الجمعة، 12 سبتمبر 2025

الزوجة الصالحة

 

خاطرة الجمعة /516

الجمعة 12 سبتمبر 2025م

(الزوجة الصالحة)

 

كتب أحدهم يقول: في هدأة الليل، وقبل بزوغ الفجر، أيقظتني زوجتي بإلحاحٍ شديدٍ، تطلب مني أن أرد على الهاتف الذي لم يكفّ عن الرنين؛ فاستفسرتُ منها، وأنا أُكابد النعاس: "كم الساعة الآن؟"، فأجابتني: "لم يطلع النهار بعد!"؛ فقلتُ مُستنكراً: "ومن ذا الذي يجرؤ على إزعاج الناس في هذا الوقت؟! أيّ قلبٍ هذا لا يعرف للراحة حُرمة؟!"، قالت لي: "رقمٌ غريبٌ، لكنه اتصل أكثر من عشرين مرةً!"، فعلّقتُ ساخراً: "لا شك أنه أحد أولئك العابثين، ممن يتصلون بأرقام عشوائيةٍ طمعاً في أن ترد عليهم فتاة! وإن كان كذلك، فويلٌ له مني، والله لأُسمِعنَّه ما يكره!". فتحتُ الخط، وأنا أتهيأ للزجر، فإذا بصوتٍ أعرفه يقول لي برقةٍ: "صباح الخير يا حبيب القلب، أعتذر لإيقاظك في هذا الوقت، لكن الأمر الذي أحتاجك فيه لا يحتمل تأخيراً"، فقلتُ له، وأنا أتحرى الصوت: "صباح الورد، مَن المتحدث؟ فالرقم غير مُسجلٍ لدي"؛ قال: "فلان الفلاني"، فقلتُ مُعتذراً: "معذرةً يا عزيزي، لم أعد أحتفظ إلا برقمك القديم. خيراً إن شاء الله"، قال بصوتٍ يعتريه الحزن: "والدتي شعرت بتوعكٍ بالأمس، وحين أخذناها إلى المُستشفى، قرَّر الأطباء أنها بحاجةٍ إلى عمليةٍ عاجلة، وأنت تعلم أنني أمرّ بضائقةٍ ماليةٍ هذه الأيام، فهل يُمكن أن تُقرضني مبلغاً حتى يحين موعد الجمعية الشهر المُقبل؟"، فقلتُ له مُتأثراً: "ألف سلامةٍ لوالدتك، ولكنك فاجأتني، واللهِ لا أملك مالاً نقدياً في البيت الآن"، فقال مُتفهماً: "لا بأس، إن شاء الله يُفرجها الله من عنده، وأعتذر مُجدداً لإزعاجك في هذا الوقت". ما إن أنهيتُ المُكالمة حتى سألتني زوجتي: "مَن كان هذا؟"، فأجبتها: "فلان الفلاني"، قالت: "وماذا أراد؟"، قلتُ: "طلب قرضاً، لكنني اعتذرتُ له؛ فهو لا يتصل بي إلا إذا كان في حاجةٍ!"؛ فأجابتني بنبرةٍ حزينةٍ: "وما الضير في ذلك؟ الناس للناس، وهذا أمرٌ طبيعيٌ!"، فقلتُ لها بحزمٍ: "طبيعيٌ بالنسبة لكِ، أما أنا فلا أرتاح لمن لا يتذكرني إلا وقت المصلحة!"، فابتسمت وقالت لي: "قال أحد الصالحين: «أربعةٌ لا أقدر على مُكافأتهم: رجلٌ بدأني بالسلام، ورجلٌ وسَّع لي في المجلس، ورجلٌ اغبرت قدماه في حاجتي، فأما الرابع فلا يُكافئه عني إلا الله عزَّ وجلَّ، وهو رجلٌ نزل به أمرٌ فبات يُفكر فيمن يقصده، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي»". كلماتها اخترقت قلبي، فأسرعتُ بالاتصال بصديقي وقلتُ له: "وجدتُ مع زوجتي مالاً، فخُذ ما تحتاج، وارفع عن نفسك الحرج"، فقال لي بصوتٍ مُختنقٍ: "واللهِ، ما إن أغلقتُ الهاتف معك حتى شعرتُ أن الدنيا قد أظلمت في وجهي، وأن كل الأبواب قد أُوصدت؛ فرفعتُ يديّ إلى السماء أُردد: «ربِّ إني مسني الضُر وأنت أرحم الراحمين»، وإذ بك تتصل بي من جديدٍ، فعلمتُ قبل أن أفتح عليك أن الله قد استجاب دعائي!".

 

أحبتي في الله.. لا شك أن (الزوجة الصالحة) نعمةٌ كُبرى، وكنزٌ عظيمٌ، فهي تُعين زوجها ليس فقط على دُنياه، بل وعلى آخرته أيضاً، تنصحه بما فيه صلاحه واستقامته.

 

وهذه واحدةٌ منهن، من اللواتي يحرصن على أن تكون دُنيا زوجها مزرعةً لآخرته؛ يروي زوجها ما حدث فيقول:

سافرتُ إلى الخارج في مُهمة عملٍ لمدة ثلاثة أيامٍ، وفور وصولي للدولة التي سافرتُ إليها اتصلتُ لأطمئن على زوجتي وابني؛ فأنا لم أتعود فراقهما، وهُما لم يتعودا غيابي طوال ثلاث سنواتٍ هي عُمر زواجي. اتصلتُ ولكن للأسف لم يرد على مُكالماتي أحد! مضت ثلاثة أيامٍ وهاتفي لم يُفارق يدي، اتصل بدون مُبالغةٍ كل ربع ساعةٍ أو نصف ساعةٍ ولا أجد جواباً، فجُن جُنوني، واتصلتُ بأخي وأُختي ليتفقدا أحوال أُسرتي الصغيرة فطمأناني، ولم أُصدقهما، واتصلتُ بعمتي أُم زوجتي فطمأنتني، وأخبرتها أنني أنتظر اتصالاً من زوجتي، ولكن طال انتظاري ولم تتصل بي! مرت الأيام الثلاثة عليّ كثلاثة شهورٍ طويلةٍ، وكنتُفي داخلي أغلي من الغضب حيناً، وأتعجب وأحاول معرفة السبب حيناً آخر، وبين هذا وذاك كان الشيطان يوسوس لي بوساوس مُرعبةٍ. مرت الأيام الثلاثة كأنها دهرٌ، ورجعتُ إلى بلدي، وما إن وطأت قدماي أرض المطار حتى أسرعتُ بالعودة إلى المنزل، وحين وصلتُ -ومن شدة خوفي- أخذتُ أطرق الباب بيديّ وبالجرس معاً حتى فتحت لي زوجتي الباب، وكم كانت دهشتي حين رأيتها في كامل زينتها وأناقتها، تستقبلني بكل حفاوةٍ وبأبهى صورة، ومن ورائها طفلي عيناه تتراقص فرحاً بعودتي ويركض إلى حُضني، كُنتُ مُندهشاً؛ لا أصدق ما تراه عيناي، ولا أفهم ماذا يحدث! وسرعان ما بدأ الغضب يحل محل الدهشة؛ فسألتُ زوجتي عن سبب تجاهلها الرد على مُكالماتي حتى كدتُ أن أقطع سفري وأُسرع بالعودة حيث كانت أسوأ الظنون تتلاعب بي يُمنةً ويُسرةً، فأجابت زوجتي بكل هدوءٍ: "هل اتصلتَ بوالدتك؟"، أجبتها وأنا مُتعجبٌ من سؤالها: "لا أدري، ربما لا، وإنما اتصلتُ بوالدتكِ لأطمئن عليكما، ثم لماذا هذا السؤال؟"، قالت: "أفرأيتَ كيف كان شعورك في هذه الأيام الثلاثة؟ إنه هو نفسه شعور والدتك حين لا تتصل بها بالأيام، ولا تسمع صوتها إلا حين تُبادر هي بالاتصال بك، بعد أن يُلهبها الشوق، ويجرفها الحنين، وتأخذها الوساوس إن طال الغياب، حاولتُ كثيراً تنبيهك إلى ذلك، ولكن دون فائدةٍ، إلى أن جاءت سفريتك للخارج؛ فلم أجد أفضل من هذه الفُرصة لأُوصِّل لك هذه الرسالة يا زوجي العزيز"، طأطأتُ رأسي خجلاً من زوجتي، الصغيرة عُمراً، الكبيرة عقلاً، وقد فهمتُ الدرس جيداً، وجدتُها تُناولني مفتاح سيارتي، وتهمس في أُذني "جنتك تنتظرك"؛ فانطلقتُ إلى حبيبتي الأولى أُمي، بعد أن علمتني زوجتي الحكيمة درساً لن أنساه مدى الحياة، وأنا مُمتنٌ لها أن جعلتني أتدارك نفسي، وأُصلح أمري قبل أن أندم في يومٍ لا ينفع فيه الندم. شكراً وحمداً لله تعالى الذي رحمني وأيقظني من غفلتي، وشكراً لأُمي التي أحسنت اختيار هذه (الزوجة الصالحة) لي، وشكراً لهذه الزوجة الحكيمة الذكية، وشكراً لأُمها التي ربتها فأحسنت تربيتها. أُمهاتنا جناتنا في الدُنيا، فلا تنسوا وصلهن ولو بمكالمةٍ كل يومٍ، وهذا أقل القليل؛ فهُنَّ مشغولاتٌ بنا، تُفكرن دائماً فينا، وتحملن همنا، قلوبهن مُعلقةٌ بنا، تدعين لنا، ورِقة قلوبهن تمنعهن من الاتصال بنا كل حينٍ خوفاً من إزعاجنا.

 

هاتان الزوجتان نحسب أنهما من الزوجات الصالحات اللاتي لا يدخرن جهداً في القيام بواجباتهن على أكمل وجهٍ، امتلكن بعض صفات وسمات (الزوجة الصالحة) التي وردت في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ﴿مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ﴾؛ يقول المُفسرون إن هذه الآية تجمع أصول الصلاح: الإسلام، والإيمان، والقنوت "وهو دوام الطاعة"، والتوبة، والعبادة، والصيام "وهو أحد معاني السائحات". وهذه الصفات هي التي تُشكل شخصية المرأة المُسلمة التي تُصلح بها نفسها وبيتها.

 

ويقول تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، يقول المُفسرون إن القنوت يعني دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ، ويعني كذلك طاعة الزوج في غير معصية الله؛ فطاعة الزوج ليست استعباداً أو إذلالاً، إنما هي جزءٌ من منظومة الأسرة التي جعل الإسلام للرجل فيها قوامةً تهدف إلى استقرار الأسرة. ومن صفات الزوجات الصالحات أنهن ﴿حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ﴾، وهذا المُصطلح القُرآني البليغ يشمل كل ما يغيب عن عين الزوج ومعرفته، وهو من أعظم مظاهر أمانة الزوجة وإخلاصها، ويتجلى ذلك في حِفظ نفسها وعِرضها، وصيانة شرفها وعفتها، وابتعادها عن كل مَواطن الشُبهات، حفظاً لسُمعتها وسُمعة زوجها، وهذا الحفظ ليس نابعاً من الخوف من الزوج، بل من الخوف من الله الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، ولهذا خُتمت الآية بقوله سُبحانه: ﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، أي بحفظ الله لهن وتوفيقه وتسديده. كما أن من الحفظ حفظ أسرار البيت؛ فالبيت المُسلم له حُرمته وأسراره التي لا ينبغي أن تخرج إلى العلن، و(الزوجة الصالحة) لا تُفشي سراً لزوجها، ولا تتحدث عن تفاصيل حياتهما الخاصة التي قد تُسبب حرجاً أو تفتح باباً للفتنة. ويشمل الحفظ أيضاً حفظ مال الزوج؛ فالزوجة مؤتمنةٌ على مال زوجها، فلا تُنفقه إلا فيما يُرضي الله، وبإذن زوجها، ولا تُسرف أو تُبذِّر، بل تكون مُدبِّرةً وحكيمةً في إدارة الشؤون المالية لبيتها.

 

وفي السُنة الشريفة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمالِها، ولِحَسَبِها، وجَمالِها، ولِدِينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ]، يقول شُرّاح الأحاديث إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيهذا الحديث بأوصاف المرأة التي يتعلق بها الناس في الزواج، وهي: المال، والحسب، والجمال، والدِين، ثم نصح النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون الدِين هو المعيار الأول والأساسي في اختيار الزوجة؛ لأن اختيار ذات الدِين يترتب عليه سعادة الدارين: الدُنيا والآخرة، ولا مانع من اختيار المرأة ذات المال أو الحسب أو الجمال، لكن شريطة أن تكون ذات دِين.

ووصف النبي صلى الله عليه وسلم (الزوجة الصالحة) بأنها خير متاع الدُنيا؛ فقال: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، هذا الوصف البليغ يختزل الكثير من المعاني، فالدُنيا بكل ما فيها من مُغرياتٍ ومتاعٍ زائلٍ، لا يرقى شيءٌ منها إلى قيمة (الزوجة الصالحة) التي تكون سبباً في سعادة زوجها واستقراره وطُمأنينته، إنها استثمارٌ حقيقيٌ في سعادة الدارين، وركيزةٌ أساسيةٌ لتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي.

ولما نزلت الآية الكريمة ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ قالَ بعضُ الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: أنزلَ في الذَّهبِ والفضَّةِ، لو علمنا أيُّ المالِ خيرٌ فنتَّخذَهُ، فقالَ: [أفضلُهُ: لسانٌ ذاكرٌ، وقلبٌ شاكرٌ، وزوجةٌ مؤمنةٌ تعينُهُ على إيمانِه]؛ فهذا الحديث يضع الزوجة المؤمنة الصالحة في مصاف أعظم ما يُقرِّب إلى الله، كذِكر الله وشكره، مما يدل على دورها المحوري في تعزيز الجانب الإيماني للأسرة بأكملها.

وقال عليه الصلاة والسلام: [أربعٌ من السعادةِ: المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهنيءُ]، فكما أن المسكن الواسع والمركب الهنيء من أسباب السعادة والراحة المادية، فإن (الزوجة الصالحة) هي مصدر السعادة والراحة النفسية والروحية التي تفوق كل راحةٍ مادية.

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم خير النساء بقوله: [الَّتي تُطيعُ زوجَها إذا أمرَ، وتسرُّهُ إذا نظرَ، وتحفظُهُ في نفسِها ومالِهِ]؛ فطاعتها لزوجها هي طاعة محبةٍ وتقديرٍ، تنبع من إيمانها بأن هذا جزءٌ من تحقيق مرضاة الله وحفظ استقرار بيتها، وهذه الطاعة مُقيدةٌ بالمعروف، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وهي السمة التي تضمن عدم تحول القوامة إلى تسلطٍ أو قهرٍ أو إجحافٍ أو ظُلم.

 

ويقول أهل العِلم إنه إلى جانب هذه السمات الأساسية، هناك مجموعةٌ من الأخلاق والسلوكيات العملية التي ترتقي بالزوجة إلى مصاف الصالحات، وتجعل منها شريكة حياةٍ مثاليةً؛ من ذلك: أن تكون مُعينةً لزوجها وأبنائها على أمر الآخرة؛ تُشجعهم على طاعة الله، وتحثهم على المُحافظة على الصلاة، وتُذكرهم بالصدقات، وتُشاركهم في مجالس العِلم، وتصبر معهم على مشاق الطريق إلى الله. وأن تكون صابرةً وشاكرةً؛ فالحياة الزوجية لا تخلو من مُنغصاتٍ وصعوباتٍ، سواءً كانت ماديةً أو اجتماعيةً؛ فتتحلى (الزوجة الصالحة) بالصبر عند الشدة، فلا تتسخط ولا تتذمر، وتتحلى بالشكر عند الرخاء، فتُقدر نعمة الله وجُهد زوجها. وأن تكون قانعةً وتُحسن التدبير؛ فلا تُكلِّف زوجها فوق طاقته، ولا تُقارن حالها بأحوال الأُخريات، بل ترضى بما قسم الله لها، وتكون في ذات الوقت مُدبِّرةً حكيمةً، تُحسن إدارة موارد البيت، وتتجنب الإسراف، وتعرف أولويات الإنفاق، مما يُسهم في الاستقرار المادي للأسرة. وأن تتصف بالحكمة وحُسن الخُلق؛ تعرف كيف تتعامل مع المُشكلات، ومتى تتكلم، ومتى تصمت، وكيف تمتص غضب زوجها، وكيف تُحوِّل الموقف المتأزم إلى حوارٍ هادئٍ، ويشمل حُسن خُلُقها تعاملها مع أهل زوجها وجيرانها، فتكون سفيرة خيرٍ لبيتها وأُسرتها.

 

يقول أحد الصالحين: إن (الزوجة الصالحة) ليست مُجرد شريكة حياةٍ، بل هي أعظم نعمةٍ يُمكن أن يُرزَق بها الزوج بعد نعمة الإيمان والتقوى. وهي التي تتحلى بالخُلُق الحسن، والأدب الرفيع، فلا يُعرف منها بذاءة لسانٍ ولا خبث طويةٍ ولا سوء عشرةٍ، بل تتحلى بالنقاء والصفاء، وتتزين بحُسن الخطاب ولُطف المُعاملة، وأهم من ذلك كله أن تتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجِدال والمِراء والعِند والكِبْر. وهي المُربية الصادقة للأبناء، تُعلمهم الإسلام والقرآن، وتغرس فيهم حُب الله وحُب رسوله وحُب الخير للناس، والخُلُق الحسن، ولا يكون همُّها من دُنياهم فقط أن يبلغوا مراتب الجاه والمال، بل مراتب الدِين والتقوى والخُلق الرفيع والعِلم النافع.

 

أحبتي.. لا شك في أن الصلاح الديني للزوجة وتقواها هو أساس كل خيرٍ، وهو الصفة الجامعة للفلاح الحقيقي، والأساس الذي تُبنى عليه سعادة الأُسرة كلها؛ فمن كانت زوجته تتصف بتلك الصفات، أو مُعظمها، أو حتى بعضها، فليحمد الله على أن حباه بهذه النعمة العظيمة، وليُعاهده عزَّ وجلَّ أن يكون هو الآخر زوجاً صالحاً لتكتمل سعادة الأُسرة، ولتكون هذه الأُسرة السعيدة لبنةً في بناء مجتمعٍ إسلامي ٍقوي. وندعو الله سُبحانه وتعالى أن يجعل (الزوجة الصالحة) من نصيب كل مُسلمٍ، كما ندعوه تبارك وتعالى أن يُيسِّر على نساء المُسلمين لزوم سبيل الفلاح، فتحرصن على اكتساب صفات التقوى والصلاح، اقتداءً بأُمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وليكن دعاؤنا دائماً بالآية الكريمة: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ عسى أن يستجيب الله دعاءنا.

 

https://bit.ly/4pzmA2C

الجمعة، 5 سبتمبر 2025

دُعاء ذي النون

 خاطرة الجمعة /515

الجمعة 5 سبتمبر 2025م

(دُعاء ذي النون)

 

قصةٌ واقعيةٌ مؤثرةٌ ومُعبِّرةٌ، حدثت منذ عدة سنواتٍ. ففي أحد أيام شهر رمضان المبارك، قرر أبناء رجلٍ مُسنٍ يسكن في قصرٍ بمدينة «الرياض» أن يُسافروا إلى منطقتهم في الجنوب لزيارة بعض أقاربهم، وقد دعوا أباهم لمُشاركتهم السفر والزيارة، لكنه اعتذر رغبةً في الراحة. غادر الأبناء «الرياض» تاركين والدهم وحيداً في القصر. لم يكن يشكو من أي مرضٍ، بل كان نشيطاً، يخرج إلى المسجد للصلاة ويعود إلى منزله.

يقول الرجل المُسن: كنتُ أشعر بالعافية والحيوية والحمد لله.. في ذلك اليوم صليتُ العصر وعدتُ إلى البيت، وخلعتُ ملابس الخروج، وارتديتُ ملابس المنزل، ثم أردتُ الصعود إلى الطابق العُلوي. لدينا مصعدٌ داخليٌ، وبطبيعتي لا أستخدمه إلا نادراً، ولكنني في ذلك اليوم كنتُ مُتعباً قليلاً وصائماً، فقررتُ استخدامه، لقدَرٍ أراد الله أن يقضيه سُبحانه وتعالى!

ركبتُ المصعد وضغطتُ الزر للصعود، وما إن بدأ المصعد بالتحرك قليلاً للأعلى حتى انقطعت الكهرباء؛ فتوقف وانطفأت الأنوار، وساد الظلام والسكون في هذا الصندوق الحديدي. حاولتُ مِراراً الضغط على الأزرار، ولكن دون جدوى، لا أستطيع الصعود، ولا أستطيع النزول، ولا أستطيع الخروج من المصعد! ومن الأمور العجيبة أنه لم يكن معي -على غير العادة- هاتفي المحمول، ولا توجد أية وسيلة اتصالٍ أو تواصلٍ مع الآخرين، ولا يوجد أحدٌ في المنزل سواي. ‏ جلستُ داخل المصعد أنتظر أن تعود الكهرباء، وأنا أُقدِّر أن الانقطاع لن يطول، قد يعود بعد دقائق قليلةٌ.. لكن مرَّت نصف ساعةٍ، ثم ساعةٌ، وامتد الوقت إلى عدة ساعاتٍ، وأنا محبوسٌ في هذا الصندوق! في ذلك الظرف تملكني شعورٌ يجمع بين الخوف والقلق، ثم بدأتُ في مُحاسبة الذات؛ جلستُ أُفكِّر في النِعم التي أعيشها: قصرٌ، أموالٌ، أبناءٌ، راحةٌ، حياةٌ هانئةٌ مُستقرةٌ.. لكنني الآن، عاجزٌ عن أن أصل إلى هاتفي الذي لا يبعد عني سوى أربعة أمتارٍ، ولا أستطيع الوصول إلى أي شخصٍ، ولا إلى أي شيءٍ حولي، وأنا في قلب مدينة «الرياض»، محاطٌ بالناس، لكن لا أحد يراني، لا أحد يسمعني وإن صِحتُ بأعلى صوتي، ولا أحد يعلم حتى بمكاني! كم هو الإنسان ضعيفٌ جداً، وإن ادّعى القوة، واغتر بالنفوذ والسُلطة، وطغى بما يملك من المال والمكانة!

من بعيدٍ وصلني صوت المؤذن يؤذن لصلاة المغرب، فتيمَّمتُ وصليَّتُ على بلاط المصعد، وجلستُ أُسبِّح وأستغفر الله، لم يكن يهمني وقتها أني لم أُفطر؛ فقد كان همي أكبر من ذلك. ثم أتى وقت صلاة العِشاء فتيممتُ مرةً أُخرى وصليتُ. بعد صلاة الفرض والتسبيح وصلاة السُنة، استحضرتُ قصة الثلاثة الذين حُبِسوا في الغار، ودعوا الله بأفضل أعمالهم الصالحة؛ فقلتُ: "يا ربِ، إنْ كنتَ قد وفقتني لشيءٍ من الخير والعمل الصالح وقبلته، فارحمني، وفرِّج عني ما أنا فيه كما فرّجتَ عنهم"، وبقيتُ على هذا الحال؛ أُسبِّح وأدعو الله وأستغفر، حتى عاد التيار الكهربائي، ففرحتُ فرحةً غامرةً، لكنها -كمعظم لحظات الفرح- لم تستمر طويلاً؛ إذ لم يتحرك المصعد، ويبدو أنه يحتاج إلى إعادة برمجة؛ فقد ضغطتُ على الأزرار مِراراً دون جدوى، دقائق مرَّت بين الأمل واليأس انتهت بأن انقطع التيار الكهربائي مرةً أخرى!

شعرتُ في هذه الساعات القلقة بالضعف والعجز التام؛ فلا أنا أفطرتُ، ولا أكلتُ ولا شربتُ، وأنا مريضٌ بالسُكري، وتساءلتُ: "كم نحن مُقصِّرون في حق الله؟ وكم نحن غافلون عن الكثير من نِعمه السابغة علينا؟ ولكن مع الأسف.. لا نشعر بوجودها وقيمتها إلا إذا فقدناها!".

فوضتُ أمري إلى الله، وتوكلتُ عليه، واستسلمتُ لقضائه وقدره، الذي دائماً يكون خيراً برحمته، وقُلتُ في نفسي: "عسى أن تكون خاتمتي شهادةً، إن شاء الله تعالى"، ثم تذكرتُ قصة سيدنا يونس عليه السلام حين التقمه الحوت في ظُلمات البحر، ودعاءه حين أناب إلى الله واستغفره؛ فأنجاه سُبحانه وتعالى مما هو فيه، إنه (دُعاء ذي النون): ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، أخذتُ أُردد هذا الدُعاء، حتى استجاب الله لدعائي؛ فبعد نحو ربع ساعةٍ عاد التيار الكهربائي من جديدٍ؛ فسارعتُ للضغط على الزر، فبدأ المصعد بحمد الله يتحرك، ثوانٍ قليلةٌ ووصلتُ الطابق العُلوي وانفتح الباب، وخرجتُ منه فَرِحاً على عجلٍ؛ حيث شعرتُ وأنا أخرج كأنني خرجتُ من القبر! وأني قد عُدتُ بفضل الله إلى الحياة من جديد! خرجتُ من المصعد وأنا في حالٍ لا يوصف من الضيق والحزن، والوجه الشاحب، والملابس المبتلة من العرق.. وواللهِ لو قيل لي حينها: "هل تُعطينا قصرك وكل أموالك، مُقابل أن تخرج من هذا المصعد -الذي كان بمثابة القبر-؟"، لقلتُ: "موافقٌ، خذوها كلها وأخرجوني للحياة!

ختم الرجل قصته مُعتبراً ومُذكِّراً قائلاً: "في لحظةٍ واحدةٍ، تغيَّرت الدنيا في عينيّ، وانقلبت عكس الاتجاه! كنتُ أعيش في النِعم، فإذا بها تسجنني، وكنتُ أملك كل شيءٍ، وفجأةً لم أعد أملك شيئاً، حينها أيقنتُ أن الفرج لا يكون بقوةٍ، ولا بمالٍ، ولا بمنصبٍ، بل هو بيد الله وحده.. الذي أعطانا -بفضله- الكثير من النِعم: العُمر، الوقت، المال، الصحة والعافية، الأبناء، وغير ذلك. أدركتُ أن الإنسان، مهما بلغ من النِعم الكثيرة، فإنه يبقى ضعيفاً جداً، ومُحتاجاً إلى ربّه ومولاه في كل لحظةٍ ليرعاه ويحفظه ويتولاه.. وأنه ينبغي علينا -مع تعودنا على ما نعيش فيه من نِعمٍ- ألا أن نغفل عن ذِكر الله وشكره، وعلينا أن نُردد باستمرار (دُعاء ذي النون) حين قال: ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ خاصةً إذا كُنا نمر بظروفٍ صعبةٍ وأوقاتٍ عصيبةٍ، ندعو ونحن موقنون بالإجابة، إنه دُعاء فك الكرب وإزالة الهم والغم والتغلب على الضيق والضجر، ندعو بثقةٍ من غير يأسٍ ولا قنوط.

 

أحبتي في الله.. ومن المواقف التي كتبها بعض الأشخاص في أحد مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة عن (دُعاء ذي النون)؛ كتب أحدهم: عند زلزال «تركيا» الذي وقع بتاريخ السادس من شباط عام 2023م، بقيتُ تحت الأنقاض مع عائلتي لمدة أربعة أيامٍ، وكنتُ أُردد هذا الدُعاء كثيراً، ومع هذا الدُعاء، والحمد لله رب العالمين، نجَّانا الله؛ فشكراً له.

وهذا آخر قال: والذي نفسي بيده، يا إخوتي، لقد دعوتُ بهذا الدُعاء وأنا في الحجز، وسط شدائده، وقد مُنِعتُ حتى من دخول دورة المياه –أكرمكم الله- وكانت مُشكلتي التي أُوقفت بسببها تُنذر بحكمٍ قد يصل إلى السجن لأكثر من سنتين، فانقطع أملي من كثرة التحقيقات والضرب والعذاب. حينها تذكرتُ هذا الدُعاء، فدعوتُ به، واللهِ لقد تغيّرت مُعاملة السجّان فجأةً، فأصبح ألطف من الأخ، واعتذر مني، وفرّّج الله عني؛ فأفرِج عني وعدتُ إلى بيتي وعائلتي، الحمد لله، الحيّ السميع، الذي يسمع دُعاء من دعاه.

 

لا يوجد إنسانٌ واحدٌ على ظهر هذه البسيطة إلا ويعتريه الهم والغم والكرب والخوف والحُزن والقلق، في بعض أيام حياته، حتى أنه قد يصل إلى حالة فقدان الأمل، فإذا ذَكَرَ الله ودعاه بإخلاصٍ ويقينٍ، استجاب له وخفَّف عنه وأزال همَّه وغمَّه وفك كَربه؛ يقول تعالى: ﴿إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾.

 

وعن (دُعاء ذي النون) ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ قال أهل العلم إن هذا الدُعاء تضمن من كمال التوحيد والعبودية: إثبات كمال الألوهية واختصاصها باللَّه عزَّ وجلَّ بقول ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾. وإثبات كمال التنزيه للَّه تعالى عن كل نقصٍ وعيبٍ وسوءٍ، لكماله تعالى من كل الوجوه بقول ﴿سُبْحَانَكَ﴾. والاعتراف بالذنب والخطأ المُتضمن لطلب المغفرة، المُستلزم لكمال العبادة من الخضوع، والذُل للَّه تعالى بقول ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

وكأنّ لسان حال الداعي يقول: يا ربّ أنت الواحد المُتفرد بالألوهية، المُنزّه عن كل نقصٍ وعيبٍ، إن ما وقع لي ليس بظلمٍ منك، بل إني أنا قد ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي. ذَكَر ظلمه لنفسه، ولم يطلب من اللَّه بصيغة الطلب الصريح أن يغفر له ذنبه؛ فكأنه يقول: إن تُعذبني فبعدلك، وإن تغفر لي فبرحمتك.

وتأتي البُشرى في قوله تعالى في الآية التالية: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾؛ فـ"الفاء" تُفيد التعقيب دون مُهلةٍ، و"الألف، والسين، والتاء" تُفيد المبالغة بالإجابة الواسعة العظيمة. ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ فكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر حين دعانا، كذلك نُنجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا، ودَعَوْنا. وهذه البشارة، والوعد العظيم الذي لا يتخلف من اللَّه ربّ العالمين لكل مؤمنٍ ومؤمنةٍ إذا وقع في الشدائد والهموم، فدعا ربه القدير بهذه الدعوة العظيمة بصدقٍ وإخلاصٍ أن يُنجيه ويُفرِّج عنه.

 

وجاءت هذه البشارة كذلك عن سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: [دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ].

وفي روايةٍ أُخرى عنه صلى الله عليه وسلم قال: [أَلاَ أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاَءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فَفَرَّجَ عَنْهُ؟]، فقَالُوا: بَلَى، قَالَ: [دُعَاءُ ذِي النُّونِ ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾].

 

قال العلماء إن (دُعاء ذي النون) فيه من جوامع الأدب، والكلم الطيب فوائد كثيرةٌ؛ منها: أن الدُعاء كما يكون طلباً صريحاً يكون كذلك تعريضاً مُتضمِناً للطلب. وأن هذه الصيغة جمعت آداب الدُعاء، وأسباب الإجابة، فيحسن بالعبد أن يُكثر منها في دُعائه حال الكرب، والغم، والهم، والشدائد. وأن هذه الدعوة فيها كمال التوحيد، والإيمان باللَّه تعالى. وأن فيها دلالةً على أن التسبيح سببٌ للإنجاء من الكرب والهمّ. وأن التوحيد والإيمان والإقرار بالذنوب من أكبر أسباب النجاة من مهالك الدُنيا والآخرة. وأن الذنوب من أعظم الأسباب الموجبة لزوال النِعم، وحصول النِقم. وأنه ينبغي أن يدعو العبد بحسن ظنٍّ عظيمٍ في حقّ ربه تعالى حال دُعائه؛ فإن اللَّه تعالى يُعامله على حسب ظنّه به. وأن ما يقع على العبد من المصائب فإن سببها تقصيره في حق ربه تعالى. وأن كل الخلق، مهما كانت رُتبهم ومنزلتهم، مُفتقرون إلى اللَّه تعالى فعليهم أن يفرّوا إليه وحده -دون غيره- بالدُعاء والرجاء والرغبة والرهبة.

 

يقول الشاعر:

يا مُجيباً (دُعاء ذي النون)

في قرارِ البحار

استجبْ دعوةَ المحزون

قد دعا باضطرار

لك أمرٌ بالكافِ والنون

ولك الاقتدار

 

أحبتي.. من المُريح للنفس أن تكون الآية التالية للآية التي ورد فيها (دُعاء ذي النون) هي بشارةٌ تحمل الأمل لكل مهمومٍ ومكروبٍ وصاحب حاجةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، إنه وعدٌ ربانيٌ لكل مَن قال هذا الدُعاء؛ والله لا يُخلف الوعد؛ يقول تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾. لكن علينا أن ننتبه إلى أن الآية الكريمة تُشير إلى أن هذه البُشرى بالنجاة من الغم هي للمؤمنين؛ فلندعو الله بإخلاصٍ وإلحاحٍ وثقةٍ وحُسن ظنٍ ويقينٍ كاملٍ أن يجعلنا من المؤمنين، وأن يستجيب دعاءنا. قيل: "مَن وُفِّق للدعاء أُعطيَ الإجابة"؛ اللهم وفقنا للدعاء بـ(دُعاء ذي النون)، واستجِب لنا كما وعدتنا بقولك: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.

https://bit.ly/4g6Gqh7

الجمعة، 29 أغسطس 2025

الورع

 

خاطرة الجمعة /514

الجمعة 29 أغسطس 2025م

(الورع)

 

كتب يقول: كُنا ثلاثة أصدقاء، قريبين جداً من بعضنا، وفي يوم زفاف أحدنا فوجئتُ بأن صديقي الآخر يعتذر عن حضور الحفل، الأمر الغريب أنه كان يشعر بأنه لا ينبغي له الذهاب إلى الحفل. طوال اليوم كان يقول لي: "لا أُريد أن أذهب، أشعر أنني إن ذهبت، سيحدث شيءٌ يجعلني أندم بقية حياتي"، وأنا كنتُ مَن يحاول إقناعه بالذهاب معي إلى الحفل؛ حتى أنني قضيتُ اليوم بأكمله في محاولة إقناعه بأن يأتي معي إلى الحفل حتى لا يغضب منا صديقنا الثالث العريس، ونكون إلى جانبه. بعد جدالٍ طويلٍ، قلتُ له: "سنذهب أنا وأنت، وإذا حدث أي أمرٍ يُزعجك ولو بنسبةٍ بسيطةٍ، سنُغادر فورًا"، ومع ذلك، لم يكن مُقتنعاً، وعندما نفد صبري قلتُ له: "إذا لم تأتِ معي، سأغضب منك، لأنني لا أُريد الذهاب وحدي، وهذا حفل زفاف أعز أصدقائنا، لا يصح أن تتغيب عنه"، وفعلاً، رافقني، فقط كي لا يُغضبني.

‏ ركب معي في سيارتي، ونحن في الطريق طلب أن نستمع إلى سورة يس؛ لأنها تبعث في نفسه الطُمأنينة، كنتُ أنظر إليه، فأجده متوتراً ووجهه شاحب، سألته: "لماذا أنت قلِق؟"؛ فأجابني بجملةٍ لن أنساها ما حييتُ: "أليس من المُمكن أن يكون هذا الفرح آخر حدثٍ أحضره، وتنتهي أعمالي في الدُنيا وأنا أستمع إلى الموسيقى والأغاني؟ أليس من المُمكن أن تكون نهايتي هناك؟"، انقبض قلبي عندما سمعتُ كلامه، وحاولتُ أن أُطمئنه؛ فقلتُ له: "لن نتأخر، سنبارك للعريس ونُغادر، وأنا أعتذر لك لأنني أحضرتك معي رغماً عنك". لكن، وبصدقٍ، في تلك اللحظة غضبتُ من نفسي بشدةٍ، ولم أعد أعرف ما عليّ فعله، شعرتُ بالذنب لأنني أجبرته على المجيء. فجأةً، ونحن في الطريق، سمعنا أذان صلاة العشاء؛ فطلب مني أن نتوقف عند أقرب مسجدٍ لنُصلي، ثم نُكمل طريقنا. وفعلاً، صلينا الفريضة، وبدأنا نُصلي السُنن. انتهيتُ من صلاتي ونظرتُ إليه، فوجدته ساجداً يضحك! استغربتُ، ولا أدري لماذا شعرتُ أنه يتشهد، وللحظةٍ تمنيّتُ أن يكون إحساسي خاطئاً، طال سجوده، وكنتُ أحدّق فيه ودموعي تملأ عينيّ، ومن أعماق قلبي كنتُ أتمنى أن ينهض من سجوده، فإذا به ينهض، وقبل أن أفرح بنهوضه، وقع وهو يقول الشهادة، ولا زال يضحك! احتضنته، وكل خليةٍ في جسدي كانت تُريد أن تقول له: "لا، لقد وعدتني أن نظل أصدقاء حتى آخر نفس"، قال لي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "لكل أجلٍ كتابٌ، وقد انتهى عمري يا صديقي، لا تنساني، ولا تستهِن بالذنوب، حتى نكون سوياً في الجنة"، قالها، ثم عاد يُردد الشهادة، وفجأةً ضحك وقال: "الحمد لله"، وكان ذلك آخر نفسٍ له، وآخر كلمةٍ نطق بها.

مات صديقي بسكتةٍ قلبيةٍ مفاجئةٍ، ونحن في طريقنا لحضور حفل زفافٍ، مات بين يديّ، داخل المسجد، ولو تأخرت تلك اللحظات بضع دقائق حتى نصل إلى حفل الزفاف، لما سامحتُ نفسي مُطلقاً على أنني كنتُ سبباً في موته في ذلك المكان؛ فلا أنا، ولا صديقنا العريس، ولا الحفل بكل من فيه، كانوا لينفعوه بشيء.

لم يكن صديقي -رحمه الله- يُحب الاختلاط، ولا حفلات الزفاف التي تكثر فيها الذنوب، ولا الأغاني التي تُشغّل فيها، ومنذ فترةٍ، كان يُحاول التوقف تماماً عن الاستماع إلى الأغاني، وكان في غاية السعادة لأنه استطاع تحقيق ذلك، وكان يُجاهد نفسه والدُنيا والشيطان، وبحكم أننا كنا نعيش معاً، فقد كنتُ شاهداً على ذلك. كان يدعو كثيراً أن تكون آخر أعماله سجدةٌ، وكان يقول لي إنه يتمنى أن يموت وهو ساجدٌ، وقد تحققت أمنيته، واستجاب الله سُبحانه وتعالى دعاءه، ومات في بيت الله، وهو ساجد.

مرت فترةٌ طويلةٌ على وفاته، ولا زلتُ أعيش على الجملة التي قالها لي: "لا تستهِن بالذنوب، حتى نكون سوياً في الجنة"، تركتُ كل ما هو مُحرّمٌ، أولاً؛ من أجل الله عزَّ وجلَّ، وثانياً؛ لنلتقي مُجدداً في الجنة أنا وصديق العُمر. توقفتُ عن الذهاب إلى الأفراح، وتوقفتُ عن الاستماع إلى الأغاني، وأقلعتُ عن أي شيءٍ قد يُبعدني ولو خطوة واحدة عن الجنة، وقبل أن أُقدم على أي أمرٍ مُحرَّمٍ، يُزين ليّ الشيطان أنه أمرٌ بسيطٌ أُذكِّر نفسي بجملة صديقي المرحوم بإذن الله: "ما أدراك؟ قد يكون هذا نهاية أعمالي في الدُنيا".

وكم كان الله كريماً معي، فقد شعرتُ بحلاوة الإيمان، وطُمأنينة القلب، وسكون الجوارح، شعرتُ بسعادةٍ لا توصف ولا تُقارن بالسعادة الزائفة التي كانت تعقب كل عملٍ سيءٍ أقوم به. لم يعد الإحساس بالندم يتملكني، بل صرتُ أعيش حالةً من الرضا لم أكن أتصور أن أعيشها، فقط لتركي المعاصي، وحرصي على فعل كل ما يُرضي الله. اللهم ثبتني على الإيمان وأمتني عليه.

 

أحبتي في الله.. إنه (الورع) عندما يعيشه المسلم بصدقٍ وإخلاص. عرَّفه العلماء بأنه "التَّقْوَى، والتَّحَرُّج، والكَفُّ عن المحارِم"، وقالوا "هو اجتناب الشُبهات؛ خوفاً من الوقوع في المُحرمات"، وأضاف بعضهم أنه: "ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة". وقسَّموا (الورع) إلى نوعين: ورعٌ واجبٌ: وهو اتقاء ما يكون سبباً للذمِّ والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المُحرم. وورعٌ مندوبٌ: وهو الوقوف عن الشُبهات. وقالوا إن (الورع) على وجهين: ورعٌ في الظاهر بأن لا تتحرك إلا لله، وورعٌ الباطن وهو أن لا تُدخل قلبك سوى الله.

 

يقول تعالى في وصف المُخلصين في ورعهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.

وعن هذه الآية سألت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ؟ قالَ عليه الصلاة والسلام: [لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾].

يقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القُدسي: {وعِزَّتِي لا أجمعُ على عَبدي خَوفيْنِ وأَمنيْنِ، إذا خافَني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ، وإذا أمِنَني في الدُّنيا أَخَفْتُه في الآخِرةِ}.

وقيل في هذا المعنى: "إن المؤمن جمع إحساناً وشفقةً، وإن المنافق جمع إساءةً وأمناً".

وعن (الورع) قال صلى الله عليه وسلم: [ومِلاكُ الدِّينِ الورَعُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أعْبَدَ الناسِ].

 

ويُشير أهل العلم إلى أن (الورع) لابد وأن يشمل الجوارح كلها، فلا يجب أن يكون في جانبٍ دون آخر؛ فورع العين غض البصر، وورع اللسان التعفف عن البذاءة وعن آفات اللسان، وورع اليد الكف عن البطش والإيذاء والتعدي، وهكذا مع سائر الجوارح. وأفضل (الورع) هو أن يتورع الإنسان عن شيءٍ ينقصه أو شيءٍ تشتهيه النفس، مخافة الوقوع فيما يُغضب الله عزَّ وجلَّ. وإن أفضل الورع هو ورع الخلوات؛ فالمؤمن الورع يُوقن بأن الله تعالى معه وناظره، ومُطلعٌ عليه في كل مكانٍ وعلى أية حال.

وحذَّر العُلماء من (الورع) الكاذب؛ قال أحدهم: "سيأتي أقوامٌ يخشعون رياءً وسُمعةً، وهُم كالذئاب الضواري، غايتهم الدنيا، وجمع الدراهم من الحلال والحرام"، واستشهد بما قام به الخليفة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى رجلاً في السوق يحمل تمرةً ويُنادي عليها صارخاً: "لقد وجدتُ تمرةً فمن صاحبها؟"، فلما رأى عُمر أن الرجل يفعل ذلك تظاهراً بالورع، علاه بالدُرة وقال له: "دعك من هذا الورع الكاذب".

 

قيل عن (الورع): هو أوَّلُ الزُّهْدِ. وقيل: هو اجتنابُ كُلِّ رِيبةٍ، وتَركُ كُلِّ شُبهةٍ. وقيل: هو الخروجُ من كُلِّ شُبهةٍ، ومحاسَبةُ النَّفسِ في كُلِّ طَرفةِ عَينٍ. وقيل: ما رأيتُ أسهَلَ من الوَرَعِ؛ ما حاك في نفسِك فاترُكْه! وقيل: مثقالُ ذَرَّةٍ من الوَرَعِ خيرٌ من ألفِ مِثقالٍ من الصَّومِ والصَّلاةِ. وقيل: جُلَساءُ اللهِ تعالى غداً أهلُ الوَرَعِ والزُّهْدِ. وقيل: كُنَّا نَدَعُ سَبعينَ بابًا من الحلالِ مخافةَ أن نقَعَ في بابٍ من الحرامِ. وقيل: هو لُزومُ الأعمالِ الجميلةِ التي فيها كمالُ النَّفسِ. وقيل: عليك بالوَرَعِ يُخَفِّفِ اللهُ حِسابَك، ودَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك، وادفَعِ الشَّكَّ باليقينِ يسلَمْ لك دينُك.

 

وقال الشاعر عن (الورع):

تَوَرَعْ وَدَعْ ما قَدْ يُريبُكَ كُلَهُ

جَميعاً إلَى ما لا يُريبُكَ تَسْلَمْ

وقال آخر:

جَليلُ العَطايا في دَقيقِ التَوَرُعِ

فَدَقِّقْ تَنَلْ عالي المَقامِ المُرَفَّعِ

وَتَسْلَمْ مِنَ المَحْظورِ في كُلِ حالةٍ

وَتَغْنَمْ مِنَ الخَيْراتِ في كُلِ مَوْضِعِ

وَتَحْمِدْ جَميلَ السَعْي بِالفَوْزِ في غَدٍ

فَسارِعْ إلَيهِ اليَوْمَ مَعَ كُلِ مُسْرِعِ

 

أحبتي.. لخَّص أحد العارفين (الورع) بقوله: إنه يجلب محبة الله تعالى، ويُرضي نبيه صلى الله عليه وسلم، وبه يتم البُعد عن الشُبهات، والاحتراز من المعاصي، وهو سِمةٌ من سِمات الأتقياء الأنقياء، لا يُقاس بشكلٍ ولا بهيئةٍ، ولا يُقاس بطنطنة اللسان ولا بفصاحة البيان، بل هو حالةٌ من تصالح الإنسان مع الله سُبحانه وتعالى؛ فلا يفعل فعلاً ولا ينطق بكلمةٍ إلا راجياً رضا الله، طامعاً في ثوابه، خائفاً من غضبه وعقابه.

اللهم اجعلنا من المؤمنين المُتقين الورعين، وثبتنا على الإيمان، وحببِّه إلى قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفُسوق والعصيان.

https://bit.ly/3VlNA7I

الجمعة، 22 أغسطس 2025

أُمك ثم أُمك ثم أُمك

 

 خاطرة الجمعة /513

الجمعة 22 أغسطس 2025م

(أُمك ثم أُمك ثم أُمك)

 

يحكي أحدهم عن موقفٍ حدث بينه وبين أُمه فقال:

حدث خلافٌ بيني وبين أُمي وصل إلى عُلو الأصوات، كانت بين يديّ بعض الأوراق الدراسية رميتها على المكتب وذهبتُ إلى سريري، والهموم واللهِ تغشى قلبي وعقلي، وضعتُ رأسي على الوسادة كعادتي كلما أثقلتني الهُموم؛ حيث أجد أن النوم خير مفرٍ منها.

في صباح اليوم التالي -وكانت أُمي لا تزال نائمةً- توجهتُ إلى الجامعة، أخرجتُ هاتفي المحمول وأنا على بوابة الجامعة وكتبتُ رسالةً أُداعب بها قلب أُمي الحنون؛ فكان مما كتبتُ: "عَلِمتُ للتو أن باطن قدم الإنسان يكون أكثر ليونةً ونعومةً من ظاهرها يا غالية؛ فهل يأذن لي قدمُكم، ويسمح لي كبرياؤكم بأن أتأكد من صحة هذه المقولة بشفتيّ؟". أدخلتُ هاتفي في جيبي وأكملتُ يومي بالجامعة، ولمّا عدتُ إلى البيت وفتحتُ الباب وجدتُ أُمي تنتظرني في الصالة وهي بين دموعٍ وفرحٍ، قالت لي: "لا، لن أسمح لك بذلك؛ لأنني متأكدةٌ من صحة هذه المقولة؛ فقد تأكدتُ من ذلك عندما كنتُ أُقبِّل قدميك ظاهراً وباطناً

وقت أن كنتَ صغيراً". لا أذكر سوى دموعي وهي تتساقط، وأنا أُقبِّل رأس أُمي وألثم يديها، وأعتذر لها، وأطلب منها السماح والصفح.

 

أحبتي في الله.. تعليقاً على هذا الموقف، كتب الشاب الذي نشره في نهاية منشوره يقول:

سيرحلون يوماً بأمر ربنا؛ فَتقربوا إليهن قبل أن تفقدوهن، وتذكروا وصية نبينا الكريم u (أُمك ثم أُمك ثم أُمك)، وإن كُنَّ قد رحلن فترحموا عليهن وادعوا لهن.

ذَكَّرني هذا الموقف بموقفٍ حدث بين شابٍ آخر وأُمه، وإن كانت نهاية الموقف مُختلفةً؛ إذ سقط كوب الحليب من يد الأُم وانكسر، فصرخ ابنها في وجهها، ثم ترك البيت وخرج غاضباً؛ ناسياً وصية النبي صلى الله عليه وسلم بحُسن صحبة الأُم حين قال: (أُمك ثم أُمك ثم أُمك). جلست الأُم على مقعدها حزينةً مكسورة الخاطر، وكتبت رسالةً لابنها. عندما عاد ابنها وجدها نائمةً على مقعدها كالعادة، وفي حجرها رسالةٌ، أخذ الرسالة وقرأها، فوجد فيها ما يلي:

ابني وحبيبي وقُرة عيني: أنا آسفةٌ؛ فقد أصبحتُ عجوزاً، ترتعش يداي فيسقط طعامي على صدري، ولم أعد أنيقةً جميلةً طيبةَ الرائحة؛ فلا تلمني. وأنا لا أقوى على لبس ملابسي وحذائي؛ فساعدني. وﻻ تحملني قدماي إلى الحمام؛ فأمسك بيديّ. تذكر كم أخذتُ بيدك كي تستطيع أن تمشي. لا تضجر من ضعف ذاكرتي، وبُطء كلماتي؛ فسعادتي اﻵن تكمن فقط في أن أكون معك. ضحكاتك كانت تُفرحني عندما كنتَ صغيراً فلا تحرمني من ابتسامتك اﻵن. لقد كنتُ معك حين ولدتك، فكُن معي حين أموت، فأنا ببساطةٍ أنتظر الموت!

مسح الابن دموعه في طرف ثوب أُمه وأخذ يُقبِّل يديها ويقول لها: "سامحيني"، لكن يديها كانتا باردتين كالثلج، أدرك وقتها أنه قد فات أوان الاعتذار، وأُجهش بالبكاء، شاعراً بالحسرة والندم، أن ماتت أُمه قبل أن يعتذر لها ويطلب رضاها.

 

وهذا شابٌ ثالثٌ، يصف علاقته بأُمه في سؤالٍ أرسله إلى أحد المواقع الإسلامية يطلب النصيحة، قال في سؤاله:

أُمي كبيرةٌ في السن، وهي عصبيةٌ، وفي نفس الوقت هي من النساء التي تُصر على رأيها حتى لو كان غير صحيحٍ، وأنا -يعلم اللهُ- أني أُريد رضاها، وكم من مرةٍ أُحاول حتى ترضى التزاماً مني بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أُمك ثم أُمك ثم أُمك)، ثم لا نتفق في نقطةٍ أُخرى أو لا نتفاهم، مع العلم بأني عصبيٌ جداً -وهي تعلم ذلك- ومع ذلك تستفزني دائماً، وأنا أُحاول تجنبها، وهي دائماً ما تربط بين طلباتها ورضاها عني؛ فتقول لي "برضاي عليك افعل كذا" حتى لو كان خطأً، فإن فعلتُ فهي راضيةٌ عني، وإن لم أفعل فأنا مغضوبٌ عليّ. يعلم اللهُ أني احترتُ كيف أُرضيها، أفيدوني ماذا أفعل؟

وكان مما أجاب به المسئول عن ذلك الموقع قوله:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلعل من المُناسب أن نُذَكِّر الأخ ببعض ما جاء في فضل بِر الوالدين، والأُم على وجه الخصوص، لا سيما عند كِبَرها، لعلَّ في ذلك ما يُعينه على بِرها واحتساب الأجر على ما يُلاقيه من تعبٍ ومشقةٍ في هذا السبيل، من هذه النصوص؛ قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ]، قيل: من يا رسول الله؟ قال: [مَنْ أدركَ أبويه عِندَ الكِبَر: أحدُهما أو كليهما فَلَم يَدْخُل الجَنّة]. وحين جاء إليه رجلٌ يستأذنه في الجهاد، قال له صلى الله عليه وسلم: [أحيٌ والداك؟] قال: نعم، قال: [ففيهما فَجاهِد]. وهذا آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردتُ أن أغزو، وقد جئتُ أستشيرك؟ فقال: [هَل لكَ أُمٌ؟] قال: نعم، قال: [فالزَمْها فإن الجَنّةَ تَحْتَ رِجْليها]، وفي روايةٍ أُخرى قال: [وَيْحَك، أحيةٌ أُمُك؟] قال: نعم يا رسول الله، قال: [وَيْحَك، الْزَم رِجْلَها فَثَمَّ الجَنّة]، قال شُرّاح هذا الحديث إن التواضع للأُمهات سببٌ لدخول الجنة.

هذه الآيات والأحاديث، وكلام العُلماء يُبين ما للأُم من حقٍ على أولادها أوجبه الله ورسوله، ثم إنّ لها فضلاً، مهما فعلتَ فلن توفيها حقها أو تجزيها جزاءً يُقابل أفضالها وإحسانها؛ فهي التي قاست أشهر الحمل، وعانت آلام الولادة، وسهرت، وأرضعت، وربَّت، وتحملت الكثير والكثير من أجلِك، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فنوصيك بالصبر الجميل على بِرها والإحسان إليها. مع العلم بأن الطاعة إنما تكون في المعروف، وفيما أحلَّ الله وأباح، أما إذا كان الأمر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، مع لزوم المُصاحبة بالمعروف، وفقنا الله وإياكَ لبِر أُمهاتنا وآبائنا.

 

يقول الشاعر:

أَوْجَبُ الواجِباتِ إِكْرامُ أُمي

إِنَّ أُمي أَحَقُ بِالإكْرامِ

حَمَلَتْني ثقلاً وَمِنْ بَعْد حَمْلي

أَرْضَعَتْني إلَى أَوانِ فِطامي

وَرَعَتْني في ظُلْمَةِ اللَيلِ حَتى

تَرَكَتْ نَوْمَها لِأَجْلِ مَنامي

وَبِلُطْفٍ تَعَهَدَّتْني إِلَى أَنْ

زالَ ضَعْفي وَاشْتَدَ لينُ عِظامي

عَنيَتْ بي عِنايةً وَاستَمَرَتْ

بِشَرابي مُهْتَمَةً وَطَعامي

فَلَها الحَمْدُ بَعْدَ حَمْدي إلَهي

وَلَها الشُكْرُ في مَدَى الأيامِ

 

أحبتي.. ربما تكون بعض تلك القصص صحيحةً، وربما كانت غير صحيحةٍ، لكن ما بها من أحداثٍ يتكرر-للأسف- في مُجتمعاتنا الإسلامية؛ فكم من عاقٍ ضرب أُمه، وكم من عاقٍ جرح أُمه بكلمةٍ، وكم من عاقٍ طرد أُمه من المنزل إرضاءً لزوجته، إن من يزور دور رعاية كبار السن يجد بها أُمهاتٍ أصبح مصيرهن فيتلك الدُور بسبب ابنٍ عاق، خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جَاءَه رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: [أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أبُوكَ]؛ فأحسِن صحبة أُمك، لا تكسر قلبها بكلمةٍ، ولا تجرحه بإهمالٍ أو استهزاء. ابتسم لها دائماً، اتصل بها يومياً إن كنتَ بعيداً عنها، اطلب منها المشورة، ولا تُبالغ في عرض مشاكلك عليها فيُصيبها الحُزن والهم، وطمئنها فور حل تلك المشاكل كي تسعد، تحسس احتياجاتها ولبي طلباتها قبل أن تطلبها، فاجئها ببعض الهدايا التي تُفرحها حتى ولو تمنعت، استمع لها حتى ولو كان كلامها مُكرراً، قبِّل رأسها ويديها؛ فالجنة تحت أقدامها.

 

اللهم احفظ أُمهاتنا وأَطِل في أعمارهن، واجعلنا قُرة عينٍ لهن، وسبباً في سعادتهن.

أما من تُوفيت أُمه؛ فعليه أن يتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ شيءٌ أَبَرُّهما به بعد موتِهما؟ قال: [نَعَم، الصَلاةُ عَلَيهِما، وَالاسْتِغَفارُ لَهُما، وَإنْفاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلَّا بِهِما، وَإكْرامُ صَديقِهِما].

اللهم اجعلنا من البارين بأُمهاتنا أحياءً كُنَّ أو أمواتاً، واجعلنا نتذكر دائماً وصية نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- حينما قال: (أُمك ثم أُمك ثم أُمك).

https://bit.ly/41jzabF

الجمعة، 15 أغسطس 2025

إنها صلاة الفجر

 

خاطرة الجمعة /512

الجمعة 15 أغسطس 2025م

(إنها صلاة الفجر)

         

قصةٌ واقعيةٌ هي من أعجب ما قرأتُ، نشرها صاحبها بعنوان "أنا والفَجر"، كتب يقول:

يا إلهي، إلى متى سوف أبقى مُقصِّراً في صلاة الفجر؟! يوماً حاضراً وعشرة أيامٍ قضاءً، يوماً في المسجد ومائة يومٍ في البيت، متى سيُصلح الله حالي؟! ولأنه كما يُقال: "ما خاب مَن استشار"؛ فقد سألتُ وسألتُ، وكانت خلاصة التوصيات كما يلي:

-"الدعاء؛ فأنت بالله قويٌّ وبنفسك ضعيفٌ؛ فاسألِ اللهَ العونَ". 

-"النوم مبكِّرًا؛ فقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلَّم يَكره النومَ قبل العشاء، والسمرَ بعدها". 

-"لا تَنَم خلال النهار؛ حتى لا تُصاب بالقلق عند النوم، ولِتجد الرغبة الشديدة فيه مُباشرةً بعد صلاة العشاء".  

-"استخدِمْ مُنبهاً؛ حتى يُعينك على الاستيقاظ". 

-"لا تنم إلا على طُهور".

-"لا نوم بعد صلاة الفجر؛ فهو وقت خيرٍ وبركةٍ ورزق". 

وبدأتُ أعمل بالتوصيات. لم أشعر بالنُّعاس في أول يومٍ، لكن ظللتُ راقداً؛ حتى تعتاد نفسي الأمر، ولم أنم بعد الفجر ولا أثناء النهار، وبالكاد استطعتُ أن أبقى مُستيقظاً حتى صلاة العشاء، وبمُجرد انتهائي من الصلاة، كان أجمل شيءٍ في الدُنيا هي الوسادة، وذهبتُ في نومٍ عميقٍ لم أستيقظ منه إلا في التاسعة صباحاً. يا إلهي! ألم يعمل المُنبه؟! بلى، عَمِل لكني لم أسمعه؛ فقد رُزقتُ نوماً ثقيلاً. شكوتُ للناصحين ما حدث معي؛ فنصحني أحدُهم بزيادة عدد المُنبهات إلى اثنين، والتنويع في أنواعها، وكانت النتيجة: الاستيقاظ في العاشرة صباحاً! شكوتُ للناصحين ثانيةً؛ فقال أحدهم: "سأرن جرس شقتك"، قُلتُ: "أنا في الطابق الثاني، وباب العمارة مُغلقٌ، فأنَّى لك الولوج؟!" قال: "اترك بابَ العمارة مفتوحاً، وسأصعد بعد أذان الفجر، وأرن جرس شقتك وأُوقظك"، عاتبتُه في الصباح: "لماذا لم ترِن؟" قال مُتعجباً: "أنا لم أرِن؟! رننتُ الجرس ورننتُ ورننتُ، حتى حان وقت إقامة الصلاة ولم تستيقظ؛ فذهبتُ إلى المسجد حتى لا تفوتني الصلاة" قلتُ له: "واللهِ ما شعرتُ بشيء". 

شكوتُ للناصحين مرةً أُخرى؛ فقال أحدُهم: "اربط رِجلَك بحبلٍ، ودَلِّه لي من النافذة، وسأسحب الحبل لإيقاظك". نعم، لقد استيقظتُ للصلاة -بحمد الله- ثلاثة أيامٍ، لكن في اليوم الرابع عاتبتُه: "لماذا لم توقظني للصلاة؟" قال: "حسبتك قد فارقتَ الحياة، فقد سحبتُ الحبل وسحبتُ وسحبتُ، حتى ظننتُك ميتاً"، قلتُ: "واللهِ ما شعرتُ بشيء". 

خطرت ببالي فكرةٌ غريبةٌ، ذهبتُ لمهندسٍ كهربائيٍ وقلتُ له: "هذا جرسٌ بحجم جرس المدرسة، أريدك أن تصِلَهُ بالمُنبِّه ليرن بدلاً من جرس المُنبه"، وبالفعل أجابني لمَا طلبتُ، وصنع لي دائرةً كهربائيةً خاصةً بذلك، وأصبح جرس المدرسة يرنّ بدلاً من المُنبه، ويتوقف بإيقاف المُنبِّه، ولا أُخفِي عليكم شدةَ الفزع الذي أصابني لمّا رنَّ جرسُ المدرسة لأول مرةٍ، وكيف سارعتُ إلى إغلاقه، لقد استمرَّ قلبي يخفق لعشرة دقائق مُتواصلةٍ بسرعةٍ كبيرةٍ من شدة الفزع، وبحمد الله عشرة أيامٍ مُتواصلةٍ لم تفُتْني صلاةُ الفجر جماعةً في المسجد، حتى جاء اليوم الحادي عشر، حيث استيقظتُ في الثامنة صباحاً؛ قلتُ في نفسي: "لا حول ولا قوة إلا بالله، هل نسيتُ ضبط المُنبه أمس؟"؛ لكن عندما نظرتُ إلى المُنبه، وجدتُ جرس المدرسة مُتفحماً "يا الله! ما الذي حدث؟!"، وبمُجرَّد خُروجي من العمارة، وجدتُ الجيران بانتظاري، كُلهم يشكو لي ما أصابهم وعيالَهم مِن فزعٍ؛ بسبب مُنبِّه المدرسة، الذي بقي يرنّ ويرنّ، والجيران يطرقون باب المنزل، وأنا نائمٌ، ولا حياة لمن تُنادي، واللهِ ما سمعتُ صوتاً، ولا شعرتُ بشيءٍ مِن حولي! قال لي الجميع: "إنك معذورٌ؛ فأنتَ قد ابتلاك الله بهذا النوم العميق، وأنت حالةٌ نادرةٌ لا علاج لها". 

لكني أُحبُّ صلاة الفجر، ويعزّ عليَّ أن أُصلّيها قضاءً، وكيف يُصلي إخواني في المسجد، وأُصلي في البيت كما النساء؟! لا، لا عذر لي، فما العمل؟ ذهبتُ إلى المسجد، صلّيتُ العِشاء، وبعد فراغ الناس وانصرافهم، شاغلتُ المؤذِّن قبل إغلاقه للباب الخلفي، ودخلتُ وبِتُّ في المسجد، فوجئ بي عند أذان الفجر، وسألني: "كيف دخلتَ؟!" وزجرني عن فعل ذلك ثانيةً. قلتُ: "سأبيتُ، لا حل لمُشكلتي سوى ذلك"، رفض رفضاً صارماً. جاء اليوم التالي، أخرَجَ المؤذن الجميع بعد صلاة العشاء، وكان حريصاً على إخراجي، قُلتُ له: "سأبيتُ عند باب المسجد من الخارج"، وبالفعل لمّا اكتسى الليل بالسواد، وخلَتِ الشوارع من المارة، أخذتُ وسادتي وغطائي، وذهبتُ إلى الباب الخلفي وبِتُ عنده. أيقظني المؤذن قُبيل أذان الفجر وقال لي: "فعلتَها؟" قُلتُ: "نعم، إن لم تسمح لي بالنوم في الداخل، سأنام في الخارج". واستمرَّ الحالُ ثلاثة أيامٍ، حتى شعر بصدق حالي، فأعطاني نسخةً من مفتاح المسجد، وسمح لي بالمبيت داخله، لم تفُتْني تكبيرةُ الإحرام خلال خمس سنواتٍ، بحمد الله. 

هل انتهى الأمر؟ كلاَّ، ابتلاءٌ جديدٌ؛ فقد تزوَّجتُ! قُلتُ لزوجتي: "نومي ثقيلٌ، فعليكِ الاعتمادُ بعد الله -عزَّ وجلَّ- في إيقاظي لصلاة الفجر". قالت: "لا تعتمد عليَّ؛ فإني أستيقظ أحياناً، وأحياناً أُخرى لا أستيقظ؛ فالحال بعضه من بعض"، سألتها: "فما العمل؟ أنا لا أستطيع الآن المبيت في المسجد"، قالت: "لا أدري". حزنتُ حُزناً شديداً، ما العمل؟ تذكرتُ قولهم: "معذورٌ؛ فأنتَ قد ابتلاك الله بهذا النوم العميق، وأنت حالةٌ نادرةٌ لا علاج لها". قُلتُ: "كلاَّ، يا زوجتي، يا حبيبتي، أمامك خياران؛ فأنت لستِ أغلى عليَّ من ديني: أن أُطلِّقك وأعود للمبيت بالمسجد، أو أن نتقاسم الليل؛ تسهرين إلى مُنتصف الليل وأنامه، ثم توقظينني وتنامين، فإن أذَّن الفجر أيقظتكِ، تُصلين في البيت وأُصلي في المسجد"، فاختارت زوجتي الخيار الثاني؛ فكسبنا كلَّ يومٍ قيامَ الليل في الثُلث الأخير، ولم تَفُتْنا صلاةُ فجرٍ أبداً، وصِرنا قُدوةً حسنةً لأبنائنا، وأسأله -سُبحانه وتعالى- أن يغفر لنا تقصيرنا، ويقبل صلاتنا، وأن يُدخلنا الجنة من باب الصلاة.

 

أحبتي في الله.. لا أدري؛ أهذه القصة هي الأعجب أم تلك التي سبق ونشرتها في "خاطرة الجمعة" رقم 375 المنشورة قبل حوالي ثلاث سنواتٍ، بعنوان "الصلاة خيرٌ من النوم"، وأُلخصها فيما يلي:

مجموعةٌ من جُنود الكتيبة الصينية المُشارِكة في حرب الخليج عام 1991م اعتنقوا الإسلام، وبدأوا في أداء الصلوات في أوقاتها، بعيداً عن قادتهم، لكن المشكلة واجهتهم في صلاة الفجر؛ فعندما علم قادتهم بتجمعهم في خيمةٍ واحدةٍ ليتناوبوا السهر كي لا تفوتهم صلاة الفجر فرَّقوهم بين الخيام، فأخذ كلٌ منهم ساعته المُنبهة معه، لكنها صودرت منهم، وكلما وجدوا طريقةً للاستيقاظ قُبيل الفجر لأداء الصلاة في وقتها حاربهم هؤلاء القادة وسدوا عليهم المنافذ والأبواب، وفجأةً توصلوا لطريقةٍ مُبتكرةٍ للاستيقاظ! اتفقوا على أن يشرب كل واحدٍ منهم كمياتٍ كبيرةٍ من الماء قُبيل النوم لكي يستيقظ للذهاب للخلاء، ومن ثَمَّ ينظر إلى ساعته ويعلم كم بقي من الزمن لصلاة الفجر، فإن قارب الوقت انتظر وصلى، وإلا شرب كميةً أُخرى من الماء. ومع تكرار التجربة مِراراً قدَّرَ كُل واحدٍ منهم الكمية المُناسبة التي يشربها من الماء وتجعله يستيقظ في وقتٍ مناسبٍ لصلاة الفجر!

 

وليس بعيداً عما نتحدث عنه ما اطلعتُ عليه من شكوى أحسب أنها من أغرب الشكاوى؛ تقول الشاكية:

نحن خمس شقيقاتٍ، أنا أكثرهن غِنىً، لكن لا أدري لماذا يأتي أقاربي لزيارة أخواتي بكثرةٍ، وحينما يأتي موعد زيارتي لا يأتي سوى القليل منهم؟ فهم يزورون أخواتي الأربع كل يومٍ، أما أنا فلا أكاد أرى إلا القِلة منهم؛ فهم مُقصرون جداً في زيارتي، بل وينقطعون عن زيارتي أياماً عدة، ورُبما أسابيع وشهور، حتى أن بعضهم لا أكاد أراه مُطلقاً وكأنني سقطتُ من اهتمامهم. بعض من يأتي منهم لزيارتي يأتي وبه كسلٌ وخمولٌ غريبٌ! أما من هو مُصرٌ على عدم زيارتي فإنه يُقدِّم أعذاراً غير مقبولةٍ مُطلقاً.. ماذا أفعل؟! أنا أكثر أخواتي عطاءً لمن يأتيني، لا أتهم أخواتي بالتقصير أبداً.. ولكن الكُل يعرف أني الأكثر عطاءً.. كثيرون ينصحون أقاربي بأن يأتونني؛ فلديّ خيرٌ كثيرٌ، وأُعطي بكرمٍ من يأتيني، ومع ذلك يبتعدون عني.. وكأن لا حياة لمن تُنادي.. ما المشكلة؟! لماذا هذا الهجران؟! ألستُ واحدةً من خمس أخواتٍ؟!! لماذا يحرمونني أُنسهم؟! لماذا ينسونني؟!

هل تعلمون أحبتي في الله من هي صاحبة الشكوى؟! إنها الغالية صلاة الفجر. 

نعم (إنها صلاة الفجر)، التي يقول عنها العارفون إنّ مَن لم يجعلها ‌هدفاً أولياً يبدأ بها يومه فلا خير في نومه، ولا خير في يومه؛ إنها الوحيدة التي يُقال في أذانها "الصلاة خيرٌ من النوم"؛ ذلك أن النوم استجابةٌ لنداء النفس، والصلاة استجابةٌ لنداء الله تعالى، هي خيرٌ من النوم؛ لأن النوم موتٌ والصلاة حياة، هي خيرٌ من النوم؛ لأن النوم راحةٌ للبدن، والصلاة راحةٌ للروح، هي خيرٌ من النوم؛ لأن المؤمن والكافر يشتركان في النوم، والصلاة لا يُصليها إلا المؤمن.

 

(إنها صلاة الفجر) قيل عنها إن هواءها نقيٌ، وصلاتها براءةٌ من النفاق، هي يقظة قلبٍ ذاق أسرار الحياة، وراحة روحٍ عرفت الطريق إلى الله، سجداتها تُسقط هموماً تراكمت على أكتافنا، وتُريح قلوباً تضجّرت بالألم والحزن؛ فلا نبالغ إذا قُلنا إن صلاة الفجر جنّة الدُنيا وسعادتها. 

 

ما أجمل الفجر؛ قُرآنه مشهودٌ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾. وسُنته [خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَما فِيهَا] كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وفريضته مَن صلّاها [فَهو في ذِمَّةِ اللهِ] كما قال عليه الصلاة والسلام، وله بشائر أُخرى كثيرةٌ أخبرنا بها المُصطفى صلى الله عليه وسلم، منها: [بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، و[لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا]، و[مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ]، و[مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ، صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ، وَصَلاَتُهُمْ عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ]، و[مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ الفجر فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ]، ولا يُضيِّع كُل هذه الأُجور عاقلٌ؛ فمن باب المنطق والمصلحة -كما قال أحد الصالحين- لو أن أحداً قال لك إن مَلِكاً من ملوك الدنيا ينتظرك الساعة الرابعة فجراً كيف سيكون شعورك؟ وهذا مَلِكٌ من ملوك الدُنيا بَشَرٌ مثلك، فكيف بملِك الملوك [يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟] كما أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، هل ستنام عن هذا الموعد؟ بالطبع لا. ولو أن لديك سفرةً بالطائرة موعدها الساعة الرابعة فجراً، هل ستنام عن هذا الموعد؟ بالطبع لا. بل لو قالوا لك أن من يُصلي الفجر في المسجد يحصل على ألف ريالٍ تُسلم له وهو خارجٌ من باب المسجد هل كُنتَ تفوِّت هذه الفُرصة، وتنام عن هذه الفريضة؟ بالطبع لا.

ومن باب الذكاء والفطنة وحُسن الاختيار -والمؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ- أن يُبعِد المُسلم عن نفسه شُبهة النفاق؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا، وَلقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فيُصَلِّيَ بالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي برِجَالٍ معهُمْ حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ بالنَّارِ].

 

(إنها صلاة الفجر) قيل عنها شعراً:

صَلاةُ الفجْرِ عُنوانُ الفَلاحِ

ومِفْتاحُ السَّعادَةِ، والنَّجَاحِ

إذا نَادَى المؤَذِّنُ، أوْ تَناهَى

إلَى أذْنيَّ "حَيَّ عَلى الفَلاحِ"

تَعَوَّدْتُ البُكورَ بِكلِّ حَزْمٍ

وأسْرَعْتُ الخُطَى قبْلَ الصَّبَاحِ

سَألتُ اللهَ أنوَارًا، وهَدْيًا

وتَوفِيقًا إلى سُبُلِ الصَّلاحِ

ألَا يَا مَسْجدِي يمَّمْتُ وَجْهي

إلَيكَ، وفِيكَ أبوابُ انشِرَاحِي

وَعِنْدَ الفَجْرِ يملَؤني شُعُورٌ

بأنَّكَ رَاحَتِي، كُلُّ ارتيَاحِي

هُدُوءُ الكَونِ، والظَّلْماءُ حَوْلي

وحُبُّ اللهِ يخفُقُ في جَنَاحِي

تسَابيحٌ إذَا أوقَدْتُ منهَا

سَرَى دِفْءٌ إلى كلِّ النَّواحِي

وَحِينَ أُقِيمُ وجْهي في صَلَاتي

وقدْ فكَّرتُ في الآيِ المِلاحِ

أعودُ، وقدْ سَكَبتُ على الحنايَا

سُرورَ الرُّوحِ يسْرِي في اندِياحِ

نداءُ الفجْرِ أَبدَلني بِنَومِي

حَياةَ الرُّوحِ يعبقُ للرّوَاحِ

فيا ربي أدِمْ راحَاتِ قلبي

على الطاعَاتِ، واختمْ بالنجَاحِ

 

أحبتي.. إن أهل الفجر -كما يوصفون- فئةٌ مُوفقةٌ، وجوههم مُسفِرةٌ، وجباههم مُشرِقةٌ، وأوقاتهم مُبارَكةٌ، فإن كنتَ واحداً منهم فاحمد الله أن هداك لهذا، ومَنَّ عليك بهذه النعمة، وادعوه أن يُثبِّتك عليها ولا يحرمك منها، وإن لم تكن منهم فاضرع إلى الله بالدُعاء أن يجعلك منهم، وخُذ بالأسباب، خاصةً أسباب الاستيقاظ قُبيل صلاة الفجر.

اللهم اجعلنا ممن قُلتَ فيهم: ‏﴿وَالذين هُمْ عَلَىٰ صَلَواتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، واجعلنا اللهم من أهل صلاة الفجر على وقتها، مع جماعة المُسلمين في بيتٍ من بيوتك، حُباً وليس فرضاً، وثبِّتنا على أدائها على الوجه الذي يُرضيك عنا. اللهم لا تحرمنا لذة الوقوف بين يديك في كل صلاةٍ، واجعل صلاة الفجر أحب لنا من الدُنيا وما فيها، واجعلها شاهدةً لنا لا علينا، واجعلنا نرتاح بها وليس منها، إنك -سُبحانك- على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3HxJpCx

الجمعة، 8 أغسطس 2025

اليقين بالله

 

خاطرة الجمعة /511

الجمعة 8 أغسطس 2025م

(اليقين بالله)

 

قصة هذا الأسبوع قصةٌ واقعيةٌ كتبها صاحبها بالعامية المصرية، ونشرها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، اطلعتُ عليها، وأعجبتني؛ فقمتُ بإعادة صياغتها بلغةٍ عربيةٍ فصحى سهلةٍ. إليكم القصة على لسان صاحبها:

في طريق عودتي من مدينة «الإسماعيلية»، وبينما تلفح رياح السفر وجهي، توقفتُ عند بوابة تحصيل الرسوم، مددتُ يدي إلى جيبي لأكتشف أن كُل ما أملكه من مالٍ نقديٍ هو ورقةٌ ماليةٌ باليةٌ من فئة العشرين جُنيهاً، وقد نال منها الزمن حتى بدت ممزقة الأطراف، قدمتها للعامل عند البوابة، فرمقها بنظرةٍ رافضةٍ وقال إنها لا تصلح، أخبرته بأسفٍ: “واللهِ لا أملك غيرها”، نظر إليّ الرجل نظرة تفهُّمٍ، ولوَّح بيده قائلاً: “لا بأس، امضِ في طريقك، ولكن لي عندك رجاء… خُذ هذه السيدة معك، وأوصلها إلى مُستشفى العيون في «القاهرة»، وهي ستدلك على العنوان، واعلم أنها شبه كفيفةٍ، فكُن لها عوناً”، التفتُّ لأرى امرأةً وقوراً تقف على استحياءٍ، يبدو على وجهها أثر الزمن وصبر السنين، أومأتُ لها أن تفضلي بالركوب، فركبت بجانبي في صمت. انطلقنا، وبدأت تروي حكايتها عندما سألتُها مُتعجباً: “كيف وصلتِ إلى هنا وأنتِ بهذه الحال؟”، أجابت بصوتٍ خفيضٍ يملأه الرضا: “أُعاني من مياهٍ زرقاء في عينيّ كادت تسرق مني نورهما. قصدتُ مُستشفى العيون في «القاهرة» بحثاً عن بصيص أملٍ في العلاج، استقللتُ حافلةً صغيرةً، لكنها تعطلت فجأةً عند هذه البوابة، فتفرق الرُكاب كلٌّ إلى سبيله، وساقني أهل الخير إليك”.

تملكني شعورٌ بالشفقة، وسألتها بقلقٍ: “وكيف ستعودين؟”، ردت بيقينٍ راسخٍ كالجبال: “لا تقلق، فالذي دبَّر لي لقاءك، قادرٌ على أن يُدبِّر لي طريق العودة”، هززتُ رأسي مُوافقاً، لكنني استدركتُ قائلاً: “نعم، ولكن الحياة ليست بهذه السهولة دائماً”، ابتسمت ابتسامةً هادئةً أضاءت وجهها المُتعَب وقالت: “بل الحياة سهلةٌ جداً لمن يكون يقينه بالله قوياً؛ فيتوكل عليه حق التوكل”. وصلنا إلى المُستشفى، وعندما هممتُ بمُساعدتها على النزول، رأيتُ مشهداً عجيباً؛ فقد كان هناك مُمرِضٌ يقف عند الباب وكأنه ينتظرها هي بالذات، فاستقبلها مني بحفاوةٍ وأخذ بيدها وأجلسها على مقعدٍ مُتحركٍ. شعرتُ أن قلبي يتمزق من أجلها؛ فقررتُ في نفسي أن أنتظرها، فكيف أتركها تائهةً في مدينةٍ كبيرةٍ لا ترحم، وهي بالكاد تُبصر طريقها بصعوبةٍ بالغة؟ صعدتُ خلفها، ورأيتُ المُمرِض يُجلسها على مقعدٍ عاديٍ ثم ينصرف. جلستُ بعيداً أُراقبها، فسمعتها تهمس بدعاءٍ خاشعٍ يهز الوجدان: “يا رب، سهّلها من عندك.. يا رب، هوِّنها.. يا رب، يسِّرها برحمتك.. يا رب افرجها فليس لي سواك أتوكل عليه”. وظلَّت تُردد هذه الكلمات تُناجي بها الله سُبحانه وتعالى. بعد فترةٍ وجيزةٍ جاءت مُمرِضةٌ واقتادتها إلى غُرفة الطبيب، وبعد أن أتمت الكشف، أعادتها المُمرِضة إلى المقعد ذاته، اقتربتُ منها وسألتها: “طمنيني، ما الأخبار؟”، ابتسمت وقالت: “ألم تُغادر بعد؟”، قلتُ: “آثرتُ أن أنتظرك لأُعيدك إلى محطة الحافلات”، ضحكت وقالت: “هيا بنا إذن”. في طريقنا للخارج، سألتها وأنا أرى الفرحة تُشع من وجهها: “يبدو أن الطبيب قد وصف لك علاجاً شافياً”، نظرت إليّ وقالت: “لا، بل أخبرني أن حالتي مُتأخرةٌ جداً، ولا علاج لها سوى عمليةٍ جراحيةٍ باهظة التكاليف”، ثم ضحكت ضحكةً صافيةً كأنها لم تسمع للتو خبراً يهدم آمالها في العلاج، قلتُ لها في ذهولٍ: “وتضحكين؟!”، أجابت بإيمانٍ غريبٍ: “الذي دبَّر لي كل هذا، ألن يُدبِّر الباقي؟”، قلتُ مُتشككاً: “نعم، قد يُدبِّر لك مواصلةً أو يداً حانيةً تسندك، لكن مبلغاً كبيراً لعمليةٍ كهذه، من أين سيأتي؟”، ردت بصوتٍ يفيض باليقين: “إن ربي يصنع العجائب، أليس هو الذي شقَّ البحر لموسى وقومه؟ أفلا يقدر أن يشق هذه العتمة في عينيّ ويبعث لي نوراً من نوره؟”.

وصلنا إلى محطة الحافلات، وأصررتُ على أخذ رقم هاتفها لأطمئن عليها. اليوم -وبعد فترةٍ- تذكرتها، فخطر لي أن أتصل بها، ردَّت عليّ بصوتٍ تملؤه السعادة، وزفَّت إليّ خبراً كان كالمُعجزة؛ لقد أجرت العملية ولم تدفع إلا مبلغاً رمزياً، ما حدث أن الطبيب نفسه الذي كشف عليها في المُستشفى اتصل بها في ذات اليوم، وأخبرها أنه سيُجري لها العملية في مُستشفىً خيريٍ، وأنه مُتنازلٌ عن أجره كاملاً. أنهت كلامها وهي تقول بفرحٍ غامرٍ: “ألم أقل لك؟ إن الله قادرٌ على أن يشق العتمة بنوره”. في تلك اللحظة، أدركتُ أن الإيمان ليس مُجرد كلمةٍ تُقال، بل هو قوةٌ تُحوِّل المُستحيل إلى حقيقةٍ، وأن من كان يقينه بالله قوياً، وتوكله على الله خالصاً، فإن الله لا يخذله أبداً، عليه فقط أن يُحسن الظن بالله، ويكون موقناً تمام اليقين بقدرة الله عزَّ وجلَّ ولطفه بالعباد.

 

أحبتي في الله.. (اليقين بالله)، عندما يكون قوياً وصادقاً تتحقق معه المُعجزات؛ فهذه قصةٌ أخرى حكاها أحد رجال الدين الموثوق بهم، قال:

أخبرني واحدٌ من أهل «الشيشان» بموقفٍ عجيبٍ حدث معه في زمن «الاتحاد السوڤييتي» السابق؛ قال لي: كُنا مجموعةٌ من المُسلمين مُجتمعين في أحد البيوت نتدارس القُرآن خفيةً، وإذا بقواتٍ روسيةٍ جاءت وحاصرت البيت، وحين همَّ الجنود الروس باقتحام البيت للقبض علينا هرب مَن هرب، وبقيتُ أنا لا أدري أين أذهب، رأيتُ حُفرةً قريبةً من البيت يُلقَى فيها محصول البطاطس، ألقيتُ نفسي فيها، شاهدتُ الجنود وقد اقتحموا البيت وبدأوا في التفتيش وعلا صياحهم، ثم اقتربوا من مكاني في الحُفرة، وأنا ليس معي سلاحٌ، ولا أستطيع أن أهرب، لكن كان بقلبي يقينٌ قويٌ بالله، وتذكرتُ موقفاً من السيرة للنبي صلى الله عليه وسلم مع الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهُما في الغار، كما تذكرتُ آيةً من القُرآن الكريم ظللتُ أقرأها بيقينٍ كاملٍ في الله سُبحانه وتعالى، لم أشعر بأي خوفٍ، بل أحسستُ بسَكينةٍ تملأ روحي، واطمئنانٍ يغشى قلبي. بعد لحظاتٍ سمعتُ القائد يقول للجُندي: "اذهب وفتِّش الحُفرة"، وسمعتُ وقع أقدام الجُندي وهو يقترب شيئاً فشيئاً من الحُفرة وأنا فيها مثل الفأر بالمصيدة، ومع ذلك لم يُساورني أي شكٍ في أن الله سيُنجيني. وصل الجُندي ونظر إلى الحُفرة، وأطلَّ عليّ ثم ذهب، وسمعته يقول للقائد: "لا يوجد أحدٌ في الحُفرة!"، تعجبتُ جداً فقد كان ينظر إليّ، عيناه في عينيّ، لكنه لم يرني!

سأل رجل الدين الرجل الشيشاني: "وماذا كُنتَ تقرأ من القرآن وقتها؟"، قال: "كنتُ أقرأ الآية الكريمة من سورة يس: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

 

عن اليقين يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. ويقول أيضاً: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾.

 

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنُونَ بالإجابةِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ لا يَستجيبُ دُعاءً من قلْبٍ غافِلٍ لَاهٍ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [صلاحُ أوَّلِ هذه الأُمَّةِ بِالزُّهدِ واليَقينِ، ويَهْلَكُ آخِرُها بِالبُخْلِ والأّمَلِ].

وكان من دعائه: [اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا].

 

ويقول أهل العِلم إن اليقين شعبةٌ عظيمةٌ من شُعب الإيمان، وصِفةٌ من صفات أهل التقوى والإحسان.

و(اليقين بالله) هو الإيمان الراسخ والقوي بوجود الله وقُدرته، وهو درجةٌ عاليةٌ من الإيمان تتجاوز مُجرد الاعتقاد إلى الثقة التامة بأن الله هو المُدَبِّر والمُتصرف في كُل الأمور. ويتضمن ذلك: الإيمان المُطلق والتسليم الكامل بقُدرة الله وعِلمه وحكمته، والثقة بأنه لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء. والتوكل الصادق والاعتماد الكُلي على الله، مع الأخذ بالأسباب والتسليم بأنها كُلها بيد الله وأنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذنه. والرضا بقضاء الله والقبول بكل ما يُقدِّره، سواءً كان خيراً أو شراً، عِلماً بأن الله لا يقضي إلا بالخير لعباده المؤمنين. والطمأنينة مع شعور القلب بالسكينة والراحة في كُل الأحوال؛ لأن العبد يعلم أن الله معه. والصبر وتحمل الشدائد والمصاعب بثباتٍ وثقةٍ في الله، مع الإيمان الكامل بأن الله سيجعل بعد العُسر يُسراً.

يقول العُلماء إن (اليقين بالله) هو منزلةٌ عاليةٌ في الدين، وهو أساس السعادة والنجاح في الدُنيا والآخرة، وهو الذي يُحقق المُستحيل. (اليقين بالله) هو أن تكون كُل الأبواب مُغلقةً، وكُل الظروف صعبةً، وكُل المؤشرات توحي بعكس ما تتمناه، لكنك على يقينٍ بأن الله سيُصلح كل شيءٍ وسيتكفل بكل شيءٍ. (اليقين بالله) هو العِلم التام الذي ليس فيه أدنى شكٍ، وهو الاستقرار النفسي، والطُمأنينة لقدرة الله، والإيمان الجازم الذي لا يشوبه شائبة.

و(اليقين بالله) له مراتب ودرجاتٌ يرتقي بها المرء كلما عمر الإيمان قلبه، وهذه المراتب هي: عِلم اليقين، عين اليقين، ثم حق اليقين. وقد مثَّل أحد العُلماء لهذه المراتب الثلاث بقوله: "مَن أَخبَرك أنَّ عنده عسلاً وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقيناً، ثم ذُقتَ منه، فالأول عِلم اليقين، والثاني عَين اليقين، والثالث حق اليقين"؛ فعِلْمُنا بالجَنَّة والنار عِلم اليقين، فإذا أُزْلِفتِ الجَنَّة للمُتقين، وشاهدَها الخلائق، وبُرِّزت الجحيم للغاوين، وعايَنها الخلائق، فذلك عَينُ اليقين، فإذا دخَل أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النارِ النارَ، فذلك حينئذٍ حق اليقين.

أما عن صفات أصحاب (اليقين بالله) والخصال التي تُميزهم، فإنها تتمثل في تقبلهم مصائب الدنيا بصدرٍ رحبٍ وعدم القنوط من رحمة الله والتحلي بالصبر تجاه المُصيبة، وطُمأنينة قلوبهم وراحة نفوسهم وقوة توكلهم على الله وتفويض أمورهم إليه. وكثرة إنفاقهم في سبيل الله بالمال والنفس، وإيمانهم بأن الله هو الرزّاق والمُعطي والمُعين. وخشوعهم في الصلاة قياماً وركوعاً وسجوداً. وزُهدهم في الدُنيا وتَرَفُعهم عن أمور الحياة، وطمعهم في الآخرة ولقاء وجه الله الكريم. مع قيامهم بكُل ما يستطيعون من النوافل وأعمال الخير والبِر التي تُقربهم إلى الله عزَّ وجلَّ.

ويقول العُلماء إنه مع اليقين الكامل بالله قد تأتي إجابة الدُعاء مُختلفةً أو مُتأخرةً وقد لا تأتي، وقتها يكون اليقين الحق أن الله يختار لنا الخير دائماً، وقد يكون الخير فيما أبعده أو أخره عنا، هذا هو اليقين الكامل.

 

عن (اليقين بالله) قال الشاعر:

عِنْدي يَقينٌ بِرَبِ الكَوْنِ يَحْدوني

‏إني قَريبٌ -يَقولُ اللهُ- فادْعوني

يُغيثُني اللهُ مَهْما أَظْلَمَتْ سُبُلي

‏كَما أَغاثَ بِبَطنِْ الْحوتِ ذا النونِ!

وقال آخر:

رَبي مَعي فَمَنْ الَذي أَخْشىٰ إِذَاً

ما دامَ رَبي يُحْسِنُ التَدْبيرا

وَهُو الذي قَدْ قالَ في قُرْآنِهِ

"وَكَفَىٰ بِرَبِكَ هادياً وَنَصيرا"

 

أحبتي.. يقول أحدُهم: "لقد جربتُ ولم تُفلح تجربتي؛ دعوتُ الله فلم يُجب دعوتي، ولم أجد ثمرةً لدعائي"، نقول له إن الله لا يُجَرَّب، إن عطاءه قائمٌ على اليقين لا على التجربة، وكم رأينا بأعيننا استجابةً لأدعيةٍ كُنا نظن أنها مُستحيلةٌ، لكنها تحققت عند اليقين الكامل والقوي بالله سُبحانه وتعالى.

علينا أن ننوي ونعمل ونسعى، ونأخذ بالأسباب ما وسعنا ذلك، ثُم نتوكل على الله ونحن موقنون بأنه سُبحانه لا يُعطي إلا خيراً، وأن ما نسأل الله به بيقينٍ إن كان فيه خيرٌ لنا فهو آتٍ بلا شك في الوقت المُناسب، وعلينا أن نكون في كُل الأحوال صابرين شاكرين.

اللهم بجلال وجهك، وعظيم سُلطانك، ارزقنا الإيمان التام المليء باليقين. وارزقنا اللهم يقيناً لا يتزحزح، وقرة عينٍ لا تنفد، اللهم آمين.

https://bit.ly/3J4hMl3