خاطرة الجمعة /454
الجمعة 5 يوليو 2024م
(الظُلم ظُلمات)
قصةٌ حقيقةٌ حدثت في مدينة «القَطْن» بمُحافظة «حضرموت» باليَمَن قبل
قُرابة عشرين عاماً!
في يومٍ من أيام الصيف المُمطرة، وبعد هطول الأمطار الغزيرة على المنطقة
ذهب شابان إلى إحدى مغاسل السيارات بتلك المدينة لغسيل شاحنتهما من آثار الطين
والوحل؛ فقام أحد عُمال المغسلة بغسلها وتنظيفها على أفضل ما يكون. وبعد الانتهاء
من غسل السيارة، وأثناء استلام الشاحنة، اتهم الشابان العامل المسكين ظُلماً
وبُهتاناً بسرقة مبلغ 10 آلاف ريال من السيارة، أنكر العامل البسيط هذا الادعاء
جُملةً وتفصيلاً؛ فتم استدعاء صاحب المغسلة الذي خَوَّن عامله ولم يقف معه، وخيره
بين أمرين مريرين: إما استدعاء الشرطة وطرده من العمل، أو إعادة ذلك المبلغ إلى
الشابين المُدعيين، حاول ذلك العامل المسكين بقدر المستطاع دفع ذلك الاتهام الباطل
عن نفسه دون فائدةٍ، وفكّر ملياً بالخيار الأول لصاحب المغسلة؛ إذا تم استدعاء
الشرطة فسوف يُحجز أياماً عديدةً على ذمة القضية، ولديه أطفالٌ ووالدته مريضةٌ وكبيرةٌ
بالسن وهو العائل الوحيد لأسرته، والخيار الثاني هو دفع ذلك المبلغ من جيبه واتقاء
ذلك الشر المُستطير وتوكيل أمره لله ربِ العالمين؛ فقرر أن يذهب إلى بيته لإحضار
مبلغ 10 آلاف ريال لدفع الشر عن نفسه وعن أسرته ومستقبله وسمعته. أحضر المبلغ
وسلمه إلى الشابين الكاذبين أمام صاحب العمل وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل؛
وكلتُ أمري للملك القهار". انصرف الشابان فرحين بنجاح تلك العملية الجبانة!
أما صاحب العمل فبعد ذهاب الشابين قام بطرد العامل من وظيفته مُتحججاً بأنه لا
يُريد أن تتشوه سُمعة مغسلته بوجود لصٍ يعمل عنده؛ فبكى العامل كثيراً، وانصرف إلى
منزله بعد أن حاسبه صاحب العمل وأعطاه بقية حسابه.
لم تنتهِ القصة هنا، ولكن كانت تلك بدايتها، وبداية عدالة ربِ السماء
والأرض، وانتقامه من هذين الشابين الظالمين؛ فبعد استلامهما المبلغ الحرام من ذلك
العامل المسكين ذهبا إلى أحد الأسواق واشتريا من أحد المطاعم وجبة غداءٍ، وذهبا
إلى أحد الأماكن الطبيعية لتناول ذلك الغداء، وربما للتخطيط لعملية نصبٍ أخرى! قام
الشابان بإيقاف سيارتهما بجانب جُرفٍ جبليٍ لتناول الغداء تحت ظل ذلك الجُرف، ولكن
القَدَر كان لهما بالمرصاد، وعدالة ربِ العالمين قد نزلت عليهما بعد دعوة المظلوم؛
فتدحرجت صخرةٌ عظيمةٌ وضخمةٌ جداً من فوق ذلك الجُرف الجبلي وقامت بسحقهما تماماً
هما وسيارتهما، ثم استقرت فوق السيارة! هُرعت الجهات المختصة لمكان الحادث، وتم
إخراج الشابين بصعوبةٍ؛ فالأول سُحق تماماً وتُوفي على الفور، والثاني كانت به بعض
الروح، وفي سكرات الموت الأخيرة كان أول ما نطق به قبل موته: "ظلمنا عامل
المغسلة، وهذه عدالة ربنا فينا"، ومات موتةً شنيعةً!
عرف الناس بتلك القصة، وعرف صاحب العمل بالحادثة؛ فبكى كثيراً على ظُلمه
وتسرعه في الحكم على إنسانٍ يعمل عنده ويعرف أخلاقه جيداً، فقام بإعادته إلى العمل
وجعله رئيساً للعمال، بل وأرجع له مبلغ 10 آلاف ريال.
أحبتي في الله.. يقول ناشر القصة: هذه قصةٌ حقيقيةٌ وواقعيةٌ حدثت في تلك
المنطقة، وصارت تلك السيارة وفوقها الصخرة مزاراً للناس، يتأملون العبرة والعدالة
الإلهية السريعة التي لا ترضى بالظُلم والجَوْر بين الناس.
إن (الظُلم ظُلمات)، يقول أهل العلم إنّ للظُلم عواقب سيئةٌ على الأُمم
والأفراد، وهو خُلقٌ ذميمٌ، وذنبٌ عظيمٌ، يُحيل حياة الناس إلى شقاءٍ وجحيمٍ،
ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات؛ فعلى مستوى المجتمعات؛ يقول الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ
الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾؛
فالله سُبحانه وتعالى يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا يُقيم الدولة
الظالمة وإن كانت مُسلمةً. وعلى مستوى الأفراد؛ يقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: [إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ
يُفْلِتْهُ]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أخَذَ الْقُرَى وَهِيَ
ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. ويقول عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ
دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا ليسَ بيْنَهَا وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ] أي تجنب
الظُلم لئلا يدعو عليك المظلوم؛ فإنّ دعوة المظلوم كالرصاصة القوية؛ تُسافر في
سماء الأيام بقوةٍ، لتستقر في أغلى ما يملك الظالم، وما من ذنبٍ أسرع إلى تعجيل
نقمةٍ وتبديل نعمةٍ من الظُلم والبغي على الناس بغير حقٍ. ويقول صلى الله عليه
وسلم: [مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ
له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ]، فقال رجلٌ: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول
الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: [وَإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ]. وقال أيضاً صلى
الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ]؛ فلا
يهتدي الظالم يوم القيامة سبيلاً حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم] منهم [دعْوةُ المظلومِ
تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى
وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ]. ولشدة خطر الظُلم وعظيم أثره كان
النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من الاستعاذة منه فيقول: [اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ
أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ
أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ]. وحتى يتقي المُسلم عواقب الظُلم
الوخيمة، ويقي نفسه من تلك العواقب في الدُنيا والآخرة فإن عليه أن يُسارع إلى رد
المظالم إلى أهلها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ
لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا
يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ
مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ
فَحُمِلَ عليه].
ولأن (الظُلم ظُلمات) جاء التحذير الإلهي من الظُلم ليرتدع الظالمون. كما
أنّ العدل الإلهي استوجب تحذيراً من موالاة الظالمين أو تقديم أي عونٍ أو دعمٍ
لظُلمهم وبغيهم في الأرض، مُنبهاً على العقوبة المُترتبة على ذلك؛ يقول تعالى:
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، يرى المُفسرون أنّ
المقصود بالركون هو محبة الظالم والميل إليه بالقلب، والرضا بظُلمه، الأمر الذي
يجعل مُساعد الظالم ظالماً؛ فكل من ساعد ظالماً أو قدّم له عوناً أو دعماً أو حتى
تأييداً هو ظالمٌ مثله، وشريكٌ له في الإثم والوِزر، بقدر ما قدّم، وبقدر ما أيّد
وساند، وهذا يشمل جميع أشكال الموالاة بِدءاً بالميل القلبي، مُروراً بالرضا
بأفعال الظالمين ومُداهنتهم والتودد إليهم، وانتهاءً بمساعدتهم وتقديم الدعم والعون
لهم. ويُحذرنا النبي من إعانة الظالمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَعَانَ
ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله
وَذِمَّةُ رَسُولِهِ].
قال الشاعر:
لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً
فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ
تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ
يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ
أحبتي.. لينظر كلٌ منا إلى نفسه بتجردٍ ونزاهة، ويُحاسِب نفسه قبل أن
يُحاسَب؛ هل ظلم نفسه بتقصيره في أداء العبادات المفروضة؟ أو ببُعده عن الصراط
المستقيم؟ هل ظلم غيره: أباه أو أُمه؟ زوجه؟ أبناءه؟ إخوانه أو أخواته؟ أخواله أو
أعمامه؟ جيرانه؟ أصدقاءه أو زملاءه أو مرؤوسين له في العمل؟ أو أي إنسانٍ آخر؟ فإن
كان فعل فليُبادر إلى رد المظالم إلى أهلها فوراً ودون إبطاء. وإن وجد نفسه لم
يظلم أحداً فليُتابع مُحاسبته لنفسه ويسأل: هل ساعدتُ ظالماً وأعنته على ظُلمه؟ هل
رضيتُ يوماً عن ظُلمٍ طال غيري؟ هل أشعر في قرارة نفسي بالميل إلى ظالمٍ فأحببتُه؟
إذا كانت الإجابة بنعم، فلا يظن أنه ناجٍ من العذاب؛ فسوف تَمَسَه النار لركونه
إلى هذا الظالم أو ذاك، إلا أن يمتنع على الفور عن تقديم أي شكلٍ من أشكال العون
والمُساعدة للظالم، وأن يتوقف تماماً عن اتباع هوى نفسه بمحبة الظالم والميل إليه.
ولنتذكر جيداً المقولة المشهورة "إن لم تستطع قول الحق، فلا تُصفق
للباطل". ولنأخذ العبرة من قصة المثل المشهور "أُكلتُ يوم أُكل الثور
الأبيض"؛ فضعاف النفوس من الناس، هُم كالذين وقفوا يتفرجون على الثور الأبيض
وهو يؤكل، لم يهمهم بطش الظالم إذ كان بعيداً عنهم؛ فلنتعظ ونعلم أن الأمر يبدأ
دائماً بالغير ثم -إذا سكتنا ورضينا بما يفعل الظالم ولم نأخذ على يده- يطالنا
ظُلمُه كما طال غيرَنا؛ فلنحترس ولا نقع فريسةً للخداع والغفلة، والمؤمن كما ورد
في الأثر: "كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ".
لنتعاهد إذن على ألا يظلم أحدُنا أحداً. ونتعاهد أيضاً على ألا نُقدِّم
العون لظالمٍ، وأن ننزع من قلوبنا حبه والميل إليه. ولنتذّكر أن (الظُلم ظُلمات)
وأن من الحكمة اتقاء دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا من أتباعهم وأعوانهم، ولا ممن يركنون
إليهم. اللهم طهّر قلوبنا من الظُلم، ولا تجعل في نفوسنا رضىً بأعمال الظالمين،
ولا في قلوبنا محبةً لهم.
https://bit.ly/3VTdkrX