الجمعة، 11 أكتوبر 2024

إنها الأُم

 

خاطرة الجمعة /468

الجمعة 11 أكتوبر 2024م

(إنها الأُم)

 

يقول صاحب القصة: عن أُمي أتحدث، أبي لم يكن يُحبُها، ليست هذه هي المشكلة، المشكلة تكمن في أنه كان حريصاً على نقل ذلك الشعور لها! أتَذَّكّر في طفولتي أنه كان يُقارن بينها وبين نجمات الإعلانات ويسخر منها، كانت أُمي تبكي لكنها ما أبكتني أبداً، بل كلما كان أبي يُحزنها كانت تضمّني إلى صدرها. طالما حكت لي أن أُمها ماتت وهي صغيرةٌ، وأنها رُبيت مع زوجة أبيها. وكانت تحكي لي القصص، وكنتُ أستمتع كثيراً بحكاياتها. أما أبي فقد كان عصبياً للغاية، وكان يُعاير أُمي دوماً بأن ليس لها مكانٌ تلجأ إليه؛ لأن أباها وزوجته لن يفتحا بابهما لها، فكانت تبكي ولا ترد. كان أبي مُدخناً شرهاً، وأُمي أخبرتني أن السجائر مُضّرةٌ، بل وحرامٌ؛ فالمدخن يدفع نقوداً ليؤذي نفسه ويُضيّع صحته، وأن عليَّ أن أدعو لأبي أن يتوقف عنها. لم يكن أبي يُصلي، بينما كانت أُمي تُصّلي، وتقول لي: "أُدعُ لأبيك". وأخبرتني أُمي أن الله غفورٌ رحيمٌ، ويُسامح المخطئ؛ فأحببتُ الله.

كانت أُمي تقول لي دوماً إننّي كاتم أسرارها. سألتها يوماً: "لماذا لا تضربيني؟"، اغرورقت عيناها بالدمع وقالت لي: "أضربك؟! أضرب الإنسان الوحيد الذي لو دعا لي بعد أن أموت يرفع ربنا درجاتي؟!"، لم أفهم يومها ما تعنيه، لكني فرحتُ، شَعَرتُ أن العلاقة بيني وبين أُمي قويةٌ؛ كانت تُربيني للآخرة؛ طالما حدثتني عنها.. كنتُ أقول لها: "لكن صاحبي فلان لا يُصّلي وناجحٌ في حياته!"، فكانت تقول: "الدنيا للكل، لكن الآخرة هي فقط لمن يتقي الله؛ يقول سُبحانه وتعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾". كانت تُذَكّرني يوم الجُمعة بقراءة سورة الكهف، وبالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.. وكانت تنتظرني عند باب المسجد منذ كان عمري سبع أعوامٍ، وتقول لي ونحن عائدان من صلاة الجمعة: "لا تنساني عندما أموت، وأنتَ راجعٌ من الصلاة تدعي لي حتى تُخبرني الملائكة بذلك"... كان إيمانها بالله عظيماً.

‏سمعتُ أبي يوماً يصيح: "سأتزوج"، ردت أُمي في أسىً: "اِفعل ما يُريحك"، وفعلاً تزوج أبي إنسانةً عجيبةً! وأصبحنا لا نراه ولا يُنفق علينا؛ فبدأت أُمي تصنع التورتات وتقوم ببيعها للمعارف... بكيتُ وقلتُ لها: "لا تفعلي ذلك"، قالت في إصرار: "الحلال ليس عيباً". لم تقل يوماً: "أنا أتعب من أجلك". بدأ مشروعها يزدهر، وكنتُ أُساعدها أحياناً، لم تمن عليَّ يوماً بتعبها بل كانت دائماً مبتسمةً راضيةً! طَلَّق أبي زوجته، وعاد ليفضحنا ويتشاجر مع الزبائن؛ فكانت أُمي تبكي وتعتذر لهم.. مكث أبي معنا شهراً ثم تزوج بأخرى! طلبتُ من أُمي وأنا في الإعدادية أن تُفارق أبي، طبطبت عليّ قائلةً: "آسفةٌ أني وضعتك في هذا الموقف؛ كنتُ أتمنى لك أن تنشأ بين أبوين مُستقرّين"، قلتُ بحرارةٍ: "هذا ليس ذنبك، أنا أعرف ذلك"، قالت لي: "نصبر سنةً أخرى، عسى الله يهديه".

كنتُ مُجتهداً وأُصّلي، وأُمي تدعو لي، لم أترك الصلاة يوماً؛ لأنها قالت لي: "إنها روح المؤمن"... وفي الوقت الذي كانت أمي تُحَسِّن فيه مِن دَخْلها، كان أبي -سامحه الله- يتهجم عليها ويطلب نقوداً، ورغم ذلك، أذكر أنها كانت تقول لي: "لا تقاطع أباك... الأب أبٌ، أُدعُ له. ولو كثرت همومك عليك بالصلاة؛ إنها الحبل بينك وبين ربك". لا أنسى أبداً كلماتها. كانت تُضاعف مجهودها من أجل تدبير مصاريف دراستي، ولم أخذلها؛ حصلتُ على مجموع 97٪؜ في الثانوية العامة، رأيتُ يومها الفرحة تقفز في ملامحها، ورأيتها تسجد لله شاكرةً... وتصدَّقَت بهذه المناسبة. التحقتُ بكلية طب الأسنان، اصطحبتني أول يومٍ وتركتني عند باب الكلية... لم تُلاحظ أنني تأملتها عبر السور... كانت مبتسمةً فرحةً وقد تعلق بصرها على لوحة الكلية "كلية طب الفم والأسنان". أقسمتُ ألا أخذلها أبداً، عدتُ من الكلية لأجد أُمي ليست بالمنزل، شعرتُ بالقلق، ثم عادت مُرهقةً بعد قليلٍ، علمتُ أنها تقيأت دماً وذهبت للكشف عند الطبيب. ثم جرت الأحداث بسرعةٍ؛ تدهور حال الكبد، احتضنتني كما عودتني وقالت: "لا تنسَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إن المبطون شهيدٌ، وأرجو أن أكون كذلك"، حضنتُها وحضنتني وقالت: "الموت علينا حقٌ، والرسول صلى الله عليه وسلم مات، هذا مصير كل بَني آدم"، انفجرتُ باكياً قائلاً: "ليس لي غيرك"، قالت: "لك الله، إياك أن تخسر إيمانك".

قَلّ عملها بسبب مرضها ونفقاته، ورغم حزني فقد كنتُ أُساعدها؛ حيث بدأتُ أُطبّق ما تعلمته منها، وأصنع التورتات، وهي تدعو لي، وتُحذرني من إهمال الدراسة... لكنّ الله وفقني؛ فجمعتُ بين عملي ودراستي وأكملت. لم أُحرج وأنا بكليتي من العمل؛ فقد كنتُ أتذكر كلماتها عن العمل الحلال، وكنتُ أدعو لها ألا تموت... وكنتُ أجلس لآكل معها من طعامها الخالي من الملح والدسم؛ فتُرَبتُ على كتفي بحنان. في عامي الثاني بالكلية، وفي ليلةٍ من ليالي رمضان ماتت أُمي، دخلتُ لأوقظها ساعة المغرب فوجدتها قد ماتت... احتضنتها وسالت دموعي، ماذا أفعل وليس لي أحدٌ، وعمري 19 عاماً؟ تذكرتُ الله وتمتمتُ: "انجدني يا رب، أعلم أنك معي دائماً ولن تتركني وحدي". أتت جارتنا وزوجها وأبناؤها،

ساعدني الجميع، وصلّى على أُمي كثيرون في المسجد الذي كانت تُرافقني فيه لصلاة الجمعة وأنا طفل. لم يتركني جيراني؛ فرغم أننا لم نكن على علاقةٍ قويةٍ معهم- كانوا يومياً يطرقون بابي، ويرسلون لي الإفطار. مكثتُ شهراً لا أهنأ بنومٍ، ثم تذكرتُ كلماتها لي: "أنتَ عملي الممتد" فأقسمتُ بالله أن أَصْدُق ظن أُمي فيّ ولا أخذلها. ما عاد أحدٌ يحتضنني، لكني سأحتضن الأيتام والمساكين والمحتاجين. استمررتُ في صناعة التورتات، ونجحتُ دراسياً... وأصبح لي مشروعٌ، ومشروعي يزدهر، وسميته باسم أُمي.

أكتب الآن، بعد مرور عدة سنواتٍ، وتخرجي من كلية طب الأسنان، وفتح عيادتي الخاصة، وزواجي بزوجةٍ طيبةٍ مُتدينة. تحسّنَت أحوالي وأصبح لديّ -إلى جانب العيادة- مشروع الحلويات الذي تُشرف عليه الآن زوجتي وعددٌ من صديقاتها. أتصدّق عن أُمي وأدعو لها دائماً، خاصةً بعد كل صلاةٍ، وأقول: "اللهم اغفر لها، واجعل مثواها الجنة، اللهم أنر قبرها واجزها بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً". أتصدق على المحتاجين، وأتذكر لجيراني وقفتهم إلى جواري. رزقني الله بزوجةٍ طيبةٍ مُتدينةٍ.. ثم رزقني منها بولدٍ صالحٍ بإذن الله؛ «حمزة»، الذي أول ما أجاد الكلام علمتُه الدعاء لي ولأُمه وأُمي.. أحرص على أن أصطحبه للصلاة معي في المسجد، وأحكي له عن انتظار أُمي لي على باب المسجد. أزور أبي على فتراتٍ، طاعةً لربي، وبِراً واحتراماً لذكرى أُمي ووفاءً لطلبها مني. أحُب زوجتي، أُقدّرها وأحترمها وأُحسن معاملتها، كما كنتُ أتمنى أن يُقدِّر أبي أُمي. أعامل «حمزة» كما عاملتني أُمي بحبٍ واحترامٍ، وأقول له إنه عملي الممتد. الحمد لله أديتُ فريضة الحج عن نفسي ثم عن أُمي... حلمتُ بها فَرِحَةً مُتهللةً تقول لي: "ألم أُخبرك يا ولدي أنك عملي الممتد؟!".

 

أحبتي في الله.. (إنها الأُم).. المؤمنة التقية الصابرة المكافحة.. أحسنت تربية ابنها؛ فصار وفياً لها، يدعو لها باستمرار ويتصدق ويحج عنها، ويحرص على معاملة زوجته بالحُسنى، وتربية ابنه تربيةً صالحة.

لا يخفى على أحدٍ مكانة الأُم في الإسلام، فهي من الوالدين الذين قال عنهما سُبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾، وهي -أي الأُم- التي خصها سُبحانه بقوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وقال أيضاً: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

(إنها الأُم) التي عندما جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: [أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أبُوكَ]. وعندما جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردتُ أن أغزو، وقد جئتُ أستشيرك، فقال: [هَلْ لَكَ مِن أُمٍّ؟] قال: نعم، قال: [فالزَمْها فإنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْها]. وفي روايةٍ: قال: [وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أمُّكَ؟] قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: [وَيْحَكَ الزَمْ رِجْلَها فَثَمَّ الجَنَّةُ].

 

ومن جميل ما قرأتُ ما قاله أحد العلماء، كتب يقول: (إنها الأُم)، وصى ببرها الرحمن، وتحت أقدامها الجنان، البِر بها مفخرة الرجال، وأفضل الخصال، كم حَزَنْت؛ لتفرح، وجاعت؛ لتشبع، وبكت؛ لتضحك، وسَهِرَت؛ لتنام. (إنها الأُم) المخلوق الضعيف الذي يُعطي ولا يطلب أجراً، ويبذل ولا يأمل شكراً. حَمَلَتْك في بطنها وهناً على وهن. صُورَتُك أبهى عندها من البدر، وصوتك أعذب عندها من تغريد البلابل وغناء الأطيار، وريحك أطيب عندها من أجود الأطياب. صاحبة القلب الرحيم، واللسان الرقيق، واليد الحانية، العيش في كنفها حياة، والبُعد عنها أسىً وحرمان. طوبى لمن خفض لها الجناح، وحرص على خدمتها كلما غدا أو راح، وقابلها ببشاشةٍ كل مساءٍ وصباح. من أراد عظيم الأجر والثواب، فليعلم أن الأُم بابٌ من أبواب الجنة عريض، لا يُفرِّط فيه إلا من حَرَم نفسه، وبخس من الخير حظه. (إنها الأُم) رمز التضحية والفداء، والطُهر والنقاء. ويتأكد البِر بالأُم إذا ذهب شبابها، وعلا مشيبها، ورقّ عظمها، واحدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها، وزارتها أسقامها، في هذه الحال من العُمر، لا تنتظر صاحبة المعروف والجميل من ولدها إلا قلباً رحيماً، ولساناً رقيقاً، ويداً حانيةً، فطوبى لمن أحسن إلى أُمه في كبرها! طوبى لمن شمَّر عن ساعد الجد في رضاها، يا أيها البار بأُمه تمثل قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، تَخَلَّق بالذُل بين يديها بقولك وفعلك، لا تنادِها باسمها؛ بل نادِها بلفظ الأُم؛ فهو أحب إلى قلبها، لا تجلس قَبْلها، ولا تمشِ أمامها، قابلها بوجهٍ طَلقٍْ، وابتسامةٍ وبشاشةٍ، تشرَّف بخدمتها، وتحسس حاجاتها، إن طَلَبَت فبادر إلى تنفيذ طلبها، وإن سقمت فقُم عند رأسها، أَبْهِج خاطرها بكثرة الدعاء لها، لا تفتأ أن تُدخل السرور على قلبها، قدِّم لها الهدية، وزف إليها البشائر، وإن كنتَ بعيداً عنها فأكثِر من الاتصال بها وأبلغها بشوقك إلى لُقياها، ولا ترفع صوتك عليها وأنت تخاطبها، واعلم أنه تجب عليك صِلتها وبِرها وحُسن صحبتها ولو كانت كافرةً، مع عدم طاعتها في المعصية؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.

 

أحبتي.. مهما كتبنا عن الأُم فنحن مُقصرون، ومهما تصورنا أننا وصفنا حنانها وطيبة قلبها وتضحياتها من أجلنا فنحن واهمون، ومهما فعلنا لنرد جميلها فلن نجزيها جزاءً يُقابل تفضلها وإحسانها؛ فهي التي قاست أشهر الحمل، وعانت آلام الولادة، وسهرت، وأرضعت، وربَّت، وتحملت الكثير والكثير من أجلنا، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

فلنتواصى أحبتي بالمُسارعة إلى بِرّ أُمنا إن كانت حيةً، والإحسان إليها، وطاعتها في غير معصيةٍ.

أما إن كُنا حُرمنا وجودها معنا فلنُلزم أنفسنا بدوام الدعاء لها، والتصدق عنها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا مات الإنسانُ انقطَعَ عنه عَمَلُه إلَّا مِن ثلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالحٍ يدعو له]. وكذلك مِن بِرِّ الولد بوالديه بعد وفاتهما صِلةُ أقربائهما وأصدقائهما.

وأما إن كان مِنا مَن هو عاقٌ لأُمه، فليعلم أنه في مُصيبةٍ كبيرةٍ، وعلى خطرٍ عظيمٍ، وعليه أن يتدارك أمره الآن الآن وليس غداً؛ فيصل ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾، ويطلب صفح أُمه ومسامحتها ورضاها، ويُعوضها ما قد فاتها من بِره وإحسانه.

اللهم أعنّا على البِر بوالدينا وخاصةً الأُم، ويسِّر لنا سُبل إرضائها وإسعادها، والإحسان إليها، ومصاحبتها بالمعروف.

https://bit.ly/3Yhrcia

الجمعة، 4 أكتوبر 2024

الرفق جوهرة

 

خاطرة الجمعة /467

الجمعة 4 أكتوبر 2024م

(الرفق جوهرة)

 

كتب أحدهم يقول: كنتُ طفلاً في السابعة من العُمر عندما سمعتُ عن طلاق عمتي، ومجيئها للإقامة في بيتنا.. توقعتُ أن أرى إنسانةً حزينةً من ردود أفعال أمي، لكن المفاجأة أن عمتي كانت مبتسمةً. عندما كبرتُ عرفتُ أن زوجها طلَّقها لعدم إنجابها، أما هي فلم تكن ناقمةً حتى عليه؛ كانت تقول في ثقةٍ: "الحق معه.. هو محتاجٌ للخِلفة"!

أُمي كانت تُصاب بارتفاع ضغط الدم لأن عمتي ليست ناقمةً على زوجها الذي طلَّقها.. لكن عمتي كانت تقول جملةً غريبةً (الرفق جوهرة).. لم أكن أفهمها لكني مع الوقت فهمتُ.

عمتي إنسانةٌ رقيقةٌ رفيقةٌ تربت على التماس الأعذار، وأن الرفق بالآخرين هو أهم شيءٍ. كانت تعاون أُمي في تربيتنا؛ تحكي القصص، وتُساعد في الرعاية بلا أية عصبيةٍ.. وعندما كانت أُمي تجري ورائي لتضربني كانت عمتي تقول لها: "هذا سندك، حد يضرب سنده؟"؛ فتتراجع أمي..

طالما أحببتُ عمتي رغم أنها من ناحية الشكل ليست بالجميلة.. والمدهش أن زوجها بقي يتواصل، ويُريد إعادتها إلى عصمته، وكان قد أنجب من زوجةٍ أخرى، لكن عمتي اعتذرت. سمعتُه يقول لها: "أُريدك أن تُربي أبنائي"، لكنها ردت عليه: "الله يوفقك".

أُمي الغالية كانت عصبيةً، وعمتي كانت هادئةً.. أصاب أُمي مرضٌ احتاجت معه إلى ملازمة المُستشفى، وعمتي قامت برعايتنا أثناء غيابها، وكانت تقول دائماً هذه العبارة (الرفق جوهرة)! وفهمتُ أنها تعني الهدوء.. لا تضرب ولا تنفعل ولا تُعادي. كانت تقول: "إن الإنسان أحوج مخلوقٍ إلى الرفق".

ولا أنسى عندما كادت إحدى أشجار حديقتنا أن تموت فعطفت عمتي عليها واهتمت بها؛ حتى عادت إلى النمو.

عمتي هي التي علمتني الصلاة؛ سألتها يوماً: "أليس ربنا عظيم؛ طيب لماذا يحتاج منا الصلاة؟ بماذا ستنفعه؟"، ردت بهدوء: "الذي يتصل بمَلِك المُلوك هو الذي يستفيد وليس المَلِك، يا صغيري نحن نصلي من أجل أنفسنا.. نحن الذين نحتاج إلى الصلاة".

كان أخي يتحدث دائماً بصوتٍ عالٍ، وكانت تقول له: "أحب صوتك الرائع المنخفض"، وكان يندهش، ثم فجأةً بدأ يخفض صوته.

عادت أُمي من المُستشفى لتجدني أُصلي، ووجدت أخي قد كفَّ عن ارتفاع الصوت.

رأيتُ مرةً عمتي تتأمل صورة زفافها.. سألتها: "إنتِ زعلانة لإنك لم تنجبي؟"، قالت: "هي الخِلفة بيد مَن؟"، قلت: "بيد الله"، قالت في يقين: "الله لا يريد بي إلا خيراً؛ أنا لستُ منزعجةً".

بصراحةٍ كنتُ أشعر في بعض الأحيان إنها مفتقدةٌ لزوجها، لكنها ليست راضيةً بالرجوع إليه، رغم إلحاحه عليها بالعودة إليه.. لا أنسى يوم أن عاد إلى بيتنا، وجلس معها ومع أبي وأعمامي لإقناعها بالعودة إليه.. كان نادماً على الطلاق، قلتُ لها: "ارجعي له".. كانت تبكي في حُجرتها، طبطبتُ عليها.. قالت لي: "زوجته الجديدة رافضةٌ رجوعنا؛ لا أُريد أن أُضيّعه هو وأطفاله"، لكن زوجها كان مُصراً على إعادتها؛ سألته: "لماذا؟"، قال لي: "لا يوجد مثلها؛ كانت أهم من كل شيءٍ، لكن أنا كنتُ غبياً عندما طلَّقتها". أصرّت على عدم العودة. وكنتُ بجوارها عندما تلقت اتصالاً من زوجته الثانية صارخةً مُتوعدةً: "ابعدي عنه"، وردت عمتي برفق: "حاضر" وأغلقت الخط! قلتُ مُنفجراً: "لماذا لم تصرخي؟"، قالت بالدموع: "اعذرها؛ زوجةٌ خائفةٌ على زوجها". تدهورت الحالة النفسية لزوج عمتي حتى اُضطرت زوجته إلى الاتصال بعمتي ترجوها العودة إليه، واندهشتُ حين وافقت عمتي وعادت إليه، أعلم أنه يُحبها وأنها تُحبه؛ وعندما عادت إليه رُدت الحياةُ إلى نفسه، لكن المدهش هو أن كراهية زوجته لعمتي بدأت في الازدياد، مع تحريض أولادها ضد عمتي،

لكن عمتي كانت تصبر وتحتضنهم؛ فتعلقوا بها أكثر من أُمهم، ثم -وبعد فترةٍ- تعلقت بها زوجة زوجها!

كانت عمتي توصيه خيراً بها، وكانت تقول لها: "أنتِ الودود الولود، وأنا عاقر".

عمتي قصةٌ من الصبر والإنسانية المكتملة.. اليوم بعد أن توفاها الله فجأةً أقف على قبرها، وإلى جواري: زوجها الباكي وزوجته وأبناؤه الثلاثة، وأبي وأُمي وأخي، وأتذكر كلماتها.. (الرفق جوهرة).

 

أحبتي في الله.. ما ألطف الرفق؛ فهو من الرحمة، ومن العفو عن الناس، ومن خفض الجناح لهم، وهو نقيض الفظاظة وغِلظة القلب؛ يقول الله سبحانه وتعالى مُخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

 

وعن الرفق قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ]. وقال أيضاً: [إنَّهُ مَن أُعْطيَ حظَّهُ مِنَ الرِّفقِ، فقَدْ أُعْطيَ حظَّهُ من خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ]. وقال كذلك: [مَن يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الخَيْر]. كما قال: [إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما أُعْطِيَ أهلُ بَيتِ الرِّفْقَ إلَّا نَفَعَهُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ إذا أرادَ بأهلِ بَيتٍ خَيرًا، أدخَلَ عليهم الرِّفْقَ].

 

يقول العلماء في معنى (الرفق جوهرة) إن الرفق ضد العُنف، وهو لين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها، إنه تحكُّمٌ في هوى النفس ورغباتها، وحَملٌ لها على الصبرِ والتحمُّل والتجمُّل، وكفٌّ لها عن العُنف والتعجُّل، وكظمٌ عظيمٌ لما قد يلقَاه مِن تطاوُلٍ في قولٍ أو فعلٍ أو تعامل. إنه رأسُ الحكمة، ودليلُ كمالِ العقل، وقوّةُ الشخصية، والقدرةُ القادرة على ضبطِ التصرّفات والإرادات، واعتدالُ النظر، ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهر الرُشد، وهو ثمرةٌ كُبرى من ثمار التديُّن الصحيح، فيه سلامةُ العِرض، وصفاءُ الصدر، وراحةُ البدن، واستجلابُ الفوائِد وجميلِ العوائد، ووسيلةُ التواصل والتوادّ وبلوغِ المراد.

ولا يكون (الرفق جوهرة) مع الإنسان فقط، بل إن شرعنا الحنيف يحثنا على الرفق بالحيوان بإطعامه وإرواء ظَمَئه، وعند ذبحه أيضاً، وعُدَّ ذلك من مظاهر الإحسان. بل ويمتد رفق الإنسان إلى الطيور والنباتات والجماد.

 

يقول الشاعر عن الرفق:

وزِنِ الكلامَ إذا نطقتَ

فإنَّما يُبدي العقولَ أو العيوبَ المَنطقُ

لا أُلفينَّك ثاويًا في غُربةٍ

إنَّ الغَريبَ بكلِّ سَهمٍ يُرشَقُ

لو سار ألفُ مُدجَّجٍ في حاجةٍ

لم يقضِها إلا الذي يترفَّقُ

وقال آخر:

تَرَفَّقْ فَإِنَّ الرِّفْقَ زَيْنٌ وَقَلَّمَا

يَنالُ الْفَتَى بِالْعُنْفِ ما كانَ طالِبَا

إِذَا لم يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ يَرُدُّهُ

إِلَى الْحِلْمِ لَم يَبْرَحْ مَدَى الدَّهْرِ عاتِبَا

وَإِنْ هُوَ لَمْ يَصْفَحْ عَنِ الْخِلِّ إِنْ هَفَا

أَقَامَ وَحِيداً أَوْ قَضَى الْعُمْرَ غَاضِبَا

 

أحبتي.. صدقت عمة راوي القصة -رحمها الله- عندما قالت: (الرفق جوهرة)، والجميل أنها أتبعت قولها بالعمل، وهذا درسٌ لنا جميعاً؛ فالأقوال سهلةٌ، إنما تكمن الصعوبة في أن نعمل بما نقول؛ فهذا أمرٌ يحتاج إلى درجةٍ عاليةٍ من الحلم وضبط النفس، ومع ذلك فهو ليس مُستحيلاً، مطلوبٌ فقط أن نُخلص نياتنا، ونأخذ بالأسباب؛ فنُلزم أنفسنا بالترفق دائماً، مُقتدين بهَدي رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم؛ فالرفق بالترفق، كما قال: [إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ].

اللهم اجعلنا من عبادك المُترفقين، وأعنّا على ذلك، إنك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3YbiaDp

الجمعة، 27 سبتمبر 2024

استمطار الفرَج

 

خاطرة الجمعة /466

الجمعة 27 سبتمبر 2024م

(استمطار الفرَج)

 

يقول راوي القصة إنه سمعها بنفسه مباشرةً من أحد أبطالها، وهذه هي:

في تسعينات القرن الماضي، وبعد محاولاتنا للضغط على العدو ليُطلق سراح الشيخ أحـ.ـمد ياسـ.ـين من سجنه، تمكن العدو من القبض علينا، وحُكم عليّ بثلاث مؤبداتٍ و40 سنة سجناً! في الأَسر ضاق بنا الحال، ولم نكن نرى أي أملٍ للخروج؛ فقررنا -وكُنا عدداً من المساجين الإسـ.ـلاميين- أن نُطلق فيما بيننا ما أسميناه (استمطار الفرَج) وهو -باختصارٍ- أن نبذل غاية الوسع في العبادة والتضرع إلى الله تعالى أن يُفَرِّج عنّا ما نحن فيه، فهو تعالى على كل شيءٍ قديرٍ، ولا حد لقدرته جلَّ شأنه، وكان شهر رمضان على الأبواب؛ فجعلنا الحملة تبدأ من أول أيام رمضان، وأخذنا نحفظ القرآن الكريم -وشدَّد على ذلك كثيراً-، ونقوم الليل، ونجتهد في الدعاء.

وكانت المفاجأة أننا علمنا أن الله تعالى فرَّج عن مسلمين غيرنا في أراضٍ أُخرى، فسمعنا عمَّن أُطلق سراحهم في «ليبيا»، وآخرين في أقصى المشرق، ونحن على حالنا؛ ففرحنا لفرح إخواننا، لكننا بالتأكيد تمنينا العافية لأنفسنا.

استطرد مُحدثنا ليُحيطنا بالتفاصيل، فقال: وفي خارج السجون كانت سلطة أوسـ.ـلو قد قامت، وهدّأت الشارع، فلم يعد من ضغطٍ على العدو، وكان جلعـ.ـاد شالـ.ـيط قد جاوز السنوات الخمس في أَسر حمـ.ـاس، وكانت المفاوضات شبه مُجمدةٍ، ولا يوجد أي أفقٍ لاستئنافها.

دخلت العشر الأواخر من رمضان، ولا أمل يبدو في الأفق، ولكننا مازلنا على اجتهادنا قدر وُسعنا، ثم كانت الجمعة الأخيرة، فصعد أخٌ -ممن كان يجتهد معنا- ليخطب الجمعة، ثم طلب منا أن نُقسم جميعاً على الله تعالى أن يُفْرَج عنّا هذا العام! قال: ففعلنا، ونحن آنئذٍ لا نعرف كيف؟ ولكن نتمناه. قال: ثم فوجئنا بالخطيب يُلِّح علينا أيضاً أن نُقسم على الله تعالى أن نحج هذا العام! فتعجبنا كل العجب منه، وكلٌ منا يقول في نفسه: "نخرج.. مشّيناها، لكن نحج؟!"؛ فحتى من هُم بخارج السجون يعتبرون الوقت قد فات؛ حيث أننا في آخر رمضان، وكم بقي على الحج؟! لكن تحت إلحاح أخينا الخطيب فعلنا وأقسمنا! كل هذا ولا توجد بارقة أملٍ تبدو في الأفق، لكنا كُنا نُحسن الظن بالله واثقين من فضله الواسع!

قال: ثم فوجئنا بمفاوضات شالـ.ـيط تتسارع وتحمى، حتى تمت الصفقة قُبيل يوم عرفة ب20 يوماً فقط لا غير، وخرجنا من السجن. قال: وتعنت الاحتلال فأصر أن يخرج 40 من المفرج عنهم من «فلسطين» نهائياً! قال: وكنتُ منهم، وخيرونا بين «سوريا» و«تركيا» و«قطر»، قال: فاخترتُ «تركيا»، وكان أردوغـ.ـان آنئذٍ رئيساً للوزراء، فخرجنا إلى «مصر» بجوازات سفرٍ فلسـ.ـطينية، ومنها إلى «تركيا» فوراً. وسُبحان الله اللطيف الخبير، إذ ألهم عاهل «السعودية» وقتها أن يُعطي تأشيرة حجٍ كمكرمةٍ مَلكيةٍ للمفرج عنهم في هذه الصفقة! ولكن الوقت كان قد تأخر للغاية، فقد طلعت شمس صباح يوم التروية "اليوم السابق لوقوف الحجيج بعرفة" ونحن في «أنقرة»، وكذلك غربت علينا شمس ذلك اليوم، فنوينا -أنا وإخواني المُفرج عنهم- صيام يوم «عرفة»، وهذه سُنةٌ لمن لم يُكتب لهم الحج، وقد حمدنا الله عزَّ وجلَّ أن مَنَّ علينا ونجَّانا من الأسر، وكفى بها نعمة.

لكن الله سبحانه لا تحده الحدود، ولا تمنعه الموانع، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، و﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فلما أصبحنا يوم «عرفة» صائمين في «أنقرة»، فوجئنا بالسلطات التركية تُرتب لنا طائرةً خاصةً لتنقلنا إلى الأراضي المقدسة! قال: فشككنا في الأمر، وأبَيْنا أن نُفطر، خشية أن يضيعا معاً الحج، وصيام «عرفة»، حتى إذا كُنا على متن الطائرة وطارت بنا أفطرنا من صومنا وأحرمنا بالحج! قال: ثم هبطت بنا الطائرة في مطار «جدة» السعودي، وقد كان مُغلقاً ولكنه فُتح فقط لنا، وجيء بموظفي الجوازات خصيصاً لنا! ووصلنا «عرفة» قُبيل غروب الشمس بساعة، فتم لنا أداء فريضة الحج! لقد استجاب الله جلَّ جلاله دعاءنا، وأشهدنا الحج كما كُنا قد أقسمنا عليه سبحانه!

 

أحبتي في الله.. صدق من قال: عندما يشاء الله لا قيمة لقوانين الحياة. عندما يشاء الله لا وزن لتدابير البشر. عندما يشاء الله لا أهمية لحواجز المستحيل، يكفيه عزَّ وجلَّ أن يقول للشيء ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.

 

و﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ تعبيرٌ قرآنيٌ مُحكمٌ ورد ذِكره في القرآن الكريم ثماني مرات؛ يقول تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول جلَّ شأنه: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول أيضاً: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويقول كذلك: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. كما يقول: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

والمعنى أن الله سُبحانه وتعالى يملك القُدرة التامة والمطلقة، فلا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ولا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فلا يتعاظم على قُدرته شيءٌ، ولا يتعاصى على قُدرته شيءٌ؛ فإذا ما أراد فعل شيءٍ فإنما يفعله ويخلقه بأمره له: ﴿كُنْ﴾، فلا يتأخر ذلك الشيء الذي أراده، بل ﴿فَيَكُونُ﴾ من فوره.

لذا فإن (استمطار الفرَج) لا يكون إلا بحُسن الظن بالله سُبحانه وتعالى، والأخذ بالأسباب من التزامٍ كاملٍ بالفروض والتمسك بما يسع الإنسان من النوافل، والدعاء بإخلاصٍ مع الإلحاح في الدعاء وتحري أوقات إجابته.

وينبغي التنبيه على أمرٍ هامٍ، وهو أنه قد اشتُهر بين العوام أنهم يقولون: "يا من أمره بين الكاف والنون"، وهذا -كما يقول العُلماء- خطأٌ؛ فليس أمر الله بين الكاف والنون، بل بعد الكاف والنون؛ لأن الله قال: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ متى؟ بعد ﴿كُنْ﴾. فقولهم: “بين الكاف والنون” خطأٌ، يعني: ما تم الأمر بين الكاف والنون، لا يتم الأمر إلا بالكاف والنون، لكنه بعد الكاف والنون فوراً كلمحٍ بالبصر.

 

فعند (استمطار الفرَج) والأخذ بالأسباب، قد يُدهشنا الله سُبحانه وتعالى بسرعة الاستجابةٍ؛ يقول الشاعر:

ما بينَ غَمْضةِ عَينٍْ وانْتِباهَتِها

يُغيّرُ الله مِنْ حالٍ إلىٰ حالِ

وقد تزداد دهشتنا من كرم العطاء؛ يقول الشاعر:

وَتَشاءُ أنْتَ مِنَ البَشائِرِ قَطْرَةً

‏ وَيَشاءُ ربُّكَ أنْ يُغِيثَكَ بِالْمَطَرْ

‏ وَتَشاءُ أنْتَ مِنَ الأمَاني نَجْمَةً

وَيَشاءُ ربُّكَ أنْ يُناوِلَكَ الْقَمَرْ

‏ وَتَشاءُ أنتَ مِنَ الحَياةِ غَنيمَةً

‏ وَيَشاءُ ربُّكَ أن يَسوقَ لَكَ الدُرَرْ

‏ وَتَظلُّ تَسْعَى جَاهِدًا فِي هِمَةٍ

‏ والله يُعطِي مَنْ يَشاءُ إذَا شَكَرْ

 

أحبتي.. إن (استمطار الفرَج) يكون بالإخلاص في الدُعاء، والأخذ بالأسباب مع عدم التعلق بها، بل بالتعلق بمن ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، والذي هو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، والذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.

اللهم إنا نستمطرك فرَجاً من كل كربٍ وهَمٍّ وغَمٍّ، فأغثنا بسحائب رحمتك غيثاً طيباً مباركاً، وأمطرنا استجابةً لدعائنا وزيادةً وفضلاً، واسقِ نفوسنا سَكينةً وأمناً، واروِ أرواحنا لتُزهر راحةً وطُمأنينةً وسلاماً، وتُثمر خيراً كثيراً من واسع فيض كرمك وعظيم جودك وجميل عطائك.

وأعنّا اللهم على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنّا.

 

https://bit.ly/4gIr0zK

الجمعة، 20 سبتمبر 2024

المرأة الصالحة

 

خاطرة الجمعة /465

الجمعة 20 سبتمبر 2024م

(المرأة الصالحة)

 

يقول راوي القصة: رجلٌ مرضت امرأته، فبكى عليها بكاءً شديداً، فسألته: "لِمَ تبكي عليها هذا البكاء؟"، فقال: "إنني أخشى أن تموت"، ثم شرع يقص بعض شأنها معه، يقول: "إنها ابنة مُقاولٍ كبيرٍ وشهيرٍ وصاحب مالٍ، وكنتُ عاملاً عنده، فلما لمس المقاول مني الإخلاص والأمانة والجد والتفاني جعلني رئيساً للعمال، فمارستُ عملي الجديد بكل إخلاصٍ وود، فأراد الرجل الذكي أن يحتفظ بماله عند يدٍ أمينةٍ؛ فلربما قال في نفسه: "أُزوج ابنتي من هذا الرجل"، فزوجني ابنته، فحفظتُ له هذا المعروف. وكنتُ فقيراً، لم يكن عندي من المال ما أستطيع أن أجعل ابنته في مستوى معيشة أبيها، فكانت الأيام والأسابيع وربما الشهور تمضي علينا لا نأكل لحماً، وكان موعدنا كل يوم جمعةٍ عند والدها على مائدة الغداء، فيأتي بما لذَّ وطاب وما تشتهيه الأنفس وتسر به الأعين، فكنتُ ألاحظ دائماً أنها لا تأكل شيئاً من اللحم ولا من الدجاج ولا من البط، رغم أنها لا ترى هذه الأصناف في بيتنا. ظلت على ذلك زمناً وأنا لا أعرف السبب، حتى قالت لي والدتها ذات يومٍ: "لا تجعل ابنتي تأكل لحماً دائماً حتى تأكل منه عندما تأتي إلينا؛ فكلما سألناها لماذا لا تأكلين من اللحم تقول تعبنا من كثرة أكل هذه الأشياء، نأكل لحماً ودجاجاً وبطاً كل يوم"، فذرفت عينايّ، وصرتُ أُحضر لها بعضاً من اللحم كلما استطعت ذلك.

يقول الراوي فقلتُ له: "يحق لك أن تبكي؛ فإن (المرأة الصالحة) لا تفضح زوجها ولا تكشف ستره أبداً".

 

أحبتي في الله.. إنها بالفعل امرأةٌ صالحةٌ؛ تعمل بأصلها وتستر على زوجها وتصون سره وتحفظ كرامته وتُعلي من قدره في عيون الآخرين، تبذل كل جهدها كي يظل في نظر الناس رجلاً كاملاً، حتى ولو لم يكن كذلك، ومن فينا الكامل؟

(المرأة الصالحة) هي عونٌ لزوجها ليكون ناجحاً، توفر له الجو الذي يُساعده على تحقيق أهدافه في الحياة، وهي تعلم أن العمل هو حياة الرجل كما البيت بالنسبة للمرأة، يحرص دائماً على النجاح والتفوق في عمله؛ فتُساعده زوجته الصالحة بكل ما تستطيع.

 

يُذكرني هذا بقصةٍ حدثت منذ أكثر من قرنٍ من الزمان بمدينة «ديترويت» في «الولايات المتحدة الأمريكية» حيث كان أحد الشباب يعمل كميكانيكي بشركةٍ مُتواضعةٍ يحصل علىٰ راتبٍ صغيرٍ أسبوعياً مُقابل مدة عملٍ طويلةٍ في اليوم الواحد، لكنه كان طموحاً؛ فحين يصل إلى منزله في المساء يقضي نصف الليل في حظيرةٍ خلف بيته، عاكفاً على مُحاولة صُنع نوعٍ جديدٍ من المُحركات. وفيما كان والده الفلاح يعتبر مُحاولات ابنه ضرباً من العبث، كانت زوجة الشاب هي الوحيدة بين أهله وجيرانه التي تُشجعه، وكانت تقضي معه طيلة الليل تشد من أزره وتُلهب حماسه. وعندما يحل فصل الشتاء كانت تحمل له في يدها مصباح الغاز لتضيء له، بينما أسنانها تصطك من شدة البرد، وكان زوجها يُطلق عليها لقب "المؤمنة". استمرت معه على هذه الحال ثلاث سنوات. في عام 1893م أشرف العمل على نهايته، وكان الشاب يومئذٍ قد قارب الثلاثين من عُمره، وفي يومٍ من أيام تلك السنة تناهى إلى سمع الجيران صوتٌ غريبٌ لم يألفوه من قبل؛ فهُرعوا على أثره إلى نوافذهم فرأوا عجباً؛ رأوا الشاب الذي كانوا يسخرون منه «هنري فورد» وزوجته يركبان عربةً تجري بلا خيولٍ، وشاهدوا بأعينهم المُحملقة المذهولة تلك العربة العجيبة تصل إلى نهاية الشارع ثم تعود. يومئذٍ شهد العالم مولد اختراعٍ جديدٍ كان له أبلغ الأثر في تطور المدنية الحديثة، ألا وهو اختراع محرك السيارة! وإذا كان «هنري فورد» هو "أبو هذا الاختراع" فقد استحقت زوجته عن جدارةٍ أن تكون "أم هذا الاختراع". وقد سُئل «هنري فورد» بعد أكثر من أربعين عاماً من تاريخ اختراعه، ماذا يُحب أن يكون لو عاش على الأرض حياةً ثانية؟ أجاب بقوله: "لا يهمني ماذا أكون بقدر ما يهمني أن تكون زوجتي بجانبي فيها".

حقاً؛ إن وراء كُل رجلٍ عظيمٍ تقف (المرأة الصالحة) مُحفزةً لزوجها، داعمةً له، تشد من أزره وتُعينه. وحقاً أيضاً؛ إن كُل امرأةٍ صالحةٍ قادرةٌ بوفائها وعطائها على أن تُقدم للعالَم أعظم الرجال.

 

عن (المرأة الصالحة) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ؛ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ]. وهذا إرشادٌ وتوجيهٌ من النبي صلى الله عليه وسلم للرجال والشباب باختيار (المرأة الصالحة) للزواج؛ لأنها من أعظم النعم على الإنسان في الدنيا، يفرح بالنظر إليها، وبطاعتها له، وهي عفيفةٌ تحفظ نفسها إذا غاب عنها، وأمينةٌ تحفظ ماله، فهي صالحةٌ في دينها ونفسها، ومُصلحةٌ لحال زوجها.

 

يقول أهل العلم إن (المرأة الصالحة) هي التي تحفظ نفسها وعِرضها في حضور زوجها ومغيبه، وفي الصغير والكبير. يقول سبحانه وتعالى: ﴿فالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ﴾. وهي التي تتحلى بالخُلُق الحسن، والأدب الرفيع، فلا يُعرف منها بذاءة لسانٍ ولا خبث جنانٍ ولا سوء عشرةٍ، بل تتحلى بالطيب والنقاء والصفاء، وتتزين بحُسن الخطاب، ولُطف المُعاملة، وتتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجدال والمِراء والكبرياء. وخير النساء التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا حُرمت صبرت، تسرك إذا نظرتَ، وتطيعك إذا أمرتَ. وهي المؤمنة التقية التي تسعى دوماً إلى تقوية صلتها بربها؛ فلا تترك فرضاً، وتحرص على شيءٍ من النفل، وتُقدِّم رضى الله سبحانه على كل ما سواه. وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].

وهي التي ترى فيها مُربيةً صادقةً لأبنائك، تُعلمهم الإسلام والخُلُق والقرآن، وتغرس فيهم حب الله وحب رسوله وحب الخير للناس، ولا يكون همُّها من دنياهم فقط أن يبلغوا مراتب الجاه والمال والشهادات، بل مراتب التقوى والديانة والخلق والعلم.

 

ووفاء (المرأة الصالحة) لزوجها يعني أن تُعاشره بحُسن السمع والطاعة -إلا فيما يُغضب الله تعالى فلا طاعة لبشرٍ في معصية الله تعالى- إنما الطاعة في المعروف. إنها تجعل من بيتها مُستقراً لراحة زوجها وسكنه، لا ترتفع في بيتها الأصوات، ولا يكون بيتها مكاناً للخصام ولا للشقاق ولا للعناد.

يقول العلماء إن من صور وفاء (المرأة الصالحة) لزوجها وإكرامها له ألا تقطعه من أهله، بل تُعينه على صلتهم والتقرب إليهم، ومن الوفاء إحسانها إلى أبويه والتودد إليهما والصبر عليهما والتحبب إلى ذوي أرحامه إكراماً له.

ومن الوفاء أن تحفظ زوجها في غيابه وحضوره، وتحفظ العهد وترعاه ولا تخونه أبداً، وتحفظ ماله بعدم الهدر والمساعدة بحُسن التدبير، وتستر زوجها فلا تُفشي أسراره، وتدعمه في الأزمات.

 

أحبتي.. هنيئاً لكل رجلٍ فاز بامرأةٍ صالحةٍ تُعينه على أمور دينه ودنياه. وإذ يقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؛ فحريٌ بمن أنعم الله عليه بمثل تلك المرأة أن يشكر ربه، ويُصلح من عمله، ويُحسن إلى زوجته، ويحافظ عليها، ويُقابل وفاءها بالوفاء، وحبها بالمودة والرحمة والود وحُسن العشرة. ومن لم يُنعم عليه ربه بهذه النعمة عليه أن ينظر إلى نفسه أولاً فيصلحها، ثم يأخذ بيد زوجته باللين والمداراة واللُطف حتى يصل بها إلى أن تكون (المرأة الصالحة) التي تستقيم معها الحياة؛ فتسعد هي وتُسعد غيرها.

كما أن علينا أن نجتهد في تعليم بناتنا كيف يكُنّ زوجاتٍ صالحاتٍ نافعاتٍ لأنفسهن ولغيرهن حتى يرضى الله عنهن، ويوفقهن في الدنيا والآخرة.

اللهم ارزقنا الصلاح والفلاح، واجعلنا ربنا من الشاكرين.

https://bit.ly/3TyVrOE

الجمعة، 13 سبتمبر 2024

عسى أن تكرهوا شيئاً

 

خاطرة الجمعة /464

الجمعة 13 سبتمبر 2024م

(عسى أن تكرهوا شيئاً)

 

تقدَّم رجلٌ عاطلٌ عن العمل لشغل وظيفة منظف مراحيض في إحدى شركات الكومبيوتر الكبيرة، وأخذ موعداً لمقابلةٍ مع مدير الشركة، وأثناء المقابلة، قال المدير للعاطل عن العمل: "إنك قُبلت في الوظيفة، لكن نحتاج بريدك الإلكتروني لنرسل لك عقد العمل والشروط"، فردّ الرجل بأنه لا يملك بريداً إلكترونياً، وليس لديه جهاز كمبيوتر في البيت، فأجابه المدير: "ليس لديك جهاز كومبيوتر يعني أنك غير موجودٍ، وإن كنتَ غير موجودٍ يعني أنك لا تستطيع العمل عندنا".

خرج الرجل العاطل عن العمل كارهاً ما حصل معه، مستاءً مما وصل إليه بعد أن أُغلقت الأبواب في وجهه. في طريقه للعودة إلى بيته شاهد مُجمعاً سكنياً كبيراً؛ فخطر له أن يشترى بكل ما يملك وهو عشرة دولارات عشرة كيلو غرامات من الفراولة ويبيعها لسكان هذا المُجمع، قام بذلك بالفعل، وبدأ يطرق أبواب الشقق ويعرض على السكان ما معه من فراولة، في نهاية اليوم ربح الرجل عشرين دولاراً. أدرك الرجل أن العملية ليست صعبةً؛ فبدأ في اليوم التالي بتكرار العملية ثلاث مراتٍ، ثم بدأ بالخروج في الصباح الباكر ليشتري أربعة أضعاف كمية الفراولة. واستمر كذلك لفترةٍ، وبدأ دخله يزداد إلى أن استطاع شراء دراجةٍ هوائية. وبعد فترةٍ أخرى وبالعمل الجاد استطاع الرجل شراء شاحنةٍ صغيرةٍ، ثم صار الرجل يملك شركةً لبيع الفراولة، وبعد مرور خمس سنواتٍ، أصبح يملك أكبر شركةٍ للمواد الغذائية.

فكَّر الرجل بالمستقبل؛ فقرر أن يُسجل شركته بأسماء أبنائه، وفي مقابلةٍ مع الموظف المختص قال له الموظف بعد أن أنهى جميع الأوراق المطلوبة: "أحتاج الآن بريدك الإلكتروني لأرسل لك العقد الجديد"، فأجاب الرجل بأنه لا يملك بريداً إلكترونياً، بل إنه لا يملك كومبيوتر"، ردَّ الموظف مُستغرباً: "لقد أسستَ أكبر شركةٍ للمواد الغذائية في خمس سنواتٍ ولا تملك بريداً إلكترونياً، ماذا كان يحدث لو أنك كنتَ تملك بريداً إلكترونياً؟!"، رد الرجل عليه: "لو كنتُ أملك بريداً إلكترونياً قبل خمس سنواتٍ لكنتُ الآن عاملاً أُنظِف المراحيض بإحدى الشركات!!".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، يقول المفسرون إن هذه الآية نزلت لحث المسلمين على الجهاد وقتال الكفار والمشركين، إلا أن معناها عامٌ في أمور الدنيا؛ فقد تكرهون شيئاً وهو في حقيقته خيرٌ وفيه نفعٌ لكم، وقد تُحبون شيئاً لما فيه من الراحة أو اللذة العاجلة، وهو شرٌ لكم ووبالٌ عليكم، والله تعالى يعلم علماً تامّاً خير الأمور وشرها، ويعلم ما هو خيرٌ لكم، وأنتم لا تعلمون؛ ففي أحوال الدنيا، يكون الغالب على العبد أنه إذا أحب أمراً من الأمور، ثم قيَّض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أن في ذلك خيرٌ له، فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله؛ لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأعلم بمصلحته منه؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأُخراكم؛ فاللائق بكم أن تستجيبوا له، وتنقادوا لأمره، وتقبلوا أقداره، سواءً سرتكم أو ساءتكم لعلكم ترشدون. وبذلك نرى أن القرآن الكريم لا يُنكر على الناس مشاعرهم الطبيعية، وأحاسيسهم الفطرية من كراهيةٍ لظاهر بعض الأمور، لكنه يُربى نفوسهم على الاستجابة لأوامر الله العليم بالغايات المطلع على العواقب، الخبير بما فيه خيرهم ومصلحتهم. وقيل في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولرُبَّ أمرٍ تُحبه فيه عطبك.

(عسى أن تكرهوا شيئاً) هي سُنةٌ من سُنن الله في خلقه، وهي حقيقةٌ مؤكدةٌ تُثبتها كثيرٌ من الأحداث والمواقف؛ منها مثلاً ما حدث لهذا الشاب الذي التحق بالعمل في ورشةٍ كبيرةٍ لنشر الأخشاب، قضى فيها أحلى سنوات عمره، حيث كان شاباً قوياً قادراً على الأعمال الخشنة الصعبة، وحين بلغ سن الأربعين وصار رجلاً في كامل قوته، وأصبح ذا شأنٍ في الورشة التي عمل بها لسنواتٍ طويلة، فوجئ برئيس العمال يُبلغه أنه مطرودٌ من الورشة، وعليه أن يُغادرها نهائياً بلا عودة! خرج الرجل إلى الشارع بلا هدفٍ وبلا أملٍ، وتتابعت في ذهنه صور الجهد الكبير الذي بذله على مدى سنوات عمره كله، فأحس بالأسف الشديد، وكَرِه ذلك، وأصابه الإحباط العميق؛ فقد أُغلق في وجهه باب الرزق الوحيد، خاصةً أنه ليس لديه ولدى زوجته شيءٌ من مصادر الرزق غير ما كان يتقاضاه من أجر العمل، ولم يكن يدري ماذا يفعل. عاد إلى البيت وأبلغ زوجته بما حدث، فقالت له زوجته: "ماذا نفعل الآن؟"، فقال: "سأرهن البيت الصغير الذي نعيش فيه، وسأعمل في مهنة البناء". وبالفعل كان المشروع الأول له هو بناء منزلين صغيرين بذل فيهما كل جهده، ثم توالت المشاريع الصغيرة وكثرت وأصبح مُتخصصاً في بناء المنازل الصغيرة، وفي خلال سنواتٍ قليلةٍ من الجهد المتواصل أصبح مليونيراً، وأنشأ عدداً من الفنادق والمستشفيات. يقول هذا الرجل في مُذكراته الشخصية: "لو علمتُ الآن أين يقيم رئيس العمال الذي طردني من ورشة الأخشاب، لتقدمتُ إليه بالشكر العميق لأجل ما صنعه لي؛ فعندما حدث هذا الموقف الصعب تألمتُ جداً ولم أفهم السبب، أما الآن فقد فهمتُ أن الله شاء أن يُغلق في وجهي باباً ليفتح أمامي طريقاً أفضل لي ولأسرتي".

 

وفي معنى (عسى أن تكرهوا شيئاً) قال الشاعر:

رُبَّ أَمْرٍ تَتَقِيه

جَرَّ أَمْرَاً تَرْتَضِيه

خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ

وَبَدَا المَكْرُوهُ فِيه

 

أحبتي.. يقول ناشر القصة الأولى: أحياناً يمنع الله عنك أمراً تحسبه أنه الصالح لك، ولكنه سُبحانه وتعالى يُخبئ لك الأفضل، فإن أغلق الله أمامك باباً سيفتح باباً آخر خيراً من الأول، فاحمد الله على كل حالٍ، وارضَ بقضاء الله في كل الأحوال؛ فوالله مهما دبرنا لأنفسنا لن يكون أجمل وأكرم وأرحم من تدبير الله لنا. ويقول ناشر القصة الثانية: لا تظن أن أي فشلٍ يمر بحياتك هو نهايةٌ لك.. فقط فَكِّرْ جيداً وتعامل مع مُعطيات حياتك، وابدأ من جديدٍ بعد كل موقفٍ؛ لأن باستطاعتنا أن نكون أفضل بإيماننا بالله عزَّ وجلَّ، ويقيننا بأنه يعلم ما لا نعلم ويختار لنا ما فيه خيرنا.

اللهم ألهمنا الصبر عند حدوث المكاره، واجعلنا ممن يُحسنون الظن بك، ويوقنون بأن خياراتك لنا أفضل وأحسن مما نراه لأنفسنا.. وأمدِنا اللهم بالعزيمة لبدايةٍ جديدةٍ متوكلين فيها عليك، شاكرين دائماً لك في السراء والضراء.

 

https://bit.ly/3XH5VhD

الجمعة، 6 سبتمبر 2024

حَمَلة المباخر

 

خاطرة الجمعة /463

الجمعة 6 سبتمبر 2024م

(حَمَلة المباخر)

 

كان «طه حسين» طالباً في الجامعة المصرية القديمة، وتقرر إرساله في بعثةٍ إلى «أوروبا» فأراد حضرة «السلطان حسين» رحمه الله أن يُكرِّمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالاً كريماً، وحباه هديةً قَيّمةَ المغزى والمعنى. وكان من خُطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيبٌ فصيحٌ مُتكلمٌ مُقتدرٌ، وكان السلطان رحمه الله مواظباً على صلاة الجمعة؛ فصلى الجمعة مرةً بمسجدٍ قريبٍ من قصره، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لتلك الجمعة، وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن يُنوه بما أكرم به «طه حسين»، ولكن خانته فصاحته وغلبه حب التعالي في المدح، فزل زلةً لم تقم له قائمةٌ من بعدها؛ إذ قال أثناء خطبته "جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى".

وكان من شهود هذه الصلاة الشيخ «محمد شاكر» وكيل الأزهر سابقاً -رحمه الله- فقام بعد الصلاة وقال للناس في المسجد إن صلاتهم باطلةٌ؛ لأن الخطيب كفر بما شتم به النبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لا تصريحاً؛ لأن الله سُبحانه عتب على رسوله الكريم حين جاءه «ابن أم مكتوم» الأعمى وهو يُحدِّث بعض صناديد قريشٍ يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه؛ فأنزل الله عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة، ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يُريد أن يتملق عظمة السلطان فمدحه بما يُوهم السامع أنه يُريد إظهار منقبةٍ لعظمة السلطان، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، فكان صنع الخطيب المسكين تعريضاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا يرضى به مُسلمٌ، وفي مقدمة من يُنكره السلطان نفسه. وأمرهم الشيخ الغيور على دينه بأن يُعيدوا صلاتهم فأعادوها.

لكن الله لم يَدَع لهذا الإمام المنافق جُرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى؛ فأُقسمُ بالله -يقول كاتب القصة- لقد رأيتُه بعينيّ رأسي بعد بضع سنين -وبعد أن كان مُتعالياً مُتنفخاً مُستعزاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء- رأيتهُ مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجدٍ من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المُصلين يحفظها لهم في ذلةٍ وصغارٍ، حتى لقد خجلتُ أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقةً عليه؛ فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتةً فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيتُ فيه من عبرةٍ وموعظة.

 

أحبتي في الله.. هكذا هو حال (حَمَلة المباخر) من المتزلفين الذين يُنافقون كل صاحب سلطةٍ، يظنون أنهم بذلك يحظون بمكانةٍ عاليةٍ عندهم، بل ويتسابقون في ذلك، ويتنافسون ويُبدعون، وكأنهم في سباقٍ للفوز بكأس عظيم المنافقين أو زعيم المتزلفين! تجدهم في كل عصرٍ وزمان، يمدحون كل ذي مُلكٍ وسلطانٍ، ويُداهنون كل مسئولٍ؛ ومن ذلك ما حدث عندما قُدِّم لأحد الأمراء طعامٌ به كثيرٌ من الباذنجان، فأكل وأعلن إعجابه به وقال: "تَميلُ نفسي إلى أكل الباذنجان"؛ فسارع أحد الخدم إلى مدح الباذنجان وبيان فضائله؛ فقال: "الباذنجان! بارك الله في الباذنجان، هو سيد المأكولات، شحمٌ بلا لحم، سمكٌ بلا حسك، يؤكل مقلياً ويؤكل مشويّاً، فهو من أشهى المآكل، إن أكلته مقليّاً بقي طعمه على لسانك طول النهار، وإن أكلته محشيّاً كان شيخ المحاشي". وبعد عدة أيامٍ قدموا للأمير الباذنجان فلم يُعجبه وقال: "أكلتُ منه قبل أيامٍ فنالني كَرْبٌ وتوجعتُ منه"؛ فسارع نفس الخادم إلى ذم الباذنجان وهجائه؛ وقال: "الباذنجان! لعنة الله على الباذنجان، فإنه ثقيلٌ غليظٌ، إنه طعامٌ رديءٌ، إن أكلته مقليّاً سبّب لك تضخّماً في المُصران، وإن أكلته محشيّاً سبّب لك أحلاماً مُزعجة، وإن أكلته مكبوساً سبّب لك الغثيان، وإن أكلته مُتبّلاً سبّب لك انتفاخاً في البطن" فقال الأمير: "ويحك! تَمدَحُ الشيءَ وتذمُّه في وقتٍ واحد؟!، أيها الأحمق مدحتَ الباذنجان بالأمس، وقلتَ إنه ألذّ وأفضل المآكل، فما بالك تهجوه اليوم وتجعل فيه كلّ العلل؟!"، فأجاب: "أنا خادم الأمير ولست خادم الباذنجان؛ إذا قال الأمير نعم قلتُ نعم، وإذا قال لا قلتُ لا!".

 

كنتُ مع أحد الأصدقاء العرب نتحدث في هذا الموضوع، فأخبرني أنه في بلدهم، وفي جمعٍ حاشدٍ، قام أحد (حَمَلة المباخر) بوصف مسئولٍ بأنه نبيٌ مرسلٌ من الله! الغريب -يقول صديقي- أنه لم يعترض على هذا الوصف أحدٌ من الحاضرين، بل وربما انتشى المسئول -والذي كان حاضراً ذلك الجمع- مما سمع!

 

ذمَّ الله سبحانه وتعالى المنافقين في العديد من آيات القرآن الكريم؛ ومن ذلك وصفهم بأنهم ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾. يقول تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ].

 

يقول أهل العلم إن النفاق هو إظهار المرء خلاف ما يُبطن، وينقسم إلى: نفاق اعتقادٍ، ونفاق عمل؛ أما نفاق الاعتقاد فهو أن يُبطن الإنسان الكفر ويُظهر الإسلام، وهذا صاحبه مخلدٌ في الدرك الأسفل من النار؛ فهو ليس في عداد الموحدين. وأما نفاق العمل -وهو المنتشر بين الناس الآن- فصاحبه مُوحِدٌ غير مُخلدٍ في النار، لكنه مُحاسبٌ على نفاقه الذي فيه خيانة الأمانة، والكذب في الحديث، وعدم الوفاء بالعهد، والفجور في الخصومة، وهذه هي صفات (حَمَلة المباخر) الذين يمدحون كل ذي سلطةٍ طمعاً في رضاه أو خوفاً من بطشه.

 

إن نفاق العمل أو قُل النفاق الاجتماعي صار -للأسف- مُنتشراً بين الناس، وأكثر ما يكون في مدح المُلوك والسلاطين والحُكَّام حتى أن دراسةً منشورةً تقول إنَّ الأُمراء العرب قديماً وظَّفوا شعراءَ كثيرينَ في بلاطهم، مُهمتهم مدحُ الأُمراءِ. وقد وثَّقوا هذا المدح في سجلات الشعرِ بعد أن صاغوا النِّفاق في طرائفَ خالدةٍ في أدبنا العربي؛ من أبرزَها بيت الشعر الذي قاله أحدهم، بعد حدوثِ زلزالٍ في «مصر»، قال:

ما زُلزلت مِصرُ من كَيدٍ ألمَّ بها

بل رقصتُ من عَدلِكم طَرَبا

ولم يتوقف النِّفاقُ على هذه الصورة الغريبة، بل وصل الحالُ ببعضِ الشعراءِ إلى أنَّهم انتهكوا المُقدسات، فهذا شاعرٌ أندلسيٌ يمدح أحد السلاطين بقصيدةٍ كان مطلعها:

شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت

بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار!

فكان هذا البيت سبباً في ظهور المثل الشهير "أول القصيدة كُفر"!

وهذا آخر مَدَحَ أحد السلاطين؛ فقال:

ما شئتَ، لا ما شاءتْ الأقدارُ

فاحكم فأنتَ الواحدُ القهَّارُ

وكأنما أنتَ النبيُ محمدٌ

وكأنما أنصارُك الأنصارُ

أنت الذي كانت تُبشِّرنا به

في كتْبها الأخبارُ والأحبارُ

هذا الذي تُرجىَ النجاةُ به

وبه يُحَطُّ الإصرُ والأوزارُ

أما هذا الشاعر فقد صاغ الأبيات التالية يصف بها السلطان وهو ذاهبٌ إلى صلاة العيد:

يَجِدُونَ رُؤْيتكَ التي فازوا بها

مِنْ أَنْعُم الله التي لا تُكْفَرُ

ذكَروا بطلعتِكَ النَّبيَّ، فهلُّلوا

لمَّا طلعتَ عن الصُّفوفِ وكبَّروا

حتى انتهيتَ إلى المُصَلَّى، لابسًا

نُورَ الهُدى يبدو عليك ويَظهرُ

ومَشَيْتَ مِشْيَةَ خاشِعٍ متواضِعٍ

لله لا يُزْهَى ولَا يَتَكَبرُ

فلوَ أنَّ مُشتاقًا تكلَّفَ فوقَ ما في

وُسْعِهِ لمشَى إليكَ المِنْبَرُ!

كما نرى أحدهم يمدح سلطاناً قائلاً: "كأنك بعد الرسولِ رسولُ"، بينما وصف غيره بأنه "ظِلُ الله الممدودُ بينه وبين خَلْقِه"، ويرفع شاعرٌ مَلِكاً إلى أعلى ما نتخيل واصفاً إياه قائلاً:

ألم ترَ أن الله أعطاكَ سُورةً

ترى كلَ مُلْكٍ دُونها مُتذبذبُ

فإنك شمسٌ والنجومُ كواكبُ

إذا طلعتَ لَمْ يَبدُ مِنهن كوكبُ

وانتهت الدراسة إلى القول: إنَّ النفاق، والمدح الزائف من أبرز تُراث العرب الشِعري، وما مادحو الأمراء والسلاطين من الإعلاميين المعاصرين سوى نُسخةٍ مُشوَّهةٍ من أدب المدح العربي، إنها نُسخةٌ تخلو من الإبداع والطرافة، هُم مُقلدون، غير مُبدعين!

 

يقول أحد العُلماء إن أزمتنا المُعاصرة تكمن في تفشي تلك الظاهرة لدرجة اعتبارها أسلوب حياةٍ ولغة عصرٍ وشعار زمانٍ، وتتطور في بعض الأمم لتصبح حالةً كارثيةً من الكذب الصريح، وطمس الوقائع، وتزييف الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه. وكثيرٌ من (حَمَلة المباخر) هُم من المنافقين الذين يأكلون على كل الموائد؛ فهُم أشخاصٌ تطأ هاماتهم وجباههم الأرض، ويلعقون الثرى تقرباً وتودداً لمن يبغون مصلحتهم عنده، ثم لا يمنعهم ذلك من أن يهيلوا التراب عليه إذا انقضت غاياتهم منه، أو ذَوَىَ مَن تملقوه عن منصبه فأصبح لا حول له ولا قوة. وإنْ تعجب فعجبٌ أن تعرف أن هناك درجاتٍ في إتقان النفاق، وأعظم المنافقين وأعلاهم درجةً هو الذي لا يُدرِك أنه يُنافق لأنه يكذب بصدق!

 

يقول الشاعر:

لا يخدعنك هتافُ القومِ بالوطنِ

فالقومُ في السرِ غيرُ القومِ في العلنِ

 

أحبتي.. يُقال إن خيطاً رفيعاً يفصل بين المُجاملة والنفاق، لذا لا يجب أن نُبالغ في المُجاملة حتى لا نسقط في بئر النفاق، ولا نُبالغ في الصراحة حتى لا نسقط في وحل الوقاحة. ولا يجب علينا أن نخلط بين محادثة الناس بلين الكلام، ومناداتهم بأفضل ما يُحبون، وبين النفاق الذي يبغي الشخص من ورائه تحقيق نفعٍ أو تجنب ضرر. ولنَحذر المنافقين من حولنا؛ حيث تقول الحكمة: "إذا سمعتَ إنساناً يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك".

اللهم لا تجعلنا من المنافقين، وطهِّر قلوبنا حتى لا نُنافق غيرنا ولا نُفتن بما يُنافقنا به الغير، واهدنا واكتبنا اللهم من المتقين الصادقين.

https://bit.ly/3AX207y

الجمعة، 30 أغسطس 2024

الصبر على أقدار الله

 

خاطرة الجمعة /462

الجمعة 30 أغسطس 2024م

(الصبر على أقدار الله)

 

أحد المشايخ ماتت زوجته -رحمها الله- فحزن عليها حُزناً شديداً.. واشتُهر حُزنه عليها؛ فأرسلت إليه إحدى صديقات زوجته رسالةً تُصبره فيها. وإليكم رسالتها إليه:

السلام عليكم يا شيخ.. أنا إحدى صديقات زوجتك. بلغني خبر وفاتها.. وبلغني حُزنك الذي مرَّ بك.. فاقرأ قصتي.. ليست أول قصةٍ تُحكى عن الفقد والألم؛ فهناك المئات مثلي يُعانون الفقد والحرمان.. بدأت قصتي يوم 27 من شهر رمضان عام 1431هـ، في آخر ساعةٍ من ذلك اليوم.. يومها اتفقنا جميعاً على أن نركب سيارةً واحدةً ونُغادر ذهاباً إلى بيت الله الحرام في «مكة» لنؤدي العُمرة. ومن أقدار الله -سُبحانه وتعالى- أن إخواني رفضوا يركبون سياراتهم وجاءوا معنا.. فكُنا ثمانية أشخاصٍ؛ أنا ووالديّ وأخواتي وإخواني.. كان والدي يقود السيارة وأمي تجلس بجانبه.. اتفقنا وقتها على أن يُمسك المُصحف كل واحدٍ منا ويقرأ ويدعي إلى أن نصل.. حتى نختم القرآن بذلك اليوم.. واستمرينا بقراءة القرآن في صمتٍ وخشوعٍ كأننا لن نقرأه مرةً أُخرى! كانت أُختي تقرأ وتبكي، والأخرى تنظر إليّ وتبكي وتدعي.. كنتُ أسألهم لماذا الدموع؟ فقالت إحداهن: "أشعر بأن صوت الله قريبٌ مني وأنا اقرأ".. أثناء ذلك..

أظن أن الوالد -رحمة الله عليه- غلبه النعاس.. وانحرفت السيارة من أعلى الجبل.. سقطت بنا السيارة في الوادي.. استمرت في السقوط مسافةً طويلةً، وانقلبت بنا عدة مراتٍ، وكلما تدحرجت خرج أحد إخواني من السيارة وسقط.. أما أنا فقد وقعتُ على شجرةٍ، والباقين سقطوا في قاع الوادي.. وقع الحادث وقت أذان المغرب، وكُنا صائمين.. عندها.. أُغميَ عليّ ونزفتُ كثيراً.. أذكر أني صحيتُ وصرختُ أبحث عن أهلي.. وكنتُ -رغم ما بي من كسورٍ وإصاباتٍ- أمشي مرةً وأحبو مراتٍ.. لم يشاهدنا أحدٌ أثناء سقوط السيارة.. بدأتُ أزحف إلى أن وصلتُ إليهم.. حاولت تغطية أخواتي.. وجدتهم فارقوا الحياة وكل واحدةٍ رافعةً السبابة وقد تشهدوا ولله الحمد.. جمعتهم في مكانٍ واحدٍ.. حينها حلَّ الظلام.. وتملكني الخوف من أصوات الحيوانات ومن الظلام.. لم أجد إخواني أبداً.. زحفتُ ووجدتُ أمي قد فارقت الحياة وقد تشهدت.. وعباءتها ملتفةٌ عليها كالكفن؛ لم يظهر منها سوى أُصبعها وقد تشهدت.. حتى الغطاء لم يسقط.. بقيتُ بحضنها أُكلمها لعلها تسمعني.. ولا فائدة.. وصلتُ لأبي ووجدته مازال حياً وينزف.. فرحتُ وضممته إلى صدري؛ فرحتُ أنه مازال معي.. فقال لي: "أوصيك بنفسك.. لا تبقين هنا كثيراً.. واطلعي الجبل ونادي على من يساعدك.. ويُساعد أخواتك وأمك".. عندها خفتُ من صوت الكلاب حولي ومن ظلام الليل؛ فبقيتُ بحضن أبي.. وقلتُ له: "أنا أنزف ولا أستطيع الحركة وسأبقى معك".. وقتها أخذني على صدره.. وكان يوصيني بأن أكون كما عهدني.. وظل يدعي لي.. وسمعته يتشهد ثم فارق الحياة.. بقيتُ لوحدي أبكي وأدعي إلى أن دخلتُ في غيبوبة.. لم أُحس بنفسي؛ فقد أُغمي عليّ من النزيف.. مرَّ علينا يومٌ كاملٌ لم يرنا أحد.. وفي عصر اليوم الثاني وجدنا راعي غنم.. وأبلغ الدوريات.. فجاءت فرق الدفاع المدني بالطيارات والسيارات.. وتم انتشالنا على دفعات.. لم أَفُق من الغيبوبة إلا بعد خمسة أشهر.. بقيتُ بعدها أتعالج سنتين في «كندا».. وكنتُ كلما تذكرتُ ما حصل أشعر وكأنه خيالٌ أو حُلم.. أُصبت بكسورٍ خطيرةٍ في الرأس والرقبة والظهر والحوض، والأهم من ذلك أني فقدتُ -بسبب النزيف- نعمة أن أكون أمّاً.. رغم محاولاتٍ كثيرةٍ فشل فيها الأطباء؛ فكان الاختيار إما حياتي.. أو العملية التي قد تُفقدني نعمة الأبناء.. وكان اختياراً صعباً.. لكني صبرتُ.. وها أنا بخيرٍ وعافيةٍ والحمد الله.

تعمدتُ أن أخبرك بقصتي يا شيخ حتى تعلم أنك لستَ الوحيد الذي فقد عزيزاً وغالياً.. وأن الدُنيا لن تنتهي بفقد أحدٍ مهما كان حُبنا له وارتباطنا به.. لكن علينا (الصبر على أقدار الله) التي هي من تمام الإيمان.. والحمد الله ها أنا عُدتُ لعملي.. وانتقلتُ إلى «الرياض» وبدأتُ أعيش وأتعايش مع حياتي الجديدة.. والحمد لله على كل حال..

نسيتُ أن أقول لك.. كان قد بقي على موعد زفاف أخواتي أسبوعان.. وكُنا نُريد أن نعتمر قبل زفافهم.. وإلى الآن ما تزال فساتين زفافهم معي، أحتفظ بها إلى أن أموت.

 

أحبتي في الله.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]. يقول شُرَّاح الحديث: القناعة من أجَّل أخلاق المؤمنين، وهي علامةٌ على الرضا بقَدَر الله، كما أنها تُهَوِّن صعوبة الحياة. وفي هذا الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ] أي: من هو أقل منكم في أمور الدنيا وتقسيمها، [ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ]؛ فإن هذا النظر [أجْدَرُ]، أي: أحق [أنْ لا تَزْدَرُوا]، أي: لا تحتقروا [نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُم]؛ وذلك أن نظر الإنسان إلى من هو أعلى منه؛ يؤدي إلى استحقار ما عند نفسه من النِعم، فيستقل النعمة ويُعرِض عن الشكر؛ فيكفر نعمة الله عليه، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، يقول المفسرون: أي لا تمد عينيك مُعجباً، ولا تُكرر النظر مُستحسناً إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المُزخرفة، والنساء المُجَمَّلة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجاباً بأبصار المُعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، وتقتل مُحبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنةً واختباراً، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً. وفي الحديث: بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُداوياً للقلوب، فعلَّمها كيف تصنع، ووصف لها الدواء. وفيه: إرشادٌ إلى الاعتبار بأحوال الدنيا، وأن السعادة ليست مالاً فقط. وفيه: أن من أعظم ما يُعين على استشعار النعم كثرة التأمل فيها والنظر في حال من هُم أقل حالاً منك.

 

ويقول العلماء إن (الصبر على أقدار الله) والقناعة والرضا بما قسم الله تشمل جميع نِعم الله؛ ففي مجال الصحة تكون القناعة بأني -مع ما بي من مرضٍ أو عاهةٍ- أفضل حالاً ممن مرضه أشد من مرضي أو عاهته أصعب من عاهتي، فيكون ذلك سبباً في شكري لله سُبحانه وتعالى. أما إذا نطرتُ إلى من هو أكثر مني صحةً، فقد يتملكني -والعياذ بالله- شعورٌ بأني لستُ في نعمةٍ تستوجب الشكر؛ من هنا يكون فهمنا لهذا التوجيه النبوي العظيم لكلٍ منا إذا رأى شخصاً قد ابتلاه الله سُبحانه وتعالى بشيءٍ لم يبتلينا به؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا" لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ]. ويقول شُرَّاح الحديث: الابتلاء بأنواعه كلها فيه فتنةٌ واختبارٌ للعبد، وينبغي عليه الصبر والدُعاء لله، أما العبد الذي عافاه الله؛ فإنه في نعمةٍ ينبغي شكر الله عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: [مَنْ رَأَى مُبْتَلىً] بأي بليةٍ في البدن كمرضٍ، أو في الدنيا كفقرٍ، أو في الدين كعصيان، والمُراد برؤياه: النظر إليه أو السماع بحاله، [فَقَالَ] في نفسه بحيث لا يسمعه المُبتلى؛ لئلا يكون شامتاً به: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي]، أي: نجاني وأنقذني [مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ] دعا الله عزَّ وجلَّ وحمده على حفظه من ذلك البلاء، [وَفَضَّلَنِي]، أي: صيرني أفضل منك، وأكثر خيراً، وأحسن حالاً بالعافية والسلامة من الابتلاء من ذلك أو أعم [عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا] وهذا فيه شكرٌ لله على السلامة من الشرور [لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ]، أي: كان ذِكر الله وحمده سبباً في أن يحفظ المرء ويحميه من هذا البلاء الذي وقع بغيره؛ لأنه لا يأمن أن يقع به؛ ولأن الله يُعافيه ويرحمه بدعائه، فينبغي للعبد أن لا يزال ذاكراً نِعم الله عليه مُعتبِراً في رؤية العباد، ومُقِراً أن ما به من نعمةٍ؛ فمن الله. وفي الحديث: أن ذِكر الله والثناء عليه يحفظ الإنسان، ويُعافيه من البلايا. ويؤكد العلماء على أن يقول هذا الذِكر سِرّاً، بحيث لا يسمعه المُبتلى، لئلا يتألَّم قلبه ويتأذى بذلك، بل إذا لقيه عليه أن يُحسن خُلُقه معه ويُظهر له التعاطف معه، ويدعو الله له بالشفاء والعافية.

ويمتد مجال الابتلاء ليشمل كل ابتلاءٍ دُنيويٍ: كفقرٍ أو مرضٍ أو عاهةٍ ونحو ذلك، وكل ابتلاءٍ دينيٍ: كفِسقٍ أو ظُلمٍ أو بدعةٍ أو كُفرٍ وغيرها.

 

أحبتي.. الرضا بما قسمه الله و(الصبر على أقدار الله) من تمام الإيمان؛ فلنرضى، ونصبر، ونحمد الله عزَّ وجلَّ على كل حال، خاصةً وقت الشدائد والمِحن، فتنقلب -برحمة الله- إلى عطايا ومِنَح. ومع كل ابتلاءٍ علينا -مع الصبر والشكر- أن ننظر إلى من كان ابتلاؤه أكثر وأشد وأصعب، لنرضى بما قسمه الله لنا، ونحمده عليه، لا أن نسخط وننقم ونُعرِض؛ فالابتلاء الأكبر لا يكون في المُصيبة ذاتها وإنما هو في تصرفنا وسلوكنا بعد حدوثها؛ يقول تعالى على لسان سليمان عليه الصلاة والسلام: ﴿لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ﴾. فلنحتسب مع كل ابتلاءٍ، ونشكر ونصبر ونسترجع، عسى الله أن يكتبنا من الشاكرين الصابرين.

اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، وقدِّره لنا، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه. واجعلنا اللهم من الراضين بقضائك وقدرك، الحامدين لك على كل حال.

https://bit.ly/3ADW4jq