الجمعة، 13 يوليو 2018

كما تَدِينُ تُدَانُ/1


الجمعة 13 يوليو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٣
(كما تَدِينُ تُدَانُ)

جلست الأم ذات مساء تساعد أبناءها في مراجعة دروسهم، وأعطت طفلها الصغير البالغ الرابعة من عمره كراسةً للرسم حتى لا يشغلها عما تقوم به مع إخوته الكبار. وتذكرت الأم فجأةً أنها لم تُعد طعام العشاء لوالد زوجها الشيخ المسّن الذي يعيش معهم في حجرةٍ خارج المبني في فناء البيت، فأسرعت بالطعام إليه، وسألته إن كان بحاجةٍ لأية مساعدة أخرى، أجاب بالنفي وشكرها فانصرفت عنه. وعندما عادت إلى ما كانت عليه مع أبنائها لاحظت أن الطفل الصغير يقوم برسم دوائر ومربعاتٍ ويضع فيها رموزاً، فسألته عما يرسم، فأجابها بأنه يرسم بيته الذي سيعيش فيه عندما يكبر ويتزوج. فقالت له وأين ستنام؟ فأخذ الطفل يريها كل مربعٍ ويقول هذه غرفة النوم، وهذا المطبخ، وهذه غرفةٌ لاستقبال الضيوف، وأخذ يعدد كل ما يعرفه من غرف البيت، وترك مربعاً منعزلاً خارج الإطار الذي رسمه، فتعجبت الأم وقالت له: ولماذا هذه الغرفة خارج البيت منعزلةً عن باقي الغرف؟ فأجابها: إنها لكِ؛ سأضعك فيها تعيشين كما يعيش جدي الكبير، فصُعقت الأم وبكت، ونقلت والد زوجها إلى داخل المنزل.

ومن قصص التراث أن ابن الزيات كان وزيراً للمعتصم، وكان شديد القسوة، صعب العريكة، لا يَرِّق لأحدٍ ولا يرحم، وكان قد اتخذ في أيام وزارته تنوراً من حديدٍ، له مسامير محددةٌ إلى داخل، وكان يعذب فيه الناس، فكيفما انقلب واحدٌ منهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشد الألم، وكان إذا استرحمه أحدهم، يقول له: "الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة" بمعنى أن الرحمة من أخلاق الضعفاء. فلما غضب عليه الخليفة المتوكل اعتقله وسجنه، ثم أمر بإدخاله في نفس التنور، فقال: "يا أمير المؤمنين ارحمني"، فقال له: "الرحمة خورٌ في الطبيعة"، كما كان يقول للناس.

أحبتي في الله .. رُويَ عن أبي الدرداء رضي الله عنه حديثٌ يختلف العلماء في درجة صحته، وذلك بسبب عدم اكتمال سنده وانقطاعه، ألا وهو: "البِرُّ لا يَبْلَى، والإثمُ لا يُنْسَى، والدَّيَّانُ لا ينامُ، فكن كما شِئْتَ، كما تَدِينُ تُدَانُ". وبالرغم من ضعف الحديث إلا أنّ العلماء يشجعون على تذكّره ونشره؛ بسبب معناه الصحيح. فلنعتبره أثراً من الآثار المروية التي تجمع في طياتها حِكَماً بالغةً، من بينها (كما تَدِينُ تُدَانُ).
قال أهل العلم (كما تَدِينُ تُدَانُ) حكمةٌ بليغةٌ تناقلها الناس قديماً، تعني: كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى، وهو من قولهم: "دِنْتُه بما صَنَعَ" أي: جازيته.
وجاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالةً على صدقها، فهي سنةٌ كونيةٌ جعلها الله سبحانه وتعالى عظةً وعبرةً للناس. وهي قاعدةٌ عظيمةٌ مطردةٌ في جميع الأحوال، وبالتأمل في الكتاب والسنة نجد شواهد ذلك:
فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقاباً من جنس عملهم، فقال سبحانه: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. وفي موضعٍ آخر قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قال المفسرون: "قوله ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل".
وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل؛ ففي تفسير قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ يقول أهل التفسير: "أي مجازاةً على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، والجزاء من جنس العمل".
ومما وعد الله به عباده المؤمنين قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، قيل: "لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته".
كما رتب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مناسبٌ للعمل نفسه؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ "فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك".
ومن ذلك ما جاء في الحديث القدسي، في قول الله تعالى للرحم حين تعلقت به سبحانه: {أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟}، قَالَت: بَلَى، قَالَ: {فَذَاكِ لَكِ}.
ومن السُنة أحاديث كثيرةٌ؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: [ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ]، وقوله صلى الله عليه وسلم قال: [المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسْلِمُه، مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ].
وقد جاء في السنة من الوعيد على بعض الذنوب ما هو مناسبٌ لها؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [مَن لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ رَجَعَتِ الَّلعنَةُ عَلَيهِ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ]، قالوا: "مشاكلة العقوبة للذنب".
وهكذا لا تتخلف هذه السُنة من سنن الله في أرضه: "الجزاء من جنس العمل"، و(كما تَدِينُ تُدَانُ)، وذلك من مقتضى عدله وحكمته سبحانه وتعالى، فمن عاقَب بجنس الذنب لم يَظلم، ومن دانك بما دنتُه به لم يتجاوز.
قال الشاعر:
يا أَيُّهذا الناهبُ اسـمَع مُصغياً
ما قد قَضـاهُ العادل الدَيَّانُ
إن كانَ خيراً نلتَ خيراً مضعفاً
أو كانَ شـرّاً تُضعَف الأَوزانُ
وبـأَيّ مِكـيالٍ تَكِيــلُ بـهِ يُكـالُ
لك الجَـزا وبما تَدِيـنُ تُدانُ

يقول أحد العلماء أن هناك صنفاً من الناس دائم الشكوى والتبرم والتظلم، ولا يكفّ عن إلقاء اللوم على غيره، ويتساءل دائماً في حيرةٍ وقلقٍ: لماذا لا يوفقني الله لطاعته؟ لماذا يجعلني من أهل معصيته؟ لماذا يبتليني بالأمراض والضعف في بدني؟ لماذا يكدر عليّ معيشتي؟ لماذا لا يجعلني أشعر بالسعادة والفرح والسرور؟ لماذا يبتليني بالهموم والغموم والأحزان وضيق الصدر؟ لماذا يوقعني في المصائب والفشل والبلايا؟ لماذا يبتليني بالغضب وضعف البصيرة؟ ولو تأمل هذا المشتكي في ذلك، لعلم أن الآفة فيه والبلية منه، فسبب تلك الشرور والمصائب التي تحيط بالإنسان هي نفسه التي بين جنبيه! قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقال تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾، وقال تعالى : ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ﴾.

أحبتي .. فلينظر كلٌ منا لأعماله وأقواله، وليبتعد عن معصية الله وعن عمل السوء، ولعل أكبر عمل سوءٍ يَظلم به الإنسان المسلم نفسه هو تركه للطاعات المأمور بها وعدم التزامه بالعبادات خاصةً الصلاة، وهي العبادة التي قال عنها الرسول الكريم: [إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ]. وليحرص كلٌ منا على أن تكون أعماله وأقواله طيبةً نافعةً، وأن تكون نيته من ورائها خالصةً لوجه الله، وليحتسب أجرها عند الله سبحانه وتعالى، وليكن واثقاً أنها لن تضيع، وأنها ستعود إليه إن آجلاً أو عاجلاً، إما خيراً بخير في حياته الدنيا، أو أن الله قد ادخرها له تنفعه في الآخرة؛ فتكون له ذُخراً، فَرُّبَ فعلٍ بسيطٍ يستهين به الإنسان هو عند الله سبحانه وتعالى وقت الميزان كجبل أُحد. وليكن من أهم ما نهتم به هو تنشئة أبنائنا على عمل الخير والبعد عن عمل الشر، وأن سُنة (كما تَدِينُ تُدَانُ) ذكرها الله في كتابه الكريم واضحةً جليةً؛ قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾، وهو سبحانه القائل: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.

اللهم ألهمنا الصواب، وسدد خطانا، وأَعِنَّا على شُح أنفسنا وأزّ الشياطين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا اللهم من الراشدين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/CJeVR7

ليست هناك تعليقات: