الجمعة، 7 مارس 2025

حقوق الجار

 

خاطرة الجمعة /489

الجمعة 7 مارس 2025م

(حقوق الجار)

 

من المواقف العجيبة التي حدثت في شهر رمضان المبارك، ما يرويه هذا الرجل الذي كان مُعتكفاً بمسجد قريته في العشر الأواخر من الشهر الفضيل، كتب يقول:

بينما كنا نؤدي صلاة التراويح في المسجد، وكنتُ أقف في أقصى يمين الصف الأول، كان بجانبي طفلٌ صغيرٌ، وبينما نحن ساجدون، سمعتُ الطفل يتحدث إلى الله -سُبحانه وتعالى- بفطرةٍ طفوليةٍ قائلاً: "يا رب، والدي مريضٌ اليوم؛ ولم يستطع أن يُصلي التراويح، وقد جئتُ لأُصلي مكانه، فهل لك أن تشفيه؟ أعدك أننا سنُصلي معاً عندما يشفى". وكان الطفل يُردد بعض الأدعية في كل سجدةٍ، مُعبِّراً عن حُبه لوالده، وأنه لم يُغضبه قط. لقد أذهلني جمال ما سمعته من هذا الطفل، وبعد انتهاء الصلاة، أخذته جانباً، وقدمتُ له عُلبة عصيرٍ، ثم سألته: "أخبرني، ما الذي يُعاني منه والدك؟ لقد سمعتك تتحدث إلى الله عنه". فأجاب ببراءة الأطفال: "يا عمي، والدي يأتي دائماً ليُصلي في مكانك هذا، ولا يتخلف عن أي فرضٍ، ولكنه اليوم مريضٌ ولا يستطيع المجيء. فقلتُ له: يا أبي، سأذهب وأقف في مكانك، حتى إذا نظر الله إليّ، يجدني واقفاً محلك"!

أصابتني الدهشة، وأدركتُ أن هذا الطفل هو ثمرة تربية رجلٍ صالحٍ؛ فاستأذنتُ من الشيخ أن أخرج من الاعتكاف لفترةٍ قصيرةٍ لأرى مَن هو هذا الرجل الصالح الذي ربى ابنه بهذه الطريقة، ولأعوده في مرضه. ذهبتُ مع الطفل إلى منزله، وفوجئتُ بأنني أعرف والده جيداً؛ إنه رجلٌ كبيرٌ في السن، يُصلي دائماً معنا، عفيف النفس، لا نسمع له صوتاً، ولم أره قط إلا والمُصحف في يده. سلَّمتُ عليه، وصدمني ما رأيت من حالة منزله المُتدهورة؛ فقد كان المنزل في حالةٍ سيئةٍ للغاية، والغريب أننا نعرف (حقوق الجار)، وكُنا نتفقد أحوال الجيران، ونحصر الحالات الفقيرة في قريتنا، ولم نكن نعلم أن هذا الرجل الطيب هو أكثر مَن يستحق المُساعدة، وتذكرت قول الله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾، ومن فضل الله، أنه فينفس الليلة، وبعد صلاة العشاء، أعطاني أحدهم ظرفاً فيه مبلغ 1300 جنيه، زكاة مالٍ، وطلب مني أن أُعطيها لمن يستحق؛ فأعطيتُ الظرف للطفل وقلتُ له ألا يفتحه، وأن يُسلِّمه لوالده بعد أن أُغادر.

الأعجب من ذلك؛ أنني كُنتُ قد كتبتُ منذ فترةٍ منشوراً عن فتاةٍ حدثت والدتها زوجتي عنها، بأنها قوّامةٌ صوّامةٌ، تكاد لا تُفارق كتاب الله لحظةً، حتى أنها تنام والمُصحف في حُضنها، وأن شاباً صالحاً تقدَّم لخطبتها، ولكن ظروف والدها المادية تؤخر زواجهما. المفاجأة أنني علمتُ أن هذه الفتاة هي ابنة ذلك الرجل الطيب! فعدتُ مُسرعاً إلى المسجد، وأخبرتُ شيخي، فلم يُصدِّق أننا كنا غافلين عن رجلٍ بهذا الصلاح والتقوى. اتصل الشيخ بصاحب شركة أجهزةٍ كهربائيةٍ يعرفه، وطلب منه تجهيز جهاز عروسٍ كاملٍ، وعُدنا إلى منزل الرجل الطيب، أنا والشيخ، وعندما أخبرتُ والدة الفتاة عن جهاز العروس، بكت من الفرحة، ولا أستطيع أن أصف لكم كيف احتضنت ابنتها، لكن والدها كان عزيز النفس، ورفض المُساعدة؛ فرأيتُ في وجه شيخي نظرة انكسارٍ، وكان يتذلل للرجل ليقبل جهاز العروس، وألاّ يحرمه من هذا الأجر، نظرةً جعلت الرجل يشعر بأن الشيخ هو الذي يحتاج إلى أجر الصدقة، وليس هو؛ فوافق الرجل بفضل الله بعد إلحاحٍ، فقال له الشيخ: "اذهب لإحضار جهاز العروس، وستجده مدفوع الثمن بفضل الله".

كل هذا -بفضل الله- لم يستغرق أكثر من ساعتين! فسألتُ الرجل الطيب: "ما الذي بينك وبين الله حتى يُسخِّر لك عباده هكذا؟" فأجاب: "إذا انقطعت حبال الناس، فحبل الله موصول"، وكان يُردد طوال الوقت قول الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. وعندما عُدنا إلى المسجد، قال الشيخ بابتسامةٍ جملةً لن أنساها: "لا يترك الله عبداً صابراً حتى يرزقه التعجب من جبره، والفرح بما كان من تأخير رزقه، وأن عطاء الله إذا حلّ يُنسيك ما فقدت".

 

أحبتي في الله.. هذه القصة فيها العديد من المواعظ والعِبَر، اخترتُ منها واحدةً فقط، ألا وهي (حقوق الجار). يقول أهل العلم إن المعنى الاصطلاحي لمفهوم الجار هو المُلاصقة في السكن، ونحوه كالبُستان والمزرعة والسوق ومكان العمل ومقعد الدراسة.

ومن جُملة الوصايا التي أوصى الله تعالى بها عباده المؤمنين الإحسان للجار؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ﴾. و﴿الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ هو جارٌ وقريبٌ في آنٍ واحدٍ، أما ﴿الْجَارِ الْجُنُبِ﴾، فهو جارٌ لا تربطه بجاره صِلة قرابة.

 

وعن (حقوق الجار) يقول أهل العلم إنّ للجار في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم حرمةً مصونةً وحُقوقاً وآداباً كثيرةً، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر؛ لقد أوصانا النبي بما فيه خيرنا وصلاح أمرنا في دِيننا ودُنيانا وآخرتنا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [والذي نفْسِي بِيدِهِ، لا يُؤمِنُ عبدٌ حتى يُحِبَّ لِجارِهِ ما يُحِبُّ لِنفسِهِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [خيرُ الجيرانِ عندَ اللهِ خيرُكم لجارِه]. وقد استمرت الوصية بالجار من جبريل عليه السلام لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى ظن أنه سيورثه، وما ذاك إلا لِعِظَم حق الجار؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه]. وورد أن رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: [الجيرانُ ثلاثةٌ: فمِنهم مَن له ثلاثةُ حُقوقٍ، ومنهم مَن له حَقَّانِ، ومنهم مَن له حَقٌّ، فأمَّا الذي له ثلاثةُ حُقوقٍ: فالجارُ المُسلِمُ القَريبُ، له حَقُّ الجِوارِ، وحَقُّ الإسلامِ، وحَقُّ القَرابةِ، وأمَّا الذي له حَقَّانِ: فالجارُ المُسلِمُ، له حَقُّ الجِوارِ، وحَقُّ الإسلامِ، وأمَّا الذي له حَقٌّ واحِدٌ فالجارُ الكافِرُ، له حَقُّ الجِوارِ].

ومن (حقوق الجار): تَفقُّده وإطعامه إن جاع؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به]، وفي روايةٍ: [ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ]، وقال لأبي ذرٍ رضي الله عنه: [يا أبا ذَرٍّ إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ]. ومن (حقوق الجار) الإحسان إليه؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [أحسِن إلى جارِكَ تَكُن مؤمنًا]، ويقول: [مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُحسِنْ إلى جارِه]. وكذلك إكرام الجار؛ يقول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ]. وأيضاً المُحافظة على عِرضه وعدم خيانته؛ فعندما سُئلَ رسولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام أيُّ الذنبِ عندَ اللهِ أكبرُ؟ كان مما قاله: [أنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةِ جَارِكَ]، ويقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [لأن يزنيَ الرَّجلُ بعشرِ نسوةٍ أيسرُ عليه من أن يزنيَ بامرأةِ جارِه]، ويقول: [لأن يسرقَ الرَّجلُ من عشرةِ أبياتٍ أيسرُ عليه من أن يسرِقَ من جارِه]. كما أن من (حقوق الجار) كف الأذى عنه؛ يقول صلى الله عليه الصلاة والسلام: [لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ]، وقيلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: يا رَسولَ اللهِ! إنَّ فلانةَ تقومُ اللَّيلَ وتَصومُ النَّهارَ وتفعلُ، وتصدَّقُ، وتُؤذي جيرانَها بلِسانِها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلم: [لا خَيرَ فيها، هيَ من أهلِ النَّارِ].

ومن (حقوق الجار) ما ورد في الأثر: "إذا استَعانَكَ أعَنتَه، وإذا استَقرَضَكَ أقرَضتَه، وإذا افتَقَرَ عُدتَ عليه، وإذا مَرِضَ عُدتَه، وإذا أصابَه خَيرٌ هَنَّأْتَه، وإذا أصابَتْه مُصيبةٌ عَزَّيتَه، وإذا ماتَ اتَّبَعتَ جِنازَتَه، ولا تَستَطِلْ عليه بالبِناءِ تَحجُبْ عنه الرِّيحَ إلَّا بإذْنِه".

 

ومن آداب الجيرة التي نبهنا إليها علماؤنا الأفاضل: ابتداء الجار بالسلام، مع السؤال عن حاله والبشاشة في وجهه. المُسارعة الى إسعافه عند الحاجة. التلطف في مُعاملة أبنائه، والإحسان إليهم، والرفق بهم ونصيحتهم بالمعروف. الإخلاص في مشورته وإرشاده الى ما قد يجهله من أمور دينه ودنياه. بذل النصيحة له. تحمل الأذى منه، والصبر على جفائه، وإعراضه. الصفح عن زلاته وسقطاته، والتغاضي عن تقصيره وسيئاته، ومُعاتبته برفقٍ وأدبٍ على هفواته. خفض صوت المذياع والتلفاز تجنباً لمضايقته، خصوصاً في أوقات راحته. تجنب إيذائه بتضييق الطريق عليه، أو طرح الأقذار قُرب داره. غض البصر عن أهله. تجنب مُتابعة أسراره، والحفاظ على حُرمته. وملاحظة داره عند غيبته.

وكان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية؛ يقول شاعرهم:

وَأَغَضُّ طَرْفي ما بَدَت لي جارَتي

حَتّى يُواري جارَتي مَأواها

إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ

لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها

وأما في الإسلام فيقول الشاعر:

ما ضرَّ جاريَ إذ أجاوِرُه

أن لا يكونَ لبيتِه سِتْرُ

أَعمى إذا ما جارتي خرجتْ

حتّى يُوَارِيَ جارتي الخِدْرُ

وأَصمُّ عمّا كان بينَهُما

سَمعي، وما بي غيرَه وَقْرُ

 

وحَدُ الجوار أربعون جاراً في كل اتجاهٍ؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حَقُّ الجارِ أربعونَ دَارًاهَ كَذا وَهكَذا وَهكَذا وَهكَذا؛ يَمينًا وشِمالًا وقُدَّامًا وخَلْفًا]، وحين أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يشكو جاراً له، أمر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ أصحابِه أن يُناديَ: [ألا إنَّ أربعين دارًا جارٌ].

وكلّما كان الجار أقرب كان هذا القُرب أكثر تأكيداً لحقه؛ فعندما سألت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله: "إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟"، قال: [إلى أقْرَبهِما مِنْكَ بابًا].

 

أحبتي.. يُقال: "الجار قبل الدار"، ويُقال: "على قدر الجار يكون ثمن الدار"، ويُقال: "الجار الصالح من السعادة"، لكن للأسف؛ كثيرٌ من الناس لا يعرف جاره، ولا يسأل عنه أو يتفقد أحواله، والبعض لا يهتم بحقوق جاره عليه، مع أن الإحسان إلى الجار وإكرامه والقيام بحقوقه أمرٌ ثابتٌ بنص ما ورد في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وما ورد في سُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.

أختم بقول أحدهم: سعادة المجتمع وترابطه وشيوع المحبة بين أبنائه لا تتم إلا بالقيام ب(حقوق الجار) وفقاً لما جاءت به الشريعة الغراء، وإن واقع كثيرٍ من الناس ليشهد قُصوراً شديداً في هذا الجانب؛ حتى إن الجار قد لا يعرف اسم جاره الملاصق له في السكن، وحتى إن بعضهم ليغصب حق جاره، وإن بعضهم ليخون جاره في عِرضه.

نسأل الله أن يُعيننا والمسلمين على القيام بحقوق الجوار، والإحسان إلى جيراننا.

 

https://bit.ly/3Dzv9XM

 

الجمعة، 28 فبراير 2025

لا تُضيِّع صيامك

 

خاطرة الجمعة /488

الجمعة 28 فبراير 2025م

(لا تُضيِّع صيامك)

       

هذا مقالٌ نشره الراحل الدكتور/ مصطفى محمود، يتحدث فيه عن واقعةٍ حدثت قبل حوالي ستين عاماً، عندما كان طفلاً صغيراً. المقال بعنوان: «لماذا لا يحترم الإعلام العربي رمضان؟»، جاء فيه:

لماذا يتحول رمضان إلى شهرٍ ترفيهيٍ بدلاً من شهرٍ روحانيٍ؟ لستُ شيخاً ولا داعيةً، ولكني أفهم الآن لماذا كانت والدتي تُدير التلفاز ليواجه الحائط طوال شهر رمضان.. كنتُ طفلاً صغيراً ناقماً على أُمي التي منعتني وإخوتي من مُشاهدة فوازير رمضان بينما يُتابعها كل أصدقائي.. ولم يشفِ غليلي إجابة والدتي المقتضبة: "رمضان شهرٌ للعبادة، ليس للفوازير!"، لم أكن أفهم منطق أُمي الذي كنتُ كطفلٍ أعتبره تشدداً في الدين لا فائدة منه.. فكيف ستؤثر مُشاهدة طفلٍ صغيرٍ للفوازير على شهر رمضان؟

مرت السنوات وأخذتني دوامة الحياة وغطى ضجيج معارك الدراسة والعمل على همسة سؤالي الطُفولي، حتى أراد الله أن تأتيني الإجابة عن هذا السؤال من رجلٍ مُسنٍ غير مُتعلمٍ في الرُكن الآخر من الكُرة الأرضية، كان ذلك الرجل هو عاملٌ أمريكيٌ في محطة بنزينٍ اعتدت دخولها لشراء قهوةٍ أثناء ملء السيارة بالوقود في طريق عملي، وفي اليوم الذي يسبق يوم الكريسماس دخلتُ لشراء القهوة كعادتي، فإذا بي أجد ذلك الرجل مُنهمكاً في وضع أقفالٍ على ثلاجة الخمور، وعندما عاد لمُحاسبتي على القهوة، سألته وكنتُ حديث عهدٍ بقوانين أمريكا: "لماذا تضع أقفالاً على هذه الثلاجة؟!"، فأجابني: "هذه ثلاجة الخمور، وقوانين الولاية تمنع بيع الخمور في ليلة ويوم الكريسماس، يوم ميلاد المسيح"، نظرتُ إليه مُندهشاً قائلاً: "أليست أمريكا دولةً علمانيةً؟ لماذا تتدخل الدولة في شيءٍ مثل هذا؟"، قال الرجل: "الاحترام؛ يجب على الجميع احترام ميلاد المسيح وعدم شُرب الخمر في هذا اليوم، حتى وإن لم تكن مُتديناً؛ إذا فقد المُجتمع الاحترام فقدنا كل شيءٍ".

الاحترام.. الاحترام.. ظلت هذه الكلمة تدور في عقلي لأيامٍ وأيامٍ بعد هذه الليلة؛ فالخمر غير محرمٍ عند كثيرٍ من المذاهب المسيحية في أمريكا.. ولكن المسألة ليست مسألة حلالٍ أو حرامٍ.. إنها مسألة احترامٍ.. فهُم ينظرون للكريسماس كضيفٍ يزورهم كل سنةٍ ليُذكرهم بميلاد المسيح عليه السلام، وليس من الاحترام السُكْر في معية ذلك الضيف.. فلتسكر ولتعربد في يومٍ آخر إذا كان ذلك أسلوب حياتك.. أنتحرٌ.. ولكن في هذا اليوم سيحترم الجميع هذا الضيف!

 

أحبتي في الله.. أنهى الكاتب مقاله بالقول: أتمنى أن نحترم شهر القرآن، ونعرف ماذا نُشاهد، ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه، قال تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾. نحن على قناعةٍ بأن إعلامنا نزع مفردة الاحترام من قاموسه؛ فهل ستتحلى أنتَ بقليلٍ من الاحترام، وتقلب شاشة تلفزيونك؟ أو على أقل تقديرٍ تحذف بعض القنوات وتكتفي بِما يُعزز احترامك لشهر رمضان الفضيل؟

 

 يقول أهل العِلم (لا تُضيِّع صيامك)؛ فإنّ مُشاهدة المُسلسلات التلفزيونية المُشتملة على المُحرمات-كالتبرج والاختلاط ونحو ذلك- في نهار رمضان أو ليله صحيحٌ إنها لا تُبطل الصيام، لكنها تنقص أجره، بل قد تذهب بأجره بالكُلية؛ يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ] أَيْلَيْسَ لِصَوْمِهِ قَبُولٌ عِنْد اللَّه فَلَا ثَوَاب لَهُ، ومُشاهدة هذه المُسلسلات دليلٌ على عدم تحقق الغاية التي فُرضمن أجلها الصيام، وهي تقوى الله جلَّ وعلا؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وليس المقصود من الصيام هو الجوع والعطش ثم يأتي الليل فيسرح الصائم ويمرح كيفما شاء دون رقيبٍ؛ يقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ].

 

ويقول العُلماء إنّ غالب المُسلسلات لا يخلو من مُحرماتٍ؛ كتبرج النساء، والاختلاط المُحرَّم، والموسيقى، وكلمات الغرام والفُحش، ونحو ذلك من تعدٍ على حدود الله، بل وينطوي بعضها أحياناً على أفكارٍ تهدف إلى تغريب المجتمع وسلخه من قيمه وتغيير هويته الإسلامية. والمُسلسلات عربيةٌ كانت، أو غير عربيةٍ، لا تخلو في الغالب من مُتبرجاتٍ كاشفاتٍ حاسراتٍ عن رؤوسهن أو شُعورهن، واضعاتٍ للمكياج والأصباغ، وسائر أنواع الزينة، مما لا يجوز أن تظهر به المرأة أمام الرجال الأجانب عنها، وإنما يختص جواز ذلك بالزوج أو المحارم. وقد يكون الدور التمثيلي يقتضي الاختلاط؛ كمن يُمثل دور أبٍ لفتاةٍ، فإنه يُعاملها وكأنها ابنته، رغم أنها أجنبيةٌ عنه، فرُبما صافحها، أو عانقها. وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة حينما يكون دورها ابنةً أو أُختاً أو أُمّاً أو زوجةً، فيحصل النظر المُحرم من الطرفين، واللمس والتقبيل، وغير ذلك مما لا يجوز.

فلكل ذلك لا تجوز مُشاهدة هذه المُسلسلات، سواءً في رمضان أو غيره، إلا أن قُبح الذنب يزداد عند فعله في الأوقات الفاضلة ومواسم الخير، والتي من أعظمها هذا الشهر المُبارك الذي وصفه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: [إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: "يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ"، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ].

وإذا كان قبيحاً بالعبد أن يغفل عن استثمار هذه الأوقات النفيسة وأن يُضيِّعها فيما لا فائدة فيه وإن كان مُباحاً، فكيف إذا بدَّدها فيما يُغضب الله عزَّ وجلَّ؟! (لا تُضيِّع صيامك)؛ فالصوم ليس مقصوراً على ترك الطعام والشراب والجماع، وإنما حقيقته صوم الجوارح عمّا حرَّم الله، بل ويشمل صوم القلب عن المقاصد السيئة والنوايا الخبيثة وكفه عمّا سوى الله. ومُشاهدة هذه المُسلسلات مُحرمٌ قطعاً، ولا يسع مُسلماً، ولا مُسلمةً يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلس إلى شاشة التلفاز في وقتٍ تُعرض فيه هذه البرامج، ولا يجوز له السماح بمُشاهدتها لمن تحت يده من أهلٍ وذُرية، بل الواجب على المُسلم غض البصر عما حرَّم الله؛ لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ وعليه أن يقي نفسه وذريته أسباب الانحراف، وطُرق الرذيلة والفاحشة؛ وقد قيل: "إذا صُمتَ فليصم سمعك وبصرك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطر كسواء".

وعلى من أدمن على مُشاهدة هذه المُسلسلات أن يمتنع عن ذلك في رمضان وفي غيره، وأن يتوب إلى الله ويستغفره، وهو سُبحانه يقبل توبة العبد مهما أسرف على نفسه؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، بل ويُبدِّل الله عزَّوجلَّ سيئات المُذنب حسناتٍ بشرط التوبة والإيمان والعمل الصالح؛ يقول سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.

لابد أن نعيش في رمضان بروحانياتٍ راقيةٍ تفوح بعبق الإيمان والبُعد عن الإسفاف، نملأ ليالينا بالمُفيد من عبادةٍ وذكرٍ وقراءة قرآن.

 

أحبتي.. ونحن على أعتاب شهر رمضان الفضيل علينا أن نستقبله بكل احترامٍ وتوقيرٍ، ونجعله شهر عباداتٍ وذكرٍ لله سُبحانه وتعالى، لا شهر مُجونٍ وإسفافٍ وابتذالٍ. إنه يأتي مرةً واحدةً في السنة يحمل معه من البركات والخيرات والفيوضات ما لا يوجد في غيره؛ فلتكن نصيحة كلٍ منا لغيره: (لا تُضيِّع صيامك) ولا تُضيّع على نفسك ثواب هذه الأيام الفضيلة، ولنتدبر الدعاء الذي دعا به جبريل عليه السلام، وأمَّن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين صعِد المنبرَ، فقال: [آمين، آمين، آمين]، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: [أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ...]. إن خير ما نتواصى به في رمضان هو تقوى الله تعالى؛ فهي الثمرة المرجوة من وراء الصوم لا تتحقق إلا بفعل المأمورات، وترك المنهيات، فلنحرص في هذه الأيام المُباركة على الإكثار من كل طاعةٍ تُقربنا إلى الله تعالى، صلاةً وصياماً وقياماً وقراءةً للقرآن، وصدقةً وإنفاقاً ومساعدةً للمُحتاجين. كما أن علينا أن نتجنب كل ما يُغضب الله تعالى من الأقوال والأفعال، لاسيما الغيبة والنميمة، ومُشاهدة ما حرَّم الله من صور النساء والأفلام والمُسلسلات المُشتملة على السُفور والاختلاط؛ فالصوم الحقيقي صوم الجوارح عما حرَّم الله. إن مُتابعة المُسلسلات ذنبٌ، والمجاهرة بمُتابعتها ذنبٌ آخر، أما الترويج لها وحث الناس على مُتابعتها فهو ذنبٌ أكبر. لقد بات الأمر مرهوناً بإرادتنا، والأذكياء فقط هُم من يختارون ما يُفيدهم ولا يضرهم، هُم الذين يستثمرون كل دقيقةٍ في هذا الشهر الفضيل في الطاعة والعبادة، وزيادة رصيدهم من الحسنات.

اللهم تقبل منا صيامنا وصلاتنا وقيامنا وسائر أعمالنا، وثقِّل بها موازيننا، وضاعف لنا أجورنا؛ فأنت سُبحانك أكرم الأكرمين.

 

https://bit.ly/3EWn7sF

الجمعة، 21 فبراير 2025

تارك الصلاة

 

خاطرة الجمعة /487

الجمعة 21 فبراير 2025م

(تارك الصلاة)

 

يقول صاحب القصة: منذ ٣٥ سنةً، وفي أول حياتي العملية، ذهبتُ لإجراء مُقابلةٍ في «السفارة الكويتية» في «القاهرة» للعمل مُعلماً للغة العربية بدولة «الكويت»، أدخلوني إلى صالةٍ كبيرةٍ مليئةٍ بمئات المُتقدمين لشغل هذه الوظيفة في انتظار المثول أمام اللجنة. فجأةً؛ أُذن لصلاة الظهر ونحن ننتظر دورنا؛ فخرج رئيس اللجنة إلى صالة الانتظار، وأُقيمت الصلاة جماعةً فصلى إماماً في بهو الصالة بمُعظم الحاضرين، بينما وقف البعض في شُرفةٍ كبيرةٍ في آخر الصالة دون أن يُصلوا، وظل آخرون جالسين على كراسيهم يقرأون الصحف. انتهت الصلاة وكانت المفاجأة؛ استدار الإمام -رئيس اللجنة - وقال بالحرف الواحد: "كل الجالسين والواقفين في الشُرفة يتفضلوا يروحوا على بيوتهم ولن يدخلوا المقابلة"، ثم أمر المأمومين خلفه الذين صلوا معه أن يُسَلِّموا جوازات سفرهم للسكرتارية لتوقيع العقود واستلام تذاكر الطيران تمهيداً لسفرهم بعد أُسبوع، وبدون عمل مقابلةٍ، ثم قال مُوجهاً كلامه للجميع: "كيف آمن على الناشئة والتلاميذ من أستاذٍ لا يُصلي ولا يحرص على الصلاة؟". انتهى الموقف وسط ذهول الجميع وخيبة أمل الذين لم يُصلوا -وكنتُ منهم- وساقونا إلى خارج السفارة زُمُراً كأعجاز نخلٍ خاويةٍ! ورغم حُزني ساعتها إلا أنني فرحتُ ولم أغضب؛ أن كانت الصلاة هي المُقابلة، وقُلتُ لزملائي الذين نجحوا في هذا الاختبار: "أنجتكم صلاتكم".

 

أحبتي في الله.. هذه القصة تُبين جانباً محدوداً -لكنه مؤثرٌ- مما يضيع من فرصٍ على (تارك الصلاة)، وهي في هذه القصة، كانت فرصة عملٍ يحلم بها جميع المتقدمين، صارت درساً لمن حضر هذا الموقف، وربما كانت سبباً في انتباه المُقصرين في أداء الصلاة على وقتها ليتداركوا أنفسهم. لكن آخرين -في مواقف أُخرى- لا تتوفر لهم فرصة إصلاح أمورهم والعودة إلى الطريق القويم، ومن ذلك القصة التالية التي يرويها أحدهم؛ كتب يقول:

 

كنتُ تاركاً للصلاة.. نصحني أبي وأُمي وإخوتي وأخواتي، لكني لم أكن أعبأ بنصيحة أيٍ منهم.. إلى أنرنّ هاتفي ذات يومٍ فإذا بشيخٍ كبيرٍ -لا أعرف من هو- يسألني وهو يبكي: "«أحمد»؟"، قُلتُ: "نعم!"، قال: "أحسن الله عزاءك في «سالم»؛ وجدناه ميتاً على فراشه صباح اليوم"، صرختُ: "«سالم»؟! لا يُمكن؛ لقد كان معي البارحة!"، بكى الشيخ وقال: "سنُصلي عليه في الجامع الكبير بعد صلاة الظهر". أغلقتُ الهاتف وبكيتُ، وسألتُ نفسي: "كيف يموت «سالم» وهو شابٌ؟"، أحسستُ أن الموت يسخر من سؤالي. دخلتُ المسجد باكياً.. لأول مرةٍ أُصَّلي على ميتٍ، بحثتُ عن «سالم» فإذا هو ملفوفٌ بقطعة قماشٍ.. موضوعٌ على الأرض أمام الصفوف.. لا يتحرك.. صرختُ لما رأيته.. أخذ الناس بالمسجد يتلفتون وينظرون إليّ.. غطيتُ وجهي بغُترتي وخفضتُ رأسي.. حاولتُ أن أتجلد لأبدو متماسكاً.. جرّني أبي إلى جانبه وهمس في أذني: "صلِّ قبل أن يُصلَى عليك"! فكأنما أطلق أبي ناراً لا كلاماً.. أخذتُ أنتفض وأنظر إلى «سالم».. ثم سألتُ نفسي: "لو قام من الموت.. تُرى ماذا سيتمنى؟ سيجارةً؟ صديقةً؟ سفراً؟ أغنيةً؟"، تخيلتُ نفسي مكانه، وتذكرتُ الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾. صلينا صلاة الجنازة، ثم انصرفنا إلى المقبرة.. أنزلنا «سالم» في قبره.. أخذتُ أُفكر: "إذا سُئل عن عمله ماذا سيقول؟ عشرون أغنيةً! وستون فيلماً! وآلاف السجائر!"، بكيتُ كثيراً.. لا صلاةً تشفع.. ولا عملاً ينفع.. لم أستطع أن أتحرك.. انتظرني أبي كثيراً.. فتركتُ «سالم» في قبره ومضيتُ أمشي، وهو يسمع قرع نعالي.

ومن القصص بالغة القِصَر عن ترك الصلاة: سألوه: "كيف انتظمتَ في الصلاة؟"؛ فقال: "سمعتُ شيخاً يقول يا (تارك الصلاة) مُصيبتك أعظم من مُصيبة إبليس؛ لأن إبليس رفض أن يسجد لآدم، وأنت ترفض أن تسجد لرب آدم! فما الذي بينك وبين الله حتى تكره لقاءه؟ صلِ قبل أن يُصلى عليك، ما نحن إلا جنائز مؤجلةٌ فاستقم ولا تتبع الهوى".

 

 أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالصلاة في العديد من آيات القرآن الكريم؛ ومنها: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾، و﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾. وتوعد سُبحانه من يتكاسل عن الصلاة بالويل؛ يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾. وترك الصلاة سببٌ في دخول جهنم؛ يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِيسَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾. وعمّن يُضيعون الصلاة يقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ فاتحاً برحمته باب التوبة والعودة إلى الإيمان والعمل الصالح أمام هؤلاء.

 

وقد اتفق الفُقهاء على أنّ مَن ترك الصلاة جُحوداً بها، وإنكاراً لها، فهو كافرٌ، خارجٌ عن الملة بالإجماع؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: [بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلاةِ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ]، ويقول أيضاً: [إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ]. أما من ترك الصلاة مع إيمانه بها، واعتقاده بفرضيتها، ولكنه تركها تكاسلاً، أو تشاغلاً عنها، فهو في خطرٍ عظيمٍ.

 

يقول العلماء إن من أعظم البلايا التي تُصيب المرء أن يُملي له الشيطانُ أن يستمر على المعاصي والشهوات التي تهواها النفس فلا يردها ولا يمنعها، ويُملي له أن يترك الأعمال التي أوجبها الله عليه فيستجيب ولا يؤديها! يُسوّل له الشيطان أنه ما دام يقول: "لا إله إلا الله" فهو على خيرٍ، فليس يضر معقول هذه الكلمات أي ذنبٍ؛ فيكون بهذا من أعظم الخاسرين؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾. غفل المسكين عن أن الإسلام ليس كلماتٍ يُرددها المرء بلسانه دون أن يُصدقها بعمله وجوارحه وبعبادته لله جلَّ وعلا. إنه لمن المُضحك المُبكي أن كثيراً من الناس يظن أن الإسلام صِفةٌ يرثها من أبويه فقط؛ فهو مُسلمٌ وإن لم يُصلِ ولم يصم ولم يعمل أي عملٍ تعبديٍ يُخلص به التوجه نحو ربه عزَّ وجلَّ، وإلا فما معنى أن يكون المرء مُسلماً ثم هو لا يستسلم لربه بالخضوع والإنابة والعبادة؟!

 

يقول أحد الشيوخ: كل أولئك الذين لا يُصَلُّون لم يعرفوا للحياة طعماً، لم يعرفوا لاضطراب قلوبهم دواءً، يُكابرون بادعائهم السعادة! كل النجاحات التي جنوها ما هي إلا نجاحاتٌ دُنيويةٌ واهيةٌ، لا تُحقق شيئاً من السعادة؛ فأي سعادةٍ تلك التي يشعر شخصٌ لم يتصل بخالقه ولم يُبح له عمّا في قلبه أو يودعه أُمنياته في سجوده؟! أي سعادةٍ تلك التي سيمتلكها شخصٌ ليس بينه وبين شهواته رادع؟! عن أي سكينةٍ يتحدث وكل تلك النجاحات ما هي إلا كلوحةٍ آسرةٍ لمن ينظر إليها من بعيدٍ، ولا يُدرك ما وراءها من مآسٍ يعلمها بالتأكيد (تارك الصلاة) إذا ما اختلى بنفسه علم أنه مقبوض القلب كئيبٌ، ناجحٌ في الدنيا، خاسرٌ في الآخرة؟

 

وَجَّه أحد الكُتّاب إلى (تارك الصلاة) السؤال التالي: لماذا تترك صلاتك؟ هل من أجل المال؟ والمال رزقٌ من الله يستوجب شكره بالصلاة، واستخدمه في عبادة الله بالطيب من النفقات والزكاة والحج والعُمرة والصدقات، ولا تجعله غايتك ومقصدك في هذه الحياة. أَم لأجل تلفازٍ تود مشاهدة الأفلام والمُسلسلات؟ وهي مُضيعةٌ للوقت، لاهيةٌ لك عن عبادتك من غير فائدةٍ تُذكر.  أَم لأجل نومٍ؟ وما أطول نومك وغفلتك عن قيام الليل والتهجد وصلاة الفجر. ألا تخاف من الله؟ ألا تخشى الموت؟ ألم تعلم بأن من العقوبات التي تلحق (تارك الصلاة) سوء الخاتمة، والمعيشة الضنك؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾؟ ألم تسمع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [أولُ ما يُحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه]؟ ماذا يكون جوابك لربك حين يسألك عن الصلاة؟ لماذا تترك صلاتك؟ أتظن السعادة هي في الراحة الموهومة التي تظن أنك ستحصل عليها؟ وهَبْ أنك حصلتَ عليها؛ فإلى متى ستدوم؟ سبعين سنة؟ ثمانين أو تسعين سنة؟ أفتحرص على سعادةٍ موهومةٍ لمدةٍ محدودةٍ، تورثك يوم القيامة شقاءً حقيقياً قد تخلد فيه أبداً؟! أيحرص عاقلٌ على صفقةٍ هذا مآلها؟!

 

وعن (تارك الصلاة) قال الشاعر:

ناداكَ رَبُكَ لِلِقاءِ بِخَمْسَة ٍ

وَتَقولُ يا رَبِ لَسْتُ بآت ِ

أَكَثيرٌ عَلَىَ مَنْ خَلَقَ الوَرَى دَقائِقٌ

وَعَلَىَ حَبيبَكَ تَهْدِرُ الأَوْقات ِ

أَوَلا تَخافُ مِنَ المَنيةِ بَغْتَة ً

وَتَخافُ أنْ تأخُذَكَ في لَحَظات ِ

فاخْتَر طَريقَكَ في الحَياة فإنِما

أعْمارُنا ساعاتٌ في ساعات ِ

وَاسْمَع نَصيحَةَ مُشْفِق ٍ تَنْجُ بِها

مِنْ بَيْن أَهْوال ٍوَمِنْ كُرُبات ِ

ارْجَع لِرَبِكَ تَرْتَضيهِ تَذَلُلاً

وَابكِ بُحوراً مِنَ العَبَرات ِ

وَاللهَ أسْألَ أنْ يُذيقَكَ لَذْة ً

وَسَكينَة ً تأتيكَ في السَجَدات ِ

فاغْفِر إلَهي ذَنْبَ كُلِ مُقَصِر ٍ

وَارْزُقْنا جِبالاً مِنَ الحَسَناتِ

 

أحبتي.. أختم بنصيحة مُسلمٍ كان قد ترك الصلاة، ثم هداه الله فتاب توبةً نصوحاً كتب بعدها يقول:

الصلاة هي عمود الدِين؛ لا قيام للدِين من دونها؛ إن أقمناها بحقٍ أقمنا ديننا وحفظناه، وإن ضيعناها كُنا لما سواها من الفرائض أضيع؛ فلننتبه لذلك ونتدارك أنفسنا قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه ندمٌ، ونحن اليوم في فسحةٍ من العُمر والصحة، وفرصة الإنابة مُتاحةٌ لنا، فإن اغتنمناها سَعِدنا وفُزنا في الآخرة أعظم الفوز، وإن ضيّعناها فإن هذا هو الخُسران المُبين في الدارين؛ في الدنيا تكون حياة الضنك والنكد وضيق الصدر، وفي الآخرة تكون الحسرة والندامة، على ما فرَّطنا في حق أنفسنا وفي حق ربنا.. هذه فرصتنا اليوم لنُراجع أنفسنا ونستدرك ونتوب ونؤوب قبل فوات الأوان وحصول الندم؛ فهيا قُم يا (تارك الصلاة) فتوضأ وتطَّهر للصلاة، واسجد لله عزَّ وجلَّ بخضوعٍ وتذللٍ وانكسارٍ، وقُل بعزيمةٍ صادقةٍ لا تعرف التردد أو الضعف: "ها أنا ذا يا ربِ قد عدتُ إليك فاقبلني، ها أنا ذا قد عدتُ إليك فاغفر لي، ها أنا ذا قد عدتُ إليك فتُب عليّ وثبتني"، وستجد الله سُبحانه وتعالى غفوراً رحيماً؛ يغفر الذنب، ويقبل التوب، يُبدل سيئات التائب الصادق في توبته إلى حسناتٍ، واعداً إياه بالجنة وعظيم الدرجات في الآخرة، وواهباً له رضى النفس وانشراح الصدر في حياته الدنيا.

نسأل الله الهداية والثبات قبل الممات.

الجمعة، 14 فبراير 2025

شر الغفلة

 

خاطرة الجمعة /486

الجمعة 14 فبراير 2025م

(شر الغفلة)

            

سَمِعَت الأُم اضطراباً في بطنها، تلاه ضربٌ مؤلمٌ.. ذهبت إلى الطبيب فزَّف لها البُشرى بأنها حاملٌ في ولدٍ، لم تسع الأرضُ الأُمَ من الفرح، سجدت لله شاكرةً، حمدته بلسانها وجوارحها، رفعت يديها إليه؛ ناجته قائلةً: "اللهم لك الحمد والشكر، اللهم اجعله قرة عينٍ لي ولأبيه". بدأ الجنين بالمعافسة في بطن أُمه.. يتحرك هنا وهناك بكل فرحٍ وحُبورٍ لأنه خارجٌ إلى حياةٍ رحبةٍ، ظاناً أن الدنيا مع سعتها أسعدُ من بطن الأُم مع ضيقه! أما أُمه؛ فعَينها امتزجت بدمع الألم والأمل، والفرح والحُزن، والدمع الحار والبارد.. ألم الحمل وأمل الذرية، فرح الأولاد وحُزن الولادة، دمعها الحار خوفاً عليه من مس السوء، ودمعها البارد لأنه خُيل إليها نجاحه فلا تراه إلا رجلاً يُضرَب به المثل، سنداً للظهر، وعصىً يُتوكأ عليها. جاء اليوم المشهود، وفرِح الوالدُ بالمولود، وخرج الطفل يتنسم عبير الدنيا ويأخذ نفساً عميقاً يَروِي عظمَه الطرِيَّ الغَضَّ.

شبَّ قرنُ الطفل، وبدا مسيرُ الطريق مُخالفاً لما عوّلت عليه أُمه، حلمت أن يُصبح رجلاً صالحاً فأمسى طالحاً، يرى نورَ الطريق فيحيد عنه، وظُلمةَ الشِّعب فيأوي إليه. صار الشاب صاحب العضلات المفتولة والنظارة السوداء، يركب رأسَه ويُخالف الناس، ويمشي مع هواه، يسمع نداء الأذان فلا يُلبي، ويرى الناس تؤم بيت الله وهو صادٍ عنه، أعجبته نفسه، وغرَّته الأماني، وظن أن سعادته فيما يفعل.. ضيَّع نفسه ووقته، وبينما هو يمشي في حَمأة اللهو أصابته حُمَّى شديدةٌ فطرحته للفراش صريعاً، ذهب إلى الطبيب فحذّره وأنذره من اتخاذ الخليلات وشُرب المُسكرات، وليته سمع فوعى؛ فمع كرِّ الليالي وفرِّها، وإقبال الأيام وإدبارها، حان موعد الرحيل، اعترى الشاب ضعفٌ في جسده، تنمّلت أطرافه، خارت قواه، نادى: "أُمّاه أُمّاه".. لبّت النداءَ أُمه تهرول وتقول: "ولدي حبيبي؛ هل أصابك من ضرر؟" ضمته إلى صدرها، نضحت وجهَه بالماء، إلا أن ابنها كان يُصارع شيئاً لا يُشبه المرض، كان بصره شاخصاً إلى السماء؛ كأنه يرتقب ضيفاً مُفزعاً، وبعد شدة هَوْلٍ جاءه الضيف، جاءه ما كان يفر منه، جاءه الموت؛ نزع منه الروح نزعاً شديداً غليظاً كأنه اقتلع جسده كله، وهو يُصارخ ويضطرب، ولا منجى من الموت، قد حان ما كان يحذره. أراد الكلام لكن لم يستطع، كان يُريد القول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ذهب مَلَك الموت وترك جسد الشاب المُسجى جثةً هامدةً ساكنةً لا حِراك فيها. كان الشاب تاركاً للصلاة، مُجانباً للطاعات، بعيداً عن أعمال الخير؛ فتحرج أهله من الصلاة عليه، ولم يجدوا بُداً من أن يُلقوه في المقبرة رمياً، كأنه متاعٌ قد استُغني عنه، حملوه على أكتافهم، وهو يسمع قرع نعالهم.

يقول راوي القصة: كأني بهذا الشاب يُنادي فيقول: "أين تذهبون؟ أنا ابنكم وقريبكم، دعوني أُصلي لله ركعاتٍ لعله يغفر لي خطيئتي؛ لقد ضربتُ فلاناً، وشتمتُ فلاناً، وأخطأتُ في حق فلانٍ، أُريد المغفرة منهم"، لكن لا يسمع نداءَه إلا ربُه. اقترب من الحُفرة التي ستكون له مأوىً ومصيراً، رأى سورَ المقبرة كأنه قيدٌ في العُنق يقطع الوريد ويشد الوثاق! رأى المقابر كأنها غابةٌ موحشةٌ لا يأنس بها أحد، كل شيءٍ فيها ذابلٌ حتى النبات، والشجر. كل شيءٍ تبدَّل؛ فقد كان له اسمٌ، أما الآن فهُم يقولون أين "الميت؟"، ويقولون: "ضَعُوا الجنازة". يا الله! ما أكثر ما خُدِع ببريق الدنيا، ثم لم تُمهله حتى رُمِي في حومة الردى.. أنزلوا رأسه أولاً إلى هذه الحفرة الضيقة. يقول الراوي: كأني به يرى ظلاماً عميقاً وقَعراً مُخيفاً فأراد أن يُمسك بيد من يدفنه ليقول: "ناشدتك الله إلا تركتني.. دعني وشأني"، لكن الموت لا يُفيد معه توسلٌ ولا رجاء! استقر الشاب في ظُلمة القبر وأُهيل التراب عليه، ثم وضعوا لبِنةً عليه، ثم أهالوا التراب مرةً أخرى، وما إن فرغوا من توسيده التراب حتى ضربوا أيديهم كفاً على كفٍ يُنفضون الغبار، ثم تفرقوا إلا هو بقي وحيداً، لا يملك من أمر نفسه شيئاً؛ فوقه ترابٌ، وتحته ترابٌ، وعن يمينه ترابٌ، وعن شِماله ترابٌ، فراشه ولِحافه التراب. أين فراشه الناعم؟ أين الديباج والحرير؟ أين الهناء ورغد العيش؟ أين الطعام والشراب؟ أين فلانٌ وفلانةٌ في كل ليلةٍ كان له معهم صولاتٌ وجولاتٌ، يقطعون الوقت بالحديث الماتع، والغناء الماجن، والكلام المؤنس، أين هُم الآن؟ لماذا تخَّلوا عنه وتركوه وحيداً في وقت احتياجه لهم؟!

يقول الراوي: حينذاك يتحقق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [تُعادُ روحُهُ في جسدِهِ، ويأتيهِ ملَكانِ فيُجلسانِهِ فيقولانِ له: مَن ربُّك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما دِينُك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري. قال: فيقولان له: ما هذا الرَّجلُ الَّذي بُعِث فيكم؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أن كَذِب فأفرِشوه من النَّارِ، وافتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيأتيه من حَرِّها وسَمومِها، ويُضيَّقُ عليه قبرُه حتَّى تختلِفَ فيه أضلاعُه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثِّيابِ مُنتِنُ الرِّيحِ فيقولُ: أبشِرْ بالَّذي يسوءُك، هذا يومُك الَّذي كنتَ تُوعدُ؛ فيقولُ: من أنتَ فوجهُك الوجهُ القبيحُ يجيءُ بالشَّرِّ؟ فيقولُ: أنا عملُك الخبيثُ، فيقولُ: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ].

 

أحبتي في الله.. إنه والعياذ بالله التعلق بالدنيا، والانشغال بها، وعدم الاهتمام بالآخرة التي إليها معادنا. هو (شر الغفلة) الذي لو استمر مع الإنسان حتى الموت، حينئذٍ يكون الخُسران المُبين، في وقتٍ لا ينفع معه ندمٌ، ولا تُفيد فيه حسرةٌ؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ويقول المُفسرون لهاتين الآيتين: يُخبر الله سُبحانه وتعالى عن حال من حضره الموت من المُفرِّطين، أنه يندم في تلك الحال؛ إذ يرى مآله، ويُشاهد قُبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ليعمل عملاً صالحاً؛ يقول: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيكون الرد حاسماً: ﴿كَلَّا﴾ أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها -أي: إلى الدنيا- لا يرجعون، و﴿إِنَّهَا﴾ أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا ﴿كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ أي: مُجرد قولٍ باللسان، لا يُفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادقٍ في ذلك، فإنه لو رُدَّ إلى الدنيا لعاد لما نُهي عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: مِن أمامهم وبين أيديهم حاجزٌ بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المُطيعون، أما العاصون الغافلون فيُعذَبون من موتهم إلى يوم يُبعثون وهذا هو (شر الغفلة).

وفي معنى هذه الآية وردت آياتٌ كثيرةٌ، منها قوله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾.

 

ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرٍ دُفن حديثاً، فقال: [رَكْعتانِ خَفيفتانِ بِما تَحقِرُونَ وتَنفِلُونَ يَزيدُهما هذا في عملِهِ أحَبُّ إليه من بقيَّةِ دُنياكُمْ]. يقول شُرَّاح الأحاديث: عندما يموت الإنسان يُدرك قيمة الأشياء على حقيقتها، فيُدرك أن الأعمال الصالحة التي تزيد ثوابه خيرٌ له من متاع الدنيا كله. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ركعتان خفيفتان"، يعني: قليلتان في القراءة والأذكار، "مما تحقرون"، أي: تستقلون أجرهما، "وتنفلون"، أي: تُصلونهما تطوعاً لله، "يزيدهما هذا في عمله" وكأنه يُشير إلى قبرٍ قد دُفن حديثاً، والمُراد به: الميت الذي في القبر، "أحب إليه"، وهذا يحتمل أن يكون المعنى: أن أجر الركعتين أحب إلى الميت من الدنيا، ويحتمل أن الضمير لله تعالى، وأنه يُحب ما يأتيه العبد من الطاعات، وأنه أفضل لديه من إنفاق الدنيا، "من بقية دنياكم"، يعني: مما بقي في عمرها؛ وذلك لأن قيمة الركعتين في الآخرة، خيرٌ من التمتع بمُتع الدنيا كلها، وأحب إلى الله من المعاصي. وفي الحديث بيان قيمة الطاعات وإن قَلَّت في الدنيا، وعِظَم أجرها في الآخرة.

 

أحبتي.. هلّا أفاق من غيبوبته من كان منا غافلاً عن حقيقة أن الحياة الدنيا مزرعةٌ للآخرة؟ وأنه إذا حرص على أن تكون الجنة هي ثمرة عمله في الدنيا؛ فعليه أن يهتم بزراعة دنياه بالإيمان الصادق، والعمل الصالح؟ ولا يكون ذلك إلا بالتمسك بكتاب الله وسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، فَهْماً وتدبراً وعملاً، هذا هو طريق الجنة؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ؛ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ]، والله الذي لا إله إلا هو إن رسولنا لصادقٌ، وإن الدين لواقعٌ، وإن الرجوع إلى الله ليقينٌ، وإن الحساب لقائمٌ، وإن المآل إما إلى جنةٍ أو إلى نارٍ؛ ولنا الخيار؛ يقول تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾؛ فليكن خيارنا كلنا جميعاً الجنة؛ فنُقدِّم لها كل [ما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ ] ولنجتهد ولا تفتر عزائمنا؛ فالجنة والخلود فيها هدفنا ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

اللهم قِنا (شر الغفلة)، وحَبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وخُذ بيدنا إلى سواء السبيل، سبيل الحق واليقين، وإذا ضَعُفْنا فَرُدَّنا إليك رداً جميلاً، واغفر لنا وارحمنا وأنتَ خير الراحمين.

https://bit.ly/3X3VVOO

الجمعة، 7 فبراير 2025

لا تفريط ولا إفراط

 

خاطرة الجمعة /485

الجمعة 7 فبراير 2025م

(لا تفريط ولا إفراط)

     

حدث إعصارٌ في «ليبيا» قبل نحو سنتين، كان كارثةً وصفتها إحدى الصحف بأنها حوّلت «درنة» من مدينةٍ تغسل قدميها في «البحر الأبيض المتوسط»، إلى عالَمٍ من الجثث والرُكام والثكل العابر للشوارع والبيوت، وصار يوم حدوث ذلك الإعصار يؤرخ للموج الغاضب، ولقنبلة الماء التي حوّلت المدينة الشاطئية إلى بحرٍ من الآلام غرقت فيه الشوارع والمنازل؛ إذ أن عماراتٍ كاملةً ألقى بها الفيضان في مياه البحر، وطغى ماء السدود والفيضانات على البنايات العالية، والتقى مع مياه الأمطار وأمواج البحر على أمرٍ قد قُدِر، ولم يكن من جاريةٍ ولا ذات ألواحٍ ودُسر لإنقاذ الغارقين. كانت أصوات الفيضانات مُخيفةً جداً، يشقها صوت الصُراخ، وخصوصاً أصوات النساء اللواتي تقاذفهن الموج مع أطفالهن وأُسرهن كما يطفو الزبد فوق الموج الهادر. جَرَف الماء كل ما في طريقه، وارتقى إلى المنازل الشاهقة، بعد أن ارتفعت أمواج البحر إلى أكثر من ثلاثين متراً، وقضت على أحياء وعائلاتٍ، قبل أن تعود القهقرى، تاركةً علامات الموت في طُرقات «درنة» الدامية، فضلاً عن مئات السيارات التي تحولت إلى قبورٍ مُغلقةٍ على أصحابها، بسبب محاولات أعدادٍ هائلةٍ من الأُسر الفرار في سياراتهم خلال اللحظات الأولى للكارثة، مما أربك حركة المرور، وقلَّل فرص النجاة، حيث شاءت الأقدار أن تجرفهم السيول جميعهم وهُم في سياراتهم نحو حوض الميناء البحري، وإلى أعماق المياه. حوالي ٨% من سكان المدينة باتوا في عِداد الموتى والمفقودين، أما النازحون من المنازل المهدمة فقد فاقوا أربعين ألف شخصٍ، يُعبِّر كل واحدٍ منهم عن قصةٍ من الرُعب والحُزن واليُتم والثكل؛ فَيَدُ الموج الغاضب ضربت بعنفٍ كل بيتٍ بالمدينة، ومزقت جدار كل صبرٍ منيع.

وهذه قصَّةٌ روتها واحدةٌ من الفتيات الناجيات من الإعصار، أنقلها باختصارٍ، كتبت تقول:

في ذلك اليوم استيقظتُ فجراً كما أُحب دائماً، صليتُ وقرأتُ أذكاري ووِردي، إلى أن حان موعد صلاة الضُحى فقمتُ وصليتُ. ومضى يومنا جميلاً هادئاً حتى وقت الغروب؛ حين لاحظتُ -بعد أن صليتُ- أن السماء بدأت تُمطر بغزارةٍ، وهذا أمرٌ غير مُعتادٍ في هذا الوقت من السنة. انتابني شعورٌ بأن ثمة شيءٍ غريبٍ سيحدث! صليتُ العشاء وقلتُ في نفسي أنام ثم استيقظ الرابعة فجراً لقيام الليل. قرأتُ أذكاري ونمتُ ساعتين، وصوت المطر يعلو، والرياح أصبحت شديدةً جداً لدرجةٍ لا توصف! الرعد والبرق في تزايد؛ استيقظتُ بقلبٍ يرتجف، قلتُ: "يا ويح نفسي؛ أأنام وآيات الله أراها عياناً حولي؟!". توضأتُ وقضيتُ ساعةً بين صلاةٍ واستغفارٍ وتلاوةٍ للقرآن. أصوات الرياح تزداد؛ تحولت من رياحٍ عادِيّةٍ إلى رياحٍ عاتيةٍ شديدة الهبوب، ثم بدأ الماء يدخل إلى المنزل بالتدريج. خرج أخي ليطمئن على سيارته أنها لم تغرق؛ فهي أغلى ما يملك! أُمي تطمئن على أن السِجاد لم يتبلل! أُختي رأت أن تذهب لتنام في الطابق السُفلي بعيداً عن ضجيج العائلة وصوت المطر! أما أنا فبقيتُ جالسةً على سجادة الصلاة أبكي وأتضرع: "إن كان بلاءً فيا ربِ خفِّف، وإن كان مُجرد مطرٍ فيا ربِ أنزل السكينة والطُمأنينة على قلبي"؛ فقد كنتُ أُعاني حينها من ضربات قلبٍ شديدةٍ زادت تخوفي! خرجتُ من غُرفتي فرأيتُ أخي يُريد النزول ليطمئن على سيارته وعندما فتح باب المنزل كانت الصدمة؛ الماء يتدفق بغزارةٍ داخل المنزل، وأُختي نائمةٌ في الطابق السُفلي؛ فنزل أخي مُسرعاً ليوقظها، وصرخات أُمي تُنادي عليها! سمِعت أُختي صراخنا فأرادت الخروج من باب الشقة السفلية وإذا بباب المنزل ينقلع من مكانه ويأتينا سيلٌ من الماء، من رحمة ربي أن انقلاع الباب لم يأتِ بصورةٍ مُستقيمةٍ وإلا ماتت أُختي حينها، أرسل أخي يده فتشبثت أُختي بها بسرعةٍ، وفي لمح البصر وصل الماء إلى الطابق الثاني! ذهبنا مُسرعين إلى الطابق الثالث، ثم خرجنا إلى سطح المنزل! الماء يعلو، والأمطار تتزايد. صعِدنا لأعلى قُبةٍ في المنزل بجوار خزان الماء. السماء فوقنا مُباشرةً، وسيول الماء تعلو تحتنا، ويعلو صراخنا: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، الرجال كالنساء؛ الكل يبكي وبشدةٍ، فالموت أمامنا لا محالة! حينها كنتُ أتذكر أعمالي، وبماذا سألاقي ربي؟ ماذا أعددتُ لهذه اللحظة؟ هل ربي راضٍ عنّي؟ ماذا عن حجابي؟ هل كان كما يُحبّ الله؟ لم أمنح في حياتي للقرآن وقت اًكثيراً؛ هل سأموت شهيدةً ويتقبلني ربي من الشُهداء؟ وقفزت إلى ذهني الآيات التي تحكي قصة طوفان نوح عليه السلام. ومَن كان منزله مِن طابقٍ واحدٍ انجرف تحت السيل العارم وكان من المُغرقين! رأيتُ الأهوال كأنها أهوال يوم القيامة، وفي تلك الساعة أصبح الجميع يلهج بالشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". الجميع يستغفر ويتوب من شدة ما رأى. لم اهتم بأبي ولا أُمي ولا أخوتي، فنفسي وحدها كانت شُغلي الشاغل! وتذكرتُ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ وصدق الله العظيم؛ فقد كان لي شأنٌ يُغنيني، فإما جنةٌ أو نارٌ! ثلاث ساعاتٍ قضيناها تحت هذا الرُعب، يعجز اللسان عن وصف ما فيها من خوفٍ ورجاء، وكلنا بين ساجدٍ ومُتضرعٍ يناجي ربه، وأصبحت أصواتنا تعلو نُنادي: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، فما رفعتُ رأسي من السجود إلا وسمعتُ جارنا الذي يعلونا بطابقٍ يقول: "منسوب المياه قلّ"؛ فحمدنا الله وشكرناه، وسألناه أن يُسخِّر لنا من يأتي لإنقاذنا. كبَّر المؤذن لصلاة الفجر، صلينا الفجر على سطح المنزل تحت المطر الخفيف. بكيتُ كثيراً لأنها كانت أول مرةٍ أصعد فيها إلى سطح المنزل المكشوف دون خِمار! دعوتُ ربي بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يسترني دُنيا وآخرة، وأن يرفع عنا البلاء، وأن يغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، وأن يشملنا بعفوه ورضاه؛ وأن يُحسن خاتمتنا، ويتقبل منا أعمالنا الصالحة، ويغفر لنا زلاتنا. ناجيتُه بكل عملٍ صالحٍ قدمتُه، وتذكرتُ ذنوبي فاستحييتُ منها ومسني الخجل، فسألته المغفرة وأن يُعاملنا بما هو أهلٌ له، ولا يُعاملنا بما نحن أهلٌ له. كان لديّ يقينٌ تامٌ أن الله سُبحانه وتعالى مُنجينا، وأنّ خلف هذا البلاء حكمةً ربانيةً عظيمةً! لكني كنتُ خائفةً من نفسي التي بين جنبيّ أكثر من أي شيءٍ آخر؛ خفتُ أن أكون ممن يذكر الله خالصاً وقت الشدة وينساه وقت الرخاء؛ فيا ويحَ نفسي إن هي عادت للتقصير في حق الله! أتممنا صلاة الفجر وانتظرنا الشروق.. توقف المطر، ومنسوب المياه قلَّ، وتوقفت الرياح، وأنا أُردد: "اللهم برداً وسلاماً، اللهم شمساً مُشرقةً". وفعلاً أشرقت الأرض بنور ربها؛ وسُجّل ذلك اليوم على أنه يومٌ لا يُنسى، ولم يُرَ مثيلاً له من قرونٍ عدة! نزلنا من القبة العالية بجوار خزان المياه إلى سطح المنزل فنظرتُ إلى شارعنا ورأيتُ الدمار؛ وكأن آية ربّي في قوم عادٍ تحققت فينا: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾، فلم أرَ حينها سوى بعض المساكن، ولم يسلم بيتٌ واحدٌ من الغرق والخراب. ذهبت سيارة أخي الفاخرة فوق الشجرة، وسيارات الجيران كل واحدةٍ في مكان، والأرض مليئةٌ بجثث الموتى، حتى أن الطابق الأول من منزلنا وجدنا فيه جثتين لفتاتين شابتين! كل البيوت تهدمت، كل المُمتلكات ضاعت! والسعيد الوحيد هو ذاك الذي رأى نفسه وأهله جنبه ولم يغرق أحدٌ منهم! ذهب التعلق بالدنيا وذهب حُبها من قلبي! المدينة تهدمت، الأحياء القريبة من الوادي الذي انفجر تهدمت بالكامل واستوت مع الأرض! كل شيءٍ تحول لونه بنياً كلون الطين! خرجنا هاربين من منازلنا خوفاً من انهيارها فوق رؤوسنا، لم اهتم بملابسي ومُقتنياتي ولا بجوالي الذي كان يُرافقني أينما كنت! المهم عندي كان نقابي ولباسي الشرعي؛ أُريد الستر لا أكثر. سِرنا حُفاةً نُصارع الأرض المُبللة والطين.. مررنا بجانب بيت جارنا الذي مات كل أفراد أُسرته بالكامل. دموعٌ تُذرف وقلوبٌ ترتجف، والحال لا يوصف! ودَّعنا كل شيءٍ، ودَّعنا الأحياء والأموات، ودَّعنا الذكريات؛ ودَّعتُ غُرفتي ونافذتها التي تُطل على ما كانت نباتاتٍ خضراء! ودَّعتُ كُتبي وأقلامي وذكريات الطفولة، ودَّعتُ سَكَني ومسكني وملاذي الآمن، ودَّعتُ سجّادة صلاتي ومُصحفي! لم يتبقَ لي شيءٌ، إلا العمل الصالح وأهلي!

 

الآن انتهت الحكاية، وأُسْدِل الستار على المدينة والحيّ الذي كنتُ أسكن فيه! ورحم الله تعالى الأموات، وربط على قلوب ذويهم، والحمد لله رب العالمين، اللهم أجرنا في مصيبتنا هذه، واخلف لنا خيراً منها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

أحبتي في الله.. القصة مليئةٌ بالدروس والعِبر، لكن أكثر ما لفت انتباهي قول الراوية: "ذهب التعلق بالدنيا وذهب حُبها من قلبي"، وأثار هذا القول فكرة الاعتدال، والوسطية، والموازنة بين الدنيا والآخرة، وتذكرتُ العبارة المشهورة (لا تفريط ولا إفراط)، كما تذكرت قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، وقوله سُبحانه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. تذكرتُ أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ]. وهذه جميعها نصوصٌ توضح وبجلاء أن ديننا الحنيف لا يدعو المؤمن إلى ترك الدنيا بالكُلية وراء ظهره ويتفرغ لأعمال الآخرة، كما أنه لا يُجيز أبداً إهمال ما يُفيد المُسلم في آخرته الأبدية واهتمامه فقط بأمور دنياه الزائلة، بل ومع فكرة الموازنة بين الدنيا والآخرة، ومقولة (لا تفريط ولا إفراط) فإن المُفلحين والفائزين هُم مَن يُقدِّمون حرث الآخرة على حرث الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]. ونهياً عن التعلق بحُب الدنيا ونسيان الآخرة؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

 

يرى أهل العلم أن على المسلم أن يأخذ بالأسباب ويبذل الوِسعَ في تحصيل الرزق الحلال، ويُعمِّر الأرض بما يُرضي الله جلَّ وعلا، يستمتع بدنياه استمتاعاً لا يضر بدينه ولا بآخرته بغير تفريطٍ ولا إفراط؛ ومَنْ جعَل همَّه الأكبر الآخرة والعمل لها كفاه اللهُ هَمَّ دنياه، ومن استولت عليه الدنيا واستولت على قلبه وجعلها همَّه عاش عبداً أسيراً لها مُشتتَ البالِ، لا يقنع بقليلٍ ولا يسعد بكثير؛ فالإسلام يمزُج في تعاليمه بين دعوته إلى تحقيق مصالح الدين وتحقيق مصالح الدنيا، ويجعل هاتين المصلحتين مُتلازمتين لزوم الروح للجسد، غير أنه وضع ضوابط لطلب الدنيا، تتلخص هذه الضوابط في طلبها لغاياتٍ ساميةٍ نبيلةٍ، منها: أن يصون الإنسان نفسه عن الحاجة، وينأى بنفسه عن المسألة، ويوفر لعياله ما يحتاجون إليه، ويتوفر عنده ما يُمكِّنه مِن مَدِّ يد العون والمُساعدة إلى مَن كان في حاجةٍ إلى معونته ومُساعدته، وأن يكون طلبها من طريقٍ حلالٍ مشروعٍ، وألا يكون للتفاخر والتكاثر فحسب، فإن توافرت تلك الضوابط كان طلب الدنيا حينئذٍ عبادةً يُثاب عليها المرء أحسن مثوبةً عند الله عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي.. المُتبصِّر في حال البعض اليوم يجد منهم تفريطاً في أعمال الآخرة، وإفراطاً شديداً في حب الدنيا والانشغال بها، هواهُم في نَيْلِها، وغايةُ مُناهم في السعي لها، فلا هَمَّ عندهم إلا هذه الدنيا، لكن العاقل هو مَن كان شعاره (لا تفريط ولا إفراط)؛ فيتخذ مِن حياته مزرعةً لآخرته، لا يُغلِّب عليها دنيا، ولا يُقدِّم عليها شهوةً ولا هوى؛ مُتدبراً قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾، مُنتبهاً إلى ما ينفعه في آخرته وإلى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]؛ فلا يكون مُفرِّطاً تُلهه دنياه عن آخرته، ولا يكون مُهملاً شئون دنياه إهمالاً تاماً فيكون قد خالف شريعة ربه وسُنة نبيه. إن ديننا دين الوسطية والاعتدال، ونهجنا هو (لا تفريط ولا إفراط).

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

https://bit.ly/4hJsvxd

الجمعة، 31 يناير 2025

فضل الصلاة على النبي

 خاطرة الجمعة /484

الجمعة 31 يناير 2025م

(فضل الصلاة على النبي)

 

عند خروجهما من المسجد بعد صلاة الفجر ألقى على جاره السلام فلم يرد عليه؛ فاستغرب وقال فينفسه: "لماذا لم يرد عليّ السلام رغم قوة العلاقة بيننا؟"،  لكنه استدرك حين رأى وجه جاره يشي بأنه مهمومٌ مشغول البال، وسرحان؛ فاقترب منه وسأله: "خير إن شاء الله؛ ما الأمر؟!"، فقال: "صاحب العمارة طلب مني أن أُغادر الشقة لعدم دفعي للإيجار، وأنا والله لا أملك المال"، فقال له جاره: "سأسعى لتدبر الأمر إن شاء الله". يقول هذا الجار: قبل صلاة العصر بخمس دقائق جاءني هاجسٌ بأن أذهب للصلاة في مسجد "عُكاشة بن محصن"، وهو يقع في حارةٍ ليست ببعيدةٍ عنا، ولا أدري لماذا جاءني هذا الهاجس! صلينا وبعد أن انتهينا من صلاتنا، وهممنا بالخروج إذا بصديقٍ لي لم أره منذ مُدةٍ طويلةٍ فسلمتُ عليه، أخبرني بأنه يسكن في مكانٍ بعيدٍ، لكنه كان مدعواً على طعام الغداء عند قريبٍ له يسكن في هذه المنطقة فقرر أن يُصلي في هذا المسجد! وخلال الحوار بينهما إذا بذاك الصديق الذي التقاه بغير ترتيبٍ يسأل صاحبنا -ودون أية مناسبة-: "هل تعرف أسرةً فقيرةً لا تجد مأوىً لها؟"، فقال صاحبنا: "ولماذا تسأل؟!"، فقال: "أنا مسؤولٌ عن وقفٍ صغيرٍ نذره صاحبه لله تعالى، وفيه عشرون شقةً، بالأمس خرج أحد الساكنين بسبب تحسن ظروفه المادية؛ فقرر أن يُتيح المكان لمن هو أَحْوَج منه"، فصرخ صديقنا: "عندي عندي عندي.. أعطني رقم هاتفك، وإياك ثم إياك أن تتصرف به"، فقال الصديق: "لا عليك.. اعتبره تحت تصرفك.. وعموماً.. من ستأتي به لن يدفع مليماً واحداً وإلى الأبد؛ لأنه وقفٌ لله".

 يقول صديقنا: "خلال عودتي لحارتنا مُتجهاً لأُبشِّر جاري، بدأتُ أُفكر في سيْر الأحداث العجيبة؛ بدايةً من لقائي معه بعد صلاة الفجر ثم معرفتي بحالته عندما سألته عن حاله.. وكيف أنني توجهتُ لأداء صلاة العصر في مسجدٍ لم أُصَلِ فيه في حياتي، في حارةٍ لم أزرها منذ سنين لألتقي قدراً بصديقٍ لم أره منذ عشر سنواتٍ -بل ولا حتى أحتفظ برقم هاتفه- ليُخبرني أن لديه شقةً مُتاحةً لأسرةٍ فقيرةٍ؛ إذاً لابد وأن صاحبنا له كرامةٌ عند ربه أو خبيئةٌ كبيرةٌ أو أنه عمل عملاً عظيماً فرَّج الله به كربته.

عندما وصل صاحبنا إلى حارته انطلق نحو بيت جاره الفقير فبشره؛ وإذا به يبكي من شدة الفرح.. بل إنه جلس على الأرض إذ لم تحمله قدماه؛ فسأله صاحبنا: "ما الذي فعلتَه منذ أن تركتُك بعد صلاة الفجر حتى الآن؟!"، فقال الجار الفقير: "واللهِ لم أفعل شيئاً.. ولكن عند عودتي من صلاة الفجر رأتني زوجتي مهموماً؛ فاقترحت عليّ أن نعكف سوياً على الصلاة على النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، ودون توقفٍ حتى غياب الشمس على نية أن يُفرِّج الله سُبحانه وتعالى علينا.. وها أنتَ الآن تأتيني بالخبر السعيد، وصدقني لم نفعل شيئاً غير الصلاة على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم".

يقول راوي القصة: القصة حقيقيةٌ، وقد وقفتُ عليها بنفسي وأعرف أطرافها معرفةً جيدةً. إنه (فضل الصلاة على النبي) وتاللهِ يا قوم؛ ما ذلَّ ولا زلَّ ولا قلَّ مَن على محمدٍ صلَّى.

 

أحبتي في الله.. أمَر الله سُبحانه في كتابه العزيز عباده المؤمنين بالصلاة على نبيه وصفوته من خلقه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال جلَّ ثناؤه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره. ويقول تعالى: ﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، ومعنى توقير النبي تشريفه وتكريمه وتعظيمه، والصلاة عليه من أعظم أنواع التوقير والتشريف له.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِم أنْفُ رجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علَيَّ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [البخيلُ مَن ذُكرت عِندَه فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِن أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيهِ السَّلَامَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ وَكَّل بقَبْري مَلَكًا أعطاه أسماعَ الخلائقِ فلا يُصَلِّي عليَّ أحَدٌ إلى يومِ القيامةِ إلَّا أبلَغَني باسمِه واسمِ أبيه؛ هذا فلانُ بنُ فلانٍ قد صلَّى عليك]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أَكثِروا الصَّلاةَ عليَّ يومَ الجمعةِ وليلةَ الجمعةِ فمن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليْهِ عشرًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً]. وقال صلى الله عليه وسلم: [صلُّوا عليَّ وسَلِّمُوا، فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حيثُمَّا كنتُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن ذُكرتُ عِندَه فَنَسِيَ الصَّلاةَ عليَّ؛ خَطِىءَ طَريقَ الجنَّةِ].

 

يقول العُلماء إن (فضل الصلاة على النبي) صلى الله عليه وسلم كبيرٌ وواسعٌ وشاملٌ، يتضمن طاعةً لله وامتثالاً لأمره؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، فينال المسلم أجر وثواب طاعة الله سبحانه، ويقتدي به في الصلاة على النبي، كما أن في الصلاة على النبي تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، وتكميلاً للإيمان، وزيادةً في الحسنات، وتكفيراً للسيئات. والصلاة على النبي من أعظم أنواع الذِكر والعبادة لله، ولو لم يكن للذِكر إلا هذا الفضل لكفى به شرفاً. والصلاة على النبي سببٌ في استجابة الدُعاء ومغفرة الذنوب والتخلُص من الهُموم؛ فقد قال أحد الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أَجْعَلُ ثُلُثَ صَلاتِي عليكَ؟ قال: [نَعَمْ إنْ شِئْتَ]، قال: الثُّلُثَيْنِ؟ قال: [نَعَمْ]، قال: فَصَلاتِي كلَّها؟ قال رسولُ اللهِ: [إذا يَكْفيكَ اللهُ ما أَهَمَّكَ من أَمْرِ دُنْياكَ وآخِرَتِكَ] في هذا الحديث سأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقدار الذي يأمره به للصلاة عليه في دعائه: هل يجعل ثلث دعائه أو ثلثيه؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الزيادة في الصلاة عليه خيرٌ لهو أفضل، حتى قال الرجل: "فصلاتي كلها؟"، أي: أصرف دعائي لك بالصلاة من الله جميع الزمن الذي كنتُ أدعو فيه لنفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا يكفيك الله ما أهمك، من أمر دنياك وآخرتك"، أي: إذا صرفتَ جميع زمن دعائك في الصلاة عليّ كُفيت ما يهمك من أمر دينك ودنياك؛ ويُنجز لك كل أمورك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملةٌ على ذِكر الله، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتغال المرء بأداء حق النبي صلى الله عليه وسلم عن أداء مقاصد نفسه.

 

والصلاة على النبي علامةٌ من علامات الإيمان؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ]، والمحبّة المُطلقة للنبي تكون باتّباع بكل ما أمر به، والابتعاد عن كُلّ ما نهى عنه. وقد بينت العديد من الأحاديث عِظم الصلاة على النبي؛ ومنها ما يحفّز المُسلم على الإكثار من الصلاة على النبي، ويكون سبباً في صلاة الله على من يُصلّي على النبي ورفع الدرجات في الجنة يوم القيامة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللَّهُ عليهِ عشرَ صلواتٍ، وحُطَّت عنهُ عَشرُ خطيئاتٍ، ورُفِعَت لَهُ عشرُ درجاتٍ]، فالسعيد من لازم الصلاة على النبي. والصلاة على النبي بمثابة رد الجميل له، وحقٌ من حقوقه على أمّته مُقابل الخير العظيم الذي قدّمه لهم، وسببٌ من أسباب إجابة الدعاء عند ختمه بالصلاة على النبي. كما أنه سببٌ في نيل شفاعة النبي يوم القيامة، وتُزكّي النفس وتُطهّرها، وينال المصلي على النبي البركة في عمله، والرحمة من الله، وتنفي الحسرة والندامة عن المجلس الذي يُصلَى فيه على النبي.

 

وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ في (فضل الصلاة على النبي)؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [صَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عليه بها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فمَن سَأَلَ لي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفاعَةُ]. ويقول: [جاءني جبريلُ فقالَ: أما يُرضيكَ يا محمَّدُ أن لاَ يُصلِّي عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ صلَّيتُ عليْهِ عشرًا، ولاَ يُسلِّمَ عليْكَ أحدٌ من أمَّتِكَ إلاَّ سلَّمتُ عليْهِ عشرًا].

 

والصلاة على النبي ينبغي قولها قبل الدعاء وبعد حمد الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إذا صلَّى أحدُكُم فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ علَيهِ، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ثمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ]، بمعنى: إذا أراد أحدكم أنْ يَدْعُوَ، فلْيَبدَأْ دُعاءَه بتَمْجيدِ ربه أي: بتعظيمِ ربِّهِ جَلَّ وعَزَّ والثَّناءِ عليه بما هو أَهْلُه، ثُمَّ يُصلِّي على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يَدْعو بَعْدُ، أي: بَعْدَ ذلك بما شاء مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ.

 

وأكمل الصيغ للصلاة على النبي هي ما أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ].

 

وفي إشارةٍ إلى (فضل الصلاة على النبي) يقول الشاعر:

يا مَنْ شَكَوَتَ تَعاسَةً وهُموما

ورَجَوْتَ مِنْ بَعْدِ الشَقاءِ نَعيما

اللهُ يَكْفي هَمَّ مَنْ صَلوا عَلَى

طِبِّ القُلوبِ وسَلَّموا تَسْليما

وقال غيره:

صَلّوا عَلَى المَبْعُوثِ فينا رَحْمَةً

تُكْتَبْ لَكُمْ عَشْراً لَدى الرَحْمَن

صلَّىَ عَلَيْكَ اللهُ يا خَيْرَ الوَرى

ما ضَجَّت الآفاقُ بالأَذان

وقال ثالثٌ:

يا شاكيًا ضيقَ الحَياةِ وهَمَّها

هَلْ تَرْتجي لِلْهَمِّ أنْ يَتَبَدَّدا

إنَّ الدَواءَ بِكَلِمَةٍ لَوْ قُلْتَها

لَمَا استَطاعَ الهَمُّ أنْ يَتَمَرَدا

اجْعَل لِسانَك دائمًا يَشْدو بِها

وهيَ الصَلاةُ عَلَى النَبيِّ مُحَمْدًا

 

أحبتي.. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل هي عبادةٌ تُصلِح القلب، وتُعلي المنزلة، وتُوثق الصلة بالحبيب المصطفى، وهي من أعظم العبادات وأجلِّ القُربات فهي تجمع بين طاعة الله تعالى وحُبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم. فلنجعل ألسنتنا رطبةً دائماً بالصلاة والسلام على نبينا الكريم خاصةً عند ذِكره صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة وليلتها، وعند كل دعاء، وفي بداية مجالسنا وختامها.

اللهم تقبل منا، وثقِّل بصلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم موازين حسناتنا.

 

https://bit.ly/3Eiy0V7

الجمعة، 24 يناير 2025

بلغوا عني ولو آية

 

خاطرة الجمعة /483

الجمعة 24 يناير 2025م

(بلغوا عني ولو آية)

       

يقول أحد الأخوة: منذ فترةٍ طويلةٍ كنتُ أُصلي إماماً بالناس في صلاة العشاء، وبعد ما انتهيتُ من الصلاة جاء رجلٌ لا أظن أن عُمره يقل عن سبعين عاماً، أتذكر شكله جيداً، لحيته بيضاء، ظهره فيه انحناءٌ خفيفٌ، يلبس طاقيةً على رأسه، ملابسه عاديةٌ، ويستند على عكازٍ، قال لي: "أود أن أتكلم كلمتين يا بُني؟"، قلتُ له: "تفضل يا والدي"، فأمسك بالميكروفون ووجهه للناس، وبدأ يشرح سورة الإخلاص شرحاً لم أسمعه من قبلُ في حياتي كلها؛ تكلم فيه عن: أنواع التوحيد، الربوبية، الأُلوهية، الأسماء والصفات، تكلم فيها عن عظمة الله، تكلم فيها عن إفك النصارى أن لله الولد، تكلم عن الفارق بين التوحيد عند المُسلمين والتثليث عند النصارى، وتكلم عن فضل سورة الإخلاص. صوت هذا الرجل الشيخ الكبير كان صوتاً مُتهالكاً ضعيفاً يكاد لا يُسمع، إلا أن أسلوبه جعل الناس يستمعون إليه بإنصاتٍ، لم يقم منهم واحدٌ، ولم يتحرك منهم أحدٌ؛ لجمال أسلوبه.

‏‏ يقول الأخ: مرّت على هذه الحادثة حوالي 17 سنةً تقريباً، وفي إحدى الليالي، بعد صلاة العشاء، جاء نفس الرجل على نفس الهيئة، إلا أن تقدمه في العُمر جعله أكثر وهناً، وبدلاً من استناده على عكازٍ، كان يستند على أحد أولاده، جاءني بعد الصلاة وطلب الكلمة؛ فأعطيته الميكروفون؛ فقال نفس ما قاله منذ 17 سنةً بالضبط وبالحرف الواحد في تفسير سورة الإخلاص! انتهى الرجل من كلمته، ثم صلّينا السُنّة، وبعد أن انتهينا قلتُ لولده باستغرابٍ شديدٍ: "الحاج من 17 سنةً تقريباً كان عندنا هنا في نفس المسجد، وقال نفس الكلام الذي قاله اليوم بالضبط، أليس عنده كلامٌ غير تفسير سورة الإخلاص؟"، قال لي: "نعم، والدي له أكثر من خمسين سنةً يدعو إلى الله بتفسير سورة الإخلاص فقط لا غير!"، قلتُ له: "معقول؟!"، قال: "نعم والله"؛ فدمعت عيناي وتذكرتُ حينها قصة الرجل الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي بالناس دائماً بسورة الإخلاص، فلما رفعوا أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: "هي صفة الرحمن وأُحب أن أقرأ بها"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [حُبُّكَ إيَّاها أدْخَلَكَ الجَنَّةَ]. ومن حوالي شهرٍ تقريباً، التقيتُ ابن هذا الرجل وأخبرني أن أباه مات في إحدى المستشفيات، وقال لي: "لما كان على فراش الموت وحوله الأطباء، قال لهم: ألا أقول لكم شيئاً؟ فقالوا له: قُل يا والدي!! فأخذ يشرح لهم سورة الإخلاص، وما إن انتهى منها حتى فاضت روحه ومات".

يقول راوي القصة: وقتها تذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ ماتَ على شيءٍ بَعثَهُ اللهُ عليْهِ]. مات الرجل ولم أعرف اسمه، ولا يعرفه الكثيرون، مجهولٌ لدينا، لكنه معروفٌ في السماء عند الله سبحانه وتعالى؛ لذلك حسنت خاتمته؛ عاش على مبدأ (بلغوا عني ولو آية) ومات على التوحيد، فاللهمّ نسألك الإخلاص وحُسن الخاتمة.

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بمثيلةٍ لها، تكاد تتطابق معها؛ يقول الراوي: في إحدى القُرى، وفي بيتٍ من بيوت الله، بعد أن أُديتُ فريضةً من فرائض الله، قام أحد الدُعاة يُحدِّث المُصلين عن فضل ذِكر الله، لم يزلْ الشيخ مُتنقلاً بين آيات الكتاب الكريم وأحاديث السُنة المُطهرة وأحوال السلف الصالح لترغيب عباد الله في ذِكر الله، والناس يُنصتون إليه في لهفةٍ وشوقٍ، كان ممن يجلس بين المصلين رجلٌ كبيرٌ في السن، أُميٌ لا يقرأ ولا يكتب، أقبل بوجهه وقلبه على كلام الشيخ، حتى بلغ الشيخ ما جاء عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]، ما إن سمع هذا الحديث حتى حفظه عن ظهر قلبٍ، ووقع في نفسه أيما موقعٍ حتى استقر في قلبه، وأحب أن يكون ممن استجابوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية). خرج من المسجد وهو يُردد هذه الكلمات المُباركات، ولم يزل كذلك حتى وصل بيته فنظر في حال أهله فوجد أنهم في إقبالٍ على الدنيا وإدبارٍ عن الآخرة، فنادى في أهله: "إني لكم ناصحٌ أمينٌ، أنتم ها هنا في لهوٍ ولعبٍ وكأنكم لم تسمعوا بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟، فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم أردف قائلاً: "يا زوجتي ويا أبنائي ويا بناتي؛ أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان، طهروا قلوبكم وثقِّلوا موازينكم بهاتين الكلمتين [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]"؛ فاستجاب أهله لندائه، ورطبتْ ألسنتهم بذِكر الله. كان الرجل يخرج بعد صلاة العصر فيغشى الناس في أسواقهم ومجالسهم، نظر إلى أحوال قومه فوجد أنهم في شُغلٍ عن ذِكر الله فنادى فيهم: "يا قومي؛ هل أدلكم على ما ينفعكم؟"، قالوا: "نعم"، فساق لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل في قومه مُلِحّاً عليهم، داعياً إياهم إلى ترطيب ألسنتهم وتطهير قلوبهم بذِكر الله عزَّ وجلَّ؛ فاستجاب له قومه وأهله. عاش الرجل مُستمسكا بهذا الذِّكر، لم يكدْ لسانه يفتر عنه، لم يكن يقابل أحداً إلا أقرأه حديث النبي الكريم، ودعاه إلى ذِكْرِ الله؛ لقد امتلأ قلبه بنور هذا الذِّكر، وفاض هذا الحب على اللسان، أراد هذا الرجل لكل من عرفه أن يشعر باللذة التي شعر بها، وأراد للناس أن يأنسوا بذِكر الله كما أنِس، وتطمئن قلوبهم كما اطمأن قلبه. ومضت بِضع سنين والرجل على حاله، لا يُغيِّر ولا يُبدِّل، حتى إذا داهمه المرض وأُدخل المُستشفى لم يعد يقدر على شيءٍ، غير أن لسانه لم يزل مُتلذذاً بالكلمات المُباركات [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]؛ كان يدخل عليه الأطباء وفريق التمريض من العرب والعجم فيُنادي فيهم ويُرغبهم في الذِّكر الذي اجتمع حبه في قلبه، حتى إذا جاءت اللحظات الأخيرة، والطبيب عند رأسه، وكان الطبيب على دين النصارى؛ فناداه الرجل: "يا دكتور"، قال الطبيب: "نعم يا عم"، قال الرجل: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]، ثم فاضت روحه إلى بارئها، عندها ذُهل الطبيب ورقَّ قلبه؛ لقد شاهد في حياته العملية حالات احتضارٍ كثيرةٍ، غير أن هذا المرة لم تكن كسابقاتها، لقد مات الرجل المُسن وهو يتحدث بكل ثقةٍ وثباتٍ وهدوءٍ، لم يتردد الطبيب كثيراً فما هي إلا أيامٌ حتى أخذ قراره الحكيم؛ فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. 

تأملوا: سمع هذا الرجل بحديثٍ واحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعاه وبلغه كل من رأته عيناه! تأملوا: كيف ترجم قول النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية) فصلُحت حياته بحديثٍ واحدٍ وحسُنت خاتمته بحديثٍ واحدٍ، وصدق رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال: [لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَن هو أوْعَى له منه].

 

هاتان القصتان تُظهران لنا كيف أن كلمةً واحدةً، أو آيةً واحدةً، يمكن أن تكون سبباً في تغيير حياة إنسان، وأن تُحدث تأثيراً كبيراً في حياة الأشخاص؛ لم يكن هذان الرجلان عالِميْن أو من الدُعاة المشهورين، لكنهما فَهِما أن عليهما واجب التبليغ، ولو بكلماتٍ قليلةٍ، ففعلا ما استطاعا.

 

يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وهذا استفهامٌ تقريريٌّ؛ أي: لا أحد أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى مُنكِراً ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ. ويقول سُبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾.

ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، كما يقول: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة]، قال شُرّاح الأحاديث إن الشريعة المُطهرة حثت على تبليغ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كلٌ بحسب استطاعته وعِلمه، بشرط تحري الصحة والصدق فيما يُبلَّغ عن الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمقصود هو: أخبروا الناس وعلموهم بكل ما جاء عني وبلغتكم به، من قرآنٍ أو سُنةٍ، واقتُصر هنا على الآية؛ ليُسارع كل سامعٍ إلى تبليغ ما وقع له من الآيات والعِلم، ولو كان قليلاً، ولو كان آيةً واحدةً؛ بشرط أن يُبلغ الآية صحيحةً على وجهها. وقوله: [آيَةً] يشمل القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح؛ لأن الحديث في حُكم الآية القرآنية من حيث إنه وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾؛ فالمسلم مطالَبٌ بتبليغ ما وصل إليه من القُرآن والأحاديث النبوية إلى غيره ممن لم يبلغه، ولو كانت آيةً قصيرةً من القُرآن. وقال بعض أهل العلم: قال: [وَلَوْ آيَةً]، ولم يقل: ولو حديثاً؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية، فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلَتِها، وتَكَفُّل الله سُبحانه بحفظها، وصوْنها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديث الذي لا شيء فيه مما ذُكر أَوْلى. 

 

قال العُلماء إنه في عصرنا الحالي، حيث التواصل بين الناس أصبح أسهل من أي وقتٍ مضى، يمُكننا جميعاً أن نكون مثل هذين الرجلين؛ ننقل الخير ولو بتفسير آيةٍ واحدةٍ أو سورةٍ قصيرةٍ أو حديثٍ نبويٍ صحيحٍ، سواءً عبر الكلام المباشر، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى بسلوكنا وتعاملنا مع الآخرين؛ فقد تكون كلمة خيرٍ نقولها، أو موقفٌ إيجابيٌ نفعله، سبباً في هداية شخصٍ، وهذا هو جوهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة]، إن تبليغ رسالة الإسلام وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ إيجابيٌ على الأفراد والمجتمع ككل. إنها دعوةٌ لنشر الخير والسلام، والتأكيد على أهمية تبليغ رسالة الله، حتى ولو كان ذلك بآيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ نبويٍ شريفٍ واحد.

 

كما قال العُلماء؛ فإن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور، يُمْكِننا مُمارستها في كل أحوالنا؛ فإنها لا تشترط أن يقوم بها المختصون أو مَن وظيفتُهم الدعوة؛ بل يُمكن أن يقوم بها كل مُسلمٍ حتى لو قام بنشر آيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ أو ذِكرٍ، فإنه يؤجر على ذلك. ومن الحكمة اتباع أفضل وأسهل الطُرق للوصول إلى الناس، وليس هناك أفضل ولا أسهل من مواقع التواصل الاجتماعي للاستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)، وللوصول إلى البشر حول العالم دون عناءٍ؛ حيث إن شبكة الإنترنت قد صارت من ضروريات الحياة للكثير من الناس في هذا العصر، وصار الإنسان أسيراً لها، فعلى كل مُسلمٍ مُخلصٍ أن يُسخِّر ذلك في تبليغ دعوة ربِّه ونشر دين الله بين سائر البشر. إن استثمار وسائل التواصل الاجتماعي في الدعوة إلى الله تعالى صار ضرورةً؛ حيث يسعى أصحاب الهوى والضلال للسيطرة عليها بكل جِدٍّ، وجعلها مُستنقعاً للشر وكل الموبقات من القاذورات الفكرية والنفسية، ولا يسع الدُعاة والصالحين اعتزال هذه الوسائل؛ دفعاً للباطل ورحمةً بأبناء المسلمين الذين سيتأثرون حتماً بالباطل إن لم يجدوا فيها من ينشر الخير؛ فيجب على الدُعاة استثمار هذه الوسائل واستخدامها في نشر الدعوة إلى الله، وعدم تركها لأهل الباطل يتحكَّمُون فيها، ويُدمِّرون العالم بنشر الشر والفساد، وهذه مسؤولية الأمة، ومسؤولية كل مُسلمٍ يستطيع الإسهام في نشر الخير ولو بتبليغ آية.

وإن مجال الدعوة عبر وسائل التواصل مفتوحٌ لكل مُخلصٍ يُريد أن يقوم بالدعوة إلى الله، مهما كان علمه، كثيراً أو قليلاً؛ فإن في الدعوة إلى الله: تذكيرٌ ووعظٌ للغافلين، وتعليمٌ للجاهلين، وأمرٌ بالمعروف، وحقٌ على الطاعات، ونشرٌ للفضائل ومكارم الأخلاق، ونهيٌ عن المنكر، وزجرٌ عما نهى الله عنه، ودعوةٌ لغير المسلمين إلى الإسلام. 

 

أحبتي.. السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا فعلنا عندما وصلتنا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)؟ ماذا قدمنا للدعوة في سبيل الله؟ هل استخدمنا وسائل التواصل الاجتماعي في سبيل الدعوة إلى الله؟ إن كُنا قد فعلنا؛ فنحن ممن وصفهم الله سُبحانه وتعالى بالمُفلحين. وإن كُنا قد قصَّرنا؛ فما تزال أمامنا فرصةٌ لتدارك ما فرَّطنا فيه، ولنبدأ بالتخلية قبل التحلية؛ فنترك كل ما لا لزوم لنشره من أفلامٍ وأغانٍ وصورٍ، وكلامٍ فاحشٍ أو بذيء، ونربأ بأنفسنا أن ننسب إلى الله عزَّ وجلَّ أو إلى نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ما هو باطلٌ أو موضوع، وأن لا ننشر ما فيه ظلمٌ للغير أو افتراءٌ عليهم، وأن نتثبت ونتأكد من صحة ما نود نشره قبل النشر. ثم تبدأ مرحلة التحلية بنشر كل ما هو صحيحٌ مفيدٌ، وأن نحرص على أخذ العلم من مصادره الموثوقة قبل أن ننقله للآخرين. 

وفقنا الله جميعاً لخدمة دينه، وعباده، وسهَّل لنا سُبل تعلم العلم الشرعي وتعليمه. اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا علماً تنفعنا به.

https://bit.ly/3CoKVnY