الجمعة، 16 مايو 2025

تأثير القرآن

 

خاطرة الجمعة /499

الجمعة 16 مايو 2025م

(تأثير القرآن)

مُسلمٌ جديدٌ كان نصرانياً بروستانتياً من «كندا»، وكانت عائلته تعيش على هواها؛ فهي غير مُتدينةٍ، لكنه كان شغوفاً جداً بمعرفة مَن خلقه؟ وما هو الدين الحق؟ ومَن هو الإله الذي خلقه؟ يروي قصته فيقول:

قررتُ شراء جميع الكُتب العقائدية لدراستها، لكن بالطبع إلا القرآن الخاص بالمُسلمين؛ فهُم -كما يُصورهم الإعلام الغربي وكما يقول عنهم أعداؤهم- إرهابيون. قرأتُ كل تلك الكُتب، وخرجتُ بنتيجةٍ واحدةٍ هي أن جميع هذه العقائد لا يُمكن أن تكون من لَدُن الله خالق هذا الكون الرهيب. كنتُ مُتفوقاً في دراستي، ولدَيّ ولعٌ كبيرٌ جداً بالثقافة والعُلوم، فحكيتُ لزملائي في الجامعة مُشكلتي التي تؤرقني ليل نهار؛ فأهداني زميلٌ فلسطينيٌ كتاباً أخبرني بأنه نسخةٌ من القرآن الكريم مُترجَماً إلى اللغة الإنجليزية، وقال لي: "اقرأ هذا؛ وأؤكد لك أنك ستجد فيه حتماً ما تبحث عنه"، لم أشأ أن أُحرجه أمام الزملاء خصوصاً أنه لم يكن صديقاً بل كنتُ في الأصل أنفر منه، فاستلمتُ منه الكتاب الذي أعطاني إياه، ثم عندما عُدتُ إلى المنزل ألقيته على الأريكة وقلتُ: "لن أقرأ هذا الشيء"!

وفي أحد الأيام كان عندي فراغٌ في الوقت، وأنا أجلس على الأريكة لمحتُ الكتاب بجواري فتذكرته، وقلتُ أُسلّي نفسي فقط بعض الدقائق؛ لأستمتع بما أتوقعه فيه من أوامر القتل والاغتصاب والغوغاء و..و..و..، فتحته فوقعت عيناي مُباشرةً على الآيتين: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾، ضحكتُ وقلتُ: "حدودٌ بين البحار؟! هذا كلامٌ خطأٌ تماماً" فأغلقتُ الكتاب وألقيتُ به مرةً أُخرى، ثم فتحتُ التليفزيون أمامي فوجدتُ برنامجاً لاثنين من أكبر عُلماء «كندا» يشرحان تجربة غوصهم في «خليج هدسون» الشهير بشمال شرق البلاد، ويوضحون ما لا يعرفه الناس أن المياه بينها حواجز تفصلها عن بعضها البعض؛ لأن المياه أجناسٌ مُختلفةٌ، وكل جنس مياهٍ مُختلفٌ عن الجنس الآخر؛ حيث كل مياهٍ لها خصائص مُحددةٌ مُختلفةٌ عن غيرها، وليس كما نعتقد أن المياه كلها واحدةٌ مُتداخلةٌ في بعضها، بمجرد النظر السطحي دون دراساتٍ مُتعمقةٍ وتحليلاتٍ بالأجهزة؛ فكل مياهٍ لها كثافةٌ ودرجة حرارةٍ وعناصر ومُلوحةٌ وضغطٌ وأحياءٌ غليظةٌ وأحياءٌ دقيقةٌ تختلف عن غيرها من المياه الأخرى، ولو انتقلت الأحياء من مياهٍ لأخرى تهلك وتموت، فوجدنا أن هناك حواجز تمنع انتقال الأحياء من مياهٍ لأخرى، وتلك الحواجز موجودةٌ بصورةٍ أُفقيةٍ بين مُختلف البحار والأنهار والمُحيطات، وموجودةٌ أيضاً رأسياً في نفس المياه، فقد غُصنا 20 متراً في نوعية مياهٍ حسب قياساتنا بالأجهزة، ثم وجدنا طبقةً ثانيةً مُختلفةً، سُمكها مترين فقط، فانتبهنا لذلك واهتممنا ثم هبطنا إلى طبقةٍ ثالثةٍ عميقةٍ سُمكها يمتد حتى القاع، وفي الحقيقة هذه الطبقة الثانية ما هي إلا حاجزٌ بين الطبقتين العُليا والسُفلي، وليست طبقةً بحد ذاتها! فتذكرتُ ما قرأته للتو في القرآن -بقَدَر الله بالطبع- وقفزتُ من على الأريكة وكأن شيئاً ما دفعني وحرَّكني! نظرتُ إلى القرآن باندهاشٍ وبتعجبٍ شديدين، وسألتُ نفسي: "ما هذا؟ كيف يكون مذكوراً في كتابٍ منذ 14 قرناً أن بين المياه حواجز تفصلها؟!". اقشعّر جلدي كاملاً، ووقف شعر جسمي، وقلتُ: "هل هذا فعلاً كتاب الله وليس من تأليف مُحمد؟"، هل هذا توفيقٌ من الله بأن أقرأ تلكما الآيتين ثم أُشاهد البرنامج التلفزيوني بعد ذلك مباشرةً؟! هل تلك مُجرد صُدفة؟". شعرتُ أن الله معي تماماً، بل ويُخاطبني، ويُريد أن يهديني لأنني بحثتُ عنه طويلاً بصدقٍ؛ فقررتُ قراءة القرآن بالكامل بتركيزٍ تامٍ وتمعنٍ واحترامٍ شديد. أول ما لفت نظري أن هذا الكتاب يتحدث عن جميع العلوم: فلكٌ وفيزياء وكيمياء وجغرافيا وطبٌ وعلوم الأجنة ووو ... إلخ. كيف هذا؟ كيف لرجلٍ أُميٍ عاش حياته كلها في الصحراء منذ 14 قرناً من الزمان أن يخوض في كل شيءٍ؟ بالتأكيد سيقع في أخطاء وسيفضح نفسه، ما كُل تلك الجُرأة؟ شخصٌ غير سيدنا مُحمدٍ كان شغل نفسه بتحليل وتسهيل جميع المُحرَّمات لجذب الناس، وليس أن يخوض في كل العلوم ويفرض أقسى شريعةٍ بين العقائد؛ فواضحٌ أنه فعلاً رسولٌ مُبّلِغٌ لما أُنزل إليه من الله سُبحانه وتعالى. والعجيب أنه بمراجعة تلك العلوم وُجد أنها كُلها صحيحةٌ 100% بل وتسبق علومنا في كثيرٍ من الأحيان، فكيف لكتابٍ منذ 14 قرناً من الزمان أن يكون بهذه الجُرأة وتلك الصحة؟ لا محالة، إنه كتاب الله عزَّ وجلَّ نزل إلينا من خارج كوكب الأرض، الفارق بينه وبين الكُتب الأخرى شاسعٌ، بل لا مُقارنة أصلاً من الأساس؛ فأعلنتُ إسلامي وحاولتُ إقناع أُسرتي لكنهم رفضوا؛ فالله ليس في قُلوبهم مثلي، بل الدُنيا فقط هي التي في قُلوبهم!".

 

أحبتي في الله.. إنه (تأثير القرآن) على نفوسٍ صدقت مع نفسها، وأخلصت النية لله سُبحانه وتعالى أن تبحث عن الحق لاتباعه، فلما عرفته لم تنكث، ولم تحنث بوعدها، ولم تتكبر، ولم تجحد، بل سلَّمت وأسلَّمت وخشعت.

مثالٌ آخر نرى فيه (تأثير القرآن) العظيم في نفس واحدٍ من الذين حازوا الشُهرة والمال، وجمعوا مُتع هذه الحياة الدنيا الزائلة، حتى ظنَّوا أنهم أسعد الناس، إلى أن استمع للقرآن الكريم؛ فعلِم أنه لم يعرف للسَّعادة طريقاً، ولم يذق لها طعماً يُقارب السعادة واللذة التي شعر بها عند استماعه للقرآن العظيم، فأعلن إسلامه وأصبح من الدُعاة إلى هذا الدِّين، هذا الرجل هو المُطرب السابق البريطاني المشهور «كات ستيفنز» الذي قال: "في تلك الفترة من حياتي -يعني قبل إسلامه- بدا لي وكأنني فعلتُ كلَّ شيءٍ، وحقَّقتُ لنفسي النجاح، ونلتُ المال والشُهرة وكل شيءٍ، ولكني كنتُ مثل القرد أقفز من شجرةٍ إلى أخرى، ولم أكن قانعاً أبداً، حتى كانت قراءتي القرآن؛ كانت لحظةً فارقةً؛ إذ كانت بمثابة توكيدٍ لكل شيءٍ بداخلي كنتُ أراه حقاً، وكان الوضع مثل مواجهة شخصيتي الحقيقية".

وهذا عالِمٌ ألمانيٌ كانت الآيتان الكريمتان ﴿أَيَحْسَبُ الإِِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ . بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ سبباً في أن أسلم وأعلن إسلامه على ملأٍ من العُلماء، ولمَّا سُئل عن سبب إسلامه قال: هذه الآية ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾؛ فإن الكشف عن أمر بصمات الأنامل لم تعرفه أوروبا -فضلاً عن العرب- إلاَّ في زماننا هذا؛ إذن فهو كلام الله لا كلام البشر".

وأحد الذين كان (تأثير القرآن) سبباً في إسلامهم قال حين سُئِلَ عن ذلك: "لقد تتبَّعتُ كلَّ الآيات القرآنية التي لها ارتباطٌ بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستها من صِغري وأعلمها جيداً، فوجدتُ هذه الآيات مُنطبقةً كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمتُ؛ لأنني تيقنتُ أن مُحمداً -صلى الله عليه وسلم- أتى بالحقِّ الصُّراح قبل ألف سنةٍ، مِنْ قَبْلِ أن يكون هناك مُعلَّمٌ أو مُدرسٌ من البشر، ولو أن كل صاحب فنٍ من الفنون، أو علمٍ من العُلوم، قارن كل الآيات القرآنية المُرتبطة بما تعلَّم -كما قارنتُ أنا- لأسلم بلا شكٍ، إنْ كان عاقلاً خالياً من الأغراض".

وعن (تأثير القرآن) في النفوس يقول أحدهم عن سبب إسلامه: "حضرتُ مُناظرةً بين مُسلمٍ ومسيحيٍ، واقتنعتُ أثناءها بما سمعته من سورةِ مريم؛ إذ أدركتُ أن الإسلام هو دين الحق".

أما هذا -وقد كان يهودياً قبل أن يُسلم- فيقول: "حينما شرعتُ في مُطالعة القرآن الكريم للمرة الأولى وَلِعْتُ به وَلَعَاً شديداً، ولا أظن أن ثَمَّةَ شيئاً يؤثر في المرء الذي أدرك حقيقة الديانة الإسلامية وروحيتها بقدر تأثير تلاوة آيات القرآن المجيد على مشاعره، فيغمره الإحساس الفيَّاض باتصاله الرُّوحاني، وتجتذِبُه مَهَابةُ الإله جلَّ جلالُهُ، فيقرّ بكل خشوعٍ بعجزه وضعفه أمام كلام ربه العظيم".

و(تأثير القرآن) كان واضحاً على هذه الشابة البريطانية التي تحدثت عن تجربتها الذاتية مع القرآن العظيم فقالت: "لن أستطيعَ مهما حاولتُ، أن أَصِفَ الأثر الذي تركه القرآن في قلبي، فلم أكد أنتهي من قراءة السورة الثالثة من القرآن حتى وجدتني ساجدةً لخالق هذا الكون، كانت هذه أول صلاةٍ لي في الإسلام".

 

إنه (تأثير القرآن) الذي وصفه الله عزَّ وجلَّ بالعديد من الصفات منها: ﴿هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ﴾، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾، ﴿أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾، و﴿جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.

 

إنه (تأثير القرآن) كتاب الله العظيم، الذي قيل في وصفه أجمل وأفضل وأشمل وصف: "فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الألْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا: ﴿إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ﴾، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".

بل ووصفه أحد عُتاة الكُفار من «قُريش» بقوله: "واللَّهِ إنَّ لهُ لحلاوةً، وإنَّ عليهِ لطلاوةً، وإنَّ أعلاهُ لمُثمرٌ، وإنَّ أسفلَهُ لمُغدقٌ، وإنَّهُ ليعلو وما يُعلَى عليه".

 

أحبتي.. هذه لمحاتٌ بسيطةٌ مما أثرَّ به القرآن في نفوس غير المُسلمين فأسلَموا، فما هو (تأثير القرآن) في نفوسنا نحن الذين وُلدنا مُسلمين؟ هل نواظب على قراءته بالأساس؟ هل لنا وِردٌ يوميٌ منه؟ هل نؤْثره بأفضل أوقاتنا أم نُفضِّل عليه ما هو دونه فلا يبقى له إلا فضلة أوقاتنا؟ هل نُحْسِن تلاوته؟ هل تعلمنا تجويده؟ هل نفهم ما أشكل علينا من كلماته؟ هل عَقِلنا معانيه؟ هل اطلعنا على تفسيره؟ هل تدَّبرنا مقاصد آياته؟ هل عرفنا أحكامه؟ هل نفذَّنا ما به من أوامر؟ هل تجنَّبنا كل ما نهانا عنه؟ هل تحاكمنا به؟ هل ارتضيناه منهج حياةٍ لنا ولأُسرنا ومُجتمعاتنا؟ هل علَّمناه لأبنائنا؟ أم اكتفينا بأن اتخذناه زينةً في منازلنا؟ وتبركنا به في سياراتنا؟ ووزعناه هدايا في مُناسبات عزاء أحبابنا؟ وجعلنا منه أحجبةً وتمائم لأبنائنا؟ وصنعنا نماذج منه من الذهب تُزين به نساؤنا صدورهن؟!

على كلٍ منا أن يسأل نفسه هذه الأسئلة، ويُجيب عنها بصدقٍ ويعمل بجدٍ حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً له، وهو الذي وصفته السيدة عائشة بقولها: "كان خُلُقُه القُرآنَ".

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هُم أهلك وخاصتك، واجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً، وفي القيامة شفيعاً، وعن النار سِتراً وحجاباً، وإلى الجنة قائداً، وإلى الخير دليلاً وإماماً، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا ممن يُحل حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويعمل بمُحْكَمِه، ويؤمن بمُتشابهه، ويتلوه حق تلاوته، اللهم اجعلنا ممن يُقيم حُروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يُقيم حُروفه ويُضيِّع حدوده، اللهم ألبسنا به الحُلَل، وأسكنِّا به الظُلَل، وادفع عنا به النِقم، وزدنا به من النِعم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، اللهم اجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا.

https://bit.ly/4mjKg9j

الجمعة، 9 مايو 2025

لا تغضب

 

خاطرة الجمعة /498

الجمعة 9 مايو 2025م

(لا تغضب)

 

يقول الراوي: كنتُ في زيارةٍ لأحد الأصدقاء في السجن المركزي بمدينة «الرياض» قبل سنتين، وجلس معنا سجينٌ مُدانٌ بالقتل، وكانت قضيته أن شخصاً لطمه في السوق؛ فقام بسحب مُسدسه وقتله. قال لي ناصحاً: "إذا معك سلاحٌ آليٌ أو مُسدسٌ، وجاء شخصٌ ولطمك على خدك، أعطه خدك الثاني وقُل له زِدني كفاً، أما إذا لم يكن معك سلاحٌ ولطمك فتضارب أنت وهو بالأيدي والأقدام ما شئتما؛ فذلك أهون لكما؛ فإذا أنت سحبتَ السلاح في حالة الغضب، فلا تلومن إلا نفسك؛ فستجد أصابعك قد أسرعت بالضغط على الزناد، ثم تُفاجئ بأنك تحولتَ في لحظة إلى قاتل. سيكون استخدامك للسلاح وقتها سبباً في ذُلِّك، وذُل أُمك وأبيك وزوجتك وأبنائك وأهلك أجمعين، وستجد نفسك بعد لحظة الغضب مُنتظراً لصدقاتٍ من الناس حتى تأكل، وتبرعاتٍ من فاعل الخير حتى تستطيع أن تلبس، ويجعل أهلك يقبِّلون أقدام الناس حتى يُسامحوك، وتكون نتيجة ذلك أن تظل حبيس أربع جُدرانٍ لسنواتٍ قبل يأتوا بك إلى ساحةٍ واسعةٍ، يطرحونك على بطنك مُقيد اليدين والقدمين، معصوب العينين، ويقطعون رأسك بالسيف أمام الناس. ضربك بالكف ليس ذُلاً، إنما الذل يكون لحظة رقودك على بطنك، وأبوك وعائلتك ينظرون إليك، هذا أكبر ذُلٍ في حياتك، ذُلٍ أكبر كثيراً من مليون لطمة، والقصة كلها حملك السلاح، واستخدامه وقت الغضب؛ فنصيحتي لك (لا تغضب)".

 

أحبتي في الله.. يقود الغضب إلى الانفعال والتصرف دون تبصرٍ وبغير رويةٍ، وكأن العقل قد شُل؛ ما يؤدي إلى سوء العاقبة، مثلما حدث مع هذا الرجل السجين المحكوم عليه بالإعدام نتيجةً لقتله شخصاً لطمه على خده.

ويُمكن للغضب أن يؤدي إلى نتائج أُخرى؛ منها مثلاً هذه القصة المؤثرة لرجلٍ كان يُنظف سيارته الجديدة، فشاهد ابنه الصغير يُمسك بمسمارٍ ويخدش به في جانب السيارة؛ فأخذ الأب -وبغضبٍ بالغٍ- يضرب يد ابنه من دون أن يشعر بأنه كان يضربها بشدةٍ بأداةٍ حادةٍ صادف أنها كانت في يدهّ! ومع صُراخ الابن انتبه الأب مُتأخراً لما حصل منه تحت تأثير الغضب، نظر فرأي يد ابنه تنزف فأسرع باصطحابه إلى المُستشفى، وفي الطوارئ كان قرار الأطباء هو بتر أصابع يد الابن فوراً حتى لا تمتد الغرغرينا إلى باقي اليد، ولم يجد الأب بُداً من المُوافقة، وافق وقلبه يكاد يتوقف من شدة الندم. تم البتر وفقد الابن أصابع يده اليُمنى بسبب الكسور الكثيرة التي أحدثها الضرب، لم يتمالك الأب نفسه فأُجهش بالبكاء، ظل يبكي وقت لا يفيد البكاء في شيء. عاد الأب وابنه إلى المنزل، وعندما أراد الأب أن يقوم بالتغيير على الجرح نظر الابن إلى يده وسأل أباه ببراءةٍ: "متى ستنبت أصابعي يا أبي؟!"، كان للسؤال وقع الصاعقة على الأب؛ فخرج وتوجه إلى سيارته وضربها عدة مراتٍ، وجلس أمام سيارته وكله ندمٌ على ما بدر منه في لحظة غضبٍ، ثم نظر إلى المكان الذي خدشه ابنه في جانب السيارة؛ فإذا به يُفاجئ بأن ابنه كان يكتب بالمسمار "أُحبك يا أبي"!

 

ومن عواقب الغضب أن يفقد الشخص احترام الناس له، وتنزل مكانته في عيونهم؛ فهذا مُديرٌ لأحد المصانع ترك مكتبه ونزل لتفقد أحوال العمال، وخلال تجواله في المصنع لاحظ وجود شابٍ يستند إلى الحائط، ولا يقوم بأي عملٍ، استشاط المُدير غضباً حينما رأى الشاب ينظر إليه ولا يأبه لوجوده، ومما زاد في غضب المُدير أن الشاب لم يُبادر بالاعتذار أو حتى يتظاهر بالعمل؛ فاقترب منه وسأله بعصبيةٍ: "كم هو مُرتبك في الشهر؟"، كان الشاب هادئاً، ويبدو على وجهه أنه مُتفاجئ بهذا السؤال، لكنه أجاب: "500 دولار شهرياً"، لماذا تسأل يا سيدي؟"، لم يُجب المُدير، لكنه أخرج محفظته وسحب منها 500 دولار نقداً وأعطاها للشاب -بمثابة إنهاء خدمةٍ- ثم قال للشاب: "أنا أدفع للناس هنا ليعملوا، لا ليقفوا بلا عمل، الآن هذا راتبك الشهري مُقدماً، اخرج ولا تعد"، استدار الشاب وأسرع في الابتعاد عن الأنظار. نظر المُدير إلى باقي العمال -المُندهشين مما يحدث-وقال لهم بنبرة تهديدٍ: "هذا ينطبق على الكل في هذه الشركة؛ من لا يعمل نُنهي عقده في الحال"، ثم اقترب من أحد العمال وسأله: "مَن هذا الشاب الذي قُمتُ بطرده للتو؟"، فجاءه الرد الذي لم يكن يتوقعه أبداً: "ذلك الشاب يا سيدي هو عامل توصيل الطلبات ويعمل في محل البيتزا المُجاور"!

 

هذا بعض ما يجر إليه تصرف الإنسان وقت الغضب، ومع ذلك، ومع غيره من النتائج الوخيمة للغضب، فإنه وللأسف صار شائعاً بين الناس أن المُدير لا يكون مُهاباً بين الموظفين وناجحاً في إدارته إلا إذا كان من أهل الغضب والعبوس، وأن الأب لا يكون مسموع الكلمة في البيت إلا إذا كان غضوباً، وأن الزوج لا يكون قوي الشخصية مع أهله إلا إذا كان شديد الغضب.

 

يقول العُلماء إن الشريعة الإسلامية قد ذمّت الغضب ونهتْ عنه، إلا إذا كان في الحق، وأرشدتْ مَنْ يقع فيه ويصير سلوكاً مُضراً له ولغيره أن يبتعد عنه وعن أسبابه، وأن يستعين بالله تعالى ويتوكل عليه في كلِّ شؤونه، ويتخذ الإجراءاتِ المساعدةَ له على دفع الغضب؛ كالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن يسكتَ، ويتوضأ إذا غضب، وأن يُغَيِّرَ هيئته، وأن يتحلَّى بخُلق العفو، وألَّا يتسرع، وأن يكظم غيظه ليتمكن من التحكم في نفسه، وأن يعلم أن كلامه محسوبٌ عليه ولو في وقت الغضب، وإن وجد سبيلاً آخر مُباحاً يُساعده فلا بأس به؛ وأولاً وآخراً يدعو الله تعالى أن يقيه شرَّ ما يضرّه؛ فلا مِراء في أن الشخص إذا تصرف وهو على حال الغضب فإن تصرفه لن يكون محموداً؛ بل سيفعل ما لا تُحمد عواقبه، ويندم عليه بعد ذلك غالباً؛ لأن الغضب نارٌ تشتعل في الجسم فلا يكون الإنسان معها مُتحكِّماً في انفعالاته وتصرفاته؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا وَإِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ]، لهذه الخطورة التي يُحدثها الغضب ذمَّت الشريعة الإسلامية الغضب وحذَّرت منه ومن عواقبه؛ قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِياكَ وَالْغَضَبَ، فَإِنَّ الغَضَبَ يُفْسدُ الإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ العَسَلَ]؛ فلخطورة ما يترتب على الغضب، وما قد يَؤُول صاحبه إليه، كان الغضب من حيث الأصل منهيّاً عنه شرعاً؛ لذلك حينما قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: [لاَ تَغْضَبْ] وردد مراراً، قال: [لاَ تَغْضَبْ]؛ فهذا يدل على أن الغضب في أصله منهيٌّ عنه شرعاً، كما يدل الحديث الشريف على أن الابتعاد عن أسباب الغضب وعدم التعرض له وسيلةٌ من وسائل اجتنابه.

إن تطبيق سياسة (لا تغضب) يتطلب وسائل تُساعد الشخص على التخلص من الغضب؛ ومن ذلك:

الابتعاد عن أسباب الغضب؛ بمحاولة التحكم في النفس وكظم الغيظ؛ يقول الله تعالى في وصف عباده المُتقين الذين يستحقون مغفرته: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي: المُمسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر، ولا يظهر له أثر]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ؛ مَلأَ الله قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا]. وفي روايةٍ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ].

ومما يُساعد على تطبيق سياسة (لا تغضب) مُداومة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنها تُذهب عن الإنسان كل ما يجد من ضيق النفس والغضب؛ يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

كذلك السكوت؛ فإن الإنسان إذا سكت فقد حافظ على نفسه من الغضب، وساعد نفسه على تهدئة الروع؛ ولذا أوصت السُنة بذلك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ].

والوضوء أيضاً؛ فإن الوضوء يطفئ لهيب الغضب، ويقضي على شرارته؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ].

ومن الوسائل كذلك، ذِكر الله سُبحانه وتعالى؛ فذِكر الله يبعث في القلب خشيةً تُعين الإنسان على التأدب والتحكم في الغضب.

وأن يُغيِّر الإنسان هيئته؛ فإنَّ في ذلك عوناً له على الخروج من حالة الغضب التي هو عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ].

وأيضاً التحلي بخُلُق العفو؛ فمن صارت هذه الصفة خُلُقاً من أخلاقه، صار يصفح عن زلات الناس؛ مما يجعل وقوعه في دائرة الغضب صعباً؛ لذا فقد حثت الشريعة على التحلي بالعفو؛ يقول الله تعالى عن المستحقين لمغفرته: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾.

ومن أساليب تطبيق سياسة (لا تغضب) التأني وعدم التسرع؛ فإذا غضب الإنسان فعليه ألا يقوم بردّ الفعل على الفور، وأن يمتلك نفسه، وأن يُؤجّل قراره إلى حين زوال الغضب؛ فيكون ذلك أنفع له؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ].

وكذلك أن يعلم الإنسان أن الكلمة محسوبةٌ عليه ولو في وقت الغضب؛ وليتذكر أن المؤمن عليه ألا يُخرج من فمه إلا الكلام الطيب.

 

قال الشاعر:

وَلَم أَرَ فَضلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ

وَلَم أَرَ عَقلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَب

وَلَم أَرَ في الأَعداءِ حينَ خَبَرتُهُم

عَدُوّاً لِعَقلِ المَرءِ أَعدى مِنَ الغَضَب

وقال آخر:

لا تغضبنَّ وتعتذرْ

لكنْ تَحَلّمْ وادّكِرْ

غضبٌ يؤول إلى اعتذارٍ

مِنك ضَعفٌ فافتكرْ

ومع ذلك فإن هناك حالاتٍ يكون الغضب فيها مطلوباً، وهي إذا كان هذا الغضب من أجل إحقاق حقٍّ أو إبطال باطلٍ ونحو ذلك؛ فالغضب فيه قد يكون واجباً، وهو: الغضب على أهل الباطل وإنكاره عليهم بما يجوز، وقد يكون مندوباً إليه، وهو الغضب على المخطئ إذا علمتَ أن في إبداء غضبك عليه ردعاً له وباعثاً على الحق.

 

أحبتي.. يُقال إن الغضب الشديد ليس من أخلاق الرجال الكاملين، وأهل الفضائل العاقلين، وإنما يتخلق به أهل اللؤم والعجز والنقص والضعف، فيعوضون عن عجزهم بسرعة غضبهم؛ فلننأى بأنفسنا أن نكون منهم، وذلك بأن نُلزم أنفسنا بسياسة (لا تغضب)، ولا يكون ذلك إلا بأمرين: أولاً أن نتجنب أسباب الغضب، وثانياً -إذا غضبنا- أن نكظم غيظنا، ونضبط أعصابنا، ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ يقول تعالى: ﴿وّإمَّا يّنزّغّنَّكّ مٌنّ الشَّيًطّانٌ نّزًغِ فّاسًتّعٌذً بٌاللَّهٌ إنَّهٍ سّمٌيعِ عّلٌيمِ﴾، ولنتذكر أن الله سُبحانه وتعالى قد امتدح المؤمنين الذين من صفاتهم أنهم: ﴿يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.

اللهم اجعلنا أكثر حِلماً وأوسع صدراً، وأكثر قدرةً على ضبط النفس، واجعلنا اللهم ممن يملكون أنفسهم عند الغضب، وأعنِّا على أن نكون من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/4d6yWt2

الجمعة، 2 مايو 2025

قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع

 

 خاطرة الجمعة /497

الجمعة 2 مايو 2025م

(قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع)

 

رجلٌ سوريٌ صالحٌ كان يرعى أرملةً كبيرةً في السن ومُقعدة، تُقيم في إحدى الغُرف الملحقة بجامعٍ يقع في حي «المُهاجرين» بمدينة «دمشق». لم يكن لهذه الأرملة أحدٌ؛ فأخذ الرجل على عاتقه أن يأتيها كل يومٍ بطعامها وشرابها ويُنظف لها غُرفتها، ثم انتقل إلى سكنٍ جديدٍ بعيدٍ بحي «المزة»، وكَبُر في السن، وصار عُمره ثمانين سنة، ومع ذلك استمر في الذهاب إلى تلك الأرملة كل يومٍ، رغم أنه -كي يصل إليها- يُضطر إلى أن يستقل أكثر من حافلةٍ، فضلاً عن سيره مشياً على الأقدام بعد نزوله من آخر حافلةٍ؛ فأشفق عليه أهله، وقالوا له لقد خدمتها عشرين سنةً، كفى، اترك هذا الأمر لغيرك؛ فكان رده: "لا أستطيع؛ هذا عملٌ التزمتُ به"، فلما رأوه مُصِّراً على خدمتها اقترحوا عليه أن يأتي بها لتُقيم معهم في إحدى غُرف المنزل، فيكونون مُشاركين له في الثواب، ومُخففين عنه ما يُضطر إلى بذله من جهد؛ فجاء بها إلى بيته، وبعد سبعة أيامٍ توفاها الله. هذا عملٌ طيبٌ وَفَّقَ الله سُبحانه وتعالى هذا الرجل وأسرته لعمله، وختم لهم بالتمام والكمال.

 

أحبتي في الله.. وعلى العكس من ذلك؛ هناك من يظل الشيطان يُحاول معه حتى ينتكس؛ فهذا شابٌ خدم والدته اثنتي عشرة سنةً، ثم ضجر، وفي ساعة غضبٍ أسمع أُمه كلماتٍ قاسيةً؛ قال لها: "أليس لكِ أولادٌ غيري؟"؛ فبكت، واتصلت بأحد أولادها الآخرين، وطلبت منه أن تنتقل إلى بيته، وبعدها بيومين توفاها الله؛ فخسر ذلك الشاب ثواب عمله الصالح الذي ظل يُقدمه إلى أُمه كل تلك السنوات.

وهذه شابةٌ كانت نفسها الأمارة بالسوء هي التي تسببت في إنتكاستها؛ فقد كانت منذ صغرها ترتدي الحجاب إرضاءً لأبيها، فلما مات انتكست وخلعت حجابها! يُعلق راوي هذا الخبر بقوله: "يا ليتها تمسكت بالحجاب؛ فشتّان ما بين أن تموت وهي مُحجبةٌ مُلتزمةٌ بتعاليم دينها، أو أن تموت وهي عاصيةٌ تاركةٌ حجابها".

 

يقول أهل العلم إن الشرائع والعبادات ما شُرِّعت للمشقة على الناس، وإزهاق الأنفس، ولا لإهلاك الأبدان، وإنما شُرِّعت لتكون مصدر راحةٍ وسعادةٍ وطُمأنينةٍ، ولإدخال السرور على النفس بالطاعة والعبادة والإنس بالله والإقبال عليه بحُبٍ ورغبةٍ، ومحبة الوقوف بين يديه؛ يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿طَهَ . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾؛ فالدِين يُسرٌ لا عُسر.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أُمته إلى الطريق الصحيح للدِين والتدين؛ فأوضح أنه ينبغي على المؤمن أن يقوم بما يُطيقه من العبادة، مع الترغيب في القصد في العمل؛ حتى لا يُصاب بالملل والفتور؛ فإلزام النفس بما لا تُطيق أمرٌ لا يستحق الثناء لمخالفته السُنة، والدِين الحق هو في مُتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بسُننه، وليس في التشديد على النفس وإرهاقها بالعبادة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ]، ويقول شُرَّاح الأحاديث إن الإسلام حثَّ على مُلازمة الرفق في الأعمال، والاقتصار على ما يطيق المسلم، ويُمكنه المُداومة عليه؛ فكما قيل (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع)، فقوله صلى الله عليه وسلم: "أدْوَمُها"، معناه العمل المُستمر غير المُنقطع إلا بعُذر، وقوله: "وإن قَلَّ" معناه وإن كان ذلك العمل قليلاً.

 

وكان صلى الله عليه وسلم لا يُعجبه أن يقسو الإنسان على نفسه في العبادة، وأن يُحمِّلها ما لا تُطيق؛ لأن مثل هذا العمل لا تستقيم عليه النفس، ولا تستمر عليه ولا تُداوم؛ يقول النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [علَيْكُم بما تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا] أي لا يتوقف الله عن إعطائكم الثواب، حتى تملوا أنتم من العمل وتتركوه، وقيل إن معناه: "مهْما عَمِلْتَ مِن عمَلٍ فإنَّ اللهَ يُجازِيك عليه، فاعمَلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ مِن ثَوابِك حتَّى تَمَلَّ مِن العمَلِ"، والمقصود: لا تكلفوا أنفسكم من الأعمال ما يشق عليكم، فتتركوه بعد ذلك؛ لأنَّ بالدَّوام على القليل تدوم الطَّاعة، والذِّكر، والمُراقَبة، والنِّيَّة، والإخلاص، والإقبال على الخالق سُبحانه وتعالى، ويُثمر القليل الدائم ما يزيد على الكثير المُنقطع أضعافاً كثيرةً.

 

ومما يُروى من حديثٍ في هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذا الدِينَ مَتينٌ؛ فأوْغِلوا فيهِ برِفقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِكَ عِبادَةَ اللهِ، فإنَّ المُنبَتَّ لا أرْضًا قَطَع ولا ظَهرًا أبقَى] فعلى المُسلم أن يتخير عملاً يستطيعه ويقدر عليه؛ من صلاةٍ أو صدقةٍ أو بِرٍ أو صِلةٍ أو غير ذلك، يتقرب به إلى الله، ويُداوم عليه؛ حتى يكون من أحب الناس إلى الله، وليتذكر دائماً الحكمة التي تقول: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).

ومن أيسر تلك الأعمال ما وصفه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله "هو خَيْرٌ مِن خادِمٍ" إذا أوى المُسلم إلى فراشه، أو أخذ مضجعه، [كَبِّر ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وسَبِّح ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وحَمَد الله ثَلاثًا وثَلاثِينَ].

 

وهل أيسر من قولك "الله أكبر" عند كل صعودٍ، وقولك "سُبحان الله" عند كل نزولٍ، سواءً بمصعدٍ أو على دَرَج؟ أو أن تقرأ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرف؟ أو إماطتك الأذى عن الطريق؟ أو إرشادك الغريب والتائه والضال فتكون له هادياً؟ أو أن تُعوِّد نفسك على قول [سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ] في أوقات انتظارك وأوقات فراغك؟

 

إن الأعمال الصالحة مُحيطةٌ بنا حتى ونحن في منازلنا، وفي أماكن عملنا، بل وفي طُرقنا، وبالإجمال في كل مكانٍ يُحيط بنا، بإمكاننا أن نُثقِّل موازين أعمالنا يومياً بما لا يُحصى من الحسنات بالكثير من تلك الأعمال، المُهم: أولاً: إخلاص النية؛ بأن يكون العمل لوجه الله سُبحانه وتعالى وحده، وثانياً: أن يكون مُوافقاً لشرع الله وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أهمية تبييت النية، والاستمرار في العمل دون انقطاع؛ من ذلك: مُحافظتك على الصلاة المفروضة على وقتها مع الجماعة، وِردك اليومي من تلاوة القرآن الكريم ولو بصفحةٍ واحدةٍ، قيامك الليل وتهجدك ولو بركعتين، إحياؤك لسُنةٍ من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم، ترطيب لسانك بذِكر الله، توكلك على الله، تصدقك على المحتاجين، استغفارك عن ذنوبك، لزومك أدعية الصباح والمساء، مُحافظتك على السُنن الرواتب، حرصك على صلة رحمك، دعاؤك لأخيك بظهر الغيب فيقول لك المَلَك "وَلَكَ بمِثْلٍ"، مشيك في مصلحة الناس، حفظك حقوق جارك، إصلاحك بين مُتخاصمين، إعانتك المُحتاج، مُساعدتك الفقراء والمساكين، تبسمك في وجه أخيك، إصغاؤك لحديثٍ مُمِّلٍ لجبر خاطر مُتحدثٍ، مُلاطفتك لطفلٍ، إكرامك لضيفك، نصيحتك لغيرك، إطعامك الفقراء، دعاؤك لميتٍ، عدم ردك سائلاً، وغير ذلك من فرصٍ كثيرةٍ ومُتعددةٍ لتثقيل ميزان حسناتك، المهم في الأمر هو المُداومة والاستمرار؛ وصدق من قال: (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطع).

 

أحبتي.. علينا أن نُعمِّر أوقاتنا بكل عملٍ صالحٍ مُمكن، والعزم على المُداومة عليه، وعدم الانقطاع عنه بغير عُذرٍ، عسى الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتنا.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان. اللهم اغفر لنا ما مضى، وأصلح لنا ما تبقى، وارزقنا رضاك وحُسن الخاتمة، والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم تُب علينا واغفر لنا وارحمنا، وارحم والدينا، ومن لهم فضلٌ علينا وجميع المسلمين. واجعل اللهم خير أيامنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، وأعنِّا ربنا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.  

https://bit.ly/4iIKqEc

الجمعة، 25 أبريل 2025

أرحنا بها يا بلال

 

خاطرة الجمعة /496

الجمعة 25 إبريل 2025م

(أرحنا بها يا بلال)

 

عبَّرت بصراحةٍ تُحسد عليها عن موقفٍ مرَّ بها، وكان هدفها توعية غيرها ممن قد يمرون بنفس الموقف؛ كتبت هذه الفتاة على منصة X تقول:

كنتُ أَمرُّ بفترةِ اكتئابٍ وسخطٍ على الدنيا، كان كل شيءٍ ينال مني، أما أنا فلم أنلْ شيئاً. في ذلك اليوم كنتُ في الجامعة وسمعتُ أذان الظهر، وفي العادة، عندما نسمع الأذان، كنا -أنا وزميلاتي- نستعد فوراً للصلاة؛ فنتوضأ، ثم نُصلي في مسجد الكلية معاً.

لكن في ذلك اليوم، لا أعرف ما الذي دهاني؛ كنتُ واقفةً قرب المسجد وسمعتُ الأذان، لكنني كنتُ منهكةً، كأن حجراً ثقيلاً جاثماً على صدري، حتى إنني سمعتُ الأذان ولم أتحرك للوضوء. وقتها قررتُ ألا أتوضأ، وألا أُصلي، ولا حتى أُكمل اليوم الدراسي! قررتُ أنني سأعود إلى البيت لأنام، ولن أُصلي حين أصل إلى البيت! ولأؤكد لنفسي أنني لا أتدلل، وأن التعب حقيقيٌّ، زيَّن لي الشيطان أن أنام -حين أصل إلى البيت- بالحذاء ولا أخلعه!

وبالفعل؛ ما زلتُ أسمع الأذان، لكني كنتُ أبتعد عن المسجد عائدةً إلى البيت. توجهتُ إلى موقف الحافلات، ركبتُ حافلةً صغيرةً، وفي الطريق، ومن شدة الإرهاق غفَت عيناي. وفجأةً صحوتُ على صراخ الركاب: "انتبه! انتبه!" ثم انقلبت الحافلة مرتين أو ثلاثاً، لا أتذكر. حينها لم أكن أرى ما حولي، لكنني كنتُ أسمع صوتاً داخلياً يسأل: "أأنا ميتةٌ الآن؟ أم لا أزال حيةً؟ وإن متُّ فهل أموت وأنا عازمةٌ على ترك الصلاة؟ يا ليتني كنتُ قد نويتُ الصلاة في البيت! لم أفعل، بل كنتُ عازمةً على عدم الصلاة مُطلقاً! يا الله! إنها الصلاة! أول ما سوف أُسأل عنه، فماذا سيكون ردي؟!".

وبينما أنا غارقةٌ في أفكاري داخل الحافلة المُنقلبة، غير مُدركةٍ لأي شيءٍ في العالم الخارجي، لم أفُقْ إلا على قطراتٍ من البنزين تتساقط على ملابسي. فخفتُ أن تحترق الحافلة وأنا لا أزال داخلها، ناجيتُ ربي: "ربِّ، إني غير مُستعدةٍ للموت على هذه النية! ربِّ، أمهِلني كي أعود إلى رُشدي"! نظرتُ حولي، فرأيتُ الجميع قد خرجوا من الحافلة، ولم يبقَ فيها سواي، ولولا أن سخَّر الله سبحانه وتعالى لي من يُخرجني منها، لكنتُ احترقتُ بداخلها.

الحمد لله؛ احترقت الحافلة بعد أن خرجنا جميعاً منها بسلامٍ، مع كسورٍ وجروحٍ طفيفة. ركبتُ حافلةً أخرى، وظللتُ أبكي طوال الطريق، حتى وصلتُ إلى بيتي. لم أكن أبكي من الجروح، ولا من الكدمات التي تُغطي جسدي كله، لكنني كنتُ أبكي شفقةً على نفسي، وخجلاً من كرم ربي الذي منحني فرصةً جديدةً. أول شيءٍ فعلته حين وصلتُ: توضأتُ وصليتُ. كنتُ أستطيع الصلاة جالسةً -لما في جسدي من كدماتٍ- لكنني قررتُ أن أُعاقب نفسي؛ فصليتُ واقفةً بكل ما بي من ألمٍ، أبكي كما لم أبكِ من قبل؛ لأنني شعرتُ أن هذا أقل شيءٍ أستطيع أن أُعاقب به نفسي عن سوء نيتي. وكان لسان حالي يقول: "إلا الصلاة، قد فهمتُ الدرس: لا ينفع أن نربط حالتنا النفسية بالصلاة".

تلك الحادثة كانت صفعةً قويةً أستحقها، ودعوتُ الله سبحانه وتعالى أن يُعيدني إليه بأي طريقةٍ كلما ابتعدتُ عنه، ولا يقبض روحي إلا وأنا تائبةٌ. أما عن الصلاة؛ فلا يجب أن تكون اختياراً مُرتبطاً بحالتنا النفسية: إن ساءت نفسيتنا، تركناها! بل على العكس تماماً؛ هي التي تُخرجنا من همومنا، وتُخفف أحزاننا، وتجعلنا بخير. تعجبتُ كيف غفلتُ عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"؟ أنا الآن أُذكركم، وأُذكِّر نفسي في عز انتكاستي: "اذكروا هذا كلما انتكستم! عودوا إلى طريق الصواب بأسرع ما يُمكن، حتى لو انتكستم ألف مرةٍ قبلها؛ فإننا لا نعلم متى؟ ولا على أي حالٍ يُدركنا الموت؟ فلنكن مُستعدين له في كل لحظةٍ؛ بالعمل الصالح، أو على الأقل بالنية الصالحة، وإن أخطأنا عُدنا سريعاً وتُبنا، ولا نُصِّر على ما فعلنا؛ فالله يُحب التوابين، وخير الخطائين التوابون".

 

أحبتي في الله.. لله دَرُّ هذه الفتاة؛ كم كانت صريحةً، وكم كانت صادقةً في التعبير عن مشاعرها، وكم كانت شجاعةً؛ فالكثير منا يمر بمواقف شبيهةٍ ويخجل أن يعترف بها علانيةً، فيُضيِّع على نفسه ما حصلت عليه هذه الفتاة من ثوابٍ؛ إذ نبهَّت غيرها إلى ما كان الشيطان سيوصلها إليه، لولا رحمةُ الله عز وجل.

تفاعلت كثيرٌ من الفتيات مع تلك الفتاة بعد أن نشرت قصتها، وكتبن لها إنهن يشعرن بانتكاسةٍ ولا يعرفن كيف يخرجن منها، ففتح الله عليها بفكرةٍ طيبةٍ، لعل فيها مزيداً من الأجر والثواب؛ إذ أنشأت مجموعةً على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، وكتبت تقول: "إن هدفنا من هذه المجموعة أن نكون سنداً لبعضنا؛ فيُقوي بعضُنا بعضاً وقت الانتكاسة، أنا لستُ أقوى منكن، بل قد أكون أضعفكن، لكنني أُحاول، وأُحب مَن يحاول. صحيحٌ أنني قد أتأخر عن الصلاة، لكنني -مثلكن- أخشى أن أموت وألقى ربي وأنا على هذه الحال، اللهم اهدنا يا رب العالمين".

 

وعلَّقت إحداهن على قصة الفتاة فقالت: "حدث لي مرةً أن نمتُ عن صلاة العشاء كسلاً، وقلتُ: إذا قمتُ لصلاة الفجر أُصليها. وكان المطر ينهمر بشدةٍ، وأنا على سريري أتهيأ للنوم، فسمعتُ صوت رعدٍ شديدٍ جداً، فمن الخوف قمتُ وصليتُ! استيقظ ضميري بعد سُباتٍ، شعرتُ أن ربي أرسل لي إشارةً واضحةً ألا أتكاسل، ولله الحمد".

وكتبت أُخرى: "ثبَّتكَ وثبَّتنا الله. الراحة التي أشعر بها حين أؤدي الصلوات الخمس لا تُوصف، كأنني فعلتُ شيئاً عظيماً، وصدق النبي الكريم حينما قال: أرحنا بها يا بلال. أما إذا جمعتُ صلاتين غصباً عني، فإني أحزن جداً، لم أكن أتخيل أن أصل إلى هذه المرحلة. اللهم ثبِّتنا حتى نلقاك".

وكتبت ثالثةٌ: "على ذكر ما حدث: كنتُ في المترو ذات مرةٍ فمال بشدةٍ وكاد أن ينقلب، فلم يخطر ببالي وقتها إلا: يا إلهي، لم أُصلِّ الظهر لأنني كنتُ مُتعجلةً! اللهم اغفر لي، وامنحني فرصةً لمراجعة نفسي، ولا أترك صلاةً إلا وصليتُها في وقتها".

وهذه رابعةٌ كتبت: "يحدث معي نفس الشيء في صلاة الفجر؛ أُؤجلها حتى قُبيل الأذان، فيوسوس الشيطان: نامي، أنتِ مُتعبةٌ! وغداً عندك محاضرات! وأنا من داخلي أعلم أنني أُريد الصلاة، لكن الكسل يغلبني. أسأل الله الهداية".

وأما الخامسة، فقد كانت لا تقل شجاعةً عن الفتاة التي نشرت القصة؛ فكتبت تقول: "أُحس أن قصتك صفعةٌ لي. صرتُ أتهاون في الصلاة بعد رمضان وأجمعها في آخر اليوم. إن شاء الله لا أعود لذلك. جزاكِ الله خيراً، لقد نبهتيني، ادعِ لي بالثبات والهداية".

وكتب شابٌ آخر يقول صراحةً: "مررتُ بنفس الموقف، كل بابٍ يُغلق في وجهي حتى قُلتُ: لن أُصلي العشاء! وكانت أول صلاةٍ أتخلف عنها مُنذ صغري. زيَّن لي الشيطان أن أقول: أنا دائماً أُصلي، ماذا يضر لو تركتُ صلاةً واحدةً؟! وحين قرأتُ قصتك؛ أحسستُ بمدى تقصيري وبغفلتي، جزاكِ الله خيراً، اللهم ثبِّتنا على الإيمان حتى نلقاك".

وكان هذا آخر تعليقٍ: "أنتِ محظوظةٌ بفضل الله سبحانه وتعالى؛ أولاً: لأنه نجاكِ من الموت ومنحك فرصةً جديدةً، وغيرُك حُرِمَها. ثانياً: لأنك استفدتِ من الموقف وتعلمتِ ألا تتخلي عن الصلاة مهما كانت حالتك النفسية، ومهما كانت ضغوط الحياة، وغيرُك قد لا يشعر بذلك. ثالثاً: لأنك التزمتِ بالمُداومة على الصلاة حقاً، وغيرُك قد لا يلتزم".

 

يقول الله سبحانه وتعالى عن الصلاة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، يقول المفسرون: إن الصلاة صعبةٌ إلا على الخاضعين المُخبتين المُطمئنةِ قلوبُهم وجوارحُهم لله تعالى؛ لأنهم موقنون أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا، والسعادة في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها سروراً يجعل نفوسهم تنشط إليها -كلما حلَّ وقتُها- بهمةٍ وإخلاص.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [يا بلالُ، أقمِ الصلاةَ، أرحنا بها] ويقول شُرَّاح الحديث: الصلاة أعظم أركان الإسلام العملية، ولها أهميتها الخاصة في الشرع، وفيها من الروحانيات والصلة بالله ما يجعل القلب يرتاح ويخرج من متاعب الدنيا إلى معية الحق سبحانه، وفي هذا الحديث يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلالٍ رضي الله عنه أن يرفع أذان الصلاة لتُقام؛ فنستريح بها، وكأن دخوله فيها هو الراحة من تعب الدنيا ومشاغلها؛ لما فيها من مُناجاةٍ لله تعالى، وراحةٍ للروح والقلب. وفي الحديث أن الصلاة راحةٌ للقلب من تعب الدنيا ومشاغلها، وفيه بيان عِظَم قدر الصلاة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها ينبغي أن تكون كذلك عند كل مُسلم.

ولا عجب في ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو القائل: [وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ]، وهذا بيانٌ لعظيم محبته لها؛ لما فيها من القُرب من المولى عز وجل؛ فلا شيء يُسعده ويُدخل عليه السرور بمثل ما تُدخل عليه الصلاة؛ فـقُرَّةُ العين" يُعبَّر بها عن المسرة ورؤية ما يُحبه الإنسان.

ومن عجبٍ أن البعض عندما يمر بأزمةٍ أو تتكالب عليه المشاكل أو يجور عليه الناس، ينسى ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف؛ إذ كان "إذا حَزِبَهُ أمْرٌ صلَّى" {حَزِبَهُ أمرٌ: أي أحزنه أو أصابه همٌّ}؛ ذلك أن الصلاة -كما يقول شارحو الحديث- صِلةٌ بين العبد وربه، وهي عبادةٌ جليلةٌ، فيها تصفو الروح من الكدر والمُنغصات، وفيها يقف العبد بين يدي ربه يدعوه لتفريج همومه؛ فهو وحده القادر على إزالة الهَم والحزن وتسهيل الصعاب. وفي هذا الحديث توجيهٌ لنا إلى حُسن التوكل على الله، واللجوء إليه في كل الأمور، واللجوء إلى الصلاة وقت الضيق، وحين تُحيط بنا الشدائد.

 

وتحت عنوان (أرحنا بها يا بلال) يقول الشاعر:

الصَّلاةُ ارْتِقاءٌ إلى ذي الْجَلالْ

وَبِها يَرْتَقي كُلُّ فِعْلٍ حَلالْ

لَمْ تَزَلْ تَمْلَأُ الْقَلْبَ أَنْوارُها

وَبِأَنْوارِها تَسْتَقيمُ الْخِصالْ

كَمْ تُنَظِّمُنا بِمَواعيدِها

فَمَواعيدُها لَيْسَ فيها اخْتِلالْ

هِيَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِخَيْرِ الْوَرى

وَلَنا نَحْنُ أَيْضاً، فَيا لَلْجَمالْ

وَهْيَ نَهْرُ الْأُجورِ، وَمِنْ مائِها

نَتَطَهَّرُ مِمّا يَشينُ الْفِعالْ

وَإذا ما وَجَدْنا بِها راحَةً

فَالرَّسولُ لَنا يا أَحِبّاءُ قالْ

يا لَهُ مِنْ رَسولٍ وَمِنْ قائِلٍ

حينَ قالَ: (أَرِحْنا بِها يا بِلالْ)

 

أحبتي.. لتكن الصلاة أول ما نهتم به، نُحافظ على إقامتها على وقتها، أياً كان ما نمر به من ظروفٍ، وعلى أي حالٍ كُنا؛ فلا نترك للشيطان علينا سبيلاً.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، واجعل الصلاة قُرة عينٍ لنا، واجعلنا نتأسى بقدوتنا صلى الله عليه وسلم؛ فنقول في أنفسنا مع كل أذانٍ: (أرحنا بها يا بلال).

https://bit.ly/4iR0ILD

الجمعة، 18 أبريل 2025

ذات الدِّين

 

خاطرة الجمعة /495

الجمعة 18 إبريل 2025م

(ذات الدِّين)

 

يقول راوي القصة: كنتُ أُرافق زوجتي في أحد الأيام لزيارة طبيب عظامٍ؛ لأنها كانت قد تعرضت للسقوط على ساقها. جلسنا في عيادة الطبيب، وكل شخصٍ كان مشغولاً بشيءٍ ما؛ أحدهم كان يُمسك بهاتفه المحمول، وآخر كان يتحدث مع الشخص الذي بجواره، وثالثٌ كان يقف ليُدخِّن سيجارةً في شُرفة العيادة، وكان الشعور بالضيق والملل واضحاً على وجوه الجميع. شعرتُ بالملل، فخرجتُ قليلاً إلى الشُرفة بعد أن غادرها من كان يُدخِّن سيجارته، ثم عُدتُ بعد قليلٍ، وعندما جلستُ أدركتُ أن شعور الإنسان عند قراءة كلماتٍ في مقالٍ أو كتابٍ أو منشورٍ على وسائل التواصل الاجتماعي يختلف تماماً عن شعوره عندما يُشاهد هذه الكلمات حيةً أمام عينيه، هذا ما حدث معنا ونحن في العيادة؛ إذ فجأةً، ساد الصمت، وجلس الجميع في صمتٍ تامٍ حتى جاء موعد أذان العشاء، الذي استمعنا له من هاتف أحد الموجودين، رددَّنا الأذان مع المؤذن، وعُدنا إلى صمتنا الذي لم يقطعه إلا صوت طفلٍ - لا يزيد عُمره عن سبع سنواتٍ - يسأل أُمه وهو يُشمِّر عن ثيابه: "أين الحمّام؟"، أخذته أُمه وذهبت معه إلى الحمّام، لكنه توقف فجأةً، ونظر إلينا وقال: "هل ستظلون جالسين هنا؟ ألن يُصلي أحدٌ منكم؟"، ضحكنا على كلامه، ثم عُدنا إلى السكوت.

ترك الطفل يد أمه وهو غاضبٌ، وذهب ليتوضأ وعاد بوجهٍ مُشرقٍ كالقمر، ثم بدأ يبحث عن شيءٍ يُصلي عليه، دخلت السكرتيرة وأحضرت له سجادة صلاةٍ، وقف الطفل على السجادة وقال: "هل سأُصلي وحدي؟" ظل الجميع صامتين، ثم قال الطفل ببراءةٍ: "أليس الله الذي نُصلي له هو الذي يشفيكم؟ وأنتم هُنا من أجل أن يشفيكم، كيف سيشفيكم إذا لم تشكروه أو تحمدوه أو تتحصنوا بفضله؟". دمعت عيون الحاضرين من كلامه، وأكمل هو قائلاً: "على أية حال، كل شخصٍ مسؤولٌ عن أعماله"، ثم قال: "سأُكَبِّر وأبدأ في الصلاة"، قمتُ ووقفتُ إلى جانبه، وقلتُ له: "انتظر، سأُصلي معك".

وفور دخولي الحمّام لأتوضأ، قام باقي الرجال الذين كانوا مُنتظرين في العيادة ودخلوا ليتوضؤوا، وبعد أن انتهى الرجال من الوضوء دخلت النساء للوضوء كذلك. عندما أصبحنا كُلنا مُستعدين للصلاة أخذتنا السكرتيرة إلى غُرفةٍ خاليةٍ لنُصلي فيها، وفيما كُنا نستعد للصلاة، خرج الطبيب من غُرفته وسأل: "لماذا لم يدخل أحدٌ؟ أين السكرتيرة؟"، شرحت له السكرتيرة الموقف، فوقف مصدوماً للحظةٍ، ثم مسح على رأس الطفل بفخرٍ، وقال ووجهه يُعبر عن سعادته: "انتظروني قليلاً حتى أتوضأ؛ سأُصلي معكم". صلينا جميعاً معاً، وبعد الصلاة استغفرنا الله قليلاً، ثم حدث ما لم يكن في الحُسبان؛ فاجأنا الطبيب بأنه قرَّر عدم أخذ أية أتعابٍ من أي مريضٍ في تلك الليلة، وجعل جميع الاستشارات مجانيةً، ووهب حسنات ذلك للطفل.

بكت والدة الطفل من الفرحة، وقالت ويداها ترتجفان: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟"، ثم أمسكت بهاتفها المحمول واتصلت بزوجها - الذي عَلِمْنا فيما بعد أنه مُسافرٌ ومُقيمٌ في الخارج - وأخبرته بما حدث، ومن شدة سعادته، كنا نسمع ضحكته وفرحته عن بُعد.

في تلك اللحظة، قلتُ في نفسي: "نِعْمَ الأُم (ذات الدِّين).

 

أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت أُم ذلك الطفل أُمّاً يصدق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.

 

أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت أُم ذلك الطفل أُمًّا يُصدَق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.

 

وينطبق هذا الوصف أيضاً على الكثير من الأُمهات المؤمنات، ومنهن هذه الأُم التي يحكي عنها أحد مُعلمي القرآن الكريم في أحد المساجد، كتب يقول: أتاني ولدٌ صغيرٌ يُريد التسجيل في حلقة التحفيظ، فسألته: "هل تحفظ شيئاً من القرآن؟"، فقال: "نعم"، فقلتُ له: "اقرأ من جُزء عمَّ"؛ فقرأ، فقلتُ: "هل تحفظ سُورة تبارك؟"، فقال: "نعم"، فتعجبتُ من حفظه برغم صغر سنه؛ فسألته عن سُورة النحل؛ فإذا به يحفظها فزاد عجبي، فأردتُ أن أعرف إن كان يحفظ شيئاً من السور الطوال فسألته: "هل تحفظ سُورة البقرة؟"، فأجابني بنعم؛ وإذا به يقرأ ولا يُخطئ، فسألته: "يا بُني، هل تحفظ القرآن كله؟"، فقال: "نعم"! طلبتُ منه أن يأتي في اليوم التالي ويُحضر ولي أمره. كنتُ أتعجب؛ كيف يُمكن أن يكون ذلك الأب؟ فكانت المُفاجأة حينما حضر الأب ورأيته وليس في مظهره ما يدل على التزامه بالسُّنَّة، فبادرني قائلاً: "أعلم أنك مُتعجبٌ من أنني والده، لكني سأقطع حيرتك؛ إن وراء هذا الولد (ذات الدِّين) أقصد زوجتي وأُم أبنائي، وأُبشرك؛ إن لديّ في البيت ثلاثة أبناء كلهم يحفظون القرآن، وأن ابنتي الصغيرة التي تبلغ من العُمر أربع سنواتٍ تحفظ جزء عمَّ"، فتعجبتُ وسألته: "كيف ذلك؟!"، فقال لي: "عندما يبدأ الطفل منهم في الكلام تبدأ أُمه معه بتحفيظه القرآن، وتُشجع جميع أبنائنا على ذلك؛ فمن يحفظ أولاً هو من يختار وجبة العشاء في تلك الليلة، ومن يُراجع أولاً هو من يختار أين نذهب في عُطلة نهاية الأُسبوع، ومن يختم أولاً هو من يختار أين نُسافر في الإجازة، وبهذه الطريقة تجعلهم أُمهم يتنافسون في الحفظ والمُراجعة".

 

ما أعظم المرأة؛ أُمًّا وزوجةً وأُختاً وبنتاً عندما تكون ممن مدحها النبي صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها (ذات الدِّين) عندما قال: [تُنكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].

والمعنى كما يقول شارحو الأحاديث: أن اللائق بذي المُروءة أن يكون الدِّين مطمحَ نظره في كل شيءٍ، لا سيما فيمن تطول صحبته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم باختيار (ذات الدِّين) التي يقول أهل العلم عن صفاتها إن منها:

طاعة الزوج، وعدم مُخالفته إذا أمر بالحق؛ سُئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ فقال: [الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ].

والتي تُعين الزوج على إيمانه ودِينه، تأمره بالطاعات، وتمنعه من المحرَّمات؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ].

ومن صفات (ذات الدِّين) أن تكون مُطيعةً لربها، وقائمةً بحق زوجها في ماله، وفي نفسها، ولو في حال غياب الزوج؛ يقول تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، يقول المفسرون: ﴿قَانِتَاتٌ﴾ أي: مُطيعاتٌ لله تعالى، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي: مُطيعاتٌ لأزواجهن، حتى في الغيب تحفظ زوجها في نفسها، وماله.

والمرأة الصالحة من السعادة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ]، والمرأة الصالحة هي خير متاع الدنيا؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ].

وهي خير النساء إذا توافرت فيها صفات حُسن صُحبة زوجها؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ].

 

ومن معاني (ذات الدِّين) قيام المرأة بالطاعات، والأعمال الصالحات، والعفة عن المُحرَّمات؛ فتجمع بين: طاعة ربها بفعل ما أمر به من الواجبات، وترك ما نهى عنه من المُحرَّمات، وطاعة زوجها، وهي التي بشَّرها النبي بكرامةٍ عاليةٍ عند دخول الجنة؛ يقول عليه الصلاة والسلام:
[إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ].

وبهذا يُعرف أن "الدِّين" كلمةٌ جامعةٌ، تشمل أصنافاً من العبادات، وأنواعاً من الطاعات، وأخلاقاً وشمائل، وكلما كانت المرأة أكثر حياءً، وعِلماً، وعبادةً، كانت أقرب للمقصود من (ذات الدِّين)؛ فتُربي أبناءها خير تربية.

وما أروع تلك الأُم المثالية التي ربّت أبناءها على الصلاة، وعلى حفظ القرآن الكريم، وشجعتهم، وحفزتهم على ذلك.

وكأني بها وقد اطّلعت على حديث النبي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ رَاعٍ، ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]، واختص المرأة بقوله: [وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا].

فهنيئاً لتلك المرأة، وهنيئاً لزوجها بها، وهنيئاً للأبناء بأُمهم، وللوالدين بأبنائهما.

هنيئاً لهذه المرأة الصالحة (ذات الدِّين) التي أمّنت مُستقبل أبنائها، وحرصت على أن يكونوا مع المُحافظين على صلواتهم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [أوَّلُ ما يُحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ: الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ، فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه].

كما حرصت على تحفيظهم القرآن الكريم الذي يأتي شفيعاً لهم يوم القيامة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ وارتَقِ، ورَتِّل كما كنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا].

وقال أيضاً: [وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ، وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا].

فهنيئاً لوالدَي أولئك الأبناء من حفظة القرآن، وهما واقفان يوم المحشر، ينظران إلى أبنائهما يرتقون، ويرتفعون إلى أعلى منزلةً، ويلبسون تاج الوقار، ورُفِع على رأسي الوالدين تاجٌ، وأُلبِسا حُلَّتين من حُلَل الجنة. يا له من تكريمٍ يتمناه كلٌّ منا.

إن التربية عمليةٌ يشترك فيها الأب والأُم، لكن العبء الأكبر يقع على عاتق الأُم، كما أن مسؤولية الوالدين تتضاعف في تربية البنات، وإعدادهن ليكنَّ أُمّهاتٍ صالحاتٍ؛ فهُنَّ مُربيات الأجيال اللواتي أشار لهنَّ الشاعر بقوله:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدتَها

أعدَدتَ شعباً طيِّبَ الأعْراقِ

 

أحبتي .. بارك الله في كل امرأةٍ، وكل بنتٍ، وكل أمٍ ممن تربين تربيةً صالحة، جعلت كل واحدةٍ منهن من المُسْلمات (ذات الدِّين)، وأكثرَ من أمثالهن؛ فكم هي رائعةٌ تلك الأُم التي غرست في أبنائها الحرص على إقامة الصلاة على وقتها، وتلك التي شجعت أبناءها على حفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظفارهم، لينشأ هؤلاء جميعاً نشأةً دينيةً صحيحةً، ويكونوا حجر الأساس لجيلٍ صالحٍ لأنفسهم، مُصلحٍ لغيرهم.

اللهم أعنّا على أن نكون آباءً وأُمهاتٍ صالحين، نافعين لأنفسنا، ولأبنائنا، ولمجتمعنا.
ووفقنا اللهم لنكون من الصالحين، ولنكون من المُصلحين.

https://bit.ly/4ioxgfI

الجمعة، 11 أبريل 2025

العم «عابد»

 

خاطرة الجمعة /494

الجمعة 11 إبريل 2025م

(العم «عابد»)

 

أنقل إليكم اليوم قصةً من أعجب القصص، تُظهر قوة الإيمان، يرويها أحد الدُعاة، حفظه الله، وهي قصةٌ حقيقيةٌ وقعت في إحدى قُرى منطقة «ينبع» في غرب «المملكة العربية السعودية». يقول راويها:

توجهنا -أنا ومجموعةٌ من أهل الصلاح- إلى قريةٍ بسيطةٍ أخبرنا بعض الأحبة من طُلاب العلم المُقيمين في المنطقة أنّ في تلك القرية رجلاً صالحاً، اسمه (العم «عابد»)، وأنه كما يُقال "اسمٌ على مُسمى"! سألناهم: "كيف ذلك؟"، قالوا: "اذهبوا إلى القرية، واحضروا الصلاة في مسجدها، وستعرفونه بأنفسكم، وستدركون وقتها لماذا نقول عليه إنه اسمٌ على مُسمى! توجهنا في اليوم التالي إلى القرية وعندما وصلنا إليها وجدناها قريةً بسيطةً مُتواضعةً، لا يوجد بها أي مَعلمٍ من معالم الحضارة الحديثة، كأنها تعيش في زمنٍ آخر، شاهدنا مئذنة المسجد على بُعدٍ، وبدأنا المسير إليه، سِرْنا على أرضٍ غير مُمهدةٍ، قاصدين المسجد آملين أن نلتقي (العم «عابد») ونتعرف عليه. لكننا عندما اقتربنا من المسجد، شاهدنا شيئاً عجيباً؛ شاهدنا عند بابه حجراً كبيراً مربوطاً به حبلٌ مُمتدٌ على الأرض؛ تملكنا الفضول، وتساءلنا عن سر هذا الحبل المربوط بالحجر على باب المسجد. ولما كان هناك وقتٌ طويلٌ قبل أذان العصر؛ فقد قررنا أن نرجئ دخول المسجد لمُقابلة (العم «عابد»)، وعزمنا على أن نكتشف أولاً سر هذا الحبل بأنفسنا! أمسكنا بطرف الحبل، وأخذنا نسير معه، يرتفع بنا حيث ترتفع الأرض، وينخفض حيث تنخفض؛ فطُرقات القرية غير مُستويةٍ، سِرْنا مسافةً كبيرةً حتى اقتربنا من نهاية الحبل. نعم، لقد بدأنا نصل إلى الطرف الآخر من الحبل؛ فما هو السر الذي ينتظرنا في نهايته يا ترى؟! إلى ماذا سوف يوصلنا هذا الحبل، وإلى مَن؟ وما هو سبب وجوده ممدوداً حتى المسجد؟

عندما وصلنا إلى نهاية الحبل، وجدنا بيتاً مُتواضعاً مُكوّناً من غُرفةٍ ودورة مياهٍ، ووجدنا به رجلاً كبيراً في السن، كفيف البصر، عُمره يزيد عن خمسٍ وثمانين سنةً، مَن هو يا تُرى؟

هنا كانت المفاجأة! إنه هو (العم «عابد») الذي كُنا نريد أن نلتقي به في المسجد! سألناه: "يا عم «عابد»، أخبِرنا ما سر هذا الحبل؟!" فردَّ قائلاً: "هذا الحبل من أجل الصلوات الخمس في المسجد؛ أخرج من بيتي قبل الأذان، وأُمسك بهذا الحبل حتى أصل إلى المسجد، ثم بعد انتهاء الصلاة وخروج الناس، أخرج أنا كآخر رجلٍ من المسجد، وأُمسك بالحبل مرةً أخرى حتى أعود إلى بيتي؛ إذ ليس لي قائدٌ يقودني"!

نظرنا إلى كلتا يديه، فإذا هُما خشنتين مُتشققتين تشهدان على صدق صاحبهما.

إنه رجلٌ نوَّر الله قلبه بالإيمان، قصد طاعة الله، أراد الصلاة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ فكأنه قد تمثل قوله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾، إنه رجلٌ في هذا السن، كفيف البصر، ضعيف البناء، بحالةٍ لو رأيتموها لتعجبتم والله! يقول: "من أجل الصلوات الخمس في المسجد"؛ فأين الرجال المُبصرون الذين يتكاسلون عن حضور الصلوات الخمس في المسجد؟ أين الذين هجروا صلاة الفجر؟ أين الذين حرموا أنفسهم من الصلاة في بيوت الله؟ أين أولئك الكُسالى الذين امتنعوا عن أداء الصلوات الخمس في المسجد؟! ألم يستمعوا إلى قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾.

نعود إلى قصة (العم «عابد»)، يقول أهل المنطقة عنه إنه رجلٌ سمته الصلاح والوقار، كفيف البصر من زمنٍ بعيدٍ، أما عن الحبل فقد غيَّره أكثر من مرة!

فأين المُبصرون الأصحاء جيران المساجد، الذين لا يشهدون الصلوات الخمس بها؟ أين الذين حرصوا على الوظائف والمناصب والتجارة وغيرها من أمور الدنيا أكثر من حرصهم على الصلاة بالمساجد؟ أين هُم من (العم «عابد»)؟!

 

أحبتي في الله.. تدور قصة هذا الرجل الصالح حول أمرين مُهميْن: المحافظة على الصلوات الخمس وعدم التخلف عنها رغم وجود العُذر، والبصيرة التي عوضته عن فقدان البصر.

عن الأمر الأول يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صَلَاةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وفي سُوقِهِ، خَمْسًا وعِشْرِينَ ضِعْفًا، وذلكَ أنَّهُ: إذَا تَوَضَّأَ، فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إلَّا رُفِعَتْ له بهَا دَرَجَةٌ، وحُطَّ عنْه بهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عليه، ما دَامَ في مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عليه، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولَا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلَاةٍ ما انْتَظَرَ الصَّلَاةَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟]، قالُوا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: [إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ]. وهذا رجلٌ أعمى قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنه ليس له قائدٌ يقوده إلى المسجد، وسأل رسول الله أن يُرَّخص له فيصلي في بيته، فرَّخص له، فلما ولىَّ دعاه فقال: [أتَسمعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ؟]، قال: نعم، قال: [فأجِبْ]؛ أي فاذهب للصلاة بالمسجد ولا تُصلِ في بيتك.

 

وكان المسلمون الأوائل يحرصون على الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، ويسعون لإدراك فضل الصلاة في الصف الأول، حتى قيل إن بعضهم صلى سبعين سنةً ما فوَّت تكبيرة الإحرام ولا مرةً واحدة.

ونُقل عن أحدهم قوله لأصحابه: "إذا سمعتم حيّ على الصلاة، ولم تجدوني في الصف الأول، فإنما أكون قد مِتُ".

وقيل: "من تأخر عن حيّ على الصلاة، تأخر عنه الفلاح".

وقيل أيضاً: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة -يقصد في المسجد- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف".

 

وعن الأمر الثاني؛ البصيرة؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

وقال أحد التابعين: "لكل إنسانٍ أربع أعينٍ: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبِه لآخرته؛ فإن عَمِيَت عينا رأسِه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسِه وعَمِيَت عينا قلبِه فلم ينفعه نظرُه شيئاً".

وقال الشاعر في هذا المعنى:

إنْ يأخذ الله من عينيَّ نورَهما

فإن قلبي مُضيءٌ ما به ضَررُ

أرى بقلبي دُنيايَ وآخرتي

هو القلبُ يُدركُ ما لا يُدركُ البَصرُ

 

أحبتي.. فقد (العم «عابد») البصر، لكنه لم يفقد البصيرة؛ فأضاء الله دربه بنور الإيمان، ويسَّر له أداء الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد القرية بغير رفيقٍ يأخذ بيده، ولا قائدٍ يقوده إلى المسجد ويعود به إلى بيته، وكأنه ممن تصفهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

إنّ في قصة (العم «عابد») عبرةً لكل مُسلمٍ، ودرساً لكل مؤمنٍ، وتذكِرةً لكل غافلٍ؛ ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾؟

اللهم اجعلنا من عُمّار بيوتك، ومن المُحافظين على الصلوات في أوقاتها، وأنِر بصائرنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يسمعون ويقرأون عن الصالحين فيتعلمون منهم ويتخذونهم قدوةً لهم.

https://bit.ly/4lsLsH1

الجمعة، 4 أبريل 2025

رمضان غيَّرني

 

خاطرة الجمعة /493

الجمعة 4 إبريل 2025م

(رمضان غيَّرني)

 

يقول أحد الشباب: كنتُ شاباً غارقاً في اللهو والملذات، بعيداً عن طريق الصواب، لم أكن أهتم بالصلاة أو الصيام، وكانت حياتي تدور حول الأصدقاء والسهرات والأغاني، حتى جاء رمضان، شهر الرحمة والمغفرة. في البداية، لم يكن رمضان يعني لي شيئاً، كنتُ أعتبره شهراً ثقيلاً، شهراً للحرمان من الطعام والشراب، ولكن بمرور الأيام، بدأتُ ألاحظ شيئاً غريباً، بدأتُ أرى الناس من حولي يتغيرون؛ بدأتُ أرى وجوههم تُشرق بالنور، وقُلوبهم تفيض بالرحمة. بدأتُ أسمع صوت القرآن الكريم يتردد في كل مكانٍ حولي؛ في الأسواق والمحلات ووسائل المواصلات. بدأتُ أرى الناس يتسابقون إلى فعل الخيرات. بدأتُ أرى الفُقراء والمُحتاجين يتلقون المُساعدة والدعم من الجميع. بدأتُ أرى الناس يتسامحون ويتصالحون، ويتصافحون ويتعاونون. في إحدى الليالي، ذهبتُ إلى المسجد مع صديقٍ لي، كنتُ أشعر بفضولٍ غريبٍ، عندما دخلتُ إلى المسجد، شعرتُ بشعورٍ لم أشعر به من قبل؛ شعرتُ بسَكينةٍ وهدوءٍ يغمران قلبي. استمعتُ إلى إمام المسجد وهو يقرأ القرآن، وشعرتُ بكلمات الله تخترق قلبي، وتُحرك شيئاً في صدري. في تلك الليلة، قررتُ أن أتغير، قررتُ أن أعود إلى طريق الصواب؛ بدأتُ أُصلي وأصوم، وبدأتُ أقرأ القرآن، وأتعلم الكثير عن ديني. بدأتُ أتخلى عن اللهو والملذات، وأُركز على فعل الخير ومُساعدة الآخرين. صرتُ من المُصلين مع الجماعة بالمسجد بعد أن كنتُ هاجراً للصلاة، وأصبحتُ وأمسيتُ مع كتاب ربي الذي طالما هجرته وابتعدتُ عنه أياماً وأسابيع. كما حدث زلزالٌ عظيمٌ في علاقتي بالناس؛ فقد كانت مُعاملتي لهم غليظةً، وسلوكي معهم فظاً، حتى حلَّ رمضان بساحتي وأدركتُ أيامه الفاضلة، فكان للطاعات أثرٌ كبيرٌ عليّ، فها هي نفسي قد هُذبت، وأخلاقي قد استقامت. ووصل التغيير إلى سلوكي؛ فق دكنتُ أظن أن الحياة مُتَعٌ وشهواتٌ ينهل المرء منها كيفما شاء بدون حسيبٍ أو رقيبٍ، وأنَّ له أن يتمتع بلذائذها حتى وإن كانت فيما لا يُرضي الله، أو كان فيها تعدٍ على الآخرين، فإذا بروحانية رمضان تحلبي، وخيرات هذا الشهر تنتشلني من غفلتي، وتوقظني من سهوتي. صرتُ أيضاً أحفظ جوارحي عن الحرام؛ حين علمتُ أن كثيراً من تعبي وجوعي وعطشي طوال أيام رمضان سيذهب سُدىً إن لم أُحافظ على جوارحي، وأُحيطها برعايتي؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾. وكذلك تعرفتُ على شرف الأوقات؛ واكتشفتُ أنني كنتُ مُفرِّطاً في أوقاتٍ شريفةٍ وأزمنةٍ جليلةٍ، عظَّمها ربي عزَّ وجلَّ وأثنى على أهلها، لم أعرف فضلها إلا بعد بلوغي رمضان مع أنها مُعظمةٌ في كل شهرٍ، وهي أوقاتٌ مدح الله المُغتنمين لها، وجعل الأُعطيات لأهلها أعظم العطايا، ومن أجلِّها وأعظمها وقت السحر؛ فعقدتُ العزم على استغلاله بصلاة التهجد والإكثار من الاستغفار وطرح حاجتي على ربي الذي وعد بالاستجابة، وهو سُبحانه أوفى من صدق. كما عرفني رمضان قدْر نفسي؛ فكم كنتُ مُغتراً بحالي، وكنتُ أظن أنني ما دمتُ أعيش في بلاد الإسلام فإني لستُ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الطاعات والقُربات، وتكفيني بضع ركعاتٍ أركعها، أو قراءة بعض آياتٍ من القرآن وقت فراغي، وأما الصدقة فلم أكن أُفكر فيها؛ لأن ما معي من مالٍ كنتُ أُنفقه على شراء كل أمرٍ مُتعلقٍ بدنياي، لكن بدخول هذا الشهر الكريم، رأيتُ صوراً ناصعةً لأهل الخير؛ فأنَّبتُ نفسي أشدَّ التأنيب على تفريطها في جنب الله، وكيف مضى هذا العمر وأنا أسيرٌ للغفلات، كيف لو قَدِمتُ على ربي وأنا خالٍ من الكثير من الحسنات، وغيري من المُتصدقين يتسابقون إلى الصدقة؛ فهذا يبحث عن فقيرٍ ويصل إلى بيته، وذاك قام على إفطارٍ للصائمين، وثالثٌ نذر وقته كله لخدمة المسلمين؛ فعدتُ باللوم على نفسي، وأيقنتُ أنني في حاجةٍ إلى أن يُعينني الله على مثل تلكم الطاعات.

(رمضان غيَّرني)؛ لأنه شهر نزول الرحمات والبركات، ونفحات المغفرة تُحيط بالعباد، وليقيني أني محرومٌ إن لم تُدركني تلك الرحمات، وأني سأبقى في شقاءٍ إن لم أتعرض لتلك النفحات؛ لم لا وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك فقال: [رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ].

كان شهر رمضان المُبارك بمثابة نقطة تحولٍ في حياتي؛ بالفعل (رمضان غيَّرني) فتحولتُ من شابٍ غافلٍ إلى شابٍ مُلتزمٍ بدينه، حريصٍ على فعل الخير، يسعى إلى رضا الله. لقد علَّمني رمضان أن الحياة ليست مُجرد لهوٍ وملذاتٍ، بل هي فرصةٌ للتقرب إلى الله، وفرصةٌ لفعل الخير، وفرصةٌ للتغيير نحو الأفضل. بعد رمضان، لم أعد كما كنتُ؛ أصبحتُ شخصاً آخر، شخصاً أفضل، أصبحتُ أكثر هُدوءاً وتسامحاً، وأكثر حرصاً على فعل الخيرات، لقد أصبحتُ أرى الحياة بمنظورٍ مُختلفٍ، وأصبحتُ أُقدِّر كل لحظةٍ فيها. أدركتُ أن رمضان هو شهر التغيير، شهر الرحمة والمغفرة، شهر العودة إلى الله، إنه شهرٌ يمنحنا فرصةً لتغيير حياتنا نحو الأفضل، وفرصةً للتقرب إلى الله والفوز برضاه.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن بَركة شهر رمضان المُبارك عظيمةٌ؛ فهي فرصةٌ للازدياد من الخيرات، ومُنطلقٌ للإكثار من القُربات، وسببٌ للتغير والتحول من المعصية إلى الطاعة، ومن الفساد إلى الصلاح وإلى الإصلاح. إن رمضان فرصةٌ للتغيير الإيجابي نحو الأفضل، فرصةٌ للمراقبة والمُحاسبة في العبادات والسلوك والأخلاق والعادات والمُعاملات. رمضان غيَّرنا؛ علَّمنا التنظيم وإعادة ترتيب الوقت بين قراءة قرآنٍ وصلاةٍ وعباداتٍ مُختلفةٍ، وبين صلة رحمٍ، وتواصلٍ وتراحمٍ، وحضور فعالياتٍ دينيةٍ وثقافيةٍ مُتنوعةٍ، وبين إخلاصٍ وتفانٍ في العمل والعطاء. غيَّرنا رمضان؛ فصرنا أهلاً للجد والاجتهاد بدلاً من النوم والكسل، لقد وجَّه بوصلة حياتنا للأفضل فأعدنا ترتيبها وتنسيق أولوياتنا.

 

وتحت عنوان "ماذا تعلمتُ في رمضان؟" كتب أحد الصالحين يقول: تعلمتُ في رمضان أن الصيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على صيام شهرٍ كاملٍ قدر على الاستمرار في صيام يومي الإثنين والخميس، وثلاثة أيامٍ من كل شهر. تعلمتُ في رمضان أن القيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على قيام شهرٍ كاملٍ قدر على الاستمرار في صلاة القيام والتهجد والوتر كل ليلة. تعلمتُ في رمضان أن ختم القرآن ليس أمراً صعباً، وأن من السهل قراءة جزءٍ من القرآن يومياً، وتلاوة ما تيسر منه في ساعات الصباح والمساء وأوقات الانتظار. تعلمتُ في رمضان أن الصدقة تُزيد المال ولا تُنقصه، وأن علينا أن نتصدق على المحتاجين بشكلٍ مُستمرٍ. تعلمتُ في رمضان أن الأخلاق لا تقف عند المظاهر، بل هي سلوكٌ يوميٌ نتحلى به في تعاملاتنا؛ فلنُحسِّن أخلاقنا مع جميع الناس وفي كل المواقف.

 

وللتنبيه إلى أمرٍ هامٍ كتب أحدهم: احذر أول أُسبوعٍ بعد رمضان؛ أُسبوع حربٍ من الشيطان، فهو عائدٌ بقوةٍ ولكن بخطواتٍ ماكرةٍ، يُزين الأعذار لتأجيل الصلاة، وترك النوافل، وتسويف قراءة القرآن، والنوم عن صلاة الفجر، بحجة أنك خارجٌ من رمضان ومحتاجٌ للراحة! ومن هنا يبدأ الانحدار خطوةً خطوةً إلى أن يصل الحال إلى ما كان قبل رمضان. لا تستسلم لخطة الشيطان، لا تنس الدعاء فهو نجاةٌ؛ فاسأل الله الثبات، رافِق الصالحين المُذكِّرين بالخير. الصلاة والقرآن خطٌ أحمر لا تتنازل عنهما، ولا تنس صيام الست من شوال؛ أيامٌ قلائل تُدرك بها ثواب صيام العام كله بفضل الله ورحمته.

 

وهذا آخر كتب تحت عنوان: "وماذا بعد رمضان؟" يقول: ها هو شهر رمضان قد رحل، سَعِد فيه المتقون، وذاق حلاوته العابدون؛ في نهاره صيامٌ وتلاوة قُرآنٍ وبذلٌ وعطاءٌ وإحسانٌ، وفي ليله تهجدٌ وذِكرٌ ودعاءٌ وتوبةٌ واستغفارٌ، فهنيئاً لمن عَمَّر فيه وقته بالصالحات، واستدرك اللحظات قبل الفوات. والعاقل من يُحكم البناء بعد أن أقامه، ويصدق في توبته بعد أن عاهد ربه. والعاقل من عرف قيمة حياته، وثمن أنفاسه؛ فجَدَّ بالتقرب إلى مولاه حتى بعد انقضاء شهر الخيرات: ﴿وَاعْبُدْ رْبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. ليكن حالك بعد رمضان شبيهاً بحالك في رمضان؛ فداوِم على فعل الخيرات وإن قلَّت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ]؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطعٍ؛ لأنّ بدوام القليل تدوم الطاعة والذِكر والمُراقبة وإخلاص النية. إن مِن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومِن علامة قَبول العمل إتباعه بعملٍ صالحٍ مثلِه؛ فيتضاعف الربح، وتزيد الحسنات؛ لذلك أُوصيك أخي بالإكثار من الأعمال الصالحة؛ ومنها: خصص لك يومياً وِرداً من قراءة القرآن. صُمْ الست من شوال. صُم الأيام البيض. تصدق ولو بالقليل. رطِّب لسانك بالذكر والاستغفار. قُم الليل. الزَم الدُعاء آناء الليل وأطراف النهار. وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

 

أحبتي.. بعد أن انتهى رمضان، ليسأل كل واحدٍ منا نفسه، إلى أي مدى أثَّر فيه رمضان؟ هل غيَّر من حياته نحو الأفضل؟ هل تعَلَّم منه؟ يقول أحد العارفين: ما أجمل أن يتغير المرء ويُغيِّر من حياته كلها، فيرجع العاصي إلى ربه، ويقترب البعيد، ويزداد الصالح صلاحاً، والمؤمن إيماناً، كُلنا يتمنى التغيير ولكن منا من يطلبه ويسعى إليه، ومنا من يتمناه ولكن دون عملٍ ولا فعلٍ؛ يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ فالتغيير يحتاج إلى عزيمةٍ وإرادةٍ جادةٍ وقويةٍ. إن الهدف الأسمى والغاية العُظمى من الصيام هو التقوى؛ يقول تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، نصوم لنزداد تقرباً من الله سُبحانه وتعالى، ويقيناً به، وخوفاً وخشيةً منه، لنقترب منه أكثر، بطاعته وعبادته، والبُعد عن معصيته. كم من إخوانٍ لنا حُرموا بلوغ رمضان هذا العام؟ وكم مُنعوا منه؟ وارهم الموت تحت الثرى، أو حال المرض دون صيامهم وقيامهم؛ فيا من بلغتَ الشهر الكريم، وصِرتَ من أهل صيامه وقيامه، وعرفتَ فضل هذا الشهر المُبارك، فحافظتَ على الصلاة في المسجد، وواظبتَ على تلاوة القُرآن وتدبَّرتَ معانيه وألزمتَ نفسك بأحكامه، وقمتَ بصلة رحمك، وتفقَّدتَ جيرانك، وأكثرتَ من الأعمال الصالحة، وأخرجتَ الصدقات وزكاة فطرك. يا من فعلتَ كل ذلك في رمضان، وقلتَ إن (رمضان غيَّرني)، إذا كانت عبادتك لرمضان فإنّ رمضان قد انقضى ومضى، وإن كانت عبادتك لله فإنّ الله حيٌّ لا يموت، ورب رمضان هو رب شوال ورب الشهور كلها. لا تنتكس ولا تكسل، ولا تدع عزيمتك تفتر، ولا تسمح لإرادتك أن تضعف، لا تتخاذل، لا تكن رمضانياً ولكن كُن ربانياً؛ استمر وثابر، ولا تقطع صلتك بجميل ما فعلتَ في رمضان، حافظ على همتك، وواصل ما تعودتَ على فعله في رمضان. أخلص النية، تجد الإعانة والتيسير من الله عزَّ وجلَّ.

اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واغفر لنا وارحمنا، وتجاوز عن تقصيرنا، وساعدنا اللهم على أن نُغيِّر أنفسنا للأفضل، وأعنِّا على الثبات والاستمرار في الطاعات والقُربات بعد انتهاء الشهر المُبارك، إنك سُبحانك وليّ ذلك والقادر عليه.

https://bit.ly/43XMIMj