الإسكندرية». كانت حالتي المادية بسيطةً جداً؛ فوالدي موظفٌ بسيطٌ ووالدتي ربة منزل. في أحد الأيام، قرَّر بعض زملائي الميسورون أن يمزحوا معي مزاحاً ثقيلاً؛ حيث دعوني للخروج معهم إلى أحد المقاهي الفاخرة، كان عددهم عشرة، وبعد أن طلب كل واحدٍ منهم مشروبه، أخذوا يتسللون واحداً تلو الآخر بحججٍ واهيةٍ، تاركين المكان، حتى وجدتُ نفسي وحيداً، ولم يكن معي هاتفٌ محمولْ لأتصل بأحدٍ، عندما هممتُ بالمغادرة، سألتُ المُحاسب عن قيمة الفاتورة، فأخبرني أنها 250 جنيهاً، بينما لم يكن في جيبي سوى 35 جنيهاً فقط! شعرتُ بصدمةٍ وإحراجٍ شديدين، وطلبتُ التحدث مع صاحب المكان، جاءني رجلٌ وقورٌ في الخمسينيات من عُمره، فشرحتُ له ما حدث، وعرضتُ عليه أن أترك بطاقتي الشخصية وبطاقتي الجامعية كضمانٍ لحين إحضار المبلغ في الغد، لكنه ابتسم وقال لي بلطفٍ: "عيبٌ يا بني، احتفظ ببطاقتك، وأحضِر المبلغ غداً أو بعد غدٍ، أو في أي وقتٍ يتيسر لك، وإن لم تستطع السداد فأنت في حِلٍّ منه"، دمعت عيناي من نُبل أخلاقه، وشكرته وانصرفت، وفي اليوم التالي، أحضرتُ له المبلغ الذي كنتُ أدخره، وأصررتُ عليه أن يأخذه.

مرَّت الأيام، وتخرجتُ في الكلية، وسافرتُ إلى «ألمانيا» حيث حصلتُ على الماجستير والدكتوراه، وأكرمني الله بوظيفةٍ مرموقةٍ ورزقٍ وفيرٍ. بعد عشر سنواتٍ، عدتُ إلى «مصر» في إجازةٍ، وقادني الوفاء للذهاب إلى ذلك المقهى لزيارة الرجل الطيب، لكنني فوجئتُ بأن المقهى مُغلقٌ! سألتُ عن عنوان صاحب المقهى وذهبتُ إلى منزله، وهناك استقبلني ولم يعرفني في البداية، فذكرته بنفسي وبالموقف القديم فتذكرني، سألته عن سبب إغلاق المقهى، فأخبرني بحزنٍ أن الديون والضرائب تراكمت عليه، ولم يعد قادراً على دفع رواتب العمال، سألته: "كم تحتاج لتُعيد فتح المقهى وتُسدد ديونك؟"، بعد إلحاحٍ مني، أخبرني أنه يحتاج إلى 120 ألف جنيه، طلبتُ منه أن ينتظرني في اليوم التالي، وعندما حضرتُ رحَّب بي، قدمتُ له مبلغاً أكبر مما كان يحتاجه؛ ذُهل الرجل وبكى بشدةٍ، وقال: "لماذا تفعل هذا يا بُني؟" قلتُ له مازحاً: "لأني أرغب في أن آتي لشُرب القهوة في محلك بعد أُسبوعٍ!"، أراد الرجل أن يكتب لي إيصال أمانةٍ بالمبلغ ليُسدده حين يرزقه الله، فابتسمتُ وقلتُ له: "أتذكر ماذا قلتَ لي قبل سنواتٍ؟ قلتَ لي سدِّد حين يتيسر معك، وإن لم تأتِ فأنت مُسامح.. وأنا اليوم أقول لك: لا أُريد ورقاً، وإن لم تستطع السداد فأنت في حِلٍّ من هذا المال"، احتضنني الرجل وهو يبكي، وأيقنتُ حينها أن الله لا ينسى أصحاب القلوب الرحيمة؛ فسُبحان من ساقني إليه في هذا التوقيت، وسُبحان من دبَّر الأسباب لأرُد الإحسان بالإحسان، وكما تدين تُدان.

 

أحبتي في الله.. حقاً وصدقاً (البِر لا يبلى)، يدور الزمن دورته، ليُثبت لنا أن عمل الخير لا يضيع؛ فهو يعود لفاعله مهما بعدت الأيام وتوالت الشهور والأعوام؛ فهذه قصةٌ أُخرى من الواقع تؤكد على أن هذه الحقيقة سُنةٌ إلهيةٌ تتكرر، وإن تعددت أشكالها واختلفت صورها؛ ففي إحدى العائلات كان هناك رجلٌ كبيرٌ أرمل، ماتت زوجته وتركت له خمس بناتٍ، يعيشون معاً في بيتٍ يملكه الأب. تقدَّم أربعة رجالٍ لخطبة أربعٍ منهن في توقيتٍ مُتقاربٍ؛ فقرر الأب أن يُزوج الكبيرة ثم التي تليها ثم التي تليها، ثم التي تليها، حسب ترتيبهن في السن. لكن البنت الكبيرة كانت حنونةً وطيبةً فرفضت الزواج لأنها أرادت أن تهتم بوالدها وتخدمه، فتزوجت أخواتها الأربع الأصغر منها وظلت هي في خدمة أبيها كما أرادت، ظلت ترعى أباها إلى أن مات ورحل عن الدنيا، بعد وفاته فتحوا وصيةً كان قد تركها؛ فوجدوه قد كتب فيها: "لا تُقسِّموا البيت ولا تبيعوه حتى تتزوج أختكم الكبيرة التي ضحت بسعادتها من أجل سعادتكن". لكن الأخوات الأربع رفضن الوصية، وأردن أن يبعن البيت لتأخذ كل واحدةٍ منهن نصيبها، دون مُراعاة أين ستذهب أختهن الكبيرة التي ليس لها مأوى سوى هذا البيت. تمّ بيع البيت لتاجرٍ ثريٍ، وتقسيم مبلغ البيع على الورثة، ومن بينهم البنات الخمس؛ فعادت كلٌ منهن إلى بيت زوجها وهي في غاية السعادة، لم تُفكرن في مصير أختهن الكبيرة!

لما وجدت الأخت الكبيرة نفسها في هذا الموقف اتصلت بالتاجر الذي اشترى البيت، وحكت له عن وصيّة والدها، وأنها ليس لها إلا هذا البيت يأويها، وطلبت منه أن يصبر عليها بضعة أشهرٍ تمكث في بيت أبيها حتى تجد لها مكاناً مُناسباً تعيش فيه؛ فتفهَّم الرجل حالتها، ووافق على طلبها.

مضت عدة شهورٍ ثم تلقَّت الأخت الكبيرة اتصالاً من الرجل الذي اشترى البيت، فخافت أن يطردها منه، ولم تكن قد وجدت لنفسها مأوىً بعد، حدَّد الرجل معها موعداً، وأتاها للبيت فقالت له: "اعذرني؛ أنا لم أجد مكاناً بعد"! ففوجئت به يقول: "لا عليك، أنا لم أحضر من أجل ذلك، لكني أتيتُ لأُسلِّمكِ ورقةً من المحكمة؛ لقد وهبتُ هذا البيت لكِ مهراً! إن شئتِ قبلتِ أن أكون لك زوجاً، وإن شئتِ رجعتُ من حيث أتيتُ، وفي كلتا الحالتين البيت هو لكِ، وهذه هي ورقة الهبة باسمك موثقةٌ من المحكمة!"، بكت الأخت الكبيرة، وعلمت أن الله لا يُضيِّع عمل المُحسنين، فوافقت على الزواج من ذلك التاجر الطيب، وكسبت زوجاً كريماً، وأصبح بيت أبيها بيتها بعد أن باعته أخواتها ولم تُفكرن في مصيرها، لكن الله عوَّضها خيراً.

علق ناشر القصة عليها بقوله: "مهما فعلتَ من خيرٍ فلن يُضيِّع الله أجرك، فكيف إن كان الخير هو البر بالوالدين؟! لا تنسوا أن (البِر لا يبلى) والذَّنب لا يُنسَى، والدَّيَّان لا يَموت، فَكُن كما شئتَ فَكَما تدينُ تُدان.

 

وهذا أحد الرجال كتب يقول: إنه قبل خمسين عاماً حجَّ مع والده بصحبة قافلةٍ من الجِمال، وعندما تجاوزوا منطقة «عفيف» رغب الأب في أن يقضي حاجته؛ فأنزله الابن من البعير، ومضى الأب إلى قضاء حاجته وقال لابنه: "انطلق مع القافلة وسوف ألحق بكم"، مضى الابن، وبعد بُرهةٍ من الزمن التفت فوجد أن القافلة بعدت عن والده؛ فعاد على قدميه مُسرعاً وحمل والده على كتفه ثم انطلق يجري به، يقول الابن: "بينما أنا أحمل والدي على كتفي أحسستُ برطوبةٍ تنزل على وجهي، وتبين لي أنها دموع والدي، فقلتُ له: واللهِ إنك أخفُّ على كتفي من الريشة؛ فقال أبي: ليس لهذا السبب أبكي، إنما أبكي لأني تذكرتُ أني في هذا المكان كنتُ قد حملتُ والدي"!

 

صدق من قال (البِر لا يبلى)، يقول أهل العِلم إن هذه العبارة جزءٌ من حديثٍ ضعيفٍ، لكن معناه صحيحٌ؛ فالبِر قد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: [البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ]، و"البِر" يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللُطف وحُسن الصُحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حُسن الخُلُق. ومعنى "يبلى" يزول نفعه، مِن بَلِيَ الثوب أي صار قديماً وتقطع. ومعنى (البِر لا يبلى) أي أن ما يُقدِّمه الإنسان من أنواع البِر وحُسن الخلق يعود لصاحبه، ولو بعد حينٍ، ويبقى أثره، ويجده العبد في صحيفة أعماله فيجازيه الله على إحسانه.

 

وكما يعود عمل الخير لأهله، فإن عمل السوء -كذلك- يعود لأهله، يقول الشاعر:

المَرْءُ يُعْرَفُ فِي الأَنَامِ بِفِعْلِهِ

وَخَصَائِلُ المَرْءِ الكَرِيمِ كَأَصْلِهِ

اِصْبِر عَلَى حُلْوِ الزَّمَانِ وَمُرِّهِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ

لا تَسْتَغِيبَ فَتُسْتَغابُ، وَرُبّمَا

مَنْ قَالَ شَيْئًا، قِيْلَ فِيْهِ بِمِثْلِهِ

وَتَجَنَّبِ الفَحْشَاءَ لا تَنْطِقْ بِهَا

مَا دُمْتَ فِي جِدِّ الكَلامِ وَهَزْلِهِ

وَإِذَا الصَّدِيْقُ أَسَى عَلَيْكَ بِجَهْلِهِ

فَاصْفَحْ لأَجْلِ الوُدِّ لَيْسَ لأَجْلِهِ

كَمْ عَالِمٍ مُتَفَضِّلٍ، قَدْ سَبّهُ

مَنْ لا يُسَاوِي غُرْزَةً فِي نَعْلِهِ!

البَحْرُ تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفُ الفَلا

وَالدُّرُّ مَطْمُوْرٌ بِأَسْفَلِ رَمْلِهِ

وَاعْجَبْ لِعُصْفُوْرٍ يُزَاحِمُ بَاشِقًا

إلاّ لِطَيْشَتِهِ وَخِفّةِ عَقْلِهِ!

إِيّاكَ تَجْنِي سُكَّرًا مِنْ حَنْظَلٍ

فَالشَّيْءُ يَرْجِعُ بِالمَذَاقِ لأَصْلِهِ

فِي الجَوِّ مَكْتُوبٌٌ عَلَىَ صُحُفِ الهَوَى

مَنْ يَعْمَلِ المَعْرُوفَ يُجْزَ بِمِثْلِهِ

 

أحبتي.. إنَّ فِعل الحسنات والإحسان إلى الغير يعود على صاحبه بالخيرات في الدنيا والآخرة، كما أنه مِنْ أسباب دوام الثناء الجميل؛ يقول الشاعر:

قَدْ ماتَ قَوْمٌ وَما ماتَتْ فَضائِلُهُم

وَعاشَ قَوْمٌ وَهُمْ في النّاسِ أَمْواتُ

علينا إذن أن نُبادر إلى كل عمل خيرٍ مُمكنٍ، مع أهلنا وجيراننا وزملائنا، ومع من هُم أغرابٌ عنا، فسيعود عمل الخير علينا، عاجلاً أو آجلاً في الحياة الدُنيا، كما سيُكتب لنا في موازين حسناتنا في الآخرة. وعلينا أن نُعامِل كل إنسانٍ كما نُحب أن نُعامَل؛ فلا نظلم، ولا نكذب، ولا نغتاب؛ فالزمن سيدور ونذوق مُر ما فعلنا.

اللهم ألهمنا رشدنا، واهدنا إلى ما تُحبه وترضاه.

 

https://bit.ly/488xdCR

الجمعة، 21 نوفمبر 2025

ليسوا عبيداً

 

خاطرة الجمعة /526

الجمعة 21 نوفمبر 2025م

(ليسوا عبيداً)

 

كتبت تقول: لقد اقتص مني الله سُبحانه وتعالى قصاصاً عادلاً، وهذه القصة أكتبها ندماً واعترافاً بذنبي لعل الله يغفر لي ما فعلتُ وأنا في قوتي وشبابي؛ فقد تزوجتُ من رجلٍ عسكريٍ كان حاد الطباع وصارماً بعض الشيء، ولعل تلك الصفات اكتسبها من طبيعة عمله، فتفهمته وتطبعتُ بطباعه، وما إن رزقني الله منه طفلين هما «عليّ» و«جنان» حتى كرستُ لهما حياتي، ولكن مع كبر سنهما وزيادة الأعباء المنزلية شعرتُ بحاجتي لخادمةٍ، فأحضر لي زوجي واحدةً، لكنها لم تستمر لدينا سوى شهرٍ واحدٍ، فطباع زوجي السيئة كانت تجعل الخادمات تهربن منا، وجاء لي بخادمةٍ، ثم بأُخرى، وهكذا كُل واحدةٍ تأتي لا تستمر في العمل سوى لأيامٍ أو أسابيع، حتى جاء إلينا يوماً رجلٌ قرويٌ فقيرٌ ومعه ابنته التي يبلغ عمرها عشر سنواتٍ، كانت طفلةً صغيرةً قدَّمها لنا أبوها نظير المال، وبالفعل أعطاه زوجي المال، وكان لا يراه إلا كُل أول شهرٍ عند المجيء لأخذ راتب ابنته، وكان هذا الرجل لا يقضي وقتاً مع ابنته فيذهب في عُجالةٍ إلى القرية؛ ليصرف ما أخذه من مالٍ على إخوتها وأُمها. للحق كانت الفتاة جيدةً تفعل كل ما تؤمر به، وحتى الطعام لا تأكل إلا الخبز الفاسد مع بعض البقايا التي كُنا نرميها سابقاً، وكانت تستيقظ معي كل يومٍ قبل موعد ذهاب أبنائي إلى المدرسة، فتُعد معي الفطور وتبدأ في مهام المنزل المُرهقة التي لم أتحملها وحدي من قبل، وتظل تعمل طيلة النهار حتى تسقط ليلاً من فرط التعب على أرضية المطبخ حيث تنام، وبالطبع لم يتورع زوجي القاسي عن تأديبها وتعذيبها على أي خطأٍ ترتكبه ولو كان بغير قصدٍ، ولا أنفي مسئوليتي في هذا فأنا لم أمنعه، بل على العكس تماديتُ معه، وكُنا أحياناً نتركها تنام دون طعامٍ، وأحياناً نمنعها من النوم، ونُرهقها في العمل دون أن نفكر في أنها طفلةٌ صغيرةٌ لا تستحق ذلك، وكان ابني «عليّ» قاسي القلب، كقلبي وقلب أبيه، فلا يتورع عن لكمها ورفسها بقدمه إن أخطأت، أما «جنان» فكانت اليد الوحيدة الحانية في منزلنا السيئ، التي تُضمد جراح الصغيرة وتحنو عليها لهذا كانت الفتاة تحبها.

دارت الأيام وكبرت الفتاة وكبر أبنائي، وأوضاعنا كما هي لم تتغير؛ قسوةٌ وعنفٌ دون رحمةٍ، وفتاةٌ لا حول لها ولا قوة، أُسرتها لم تعد تسأل عنها وليس لها أحدٌ سوانا، فاستسلمت لقهرنا وظُلمنا وظلت طوال النهار تعمل، وهي ذليلةٌ كسيرةٌ، وفي الليل ترقد كالمغشي عليها، حتى جاء اليوم الذي هربت فيه؛ فقد أحبَّت شاباً بسيطاً، كان يعمل بائعاً في متجرٍ قريبٍ من المنزل، هربت لتتزوجه لأنها كانت تعلم أننا نرفض أي أحدٍ يتقدم لخطبتها، فهي صيدٌ ثمينٌ لنا؛ فريسةٌ دون أهلٍ، فهي لم ترَ إخوتها إلا يوم وفاة أبيها، حتى أن لا أحد كان يسأل عنها أو يهتم بأمرها. حينما علم زوجي بهروبها جُن جنونه، وبعلاقاته واتصالاته عرف مكانها، واستطاع إحضارها -لا أقول إلى دارنا بل إلى نارنا- من جديدٍ، وفي تلك المرة عذَّبها بأبشع الطُرق، وظل يضرب فيها هو وابني «عليّ» وأنا كنتُ معهم. استسلمت الفتاة لمصيرها البائس وبدأت تذبل، وبعد فترةٍ بدأت الأشياء تتساقط من يدها بصورةٍ مُتكررة؛ فعرضناها على الطبيب فقال لنا إنها فقدت الرؤية في إحدى عينيها والثانية ضعيفةٌ للغاية. بالطبع لم نتكلف أنا أو زوجي عناء علاجها فتركناها تذهب، فهي الآن لم يعد لها نفعٌ بالنسبة لنا ووجودها في المنزل صار عبئاً؛ خرجت الفتاة شبه الضريرة، وهي ليس لها أحدٌ، ولم نُحاول حتى معرفة أين ستذهب، فقط طوينا تلك الصفحة وبحثنا عن خادمةٍ أُخرى.

مرَّت الأيام وتقدم ابني «عليّ» لخطبة فتاةٍ جميلةٍ من أُسرةٍ مرموقةٍ، وتمت الخطبة ثم الزواج، وكان الجميع سُعداء، وبعد تسعة أشهرٍ من الزواج رزقنا الله بأول حفيدٍ؛ طفلٌ آيةٌ في الجمال، لكنه للأسف وُلد ضريراً، فكانت الصدمة كبيرةً على العائلة، وخشيت زوجة ابني أن تحمل ثانيةً حتى لا تتكرر المأساة، لكن الأطباء طمأنونا لأنه ليس هناك صلة قرابةٍ بين ابني وزوجته، حدث بالفعل الحمل الثاني وكان الجميع في قلقٍ وترقبٍ، لكن حينما وضعت الأُم طفلتها طمأننا الأطباء، وكانت الفتاة سليمةً وترى بوضوحٍ، ففرحتُ أنا وزوجي وكل من حولنا، لكن بعد مرور ستة أشهرٍ حدثت المُفاجأة، لقد أصيبت الفتاة بمرضٍ في العين أضعف بصرها للغاية، وأصبحت على وشك العمى. يا الله كانت فاجعةً بالنسبة لنا، شعرتُ يومها أن هذا انتقامٌ من الله لأجل تلك الفتاة التي أضعنا بصرها، وتركناها هائمةً في الدنيا دون أن نُفكر في مصيرها، حينها فقط ندمتُ، أما زوجي فأصيب بمرضٍ نفسيٍ نقلناه على إثره إلى مصحةٍ، باقٍ فيها من يومها ولا تتحسن حالته.

أخذتُ أبحث عن الفتاة بكل جهدي وحاولتُ أن أجدها، لكن لا أحد يعلم أين هي؟ ظللتُ هكذا حتى وفقني الله يوماً للصلاة في أحد المساجد، وهناك رأيتها نائمةً في ركنٍ قريبٍ، وعلمتُ من الناس أنها تخدم في هذا المسجد مُنذ طردناها، والناس يعطفون عليها بالطعام والشراب؛ فحمدتُ الله أني وجدتها، واقتربتُ منها وعرَّفتها بنفسي، الغريب أنها سلَّمت عليّ ولم تنفر مني! كم كنتُ قاسيةً وشريرةً، وكم كانت هي طيبةٌ ورحيمةٌ، طلبتُ منها أن تأتي معي واعتذرتُ لها عن سنوات الحرمان والعذاب، ورجوتها أن تُسامحني فربتت على كتفي وقالت: "لا عليك يا خالة"، بكيتُ وبكيتُ حتى أغرقت الدموع ثيابي؛ فقد اقتص الله لعبدته الضعيفة مني ومن جبروت زوجي، أين هي الآن وأين نحن؟ تعهدتُ لها بقية عُمري أن أعتني بها، وأعمل على خدمتها حتى يغفر الله لي ما فعلته أنا وأُسرتي بحقها، وأتمنى من الله أن يتقبل مني ذلك حتى أستطيع الموت في سلام.

 

أحبتي في الله.. كم من مآسٍ يتعرض لها الخدم في منازل المخدومين؟ ومن الإنصاف أن نُشيد بأُسرٍ تعاملت مع هؤلاء بالحُسنى، وهي المُعاملة التي ينبغي أن يتعامل بها المسلمون بعضهم مع بعضٍ، وكذلك مع غير المسلمين، مهما تفاوتوا في مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها من مستويات. لكن تركيزنا على من يتعاملون مع الخدم بطريقةٍ غير إنسانيةٍ يرفضها الشرع الحنيف وتأباها الفطرة السوية.

 

كتبت إحدى الخادمات تحكي عن برنامج عملها اليومي، قالت: أستيقظ يومياً الساعة الخامسة صباحاً بأمرٍ من ربة المنزل لعمل وجبة الإفطار للأولاد قبل ذهابهم إلى المدرسة، وبعد إعداد تلك الوجبة وتجهيزها أقوم بدور الموقظ لهم من النوم، وتغسيل الصغار منهم، وإلباسهم الزي المدرسي، وبعد ذهابهم إلى المدرسة أقوم بتنظيف أواني الإفطار وإعداد وتجهيز وجبة إفطارٍ أُخرى لربة المنزل ولزوجها اللذين مازالا يغطان في نومٍ عميق. أقوم بعد ذلك بتجهيز مُستلزمات المطبخ من تقطيعٍ للحوم والخضروات. ثم أتوجه لعمل التنظيف اليومي لأرجاء المنزل، وقبل أن استكمل نصف هذا العمل، إذا بصوت ربة المنزل يُناديني بإحضار الفطور لها ولزوجها. أعود بعد ذلك لاستكمال عمل التنظيف الذي قطعتني عنه ربة المنزل. وبعد الانتهاء من ذلك العمل يكون الوقت قد حان لعمل وجبة الغداء، والتي تأخذ مني الكثير من الوقت. وما أن يصل الأولاد من المدرسة حتى يكون طعام الغداء جاهزاً؛ فأقوم بتقديمه لهم. بعد ذلك يأتي دور تنظيف الأواني الخاصة بالطبخ وبوجبة الغداء. وما أن يؤذَن لصلاة العصر، وأحياناً بعدها بساعةٍ، إلا وقد انتهيتُ من أعمال المطبخ، وما أن ينتهي هذا العمل حتى أجد أمامي عملاً آخر، ألا وهو كي الملابس ثم توزيعها على غُرف أصحابها. وعند الانتهاء يكون الموعد قد حان لإعداد وجبة العشاء للأبناء، يعقبها إعداد وجبة العشاء لربة المنزل وزوجها، والذي عادةً ما يتناولانه بعد الساعة الحادية عشرة مساءً، وعليّ أن أنتظرهما إلى هذا الوقت المتأخر من الليل، أؤدي واجب الخدمة لهما من تقديم طعام العشاء ثم تنظيف الأواني الذي يعقب تلك الوجبة؛ فما أن أُنهي هذا العمل إلا وقد أنهكني التعب وأخذ مني كل جُهدٍ فأتجه بكل صعوبةٍ إلى غُرفتي الخاصة بعينين مُرهقتين يُغالبهما النُعاس، أُلقي نظرةً على ساعتي الصغيرة فإذا هي تُشير إلى الساعة الواحدة بعد مُنتصف الليل، وقد تزيد أحياناً فأستلقي طريحة الفراش من أثر التعب، وفي غمرة النوم فإذا بساعتي الصغيرة ذات الجرس المُزعج تُعلن موعد استيقاظي ليومٍ جديدٍ وعملٍ مُرهقٍ آخر!

 

المُتخصصون في عِلم الاجتماع يقولون إن مظاهر القسوة على الخدم كثيرةٌ؛ منها: تأخير صرف رواتبهم، وهذا مُحرمٌ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [أعطوا الأجيرَ أجْرَه قَبلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُه]. كما أن احتقار الخادم والتعالي عليه ودعوته بأكره أسمائه إليه والصُراخ في وجهه عنوان قسوةٍ ونذالةٍ، ويدل على بشاعة نفسٍ. ومن القسوة تشغيل الخادم ساعاتٍ طويلةً فوق طاقة الإنسان، مع أن الخادم له حقٌ معلومٌ في الراحة والترفيه عن النفس. إن البعض يُسيء بالفعل مُعاملة الخادم وينسون -أو يتناسون- أنه بشرٌ مثلهم، يشعر ويُحس، يفرح ويحزن، يتعب ويمرض، إنه إنسانٌ وليس آلةً، يحتاج مثلما نحتاج نحن كُلنا إلى مساحةٍ من الراحة والترويح عن النفس.

 

إن هؤلاء الخدم إخوةٌ لنا في الإنسانية، وربما في الدين أيضاً، إنهم (ليسوا عبيداً)، فما هو واجبنا تجاههم؟ وما هي حقوقهم التي ينبغي علينا الوفاء بها، إرضاءً لله سُبحانه وتعالى؟ وما هو حُكم إساءة التعامل معهم؟ وهل إساءة التعامل معهم ظُلمٌ لهم؟

يقول أهل العِلم نعم، إنه ظلمٌ؛ فهؤلاء مساكين، أتوْا لطلب الرزق لأنفسهم ولأُسرهم، والله تعالى قد حرَّم الظُلم؛ فقال كما في الحديث القدسي: {يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}. والظُلم بالقول أو بالفعل عاقبته وخيمةٌ، وأقرب شيءٍ منها دعوة المظلوم، هذه الدعوة التي لم يجعل الله بينها وبينه حجاباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ].

إن الإسلام الحنيف، يُحرّم


القسوة على الخدم، وإيذاءهم جسدياً أو نفسياً، أو تكليفهم ما لا يطيقون؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، والخادم إنسانٌ له حق الراحة والإجازة والخلوة بالنفس. ومن يدري؛ ربما تحولت أحوالنا فصرنا لمصير هؤلاء الخدم، فأصبحنا نخدم في البيوت كما يخدمون، والله تعالى يقول: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فهل سيرضى أحدنا أن يُهان أو تُمس كرامته؟ إن علينا أن نتقي الله عزَّ وجلَّ فيمن اضطرته الظروف، ودفعته الحاجة، وسخَّره الله لخدمتنا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [قالَ اللَّهُ: "ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه"]. وعلينا أن نرعى فيهم وصيته عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال: [إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ]. و"الخَوَلُ" هُم الخدم؛ سُموا بذلك لأنهم يتخولون الأمور أي: يُصلحونها، ومنه يُقال "الخولي" لمن يقوم بإصلاح البستان.

يقول العُلماء إن من حق الخادم على مُستخدمه أن يُطعمه مما يَطعم، وأن يُلبسه مما يلبس، وألا يُكلِّفه بما لا يستطيع عمله وإلا أعانه عليه، إما بنفسه أو بأُجَراء آخرين. وأن يُسكنه فيما يسكن، أو في سكنٍ مناسبٍ، بما يضمن له كرامته وخصوصيته. وأن يُعطيه من الأجر ما يُناسب عمله ومجهوده، ولا يستغل حاجته وفقره. وألا يَسُبه، ولا يشتمه، ولا يضربه؛ فعن أحد الصحابة رضي الله عنه قال: "كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِن خَلْفِي، [اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ]، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الغَضَبِ، قالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا هو يقولُ: [اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ]، قالَ: فألْقَيْتُ السَّوْطَ مِن يَدِي، فَقالَ: [اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ علَى هذا الغُلَامِ]، قالَ: فَقُلتُ: لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا". وفي روايةٍ: "فَسَقَطَ مِن يَدِي السَّوْطُ مِن هَيْبَتِهِ".

وعلى المخدوم أن يتذكر دائماً أن هؤلاء الخدم (ليسوا عبيداً) إنما هُم بشرٌ مثلنا لهم حقوقٌ علينا يجب احترامها. كما أن على المخدوم أن يُتجاوز عن خطأ الخادم وتقصيره؛ فلا يزيد عليه التوبيخ عندما ينسى فعل أمرٍ أُمر به، أو كسر بعض الأواني دون قصدٍ. عليه أيضاً أن يجتهد في تعويض خادمه ما فقده من أهلٍ وعشيرةٍ. وأن يُمسكه بإحسانٍ أو يتخلى عنه بإحسانٍ؛ فإن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ. وعلى المخدوم كذلك ألا يُظلم غير المُسلمين من الخدم، بل ينبغي أن يدعوهم إلى الإسلام بسلوكه الحسن، ومُعاملته الطيبة، ولا يُنفِّرهم من الإسلام بسلوكه الفظ والقاسي.

 

لقد كان لنا في النبي صلى الله عليه وسلم أُسوةٌ حسنةٌ؛ قال أنسٌ ابن مالك رضي الله عنه: "خدَمْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشْرَ سِنينَ، فما قال لي لشيءٍ فعَلْتُه: لِمَ فعَلْتَه؟ ولا لشيءٍ لم أفعَلْه: ألَا فعَلْتَه؟ وكان بعضُ أهلِه إذا عتَبَني على شيءٍ يقولُ: دعُوه؛ فلو قُضِيَ شيءٌ، لكانَ".

وهذا رجلٌ جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، كم نعفو عن الخادمِ؟ فصمَتَ، ثم أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلما كان في الثالثةِ قال: [اعفُوا عنه في كل يومٍ سبعين مرةً]، وهذا العدد للكثرة، لا لبلوغ مُنتهى العدد، وهذا كنايةٌ عن العفو الدائم عن الخادم، مع إرشاده إلى الصواب وتأديبه.

 

الخلاصة كما نشرها أحدهم؛ فقال: الخدم (ليسوا عبيداً) إنهم فئةٌ مسكينةٌ من البشر، اضطرتهم الحاجة إلى مُمارسة هذه المهنة. وعلى الرغم من عدم احترام الناس لها، فإنها مهنةٌ كريمةٌ، مثلها في ذلك مثل أية مهنةٍ أُخرى، بل ويُقال "سَيّدُ القومِ خَادِمُهُم". الخادم إنسانٌ كامل الأهلية كباقي البشر، له حقوقٌ، وعليه واجباتٌ، وليس عبداً يُباع أو يشترى، فهو يعمل مُقابل راتبٍ مُتفقٍ عليه، وعقدٍ مُبرمٍ بينه وبين رب العمل. الخادم إنسانٌ شريفٌ، لجأ للعمل بهذه المهنة، بدلاً من أن يسرق أو يمد يده للآخرين، فيجب التعامل معه على أن له شعوراً؛ يغضب إذا أُهين، ويفرح إذا أُكرم. إن الذي يتعامل مع خدمه بمكارم الأخلاق؛ فلا يستكبر عليهم ولا يحتقرهم، ولا يظلمهم أو يقسو عليهم، وإنما يُعاملهم بما يستحقون من إنصافٍ وعدلٍ، فهو يدل على أن أخلاقه الحقيقية راقيةٌ، وأنه كريم الأصل، كريم السجايا والنفس.

 

أحبتي.. إذا دعتنا قُدرتنا إلى ظُلم من جعلهم الله تحت ولايتنا وسُلطاننا من خدمٍ، أو عُمالٍ، أو رعيةٍ، أن نتذكر قُدرة الله وبطشه وجبروته علينا. والواجب أن نتقي الله تعالى في تعاملنا معهم ولا ننسى أبداً أنهم (ليسوا عبيداً).

وعلى من يقسو على خدمه أن يرجع عن قسوته وغلظته، وأن يتوب لله توبةً نصوحاً، ويستسمح ممن ظلمهم، وأن يُكرمهم؛ فكم من مُسلمٍ يُتعِب نفسه في الدُنيا بطاعاتٍ وأعمالٍ لكن أجورها قد تضيع عليه في الآخرة بأخذها منه وإعطائها لمن تعدى عليهم في الدنيا بسبٍ أو ضربٍ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟] قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: [إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ].

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

https://bit.ly/4rkrx07

الجمعة، 14 نوفمبر 2025

فقيد الأُمة

خاطرة الجمعة /525

الجمعة 14 نوفمبر 2025م

(فقيد الأُمة)

 

في التاسع من نوفمبر الحالي، طوى العالم الإسلامي صفحةً من صفحاته المُضيئة برحيل أحد كبار عُلمائه ودُعاته المُخلصين، الذي توفاه الله تعالى في العاصمة الأردنية عمّان عن عمرٍ ناهز اثنين وتسعين عاماً. برحيله فقد المسلمون واحداً من أبرز رموز الفكر والدعوة في العصر الحديث، وأحد الذين نذروا حياتهم لتجديد الصلة بين العِلم والإيمان، بين العقل والنقل، بين الوحي والكون، في خطابٍ دعويٍ راقٍ جمع بين الصرامة العلمية والروح الإيمانية وبلاغة الحُجة القرآنية. وُلِد في «مصر»، وتخرّج في كلية العلوم بجامعة «القاهرة»، ثم واصل دراساته العليا في الجيولوجيا بجامعاتٍ غربيةٍ مرموقةٍ، ليعود بعد ذلك أُستاذاً وباحثاً ومُحاضراً، قبل أن يتفرغ لرسالة العِلم في خدمة الدعوة. عرفه الناس داعيةً لا يعرف الكلل، وعالماً يجوب الآفاق من مؤتمرٍ إلى آخر، ومن منبرٍ إلى شاشةٍ، يتحدث عن الإسلام بلغة العِلم، ويُدافع عن القرآن بلسان العقل، حتى أصبح اسمه مرتبطاً بمجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، الذي حمل لواءه لعقودٍ طويلة.

لم يترك (فقيد الأُمة) بلداً إلا وبلَّغ فيه دعوة الله، ولم يعرف من التعب إلا ما يحفّز على مزيدٍ من البذل. وكان يُردد دائماً في محاضراته ولقاءاته: "نحن المسلمين بأيدينا الوحي السماوي الوحيد المحفوظ بحفظ الله كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.. وأُريد من كل شابٍ مُسلمٍ أن يحمل هذا المعنى في قلبه وعقله؛ ليشعر بمدى الأمانة التي على كتفيه". بهذا الوعي حمل رسالته إلى الأجيال، مؤمناً بأن الدعوة لا تنفصل عن العِلم، وأن على المُسلم أن يُسهم في بناء حضارةٍ قائمةٍ على المعرفة والإيمان معاً. كان -يرحمه الله- من أوائل العُلماء الذين نادوا بضرورة أن يستعيد المُسلمون الريادة العلمية، وأن يجعلوا من العِلم وسيلةً لفهم آيات الله في الكون، لا مجرد وسيلةً نفعيةً دنيويةً؛ يقول يرحمه الله: "نحيا في عصر العِلم، عصرٍ وصل فيه الإنسان إلى قدْرٍ من المعرفة بالكون ومُكوناته لم تتوفر في أي زمنٍ من الأزمنة السابقة، ولما كانت المعارف الكونية في تطورٍ مُستمرٍ، وجب على أُمة الإسلام أن ينفر في كل جيلٍ نفرٌ من عُلمائها يتزودون بالأدوات اللازمة لتفسير كتاب الله". وكان يُلحّ (فقيد الأُمة) على المُتخصصين أن يلتزموا بالمنهج العلمي الصارم عند تناول قضايا الإعجاز، وأن “لا يوظَف فيه إلا القطعي من الثوابت العلمية”، مُحذراً من تحويل الإعجاز إلى خطابٍ عاطفيٍ أو تخميناتٍ غير مُنضبطة. ومما ميّز الفقيد هو منهجه المتوازن في الدعوة، القائم على مُخاطبة العقول والقلوب معاً؛ فكان حين يتحدث عن الإيمان يتحدث بلسان العالِم الباحث، وحين يشرح آيةً كونيةً يتحدث بلسان العابد المتأمل في خلق الله، فجمع بين البيان القرآني والدليل العلمي، ليُقرِّب القرآن إلى الأذهان بلغةٍ يفهمها الجيل المُعاصر. وفي إحدى كلماته للشباب قال: "أُريد لكل شابٍ مُسلمٍ أن يُدرك أن الله اصطفاه لحمل رسالةٍ عظيمةٍ، وأن عليه أن يقرأ هذا الكون بعينٍ مؤمنةٍ؛ فيرى في كل ذرةٍ آيةً، وفي كل نظامٍ دليلاً على وحدانية الخالق".

خلَّف الفقيد عشرات المُؤلفات والمُحاضرات والمُقالات التي تناولت الإعجاز العلمي في الأرض والسماء والماء والجبال والإنسان، وشرح من خلالها التناسق البديع بين النص القرآني والحقائق الكونية الثابتة. كما شارك (فقيد الأُمة) في تأسيس «الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسُنة»، وأسهم في تدريب أجيالٍ من الباحثين، وأشرف على مُلتقياتٍ ومُؤتمراتٍ عالميةٍ في الجامعات والمراكز الإسلامية عبر القارات. نعاه «الاتحاد العالمي لعُلماء المُسلمين» قائلاً: "فَقَدَ العالَم الإسلامي اليوم عَلماً من أعلامه، وعالِماً من عُلمائه المُخلصين، بعد مسيرةٍ علميةٍ ودعويةٍ حافلةٍ بالعطاء في ميادين العِلم والإيمان والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة".

لكن رحيل (فقيد الأُمة) الجسدي لا يعني غيابه الفكري؛ فصوته الذي طالما صدح في القاعات والمنابر سيبقى حاضراً في أذهان من استمعوا إليه، وكُتبه ستظل مرجعاً للباحثين، وسيرته ستبقى مثالاً للعالِم العامل، الذي عاش للإسلام عقلاً وقلباً ولساناً. لقد مثّل الفقيد جسراً بين العِلم التجريبي والوحي الإلهي، وبيَّن أن المُسلم الحق لا يعيش انفصاماً بين المُختبر والمِحراب، بل يجمع بين تدبّر كتاب الله المقروء "القرآن" وكتاب الله المنظور "الكون". إن رحيله لا يُعد خسارةً لشخصٍ فحسب، بل خسارةٌ لمدرسةٍ فكريةٍ دعويةٍ مُتكاملةٍ، آمَنَتْ بأن العِلم سبيلٌ إلى الإيمان، وأن الدعوة إلى الله يجب أن تُخاطِب الإنسان المُعاصر بلغته وعقله.

 

ما سبق نقلته لكم -بتصرفٍ- عن موقع «منار الإسلام» في مقالها بعنوان: "زغلول النجار.. العالِم الذي حمل رسالة العِلم والإيمان إلى العالمين".

 

أحبتي في الله.. كان للفقيد -يرحمه الله- أنشطةٌ دعويةٌ كثيرةٌ؛ منها أن أكثر من عشرين ألف جنديٍ وضابطٍ أمريكيٍ كانوا من المُشاركين في حرب الخليج الأولى لتحرير الكويت عام 1990م أسلموا بفضل الله ثم نتيجة مُشاركة الدكتور زغلول النجار في جهود الدعوة. حدث هذا حينما رأى طلاب جامعة «الملك فهد» بمدينة «الظهران» في «المملكة العربية السعودية» توافد الجنود الأمريكيين بالمطار الذي لا يفصله عن الجامعة إلا سلكٌ شائكٌ، وكانوا يسمعون الجنود وهم يهينون البلد ويتحدثون بغطرسةٍ عن أنهم سيجبرونها على تغيير سياستها بالقوة، وكانوا يقودون السيارات بلا لوحاتٍ ويتسببون في وقوع حوادث لكن دون مُحاسبة. أقبل الطلاب على الدكتور/ زغلول النجار، أُستاذ الجيولوجيا بالجامعة، وأعربوا عن غضبهم من هؤلاء الجنود وطالبوا بقتالهم، سألهم الدكتور: "بأي سلاحٍ تُقاتلون هؤلاء؟"، قالوا: "نُضيِّق عليهم الطريق"، قال: "هُم يركبون سياراتٍ مُصفحةً ودباباتٍ"، قالوا: "هل سنتركهم ونتفرج عليهم؟"، قال: "ادعوهم إلى الإسلام"، فضحك الطلاب وقالوا: "ندعو مَن ولا أحد يُمكنه الاقتراب منهم؟!"، قال: "ابحثوا عن ضُباط الاتصال الذين يتعاملون معهم واسألوهم: هل تُحبون أن تسمعوا شيئاً عن حضارة هذه البلاد؟ ولا تذكروا الإسلام حتى لا يرفضوا"؛ ففعلوا ورحَّب الأمريكان خاصةً أنهم كانوا يشعرون بمللٍ لعدم وجود وسائل ترفيه. وتشكَّل وفدٌ من أساتذة الجامعة يضم الدكتور/ زغلول النجار وآخرين من الجامعة ومن شركاتٍ مثل «أرامكو» ممن يُجيدون اللغة الإنجليزية، وانعقدت لقاءاتٌ وحواراتٌ. كانت صورة الإسلام عند الأمريكان مُحرفةً؛ ويعتقدون أنه دينٌ مُتخلفٌ ورجعيٌ. تحدث أعضاء الوفد عن أن الإسلام أقام أعظم حضارةٍ بشريةٍ، وهي الحضارة الوحيدة التي استمرت عشرة قرونٍ كاملةٍ، وجمعت بين الدُنيا والآخرة، ولها الفضل في وضع القواعد والأُسس التي قامت عليها الحضارة المُعاصرة والتقنيات الحديثة. كان الكلام جديداً ومُثيراً؛ فراح الجنود يتساءلون وأعضاء الوفد يُجيبون بالنماذج والأدلة التي تُثبت هذه الحقائق. ثم انتقل الحوار عن الإسلام نفسه وما يُميزه عن بقية الأديان، وأعضاء الوفد يردون على الشُبهات ويُصححون التصورات. أسفرت تلك اللقاءات عن نتائج مُذهلةٍ؛ فقد أعلن أكثر من عشرين ألف جنديٍ وضابطٍ أمريكي من رُتبٍ مُختلفةٍ، من بيضٍ وسودٍ، من رجالٍ ونساءٍ، إسلامهم خلال فترة ثلاثة أشهر! حتى أن القيادة الأمريكية رأت أن تُرحِّل كل من يُعلن إسلامه إلى «أمريكا»، لكنها تراجعت بعد فترةٍ أمام الواقع الجديد نظراً لكثرة من أسلموا؛ فسمحت بتعيين أئمةٍ للمسلمين من جنودها وضُباطها، وسمحت بالوجبات الخالية من دهن الخنزير والخمور، وبصلاة الجمعة، وصوم رمضان، وأداء فريضة الحج!

قال أحد الذين أسلموا من الجنود للدكتور/ زغلول: "لماذا تتكاسلون عن إبلاغنا بالإسلام؟ ما ذنب أبي وأمي أن يموتوا غير مسلمين؟ هل كان يجب أن نغزوكم حتى نسمع عن الإسلام؟".

سافر (فقيد الأُمة) إلى «أمريكا»، وزار الكثير ممن أسلموا، وأرشدهم إلى المراكز الإسلامية القريبة منهم في «الولايات المتحدة» حتى يتسنى لهم تعلم الإسلام وأحكامه. يقول الدكتور زغلول: كنتُ أخطب الجمعة في «مسجد دار الهجرة» بمدينة «واشنطن» العاصمة الأمريكية، ولمحتُ بين المصلين ضابطاً أمريكياً برتبة لواءٍ في البحرية، بزيه الرسمي، يُصلي مع المُصلين، فسألته عقب الصلاة: "هل كنتَ ممن كان في الخليج؟"، قال: "لا، ولكن ابني كان في الخليج وأدخل إلينا الإسلام".

يقول د. زغلول: "بيدنا سلاحٌ عظيمٌ لو أحسنا توظيفه؛ هو سلاح الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة والحُجة الواضحة، والمنطق السوي، وبه يفتح الله علينا الدُنيا من أطرافها، وتتحقق نبوءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام سيدخل كل بيتٍ بإذن الله".

 

يقول تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، يقول المفسرون: الرجل حقّاً هو مَن صدَق الله في عهده، ووفى له بوعده، فهو من أهل الآية، الرجال تُجلِّيهم المواقفُ لا الأقوال، فالذكور كثيرٌ، ولكن الرجال منهم قليلٌ، وأهل الأقوال كُثْرٌ، ولكن أهل المواقف عددٌ يسيرٌ، وحقيقة الصدق هي في حفظ العهد، وإنما يستحقُّ الثناء مَن ثبت على ذلك طول عُمره حتى يلقى الله تعالى.

نحسب أن (فقيد الأُمة) الإسلامية الدكتور زغلول النجار كان من الرجال الذين ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾


 
أحبتي.. يقول تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، فليكن لنا في فقيد الأُمة قدوةً، ولتكن لنا فيه أسوةٌ حسنةٌ؛ ولتكن لنا في شخصيته وفي سيرته ومسيرته، مواعظ وعِبَر؛ منها أن الإسلام هو دينٌ للناس أجمعين فيه الخير للبشرية في دُنياها وآخرتها، وهو صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ. وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء وأن الدعوة هي واجب الأُمة من بعده؛ قال صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً]، وقال عليه الصلاة والسلام: [فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ]. وأن دين الإسلام هو دين العِلم والحضارة والحرية والعدل والرفاهية، كما هو دين الإيمان بالله واليوم الآخر. ولنتأسى بالفقيد في أخلاقه التي أبت عليه أن يُنافِق أو يُداهِن أو يصمت عن قول الحق في وقتٍ كان هذا ديدن كثيرٍ ممن يُقال عنهم دُعاة. مات (فقيد الأُمة) غريباً عن وطنه، وهو يُجاهد في سبيل الله بعِلمه، لم يخشَ يوماً لومة لائم. فماذا عنا نحن؟ أما آن الأوان كي يُراجِع كلٌ منا موقفه من الدعوة؛ ويُحدد ماذا يستطيع أن يُقدِّم لها؛ فقد أنعم الله علينا بالكثير من النِعم: عِلمٍ وفهمٍ وصحةٍ وقوةٍ ومالٍ، وبغيرها من النِعم، هل سخَّرناها في القيام بواجب الدعوة؟ على كلٍ منا أن يُحاسِب نفسه، وأن يبدأ -دون تسويفٍ- نشاطه الدعوي ولو كان بسيطاً أو قليلاً، ولنثق أنه مع توفر الإخلاص في نفوسنا فسيوفقنا الله سُبحانه وتعالى إلى ما يُحب ويرضى، ويفتح أمامنا أبواباً كانت مُغلقةً وآفاقاً رحبةً لم نكن نحلم بأن في استطاعتنا الوصول إليها. المطلوب منا فقط: النية المُخلصة ثم العمل الصادق، كلٌ في مجال تخصصه، وفي حدود إمكانياته، وقدر استطاعته؛ يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.

جزى الله الفقيد عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً. ﴿وإنا لله وإنا إليه راجعون﴾.

https://bit.ly/47VgS2L 

الجمعة، 7 نوفمبر 2025

الدنيا دوَّارة

 

 خاطرة الجمعة /524

الجمعة 7 نوفمبر 2025م

(الدنيا دوَّارة)

 

"لمدة 12 عاماً كنتُ أمسح حمّاماتهم، ولم يكونوا يعلمون أن الطفل الصغير الذي أحضرته معي سيكون يوماً أملهم الوحيد في النجاة".

هذه عبارةٌ كتبتها إحدى النساء على صفحتها على أحد برامج التواصل الاجتماعي، بدأت بعدها في عرض التفاصيل؛ فكتبت تقول: أتذكر الآن عندما كُنتُ في التاسعة والعشرين من عُمري حين بدأتُ العمل كخادمةٍ في منزل إحدى العائلات التي تسكن في ضاحيةٍ راقية على أطراف المدينة. كنتُ أرملةً؛ توفي زوجي في حادثٍ، ولم يبقَ لي في هذه الدنيا سوى ابني الصغير. أتذكر عندما توسلتُ إلى الهانم سيدة المنزل أن تُعطيني عملاً؛ فقد كُنتُ بحاجةٍ للعمل لنعيش أنا وابني، نظرت إليّ من رأسي إلى قدمي، ثم قالت ببرود: “يُمكنكِ البدء غداً، لكن يجب أن يبقى ابنك بعيداً عن الأنظار، اجعليه في الخلف"، هززتُ رأسي مُوافقةً؛ فلم يكن لدي خيارٌ آخر. أعطونا غُرفةً صغيرةً بجانب المراحيض، فيها مرتبةٌ قديمةٌ، وسقفٌ يتسرب منه الماء. كل صباحٍ كنتُ أُنظف الأرضيات الرخامية، وأُلمِّع المراحيض، وأُرتّب غُرف وأَسِرِّة أولاد الهانم الذين لم يلتفت أحدٌ منهم إليّ بنظرة تعاطفٍ أو رحمةٍ، لكن ابني كان يفعل ذلك كل يومٍ، وكان يقول لي: “أُمي، يوماً ما سأبني لكِ بيتاً أكبر من هذا”. علّمته الحساب بقطع طباشير مكسورةٍ وكرتونٍ مُمزقٍ، وكان يقرأ الصُحف القديمة كأنها كتبٌ دراسية. وحين بلغ السابعة، توسلتُ إلى الهانم سيدة المنزل: “من فضلكِ، دعيه يذهب إلى مدرسة أولادك الخاصة؛ سأعمل ساعاتٍ إضافيةٍ وأدفع التكاليف”، ضحكت بسخريةٍ وقالت: “أولادي لا يختلطون بأبناء الخادمات”؛ فأدخلته المدرسة الحكومية العامة القريبة، كان يذهب إليها يومياً سيراً على الأقدام، وأحياناً بأحذيةٍ مُمزقة، ولم يتذمّر قط. وببلوغه الرابعة عشرة، صار يفوز في مُسابقاتٍ أكاديميةٍ على مستوى المُحافظة. وعندما التحق بالجامعة لاحظ تفوقه أستاذٌ من الجامعة؛ فساعده في الحصول على منحةٍ دراسيةٍ في الخارج؛ فقُبِل ابني في برنامجٍ علميٍ مرموقٍ. وبدأنا نستعد أنا وابني للسفر إلى الخارج، حينها أخبرتُ الهانم سيدة المنزل بالأمر، تجمدت مكانها وقالت: “ذلك ابنك؟!”، قلتُ لها: “نعم، هو نفسه الذي نشأ بينما كُنتُ أنظف حماماتكم”.

مرَّت سنواتٌ، وأُصيب سيد المنزل الذي كُنتُ أعمل فيه بأزمةٍ قلبيةٍ، ثم بفشلٍ كلويٍ، وبدأت رحلة علاجٍ مُكلفةٍ، ذهبت ثروتهم شيئاً فشيئاً، ولأول مرةٍ عرفوا طعم الحاجة واليأس. قرَّر الأطباء أن يزرعوا للرجل كِليةً، وقالوا إنه نظراً لكبر سنه ووجود ضعفٍ في قلبه فإن من يُجري له عملية الزرع لابد أن يكون طبيباً عالمياً مُتخصصاً، ورشحوا بالفعل جرّاحاً يعمل خارج الدولة، وافقت الأسرة، وأرسل الأطباء التقرير الطبي الخاص بالمريض إلى الجرّاح، فوافق على الحضور، وأخبرهم بأنه يعرف هذا الرجل شخصياً! عندما وصل الجرّاح مُحاطاً بفريقه الطبي، نظر مُباشرةً إلى الهانم سيدة المنزل وقال لها: “يوماً ما قُلتِ إن أولادك لا يختلطون بأبناء الخادمات، واليوم حياة زوجك بين يديّ واحدٍ منهم”. أجرى الجرّاح -ابن الخادمة- العملية ونجحت، ورفض أن يأخذ أي مُقابلٍ ماديٍ.

تقول الأُم: كان ابني قد اصطحبني للإقامة معه في الخارج، وبعد أن أنهى دراسته وعمل كطبيبٍ في مشفىً شهيرٍ وفَّى بوعده؛ بنى لي بيتاً كبيراً عند البحر، ولطالما حلمتُ برؤية المُحيط، اليوم أجلس كل مساءٍ على الشُرفة، أستمع إلى صوت الأمواج، وعندما أسمع اسم ابني يتردّد في الأخبار أبتسم لأنني كنتُ يوماً الخادمة، واليوم، أنا أُمّ الرجل والطبيب والبروفيسور الذي لم يكن بإمكان رب تلك الأسرة النجاة من دونه.

 

أحبتي في الله.. صدق من قال (الدنيا دوَّارة)؛ فالقوي صار ضعيفاً، والغني أصبح فقيراً، والخادمة أضحت ملكةً في عيني ابنها، أما الابن فلم يعد ذلك الصبي الصغير، هو الآن من أكبر جراحي زراعة الأعضاء في العالم!

 

"دوام الحال من المُحال"، و"كما تدين تُدان"، و"الجزاء من جنس العمل"، كل هذه الأقوال تؤكد على أن (الدنيا دوَّارة) وأن ما تقوم به لا يضيع أبداً؛ يعود لك إن كان خيراً، ويعود عليك إن كان شراً؛ فهذه مُمرضةٌ كتبت تقول: عندما كنتُ أعمل مُنتدبةً في دارٍ للمُسنات بإحدى المُدن، كنتُ أزورهم مرتين أُسبوعياً لإجراء فحوصاتٍ دوريةٍ للسيدات كبيرات السن، وكانت تشدُّ انتباهي دائماً امرأةٌ غريبة الأطوار، لا يتجاوز عُمرها الخمسين عاماً، كانت لا تجتمع مع أحدٍ، وكُلما زُرتُ الدار أجدها تجلس وحيدةً في غُرفتها، مُحافظةً على مظهرها وأناقتها، وكان واضحاً عليها أنها ذات شخصيةٍ قويةٍ، لم تكن كباقي المُسنّات. مع مرور الأسابيع، كان فضولي يزداد؛ فقد كانت لا تُجيب عن أية أسئلةٍ، ولا تشكو لي همومها كباقي النزيلات. حتى جاء ذلك اليوم وسألتها: "اعذريني سيدتي، لماذا لا تتفاعلين مع أحدٍ في الدار؟ اعتبريني مثل ابنتك، وافتحي لي قلبك"، نظرت إليَّ نظرةً مليئةً بالدموع، كأن في عينيها كلامٌ كثيرٌ، صمتت قليلاً، ثم نظرت إليَّ وقالت: "هل أُخبركِ لماذا أنا هنا؟"، قُلتُ لها: "بصراحةٍ، أُريد أن أعرف، فالجميع هنا يشتكي إلا أنتِ"، قالت: "أنا هنا مُنذ أربع سنواتٍ، رزقني الله بابنٍ واحدٍ كان مُتفوقاً في دراسته، توفي أبوه وهو في المرحلة الثانوية، فأكمل دراسته والتحق بالجامعة، وبسبب تفوقه حصل على بعثةٍ لإكمال الماجستير والدكتوراه في «أمريكا»، تزوج قبل سفره، وسكن هو وزوجته معي في شقتنا، وكانت زوجته تتضايق كثيراً من وجودي وتُعاملني بجفاء. يوم أن أنهى ابني أوراق السفر، صُدمتُ حين قال لي: "أُمي، أنا مُسافرٌ أنا وزوجتي، وقد تطول سفرتنا لسبع سنواتٍ، ابحثي عن أحدٍ من أخوالي لتقيمي عنده، وسآتي لزيارتكم بين الحين والآخر"، شعرتُ وقتها بقهرٍ شديدٍ؛ فقلتُ له: "لا، أُفضّل الذهاب إلى دار المسنين على أن أكون عالةً على أحد"؛ ففوجئتُ برده حيث قال لي: "افعلي ما يُريحك يا أُمي"! في تلك اللحظة، دارت بي الدُنيا، وتذكرتُ وقتها ما كنتُ قد فعلته بحماتي -أُم زوجي- قبل سنين. واللهِ إني أستحق ما حدث لي؛ كنتُ أحرم زوجي من الجلوس مع أُمه، وأختلق المشاكل بينهما، كانت تسكن في الطابق الثاني، وكان زوجي يحرص دائماً على أن نصعد لنتناول طعام الغداء والعشاء معاً، لكني كنتُ أصعد قبل عودته من عمله لأُعطيها غداءها وعشاءها مُبكراً، حتى نأكل نحن -أنا وزوجي- في الأسفل بدونها. وكان زوجي يُعاتبها دائماً قائلاً: "لماذا لا تتناولين الغداء معنا يا أُمي؟". فكانت تقول له: "أنا أجوع وأنت تتأخر". وكانت -رحمها الله- لا تشتكي لولدها أبداً، وكنتُ أجرحها بكلامي كثيراً؛ فكانت تبكي وتقول لي: (الدنيا دوَّارة)، ثم تنظر إليَّ بصمتٍ وتهز رأسها. واللهِ لن أنسى نظرتها تلك ما حييتُ، ولكني لم أكن ألتفتُ لِما تقول. لقد ظلمتها كثيراً، ولا أعلم إن كانت قد سامحتني أم لا. أُصيبت بجلطةٍ ودخلت في غيبوبةٍ، ثم ماتت دون أن أطلب منها السماح. والآن، اللهُ يُجازيني في الدُنيا بكل ما فعلته بها، ولا أعلم كيف سيكون عقابي في الآخرة. ابني لا يُكلمني إلا في الأعياد. قد أموت قبل أن تنتهي السنوات السبع التي قال إنه سيرجع بعدها، وربما أعود لأسكن معه وزوجته لا ترعاني. الله يُسامحني". بكت كثيراً ورددت: "الله يُسامحني"، قبّلتُ رأسها وقلتُ لها: "لعلها سامحتكِ"، قالت: "لا أظنها سامحتني؛ لقد فعلتُ بها الأفاعيل".

استأذنتُها في نشر قصتها، فقالت: "انشري لكن لا تذكري اسمي"، فوعدتها بذلك، وها أنا ذا أنشر قصتها، لعل من يقرأها يتعظ منها ويعلم بأن (الدنيا دَوَّارة) بالفعل.

 

يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؛ فعلى المرء ألَّا يستهينَ بخيرٍ عمله مهما كان صغيراً، وألَّا يستهينَ بشرٍّ عمله مهما كان حقيراً، فإن مُحقَّرات الذنوب لا تزال تجتمعُ على الرجل حتى تُهلكَه، وكما أن في ذلك إشارةً إلى الحساب في الآخرة إلا أنه يتضمن كذلك الإشارة إلى الجزاء في الدنيا.

 

ويقول سُبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، قوله ﴿نُداوِلُها﴾ من المُداولة، وهي نقل الشيء من واحدٍ إلى آخر. والمعنى: أن أيام الدنيا هي دُولٌ بين الناس، لا يدوم سرورها ولا غمها لأحدٍ؛ فهي تارةً لهؤلاء وتارةً لأولئك.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ].

 

وأهل العلم يقولون إن الدهر لا يصفو على حالٍ؛ فالأيام فيه دُولٌ، يومٌ لنا ويومٌ علينا، ومن سُنة الحياة عدم ثبات الأحوال؛ فتمر بنا هذه الأيام ما بين: يُسرٍ وعُسرٍ، وصحةٍ ومرضٍ، وغنىً وفقر، وضحكٍ وبكاءٍ، وفرحٍ وغمٍ؛ فمن سرَّه زمنٌ ساءته أزمان. ستدور الدُنيا، وتُعاد المشاهد، وتتبدل الأدوار، وكل ساقٍ سيُسقى بما سقى.

 

قال أحدهم: يوماً ما ستفهم أن الدنيا تدور ثم تعود وتقف عندك، لتفعل بك ما فعلته أنت بغيرك، تذكَّر ذلك جيداً يا من تؤلم وتؤذي غيرك وتمضي كأنك لم تفعل شيئاً. وأنت يا من سلب أحدهم سنواتٍ من عُمرك سيرمي الله في طريقه من يسلب حياته كاملةً، والذي رماك بعيوبٍ ليست فيك سيلقى من يفضح عيوبه الحقيقية، والذي باعك بثمنٍ بخسٍ سيجد من يبيعه بلا مقابل!

الذي اخترتَه لتزداد به قوةً فخذلك، سيحتاجك في أقصى درجات وهنه ولن يجدك، والذي بكيتَ خيانته ستخونه كل الأشياء من حوله بما في ذلك دموعه حين يطلبها!

 

وقال آخر: (الدنيا دوَّارة) عبارةٌ قصيرةٌ في مبناها، ذات دلالةٍ كبيرةٍ في معناها؛ فالدنيا يُصبح فيها الصغير كبيراً والكبير صغيراً، ويكون الفقير فيها غنياً والغني فقيراً. إلا أن حقيقة أن (الدنيا دوَّارة) لا يُدركها الحمقى والمستكبرون، وأصحاب الرؤى الضيقة الذين يغرهم الجُزء الظاهر والبسيط من المشهد الذي يرونه، ولا يُدركون امتداده واتصاله بمشاهد أُخرى مُستقبليةٍ، ستنقلب عليهم دون استطاعتهم تجنب آثارها.

 

قال الشاعر:

وَما الدَهرُ يَوماً واحِداً في اختِلافِهِ

وَما كُلُّ أَيّامِ الفَتى بِسَواءِ

وَما هُوَ إِلّا يَومُ بُؤسٍ وَشِدَّةٍ

وَيَومُ سُرورٍ مَرَّةً وَرَخاءِ

 

أحبتي.. كلما تأملنا في نصوص الوحي، وفي حوادث التاريخ، وفي سُنن الله عزَّ وجلَّ في أرضه، نجد أنها لا تتخلف عن هذه السُنة "الجزاء من جنس العمل"، و"كما تدين تُدان" و(الدنيا دوَّارة)، وذلك من مُقتضى عدله وحكمته سُبحانه وتعالى، فمن عاقبك بجنس ذنبك لم يَظلمك، ومن دانك بما دِنته به لم يتجاوز؛ وتذكَّر قول إخوة يوسف عليه السلام: ﴿هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾، وتذكَّر قوله تبارك وتعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.

ولأن (الدنيا دوَّارة) والعاقل من اتعظ بغيره؛ فلماذا لا نُقدم الخير دائماً والله تعالى يقول: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؟ لماذا يضعف بعضنا فيطيع ما توسوس به نفسه الأمارة بالسوء؟ لماذا الظلم؟ لماذا الكِبر؟ لماذا التفاخر والتعالي ومُعاملة الغير بازدراءٍ واحتقارٍ ودونيةٍ وإذلال؟ ألا يجدر بنا أن نتعظ بما عانى منه غيرنا من حسرةٍ وندمٍ وقت لا ينفع الندم؟

فلنُقدِّم في حاضرنا لمستقبلنا من الأعمال الصالحة ما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا، ولنتقي الله سُبحانه وتعالى بأن نصون أنفسنا عن كل ما نهانا عنه، وأن نعلم علم اليقين أننا سنلقاه فيُحاسبنا على أعمالنا ويُجازينا عليها بما نستحق.

اللهم اهدنا لخير الأعمال وخير الأقوال لا يهدي لها إلا أنت، وقِنا شر أنفسنا لا يقينا منها إلا أنت، واجعلنا اللهم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

https://bit.ly/47uBuQK


الجمعة، 31 أكتوبر 2025

يهدي إلى الرُشد

 خاطرة الجمعة /523

الجمعة 31 أكتوبر 2025م

(يهدي إلى الرُشد)

 

من أعجب قصص اعتناق الإسلام؛ قصة «توني»، وهي سيدةٌ أمريكيةٌ، كان عُمرها ستاً وعشرين سنةً عندما أظهرت التحليلات الطبية إصابتها بسرطان المبيض -وهذا معناه الموت المؤكد، واستحالة الإنجاب- انخرطت في بكاءٍ هستيريٍ مُتواصلٍ؛ فقد كانت أعظم أُمنيةٍ لها في الحياة أن تكون أُمّاً. ظلت لعدة أسابيع في حالة انهيارٍ نفسيٍ كاملٍ، لكن -وكما قيل بحقٍ- فإنه بعد المحنة تأتي المنحة. راحت تستعرض ما مضى من حياتها، وأفاقت على الحقيقة التي شاء الله سُبحانه وتعالى أن تهتدي إليها. قالت لنفسها: "إن لم يكن أمامي مفرٌ من الموت المؤكد فيجب -على الأقل- أن أُحاول الوصول إلى هذا الإله الذي خلقني وخلق الأطباء والمرض؛ فلا ريب أنه يعلم كيف يشفيني". لقد تملّكها اليأس تماماً من أسباب البشر؛ فلماذا لا تُجرّب الاستعانة بقوةٍ عُليا تقدر على ما لا يقدر عليه أحد؟ راحت تُناجي الخالق باكيةً: "أيها الإله العظيم.. إني أعلم أنك تراني وتسمع كلامي، حتى لو كنتُ لا أراك ولا أسمعك.. سامحني، فأنا لا أعلم كيف أُصلى لك على الوجه الذي ترضى به.. أرني الطريق إليك.. دُلني عليك.. أنت وحدك القادر على ما لا يقدرون عليه.. أنت تشفيني إن شئتَ.. أعطني طفلاً، كما أعطيتَ «مريم» طفلاً بلا أب، وكما خلقتَ اّدم بلا أبٍ أو أُمٍ.. يا من بيده كل شيءٍ أعلمه أو أجهله.. أنا أحتاج إليك فلا تتخلّى عني".

قررت «توني» أن تقضي ما تبقّى من حياتها القصيرة في البحث والقراءة؛ فاتجهت إلى مكتبةٍ عامةٍ قريبةٍ من بيتها، وراحت تقرأ كل ما عثرت عليه من كُتب الأديان والعقائد المُختلفة، لكنها لم تقتنع بشيءٍ منها، حتى عثرت على ترجمةٍ لمعاني القراّن الكريم، وفور قراءة معاني بعض السُور الكريمة أدركت أنها قد وجدت ربها الواحد الأحد، الذي لا شريك له ولا ولد. ذهبت بعد عدة أيامٍ إلى أحد المساجد حيث تعلّمت المزيد عن الإسلام ونطقت بالشهادة. غمرتها سَكينةٌ عجيبةٌ بعد أن اعتنقت الإسلام، ولم تعد تُبالي بالمرض. صارت أكثر شجاعةً فقد تعلّمت أنه: ﴿لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا﴾، وأن صبر المُسلم على الشدائد والابتلاءات من أعظم أنواع العبادات والقربات، واستمرت في الصلاة وقراءة القراّن الكريم، والابتهال إلى الله تعالى لعله يرزقها بطفل. بعد بضعة شهورٍ وقعت المعجزة.. استبد الذهول بالأطباء المعالجين لها؛ لقد أثبت أحدث التحاليل أنها حامل!! طلبوا منها إجراء تحليلاتٍ أُخرى لعل هناك خطأٌ ما في التحليل الأول، لكن التحليل الثاني ثم الثالث فالرابع قطعت جميعها بوجود الجنين داخل رحمها! وهكذا منّ الله على «توني» فولدت طفلاً سمّته «يوسف» جعله الله قرة عينٍ لها كما أرادت. ثم كانت المُفاجأة الثانية خلال أقل من عامين على إسلامها، وهي اكتشاف ضمور الخلايا السرطانية بجسدها، واقترابها من الشفاء الكامل! لم يُصدّق الأطباء ما ترى أعينهم.. سألوها عما إذا كانت قد تعاطت بعض الأدوية بدون علمهم.. ابتسمت والسعادة تُشرق على كل وجهها وكيانها، وقالت لهم: "الدواء من عند الطبيب الأعظم.. إنه الله تعالى الخالق القادر الرازق.. هو الذي أعطاني الطفل، وهو أيضاً الذي شفاني بعد أن هداني".

مضى الآن ما يزيد على 15 سنةً على اعتناق «توني» للإسلام، ثم شفائها من السرطان، بعد أن كان أكثر أطبائها تفاؤلاً يعتقد أنها لن تعيش أكثر من أربع سنوات! ورغم أن أبويها من الكارهين للإسلام، إلا أنها رفضت الانتقال إلى بلدٍ عربيٍ تلقت عروضاً للزواج والإقامة فيه -بعد انفصالها عن والد طفلها- وقالت إنها لن تتوقف عن رعاية والديها الطاعنين في السن، لأن إخوتها وأخواتها غير المسلمين تخلوا عنهما، وهما بحاجةٍ إليها، وقد أمرها الإسلام العظيم بالبرّ بالوالدين وإن كانا كافرين. وتُصرّ «توني» على ارتداء الحجاب، مع أنها تعيش بوسط «الولايات المتحدة الأمريكية»، في منطقةٍ سُكّانها من أشد الطوائف تعصباً وكراهيةً للإسلام والمُسلمين، ورغم صعوبة الحياة بينهم -خاصةً للمسلمات- إلا أنها شديدة الحرص على الالتزام الكامل، وتقول: "لن أترك ديني أو حجابي مهما فعلوا بي، فالحجاب حمايةٌ وتكريمٌ وشرفٌ للمسلمة في الدنيا والآخرة، وسوف أُواصل مُعاملة الجميع بكل رفقٍ وعطفٍ، وأشرح لمن يُريد منهم كل ما أعلمه من الدين الحنيف؛ فالله تعالى قادرٌ على أن يهديهم كما هداني إلى الإسلام". وعندما سألها أحد الصحفيين عن رأيها في تعدد الزوجات بادرت بالقول: "لا نستطيع أن نأخذ شيئاً من القرآن الكريم ونترك أشياء، الإسلام يجب أن يؤخذ كله، فهو عدلٌ ورحمةٌ وحكمةٌ كله؛ فمن يُلاحظ الزيادة الهائلة في أعداد النساء في عصرنا سوف يلمس بوضوحٍ حكمة تشريع التعدد النبيل، وفوائده العظيمة للنساء، مع إلزامه للرجال بالعدل بين الزوجات، وكل الخير والبركة والسعادة في اتباع ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".

 

أحبتي في الله.. كانت هذه قصة امرأةٍ تأثرت بما قرأته من آيات القرآن الكريم مُترجمةً، فانشرح صدرها للإسلام، لِمَ لا وهو الذي وصفه عزَّ وجلَّ بأنه (يهدي إلى الرُشد)، بل وزاد سُبحانه وتعالى في وصفه فقال عنه: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.

 

وهذا طبيبٌ ألمانيٌ أسلم بتدبر آيتين من القرآن الكريم من سورة الكهف؛ يقول الطبيب الألماني: كنتُ مُسافراً يوماً وصادفني في المطار شابٌ قدَّم لي نسخةً مُترجمةً من القرآن الكريم، شكرته ووضعتُ النسخة في جيبي على نية إلقائها في سلة المهملات بعد أن يتوارى الشاب عني حتى لا أُحرجه! نسيتُ النسخة في جيبي وصعدتُ إلى الطائرة، وبسبب طول الرحلة والملل الذي يتخللها أخرجتُ نسخة القرآن من جيبي ثم فتحتها وقلَّبتُ الصفحات فوقعت عيني على سورة «الكهف»، فقرأتُ آياتٍ منها، إلى أن استوقفتني آيتان؛ وهما قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ...﴾، والآية: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ...﴾، قلتُ في نفسي: إن تقليب الفتية وهم نائمون مفهومٌ من أجل أن لا تتقرح أجسامهم إذا بقوا نائمين على وضعيةٍ واحدةٍ، لكن ما أدهشني قوله سُبحانه إن الشمس تدخل الكهف كل يومٍ لكنها لا تأتي على أجسامهم مُباشرةً؛ فهذا معروفٌ في علم الطب، فحتى لا تحصل تقرحات السرير يجب أن تكون الغرفة مُهواةً وتدخلها الشمس دون أن تكون مُباشِرةً على الجسم! ثم عدتُ للتفكر في الآية التالية؛ فعلاً حتى لا تحصل التقرحات يجب أن يُقلَب الراقد حتى لا يتقرح الجسم ويتعفن، لكن الذي أدهشني أكثر أن كلبهم لم يكن يُقلَب مثلهم، وإنما كان باسطاً ذراعيه بالوصيد على وضعيةٍ واحدةٍ طوال 309 سنة، ولم يتقرح جسمه ولم يتعفن! دفعني هذا الأمر إلى دراسة فسيولوجية الكلاب، وأدهشني أني وجدتُ أن الكلاب تنفرد بوجود غُددٍ تحت جلدها تُفرز مادةً تمنع تقرح الجلد ما دام في جسد الكلب حياةٌ ولو لم يتقلب؛ لذلك لم يكن كلبهم يُقلَب مثلهم في الكهف". وقد أسلم هذا الطبيب بسبب هذا الأمر الإعجازي، فسُبحان الله العظيم، إن الطبيب الألماني من أول قراءته للسورة استوقفته أمورٌ إعجازيةٌ لم يمر عليها مرور الكرام كما يفعل غيره.

 

وهذه امرأةٌ أخرى تأثرت بسماع بعض آياتٍ قرآنيةٍ تُتلى؛ يحكي صاحب القصة ويقول: كنتُ شاباً عربياً أدرس في إحدى الجامعات الأُسترالية وأعمل سائق سيارة أُجرة لأُغطي بعض نفقات الدراسة، كان من عادتي أثناء توصيل الرُكاب من المطار أن أُشَغِّل بعض الأغاني والموسيقى الأجنبية لتلطيف الجو، وفي أحد الأيام ركبت معي امرأةٌ أجنبيةٌ بدت مُتعبةً واشتكت من صداعٍ شديدٍ؛ عرضتُ عليها سماع بعض الموسيقى لعلها ترتاح لكنها رفضت وقالت إن الصداع يزداد مع الأصوات، وبينما أبحث عن محطةٍ هادئةٍ في مذياع السيارة ضغطتُ دون قصدٍ على محطة إذاعة القُرآن الكريم؛ فأسرعتُ بإغلاقها خجلاً ظناً مني أنها لن تتقبل سماع القرآن لأنها غير مسلمةٍ، لكنها فاجأتني بطلبها أن أُعيد تشغيله لأنها شعرت براحةٍ غريبةٍ أثناء سماعه، فتركته حتى نهاية الطريق، وكانت تُنصت في صمتٍ وسكينةٍ. بعد أن أوصلتها إلى الفندق تبادلنا أرقام هواتفنا للاتصال في حال احتاجت سيارة أُجرة، وغادرت. في اليوم التالي اشتريتُ لها نسخةً من القرآن الكريم المُترجم، مع شريطٍ مسموعٍ، وأرسلته إليها، مرّت شهورٌ كدتُ أنسى خلالها ذلك الموقف؛ حتى وصلتني منها رسالةٌ عن طريق الهاتف تُخبرني فيها أنها دخلت في الإسلام بعد استماعها للقرآن الذي كان سبباً في هدايتها، حينها أدركتُ أن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً هيأ له الأسباب، ولو دون قصدٍ منه. من يومها وأنا لا أُشغَّل في سيارتي إلا القرآن الكريم طول الوقت؛ فهو (يهدي إلى الرُشد).

يُعلق ناشر هذه القصة عليها بقوله: رُبَّ آيةٍ تُسمع بلا نيةٍ تفتح قلباً مُغلقاً؛ فالهداية بيد الله وحده، وما نحن إلا أسبابٌ يسوقها الله لمن يشاء؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [...فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ].

يقول العُلماء إن للقرآن العظيم أهمِّيةً كُبرى وأثراً عظيماً في انتشار الدعوة بين الناس قديماً وحديثاً، ويظهر ذلك في كثيرٍ من شهادات الذين اعتنقوا الإسلام، علماً بأن هذه الشَّهادات عن الإسلام أو القرآن، لا تعدو كونها تأكيداً لحقائق قائمةٍ وأصولٍ ثابتةٍ في ديننا، كما أن الإسلام عموماً والقرآن خصوصاً ليسا بحاجةٍ إلى شهادةٍ مِن بَشَرٍ، كائناً مَنْ كان، وأن شهادات هؤلاء الذين أنصفوا الإسلام، إنَّما نذكر بعضها لنبيِّنَ إنصافهم وحيادهم، لا لنبيِّن جمال الإسلام وروعته، فهو في غِناءٍ تامٍ عن شهاداتهم.

من هذه الشَّهادات ما قاله المُغني السابق البريطاني المشهور «كات ستيفنز» سابقاً «يوسف إسلام» حالياً، الذي حاز الشهرة والمال، وجمع متع هذه الحياة الدُنيا الزائلة، حتى ظنَّ أنه مِنْ أسعد الناس، إلى أن اهتدى بعد أن أهداه شقيقه «ديڤيد» نسخةً مُترجمةً من القرآن، وعلى الرغم من عدم اعتناق «ديڤيد» الإسلام إلا أنه أحس بشيءٍ غريبٍ تجاه هذا الكتاب، وتوقع أن يُعجب أخاه وأن يجد فيه ضالته، يقول «يوسف»: "عندما قرأتُ الكتاب وجدتُ فيه الهداية؛ فقد أخبرني عن حقيقة وجودي، والهدف من الحياة، وحقيقة خَلقي، ومِن أين أتيتُ، وعندها أيقنتُ أن هذا هو الدين الحق، وكلما قرأتُ المزيد من القرآن عرفتُ الكثير عن الصلاة والزكاة وحُسن المعاملة"؛ فكان القرآن سبباً في اعتناقه الإسلام وأصبح من الدُعاة إلى هذا الدِّين.

وهذا «براون» قرأ القرآن الكريم حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾، وفي هذه الآية إشارةٌ إلى البحر العميق الذي اكتشفه العلماء حديثاً حينما استطاعوا الغوص في أعماقٍ كبيرةٍ حيث الظلام التَّام، والظُلمات المُتراكبة في تلك البحار، والبرودة الشديدة، هنا سأل «براون» أحد عُلماء مُسلمي «الهند»: هل ركب نبيُّكم «مُحمدٌ» البحر؟ فقال: لا. فقال «براون»: فمن الذي علَّمَه علوم البحار؟ لقد قرأتُ في كتاب الإسلام آيةً لا يعرف أعماق ما فيها إلا مَنْ أُوتي عِلماً واسعاً في مجال البحار، ثم قرأ عليه الآية، وقال: فإذا كان «محمدٌ» لم يركب البحر، ولم يتلَقَّ علوم البحار على أيدي أساتذةٍ مُتخصِّصين، ولم يدرس في جامعةٍ أو معهدٍ بل كان أُمياً، فَمَنْ الذي علَّمه هذا العِلم النافع؟ إلاَّ أن يكون وحياً صادقاً من خالق الكائنات، فإني أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وأن مُحمداً رسول الله".

وكانت الآية الكريمة ﴿أَيَحْسَبُ الإِِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ . بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ سبباً في إسلام عالِمٍ ألمانيٍ، أدركته رحمة الله تعالى فأسلم، وأعلن إسلامه على ملأٍ من العُلماء، ولمَّا سُئل عن سبب إسلامه قال: "إن هذه الآية تُشير إلى بصمات الأنامل، وهو كشفٌ لم تعرفه أوروبا -فضلاً عن العرب- إلاَّ في زماننا هذا؛ إذن هو كلام الله لا كلام البشر".

ومما قاله أحد المُسلمين الجدد: "بعد تعمُّقي في دراسة الإسلام، وخاصةً القرآن الكريم، أعلنتُ إسلامي وأشهرته رسمياً، فأنا أعتقد يقيناً أني لو كنتُ إنساناً وجودياً لا يؤمن بوجود خالقٍ لهذا الكون ولا برسالةٍ من الرسالات السَّماوية، وجاءني نفرٌ من الناس وحدَّثني بما سبق به القرآنُ العِلمَ الحديثَ في كل مناحيه: من طبٍّ، وفلكٍ، وجغرافيا، وجيولوجيا، وقانونٍ، واجتماعٍ، وتاريخٍ، لآمنتُ بربِّ العزَّة والجبروت، خالقِ السَّماوات والأرض، ولن أُشرك به أحداً".

وهذا آخر حين سُئِلَ عن سبب إسلامه قال: "تتبَّعتُ كُل الآيات القرآنية التي لها ارتباطٌ بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستها من صِغري وأعلمها جيداً، فوجدتُ هذه الآيات مُنطبقةً كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمتُ؛ لأنني تيقنتُ أن مُحمداً أتى بالحقِّ الصُّراح قبل ألف سنةٍ، مِنْ قَبْلِ أن يكون هناك مُعلمٌ من البشر، ولو أن كل صاحب علمٍ من العلوم، قارن الآيات القرآنية المُرتبطة بما تعلَّم جيداً -كما قارنتُ أنا- لأسلم بلا شكٍ، إنْ كان عاقلاً خالياً من الأغراض".

ومن الأمثلة التي تدلُّ على أثر القرآن العظيم في نفوس مُستمعيه ما ذكره هذا القس؛ حيث قال: "سبب إسلامي كان نتيجةً لوجودي في مُحاضرةٍ، عبارة عن مُجادَلةٍ بين مُسلمٍ ومسيحيٍ، ولقد اقتنعتُ أثناء هذه المحاضرة بسورةِ «مريم» وسورةٍ أُخرى وبأن الإسلام هو دين الحق".

وهذا مُسلمٌ جديدٌ كان يهودياً قبل أن يُسلم، قال: "حينما شرعتُ في مُطالعة القرآن الكريم، للمرة الأولى وَلِعْتُ به وَلَعَاً شديداً، وكنتُ أطرب لتلاوة آياته. لا أظن أن ثَمَّةَ شيئاً يؤثر في المرء الذي أدرك حقيقة الإسلام بقدر تأثير تلاوة آيات القرآن المجيد على مشاعره، فيغمره الإحساس الفيَّاض باتصاله الرُّوحاني، وتجتذِبُه مَهَابةُ الإله جلَّ جلالُهُ، فيقرّ بكل خشوعٍ بعجزه وضعفه أمام كلام ربه العظيم".

وهذه امرأةٌ بريطانيةٌ أتمت دراسة الفلسفة، تتحدث عن تجربتها الذاتية مع القرآن العظيم، فتقول: "لن أستطيعَ مهما حاولتُ، أن أَصِفَ الأثَرَ الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أَكَدْ أنتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتني ساجدةً لخالق هذا الكون، كانت هذه أول صلاةٍ لي في الإسلام".

أما هذا فهو شخصٌ هنديٌ أسلم، ويتحدث عن تجربته مع القرآن العظيم، فيقول: "تناولتُ نُسخةً من ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية وشرعتُ في قراءته وتدبر معانيه، لقد استقطب جُلَّ اهتمامي، وكَمْ كانت دهشتي عظيمةً حين وجدتُ الإجابة المُقنعة عن سؤالي المُحَيِّرِ: ما هو الهدف من الخَلق؟ وجدتُ الإجابة في الصَّفحات الأُولى من القرآن الكريم؛ الآيات [30-39] من سورة البقرة، وهي آياتٌ توضِّح الحقيقةَ بِجَلاءٍ لكل دارس مُنصفٍ، وهي تُخبرنا بكل وضوحٍ وجلاءٍ، وبطريقةٍ مُقنعةٍ قصة الخَلق".

 

يقول أهل العِلم إن القرآن العظيم أَثَّرَ في بعض الأعاجم الذين لا يَعْرِفُون العربية تأثيراً كبيراً، مما دفع بعضهم إلى أن يُعلن إسلامه، ويَذكر الأثر الذي أحدثه القرآن في نفسه، رغم أنهم يجهلون معاني القرآن، ولا يعرفونه إلاّ من خلال ترجماتٍ لا تنبض بالحياة، فضلاً عن أنها قد تكون غير دقيقة.

أحبتي.. إِنْ كان سِحْرُ أسلوب القرآن يُحْدِثُ مِثلَ هذا التأثير في نفوس أجانب لا يمتُّون إلى العرب ولا إلى المُسلمين بصلةٍ، فإلى أي مدى يؤثر فينا القرآن الكريم، ونحن عربٌ ومُسلمون نزلت الآيات بلغتنا الجميلة؟

لنُراجع صلتنا بكتاب الله، ونُجدد العهد بعدم هجرانه، بإلزام أنفسنا بوِردٍ يوميٍ، كثيرٍ أو قليلٍ، لا نتركه أبداً ولا ليومٍ واحدٍ. أليس من المُخجل ألا ينسى أحدنا تناول إحدى وجبات طعامه ليُشبع احتياجات جسده، ثم هو يُهمِل ما يُشبع به احتياجات روحه وقلبه، فتمر عليه أيامٌ وأيامٌ لا يقرأ فيها من كتاب الله ولا حتى صفحةً واحدةً، رغم عِلمه ويقينه بأنه (يهدي إلى الرُشد)؟

اللهم حبِّب إلينا تلاوة القرآن الكريم، وساعِدنا على تدبر معانيه، وسهِّل علينا حفظ ما تيسر منه، واجعله اللهم دستوراً لنا في جميع مناحي حياتنا، نُطبق أحكامه: نلتزم بأوامره، ونبتعد عن نواهيه؛ فتنصلح بذلك أحوالنا، ونُصبح عبيداً لك ربنا على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/4nq4Xjf