الجمعة، 13 يونيو 2025

دائرة الإحسان

 

خاطرة الجمعة /503

الجمعة 13 يونيو 2025م

(دائرة الإحسان)

 

كتب يقول: في ظهيرة يومٍ صيفيٍ خانقٍ، كانت الحياة تدور بسرعةٍ في الشوارع المُكتظة؛ سياراتٌ تمضي مُسرعةً، وأصواتٌ مُختلطةٌ تملأ الهواء بين باعةٍ يُنادون على سلعهم، ومُشاةٌ يُسابقون الزمن؛ منهم من هو في طريقه إلى عمله، ومنهم من هو عائدٌ إلى منزله، ومنهم من هو مُتجهٌ إلى مصلحةٍ يُريد إنجازها. وسط هذا الحشد كله، كنتُ واقفاً عند أحد التقاطعات، أنتظر ركوب الحافلة لأعود إلى بيتي بعد يوم عملٍ شاقٍ، وصلت الحافلة، واندفعت للنزول منها فتاةٌ بخُطواتٍ مُتعثرةٍ، وفي لحظةٍ خاطفةٍ سمعتُ صوت تمزقٍ حادٍ في ملابس الفتاة، وإذا بظهرها وقد انكشف وتعرى، تجمدت الفتاة في مكانها، أحاطتها نظرات المارة التي بدت وكأنها تُعرّي خوفها أكثر مما تُعرّي جسدها، عجزت الفتاة عن الحركة، وبدا أن عينيها تبحثان عن مخرجٍ من هذا الإحراج الذي لم يكن في الحُسبان، رفعت يديها في مُحاولةٍ يائسةٍ لستر ما انكشف من جسدها، لكن دون جدوى، لم أكن بعيداً عنها، رأيتُ نظرات الاستغاثة في عينيها، بدا لي كأنها تُطالبني بأن أتدخل، كأنها تقول لي: "أرجوك، أتوسل إليك، افعل شيئاً لستري"، تحركتُ دون تفكيرٍ، قبضتُ على أطراف قميصي استعداداً لخلعه، لكن في تلك اللحظة تذكرتُ أمراً جعلني أتردد للحظة!

تذكرتُ أن تحت هذا القميص، لم أكن أرتدي سوى فانيلةٍ داخليةٍ مُمزقةٍ، بالكاد تسترني أنا نفسي، وإن خلعتُ قميصي فسأظهر بمظهرٍ غير لائقٍ أمام الجميع، توقفت يداي في الهواء لجُزءٍ من الثانية، وأخذتُ أُفكر: هل عليّ أن أُعرِّض نفسي لهذا الإحراج؟ هل أرضى لنفسي أن أكون حديث الناس؟ لحظة ترددٍ قصيرةٍ بدت وكأنها دهرٌ، لكني اتخذتُ قراري وحسمتُ موقفي؛ فقد كانت نظرات الفتاة تحمل رجاءً صامتاً، بلا اكتراثٍ بما قد يُقال عني، وبغير اهتمامٍ لنظرات السُخرية التي قد تُحيط بي، خلعتُ قميصي دون أن أُفكر إلا في أمرٍ واحدٍ فقط هو "أن أظهر بمظهرٍ غير لائقٍ أمام الناس أهون عليّ من أن أترك فتاةً تواجه هذا الموقف وحدها"، مددتُ يدي بالقميص نحوها قائلاً: "لا تقلقي، استُري نفسك". كانت الفتاة مُرتبكةً، لكن عينيها حملتا امتناناً لا يحتاج إلى كلمات.

مرَّت خمس سنواتٍ على هذا الموقف، حتى كدتُ أن أنساه، تغيرت الحياة؛ فتزوجتُ وعشتُ أياماً مُستقرةً وجميلةً مع زوجتي. وفي إحدى الليالي، كنتُ جالساً في المنزل مُنتظراً عودة زوجتي من عملها المسائي، وكما يحدث كل يومٍ، معها مفتاح المنزل، فتحت الباب ودخلت؛ ففوجئتُ عندما رأيتها، كان المشهد أمامي غريباً جداً؛ إذ وقفت زوجتي عند الباب، مُنهكةً، مُرتديةً جلباباً رجالياً واسعاً! تجمدت نظراتي عليها، سألتها بدهشةٍ: "ما هذا الذي ترتدينه؟!" لم تكن تحتاج إلى تفسيرٍ طويلٍ، فقد بدت مُتأثرةً، تنفست بعمقٍ قبل أن تقول: "تمزق ثوبي أثناء نزولي من الحافلة؛ فانكشف ظهري، كنتُ مُحرجةً جداً، ولم أكن أعرف كيف أتصرف، لكن رجلاً مُسِّناً تقدَّم فوراً ودون ترددٍ، وخلع جلبابه وأعطاني إياه دون أن يقول شيئاً سوى: "لا تقلقي، استُري نفسك". سقطت كلماتها عليّ كالصاعقة، انفلتت من ذاكرتي صورةٌ قديمةٌ كنتُ ظننتُ أنني قد نسيتها، صورة تلك الفتاة التي مددتُ يدي لها بقميصي لتستر نفسها، في موقفٍ مُشابهٍ تماماً، بقيتُ مُتسمّراً للحظاتٍ، سألتُ نفسي: "هل لو كنتُ تجاهلتُ تلك الفتاة، وفضَّلتُ المحافظة على شكلي أمام الناس على ستر الفتاة، هل كان سيفعل هذا المُسِّن ما فعل مع زوجتي؟ هل هذه هي (دورة الإحسان) التي تدور دون أن نُدركها؟ شعرتُ بأن ما كنتُ فعلته ونسيته قد عاد إليّ، غمرت مشاعري موجةٌ من التأثر العميق؛ فإذا بدموعٍ ساخنةٍ تنساح على وِجْنَتَيّ وخُدودي، يا الله.. ما أكرمك.. ما أعظمك.. صدقتَ بوصفك نفسك بقولك: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. هدأت نفسي قليلاً؛ فنظرتُ إلى زوجتي، وابتسمتُ وقلتُ لها بصوتٍ مُتهدجٍ ما زال يغلب عليه التأثر: "الحمد لله، الخير عنده لا يضيع أبداً".

 

أحبتي في الله.. إنها (دائرة الإحسان)

تعكس قيمةً عظيمةً في الإسلام، وهي الإحسان الذي أمرَّ الله به في كل الأحوال، فالمواقف التي دارت فيها الأحداث تُظهر بوضوحٍ كيف أن الخير لا يضيع، بل إنه مُدخرٌ لصاحبه، يعود إليه من حيث لا يحتسب؛ يقول الله تعالى في كُتابه الكريم: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؛ فكُل عملٍ من أعمال الخير يرجع إلى صاحبه يوماً ما، بطريقةٍ ربما لا يتخيلها؛ وفي وقتٍ غالباً ما لا يتوقعه.

والإنسان يُجازَى بما يفعل، سواءً كان خيراً أو شراً؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ · وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؛ وهذا ينطبق تماماً على أحداث هذه القصة؛ فالرجل الذي عمل الخير وخلع قميصه يوماً ما -رغم الإحراج الذي تعرض له- عاد إليه الإحسان بذات الطريقة، عندما وجد زوجته ترتدي جلباب رجلٍ آخر سترها بنفس الطريقة التي ستر بها زوجها الفتاة قبل عدة سنوات.

 

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الستر؛ فقال في حديثٍ صحيحٍ: [مَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]، حيث يُجسد هذا الحديث أعظم درجات الإحسان التي يبذل فيها الإنسان ما لديه رغم حاجته إليه.

كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر: [وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ] وهذا يُرسّخ مبدأ الجزاء بالمثل، وأن جزاء الإحسان هو الإحسان، وأن الله سُبحانه وتعالى يسوق الخير لمن يبذله بصدق.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ، فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]؛ وهذا يُظهر أن فعل الخير ولو كان بسيطاً يكون له أثرٌ كبيرٌ في حياة الإنسان، ويكون سبباً في نجاته في الآخرة، وأن أعمال الخير التي ربما يستصغرها الإنسان ويحسبها قليلةً هي عند الله عظيمةٌ، ولا تضيع أبداً.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ]، وهذا يؤكد على أهمية الإحسان في العلاقات الإنسانية، وعدم انتظار جزاءٍ من البشر، لأن الجزاء الحقيقي يأتي من الله عزَّ وجلَّ.

 

ورد في الأثر: [البِرُّ لا يَبْلَى، والذنبُ لا يُنْسَى، والدَّيَّانُ لا يموتُ، اعْمَلْ ما شِئْتَ، كما تَدِينُ تُدَانُ]؛ أي أن الإنسان سيُجازَى على أعماله، فإن قدَّم خيراً، سيرى الخير يُردّ إليه، وإن عمل شراً، سيُردّ عليه شره بنفس الطريقة، وهذا يُكرِّس مفهوم الجزاء العادل الذي يسوقه الله للناس في الوقت المُناسب، فالرجل لم يكن ينتظر مُقابلاً حين أعطى قميصه للفتاة، لكن الله رتّب له أن تعيش زوجته نفس الموقف، ويحدث لها ما كان قد حدث للفتاة، بل وقيَّض الله لها مَن يسترها بنفس الطريقة التي كان زوجها قد اتبعها من قبل.

 

يقول الشاعر:

اَلنَّاسُ بِالنَّاسِ مَادَامَ اَلْحَيَاءُ بِهُمْ

وَالسَّعْدُ لَا شَكَ تَارَاتٌ وَهِبَاتُ

وَأَفْضَلُ اَلنَّاسِ مَا بَيْنَ اَلْوَرَى رَجُلٌ

تُقْضَى عَلَى يَدِهِ لِلنَّاسِ حَاجَاتُ

لَاتَمْنَعَنَ يَدَ اَلْمَعْرُوفِ عَنْ أَحَدٍ

مَا دُمْتَ مُقْتَدِراً فَالسَّعْدُ تَارَاتُ

وَاشْكُرُ فَضَائِلَ صُنْعِ اَللَّهِ إِذْ جَعَلَتْ

إِلَيْكَ لَا لَكَ عِنْدَ اَلنَّاسِ حَاجَاتُ

قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمْهُمْ

وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي اَلنَّاسِ أَمْوَاتُ

وقال آخر:

أَحْسِنْ إذا كانَ إِمْكانٌ وَمَقْدِرَةٌ

فَلَنْ يَدومَ عَلَى الإنْسانِ إِمْكانُ

وقال ثالث:

مَنْ يفعَلِ الخَيرَ لا يَعْدَمْ جَوَازيهُ

لا يَذْهَبْ العُرُفُ بَيْنَ اللهِ وَالنّاسِ

 

أحبتي.. الإحسان ليس مُجرد فعلٍ عابرٍ، بل هو دائرةٌ مُتصلةٌ تدور بين الناس، وما يزرعه الإنسان من خيرٍ في تعامله مع غيره، يجده أمامه في وقتٍ قد يكون هو الأكثر احتياجاً إليه؛ لذلك، ينبغي أن نُبادر إلى الإحسان دون انتظار مُقابل، واثقين من أن من يعمل الخير، فإن الله يرده له بطُرقٍ لا تخطر على باله.

إنها (دائرة الإحسان)، الخير الذي يُقدّمه الإنسان لا يفنى، بل يعود إليه في الدنيا، فضلاً عن ثوابه العظيم في الآخرة؛ فلنحرص على زرع الخير ليعود إلينا وقت حاجتنا إليه؛ فلنذكر الله دائماً ولا ننساه، فإنه لا ينسانا في مصالحنا، بل هو دائم الاطِّلاع على كلِّ أحوالنا، يصرِّفها حسب حكمته، لا يكون شيءٌ من ذلك إلا في الوقت الذي حدده له وأراده.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وحبِّب إلينا فعل الخيرات ومساعدة المحتاجين، واجعلنا اللهم ممن يقضون حوائج الناس ويقفون معهم وقت الشدة والضيق.

 

https://bit.ly/4e2fKxc

 

الجمعة، 6 يونيو 2025

أداء الأمانة

 

خاطرة الجمعة /502

الجمعة 6 يونيو 2025م

(أداء الأمانة) 

 

وقعت أحداث هذه القصة في شهر «ذو الحجة»، وفي مدينة «القُدس» حيث يوجد كان في الشام سوق اسمه سوق "مدحت باشا" أو "السوق الطويل"، وكانت العادة أن توضع الأمانات من أموالٍ وذهبٍ عند أي دُكانٍ في هذا السوق ويُغادر صاحبها الى الحج، وعند عودته يمر على صاحب الدُكان ويأخذ أمانته ويمضي الى بلده. كالعادة جاء رجلٌ من خارج الشام يحمل صُرةً حمراء توقف عند أحد الدكاكين وأعطى صاحب الدُكان هذه الصُرة طالباً منه أن يودعها عنده أمانةً الى حين عودته من الحج. وافق صاحب الدُكان بعد أن تأكد من عددها البالغ ثلاثة آلاف درهم، وتعرف عليه، وغادر الرجل الى الحج قاصداً بيت

الله الحرام. بعد عدة أشهرٍ عاد الرجل ودخل إلى الدُكان فلم يجد صاحبها؛ فسأل عنه فقال له العمال إنه في البيت وسيعود قريباً، وعند عودته طلب منه الرجل ماله؛ فسأله: "كم أودعتَ لدينا؟"، قال له: "ثلاثة آلاف درهم"، قال له: "ما اسمك؟"، قال له: "اسمي فلانٌ، ألا تذكرني؟"، سأله: "في أي يومٍ كان إيداع الأمانة؟"، قال: "يوم كذا"، وبدأ الرجل يرتاب من الأسئلة، سأله التاجر: "ما لون الصُرة التي وضعتهم بها؟"،

قال له: "صُرةٌ حمراء"، قال له: "اجلس قليلاً"، وأمر بإحضار طعام الغداء له واستأذن منه بأن عنده أمرٌ ضروريٌ وسيعود على الفور، انتظر الرجل وقتاً ليس بالقصير، وإذا بصاحب الدُكان قد جاء حاملاً معه صُرةً حمراء وفيها ثلاثة آلاف درهم، عدَّهم الرجل وتأكد منهم، وقال لصاحب الدُكان: "جزاك الله خيراً" وانصرف. وهو يمشي في السوق إذا به يرى شيئاً غريباً! اقترب ليتأكد فدخل إلى الدُكان وكانت المفاجأة هذه هي الدُكان التي وضع أمانته فيها!! قال لصاحب الدُكان: "السلام عليكم"، رد عليه صاحب الدُكان: "عليكم السلام ورحمة الله، تقبل الله منك الحج والحمد لله على سلامتك"، ودخل إلى غرفةٍ خلفية بالدُكان وعاد ليسلم للرجل أمانته؛ فقال له: "هذه صُرتك وفيها ثلاثة آلاف درهم"، أصاب الرجل الدهشة فقص عليه ما حصل وأنه أخطأ في الدُكان ودخل عند جاره فأعطاه المال ولم يُشكك بكلامه! ذهبا إلى التاجر الأول وسألاه: "كيف تُعطي الرجل المال وهو لم يضع عندك أمانته في الأصل؟"، فقال لهما: "والله الذي لا إله إلا هو إني لم أعرفه ولم أتذكر أن لديه أمانةً عندي، ولكن لما رأيتُ أنه واثقٌ من كلامه معي، وأنه غريبٌ عن هذه البلاد فكرتُ أني إن لم أعطه أمانته سيذهب مكسور الخاطر وسيُحدث أهله ويقول إن أمانته سُرقت منه بالشام، وسيذيع الصيت عن أهل الشام كلهم وليس عن الشخص الذي سرق منه الأمانة، وتذكرتُ كلام الله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾ فذهبتُ وبِعتُ بضاعةً كانت عندي بألف درهم فلم تكفِ لسداد الأمانة؛ فاستدنتُ من صديقٍ ألفاً وخمسمائة درهمٍ، وكان معي خمسمائة فأكملتهم له ثلاثة آلاف كما أخبرني"!

 

أحبتي في الله.. صاحب الدُكان الأول رجلٌ يتقي الله سُبحانه وتعالى. كان ذلك في الزمن الجميل، واليوم في زمن أصبح أكل أموال الناس بالباطل شطارةً، وأصبح الأمين عملةً نادرةً، وشيئاً غريباً بين الناس، إلا من رحم ربي.

 

وعن (أداء الأمانة) قصةٌ عجيبةٌ ومُؤثرةٌ حدثت أيضاً في شهر «ذو الحجة» لأحد القُضاة، كان في «مكة» في موسم حجٍ، وكان مُفلساً لا يملك شيئاً من حُطام الدنيا، وقد اشتد به الجوع ذات يومٍ؛ فخرج يبحث عن كِسرة خُبزٍ أو أي شيءٍ يسد به رمقه، فإذا به يجد صُرةً من الحرير الأحمر مُلقاةً على الأرض، ففتحها فوجد بداخلها عِقداً ثميناً من اللؤلؤ، تُقدر قيمته بخمسين ألف دينار، فأخذ الصُرة وقفل راجعاً، فبينما هو في طريقه، إذا برجلٍ ينشد العِقد، ويُنادي في الناس يقول إنه افتقد صُرةً من حرير، فمن وجدها فله خمسون ديناراً! فسأله: "ماذا يوجد بداخل الصُرة؟"، قال: "بداخلها عِقد لؤلؤٍ ثمين"، فسأله عن علامة العِقد؛ فلما أخبره بها دفع إليه الصُرة على الفور، فأخرج له خمسين ديناراً وناولها له، فأبى أن يأخذها، قائلاً: "ما ينبغي لي أن آخذ مُقابلاً على لُقطةٍ وجدتها وأعدتها لصاحبها، فإني ما أعدتُ لك هذا العٍقد طمعاً في الجائزة، بل طمعاً في رضا ربي"، فرفض أخذ المال وهو حينها يتضور جوعاً ولا يجد كِسرة خبزٍ يابسةٍ يسد بها رمقه، فدعى له ذلك الرجل بخيرٍ، ومضى كلٌ منهما لحال سبيله.

مكث هذا القاضي المُحدِّث في «مكة» أياماً ثم قرَّر أن يركب البحر لعله يُصيب شيئاً يتموَّل به، فبينما هو في السفينة في عرض البحر، إذ هبَّت عاصفةٌ هوجاء، لم تزل تتلاعب بسفينتهم حتى حطمتها وأغرقتها، فتعلق القاضي بلوحٍ من حُطام السفينة، وما زال مُتشبثاً بذلك اللوح والموج يتقاذفه حتى ألقى به على الشاطئ، وقد بلغ به الجهد والإعياء مبلغاً عظيماً، فنظر فشاهد مسجداً فاستجمع قواه وجرَّ نفسه حتى وصل إلى المسجد فارتمى في داخله، وهو لا يدري شيئاً عن هذا المكان، ولا يعرف أحداً من أهله. ثم لم يلبث أن دخل ذلك المسجد رجلٌ، فلما رآه سأله عن حاله، فعرَّفه بنفسه وقصَّ عليه قصته مع غرق السفينة؛ أتى له الرجل بطعامٍ وشرابٍ وثوبٍ يستدفئ به، وقال له إنهم يبحثون عن رجلٍ يستأجرونه ليؤمهم في الصلاة في ذلك المسجد، فلما أخبره أنه يحفظ كتاب الله تعالى، سارعوا إلى استئجاره إماماً للمسجد، فلما علموا أنه يُجيد الكتابة، استأجروه ليُعلِّم لهم أبناءهم.

قال القاضي راوي هذه الحكاية: "فتموَّلتُ، وأصبحتُ بخير حالٍ، فجاءوني يوماً وقالوا لي إن لديهم فتاةً يتيمةً يُريدون أن يُزوِّجوني بها، وألحُّوا عليَّ في ذلك فوافقتُ، فلمَّا أدخلوني عليها رأيتُ على صدرها عِقداً من اللؤلؤ، فلم أتمالك نفسي من إمعان النظر في ذلك العِقد، وأنا في حالٍ من الذُهول والعجب، إذ أنه هو ذات العِقد الذي وجدته في «مكة». فبينما أنا أُحملق في العِقد؛ إذا بالفتاة تخرج باكيةً مُنتحبةً، تقول: "إنه لا يُريد أن ينظر إلى وجهي، فهو لا يرفع بصره عن العِقد الذي على صدري". يقول الرجل: "فلما صليتُ بالناس صلاة الفجر ذكروا لي ما قالته الفتاة، فأخبرتهم أنني قد وجدتُ هذا العِقد قبل كذا وكذا مُلقىً على الأرض في صُرةٍ من حريرٍ أحمر ببيت الله الحرام، وقد أعدته لصاحبه، فكبَّروا جميعاً، حتى ارتجّ المسجد بتكبيرهم! تعجبتُ؛ فلا أعلم ما الذي دعاهم لذلك، فلما رأوا الدهشة تعلو وجهي أخبروني أنصاحب العِقد هو والد هذه اليتيمة، وليس لديه سواها، وكان يؤمهم في الصلاة بهذا المسجد، وأنه تُوفي قبل مُدةٍ، ولكنه منذ أن عاد من الحج لم يفتأ يدعو بهذا الدعاء، ونحن نؤمِّن من خلفه: {اللهمَّ إني لن أجد أحداً مثل صاحب العِقد؛ اللهم لقني به حتى أزوِّجه وحيدتي}، وها قد استجاب الله تعالى لدعائه فجاء بك وزوَّجك ابنته، وإن بعد موته، وهذا جزاء الأمانة وعِفة النفس"!

 

يقول أهل العلم إن الله سُبحانه وتعالى وصف المؤمنين الصالحين الذين كتب لهم الفلاح والرشاد في الدُنيا والآخرة بأنهم يرعون أماناتهم ويؤدونها حق الأداء؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِم ْرَاعُونَ﴾. والأمانة تشمل كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودُنياه قولاً وفعلاً، والأمانة هي أداء الحقوق، والمُحافظة عليها، فالمُسلم يُعطي كل ذي حقٍ حقه؛ يؤدي حق الله في العبادة، ويحفظ جوارحه عن الحرام، ويؤدي ما عليه تجاه الخَلْق. والأمانة خُلقٌ جليلٌ من أخلاق الإسلام، وهي فريضةٌ عظيمةٌ حملها الإنسان، بينما رفضت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها لعِظمها وثقلها؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾. ولقد أمرنا الله تعالى بأداء الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾.

ولقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمانة دليلاً على إيمان المرء وحُسن خلقه، قال: [لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ، فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ]. وكانت من آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع الوصية بالأمانة فقال: [وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا -وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ- أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ].

 

وعن (أداء الأمانة) قال الشاعر:

فَعَلَيكَ تَقْوى اللهِ فالْزَمْها تَفُز

إنَّ التَقيَّ هُوَ البَهيُ الأَهْيَبُ

وَاعْمَلْ بِطاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضا

إنَّ المُطيعَ لِرَبِهِ لَمُقَرَّبُ

أدِّ الأمانَةَ، وَالخيانَةَ فاجْتَنِبْ

وَاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَطيبُ المَكْسَبُ

 

أحبتي.. من الأمانة حفظ الودائع و(أداء الأمانة) لأصحابها عندما يطلبونها كما هي، مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المُشركين، فقد كانوا يتركون ودائعهم عنده صلى الله عليه وسلم ليحفظها لهم، وليس هذا بغريبٍ؛ فهو الذي كانوا يُلقبونه بالصادق الأمين. وقد حثنا عليه الصلاة والسلام على رد الودائع إلى أصحابها؛ فقال: [مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ].

اللهم اجعلنا من المُتقين، وممن يحفظون الأمانات ويؤدونها إلى أصحابها، واجعلنا اللهم من المُتعففين، الذين يردون ما عليهم من أماناتٍ، لا ينتظرون مُكافأةً من بشرٍ، ولا يرغبون في سُمعةٍ، بل خوفاً منك، وحرصاً على رضاك، وطمعاً في رضوانك.

https://bit.ly/4dQHJQ5                        

الجمعة، 30 مايو 2025

لُطف الله

 

خاطرة الجمعة /501

الجمعة 30 مايو 2025م

                      (لُطف الله)                         

 

قصةٌ مؤثرةٌ عن (لُطف الله) ورحمته بعباده رواها أحد الدُعاة السوريين المشهورين، قال -رحمه الله-:

وقع لي مرةً أن دعانا كبير أُسرتنا، الذي تُوفي من زمنٍ بعيدٍ -رحمة الله عليه- إلى جمعٍ في بيته يضم أفراد الأُسرة جميعاً، وأعدَّ لنا مائدةً وضع فيها كل ما لذَّ وطاب، وهيأ لنا كل ما يسرنا ويُرضينا. ذهبتُ إلى الاجتماع وكنتُ مُنشرح الصدر، فما لبثتُ فيه إلا نصف ساعةٍ حتى ضاق صدري، وأحسستُ كأن دافعاً يدفعني إلى الخروج وأنني إن بقيتُ اختنقت! استأذنتُ بالانصراف فعجبوا مني، وكنتُ أنا أعجب من نفسي ولا أعرف سبباً لهذا الذي حلَّ بي! وفسد الاجتماع وضاع ما كانوا يتوقعونه من المسرة والانبساط، وألقوا اللوم عليّ، وأنا أعذرهم ولا أدري لما فعلتُ سبباً.

كانت دار المضيف في سفح "جبل قاسيون" في منطقة اسمها "حي العفيف"، وخرجتُ، ومرَّ بي الترام وكان فارغاً، وهممتُ بأن أصعد إليه ثم أحسستُ كأن يداً قويةً تصدني عنه وتمنعني من ركوبه، فمشيتُ على رجليّ ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب! ثقوا أني أصف لكم ما وقع كأنه وقع بالأمس، وقد مرَّ عليه الآن أكثر من ثلاثين سنة.

ما مشيتُ إلا قليلاً، وكان الطريق مُقفراً والليل ساكناً، فوجدتُ امرأةً تحمل ولداً وتسحب بيدها ولداً آخر، وهي تنشج وتبكي وتدعو دعاءً خافتاً لم أتبينه، فاقتربتُ منها وسألتها: "ما بكِ يا أختي؟"، فنفرت مني، وحسبتني أبتغي السوء بها، ونظرت إليّ فلما رأت أنني كهلٌ وأنه لا يبدو عليّ ما تخشاه، نفضت لي صدرها وشرحت لي أمرها، فإذا قصتها أنها من "حلب"، وأن زوجها يعمل موظفاً في "دمشق"، وأنه طردها من بيته، وهي لا تعرف أين تذهب، وما لها إلا خالٌ لا تستطيع الوصول إلى مكانه. فقلتُ لها: "أنا أُوصلكِ إلى بيت خالكِ، واذهبي من الغد إلى المحكمة فارفعي شكواكِ إلى القاضي"، فازداد بكاؤها وقالت: "وكيف لي بالوصول إلى القاضي وأنا امرأةٌ مسكينةٌ، والقاضي لا يستقبل مثلي ولا يستمع إليه؟"، وكنتُ أنا يومئذٍ قاضي دمشق؛ فقلتُ لها: "لقد استجاب الله دعاءك يا امرأة؛ لأنك مظلومةٌ ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجابٌ، وأنا القاضي، وقد استخرجني الله من بين أهلي وجاء بي إليكِ لأقضي إن شاء الله حاجتكِ، وهذه بطاقتي تذهبين بها غداً إلى المحكمة فتلقينني".

 

أحبتي في الله.. تُذكرني هذه القصة بقصةٍ أخرى كان قد رواها نفس الداعية -رحمه الله- وهي تُبين وتوضح مدى (لُطف الله) بعباده، قال شيخنا:

حدثني سفير الأفغان سابقاً في "مصر"، أنه كُلف مرةً بمهمةٍ سياسيةٍ عاجلةٍ في "روسيا"، وخاف أن يمر ببلدٍ لا تؤكل ذبيحة أهله شرعاً، وكانت عنده في البيت دجاجتان فأمر بذبحهما، وأعدتهما زوجته لتكونا زاداً له في سفره، فحملهما معه. ولما وصل إلى "طشقند" دعاه شيخٌ مُسلمٌ إلى الغداء بمنزله، فكَرِهَ أن يأخذ الدجاجتين معه إلى دار الشيخ، ورأى في طريقه امرأةً تبدو -من لبسها- أنها مُسلمةٌ فقيرةٌ، معها أولادها، ورأى الجوع بادياً عليهم وعليها، فدفع إليها الدجاجتين. لم تمضِ ساعةٌ حتى جاءته برقيةٌ "أن ارجع فقد صُرف النظر عن المهمة". فكانت هذه الرحلة لأمرٍ واحدٍ، هو أن الدجاجتين اللتين كانتا في داره، لم تكونا له ولا لأهله، إنما كانتا لهذه المرأة وأولادها، فطبختهما زوجته وحملها هو بنفسه أربعة آلاف كيلومتر ليوصلهما إليها!".

 

إنه (لُطف الله)؛ فمن أسماء الله الحسنى ومن صفاته سُبحانه وتعالى أنه "اللطيف"، وهو وصفٌ يُفيد أنه المحسن إلى عباده في خفاءٍ وسترٍ مِن حيث لا يعلمون، ويُسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون، وهذا من لُطفه سُبحانه بعباده. وقد تكرر ذِكر هذا الاسم في القرآن الكريم سبع مراتٍ؛ خمسٌ منها متبوعةٌ باسم "الخبير"؛ ليركن العباد إلى الله تعالى، ويطمئنوا للُطفه سُبحانه مهما عظمت الكروب والشدائد، وازدادت الأخطار والمخاوف؛ ذلك أن علم المؤمن بلُطف الله تعالى به يُعينه على ذلك كله.

وكما أن من أسماء وصفات الله سُبحانه وتعالى أنه "الخبير" الذي يختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون، فإنه هو "العليم" ومعناه تعميم عِلمه سُبحانه بجميع المعلومات، وأنه "الحكيم" يختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، وأنه هو "الشهيد" يختص بأن يعلم الغائب والحاضر؛ فلا يغيب عنه شيءٌ، وهو أيضاً "الحافظ" فهو لا ينسى، وهو "المحصي" لا تشغله كثرة مخلوقاته عن العِلم؛ مثل أن حركة الشمس ودوران الأرض واشتداد الريح وتسخير السحاب وهطول الأمطار وسريان المياه في المحيطات والبحار والأنهار -وغير ذلك كثيرٌ- لا تشغله جلَّ وعلا عن العِلم بأدق الأمور في البِر والبحر كسقوط أوراق الشجر، وأماكن الحَب في ظلُمات الأرض؛ يقول تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.

 

وعن (لُطف الله) يقول تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، يقول المفسرون في معنى هذه الآية: إن الله سُبحانه وتعالى استدل بدليلٍ عقليٍ على عِلمه؛ فقال: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا والغيوب، وهو الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾. ومن معاني اسم "اللطيف"، أنه الذي يلطف بعباده، فيسوق إليهم البِر والإحسان من حيث لا يشعرون، ويعصمهم من الشر من حيث لا يحتسبون، ويُرقيهم إلى أعلى المراتب بأسبابٍ لا تكون منهم على بالٍ، حتى إنه يُذيقهم المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.

 

يقول أهل العلم إن لطفه سُبحانه يدور على معنيين عظيمين يحتاجهما المؤمن، وهما: أن علمه سبحانه دقَّ ولَطُف حتى أدرك السرائر والضمائر والخفايا، والمعنى الثاني: أنه يُوَصِّل لعباده المؤمنين مصالحهم، ويدفع عنهم ما أهمهم من أخطارهم بطُرقٍ لا يشعرون بها ولا يتوقعونها. وكم في هذين المعنيين من طُمأنينةٍ لقلوب المؤمنين، وربطٍ عليها، وتثبيتٍ لها.

وفي المعنى الأول آياتٌ عدةٌ تدل على دقة علم الله؛ يقول تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

وأما المعنى الثاني للُطفه سُبحانه، وهو إيصال المصالح لعباده بحيث لا يشعرون ولا يتوقعون؛ فيتجلى في رزق العباد، فهو سُبحانه خلقهم ويرزقهم، ورزقه لعباده بما يحتسبون وما لا يحتسبون، وبما يظنون وما لا يظنون، وما لا يحتسبونه ولا يظنونه من رزق الله تعالى هو من لُطفه سبحانه، قَدَّره لهم من حيث لا يشعرون؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾.

كما أن (لُطف الله) تعالى عامٌ وخاصٌ؛ فالعام يشمل كل خَلْقه مؤمنهم وكافرهم، بَرهم وفاجرهم؛ فهو سُبحانه خَلَقهم ويرزقهم ويشفيهم ويُعافيهم، ويدفع عنهم؛ لأنه سُبحانه ربهم فهو لطيفٌ بهم. ولطفٌ خاصٌ بأهل الإيمان يُحيطهم به، ولا يُقدِّر لهم إلا ما هو خيرٌ لهم ولو كرهوه؛ لأنه عليمٌ بما يُصلحهم، خبيرٌ بما ينفعهم، فإذا أصابهم بما يُحبون لَطُف بهم فرزقهم الشكر عليه ليتضاعف أجرهم، ويُبارك لهم فيما رزقهم، وإن أصابهم بما يكرهون لَطُف بهم فأنزل عليهم الصبر والرضا ليُوَفَوْا أجرهم بغير حسابٍ؛ فهو القائل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

وعن (لُطف الله) يقول الشاعر:

وكَمْ للهِ من لُطْفٍ خَفيِّ

يَدِقُ خَفَاهُ عَنْ فَهُمِ الذكيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسَرٍ

فَفَرَّجَ كُرْبَةَ القَلْبِ الشَّجِيِّ

وكَمْ أمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً

وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّةُ بالعَشِيِّ

إذا ضاقَتْ بِكَ الأحْوالُ يَوْماً

فَثِقْ بِالواحِدِ الفَرْدِ العَليِّ

 

أحبتي.. إنّ ألطاف الله تعالى هي ما يبعث في قلوبنا الشعور بالأمان، ويُقوي فينا الثقة بالمستقبل؛ فجميع الأقدار تمضي بألطاف الله وعِلمه المطلق وقُدرته الواسعة. إن (لُطف الله) تعالى يُحيط بنا في كل شئوننا، ويُسعفنا في كل المخاطر، ويؤمنّا من كل المخاوف، ولولا هذا اللُطف لامتلأت قلوبنا وحشةً وخوفاً ورُعباً.

اللهم لكَ الحمد على نعمة اللُطف بنا، ولكَ الحمد على كلّ ما أنعمتَ به علينا، ونسألك أن تزيدنا من بركات ألطافكِ، نحيا بها وننجو بها، ونسألك اللهم أن تُعيننا لنكون لُطفاء مع أنفسنا ومع غيرنا، وأن تهدينا إلى أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.

https://bit.ly/3FBcfRm

الجمعة، 23 مايو 2025

الأُم البديلة

 

خاطرة الجمعة /500

الجمعة 23 مايو 2025م

(الأُم البديلة)

هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت في «سلطنة عُمان». المكان: قاعة المُغادرين في مطار «مسقط» الدولي. الزمن: الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل. كتب الفتى صاحب القصة رسالةً لأُمه قال فيها:

أكتب إليك يا أُمّي من مطار «مسقط» الدوليّ، ها أنا الآن في القاعة رقم 23 بانتظار الحافلة التي سوف تُقلّني إلى سُلّم الطائرة في طريقي إلى «الهند». الجو باردٌ، وأحسُّ بانتعاشٍ لرؤيتي منظر الأطفال نائمين بأحضان أُمهاتهم؛ الهدوء يعم القاعة لم يقطعه سوى صوت المذياع الداخلي يُخبر المتأخّرين بالتعجيل لتخليص إجراءاتهم، أما أنا فقد أخرجتُ ورقتي وقلمي من سُترتي، وبدأتُ أكتب إليكِ مُستغلاً الوقت المُتبقي قبل موعد الإقلاع.

أتمنى أن تُفكري بكل حرفٍ سوف أخطّه لكِ، وتتمعّني فيه، وتسترجعي ذاكرتكِ إلى الوراء قبل أربعة عشر عاماً؛ عندما حملتِ بي، تسعة أشهرٍ من المُعاناة، خرجتُ بعدها إلى الدُنيا، ثم تركتيني بعد مُضي شهرين لتُكمل الشغّالة الهندية «كوماري» الحِمل الثقيل الذي أحسستِ بأنّه سوف يقتل أحلامكِ وطموحكِ الوظيفيّ، وفوق ذلك تفقدين رشاقتكِ، وتذبلين مثل الوردة التي يُمنع عنها الماء. نعم هذه هي الحقيقة التي دأبت «كوماري» تُلقّني إياها، وكأنها تقصد تنشئتي على حُبها وكُرهكِ أنتِ؛ حتى لا يضيع تعبُها سدىً، ولا أعلم ما الذي كان يدور في خَلَدها؟ الذي أعلمه الآن أنّ حُبي لها حقيقيٌ نابعٌ من قلبي الذي لم يعرف أُماً سواها! مُنذ نشأتي، في كلّ مرّةٍ تمنيتُ بأن تستقطعي من وقتك الثمين ولو بضع دقائق لكي أحكي لكِ ما يدور بخاطري، وأشرح لكِ ألمي لابتعادكِ عني، وابتعاد مشاعري لغيركِ، وأبوح لكِ بما أشعر به بعد أن عادت «كوماري» إلى بلدها «الهند». صدّقيني أُمي، وأنا أُناديك بهذا الاسم ولا أشعر به، ولا أشعر بأنه من قلبي، لكن هي الفطرة وحدها لقنتني هذه الكلمة، أما الإحساس الحقيقيّ فلا يوجد لديّ لكي أمنحكِ إياه؛ فقد استهلكته شغّالتنا الهندية، وشربتْ منه وارتوت ثم رحلَت، وتركت طفلها الذي لم تلدْه، ولكن ربّته على حُبّها! كانت تحكي لي كيف كانت الأيام الأولى بعد مُضي شهرين من ولادتي، كيف تركتِيني وعُدتِ إلى عملكِ، مع أنّه تمّ منحكِ إجازة ثلاثة أشهر، ولكنّ حُبّكِ لعملكِ أفقدكِ إحساسكِ بطفلك. عند بلوغي سن الفهم لم أجد إلا «كوماري» (الأُم البديلة) التي تُخفف مُعاناتي وصرخاتي وأنيني وتوجعي، كانت تسهر لراحتي، وتجلب الدواء لي، وتسقيني من الحليب المُصنّع، وأنتِ يا من تدَّعين بأنّي طفلكِ -بالاسم فقط- تغطّين في سُباتٍ عميقٍ لا تُحبين سماع بكائي، يؤذيك صراخي، ويُنغّص عليكِ نومكِ الهانئ، فضّلتِ النوم المريح على رعايتي والاهتمام بي؛ حتى تقومين في الصباح وتذهبين إلى عملكِ نشيطةً، وقبل خروجكِ إلى العمل تمرّين بي طابعةً على خدي قُبلةً صغيرةً، وكأني دميةٌ تتركينها صباحاً ثم تعودين إليها بعد الظُهر. كم مرّةً بكيتُ وأنا ابن السنتين أجري خلفكِ صباحاً وأنتِ ذاهبةٌ إلى العمل، ومساءً وأنتِ ذاهبةٌ للتسوّق، أتمنى أن تأخذيني بحُضنكِ، ولكن دون جدوى؛ فتضمني «كوماري» إلى حُضنها الدافئ، وقلبها الحنون والبلسم الشافي. كبرتُ ولم أجدكِ أمامي، وجدْتُها هي تُلاعبني تُلاطفني، تسقيني إذا عطشتُ، تُطعمني إذا جُعتُ، تُبدل لي ملابسي إذا اتّسخت، تمسح دمعتي إذا بكيتُ، تقوم على راحتي حتى عندما أمرض وأحتاج إليكِ لا أجدكِ لكني أجدها، هي من تنام بجانبي، تهتم بأمري، خاصةً إذا مرضتُ، كانت هي من تُعطيني الدواء، وتقيس حرارتي، ولا تنام إلا إذا أغمضتُ عينيّ. مرّت السنوات وكبر حُبي لها وصغرتِ أنت بعينيّ، وبدأتُ أعي كل ما حولي وأفهم كل شيءٍ، وكبر تعلقي بها لأنها لم تُفارقني منذ اليوم الأول لي بالمدرسة؛ كانت تُعدّ لي الإفطار، وتنتظرني عند موقف الحافلة لكي تتأكد من ركوبي سالماً، ولا تكتفِ بذلك إنما تُلوِّح بيدها إلى أن تُفارق الحافلة ناظرها، كانت لي هي (الأُم البديلة)، وأنتِ بالجانب الآخر تضعين المساحيق، وتتزينين للخروج للعمل، ولا تُكلفي نفسكِ ولو بالسؤال عني، وعند عودتي من المدرسة أجدها تنتظرني عند باب البيت تحمل حقيبتي عني، وتُغيِّر ملابسي، وتُجهز لي الغداء. وأنتِ يا من تُدعين أُمي لم أستطع أن أتذكر لكِ -ولو بصورةٍ في مُخيّلتي- أي موقفٍ يشفع لكِ اليوم، فها أنا قد كبرتُ وبلغتُ، والآن أحمل حقائبي مُعلناً حسم الصراع الذي يدور في داخلي مُنذ اليوم الأول لسفر شغّالتنا «كوماري»، وإلى اليوم، لم أعد أستطيع الجلوس؛ فقد ضاقت الدنيا عليّ بما رحبت، وبلغتُ من الوجع والألم والاشتياق مبلغاً لا أُريد أن يُؤذَىٰ أحدٌ به، فإني أُحسّ بأن رأسي سوف ينفجر، ومثلما تركتموني أنتِ وأبي وأنا طفلٌ صغيرٌ، ما الذي يُضيركم وأنا شابٌ يافعٌ ابن أربع عشرة أن أختار حياتي وما أُريد؟

وداعاً أُمّاه، كم تمنّيتُ أن تخرج هذه الكلمة من قلبي، حتى وأنا أُودّعك الوداع الأخير، ولكنكِ قتلتِ فيّ كلّ شيءٍ جميلٍ، وكلّ إحساسٍ ومشاعر للأُم في صدري.. لقد ذبحتيني من الوريد إلى الوريد، هذا ما جنيتِ، وجناه أبي عليّ.

اعذريني الآن؛ فقد جاءت الحافلة التي تُقلنا إلى سُلّم الطائرة المُتّجهة إلى حيث تعيش أُمّي لأبقى معها بقيّة عُمري. ونصيحةٌ لكِ لا تُحاولي البحث عنّي، أو إرغامي على العودة؛ فإني إن عُدْتُ أعود جُثةً هامدةً لا فائدة منها. نصيحةٌ أخرى لكِ أنتِ ولأبي إذا أنجبتم ابناً آخر اتخذوني درساً لبقيّة حياتكما.

 

أحبتي في الله.. القصة مؤثرةٌ جداً، ورغم أن الفتى ما يزال في سنٍ صغيرةٍ، فإنه استخدم لغةً قاسيةً في مُخاطبة أُمه، تجاوز فيها كل الحدود، كما يبدو أن سفره كان على غير رغبة والديه ودون علمهما، إلا أن الفتى عبَّر عن مشاعره وأحساسيه بصراحةٍ، وأوضح في طيات ما كتب آلام المحروم من حنان أُمه، وهي أمام عينيه، ووجد الحنان لدى الشغالة فكانت له بمثابة (الأُم البديلة). طمست قسوة قلب الفتى بصيرته حتى شرد عن الحق والواجبات والأصول، إلا أنه أوضح بصدقٍ دون مُجاملةٍ أو مُواربةٍ شعور الأطفال الذين لم يعرفوا أحضان أُمهاتهم، بل عرفوا أحضان الشغالات.

لقد كانت الرسالة التي كتبها لأُمه بمثابة جرس إنذارٍ يُنبه الجميع، ويُلفت النظر إلى خطورة هذا الأمر، خاصةً إذا كانت الشغالة ليست مُسلمةً، وتنتمي إلى ثقافةٍ مُغايرة لثقافتنا.

 

يقول أهل العِلم إن من أهم وظائف المرأة -كما حددها الشرع- رعاية الأبناء؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [.. والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا..]، ولذا جعل الشرع الحضانة حقاً للأُم خاصةً في مراحل الطفولة الأولى.

والأصل أن محل تواجد المرأة هو البيت؛ لقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. والمرأة لا تحتاج للخروج إلى العمل إلا أن تكون هناك حاجةً لها لا يسدها رجلٌ ‏من أهلها، أو أن يحتاج المُجتمع المُسلم حاجةً لا تقوم بها إلا النساء، وأن يكون هذا العمل بين ‏النساء خاصةً لا اختلاط فيه مع الرجال.

والأصل هو بقاء المرأة في بيتها؛ تُربي أبناءها، وترعى شئؤن بيتها بنفسها، وفي ذلك من المصالح ما لا يتحقق بدونه، ويترتب على تركه من المفاسد ما الله به عليم. ولا ينبغي للمرأة أن تُخالف ذلك الأصل فتخرج من بيتها، وتترك تربية أبنائها للشغالة التي تتحول إلى (الأُم البديلة)، إلا لضرورةٍ، فعليها حينئذٍ أن تلتزم بالضوابط الشرعية؛ أن لا تعمل في مكانٍ تختلط فيه مع الرجال، وإن كانت طبيعة عملها تستوجب التعامل مع الرجال فليكن ذلك بدون اختلاطٍ، وبأقصى درجات الحذر؛ فتكون مُتحجبةً بالحجاب الشرعي، ومُحتشمةً، وإن اضُطرت إلى مُكالمة الرجال فلا تخضع بالقول؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾، وألا تسمح لنفسها بالخلوة بأحدٍ من الرجال. وللأُم -في حالة الاضطرار- أن تستأجر شغالةً تُعينها على أعمال المنزل، مع مُراعاة الضوابط الشرعية التي منها أن تكون الشغالة مُسلمةً، وأن تلتزم بالحجاب، وأن تقوم بالعبادات كالصلاة والصيام، مع مُراعاة عدم دخول الرجال عليها، وعدم الخلوة بها، وعدم الاختلاط المُحرم. كما ينبغي أن لا يوكل لها أمر تربية الأولاد؛ لأن تربيتهم مسؤولية الوالدين، ومن مفاسد إسناد تربيتهم للشغالات أن ذلك يُفقد الطفل الجانب العاطفي تجاه والديه، لا سيما أُمه، فيفتقد الحنان الذي هو العُنصر الأساسي في التوجيه والإرشاد للأطفال.

 

ويقول عُلماء الاجتماع إن أغلب الأُسر في مُجتمعاتنا العربية بصفةٍ عامةٍ، والخليجية بصفةٍ خاصةٍ، تعتمد اعتماداً كبيراً على الشغالات في إدارة أمور البيوت وتربية الأطفال. وهذه ظاهرةٌ من الظواهر الاجتماعية التي أصبحت مخاطرها تُهدد كيان الأسرة، وتؤثر سلباً على تنشئة الأجيال؛ ففي ظل انشغال الوالدين يكون للشغالات تأثيرٌ كبيرٌ على تربية الأبناء، وأخطر هذا التأثير ما يكون على المُعتقدات الدينية بشكلٍ خاصٍ، وعلى الجوانب الثقافية التي يجب أن يتربى الأبناء عليها؛ إذ يكتسبون كثيراً من العادات والتقاليد الدخيلة على مُجتمعاتنا، فضلاً عن التأثيرات السلوكية والأخلاقية؛ وما يستتبع ذلك من عقوق الأبناء لأُمهاتهم وآبائهم، وتفضيلهم الشغالات اللاتي يُحْسِّن العناية بهم أكثر من أُمٍ تخلت عن واجبها، وأبٍ مشغول؛ وصدق من قال:

لَيَسَ اليَتيمُ مَنْ انْتَهَى أبَوَاهُ

مِنْ هَمِ الحَياةِ وَخَلَّفاهُ ذَليلا

إنَّ اليَتيمَ هُوَ الْذي تَلْقَى لَهُ

أُمّاً تَخَلَّتْ أَوْ أَباً مَشْغولا

 

وفي المقابل؛ فإن بعض الشغالات الأجنبيات غير مؤتمناتٍ على الأطفال، وقد سمعنا عن الكثير من جرائمهن الفظيعة، ومنها: تعرض الطفل للعُنف، والمُعاملة القاسية، والعقاب المُبالَغ فيه، والضرب المُبرح، وتَعَمُد إحداث الأذى، مما قد يؤدي إلى الموت أو التشويه أو الإصابات الشديدة، فأين نحن من قول الشاعر:

أوْلادُنا بَيْنَنا

أكْبادُنا تَمْشي عَلَى الأرْضِ

إنْ هَبَّتْ الريحُ عَلىٰ بَعْضِهِمْ

لَمْ تَشْبَعْ العَيَنُ مِنَ الغَمْضِ

 

إن مشاهدة الواقع، ومصير البيوت والأبناء الذين تربوا في أحضان الشغالات، دليل إثباتٍ لا شك فيه على تلك الجناية التي تُرتكب في حق الأبناء حين يُتركون لتقوم الشغالة بتربيتهم، وأية جنايةٍ أكبر من ذلك؟ وأي ثمنٍ أفدح من فقد الطفل عاطفته تجاه والديه -وخاصةً أُمه- وتعلقه بالشغالة التي ربته؟

 

أحبتي.. يقول أحد المُهتمين بهذا الشأن إن الأُم المُستهترة التي تخلت عن دورها ومسؤوليتها، واعتقدت أنها قائمةٌ بواجبها إن هي قدمت لأبنائها الطعام والشراب والرعاية بواسطة الشغالة (الأُم البديلة)، وتحرمهم من حنانها وعطفها ورعايتها بسبب كسلها، وضعف همتها، وركونها إلى الراحة والدَعة، أو انشغالها بالذهاب إلى العمل، أو الخروج للأسواق والزيارات، أو تعلقها بأسباب اللهو: التلفاز، والمجلات، والاتصال بالهاتف، ومُتابعة مواقع التواصل الاجتماعي، فلا ترى ابنها إلا نادراً، مثل هذه الأُم تندم -حين لا ينفع الندم- حين ترى ابنها أشد تعلقاً بالشغالة منها. نصيحتنا لكل أُمٍ أن تتقي الله ولا تحرم أبناءها من حنانها، وأن تهتم ببيتها الذي هو مملكتها، وأن تصرف جُهدها للاهتمام بزوجها وتربية أبنائها ورعاية مصالحهم؛ فتقر عينها في الدنيا برضى الزوج ومحبة الأبناء، وفي الآخرة برضا المولى عزَّ وجلَّ، ولتتذكر كل أُمٍ إن الأمومة نعمةٌ، محرومٌ منها غيرها، فلتحمد الله وتشكره عليها؛ فبالحمد والشكر تدوم النعم.

اللهم اهدنا، واهدِ زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا ونساء المسلمين، إلى ما فيه الخير والصواب والرشاد والسداد.

https://bit.ly/4jhExhF

الجمعة، 16 مايو 2025

تأثير القرآن

 

خاطرة الجمعة /499

الجمعة 16 مايو 2025م

(تأثير القرآن)

مُسلمٌ جديدٌ كان نصرانياً بروستانتياً من «كندا»، وكانت عائلته تعيش على هواها؛ فهي غير مُتدينةٍ، لكنه كان شغوفاً جداً بمعرفة مَن خلقه؟ وما هو الدين الحق؟ ومَن هو الإله الذي خلقه؟ يروي قصته فيقول:

قررتُ شراء جميع الكُتب العقائدية لدراستها، لكن بالطبع إلا القرآن الخاص بالمُسلمين؛ فهُم -كما يُصورهم الإعلام الغربي وكما يقول عنهم أعداؤهم- إرهابيون. قرأتُ كل تلك الكُتب، وخرجتُ بنتيجةٍ واحدةٍ هي أن جميع هذه العقائد لا يُمكن أن تكون من لَدُن الله خالق هذا الكون الرهيب. كنتُ مُتفوقاً في دراستي، ولدَيّ ولعٌ كبيرٌ جداً بالثقافة والعُلوم، فحكيتُ لزملائي في الجامعة مُشكلتي التي تؤرقني ليل نهار؛ فأهداني زميلٌ فلسطينيٌ كتاباً أخبرني بأنه نسخةٌ من القرآن الكريم مُترجَماً إلى اللغة الإنجليزية، وقال لي: "اقرأ هذا؛ وأؤكد لك أنك ستجد فيه حتماً ما تبحث عنه"، لم أشأ أن أُحرجه أمام الزملاء خصوصاً أنه لم يكن صديقاً بل كنتُ في الأصل أنفر منه، فاستلمتُ منه الكتاب الذي أعطاني إياه، ثم عندما عُدتُ إلى المنزل ألقيته على الأريكة وقلتُ: "لن أقرأ هذا الشيء"!

وفي أحد الأيام كان عندي فراغٌ في الوقت، وأنا أجلس على الأريكة لمحتُ الكتاب بجواري فتذكرته، وقلتُ أُسلّي نفسي فقط بعض الدقائق؛ لأستمتع بما أتوقعه فيه من أوامر القتل والاغتصاب والغوغاء و..و..و..، فتحته فوقعت عيناي مُباشرةً على الآيتين: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾، ضحكتُ وقلتُ: "حدودٌ بين البحار؟! هذا كلامٌ خطأٌ تماماً" فأغلقتُ الكتاب وألقيتُ به مرةً أُخرى، ثم فتحتُ التليفزيون أمامي فوجدتُ برنامجاً لاثنين من أكبر عُلماء «كندا» يشرحان تجربة غوصهم في «خليج هدسون» الشهير بشمال شرق البلاد، ويوضحون ما لا يعرفه الناس أن المياه بينها حواجز تفصلها عن بعضها البعض؛ لأن المياه أجناسٌ مُختلفةٌ، وكل جنس مياهٍ مُختلفٌ عن الجنس الآخر؛ حيث كل مياهٍ لها خصائص مُحددةٌ مُختلفةٌ عن غيرها، وليس كما نعتقد أن المياه كلها واحدةٌ مُتداخلةٌ في بعضها، بمجرد النظر السطحي دون دراساتٍ مُتعمقةٍ وتحليلاتٍ بالأجهزة؛ فكل مياهٍ لها كثافةٌ ودرجة حرارةٍ وعناصر ومُلوحةٌ وضغطٌ وأحياءٌ غليظةٌ وأحياءٌ دقيقةٌ تختلف عن غيرها من المياه الأخرى، ولو انتقلت الأحياء من مياهٍ لأخرى تهلك وتموت، فوجدنا أن هناك حواجز تمنع انتقال الأحياء من مياهٍ لأخرى، وتلك الحواجز موجودةٌ بصورةٍ أُفقيةٍ بين مُختلف البحار والأنهار والمُحيطات، وموجودةٌ أيضاً رأسياً في نفس المياه، فقد غُصنا 20 متراً في نوعية مياهٍ حسب قياساتنا بالأجهزة، ثم وجدنا طبقةً ثانيةً مُختلفةً، سُمكها مترين فقط، فانتبهنا لذلك واهتممنا ثم هبطنا إلى طبقةٍ ثالثةٍ عميقةٍ سُمكها يمتد حتى القاع، وفي الحقيقة هذه الطبقة الثانية ما هي إلا حاجزٌ بين الطبقتين العُليا والسُفلي، وليست طبقةً بحد ذاتها! فتذكرتُ ما قرأته للتو في القرآن -بقَدَر الله بالطبع- وقفزتُ من على الأريكة وكأن شيئاً ما دفعني وحرَّكني! نظرتُ إلى القرآن باندهاشٍ وبتعجبٍ شديدين، وسألتُ نفسي: "ما هذا؟ كيف يكون مذكوراً في كتابٍ منذ 14 قرناً أن بين المياه حواجز تفصلها؟!". اقشعّر جلدي كاملاً، ووقف شعر جسمي، وقلتُ: "هل هذا فعلاً كتاب الله وليس من تأليف مُحمد؟"، هل هذا توفيقٌ من الله بأن أقرأ تلكما الآيتين ثم أُشاهد البرنامج التلفزيوني بعد ذلك مباشرةً؟! هل تلك مُجرد صُدفة؟". شعرتُ أن الله معي تماماً، بل ويُخاطبني، ويُريد أن يهديني لأنني بحثتُ عنه طويلاً بصدقٍ؛ فقررتُ قراءة القرآن بالكامل بتركيزٍ تامٍ وتمعنٍ واحترامٍ شديد. أول ما لفت نظري أن هذا الكتاب يتحدث عن جميع العلوم: فلكٌ وفيزياء وكيمياء وجغرافيا وطبٌ وعلوم الأجنة ووو ... إلخ. كيف هذا؟ كيف لرجلٍ أُميٍ عاش حياته كلها في الصحراء منذ 14 قرناً من الزمان أن يخوض في كل شيءٍ؟ بالتأكيد سيقع في أخطاء وسيفضح نفسه، ما كُل تلك الجُرأة؟ شخصٌ غير سيدنا مُحمدٍ كان شغل نفسه بتحليل وتسهيل جميع المُحرَّمات لجذب الناس، وليس أن يخوض في كل العلوم ويفرض أقسى شريعةٍ بين العقائد؛ فواضحٌ أنه فعلاً رسولٌ مُبّلِغٌ لما أُنزل إليه من الله سُبحانه وتعالى. والعجيب أنه بمراجعة تلك العلوم وُجد أنها كُلها صحيحةٌ 100% بل وتسبق علومنا في كثيرٍ من الأحيان، فكيف لكتابٍ منذ 14 قرناً من الزمان أن يكون بهذه الجُرأة وتلك الصحة؟ لا محالة، إنه كتاب الله عزَّ وجلَّ نزل إلينا من خارج كوكب الأرض، الفارق بينه وبين الكُتب الأخرى شاسعٌ، بل لا مُقارنة أصلاً من الأساس؛ فأعلنتُ إسلامي وحاولتُ إقناع أُسرتي لكنهم رفضوا؛ فالله ليس في قُلوبهم مثلي، بل الدُنيا فقط هي التي في قُلوبهم!".

 

أحبتي في الله.. إنه (تأثير القرآن) على نفوسٍ صدقت مع نفسها، وأخلصت النية لله سُبحانه وتعالى أن تبحث عن الحق لاتباعه، فلما عرفته لم تنكث، ولم تحنث بوعدها، ولم تتكبر، ولم تجحد، بل سلَّمت وأسلَّمت وخشعت.

مثالٌ آخر نرى فيه (تأثير القرآن) العظيم في نفس واحدٍ من الذين حازوا الشُهرة والمال، وجمعوا مُتع هذه الحياة الدنيا الزائلة، حتى ظنَّوا أنهم أسعد الناس، إلى أن استمع للقرآن الكريم؛ فعلِم أنه لم يعرف للسَّعادة طريقاً، ولم يذق لها طعماً يُقارب السعادة واللذة التي شعر بها عند استماعه للقرآن العظيم، فأعلن إسلامه وأصبح من الدُعاة إلى هذا الدِّين، هذا الرجل هو المُطرب السابق البريطاني المشهور «كات ستيفنز» الذي قال: "في تلك الفترة من حياتي -يعني قبل إسلامه- بدا لي وكأنني فعلتُ كلَّ شيءٍ، وحقَّقتُ لنفسي النجاح، ونلتُ المال والشُهرة وكل شيءٍ، ولكني كنتُ مثل القرد أقفز من شجرةٍ إلى أخرى، ولم أكن قانعاً أبداً، حتى كانت قراءتي القرآن؛ كانت لحظةً فارقةً؛ إذ كانت بمثابة توكيدٍ لكل شيءٍ بداخلي كنتُ أراه حقاً، وكان الوضع مثل مواجهة شخصيتي الحقيقية".

وهذا عالِمٌ ألمانيٌ كانت الآيتان الكريمتان ﴿أَيَحْسَبُ الإِِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ . بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ سبباً في أن أسلم وأعلن إسلامه على ملأٍ من العُلماء، ولمَّا سُئل عن سبب إسلامه قال: هذه الآية ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾؛ فإن الكشف عن أمر بصمات الأنامل لم تعرفه أوروبا -فضلاً عن العرب- إلاَّ في زماننا هذا؛ إذن فهو كلام الله لا كلام البشر".

وأحد الذين كان (تأثير القرآن) سبباً في إسلامهم قال حين سُئِلَ عن ذلك: "لقد تتبَّعتُ كلَّ الآيات القرآنية التي لها ارتباطٌ بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستها من صِغري وأعلمها جيداً، فوجدتُ هذه الآيات مُنطبقةً كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمتُ؛ لأنني تيقنتُ أن مُحمداً -صلى الله عليه وسلم- أتى بالحقِّ الصُّراح قبل ألف سنةٍ، مِنْ قَبْلِ أن يكون هناك مُعلَّمٌ أو مُدرسٌ من البشر، ولو أن كل صاحب فنٍ من الفنون، أو علمٍ من العُلوم، قارن كل الآيات القرآنية المُرتبطة بما تعلَّم -كما قارنتُ أنا- لأسلم بلا شكٍ، إنْ كان عاقلاً خالياً من الأغراض".

وعن (تأثير القرآن) في النفوس يقول أحدهم عن سبب إسلامه: "حضرتُ مُناظرةً بين مُسلمٍ ومسيحيٍ، واقتنعتُ أثناءها بما سمعته من سورةِ مريم؛ إذ أدركتُ أن الإسلام هو دين الحق".

أما هذا -وقد كان يهودياً قبل أن يُسلم- فيقول: "حينما شرعتُ في مُطالعة القرآن الكريم للمرة الأولى وَلِعْتُ به وَلَعَاً شديداً، ولا أظن أن ثَمَّةَ شيئاً يؤثر في المرء الذي أدرك حقيقة الديانة الإسلامية وروحيتها بقدر تأثير تلاوة آيات القرآن المجيد على مشاعره، فيغمره الإحساس الفيَّاض باتصاله الرُّوحاني، وتجتذِبُه مَهَابةُ الإله جلَّ جلالُهُ، فيقرّ بكل خشوعٍ بعجزه وضعفه أمام كلام ربه العظيم".

و(تأثير القرآن) كان واضحاً على هذه الشابة البريطانية التي تحدثت عن تجربتها الذاتية مع القرآن العظيم فقالت: "لن أستطيعَ مهما حاولتُ، أن أَصِفَ الأثر الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أكد أنتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتني ساجدةً لخالق هذا الكون، كانت هذه أول صلاةٍ لي في الإسلام".

 

إنه (تأثير القرآن) الذي وصفه الله عزَّ وجلَّ بالعديد من الصفات منها: ﴿هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ﴾، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾، ﴿أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾، و﴿جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.

 

إنه (تأثير القرآن) كتاب الله العظيم، الذي قيل في وصفه أجمل وأفضل وأشمل وصف: "فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الألْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا: ﴿إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ﴾، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".

بل ووصفه أحد عُتاة الكُفار من «قُريش» بقوله: "واللَّهِ إنَّ لهُ لحلاوةً، وإنَّ عليهِ لطلاوةً، وإنَّ أعلاهُ لمُثمرٌ، وإنَّ أسفلَهُ لمُغدقٌ، وإنَّهُ ليعلو وما يُعلَى عليه".

 

أحبتي.. هذه لمحاتٌ بسيطةٌ مما أثرَّ به القرآن في نفوس غير المُسلمين فأسلَموا، فما هو (تأثير القرآن) في نفوسنا نحن الذين وُلدنا مُسلمين؟ هل نواظب على قراءته بالأساس؟ هل لنا وِردٌ يوميٌ منه؟ هل نؤْثره بأفضل أوقاتنا أم نُفضِّل عليه ما هو دونه فلا يبقى له إلا فضلة أوقاتنا؟ هل نُحْسِن تلاوته؟ هل تعلمنا تجويده؟ هل نفهم ما أشكل علينا من كلماته؟ هل عَقِلنا معانيه؟ هل اطلعنا على تفسيره؟ هل تدَّبرنا مقاصد آياته؟ هل عرفنا أحكامه؟ هل نفذَّنا ما به من أوامر؟ هل تجنَّبنا كل ما نهانا عنه؟ هل تحاكمنا به؟ هل ارتضيناه منهج حياةٍ لنا ولأُسرنا ومُجتمعاتنا؟ هل علَّمناه لأبنائنا؟ أم اكتفينا بأن اتخذناه زينةً في منازلنا؟ وتبركنا به في سياراتنا؟ ووزعناه هدايا في مُناسبات عزاء أحبابنا؟ وجعلنا منه أحجبةً وتمائم لأبنائنا؟ وصنعنا نماذج منه من الذهب تُزين به نساؤنا صدورهن؟!

على كلٍ منا أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، ويُجيب عنها بصدقٍ ويعمل بجدٍ حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً له، وهو الذي وصفته السيدة عائشة بقولها: "كان خُلُقُه القُرآنَ".

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هُم أهلك وخاصتك، واجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً، وفي القيامة شفيعاً، وعن النار سِتراً وحجاباً، وإلى الجنة قائداً، وإلى الخير دليلاً وإماماً، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا ممن يُحل حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويعمل بمُحْكَمِه، ويؤمن بمُتشابهه، ويتلوه حق تلاوته، اللهم اجعلنا ممن يُقيم حُروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يُقيم حُروفه ويُضيِّع حدوده، اللهم ألبسنا به الحُلَل، وأسكنِّا به الظُلَل، وادفع عنا به النِقم، وزدنا به من النِعم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، اللهم اجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا.

https://bit.ly/4mjKg9j

الجمعة، 9 مايو 2025

لا تغضب

 

خاطرة الجمعة /498

الجمعة 9 مايو 2025م

(لا تغضب)

 

يقول الراوي: كنتُ في زيارةٍ لأحد الأصدقاء في السجن المركزي بمدينة «الرياض» قبل سنتين، وجلس معنا سجينٌ مُدانٌ بالقتل، وكانت قضيته أن شخصاً لطمه في السوق؛ فقام بسحب مُسدسه وقتله. قال لي ناصحاً: "إذا معك سلاحٌ آليٌ أو مُسدسٌ، وجاء شخصٌ ولطمك على خدك، أعطه خدك الثاني وقُل له زِدني كفاً، أما إذا لم يكن معك سلاحٌ ولطمك فتضارب أنت وهو بالأيدي والأقدام ما شئتما؛ فذلك أهون لكما؛ فإذا أنت سحبتَ السلاح في حالة الغضب، فلا تلومن إلا نفسك؛ فستجد أصابعك قد أسرعت بالضغط على الزناد، ثم تُفاجئ بأنك تحولتَ في لحظة إلى قاتل. سيكون استخدامك للسلاح وقتها سبباً في ذُلِّك، وذُل أُمك وأبيك وزوجتك وأبنائك وأهلك أجمعين، وستجد نفسك بعد لحظة الغضب مُنتظراً لصدقاتٍ من الناس حتى تأكل، وتبرعاتٍ من فاعل الخير حتى تستطيع أن تلبس، ويجعل أهلك يقبِّلون أقدام الناس حتى يُسامحوك، وتكون نتيجة ذلك أن تظل حبيس أربع جُدرانٍ لسنواتٍ قبل يأتوا بك إلى ساحةٍ واسعةٍ، يطرحونك على بطنك مُقيد اليدين والقدمين، معصوب العينين، ويقطعون رأسك بالسيف أمام الناس. ضربك بالكف ليس ذُلاً، إنما الذل يكون لحظة رقودك على بطنك، وأبوك وعائلتك ينظرون إليك، هذا أكبر ذُلٍ في حياتك، ذُلٍ أكبر كثيراً من مليون لطمة، والقصة كلها حملك السلاح، واستخدامه وقت الغضب؛ فنصيحتي لك (لا تغضب)".

 

أحبتي في الله.. يقود الغضب إلى الانفعال والتصرف دون تبصرٍ وبغير رويةٍ، وكأن العقل قد شُل؛ ما يؤدي إلى سوء العاقبة، مثلما حدث مع هذا الرجل السجين المحكوم عليه بالإعدام نتيجةً لقتله شخصاً لطمه على خده.

ويُمكن للغضب أن يؤدي إلى نتائج أُخرى؛ منها مثلاً هذه القصة المؤثرة لرجلٍ كان يُنظف سيارته الجديدة، فشاهد ابنه الصغير يُمسك بمسمارٍ ويخدش به في جانب السيارة؛ فأخذ الأب -وبغضبٍ بالغٍ- يضرب يد ابنه من دون أن يشعر بأنه كان يضربها بشدةٍ بأداةٍ حادةٍ صادف أنها كانت في يدهّ! ومع صُراخ الابن انتبه الأب مُتأخراً لما حصل منه تحت تأثير الغضب، نظر فرأي يد ابنه تنزف فأسرع باصطحابه إلى المُستشفى، وفي الطوارئ كان قرار الأطباء هو بتر أصابع يد الابن فوراً حتى لا تمتد الغرغرينا إلى باقي اليد، ولم يجد الأب بُداً من المُوافقة، وافق وقلبه يكاد يتوقف من شدة الندم. تم البتر وفقد الابن أصابع يده اليُمنى بسبب الكسور الكثيرة التي أحدثها الضرب، لم يتمالك الأب نفسه فأُجهش بالبكاء، ظل يبكي وقت لا يفيد البكاء في شيء. عاد الأب وابنه إلى المنزل، وعندما أراد الأب أن يقوم بالتغيير على الجرح نظر الابن إلى يده وسأل أباه ببراءةٍ: "متى ستنبت أصابعي يا أبي؟!"، كان للسؤال وقع الصاعقة على الأب؛ فخرج وتوجه إلى سيارته وضربها عدة مراتٍ، وجلس أمام سيارته وكله ندمٌ على ما بدر منه في لحظة غضبٍ، ثم نظر إلى المكان الذي خدشه ابنه في جانب السيارة؛ فإذا به يُفاجئ بأن ابنه كان يكتب بالمسمار "أُحبك يا أبي"!

 

ومن عواقب الغضب أن يفقد الشخص احترام الناس له، وتنزل مكانته في عيونهم؛ فهذا مُديرٌ لأحد المصانع ترك مكتبه ونزل لتفقد أحوال العمال، وخلال تجواله في المصنع لاحظ وجود شابٍ يستند إلى الحائط، ولا يقوم بأي عملٍ، استشاط المُدير غضباً حينما رأى الشاب ينظر إليه ولا يأبه لوجوده، ومما زاد في غضب المُدير أن الشاب لم يُبادر بالاعتذار أو حتى يتظاهر بالعمل؛ فاقترب منه وسأله بعصبيةٍ: "كم هو مُرتبك في الشهر؟"، كان الشاب هادئاً، ويبدو على وجهه أنه مُتفاجئ بهذا السؤال، لكنه أجاب: "500 دولار شهرياً"، لماذا تسأل يا سيدي؟"، لم يُجب المُدير، لكنه أخرج محفظته وسحب منها 500 دولار نقداً وأعطاها للشاب -بمثابة إنهاء خدمةٍ- ثم قال للشاب: "أنا أدفع للناس هنا ليعملوا، لا ليقفوا بلا عمل، الآن هذا راتبك الشهري مُقدماً، اخرج ولا تعد"، استدار الشاب وأسرع في الابتعاد عن الأنظار. نظر المُدير إلى باقي العمال -المُندهشين مما يحدث-وقال لهم بنبرة تهديدٍ: "هذا ينطبق على الكل في هذه الشركة؛ من لا يعمل نُنهي عقده في الحال"، ثم اقترب من أحد العمال وسأله: "مَن هذا الشاب الذي قُمتُ بطرده للتو؟"، فجاءه الرد الذي لم يكن يتوقعه أبداً: "ذلك الشاب يا سيدي هو عامل توصيل الطلبات ويعمل في محل البيتزا المُجاور"!

 

هذا بعض ما يجر إليه تصرف الإنسان وقت الغضب، ومع ذلك، ومع غيره من النتائج الوخيمة للغضب، فإنه وللأسف صار شائعاً بين الناس أن المُدير لا يكون مُهاباً بين الموظفين وناجحاً في إدارته إلا إذا كان من أهل الغضب والعبوس، وأن الأب لا يكون مسموع الكلمة في البيت إلا إذا كان غضوباً، وأن الزوج لا يكون قوي الشخصية مع أهله إلا إذا كان شديد الغضب.

 

يقول العُلماء إن الشريعة الإسلامية قد ذمّت الغضب ونهتْ عنه، إلا إذا كان في الحق، وأرشدتْ مَنْ يقع فيه ويصير سلوكاً مُضراً له ولغيره أن يبتعد عنه وعن أسبابه، وأن يستعين بالله تعالى ويتوكل عليه في كلِّ شؤونه، ويتخذ الإجراءاتِ المساعدةَ له على دفع الغضب؛ كالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن يسكتَ، ويتوضأ إذا غضب، وأن يُغَيِّرَ هيئته، وأن يتحلَّى بخُلق العفو، وألَّا يتسرع، وأن يكظم غيظه ليتمكن من التحكم في نفسه، وأن يعلم أن كلامه محسوبٌ عليه ولو في وقت الغضب، وإن وجد سبيلاً آخر مُباحاً يُساعده فلا بأس به؛ وأولاً وآخراً يدعو الله تعالى أن يقيه شرَّ ما يضرّه؛ فلا مِراء في أن الشخص إذا تصرف وهو على حال الغضب فإن تصرفه لن يكون محموداً؛ بل سيفعل ما لا تُحمد عواقبه، ويندم عليه بعد ذلك غالباً؛ لأن الغضب نارٌ تشتعل في الجسم فلا يكون الإنسان معها مُتحكِّماً في انفعالاته وتصرفاته؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا وَإِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ]، لهذه الخطورة التي يُحدثها الغضب ذمَّت الشريعة الإسلامية الغضب وحذَّرت منه ومن عواقبه؛ قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِياكَ وَالْغَضَبَ، فَإِنَّ الغَضَبَ يُفْسدُ الإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ العَسَلَ]؛ فلخطورة ما يترتب على الغضب، وما قد يَؤُول صاحبه إليه، كان الغضب من حيث الأصل منهيّاً عنه شرعاً؛ لذلك حينما قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: [لاَ تَغْضَبْ] وردد مراراً، قال: [لاَ تَغْضَبْ]؛ فهذا يدل على أن الغضب في أصله منهيٌّ عنه شرعاً، كما يدل الحديث الشريف على أن الابتعاد عن أسباب الغضب وعدم التعرض له وسيلةٌ من وسائل اجتنابه.

إن تطبيق سياسة (لا تغضب) يتطلب وسائل تُساعد الشخص على التخلص من الغضب؛ ومن ذلك:

الابتعاد عن أسباب الغضب؛ بمحاولة التحكم في النفس وكظم الغيظ؛ يقول الله تعالى في وصف عباده المُتقين الذين يستحقون مغفرته: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي: المُمسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، ولا يظهر له أثر]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ؛ مَلأَ الله قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا]. وفي روايةٍ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ].

ومما يُساعد على تطبيق سياسة (لا تغضب) مُداومة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنها تُذهب عن الإنسان كل ما يجد من ضيق النفس والغضب؛ يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

كذلك السكوت؛ فإن الإنسان إذا سكت فقد حافظ على نفسه من الغضب، وساعد نفسه على تهدئة الروع؛ ولذا أوصت السُنة بذلك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ].

والوضوء أيضاً؛ فإن الوضوء يطفئ لهيب الغضب، ويقضي على شرارته؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ].

ومن الوسائل كذلك، ذِكر الله سُبحانه وتعالى؛ فذِكر الله يبعث في القلب خشيةً تُعين الإنسان على التأدب والتحكم في الغضب.

وأن يُغيِّر الإنسان هيئته؛ فإنَّ في ذلك عوناً له على الخروج من حالة الغضب التي هو عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ].

وأيضاً التحلي بخُلُق العفو؛ فمن صارت هذه الصفة خُلُقاً من أخلاقه، صار يصفح عن زلات الناس؛ مما يجعل وقوعه في دائرة الغضب صعباً؛ لذا فقد حثت الشريعة على التحلي بالعفو؛ يقول الله تعالى عن المستحقين لمغفرته: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾.

ومن أساليب تطبيق سياسة (لا تغضب) التأني وعدم التسرع؛ فإذا غضب الإنسان فعليه ألا يقوم بردّ الفعل على الفور، وأن يمتلك نفسه، وأن يُؤجّل قراره إلى حين زوال الغضب؛ فيكون ذلك أنفع له؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ].

وكذلك أن يعلم الإنسان أن الكلمة محسوبةٌ عليه ولو في وقت الغضب؛ وليتذكر أن المؤمن عليه ألا يُخرج من فمه إلا الكلام الطيب.

 

قال الشاعر:

وَلَم أَرَ فَضلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ

وَلَم أَرَ عَقلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَب

وَلَم أَرَ في الأَعداءِ حينَ خَبَرتُهُم

عَدُوّاً لِعَقلِ المَرءِ أَعدى مِنَ الغَضَب

وقال آخر:

لا تغضبنَّ وتعتذرْ

لكنْ تَحَلّمْ وادّكِرْ

غضبٌ يؤول إلى اعتذارٍ

مِنك ضَعفٌ فافتكرْ

ومع ذلك فإن هناك حالاتٍ يكون الغضب فيها مطلوباً، وهي إذا كان هذا الغضب من أجل إحقاق حقٍّ أو إبطال باطلٍ ونحو ذلك؛ فالغضب فيه قد يكون واجباً، وهو: الغضب على أهل الباطل وإنكاره عليهم بما يجوز، وقد يكون مندوباً إليه، وهو الغضب على المخطئ إذا علمتَ أن في إبداء غضبك عليه ردعاً له وباعثاً على الحق.

 

أحبتي.. يُقال إن الغضب الشديد ليس من أخلاق الرجال الكاملين، وأهل الفضائل العاقلين، وإنما يتخلق به أهل اللؤم والعجز والنقص والضعف، فيعوضون عن عجزهم بسرعة غضبهم؛ فلننأى بأنفسنا أن نكون منهم، وذلك بأن نُلزم أنفسنا بسياسة (لا تغضب)، ولا يكون ذلك إلا بأمرين: أولاً أن نتجنب أسباب الغضب، وثانياً -إذا غضبنا- أن نكظم غيظنا، ونضبط أعصابنا، ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ يقول تعالى: ﴿وّإمَّا يّنزّغّنَّكّ مٌنّ الشَّيًطّانٌ نّزًغِ فّاسًتّعٌذً بٌاللَّهٌ إنَّهٍ سّمٌيعِ عّلٌيمِ﴾، ولنتذكر أن الله سُبحانه وتعالى قد امتدح المؤمنين الذين من صفاتهم أنهم: ﴿يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.

اللهم اجعلنا أكثر حِلماً وأوسع صدراً، وأكثر قدرةً على ضبط النفس، واجعلنا اللهم ممن يملكون أنفسهم عند الغضب، وأعنِّا على أن نكون من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/4d6yWt2

الجمعة، 2 مايو 2025

قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع

 

 خاطرة الجمعة /497

الجمعة 2 مايو 2025م

(قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع)

 

رجلٌ سوريٌ صالحٌ كان يرعى أرملةً كبيرةً في السن ومُقعدة، تُقيم في إحدى الغُرف الملحقة بجامعٍ يقع في حي «المُهاجرين» بمدينة «دمشق». لم يكن لهذه الأرملة أحدٌ؛ فأخذ الرجل على عاتقه أن يأتيها كل يومٍ بطعامها وشرابها ويُنظف لها غُرفتها، ثم انتقل إلى سكنٍ جديدٍ بعيدٍ بحي «المزة»، وكَبُر في السن، وصار عُمره ثمانين سنة، ومع ذلك استمر في الذهاب إلى تلك الأرملة كل يومٍ، رغم أنه -كي يصل إليها- يُضطر إلى أن يستقل أكثر من حافلةٍ، فضلاً عن سيره مشياً على الأقدام بعد نزوله من آخر حافلةٍ؛ فأشفق عليه أهله، وقالوا له لقد خدمتها عشرين سنةً، كفى، اترك هذا الأمر لغيرك؛ فكان رده: "لا أستطيع؛ هذا عملٌ التزمتُ به"، فلما رأوه مُصِّراً على خدمتها اقترحوا عليه أن يأتي بها لتُقيم معهم في إحدى غُرف المنزل، فيكونون مُشاركين له في الثواب، ومُخففين عنه ما يُضطر إلى بذله من جهد؛ فجاء بها إلى بيته، وبعد سبعة أيامٍ توفاها الله. هذا عملٌ طيبٌ وَفَّقَ الله سُبحانه وتعالى هذا الرجل وأسرته لعمله، وختم لهم بالتمام والكمال.

 

أحبتي في الله.. وعلى العكس من ذلك؛ هناك من يظل الشيطان يُحاول معه حتى ينتكس؛ فهذا شابٌ خدم والدته اثنتي عشرة سنةً، ثم ضجر، وفي ساعة غضبٍ أسمع أُمه كلماتٍ قاسيةً؛ قال لها: "أليس لكِ أولادٌ غيري؟"؛ فبكت، واتصلت بأحد أولادها الآخرين، وطلبت منه أن تنتقل إلى بيته، وبعدها بيومين توفاها الله؛ فخسر ذلك الشاب ثواب عمله الصالح الذي ظل يُقدمه إلى أُمه كل تلك السنوات.

وهذه شابةٌ كانت نفسها الأمارة بالسوء هي التي تسببت في إنتكاستها؛ فقد كانت منذ صغرها ترتدي الحجاب إرضاءً لأبيها، فلما مات انتكست وخلعت حجابها! يُعلق راوي هذا الخبر بقوله: "يا ليتها تمسكت بالحجاب؛ فشتّان ما بين أن تموت وهي مُحجبةٌ مُلتزمةٌ بتعاليم دينها، أو أن تموت وهي عاصيةٌ تاركةٌ حجابها".

 

يقول أهل العلم إن الشرائع والعبادات ما شُرِّعت للمشقة على الناس، وإزهاق الأنفس، ولا لإهلاك الأبدان، وإنما شُرِّعت لتكون مصدر راحةٍ وسعادةٍ وطُمأنينةٍ، ولإدخال السرور على النفس بالطاعة والعبادة والإنس بالله والإقبال عليه بحُبٍ ورغبةٍ، ومحبة الوقوف بين يديه؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿طَهَ . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾؛ فالدِين يُسرٌ لا عُسر.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أُمته إلى الطريق الصحيح للدِين والتدين؛ فأوضح أنه ينبغي على المؤمن أن يقوم بما يُطيقه من العبادة، مع الترغيب في القصد في العمل؛ حتى لا يُصاب بالملل والفتور؛ فإلزام النفس بما لا تُطيق أمرٌ لا يستحق الثناء لمخالفته السُنة، والدِين الحق هو في مُتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بسُننه، وليس في التشديد على النفس وإرهاقها بالعبادة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ]، ويقول شُرَّاح الأحاديث إن الإسلام حثَّ على مُلازمة الرفق في الأعمال، والاقتصار على ما يطيق المسلم، ويُمكنه المُداومة عليه؛ فكما قيل (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع)، فقوله صلى الله عليه وسلم: "أدْوَمُها"، معناه العمل المُستمر غير المُنقطع إلا بعُذر، وقوله: "وإن قَلَّ" معناه وإن كان ذلك العمل قليلاً.

 

وكان صلى الله عليه وسلم لا يُعجبه أن يقسو الإنسان على نفسه في العبادة، وأن يُحمِّلها ما لا تُطيق؛ لأن مثل هذا العمل لا تستقيم عليه النفس، ولا تستمر عليه ولا تُداوم؛ يقول النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [علَيْكُم بما تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا] أي لا يتوقف الله عن إعطائكم الثواب، حتى تملوا أنتم من العمل وتتركوه، وقيل إن معناه: "مهْما عَمِلْتَ مِن عمَلٍ فإنَّ اللهَ يُجازِيك عليه، فاعمَلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ مِن ثَوابِك حتَّى تَمَلَّ مِن العمَلِ"، والمقصود: لا تكلفوا أنفسكم من الأعمال ما يشق عليكم، فتتركوه بعد ذلك؛ لأنَّ بالدَّوام على القليل تدوم الطَّاعة، والذِّكر، والمُراقَبة، والنِّيَّة، والإخلاص، والإقبال على الخالق سُبحانه وتعالى، ويُثمر القليل الدائم ما يزيد على الكثير المُنقطع أضعافاً كثيرةً.

 

ومما يُروى من حديثٍ في هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذا الدِينَ مَتينٌ؛ فأوْغِلوا فيهِ برِفقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِكَ عِبادَةَ اللهِ، فإنَّ المُنبَتَّ لا أرْضًا قَطَع ولا ظَهرًا أبقَى] فعلى المُسلم أن يتخير عملاً يستطيعه ويقدر عليه؛ من صلاةٍ أو صدقةٍ أو بِرٍ أو صِلةٍ أو غير ذلك، يتقرب به إلى الله، ويُداوم عليه؛ حتى يكون من أحب الناس إلى الله، وليتذكر دائماً الحكمة التي تقول: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).

ومن أيسر تلك الأعمال ما وصفه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله "هو خَيْرٌ مِن خادِمٍ" إذا أوى المُسلم إلى فراشه، أو أخذ مضجعه، [كَبِّر ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وسَبِّح ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وحَمَد الله ثَلاثًا وثَلاثِينَ].

 

وهل أيسر من قولك "الله أكبر" عند كل صعودٍ، وقولك "سُبحان الله" عند كل نزولٍ، سواءً بمصعدٍ أو على دَرَج؟ أو أن تقرأ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرف؟ أو إماطتك الأذى عن الطريق؟ أو إرشادك الغريب والتائه والضال فتكون له هادياً؟ أو أن تُعوِّد نفسك على قول [سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ] في أوقات انتظارك وأوقات فراغك؟

 

إن الأعمال الصالحة مُحيطةٌ بنا حتى ونحن في منازلنا، وفي أماكن عملنا، بل وفي طُرقنا، وبالإجمال في كل مكانٍ يُحيط بنا، بإمكاننا أن نُثقِّل موازين أعمالنا يومياً بما لا يُحصى من الحسنات بالكثير من تلك الأعمال، المُهم: أولاً: إخلاص النية؛ بأن يكون العمل لوجه الله سُبحانه وتعالى وحده، وثانياً: أن يكون مُوافقاً لشرع الله وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أهمية تبييت النية، والاستمرار في العمل دون انقطاع؛ من ذلك: مُحافظتك على الصلاة المفروضة على وقتها مع الجماعة، وِردك اليومي من تلاوة القرآن الكريم ولو بصفحةٍ واحدةٍ، قيامك الليل وتهجدك ولو بركعتين، إحياؤك لسُنةٍ من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم، ترطيب لسانك بذِكر الله، توكلك على الله، تصدقك على المحتاجين، استغفارك عن ذنوبك، لزومك أدعية الصباح والمساء، مُحافظتك على السُنن الرواتب، حرصك على صلة رحمك، دعاؤك لأخيك بظهر الغيب فيقول لك المَلَك "وَلَكَ بمِثْلٍ"، مشيك في مصلحة الناس، حفظك حقوق جارك، إصلاحك بين مُتخاصمين، إعانتك المُحتاج، مُساعدتك الفقراء والمساكين، تبسمك في وجه أخيك، إصغاؤك لحديثٍ مُمِّلٍ لجبر خاطر مُتحدثٍ، مُلاطفتك لطفلٍ، إكرامك لضيفك، نصيحتك لغيرك، إطعامك الفقراء، دعاؤك لميتٍ، عدم ردك سائلاً، وغير ذلك من فرصٍ كثيرةٍ ومُتعددةٍ لتثقيل ميزان حسناتك، المهم في الأمر هو المُداومة والاستمرار؛ وصدق من قال: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).

 

أحبتي.. علينا أن نُعمِّر أوقاتنا بكل عملٍ صالحٍ مُمكن، والعزم على المُداومة عليه، وعدم الانقطاع عنه بغير عُذرٍ، عسى الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتنا.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان. اللهم اغفر لنا ما مضى، وأصلح لنا ما تبقى، وارزقنا رضاك وحُسن الخاتمة، والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم تُب علينا واغفر لنا وارحمنا، وارحم والدينا، ومن لهم فضلٌ علينا وجميع المسلمين. واجعل اللهم خير أيامنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، وأعنِّا ربنا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.  

https://bit.ly/4iIKqEc