الجمعة، 6 يوليو 2018

تطوعوا يرحمكم الله!


الجمعة 6 يوليو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٢
(تطوعوا يرحمكم الله!)

يروي هذه القصة الواقعية طالبٌ أجنبيٌ كان يدرس في سويسرا، وكان يسكن في غرفةٍ عند امرأةٍ عمرها سبعٌ وستون سنة، كانت تعمل معلمةً قبل تقاعدها، وهي تستلم راتب تقاعدٍ مُجزٍ، لكنه رآها تذهب للعمل مرتين في الأسبوع؛ حيث كان عملها بدارٍ لرعاية المسنين، كانت ترعى مسناً عمره سبعٌ وثمانون سنة! أبدى الشاب عجبه مما تفعل، وسألها إن كانت تعمل لكسب المال، فقالت له إنها لا تعمل لأجل المال بل لتكسب الوقت؛ وأنها تودع لنفسها وقتاً في بنك الزمن، وهي بعملها هذا توُدِع الوقت لكي تستطيع الصرف منه عندما تحتاج له في كبرها أو عندما تُصاب بحادثٍ وتحتاج إلى من يساعدها!
يقول الطالب إنها المرة الأولى الذي يسمع فيها عن بنك الزمن، فسألها عن معلوماتٍ أكثر عن ذلك البنك، قالت له إن الحكومة السويسرية أنشأت ذلك البنك كضمانٍ اجتماعيٍ للناس؛ حيث يفتح كل راغبٍ في الاشتراك فيه حساب زمن، بحيث يُحسب له الوقت الذي يقضيه في الخدمة الاجتماعية، خصوصاً خدمة المسنين والمرضى الذين لا يوجد لديهم من يرعاهم أو يساعدهم من عائلاتهم. يُشترط على المشترك أن يكون سليماً صحياً وقادراً على العطاء والتواصل مع الآخرين ولديه القدرة على التحمل وراغباً في تقديم الخدمات بنفسٍ راضيةٍ وإخلاصٍ، ثم عندما يحتاج المشترك إلى مساعدةٍ يُرسِل له البنك شخصاً من أصحاب حسابات الزمن في البنك ليخدمه ويَخْصِم الوقت من حسابه. والخدمات التي يقدمها المشترك تُقدم للمحتاج إما في مستشفى أو دار مسنين أو في البيت؛ كأن يرافق المحتاج للتسوق أو للتمشية أو لمساعدته في تنظيف منزله.
يقول الطالب أنه في أحد الأيام احتاجت تلك المرأة للمساعدة عندما سقطت أثناء تنظيف نافذتها وكُسر كاحل قدمها واضطرت للبقاء في السرير عدة أيام، أراد الطالب تقديم إجازةٍ اضطراريةٍ لمساعدتها، لكنها قالت له إنها لا تحتاج مساعدته لأنها تقدمت بطلب سحبٍ من رصيدها في البنك، وأنهم سيرسلون لها من يساعدها. جاء المساعد الذي عينه البنك وكان يرعاها ويتحدث معها ويرافقها ويقضي لها بعض حاجياتها من السوق. وأرسل لها البنك ممرضةً عندما احتاجت لذلك. بعد أن تعافت من الكسر عادت للعمل مرتين في الأسبوع لتعويض ما خسرته من وقت في البنك. وهكذا يعمل بنك الزمن!
يقول الطالب إن الشعب السويسري يؤيد هذا البنك ويدعمه لأنهم لمسوا فوائده على المجتمع؛ فقد وُجد ذلك البنك لتبادل أو مقايضة خدماتٍ اجتماعية بدلاً من الأموال. ويقول عن فكرة بنك الزمن أنها فكرةٌ جميلةٌ جداً ومفيدةٌ ويمكن تطبيقها في كل مجتمعٍ من المجتمعات لكنها تتطلب انضباطاً وإحساساً بالمسؤولية وإخلاصاً في أداء العمل، مع إدارةٍ جادةٍ وحريصةٍ على الناس والمجتمع.

أحبتي في الله .. بنوك توفير الأموال كثيرةٌ، ولها أسماء مختلفة، ومشروعاتها متعددة .. منها ما هو إسلاميٌ ومنها ما هو ربويٌ، أما هذا البنك، بنك الزمن، ففكرته عبقريةٌ تتلخص في أنه يشجع كل مواطنٍ على إنشاء حسابٍ لإيداع الوقت عندما يكون قادراً على الإيداع، ويسمح له بالسحب من رصيده المدخر من الوقت عندما يحتاج إلى ذلك، وفي الحالتين: حالة الإيداع والسحب، تكون العملة المتداولة المقبولة من جميع أصحاب الحسابات في هذا البنك هي خدمةٌ اجتماعيةٌ في أي مجالٍ يرغب فيه عند الإيداع أو يحتاجه عند السحب، كمجال رعاية المسنين أو الأيتام أو المرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرها من مجالات.
ذكرتني هذه الفكرة بفكرةٍ مماثلةٍ إلى حدٍ ما، كنتُ قد تقدمت بها إلى وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة قبل انتهاء عملي بها، أعتقد أنهم قد أخذوا بها وطبقوها بعد تقاعدي ومغادرتي الإمارات، وتتلخص في الاستفادة من طاقة طلاب المدارس بنين وبنات وتوجيهها لخدمة المجتمع في جميع مجالات العمل التطوعي، وما أكثرها. فقد قمتُ بتصميم برنامج متكاملٍ لاحتساب وتسجيل ساعات العمل التطوعي لكل طالبٍ في المرحلة الثانوية، بحيث لا يحصل الطالب على شهادة إتمام المرحلة الثانوية إلا بعد أن يكون قد أنهى عدداً محدداً من ساعات العمل التطوعي الموثقة سواءً أثناء العام الدراسي أو خلال عطلات نهاية الأسبوع أو العطلات الأخرى كعطلة منتصف العام الدراسي أو العطلة الصيفية التي تمتد لشهور. وقد قمتُ بإعداد "دليل العمل التطوعي في المجال التربوي"، وكان الأول من نوعه في العالم العربي وقت إصداره، وربما حتى الآن، ضمنته البرنامج شاملاً الأهداف وآليات التنفيذ، والاستمارات الخاصة بذلك، وأساليب تهيئة الطلاب وأولياء أمورهم وتدريب المشرفين، وتهيئة المؤسسات الاجتماعية للإفادة من جهود العمل التطوعي للطلاب. كما قمتُ بالإشراف على التنفيذ التجريبي لهذه الفكرة في عددٍ من المدارس، ثم أجريت دراسةً ميدانيةً أثبتت نجاح مرحلة التنفيذ التجريبي، وقدمت نتائج العمل في شكل مخرجاتٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ وتربويةٍ، إلى جانب قياس العائد المادي لتلك الجهود مقدراً بمئات الآلاف من الدراهم خلال فترةٍ زمنيةٍ محدودةٍ وفي عددٍ قليلٍ من المدارس.
ولمن أراد أن يستفيد من هذا البرامج يمكنه تنزيل نسخةٍ من الدليل والاستمارات اللازمة للتطبيق من مدونةٍ أنشأتها خصيصاً لذلك سميتها "متطوعون بلا حدود".

التطوع لغةً، ما تبرع به الإنسان من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه. وهو من الفعل تَطَوَّعَ أي بَذَلَ ومَنَحَ دون مقابلٍ بنفسٍ طيبةٍ ورحابة صدرٍ. قال ابن منظور في لسان العرب: جاء متطوعاً أي طائعاً غير مكرهٍ.
أما التطوع اصطلاحاً، فهو مفهومٌ يشير إلى "تخصيص وقتٍ وجهدٍ بشكلٍ إراديٍ حرٍ دون الحصول على أرباح ماديةٍ، لمساعدة الآخرين والإسهام في تحقيق النفع والصالح العام"، أو هو "السَّعي إلى بذل المجهود الفكريّ أو العضليّ أو الماليّ أو العينيّ أو النَّفسيّ لفئةٍ من النَّاس محتاجةٍ للعون والمساعدة والمؤازرة على كافّة الصُّعد بصورةٍ فرديّةٍ أو جماعيّةٍ".

يقول أهل العلم أن الإسلام قد حث على العمل التطوعي؛ فهو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تحقق الترابط والتاَلف والتآخي بين أفراد المجتمع. ويعتبر الإسلام العمل التطوعي من أعمال الخير؛ يقول تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ فلا يدخل في العمل التطوعي الفروض والواجبات، وإنما يشتمل على: المستحب، والمندوب، والنفل والتطوع. فهو مستحبٌ لأن فعله ليس على سبيل الإلزام يُثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. وهو مندوبٌ حيث بيَّن الشرع ثوابه وندب ورغَّب فيه. وهو نفلٌ لأنه زائدٌ على الفرض والواجب. وهو تطوعٌ باعتبار أن فاعله يفعله من غير أن يُؤمر به حتماً. وقد توسع الشرع فيما يمكن اعتباره عملاً تطوعياً؛ فمن ذلك مثلاً: إماطة الأذى عن الطريق، إعانة الغير ومساعدتهم، إنقاذ الغرقى، إطفاء الحرائق، رعاية المسنين والمرضى، التصدق على المحتاجين، عمل المعروف، الإصلاح بين الناس، وغير ذلك من مجالاتٍ؛ يقول عزَّ وجل: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
وذكر لنا القرآن الكريم عدة أمثلة للعمل التطوعي؛ منها: تطوع ذي القرنين ببناء السد لحماية القوم من يأجوج ومأجوج الذين كانوا يفسدون في الأرض، وتطوع سيدنا موسى عليه السلام عندما ورد ماء مدين بالسقاية لامرأتين كانتا تذودان وأبوهما شيخٌ كبير، وتطوع الرجل الصالح لبناء الجدار الخاص بغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما. فالعمل التطوعي الذي فيه نفع الناس والإحسان إليهم يدخل في عموم العمل الصالح المثاب عليه والممدوح في مثل قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾. وفي مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. والمسلم مثابٌ على كل ما يعمل من أعمال الخير والبر والتقوى، مهما قلّ أو صَغُر هذا العمل؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. وجماع الأمر كله في هذه الآية الكريمة: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.
وقد وَسَّعَت الشريعة مفهوم العمل التطوعي حتى أنه من الصعب ألا يجد المسلم أي عملٍ خيرٍ يمكن أن يقدمه إلى مجتمعه بالفعل، كما لو كانت الرسالة الموجهة إلى كلٍ منا هي (تطوعوا يرحمكم الله!).
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى]. وقال صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيْهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيْطُ الأَذى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ سَلَامَكَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتَكَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ أَمْرَكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وإن َنَهْيَكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلبُ فِي الجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيق، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [من فرج عن أخيه المؤمن كُربةً من كُرب الدنيا فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلمٍ ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنَ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ]. وأوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال، وأكد على أن منها كف الشر عن الناس؛ فعَنْ أَبِي ذَرَ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: [الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ]. قَالَ قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: [أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا]. قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: [تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ]. قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: [تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ].

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؛ فعندما نزل عليه جبريل عليه السلام بأول الوحي ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، دخل على السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأخبرها الخبر وقال لها: [لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي]، فقالت خديجة: "كَلَّا أَبْشِرْ، فَوَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا، وَاللهِ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يتفقد الناس ليلاً فإذا ببيت شعر ٍينبعث منه أنين امرأةٍ على وشك الولادة وليس عندها إلا زوجها، فعاد إلى منزله وقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما: "هل لك في أجرٍ ساقه الله إليك؟"، قالت: "وما هو؟"، فأخبرها الخبر، وأمرها أن تأخذ معها ما يحتاج إليه الوليد من ثيابٍ وما تحتاج إليه المرأة وقِدراً وحبوباً وسمناً. فجاءت به؛ فحمل القدر ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت، وقال لامرأته: ادخلي إلى المرأة، وجلس هو مع زوجها وأوقد النار وطبخ ما جاء به، والرجل جالسٌ لا يعلم من هو. وولدت المرأة فقالت أم كلثوم من داخل البيت: "بَشِّر يا أمير المؤمنين صاحبك بغلام"، فتهيب الرجل لما سمع "يا أمير المؤمنين"، هدَّأ عمر من روعه، وأطعمه من الطعام الذي أعده، وأعطى زوجته أم كلثوم فأطعمت المرأة النفساء، وقال للرجل: "إذا كان غداً فأتنا نأمر لك بما يصلحك"، فلما أصبح أتاه ففرض لابنه في الذرية وأعطاه.
والعمل التطوعي ربما كان سبباً من أسباب المغفرة، ولو مع وجود كبائر الذنوب؛ كما غفر الله للبغي الزانية من بني إسرائيل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بينما كلب يُطِيفُ بركِيَّةٍ كاد يقتله العطش، إذ رأتْه بغيٌّ مِن بَغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها فسَقَتْه، فغُفرَ لها به]. الركية البئر، موقها خفها.

أحبتي .. كم نحن اليوم في حاجةٍ إلى غرس قيمة العمل التطوعي في نفوس أبنائنا أطفالاً وشباباً، وكم هو راقٍ هذا الدين الذي ارتضاه لنا المولى عزَّ وجل يُطَهِّر لنا نفوسنا ويُصلح قلوبنا ويجعلنا نتعاطف مع غيرنا من البشر مسلمين وغير مسلمين، بل ونحنو على الحيوانات والطيور فلا نؤذيها ونسارع في تقديم الطعام والشراب لها وتطبيبها إذا لزم الأمر. هل يوجد في العالم كله دينٌ أو شريعةٌ أو نظامٌ يكفل حقوق الإنسان وحقوق الحيوان إلى هذه الدرجة؟ ويعتبر صيانة بعض هذه الحقوق عبادةً وبعضها عملاً تطوعياً يُثاب فاعله؟
أحبتي .. إذا كانت سويسرا، وهي دولةٌ غير مسلمةٍ، تنظم تقديم الأعمال التطوعية عن طريق بنك الزمن، فما بالنا، ونحن دولٌ وشعوبٌ أعزها الله بالإسلام، لدينا ما يزيد كثيراً عن ذلك لكننا عنه غافلين. ومع ذلك يظل نموذج بنك الزمن، وبرنامج إنجاز عددٍ محددٍ من ساعات العمل التطوعي كشرطٍ للحصول على شهادةٍ دراسيةٍ أو مؤهلٍ جامعيٍ، وغيرهما من برامج مماثلةٍ نماذج تمثل الحد الأدنى لإحياء قيمة العمل التطوعي والنهوض بمستوى الخدمات المجتمعية في مجتمعاتنا.
(تطوعوا يرحمكم الله!)؛ واغرسوا في نفوس أبنائكم حب التطوع والمبادرة إلى عمل الخير حتى تتحقق السعادة والسكينة والطمأنينة لهم ولجميع أفراد المجتمع في الدنيا، ولتثقل موازين أعمالهم وأعمالكم في الآخرة بما يقدمونه من أعمال البر والإحسان إلى الغير؛ من يدري لعل مساعدة كفيفٍ أو رعاية مُسنٍ أو قضاء حاجةٍ لمريضٍ أو ضعيفٍ تكون هي المنجية.

اللهم اجعلنا ممن ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، واهدنا لخير الأعمال لا يهدي لخيرها إلا أنت سبحانك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/fGe9fm

ليست هناك تعليقات: