الجمعة، 11 أبريل 2025

العم «عابد»

 

خاطرة الجمعة /494

الجمعة 11 إبريل 2025م

(العم «عابد»)

 

أنقل إليكم اليوم قصةً من أعجب القصص، تُظهر قوة الإيمان، يرويها أحد الدُعاة، حفظه الله، وهي قصةٌ حقيقيةٌ وقعت في إحدى قُرى منطقة «ينبع» في غرب «المملكة العربية السعودية». يقول راويها:

توجهنا -أنا ومجموعةٌ من أهل الصلاح- إلى قريةٍ بسيطةٍ أخبرنا بعض الأحبة من طُلاب العلم المُقيمين في المنطقة أنّ في تلك القرية رجلاً صالحاً، اسمه (العم «عابد»)، وأنه كما يُقال "اسمٌ على مُسمى"! سألناهم: "كيف ذلك؟"، قالوا: "اذهبوا إلى القرية، واحضروا الصلاة في مسجدها، وستعرفونه بأنفسكم، وستدركون وقتها لماذا نقول عليه إنه اسمٌ على مُسمى! توجهنا في اليوم التالي إلى القرية وعندما وصلنا إليها وجدناها قريةً بسيطةً مُتواضعةً، لا يوجد بها أي مَعلمٍ من معالم الحضارة الحديثة، كأنها تعيش في زمنٍ آخر، شاهدنا مئذنة المسجد على بُعدٍ، وبدأنا المسير إليه، سِرْنا على أرضٍ غير مُمهدةٍ، قاصدين المسجد آملين أن نلتقي (العم «عابد») ونتعرف عليه. لكننا عندما اقتربنا من المسجد، شاهدنا شيئاً عجيباً؛ شاهدنا عند بابه حجراً كبيراً مربوطاً به حبلٌ مُمتدٌ على الأرض؛ تملكنا الفضول، وتساءلنا عن سر هذا الحبل المربوط بالحجر على باب المسجد. ولما كان هناك وقتٌ طويلٌ قبل أذان العصر؛ فقد قررنا أن نرجئ دخول المسجد لمُقابلة (العم «عابد»)، وعزمنا على أن نكتشف أولاً سر هذا الحبل بأنفسنا! أمسكنا بطرف الحبل، وأخذنا نسير معه، يرتفع بنا حيث ترتفع الأرض، وينخفض حيث تنخفض؛ فطُرقات القرية غير مُستويةٍ، سِرْنا مسافةً كبيرةً حتى اقتربنا من نهاية الحبل. نعم، لقد بدأنا نصل إلى الطرف الآخر من الحبل؛ فما هو السر الذي ينتظرنا في نهايته يا ترى؟! إلى ماذا سوف يوصلنا هذا الحبل، وإلى مَن؟ وما هو سبب وجوده ممدوداً حتى المسجد؟

عندما وصلنا إلى نهاية الحبل، وجدنا بيتاً مُتواضعاً مُكوّناً من غُرفةٍ ودورة مياهٍ، ووجدنا به رجلاً كبيراً في السن، كفيف البصر، عُمره يزيد عن خمسٍ وثمانين سنةً، مَن هو يا تُرى؟

هنا كانت المفاجأة! إنه هو (العم «عابد») الذي كُنا نريد أن نلتقي به في المسجد! سألناه: "يا عم «عابد»، أخبِرنا ما سر هذا الحبل؟!" فردَّ قائلاً: "هذا الحبل من أجل الصلوات الخمس في المسجد؛ أخرج من بيتي قبل الأذان، وأُمسك بهذا الحبل حتى أصل إلى المسجد، ثم بعد انتهاء الصلاة وخروج الناس، أخرج أنا كآخر رجلٍ من المسجد، وأُمسك بالحبل مرةً أخرى حتى أعود إلى بيتي؛ إذ ليس لي قائدٌ يقودني"!

نظرنا إلى كلتا يديه، فإذا هُما خشنتين مُتشققتين تشهدان على صدق صاحبهما.

إنه رجلٌ نوَّر الله قلبه بالإيمان، قصد طاعة الله، أراد الصلاة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن؛ فكأنه قد تمثل قوله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾، إنه رجلٌ في هذا السن، كفيف البصر، ضعيف البناء، بحالةٍ لو رأيتموها لتعجبتم والله! يقول: "من أجل الصلوات الخمس في المسجد"؛ فأين الرجال المُبصرون الذين يتكاسلون عن حضور الصلوات الخمس في المسجد؟ أين الذين هجروا صلاة الفجر؟ أين الذين حرموا أنفسهم من الصلاة في بيوت الله؟ أين أولئك الكُسالى الذين امتنعوا عن أداء الصلوات الخمس في المسجد؟! ألم يستمعوا إلى قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾.

نعود إلى قصة (العم «عابد»)، يقول أهل المنطقة عنه إنه رجلٌ سمته الصلاح والوقار، كفيف البصر من زمنٍ بعيدٍ، أما عن الحبل فقد غيَّره أكثر من مرة!

فأين المُبصرون الأصحاء جيران المساجد، الذين لا يشهدون الصلوات الخمس بها؟ أين الذين حرصوا على الوظائف والمناصب والتجارة وغيرها من أمور الدنيا أكثر من حرصهم على الصلاة بالمساجد؟ أين هُم من (العم «عابد»)؟!

 

أحبتي في الله.. تدور قصة هذا الرجل الصالح حول أمرين مُهميْن: المحافظة على الصلوات الخمس وعدم التخلف عنها رغم وجود العُذر، والبصيرة التي عوضته عن فقدان البصر.

عن الأمر الأول يقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صَلَاةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وفي سُوقِهِ، خَمْسًا وعِشْرِينَ ضِعْفًا، وذلكَ أنَّهُ: إذَا تَوَضَّأَ، فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إلَّا رُفِعَتْ له بهَا دَرَجَةٌ، وحُطَّ عنْه بهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عليه، ما دَامَ في مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عليه، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولَا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلَاةٍ ما انْتَظَرَ الصَّلَاةَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟]، قالُوا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: [إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ]. وهذا رجلٌ أعمى قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنه ليس له قائدٌ يقوده إلى المسجد، وسأل رسول الله أن يُرَّخص له فيصلي في بيته، فرَّخص له، فلما ولىَّ دعاه فقال: [أتَسمعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ؟]، قال: نعم، قال: [فأجِبْ]؛ أي فاذهب للصلاة بالمسجد ولا تُصلِ في بيتك.

 

وكان المسلمون الأوائل يحرصون على الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، ويسعون لإدراك فضل الصلاة في الصف الأول، حتى قيل إن بعضهم صلى سبعين سنةً ما فوَّت تكبيرة الإحرام ولا مرةً واحدة.

ونُقل عن أحدهم قوله لأصحابه: "إذا سمعتم حيّ على الصلاة، ولم تجدوني في الصف الأول، فإنما أكون قد مِتُ".

وقيل: "من تأخر عن حيّ على الصلاة، تأخر عنه الفلاح".

وقيل أيضاً: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة -يقصد في المسجد- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف".

 

وعن الأمر الثاني؛ البصيرة؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

وقال أحد التابعين: "لكل إنسانٍ أربع أعينٍ: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبِه لآخرته؛ فإن عَمِيَت عينا رأسِه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسِه وعَمِيَت عينا قلبِه فلم ينفعه نظرُه شيئاً".

وقال الشاعر في هذا المعنى:

إنْ يأخذ الله من عينيَّ نورَهما

فإن قلبي مُضيءٌ ما به ضَررُ

أرى بقلبي دُنيايَ وآخرتي

هو القلبُ يُدركُ ما لا يُدركُ البَصرُ

 

أحبتي.. فقد (العم «عابد») البصر، لكنه لم يفقد البصيرة؛ فأضاء الله دربه بنور الإيمان، ويسَّر له أداء الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد القرية بغير رفيقٍ يأخذ بيده، ولا قائدٍ يقوده إلى المسجد ويعود به إلى بيته، وكأنه ممن تصفهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

إنّ في قصة (العم «عابد») عبرةً لكل مُسلمٍ، ودرساً لكل مؤمنٍ، وتذكِرةً لكل غافلٍ؛ ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾؟

اللهم اجعلنا من عُمّار بيوتك، ومن المُحافظين على الصلوات في أوقاتها، وأنِر بصائرنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يسمعون ويقرأون عن الصالحين فيتعلمون منهم ويتخذونهم قدوةً لهم.

https://bit.ly/4lsLsH1

الجمعة، 4 أبريل 2025

رمضان غيَّرني

 

خاطرة الجمعة /493

الجمعة 4 إبريل 2025م

(رمضان غيَّرني)

 

يقول أحد الشباب: كنتُ شاباً غارقاً في اللهو والملذات، بعيداً عن طريق الصواب، لم أكن أهتم بالصلاة أو الصيام، وكانت حياتي تدور حول الأصدقاء والسهرات والأغاني، حتى جاء رمضان، شهر الرحمة والمغفرة. في البداية، لم يكن رمضان يعني لي شيئاً، كنتُ أعتبره شهراً ثقيلاً، شهراً للحرمان من الطعام والشراب، ولكن بمرور الأيام، بدأتُ ألاحظ شيئاً غريباً، بدأتُ أرى الناس من حولي يتغيرون؛ بدأتُ أرى وجوههم تُشرق بالنور، وقُلوبهم تفيض بالرحمة. بدأتُ أسمع صوت القرآن الكريم يتردد في كل مكانٍ حولي؛ في الأسواق والمحلات ووسائل المواصلات. بدأتُ أرى الناس يتسابقون إلى فعل الخيرات. بدأتُ أرى الفُقراء والمُحتاجين يتلقون المُساعدة والدعم من الجميع. بدأتُ أرى الناس يتسامحون ويتصالحون، ويتصافحون ويتعاونون. في إحدى الليالي، ذهبتُ إلى المسجد مع صديقٍ لي، كنتُ أشعر بفضولٍ غريبٍ، عندما دخلتُ إلى المسجد، شعرتُ بشعورٍ لم أشعر به من قبل؛ شعرتُ بسَكينةٍ وهدوءٍ يغمران قلبي. استمعتُ إلى إمام المسجد وهو يقرأ القرآن، وشعرتُ بكلمات الله تخترق قلبي، وتُحرك شيئاً في صدري. في تلك الليلة، قررتُ أن أتغير، قررتُ أن أعود إلى طريق الصواب؛ بدأتُ أُصلي وأصوم، وبدأتُ أقرأ القرآن، وأتعلم الكثير عن ديني. بدأتُ أتخلى عن اللهو والملذات، وأُركز على فعل الخير ومُساعدة الآخرين. صرتُ من المُصلين مع الجماعة بالمسجد بعد أن كنتُ هاجراً للصلاة، وأصبحتُ وأمسيتُ مع كتاب ربي الذي طالما هجرته وابتعدتُ عنه أياماً وأسابيع. كما حدث زلزالٌ عظيمٌ في علاقتي بالناس؛ فقد كانت مُعاملتي لهم غليظةً، وسلوكي معهم فظاً، حتى حلَّ رمضان بساحتي وأدركتُ أيامه الفاضلة، فكان للطاعات أثرٌ كبيرٌ عليّ، فها هي نفسي قد هُذبت، وأخلاقي قد استقامت. ووصل التغيير إلى سلوكي؛ فق دكنتُ أظن أن الحياة مُتَعٌ وشهواتٌ ينهل المرء منها كيفما شاء بدون حسيبٍ أو رقيبٍ، وأنَّ له أن يتمتع بلذائذها حتى وإن كانت فيما لا يُرضي الله، أو كان فيها تعدٍ على الآخرين، فإذا بروحانية رمضان تحلبي، وخيرات هذا الشهر تنتشلني من غفلتي، وتوقظني من سهوتي. صرتُ أيضاً أحفظ جوارحي عن الحرام؛ حين علمتُ أن كثيراً من تعبي وجوعي وعطشي طوال أيام رمضان سيذهب سُدىً إن لم أُحافظ على جوارحي، وأُحيطها برعايتي؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾. وكذلك تعرفتُ على شرف الأوقات؛ واكتشفتُ أنني كنتُ مُفرِّطاً في أوقاتٍ شريفةٍ وأزمنةٍ جليلةٍ، عظَّمها ربي عزَّ وجلَّ وأثنى على أهلها، لم أعرف فضلها إلا بعد بلوغي رمضان مع أنها مُعظمةٌ في كل شهرٍ، وهي أوقاتٌ مدح الله المُغتنمين لها، وجعل الأُعطيات لأهلها أعظم العطايا، ومن أجلِّها وأعظمها وقت السحر؛ فعقدتُ العزم على استغلاله بصلاة التهجد والإكثار من الاستغفار وطرح حاجتي على ربي الذي وعد بالاستجابة، وهو سُبحانه أوفى من صدق. كما عرفني رمضان قدْر نفسي؛ فكم كنتُ مُغتراً بحالي، وكنتُ أظن أنني ما دمتُ أعيش في بلاد الإسلام فإني لستُ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الطاعات والقُربات، وتكفيني بضع ركعاتٍ أركعها، أو قراءة بعض آياتٍ من القرآن وقت فراغي، وأما الصدقة فلم أكن أُفكر فيها؛ لأن ما معي من مالٍ كنتُ أُنفقه على شراء كل أمرٍ مُتعلقٍ بدنياي، لكن بدخول هذا الشهر الكريم، رأيتُ صوراً ناصعةً لأهل الخير؛ فأنَّبتُ نفسي أشدَّ التأنيب على تفريطها في جنب الله، وكيف مضى هذا العمر وأنا أسيرٌ للغفلات، كيف لو قَدِمتُ على ربي وأنا خالٍ من الكثير من الحسنات، وغيري من المُتصدقين يتسابقون إلى الصدقة؛ فهذا يبحث عن فقيرٍ ويصل إلى بيته، وذاك قام على إفطارٍ للصائمين، وثالثٌ نذر وقته كله لخدمة المسلمين؛ فعدتُ باللوم على نفسي، وأيقنتُ أنني في حاجةٍ إلى أن يُعينني الله على مثل تلكم الطاعات.

(رمضان غيَّرني)؛ لأنه شهر نزول الرحمات والبركات، ونفحات المغفرة تُحيط بالعباد، وليقيني أني محرومٌ إن لم تُدركني تلك الرحمات، وأني سأبقى في شقاءٍ إن لم أتعرض لتلك النفحات؛ لم لا وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك فقال: [رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ].

كان شهر رمضان المُبارك بمثابة نقطة تحولٍ في حياتي؛ بالفعل (رمضان غيَّرني) فتحولتُ من شابٍ غافلٍ إلى شابٍ مُلتزمٍ بدينه، حريصٍ على فعل الخير، يسعى إلى رضا الله. لقد علَّمني رمضان أن الحياة ليست مُجرد لهوٍ وملذاتٍ، بل هي فرصةٌ للتقرب إلى الله، وفرصةٌ لفعل الخير، وفرصةٌ للتغيير نحو الأفضل. بعد رمضان، لم أعد كما كنتُ؛ أصبحتُ شخصاً آخر، شخصاً أفضل، أصبحتُ أكثر هُدوءاً وتسامحاً، وأكثر حرصاً على فعل الخيرات، لقد أصبحتُ أرى الحياة بمنظورٍ مُختلفٍ، وأصبحتُ أُقدِّر كل لحظةٍ فيها. أدركتُ أن رمضان هو شهر التغيير، شهر الرحمة والمغفرة، شهر العودة إلى الله، إنه شهرٌ يمنحنا فرصةً لتغيير حياتنا نحو الأفضل، وفرصةً للتقرب إلى الله والفوز برضاه.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن بَركة شهر رمضان المُبارك عظيمةٌ؛ فهي فرصةٌ للازدياد من الخيرات، ومُنطلقٌ للإكثار من القُربات، وسببٌ للتغير والتحول من المعصية إلى الطاعة، ومن الفساد إلى الصلاح وإلى الإصلاح. إن رمضان فرصةٌ للتغيير الإيجابي نحو الأفضل، فرصةٌ للمراقبة والمُحاسبة في العبادات والسلوك والأخلاق والعادات والمُعاملات. رمضان غيَّرنا؛ علَّمنا التنظيم وإعادة ترتيب الوقت بين قراءة قرآنٍ وصلاةٍ وعباداتٍ مُختلفةٍ، وبين صلة رحمٍ، وتواصلٍ وتراحمٍ، وحضور فعالياتٍ دينيةٍ وثقافيةٍ مُتنوعةٍ، وبين إخلاصٍ وتفانٍ في العمل والعطاء. غيَّرنا رمضان؛ فصرنا أهلاً للجد والاجتهاد بدلاً من النوم والكسل، لقد وجَّه بوصلة حياتنا للأفضل فأعدنا ترتيبها وتنسيق أولوياتنا.

 

وتحت عنوان "ماذا تعلمتُ في رمضان؟" كتب أحد الصالحين يقول: تعلمتُ في رمضان أن الصيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على صيام شهرٍ كاملٍ قدر على الاستمرار في صيام يومي الإثنين والخميس، وثلاثة أيامٍ من كل شهر. تعلمتُ في رمضان أن القيام مقدورٌ عليه، ومن قدر على قيام شهرٍ كاملٍ قدر على الاستمرار في صلاة القيام والتهجد والوتر كل ليلة. تعلمتُ في رمضان أن ختم القرآن ليس أمراً صعباً، وأن من السهل قراءة جزءٍ من القرآن يومياً، وتلاوة ما تيسر منه في ساعات الصباح والمساء وأوقات الانتظار. تعلمتُ في رمضان أن الصدقة تُزيد المال ولا تُنقصه، وأن علينا أن نتصدق على المحتاجين بشكلٍ مُستمرٍ. تعلمتُ في رمضان أن الأخلاق لا تقف عند المظاهر، بل هي سلوكٌ يوميٌ نتحلى به في تعاملاتنا؛ فلنُحسِّن أخلاقنا مع جميع الناس وفي كل المواقف.

 

وللتنبيه إلى أمرٍ هامٍ كتب أحدهم: احذر أول أُسبوعٍ بعد رمضان؛ أُسبوع حربٍ من الشيطان، فهو عائدٌ بقوةٍ ولكن بخطواتٍ ماكرةٍ، يُزين الأعذار لتأجيل الصلاة، وترك النوافل، وتسويف قراءة القرآن، والنوم عن صلاة الفجر، بحجة أنك خارجٌ من رمضان ومحتاجٌ للراحة! ومن هنا يبدأ الانحدار خطوةً خطوةً إلى أن يصل الحال إلى ما كان قبل رمضان. لا تستسلم لخطة الشيطان، لا تنس الدعاء فهو نجاةٌ؛ فاسأل الله الثبات، رافِق الصالحين المُذكِّرين بالخير. الصلاة والقرآن خطٌ أحمر لا تتنازل عنهما، ولا تنس صيام الست من شوال؛ أيامٌ قلائل تُدرك بها ثواب صيام العام كله بفضل الله ورحمته.

 

وهذا آخر كتب تحت عنوان: "وماذا بعد رمضان؟" يقول: ها هو شهر رمضان قد رحل، سَعِد فيه المتقون، وذاق حلاوته العابدون؛ في نهاره صيامٌ وتلاوة قُرآنٍ وبذلٌ وعطاءٌ وإحسانٌ، وفي ليله تهجدٌ وذِكرٌ ودعاءٌ وتوبةٌ واستغفارٌ، فهنيئاً لمن عَمَّر فيه وقته بالصالحات، واستدرك اللحظات قبل الفوات. والعاقل من يُحكم البناء بعد أن أقامه، ويصدق في توبته بعد أن عاهد ربه. والعاقل من عرف قيمة حياته، وثمن أنفاسه؛ فجَدَّ بالتقرب إلى مولاه حتى بعد انقضاء شهر الخيرات: ﴿وَاعْبُدْ رْبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. ليكن حالك بعد رمضان شبيهاً بحالك في رمضان؛ فداوِم على فعل الخيرات وإن قلَّت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ]؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ مُنقطعٍ؛ لأنّ بدوام القليل تدوم الطاعة والذِكر والمُراقبة وإخلاص النية. إن مِن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومِن علامة قَبول العمل إتباعه بعملٍ صالحٍ مثلِه؛ فيتضاعف الربح، وتزيد الحسنات؛ لذلك أُوصيك أخي بالإكثار من الأعمال الصالحة؛ ومنها: خصص لك يومياً وِرداً من قراءة القرآن. صُمْ الست من شوال. صُم الأيام البيض. تصدق ولو بالقليل. رطِّب لسانك بالذكر والاستغفار. قُم الليل. الزَم الدُعاء آناء الليل وأطراف النهار. وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

 

أحبتي.. بعد أن انتهى رمضان، ليسأل كل واحدٍ منا نفسه، إلى أي مدى أثَّر فيه رمضان؟ هل غيَّر من حياته نحو الأفضل؟ هل تعَلَّم منه؟ يقول أحد العارفين: ما أجمل أن يتغير المرء ويُغيِّر من حياته كلها، فيرجع العاصي إلى ربه، ويقترب البعيد، ويزداد الصالح صلاحاً، والمؤمن إيماناً، كُلنا يتمنى التغيير ولكن منا من يطلبه ويسعى إليه، ومنا من يتمناه ولكن دون عملٍ ولا فعلٍ؛ يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ فالتغيير يحتاج إلى عزيمةٍ وإرادةٍ جادةٍ وقويةٍ. إن الهدف الأسمى والغاية العُظمى من الصيام هو التقوى؛ يقول تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، نصوم لنزداد تقرباً من الله سُبحانه وتعالى، ويقيناً به، وخوفاً وخشيةً منه، لنقترب منه أكثر، بطاعته وعبادته، والبُعد عن معصيته. كم من إخوانٍ لنا حُرموا بلوغ رمضان هذا العام؟ وكم مُنعوا منه؟ وارهم الموت تحت الثرى، أو حال المرض دون صيامهم وقيامهم؛ فيا من بلغتَ الشهر الكريم، وصِرتَ من أهل صيامه وقيامه، وعرفتَ فضل هذا الشهر المُبارك، فحافظتَ على الصلاة في المسجد، وواظبتَ على تلاوة القُرآن وتدبَّرتَ معانيه وألزمتَ نفسك بأحكامه، وقمتَ بصلة رحمك، وتفقَّدتَ جيرانك، وأكثرتَ من الأعمال الصالحة، وأخرجتَ الصدقات وزكاة فطرك. يا من فعلتَ كل ذلك في رمضان، وقلتَ إن (رمضان غيَّرني)، إذا كانت عبادتك لرمضان فإنّ رمضان قد انقضى ومضى، وإن كانت عبادتك لله فإنّ الله حيٌّ لا يموت، ورب رمضان هو رب شوال ورب الشهور كلها. لا تنتكس ولا تكسل، ولا تدع عزيمتك تفتر، ولا تسمح لإرادتك أن تضعف، لا تتخاذل، لا تكن رمضانياً ولكن كُن ربانياً؛ استمر وثابر، ولا تقطع صلتك بجميل ما فعلتَ في رمضان، حافظ على همتك، وواصل ما تعودتَ على فعله في رمضان. أخلص النية، تجد الإعانة والتيسير من الله عزَّ وجلَّ.

اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واغفر لنا وارحمنا، وتجاوز عن تقصيرنا، وساعدنا اللهم على أن نُغيِّر أنفسنا للأفضل، وأعنِّا على الثبات والاستمرار في الطاعات والقُربات بعد انتهاء الشهر المُبارك، إنك سُبحانك وليّ ذلك والقادر عليه.

https://bit.ly/43XMIMj

الجمعة، 28 مارس 2025

جزاء الإحسان

 خاطرة الجمعة /492

الجمعة 28 مارس 2025م

(جزاء الإحسان)

 

 كتب ناشر هذه القصة يقول: كنتُ ذات مرةٍ مع أخٍ في الله، فجعلنا نتذاكر الأيتام وضرورة مُراعاة أحوالهم؛ فإذا به يقول: "أقص لكَ اليوم قصةً لا يعلم بها أحدٌ قط سوى زوجتي، لكنني أجد نفسي مُنساقاً إلى أن أذكرها لك!"، فتشوقتُ إلى سماع قصته وشجعته على ذِكرها؛ فقال:

كانت ليلة  آخر يومٍ من أيام رمضان فأفطرنا، وكنا ننتظر إما أن يتم الإعلان عن رؤية هلال العيد أو أن يكون يوم الغد مُتمِماً لشهر رمضان المبارك، وقبل صلاة العشاء أُعلن عن ثبوت رؤية هلال شوال، وأن أول أيام عيد الفطر ستكون في اليوم التالي، فإذا بامرأةٍ تتصل بي وتقول: "يا شيخ، أنا أُم لخمسة أطفالٍ أيتامٍ، أُقسم بالله -والليلة ليلة عيد- ما في بيتنا طعامٌ لهذه الليلة، أُقسم بالله ما في بيتنا أي شيء"؛ فتنغصتُ، وأصابني النكد، ولم أحرِ جواباً، ولم أدرِ ما أفعل، وقد كانت لديّ الكثير من المشاغل في ذلك الوقت، لكنني آليتُ علي نفسي أن أترك كل شيءٍ وأن أمضي إلى تلك المرأة.

أخذتُ عنوان سكنها، واصطحبتُ زوجتي ثم مضينا إلى بيت المرأة، دخلنا بيتها، وجعلتُ أنا وزوجتي نسألها وهي تُجيبنا؛ فإذا بيتهم لا شيء فيه أبداً، لم تُعِّد ملابس لأبنائها، ولا يوجد لديها طعامٌ، لا خضار ولا فواكه؛ فتكسّر قلبي وأقسمتُ بالله العلي العظيم ألا أعود إلى بيتي وإلى أبنائي حتى أطمئن أن أبناء تلك المرأة عندهم مثل ما عند أبنائي تماماً. خرجتُ من عندها وتركتُ زوجتي عندها، وذهبتُ أول ما ذهبتُ إلى بائع اللحم أعطيته ألف ريالٍ وطلبتُ منه أن يُعِّد لهم ما يشاء من لحمٍ، وعندما علم بحال تلك المرأة أضاف من عنده لحماً بقيمة خُمسمائة ريالٍ أخرى. ثم توجهتُ إلى بائع الخُضروات والفواكه فاشتريتُ بعض الخُضروات والفواكه، ثم أتيتُ صاحب محلٍ للملابس فاشتريتُ منه ملابس للأطفال، ثم عُدتُ إلى بيت المرأة، فلما شاهدت ما أحضرته من لحمٍ وخضرواتٍ وفواكه قالت: "ما كل هذا؟! هذا كله سيتلف، كله سيخرب؛ فثلاجتنا آخر عهدي بها عندما كانت تعمل قبل سنواتٍ طويلةٍ!"، فقلتُ لها: "لا تحملي هماً؛ فقد أقسمتُ بالله أن يفرح أبناؤك الليلة كما يفرح أبنائي"، وخرجتُ من بيتها واتصلتُ بصاحب محلات أجهزةٍ كهربائيةٍ أعرفه، رجلٌ فاضلٌ، اتصلتُ به وأخبرته بالأمر؛ فقال لي: "لئن اتصلتَ بي، ليس في ليلة عيدٍ، بل واللهِ لو اتصلتَ بي في وقت صلاة العيد، لأتركنَّ صلاة العيد وأفتح لك ذلك المحل"، توجهتُ إلى محله فأخرج ثلاجةً جديدةً، ثم اتصل بصاحب سيارة نقلٍ، قمنا بوضع الثلاجة فيها، وركبتُ بجوار السائق إلى بيت المرأة؛ فأنزلنا الثلاجة وقلتُ لها: "الآن أدخلي اللحم والخُضار والفواكه إلى الثلاجة، وأعدّي لي ولزوجتي كوبين من الشاي"، فبكت وقالت: "أعتذر كل الاعتذار؛ يُمكنني أن آتي لكم بالشاي من عند جيراننا؛ فآخر أنبوبة غازٍ كانت قبل عدة أشهرٍ، عندما كنتُ أستدين لشرائها"، فدمعت عيناي وقلتُ: "واللهِ لنشربن الشاي الليلة عندك، ولا نعود إلى بيتنا حتى نشربه"، وفعلتُ مع صاحب أنابيب الغاز ما فعلته مع صاحب الثلاجة؛ فجاء على الفور وركَّب لها أنبوبة الغاز؛ فقلتُ: "الآن أعدي الشاي". جاء أطفالها إليّ وإلى زوجتي يرقصون ويقفزون علينا، ويُقبلوننا من الفرح كأنما نحن أباهم وأُمهم. شربنا الشاي، وكان أجمل شايٍ نشربه؛ فقد شربناه مع دُموع الفرح.

عُدتُ أنا وزوجتي إلى بيتنا، وقد قاربت الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل، وإذا أبناؤنا قد ناموا، فقلتُ مُناجياً ربي: "يا ربِ إن كنتُ قد قصَّرتُ في حق أبنائي هؤلاء فلأجل إسعاد آخرين".

يقول الرجل: "فواللهِ ما نمتُ إلا قبل صلاة الفجر بساعةٍ، فرأيتني في منامي وأنا أسير في طريقٍ فيه مالا عينٌ رأت أبداً ولا خطر على قلب بشر، وأنا أُقسم باللهِ على ما أقول". يتكلم والدموع تسيل من عينيه، يقول: "واللهِ العظيم لا أستطيع أن أصف شيئاً، إلا فاكهةً شهيةً أردتُ أن أقطف منها، فقالوا لي {لا لا هذا ليس لك، هذا لعوام الناس، أما أنتَ فطعامك هناك} وأشاروا لي إلى السماء، فجعلتُ أنظر إليها فإذا فواكه مُتدليةٌ ما رأيتُ مثلها أبداً، فقلتُ في نفسي كيف أصل إليها؟ فإذا هي قد نزلت عند يديّ فأكلتُ منها قطعةً ما إن ذقتها حتى استفقتُ من حلاوة طعمها، فأحببتُ أن أُحدِّث زوجتي بما رأيتُ، فإذا بها تقول لي: "ما أطيب رائحة فمك، ما شممتُ مثل هذه الرائحة من قبل قَط"!

 

أحبتي في الله.. هذه قصة إحسانٍ رائعةٌ، بينت نهايتها بعضاً من جوانب (جزاء الإحسان) في الرؤيا التي رآها ذلك المُحسن في منامه؛ فإذا كانت هذه بُشرى للمُحسن في الدنيا فإن ما ينتظره في الآخرة أعظم.

لقد وردت آياتٌ قُرآنيةٌ كثيرةٌ عن المُحسنين؛ يمدحهم الله سُبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، وبقوله: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾،وهو عزَّ وجلَّ يُحبهم: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويعدهم بأن رحمته قريبةٌ منهم: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويعدهم بأن يوفيهم أجورهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويُخبرهم أنهم في معيته: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويُبشرهم: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾، ولعل البُشرى تكون في الجائزة الكُبرى التي هي (جزاء الإحسان) في الآخرَةِ بالحُسْنَى وزيادةٍ، والحُسْنَى هيَ الجَنَّةُ، والزيادةُ هيَ النظرُ إلى وجهِ اللَّهِ تعالى، يقول جلَّ وعلا: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة﴾.

وعن الإحسان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تراهُ، فإنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ].

وللإحسان وجهان؛ أحدهما: الإنعام على الغير، والثاني: إتقان العمل خاصةً في العبادات. ولعل القصة التي أوردناها تقع في مجال الوجه الأول؛ ففيها إحسانٌ على امرأةٍ اضطرتها ظُروفها الصعبة إلى طلب العون، ومع ذلك لا تبتعد القصة كثيراً عن الوجه الثاني؛ فمُساعدة المُحتاجين عبادةٌ.

وما أكثر مجالات الإحسان؛ كتب أحد العُلماء مُفصلاً لها فقال:

الإحسان إلى أنفسنا؛ فنُبعدها عن الحرام، ولا نفعل إلا ما يُرضي الله، ونحن بذلك نُطهِّر أنفسنا ونُزكيها، ونُريحها من الضلال والحيرة في الدنيا، ومن الشقاء والعذاب في الآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾.

الإحسان والبِر بوالدينا؛ بطاعتهما، والقيام بحقهما، والابتعاد عن الإساءة إليهما؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.

الإحسان إلى أقاربنا؛ بأن نكون رُحماء في مُعاملتنا معهم، وبخاصةٍ إخواننا وأهل بيتنا وأقاربنا ومعارفنا، نزورهم ونصلهم، ونُحسن إليهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾.

الإحسان إلى جيراننا؛ بإكرامهم امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما زالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ].

الإحسان إلى الفقراء والمساكين؛ بالتصدق عليهم، بغير نفاقٍ أو مراءاةٍ، وعدم المن؛ ليكون العمل خالصاً لوجه الله؛ يقول تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾.

الإحسان إلى اليتامى؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وبشَّر من يُكرم اليتيم، ويُحسن إليه بالجنة؛ فقال: [أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين] وأشارَ بأصبُعَيْهِ: السَّبَّابةَ والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًاً.

الإحسان في القول؛ فلا يخرج منا إلا الكلام الطيب الحسن، يقول تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.

الإحسان في التحية؛ بالالتزام بتحية الإسلام، ورد التحية؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها﴾.

الإحسان في العمل؛ حتى يتقبله الله منا، ويجزينا عليه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ].

 

 

أحبتي.. علينا بالإحسان في كل أمور حياتنا، ولا ننتظر المكافأة أو الشكر من أحدٍ، يكفينا (جزاء الإحسان) من الله عزَّ وجلَّ، فإنه سيُعطينا من واسع فضله وهو القائل: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ بمعنى أن من أحسن في الدُنيا يُحسن الله إليه في الآخرة. والمحسنون لهم أجرٌ عظيمٌ عند الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًاً﴾؛ ماذا ننتظر أكثر من هذه البُشرى؟! فلنُسابق إلى فعل الطاعات، والإكثار منها، فقد تعهَّد الله لنا بحُسن الجزاء، وهو سُبحانه أهلُ الكرم وأهل الوفاء.

وأحسنُ العمل ما اتسم بالإخلاص وأُريد به وجهُ الله سُبحانه وتعالى، وكان موافقاً لصحيح سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن وُفِّق إلى ذلك فليهنأ بجزاء الله الكريم في الدُنيا قبل الآخرة.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وتقبَّل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، واجعل الله أيام الأعياد مواسم إحسانٍ وأبواب خيرٍ يعم الجميع.

https://bit.ly/4j8MJRQ