خاطرة الجمعة /495
الجمعة 18
إبريل 2025م
(ذات الدِّين)
يقول
راوي القصة: كنتُ أُرافق زوجتي في أحد الأيام لزيارة طبيب عظامٍ؛ لأنها كانت قد
تعرضت للسقوط على ساقها. جلسنا في عيادة الطبيب، وكل شخصٍ كان مشغولاً بشيءٍ ما؛
أحدهم كان يُمسك بهاتفه المحمول، وآخر كان يتحدث مع الشخص الذي بجواره، وثالثٌ كان
يقف ليُدخِّن سيجارةً في شُرفة العيادة، وكان الشعور بالضيق والملل واضحاً على
وجوه الجميع. شعرتُ بالملل، فخرجتُ قليلاً إلى الشُرفة بعد أن غادرها من كان
يُدخِّن سيجارته، ثم عُدتُ بعد قليلٍ، وعندما جلستُ أدركتُ أن شعور الإنسان عند
قراءة كلماتٍ في مقالٍ أو كتابٍ أو منشورٍ على وسائل التواصل الاجتماعي يختلف
تماماً عن شعوره عندما يُشاهد هذه الكلمات حيةً أمام عينيه، هذا ما حدث معنا ونحن
في العيادة؛ إذ فجأةً، ساد الصمت، وجلس الجميع في صمتٍ تامٍ حتى جاء موعد أذان
العشاء، الذي استمعنا له من هاتف أحد الموجودين، رددَّنا الأذان مع المؤذن، وعُدنا
إلى صمتنا الذي لم يقطعه إلا صوت طفلٍ - لا يزيد عُمره عن سبع سنواتٍ - يسأل أُمه
وهو يُشمِّر عن ثيابه: "أين الحمّام؟"، أخذته أُمه وذهبت معه إلى
الحمّام، لكنه توقف فجأةً، ونظر إلينا وقال: "هل ستظلون جالسين هنا؟ ألن
يُصلي أحدٌ منكم؟"، ضحكنا على كلامه، ثم عُدنا إلى السكوت.
ترك
الطفل يد أمه وهو غاضبٌ، وذهب ليتوضأ وعاد بوجهٍ مُشرقٍ كالقمر، ثم بدأ يبحث عن
شيءٍ يُصلي عليه، دخلت السكرتيرة وأحضرت له سجادة صلاةٍ، وقف الطفل على السجادة
وقال: "هل سأُصلي وحدي؟" ظل الجميع صامتين، ثم قال الطفل ببراءةٍ:
"أليس الله الذي نُصلي له هو الذي يشفيكم؟ وأنتم هُنا من أجل أن يشفيكم، كيف
سيشفيكم إذا لم تشكروه أو تحمدوه أو تتحصنوا بفضله؟". دمعت عيون الحاضرين من
كلامه، وأكمل هو قائلاً: "على أية حال، كل شخصٍ مسؤولٌ عن أعماله"، ثم
قال: "سأُكَبِّر وأبدأ في الصلاة"، قمتُ ووقفتُ إلى جانبه، وقلتُ له:
"انتظر، سأُصلي معك".
وفور
دخولي الحمّام لأتوضأ، قام باقي الرجال الذين كانوا مُنتظرين في العيادة ودخلوا ليتوضؤوا،
وبعد أن انتهى الرجال من الوضوء دخلت النساء للوضوء كذلك. عندما أصبحنا كُلنا
مُستعدين للصلاة أخذتنا السكرتيرة إلى غُرفةٍ خاليةٍ لنُصلي فيها، وفيما كُنا
نستعد للصلاة، خرج الطبيب من غُرفته وسأل: "لماذا لم يدخل أحدٌ؟ أين
السكرتيرة؟"، شرحت له السكرتيرة الموقف، فوقف مصدوماً للحظةٍ، ثم مسح على رأس
الطفل بفخرٍ، وقال ووجهه يُعبر عن سعادته: "انتظروني قليلاً حتى أتوضأ؛
سأُصلي معكم". صلينا جميعاً معاً، وبعد الصلاة استغفرنا الله قليلاً، ثم حدث
ما لم يكن في الحُسبان؛ فاجأنا الطبيب بأنه قرَّر عدم أخذ أية أتعابٍ من أي مريضٍ
في تلك الليلة، وجعل جميع الاستشارات مجانيةً، ووهب حسنات ذلك للطفل.
بكت
والدة الطفل من الفرحة، وقالت ويداها ترتجفان: "هل جزاء الإحسان إلا
الإحسان؟"، ثم أمسكت بهاتفها المحمول واتصلت بزوجها - الذي عَلِمْنا فيما بعد
أنه مُسافرٌ ومُقيمٌ في الخارج - وأخبرته بما حدث، ومن شدة سعادته، كنا نسمع ضحكته
وفرحته عن بُعد.
في
تلك اللحظة، قلتُ في نفسي: "نِعْمَ الأُم (ذات الدِّين).
أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت
أُم ذلك الطفل أُمّاً يصدق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.
أحبتي في الله.. تُظهر لنا هذه القصة أنه مع سفر الأب للعمل بالخارج كانت
أُم ذلك الطفل أُمًّا يُصدَق عليها بحقٍ وصف (ذات الدِّين) كما قال راوي القصة.
وينطبق هذا الوصف أيضاً على الكثير من الأُمهات المؤمنات، ومنهن هذه الأُم
التي يحكي عنها أحد مُعلمي القرآن الكريم في أحد المساجد، كتب يقول: أتاني ولدٌ
صغيرٌ يُريد التسجيل في حلقة التحفيظ، فسألته: "هل تحفظ شيئاً من
القرآن؟"، فقال: "نعم"، فقلتُ له: "اقرأ من جُزء عمَّ"؛
فقرأ، فقلتُ: "هل تحفظ سُورة تبارك؟"، فقال: "نعم"، فتعجبتُ
من حفظه برغم صغر سنه؛ فسألته عن سُورة النحل؛ فإذا به يحفظها فزاد عجبي، فأردتُ
أن أعرف إن كان يحفظ شيئاً من السور الطوال فسألته: "هل تحفظ سُورة
البقرة؟"، فأجابني بنعم؛ وإذا به يقرأ ولا يُخطئ، فسألته: "يا بُني، هل
تحفظ القرآن كله؟"، فقال: "نعم"! طلبتُ منه أن يأتي في اليوم
التالي ويُحضر ولي أمره. كنتُ أتعجب؛ كيف يُمكن أن يكون ذلك الأب؟ فكانت المُفاجأة
حينما حضر الأب ورأيته وليس في مظهره ما يدل على التزامه بالسُّنَّة، فبادرني
قائلاً: "أعلم أنك مُتعجبٌ من أنني والده، لكني سأقطع حيرتك؛ إن وراء هذا
الولد (ذات الدِّين) أقصد زوجتي وأُم أبنائي، وأُبشرك؛ إن لديّ في البيت ثلاثة
أبناء كلهم يحفظون القرآن، وأن ابنتي الصغيرة التي تبلغ من العُمر أربع سنواتٍ
تحفظ جزء عمَّ"، فتعجبتُ وسألته: "كيف ذلك؟!"، فقال لي:
"عندما يبدأ الطفل منهم في الكلام تبدأ أُمه معه بتحفيظه القرآن، وتُشجع جميع
أبنائنا على ذلك؛ فمن يحفظ أولاً هو من يختار وجبة العشاء في تلك الليلة، ومن
يُراجع أولاً هو من يختار أين نذهب في عُطلة نهاية الأُسبوع، ومن يختم أولاً هو من
يختار أين نُسافر في الإجازة، وبهذه الطريقة تجعلهم أُمهم يتنافسون في الحفظ
والمُراجعة".
ما أعظم المرأة؛ أُمًّا وزوجةً وأُختاً وبنتاً عندما تكون ممن مدحها النبي
صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها (ذات الدِّين) عندما قال: [تُنكَحُ الْمَرْأَةُ
لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ
بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].
والمعنى كما يقول شارحو الأحاديث: أن اللائق بذي المُروءة أن يكون الدِّين
مطمحَ نظره في كل شيءٍ، لا سيما فيمن تطول صحبته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم
باختيار (ذات الدِّين) التي يقول أهل العلم عن صفاتها إن منها:
طاعة الزوج، وعدم مُخالفته إذا أمر بالحق؛ سُئل النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ فقال: [الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا
نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا
بِمَا يَكْرَهُ].
والتي تُعين الزوج على إيمانه ودِينه، تأمره بالطاعات، وتمنعه من
المحرَّمات؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا،
وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ
الْآخِرَةِ].
ومن صفات (ذات الدِّين) أن تكون مُطيعةً لربها، وقائمةً بحق زوجها في ماله،
وفي نفسها، ولو في حال غياب الزوج؛ يقول تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، يقول المفسرون: ﴿قَانِتَاتٌ﴾ أي:
مُطيعاتٌ لله تعالى، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي: مُطيعاتٌ لأزواجهن، حتى في الغيب
تحفظ زوجها في نفسها، وماله.
والمرأة الصالحة من السعادة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَرْبَعٌ
مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ،
وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ]، والمرأة الصالحة هي خير متاع
الدنيا؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ
الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ].
وهي خير النساء إذا توافرت فيها صفات حُسن صُحبة زوجها؛ يقول صلى الله عليه
وسلم: [خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا
أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا
وَمَالِكَ].
ومن
معاني (ذات الدِّين) قيام المرأة بالطاعات، والأعمال الصالحات، والعفة عن
المُحرَّمات؛ فتجمع بين: طاعة ربها بفعل ما أمر به من الواجبات، وترك ما نهى عنه
من المُحرَّمات، وطاعة زوجها، وهي التي بشَّرها النبي بكرامةٍ عاليةٍ عند دخول
الجنة؛ يقول عليه الصلاة والسلام:
[إِذَا
صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا،
وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ
الْجَنَّةِ شِئْتِ].
وبهذا
يُعرف أن "الدِّين" كلمةٌ جامعةٌ، تشمل أصنافاً من العبادات، وأنواعاً
من الطاعات، وأخلاقاً وشمائل، وكلما كانت المرأة أكثر حياءً، وعِلماً، وعبادةً،
كانت أقرب للمقصود من (ذات الدِّين)؛ فتُربي أبناءها خير تربية.
وما
أروع تلك الأُم المثالية التي ربّت أبناءها على الصلاة، وعلى حفظ القرآن الكريم،
وشجعتهم، وحفزتهم على ذلك.
وكأني بها وقد اطّلعت على حديث النبي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ
رَاعٍ، ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]، واختص المرأة بقوله: [وَالْمَرْأَةُ فِي
بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا].
فهنيئاً لتلك المرأة، وهنيئاً لزوجها بها، وهنيئاً للأبناء بأُمهم،
وللوالدين بأبنائهما.
هنيئاً لهذه المرأة الصالحة (ذات الدِّين) التي أمّنت مُستقبل أبنائها،
وحرصت على أن يكونوا مع المُحافظين على صلواتهم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [أوَّلُ
ما يُحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ: الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ
عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ، فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه].
كما حرصت على تحفيظهم القرآن الكريم الذي يأتي شفيعاً لهم يوم القيامة؛
يقول صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ وارتَقِ، ورَتِّل كما
كنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، ويقول عليه
الصلاة والسلام: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ
وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ
فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا].
وقال أيضاً: [وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى
وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ:
بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ
لَهُ: اقْرَأْ، وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي
صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا].
فهنيئاً لوالدَي أولئك الأبناء من حفظة القرآن، وهما واقفان يوم المحشر،
ينظران إلى أبنائهما يرتقون، ويرتفعون إلى أعلى منزلةً، ويلبسون تاج الوقار،
ورُفِع على رأسي الوالدين تاجٌ، وأُلبِسا حُلَّتين من حُلَل الجنة. يا له من
تكريمٍ يتمناه كلٌّ منا.
إن التربية عمليةٌ يشترك فيها الأب والأُم، لكن العبء الأكبر يقع على عاتق
الأُم، كما أن مسؤولية الوالدين تتضاعف في تربية البنات، وإعدادهن ليكنَّ أُمّهاتٍ
صالحاتٍ؛ فهُنَّ مُربيات الأجيال اللواتي أشار لهنَّ الشاعر بقوله:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدتَها
أعدَدتَ شعباً طيِّبَ الأعْراقِ
أحبتي .. بارك الله في كل امرأةٍ، وكل
بنتٍ، وكل أمٍ ممن تربين تربيةً صالحة، جعلت كل واحدةٍ منهن من المُسْلمات (ذات
الدِّين)، وأكثرَ من أمثالهن؛ فكم هي رائعةٌ تلك الأُم التي غرست في أبنائها الحرص
على إقامة الصلاة على وقتها، وتلك التي شجعت أبناءها على حفظ القرآن الكريم منذ
نعومة أظفارهم، لينشأ هؤلاء جميعاً نشأةً دينيةً صحيحةً، ويكونوا حجر الأساس لجيلٍ
صالحٍ لأنفسهم، مُصلحٍ لغيرهم.
اللهم
أعنّا على أن نكون آباءً وأُمهاتٍ صالحين، نافعين لأنفسنا، ولأبنائنا، ولمجتمعنا.
ووفقنا اللهم لنكون من الصالحين، ولنكون من المُصلحين.
https://bit.ly/4ioxgfI