الجمعة، 5 يوليو 2024

الظُلم ظُلمات

 

خاطرة الجمعة /454

الجمعة 5 يوليو 2024م

(الظُلم ظُلمات)

 

قصةٌ حقيقةٌ حدثت في مدينة «القَطْن» بمُحافظة «حضرموت» باليَمَن قبل قُرابة عشرين عاماً!

في يومٍ من أيام الصيف المُمطرة، وبعد هطول الأمطار الغزيرة على المنطقة ذهب شابان إلى إحدى مغاسل السيارات بتلك المدينة لغسيل شاحنتهما من آثار الطين والوحل؛ فقام أحد عُمال المغسلة بغسلها وتنظيفها على أفضل ما يكون. وبعد الانتهاء من غسل السيارة، وأثناء استلام الشاحنة، اتهم الشابان العامل المسكين ظُلماً وبُهتاناً بسرقة مبلغ 10 آلاف ريال من السيارة، أنكر العامل البسيط هذا الادعاء جُملةً وتفصيلاً؛ فتم استدعاء صاحب المغسلة الذي خَوَّن عامله ولم يقف معه، وخيره بين أمرين مريرين: إما استدعاء الشرطة وطرده من العمل، أو إعادة ذلك المبلغ إلى الشابين المُدعيين، حاول ذلك العامل المسكين بقدر المستطاع دفع ذلك الاتهام الباطل عن نفسه دون فائدةٍ، وفكّر ملياً بالخيار الأول لصاحب المغسلة؛ إذا تم استدعاء الشرطة فسوف يُحجز أياماً عديدةً على ذمة القضية، ولديه أطفالٌ ووالدته مريضةٌ وكبيرةٌ بالسن وهو العائل الوحيد لأسرته، والخيار الثاني هو دفع ذلك المبلغ من جيبه واتقاء ذلك الشر المُستطير وتوكيل أمره لله ربِ العالمين؛ فقرر أن يذهب إلى بيته لإحضار مبلغ 10 آلاف ريال لدفع الشر عن نفسه وعن أسرته ومستقبله وسمعته. أحضر المبلغ وسلمه إلى الشابين الكاذبين أمام صاحب العمل وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل؛ وكلتُ أمري للملك القهار". انصرف الشابان فرحين بنجاح تلك العملية الجبانة! أما صاحب العمل فبعد ذهاب الشابين قام بطرد العامل من وظيفته مُتحججاً بأنه لا يُريد أن تتشوه سُمعة مغسلته بوجود لصٍ يعمل عنده؛ فبكى العامل كثيراً، وانصرف إلى منزله بعد أن حاسبه صاحب العمل وأعطاه بقية حسابه.

لم تنتهِ القصة هنا، ولكن كانت تلك بدايتها، وبداية عدالة ربِ السماء والأرض، وانتقامه من هذين الشابين الظالمين؛ فبعد استلامهما المبلغ الحرام من ذلك العامل المسكين ذهبا إلى أحد الأسواق واشتريا من أحد المطاعم وجبة غداءٍ، وذهبا إلى أحد الأماكن الطبيعية لتناول ذلك الغداء، وربما للتخطيط لعملية نصبٍ أخرى! قام الشابان بإيقاف سيارتهما بجانب جُرفٍ جبليٍ لتناول الغداء تحت ظل ذلك الجُرف، ولكن القَدَر كان لهما بالمرصاد، وعدالة ربِ العالمين قد نزلت عليهما بعد دعوة المظلوم؛ فتدحرجت صخرةٌ عظيمةٌ وضخمةٌ جداً من فوق ذلك الجُرف الجبلي وقامت بسحقهما تماماً هما وسيارتهما، ثم استقرت فوق السيارة! هُرعت الجهات المختصة لمكان الحادث، وتم إخراج الشابين بصعوبةٍ؛ فالأول سُحق تماماً وتُوفي على الفور، والثاني كانت به بعض الروح، وفي سكرات الموت الأخيرة كان أول ما نطق به قبل موته: "ظلمنا عامل المغسلة، وهذه عدالة ربنا فينا"، ومات موتةً شنيعةً!

عرف الناس بتلك القصة، وعرف صاحب العمل بالحادثة؛ فبكى كثيراً على ظُلمه وتسرعه في الحكم على إنسانٍ يعمل عنده ويعرف أخلاقه جيداً، فقام بإعادته إلى العمل وجعله رئيساً للعمال، بل وأرجع له مبلغ 10 آلاف ريال.

 

أحبتي في الله.. يقول ناشر القصة: هذه قصةٌ حقيقيةٌ وواقعيةٌ حدثت في تلك المنطقة، وصارت تلك السيارة وفوقها الصخرة مزاراً للناس، يتأملون العبرة والعدالة الإلهية السريعة التي لا ترضى بالظُلم والجَوْر بين الناس.

 

إن (الظُلم ظُلمات)، يقول أهل العلم إنّ للظُلم عواقب سيئةٌ على الأُمم والأفراد، وهو خُلقٌ ذميمٌ، وذنبٌ عظيمٌ، يُحيل حياة الناس إلى شقاءٍ وجحيمٍ، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات؛ فعلى مستوى المجتمعات؛ يقول الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾؛ فالله سُبحانه وتعالى يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا يُقيم الدولة الظالمة وإن كانت مُسلمةً. وعلى مستوى الأفراد؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. ويقول عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا ليسَ بيْنَهَا وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ] أي تجنب الظُلم لئلا يدعو عليك المظلوم؛ فإنّ دعوة المظلوم كالرصاصة القوية؛ تُسافر في سماء الأيام بقوةٍ، لتستقر في أغلى ما يملك الظالم، وما من ذنبٍ أسرع إلى تعجيل نقمةٍ وتبديل نعمةٍ من الظُلم والبغي على الناس بغير حقٍ. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ]، فقال رجلٌ: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: [وَإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ]. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ]؛ فلا يهتدي الظالم يوم القيامة سبيلاً حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم. ويقول عليه الصلاة والسلام: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم] منهم [دعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ]. ولشدة خطر الظُلم وعظيم أثره كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من الاستعاذة منه فيقول: [اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ]. وحتى يتقي المُسلم عواقب الظُلم الوخيمة، ويقي نفسه من تلك العواقب في الدُنيا والآخرة فإن عليه أن يُسارع إلى رد المظالم إلى أهلها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه].

 

ولأن (الظُلم ظُلمات) جاء التحذير الإلهي من الظُلم ليرتدع الظالمون. كما أنّ العدل الإلهي استوجب تحذيراً من موالاة الظالمين أو تقديم أي عونٍ أو دعمٍ لظُلمهم وبغيهم في الأرض، مُنبهاً على العقوبة المُترتبة على ذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، يرى المُفسرون أنّ المقصود بالركون هو محبة الظالم والميل إليه بالقلب، والرضا بظُلمه، الأمر الذي يجعل مُساعد الظالم ظالماً؛ فكل من ساعد ظالماً أو قدّم له عوناً أو دعماً أو حتى تأييداً هو ظالمٌ مثله، وشريكٌ له في الإثم والوِزر، بقدر ما قدّم، وبقدر ما أيّد وساند، وهذا يشمل جميع أشكال الموالاة بِدءاً بالميل القلبي، مُروراً بالرضا بأفعال الظالمين ومُداهنتهم والتودد إليهم، وانتهاءً بمساعدتهم وتقديم الدعم والعون لهم. ويُحذرنا النبي من إعانة الظالمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ].

 

قال الشاعر:

لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً

فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ

تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ

يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ

 

أحبتي.. لينظر كلٌ منا إلى نفسه بتجردٍ ونزاهة، ويُحاسِب نفسه قبل أن يُحاسَب؛ هل ظلم نفسه بتقصيره في أداء العبادات المفروضة؟ أو ببُعده عن الصراط المستقيم؟ هل ظلم غيره: أباه أو أُمه؟ زوجه؟ أبناءه؟ إخوانه أو أخواته؟ أخواله أو أعمامه؟ جيرانه؟ أصدقاءه أو زملاءه أو مرؤوسين له في العمل؟ أو أي إنسانٍ آخر؟ فإن كان فعل فليُبادر إلى رد المظالم إلى أهلها فوراً ودون إبطاء. وإن وجد نفسه لم يظلم أحداً فليُتابع مُحاسبته لنفسه ويسأل: هل ساعدتُ ظالماً وأعنته على ظُلمه؟ هل رضيتُ يوماً عن ظُلمٍ طال غيري؟ هل أشعر في قرارة نفسي بالميل إلى ظالمٍ فأحببتُه؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلا يظن أنه ناجٍ من العذاب؛ فسوف تَمَسَه النار لركونه إلى هذا الظالم أو ذاك، إلا أن يمتنع على الفور عن تقديم أي شكلٍ من أشكال العون والمُساعدة للظالم، وأن يتوقف تماماً عن اتباع هوى نفسه بمحبة الظالم والميل إليه. ولنتذكر جيداً المقولة المشهورة "إن لم تستطع قول الحق، فلا تُصفق للباطل". ولنأخذ العبرة من قصة المثل المشهور "أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض"؛ فضعاف النفوس من الناس، هُم كالذين وقفوا يتفرجون على الثور الأبيض وهو يؤكل، لم يهمهم بطش الظالم إذ كان بعيداً عنهم؛ فلنتعظ ونعلم أن الأمر يبدأ دائماً بالغير ثم -إذا سكتنا ورضينا بما يفعل الظالم ولم نأخذ على يده- يطالنا ظُلمُه كما طال غيرَنا؛ فلنحترس ولا نقع فريسةً للخداع والغفلة، والمؤمن كما ورد في الأثر: "كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ".

لنتعاهد إذن على ألا يظلم أحدُنا أحداً. ونتعاهد أيضاً على ألا نُقدِّم العون لظالمٍ، وأن ننزع من قلوبنا حبه والميل إليه. ولنتذّكر أن (الظُلم ظُلمات) وأن من الحكمة اتقاء دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا من أتباعهم وأعوانهم، ولا ممن يركنون إليهم. اللهم طهّر قلوبنا من الظُلم، ولا تجعل في نفوسنا رضىً بأعمال الظالمين، ولا في قلوبنا محبةً لهم.

https://bit.ly/3VTdkrX

 

الجمعة، 28 يونيو 2024

أُم مثالية

 

خاطرة الجمعة /453

الجمعة 28 يونيو 2024م

(أُم مثالية)

 

كتبت تقول: أريد أن أروي قصتي من البداية البعيدة، وأن أرجع بذاكرتي إلى الوراء حين كنتُ طفلةً في العاشرة من عمري، مقبولة الشكل والطبع، لكنني نحيفةٌ هزيلةٌ، أمرض كثيراً لضعفٍ في صدري يُصيبني بنزلات البرد المؤلمة خمس أو ست مراتٍ في الصيف والشتاء، فلا أكاد أبرأ من نوبة سُعالٍ حتى تُصيبني نوبةٌ أخرى، بسبب شدة الرطوبة التي تنفثها جدران شقة أُسرتي المُظلمة ليلاً ونهاراً، والتي لا تزيد عن حجرةٍ وصالةٍ وحمامٍ في بيتٍ قديمٍ بأحد أحياء القاهرة، وقد كنتُ –في تلك الفترة من عمري- في نهاية المرحلة الابتدائية، أعيش مع أُسرتي المكونة من: أبٍ عجوزٍ، أُجيب زميلاتي حين يسألن عن عمله بأنه بالمعاش وأنا لا أعرف معنى هذه الكلمة، و(أُم مثالية) طيبةٍ عطوفٍ، وخمس بناتٍ، وولدٍ واحدٍ، هو أكبر الأبناء.

وكنتُ أذهب إلى مدرستي مُرتديةً مريلةً بسيطةً لكنها نظيفة، وحاملةً حقيبةً من القُماش أضع فيها كُتبي، وأرتدي في قدميّ الصغيرتين حذاءً من البلاستيك، كانت تشتريه أُمي لي من سوق الخُضار بعشرة قروشٍ لا غير، ويُضايقني كثيراً لأنه يلتصق مع العَرَق بقدميّ، ويُشعرني بالحرج بين زميلاتي؛ لأنه الحذاء البلاستيك الوحيد بين أحذيتهن، حتى لقد كانت أُمنيتي الوحيدة في الحياة -وأنا في العاشرة من عمري- هي أن تسمح ظروف أُسرتي ذات يومٍ بشراء حذاءٍ لي من الجلد بتسعةٍ وتسعين قرشاً، كما كان سعره في تلك الأيام، وأن يُخلصني الله من السُعال الذي يُنهكني، لكن ظروف أُسرتي لم تسمح بتحقيق هذا الحُلم الجميل؛ فقد كان معاش أبي من وظيفته الصغيرة ضئيلاً للغاية، وراتبه ككاتبٍ صغيرٍ بإحدى الشركات التي عمل بها بعد المعاش أقل من القليل، لهذا فقد كانت أسعد لحظاتي حين تُعجب زميلةٌ لي بالمدرسة بحذائي البلاستيك، لأنه فريدٌ من نوعه، فتبادلني به -من باب التغيير ولبعض الوقت- حذاءها المصنوع من الجلد، وحين كان يحدث ذلك كنتُ أروح وأجئ بين الناس ليروه في قدميّ وأنا في قمة الابتهاج.

أما بعد العودة من المدرسة، فقد كنتُ أُغادر البيت مع أُختين لي حاملةً صينيةً مملوءةً بالترمس الذي صنعته أُمي في البيت لنبيعه للمارة على شاطئ النيل بقرشٍ وبنصف قرشٍ لمن يُريد، ويومنا السعيد يأتي حين يرانا رجلٌ طيبٌ يُدرك بفطنته حالنا؛ فيشتري منا كمية الترمس كلها بخمسة قروشٍ؛ فأهرول إلى أُمي لأعطيها القروش الخمسة التي ستكون مصروف البيت وعماده في اليوم التالي، وتُكافئني أُمي على اجتهادي بنصف قرشٍ فأخرج لألعب في الشارع حتى الغروب. أما في الإجازة فقد كنتُ أخرج في الصباح مع أُمي الطيبة المُدبّرة، التي حرمتها الظروف من الحصول على أية شهادةٍ، لنشتري طعام الإفطار للأسرة، فأراها تجلس في الفرن البلدي لأكثر من ساعةٍ بين بعض النسوة المُنتظرات مثلها أن يعود إلى الفُرن الخُبز "الرجوع"، الذي تُباع الأرغفة الثلاثة منه بقرشٍ، في حين يُباع الرغيف الواحد من الخبز الطازج بنصف قرشٍ، وكان هذا الخبز الجاف الذي تُبلله أُمنا بالماء هو طعامنا الأساسي، مع صنفين لا ثالث لهما من أصناف الطبيخ الخالي من اللحم هما: الملوخية والبطاطس المطهوة بالصلصة، إلى جانب طبق الفول في الصباح، فنأكل هنيئاً مريئاً ونسمع أبانا وأُمنا يُرددان دعاءهما اليومي أن يحفظ الله علينا نعمته. أما في صباح عيد الأضحى فقد كانت أُمي تصطحبني معها إلى عمارةٍ شاهقةٍ بجوار حديقة الحيوان لتأخذ لحم الأُضحية من إحدى الأسر الطيبة، من أهل الخير، وترجع شاكرةً تدعو لهم الله أن يزيدهم من فضله، وتدعو لأبنائها هي بأن يُصبحوا ذات يومٍ أهل خيرٍ مثلهم، وفي البيت يأكل أبناؤها من يديها أشهى وجبة لحمٍ، وألذ طبق حساءٍ في الكون كله. وكنتُ أشكر ربي كثيراً حين أشبع، وحين يجف صدري من السُعال الخانق. ومضت بي الأيام فالتحقتُ بالمدرسة الثانوية، وازددتُ حياءً ونظافةً، وعرفتُ دِيني أكثر فارتديتُ الحجاب، وسمعتُ من أُمي قصص الأنبياء؛ فقد كانت -برغم عدم حصولها على شهادة- موسوعةً في هذا المجال، بسبب قراءتها اليومية في المُصحف المُفسر بعد صلاة الفجر. كما تحسنت ظروفي فأصبح مصروفي –وأنا طالبةٌ بالمدرسة الثانوية- قرشين كاملين تُعطيهما لي أُمي مع سندويتشات الفول في الصباح، فأذهب إلى المدرسة وأقف أمام "الكانتين" مُترددةً ماذا أشتري بهما؟ ثم أقول لنفسي: "لماذا أشتري شيئاً وقد تناولتُ إفطاري وشبعتُ والحمد لله؟"، فتكون النتيجة أن أعود بالقرشين إلى أُمي، في معظم الأيام، وأُعطيهما لها مرةً أخرى فأجد البيت في حاجةٍ ماسةٍ إليهما! وبرغم بساطة حياتنا فلقد كانت أُمي شديدة التفاؤل بالمستقبل، وتثق بربها ثقةً لا حدود لها، وكثيراً ما جلست بيننا تؤكد لنا أنّ كلاً منا سيصبح له في المستقبل إن شاء الله شأنٌ كبيرٌ، وستعمل هذه أستاذةٌ بالجامعة، ويعمل هذا مُديراً كبيراً، وسيكون لكلٍ منا شقةٌ واسعةٌ وأثاثٌ جميلٌ وسيارةٌ، إلخ؛ فنضحك نحن من تفاؤلها الزائد عن الحد، ونُشفق عليها من هذه الأحلام الخيالية، ونحن نراها تُكافح كفاح الأبطال لتلبية مطالبنا، وقد أضافت إلى مصادر دخلها في هذه الفترة بيع الحلوى في حديقة الحيوان، وكانت تحصل علي "البضاعة" القليلة من تاجرٍ طيبٍ يُعطيها لها بلا مُقدم ثمن، ولا يتقاضى منها ثمنها إلا بعد أن تبيعها، ومن عجبٍ أنها كانت تُوزع بعضها، وهي عائدةٌ، على الأطفال الفقراء. وكنا نراها تذهب إلى مدارسنا للتقدم بطلب إعفائنا من الرسوم المدرسية لظروفنا الاجتماعية، أو تبيع –تحت ضغط بعض الظروف الطارئة وحاجة بعضنا لشراء الملابس- بعض أوانيها النحاسية لكي توفر لنا ثمنها. ومع ذلك كله فلم تكن آثار الفقر باديةً علينا؛ فنحن جميعاً ملابسنا نظيفةٌ ومظهرنا مقبولٌ في حدود إمكاناتنا، وحتى والدنا الذي كان وقتها يُقارب السبعين من عمره، ويعمل كاتباً بسيطاً بإحدى الشركات بعد إحالته إلى المعاش، كانت تبدو عليه الوجاهة أيضاً؛ فيحسبه البعض مُديراً بهذه الشركة! وقد كان كل ما نستطيع أن نُقدمه لأُمنا هو ألاّ نخذلها بالفشل والرسوب، فتقدمنا جميعاً في دراستنا، والتحق شقيقنا الوحيد بالجامعة، وخرج للعمل إلى جانب الدراسة، وبدأ يُساعد أبانا في الإنفاق علينا، وبخروجه للعمل بدأت الأُم الطيبة المُتفائلة تستغني عن بيع الحلوى. ثم توالت بعد ذلك التطورات في حياتنا فتخرج شقيقنا، وعمل بالشركة نفسها التي كان يعمل بها والدنا –رحمة الله عليه- وأنفق على نفسه أيضاً فحصل على الماجستير، وتزوج وأنجب وسكن في شقةٍ جميلةٍ بعمارةٍ كبيرةٍ وأصبحت له سيارةٌ بسيطةٌ ظريفةٌ، كما توقعت له أُمي في أحلامها المُتفائلة، أما شقيقاته فقد تخرجن كُلهن في الجامعة، وتزوجن وأقمن في مساكن جميلةٍ بعماراتٍ شاهقةٍ، وأصبح لكلٍ منهن سيارةٌ وزوجٌ في غاية الكرم والطيبة معها، أما أنا -الطفلة ذات الحذاء البلاستيك- فقد أصبحتُ زوجةً لمديرٍ طيبٍ يُحبني ويُحب أولاده حُباً جماً، وأُماً لثلاثة أطفالٍ صغارٍ وبنتٍ واحدةٍ، وقد بلغتُ الآن الرابعة والثلاثين من عمري، وأعمل أستاذةً جامعيةً، بالضبط كما تنبأت لي أُمي التي أصبحت جدةً يلتف حولها 12 حفيداً تسعد بهم، وأقيم في مسكنٍ جميلٍ بعمارةٍ شاهقةٍ، وأُوزع لحم الأضاحي في عيد الأضحى المبارك، وكُلما رأيتُ طفلةً صغيرةً جاءت مع أُمها لتأخذ لحم الأُضحية، تذكرتُ نفسي وأنا في مثل سنها وموقفها؛ فيمتلأ قلبي بالعطف عليها والحُب لها، وأجد نفسي أُردد ما ورد في الأثر من دعاء: "ربِ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك". كما أجد نفسي أُردد الدعاء ذاته كلما اصطحبتُ أولادي إلى حديقة الحيوان واسترجعتُ في خيالي صورة أُمي الطيبة، وهي تقف في المكان نفسه لتبيع بعض الحلوى الرخيصة وتكسب قروشاً تعول بها أطفالها. وأُردده كذلك كلما دخلتُ شقتي الواسعة المُضيئة التي تدخلها الشمس، وكل شيءٍ فيها أبيض، من الحوائط إلى الأثاث إلى الستائر إلى أغلب ملابسي وأحذيتي، عفواً حين أقول "أحذيتي" فقد أصبح لي بفضل الله وكرمه 15 حذاءً صالحةً للاستعمال، وكُلها من "الجِلد" أبدلنيها ربي –له الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه- بحذائي البلاستيك القديم، وأهمس بها لنفسي حين أرى من نافذة غرفة نومي، وأنا مستلقيةٌ في فراشي، قرص الشمس الأُرجواني الجميل وقت الأصيل، وقرص القمر الساطع في الليل فتمتلئ نفسي بهجةً وسروراً وعرفاناً، فإذا كان في شقتي عيبٌ من العيوب، فهي أنها مُضيئةٌ أكثر من اللازم، وقد نصحني البعض بأن أضع على زجاجها ستائر داكنةً تُخفف من ضوء النهار الساطع دائماً فيها، لكنني أرفض ذلك وأُفضِّل الستائر البيضاء؛ لكي أستمتع أكثر بضياء الشمس ونورها.

 

أحبتي في الله.. عرضت كاتبة القصة بأمانةٍ بعضاً من ملامح حياةٍ يوميةٍ عاشتها مع (أُم مثالية)، قامت بدورها بصبرٍ وحكمةٍ ومحبة، لا تنتظر الشكر أو التكريم من أحدٍ، ولا تسعى إليه، وإنما تفعل ذلك إرضاءً لله سُبحانه وتعالى، مثلها في ذلك مثل الملايين من الأُمهات المثاليات اللاتي عِشْنَ ومُتْنَ وقد أَدْيَنَ واجبهن على أحسن ما يكون.

وأنهت الكاتبة قصتها بقولها: كتبتُ هذه القصة لأطلب من كل إنسانٍ أنعم الله عليه بأُمٍ كأُمي، وأبٍ حنونٍ، وأسرةٍ مُتحابةٍ مُتماسكةٍ، أو بزوجٍ طيبٍ وأولادٍ صالحين، وعيونٍ ترى، وآذانٍ تسمع، وقلبٍ لا يحقد على أحدٍ، أطلب منه ومنكم جميعاً أن تُحسّوا بنِعم الله عليكم، التي لا تُعد ولا تُحصى، وأن تشكروه عليها، قولوا دائماً: "ربِ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك"؛ فبالشكر تدوم النِعم.

 

يقول أهل العلم إنّ الأمومة عاطفةٌ رُكزت في الأُنثى السوية، تدفعها إلى مزيدٍ من الرحمة والشَفقة. وإنّ أُمّ كل شيءٍ: مُعظمه، ويُقال لكل شيءٍ اجتمع إليه شيءٌ آخر فضمّه: هو أُمٌ له؛ وبهذا المعنى ورد تعبير "أُم الكتاب" و"أُم القُرى".

ولقد أوصى القرآن الكريم بالأُم، وكرر تلك الوصية لفضل الأُم ومكانتها؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وفَضْلُ الأم على الأب له موجباته وهو الحمل والرضاع والرعاية. وجعل الله سُبحانه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتٍ للمؤمنين من حيث واجب البِر وحُرمة الزواج والحقوق الواجبة لهن من الاحترام والتقدير؛ يقول تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾. ومن الأمثلة التي ضربها الله سُبحانه في القرآن للأُمهات المثاليات أُم موسى عليه السلام؛ إذ احتفل بها القرآن وحكى قصتها مع ولدها زمن فرعون؛ فقال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ...﴾، وقال: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى ...﴾، وقال: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ ...﴾.

وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: [أُمُكَ]. قيل: ثم من؟ قال: [أُمُكَ]. قيل: ثم من؟ قال: [أُمُكَ]. قيل: ثم من؟ قال: [أَبُوكَ]. الأمر الذي يؤكد حرص الإسلام على مُضاعفة العناية بالأُم والإحسان إليها.

وجاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: [هل لَكَ مِن أمٍّ؟] قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]، وهذا يُبين عِظَم منزلة الأُم في الإسلام.

 

يقول عُلماء الاجتماع إنّ الأُم هي صمام أمان الأسرة وأساس تماسكها وتلاحم أفرادها؛ لِما تقوم به من دورٍ وجهدٍ في سبيل تربية أبنائها ورعاية بيتها وزوجها، وهي القلب الحنون الذي يضم الجميع تحت لوائه ويحتويهم بحُبٍ ورفقٍ وسعادة، وهي العمود الفقري داخل الأسرة سواءً في وجود الأب أو في عدم وجوده، وهي المسئولة الأولى عن تربية الأبناء. وهناك صفاتٌ كثيرةٌ تستحق الأُم بسببها الاحتفاء والتكريم، وأن ينطبق عليها وصف (أُم مثالية)؛ أهمها أن تكون قدوةً لأبنائها تلتزم بالعبادات والفرائض، وتُعلم أبناءها القيم الجميلة النبيلة، وتُجنبهم العادات السيئة، وتربطهم دائماً بالدين. كما ينبغي أن تتحلى كل (أُم مثالية) بالصبر والحكمة في الحياة الزوجية، وتُعلي مصلحة صغارها فوق كل مصلحةٍ، وتصبر من أجل أولادها، وتتحمل مسئولية البيت والأبناء.

 

أحبتي.. رحم الله كل (أُم مثالية) أنجبت وربّت، وجعلت من أبنائها رجالاً صالحين ونساءً صالحات. ووَفّق الله كل أُمٍ ما تزال تُجاهد وتُكافح لتُربي أبناءها تربيةً إسلاميةً صحيحة. وهدى الله كل فتاةٍ وكل زوجةٍ في طريقها لتكون أُماً في المستقبل إلى الطريق المستقيم والسبيل القويم لتنشئة أبنائها على ما يُحب الله ويرضى. وعلى كلٍ منا -آباءً وأُمهاتٍ- أن يرعوا الله في تربية بناتهن ليكنّ أُمهاتٍ مثالياتٍ يُقدِّمن للبشرية أفضل وأصلح وأتقى الأبناء.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا عِلماً.

https://bit.ly/3VMesgW

 

الجمعة، 21 يونيو 2024

فضيلة الإيثار

 

خاطرة الجمعة /452

الجمعة 21 يونيو 2024م

(فضيلة الإيثار)

 

كتب على صفحته على فيس بوك في أحد أيام العشر من ذي الحجة يقول:

موقفٌ هزني ولم يُفارق عينيّ منذ حدوثه بالأمس. قبل عودتي إلى منزلي قبل موعد الإفطار بقليلٍ لفت انتباهي عامل نظافةٍ، مِن الذين يُنظفون الشوارع، جاوز الأربعين من عُمره، يجلس على الرصيف ويبكي بِحُرقةٍ، هزني منظره فاقتربتُ منه وأخرجتُ ما جاد به الله عليّ من مالٍ ووضعته في يده؛ ردني شاكراً وقال: "هل ترى هذا الرجل الذي يُنظف الجانب الآخر من الطريق؟ هو أحوج مني بهذا المال؛ فإن لديه عدداً من الأطفال وزوجته مريضةٌ، ولا يملك قُوت يومه"، قلتُ له وقد بهرني الرجل بدرسٍ عن (فضيلة الإيثار) الذي كاد أن يختفي من حياتنا هذه الأيام: "خُذ هذا، وسأمنحه من مال الله مثلك"، فقال: "أعطهِ نصيبي ونصيبه"، استحلفته بالله أن يُفسّر لي سبب بكائه عسى أن أستطيع مُساعدته، قال لي: "أشكرك، كنتُ أشكو همي وغمي إلى الله؛ ومَن اشتكى لله لا يشتكي لعباده". انتقلتُ إلى الجانب الآخر من الشارع مُتوجهاً إلى العامل الذي أشار إليه زميله، وكان أكبر منه سِناً وأشد بؤساً، سلمتُ عليه وأعطيته ما تيسر من مال الله فأخذه وشكرني، ودعا لي كثيراً؛ فقلتُ له: "الأحق بالشكر زميلك الذي يجلس هناك فقد آثرك على نفسه"، وقصصتُ عليه ما حدث؛ فإذا بالرجل تدمع عيناه وينطلق جرياً نحو زميله وكأن ثعباناً قد لدغه، وظل يُقبِّل رأس وأيدي زميله في منظرٍ مُؤثرٍ، ظننتُ في نفسي أنه تأثر بموقف زميله منه، وتركتهما وانصرفت.

إلا أنني فوجئتُ بهذا العامل وقد انطلق يجري نحوي متوسلاً أن أُكمل جميلي وأذهب معه لرئيس العمال -الذي يقف على بُعد خُطواتٍ منه بجوار سيارة النظافة- نستسمحه بإعادة زميله للعمل بعد أن استغنى عن خدماته. وقصَّ لي حكايةً عجيبةً؛ قال لي إنه قبل عدة دقائق اشتبك بالكلام مع زميله هذا لتقصيره في العمل، ووصل الأمر إلى أنه ذهب إلى رئيس العمال واشتكى على زميله واتهمه بأكثر مما فيه؛ فما كان من رئيس العمال إلا أن استغنى عن خدمات زميله، أما هو فقد شعر وقتها بنشوة الانتصار، وأنه عندما قصصتُ عليه ما حدث من إيثار زميله له شعر بحقارة نفسه وسوء فعله وأنه نذلٌ -هكذا وصف نفسه- وأنه لا يستحق كرم زميله معه. ذهبتُ معه لرئيس العمال وعرفته بنفسي، وقصصتُ عليه ما حدث، وقلتُ له: "لك أن تفخر بأن بين عمالك مثل هذا الرجل"؛ فقال لي إن هذا الرجل تسلّم العمل قبل عدة أيامٍ، ولثقته في زميله الآخر الذي يعمل معه منذ سنواتٍ تعجّل واتخذ هذا القرار. وكان رئيس العمال رجلاً مُحترماً فذهب إلى الرجل الجالس على الرصيف وقبَّل رأسه، وعاتب زميله أمامه، وقال له: "قُم أكمِل عملك"، شكره الرجل وقال له: "والله ما جعلني أبدو مُقصّراً في عملي اليوم هو جُرحٌ بقدمي"، وكشف عن قدمه لنرى جرحاً بطول القدم، أخبرنا أنه خاف أن يشكو منه فيتم الاستغناء عنه، وتحامل على نفسه، حتى لا يفقد عمله، الذي هو في أشد الحاجة إليه.

تركتهم بعد أن منَّ الله عليّ وساقني لأكون وسيلةً لتحقيق استجابة دعوة رجلٍ اشتكى همه وحاجته إلى الله، فسخَّر الله له -من حيث لا يحتسب- من كفَّ عنه الأذى وخفَّف كربته وأزال همه وغمه.

لم تُفارق أحداث هذه القصة مُخيلتي طوال يوم أمسٍ، حتى أنني عندما خلدتُ إلى النوم استرجعتُ كل أحداثها، وما بها من دروسٍ وعِبرٍ، ومن لحظاتٍ وجدتُ نفسي مدفوعاً دفعاً لتسجيل أحداثها على صفحتي؛ لتتشرف الصفحة وصاحبها بقصة رجلٍ بسيطٍ أعطاني درساً في (فضيلة الإيثار)، ودرساً في يقينه بأن ربه هو القادر -دون أحدٍ من عباده- على تفريج همه وغمه.

 

أحبتي في الله.. إنّ الإيثار أعلى مراتب العطاء والبذل، ونوعٌ من أنواع الصدقات، بل هو أفضل وأعظم أنواع الصدقات؛ يقول الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. وقد أثنى الله سبحانه على أهل الإيثار، وجعلهم في عِداد الأخيار ووصفهم بأنهم هُم المُفلحون؛ يقول تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وورد في سبب نزول هذه الآية أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [مَن يَضُمُّ -أوْ يُضِيفُ- هذا؟] فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: [ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أوْ عَجِبَ- مِن فَعَالِكُما]. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وقيل عن سبب نزول هذه الآية أنه أُهْدِيَت لرجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحدٌ إلى آخر حتى تداولها سبعةُ أهلِ أبياتٍ حتى رجعت إلى الأول! فنزلت: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ إلى آخر الآية.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

 

يقول أهل العلم إن الإيثار هو تقديم الغيرِ على النفس، وتقديم مصلحته على المصلحة الذاتية، وهو أعلى درجات السخاء، وأكمل أنواع الجُود والكرم، ومنزلةٌ عظيمةٌ من منازل العطاء. والإيثار علامة الإيمان، والمظهر الخارجي للحُب الصادق تجاه الغير، حيث التفاني والتضحية من أجل الآخرين لوجه الله، والمؤمن الصادق هو الذي يُقدّم نفسه للخَطَر ليَسلَم الآخرون، ويؤخّرها عند المكاسب ليغنموا، والمؤمن الصادق هو الذي يُتعِب نفسه من أجل راحة الآخرين، ويسهر ليله حتى ينام إخوانه، وهو لا يُقيم وزناً لحُطام الدنيا حتى يُقاتِل عليه أو ينفرد به.

وفي قصص إيثار الأنصار للمهاجرين من العجب ما فيها؛ من ذلك أنه لَمَّا قَدِم المهاجرون إلى المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وسَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، قالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصَارِ مَالًا، فأقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، ولِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أعْجَبَهُما إلَيْكَ فَسَمِّهَا لي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا، قالَ: بَارَكَ اللَّهُ لكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، أيْنَ سُوقُكُمْ؟ فَدَلُّوهُ علَى السُوقِ، فتوجه إليه ثم ما انْقَلَبَ منه إلَّا ومعهُ فَضْلٌ كبيرٌ من الله سُبحانه وتعالى. ووصل الإيثار سَنَامَه حينما تنازل الأنصار لإخوانهم المُهاجرين عن حظّوظهم من الغنائم رغم حاجتهم الشديدة؛ فلم يجعلوا عَوَزَهُم وحاجتهم الشديدة مُبرراً لترك الإيثار.

 

ومما قيل عن (فضيلة الإيثار):

"ليس الإيثار أن تُعطيني ما أنا أشدّ منك حاجةً إليه، وإنّما الإيثار أن تُعطيني ما أنت أشدّ إليه حاجةً مني".

"إنْ قيل: ما الذي يُسهِّل على النَّفس هذا الإيثَار؛ فإنَّ النَّفس مجبولةٌ على الأَثَرَة لا على الإيثَار؟ قيل: يسهِّله أمورٌ منها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، والنُّفرة مِن الشُح وأخلاق اللئام، وتعظيم الحقوق التي جعلها الله سُبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعضٍ فهو يرعاها حقَّ رعايتها".

"إن المُؤْثر يجني ثمار إيثاره في الدنيا قبل الآخرة؛ وذلك بمحبة الناس له وثناؤهم عليه، كما أنه يجني ثمار إيثاره بعد موته بجمال الذِكر؛ فيكون بذلك قد أضاف عُمُراً إلى عُمُره".

"الإيثار يقود المرء إلى غيره من الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة؛ كالرحمة وحُب الخير، والسعي لنفع الناس، كما أنه يقوده إلى ترك جملةٍ من الأخلاق السيئة والخلال الذميمة؛ كالبُخل وحُب النفس والأثرة والطمع وغير ذلك".

 

قال الشاعر يصف إيثاره:

أَجودُ بِمَوجودٍ وَلَو بِتُ طاوِياً

عَلى الجوعِ كَشحاً وَالحَشا يَتَأَلَّمُ

وَأُظهِرُ أَسبابَ الغِنى بَينَ رِفقَتي

لَيَخفاهُمُ حالي وَإِنّي لَمُعدَمُ

وَبَيني وَبَينَ اللَهِ أَشكو فاقَتي

حَقيقاً فَإِنَّ اللَهَ بِالحالِ أَعلَمُ

 

وقال غيره يصف أحد المُؤْثرين:

ما قالَ "لا" قَطُّ إلا في تَشهّدِهِ

لولا التشهّدُ كانت لاؤُهُ نَعَمُ

 

أحبتي.. أعجبني قول أحد الأفاضل: لا يغيب عنا أن الإيثار هو قمة الفضيلة، وأن بلوغها بحاجةٍ إلى عمليةٍ تربويةٍ مُتواصلةٍ، وذلك بالاستعاذة بالله عزَّ وجلَّ من البُخل وشُحّ النفس. إن المجتمع الذي يوجد فيه من يُؤْثِر غيره على نفسه، كما يوجد فيه من يزهد فيما عند غيره، ويقنع بما يؤتيه الله، جديرٌ بأن يعيش في أمنٍ واستقرارٍ، يُظله الحُب والتعاون والوئام.

فلنحرص أحبتي على أن تنتشر (فضيلة الإيثار) بيننا؛ فنبدأ بأنفسنا ونُؤْثر غيرنا على أنفسنا، بغير نفاقٍ أو رياءٍ أو رغبةٍ في التباهي أو بحثٍ عن سُمعة، وإنما لوجه الله سُبحانه وتعالى، طمعاً في رضاه ورضوانه. ولنُعَّلِم أبناءنا هذه الفضيلة وهذا الخُلُق النبيل حتى يشبّوا مُتمسكين به، ساعين إليه، حريصين على ألا يُفوِّتوا على أنفسهم ثواب فضيلةٍ يُحبها الله عزَّ وجلَّ ويمدح المُتصفين بها.

اللهم اجعلنا مُؤْثرين على أنفسنا، ولو كانت بنا حاجةٌ شديدةٌ، وقِنا شُح أنفسنا، واجعلنا اللهم من المُفلحين.

https://bit.ly/4eALZTO

 

الجمعة، 14 يونيو 2024

دعاء يوم عرفة

 

خاطرة الجمعة /451

الجمعة 14 يونيو 2024م

(دعاء يوم عرفة)

 

قصةٌ حقيقيةٌ كتبتها إحدى الفُضليات تتحدث عن أخيها «خالد» فتقول:

كان صبياً بعد بنتين، ما شاء الله، وأي صبي! طار الجميع فرحاً، فلم يكن أي صبي؛ جميل الملامح، أبيض البشرة، واسع العينين فأي صبي! تمنيتُ أن يكون اسمه «خالداً» تيمناً ب«خالد ابن الوليد» فكان لي ماتمنيتُ. مضى قرابة الشهر الأول منذ ولادته ثم حدث ما لم يكن في الحُسبان؛ كل شيءٍ صار فجأةً وبلمح البصر: سعالٌ شديدٌ، حمى، ثم خارت قوى الصغير الأمير الوسيم، وخارت قوانا حزناً عليه، حلّ الضيق والكدر ضيفاً ثقيلاً، فسُبحان من له الدوام. أُدخل «خالد» قسم الطوارئ بالمُستشفى، قلَّبَه الأطباء، حاول الأطباء، عجز الأطباء، ولا نتيجة واضحة! أثنوا جسده الصغير بأقسى ما يكون لسحب عينةٍ من النُخاع للوصول لأية نتيجةٍ، ولا نتيجة واضحة! أعيوا أطرافه الصغيرة سحباً من أوردتها حتى ما عاد وريدٌ يظهر، ولا نتيجة واضحة! ثم ألقوا بجسده الصغير المكبّل بالأجهزة على سريرٍ كبيرٍ أكرهه، وقالوا: "اشتباه حمّى شوكية"!

كان شقيقي الصغير الجميل الذي أسميته مُلقىً على طرف السرير الكبير -الذي أكرهه- لا يستره سوى حفّاضةٍ بلون بشرته وقلبه الصغير، لا زلتُ أتذكر ذبول عينيه وبكائي على ذاك الذبول. أخبر الأطباء والديّ أن يدعوا لفلذة كبديهما بالخير فمستقبله لا يُبشر بخيرٍ، ولربما ذاك هو الأفضل، فأية قسوةٍ! دعوةٌ قاسيةٌ أرى فيها من القُنوط ما فيها! كثيرٌ ممن حولي سمعتهم يدعون بدعاء اليائسين -حتى والديّ- بعد أن أقنطهم الأطباء، كنتُ أغضب؛ فالله قديرٌ ورحيمٌ وعليم، الله عظيمٌ حيث لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، فماذا لو قالوا شفاه الله وأبقاه؟!! لِمَ اليأس والقنوط ولدينا ربٌ كريم؟!!

بقي «خالد» في مكانه في قسم العناية الفائقة بلا تحسنٍ يُذكر لعدة أيام، حتى حلّت خير أيام الدنيا، كانت مثل هذه الأيام من شهر ذي الحجة، فاغتنمنا الفرصة بفضلٍ من الله ومِنةٍ، الجميع كان يدعو ل«خالد» في يوم عرفة، الجميع صوب ملاذٍ واحدٍ؛ فارج الكُرَب ومُنتهى الآمال والأحلام سُبحانه. حرصتُ في ذلك اليوم أن أتواصل مع كل صديقاتي ممن أحسبهم على خيرٍ -والله حسيبهم- وأطلب منهم الدعاء ل«خالد» عند الإفطار بعد الصيام؛ إذ أن (دعاء يوم عرفة)، خاصةً وقت إفطار الصائم، فيه استجابةٌ بإذن الله. أما أنا فكان لي شأنٌ آخر؛ كان لي موعدٌ مع ربي رجوتُ أن لا يردني فيه، قُبيل أذان المغرب توضأتُ للصلاة ودخلتُ غرفتي، أغلقتُ الباب على نفسي، وجثوتُ على رُكبتيّ، أشعثتُ شَعر رأسي، قد يستغرب البعض ولكني أحببتُ أن أُبدي كامل مسكنتي وذُلي لربي علّه يغفر لي ذنبي ويرحمني فيستجيب دعائي، كان أجمل ذلٍ وأروع مسكنةٍ، ذلٌ يرفعك لتسمو! دعوتُ الله وبكيتُ وبكيتُ وبكيت، كنتُ أشعر أن بكائي يخرج من عُمق صدري، ثم اطمأننتُ فقد أرسلتُ أُمنياتي إلى حيث لا خيبة، فكيف تكون خيبةٌ مع (دعاء يوم عرفة)؟ مضت أيامٌ قلائل ثم شُفي «خالد» والحمد لله؛ فكانت فرحةً لا تُوصف، بقي لأشهرٍ في زياراتٍ دوريةٍ للمُستشفى، وعلاجاتٍ روتينيةٍ، والحمد لله على كل حالٍ "مرّت وعدّت" كما يقولون. بعد مُضي عدة أشهرٍ رأيتُ فيما يرى النائم وكأنّي أغسل كفّيّ أتوضأ وضوئي للصلاة، وفجأةً خُلِع أحد كفٌيّ من مِفصله ونُزع من مكانه، فكأنني استحييتُ فأعدتُ تركيب كفّي إلى مفصله وخرجتُ وانتهت الرؤيا؛

تعجبتُ من هذه الرؤيا فاتصلتُ بأحد المُفسرين المحمودين في ذلك الشأن -ولا أزكيه على الله- قال لي: "هل كان لديكم قريبٌ مريضٌ مرضاً شديداً شارف على الهلاك وقد شفاه الله؟"، بصعوبةٍ تذكرتُ أخي فأخبرته؛ أكثَرَ من الاستغفار والذِكر ثم قال: "إذا صدقت الرؤيا فإن ذاك الصبي قد قُدّر له قَدَرٌ وردّه الله إليكم بدعائكم والله أعلم!"، فسُبحان الله الكريم، سُبحان الملك العظيم، سُبحانه ما كان ﴿لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾.

أخي «خالد» الآن -ما شاء الله لا قوة إلا بالله- شابٌ يافعٌ في الثامنة عشرة من عُمره، لطيفٌ ومحبوبٌ، على مشارف الجامعة، دعواتكم له بدوام الصحة وطول العُمر والبركة.

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى وقعت أحداثها يوم وقفة عرفة كذلك، يقول صاحب القصة:

إنه لم يكن دعاءً بل حوارٌ مع الله، حينما حدث لزوجتي في يوم عرفة فجأةً نزيفٌ داخليٌ وكادت تموت بين يديّ، ولم أجد أحداً يُسعفني. توجهتُ بسرعةٍ إلى المُستشفى لإجراء عمليةٍ لوقف النزيف؛ فطلب مني الطبيب ثلاثة أكياس دمٍ من فصيلةٍ نادرةٍ، ولم أجد سوي كيسٍ واحدٍ فقط في بنك الدم ومطلوبٌ أمامه عشرة مُتبرعين أصحاء، ولم يبقَ من الوقت سوي ساعةٍ، ولم يكن معي سوى مُتبرعٍ واحدٍ يصلح لذلك الأمر، تخيلتُ وقتها أن أطفالي سوف يكونون يتامى، خاصةً صغيرهم الذي لم يتعدَ عُمره سنواتٍ ثلاث، أحسستُ بالعجز وكنتُ على وشك البكاء؛ فهرولتُ نحو نافذةٍ بعيداً عن الناس، وتطلعتُ إلى السماء أُناجي ربي؛ كيف يتركني وحيداً عاجزاً، وهو دائماً بجواري؟ كيف لهذا الطفل الصغير ألا يرى أمه ثانيةً؟ كنتُ أبكي كثيراً وأنا أتحدث إلى الله سُبحانه وتعالى وأتضرع إليه بالدعاء، و(دعاء يوم عرفة) مُستجابٌ بإذن الله. غمرني شعورٌ بأني راضٍ بقضاء الله وقدره. عُدتُ إلى بنك الدم فإذا كل شيءٍ قد تغير؛ كأن هنالك جنوداً مُجندةً هبطت من السماء؛ فالجميع يُهرول ويُساعدني بدون معرفةٍ، والطبيب قام بالعملية بغير أن ينتظرني، هرولتُ بهذا الكيس من الدم وخرجت زوجتي من غرفة العمليات، وشعرتُ ببعض الراحة؛ فقد أرسل الله جنوده إليّ وكأنه سُبحانه يقول لي "لا تحزن فأنا معك". الطبيب يحتاج إلى كيس دمٍ آخر بشكلٍ عاجلٍ حيث نزفت زوجتي كثيراً؛ فنظرتُ إلى السماء في صمتٍ فإذا بشخصٍ لا أعرفه يُخبرني بأنه وجد كيساً وسوف يذهب لإحضاره لي! حمدتُ الله على نعمته. فوجئتُ بالطبيب يطلب كيساً ثالثاً؛ فإذا بشخصٍ ثانٍ يُخبرني أنه وجد كيساً آخر وسوف يأتي في الصباح ومعه مُتبرعين، وبالفعل حضر ومعه المُتبرعون! الحمد لله تم شفاء زوجتي، وشعرتُ أن الله بجواري، وأنني بالفعل وجدتُ جنوداً من عنده هُم مَن قاموا بتسهيل كل شيء! إنه (دعاء يوم عرفة) المستجاب؛ فهو سُبحانه الله القائل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أفضلُ أيامِ الدُنيا أيامُ العشْرِ] ويُجمع الفقهاء على أن المقصود بها الأيام العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة. ويوم عرفة هو آخر هذه الأيام قبل يوم التضحية؛ لذا فإن فيه خير الدعاء؛ يقول المُصطفى صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] فهذا هو أكثر الذِكر بركةً وأعظمه ثواباً وأقربه إجابةً. ويقول عليه الصلاة والسلام: [ما مِنْ يَومٍ أَكْثرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيهِ عَبدًا أو أَمةً منَ النَّارِ مِن يومِ عَرَفةَ]، فالله عزَّ وجلَّ فضَّل بعض الأيام على بعض، والأيام الفاضلة هي مواسم لنفحات الله وعطاياه لعباده، يغفر فيها الذنوب، ويرفع فيها الدرجات، ومن تلك الأيام الفاضلة يوم عرفة، وفي هذا الحديث يُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يكون في يوم عرفة من الخلاص عن العذاب، والعتق من النار، أكثر مما يكون في سائر الأيام.

يقول أهل العلم إن يوم عرفة يُعَد فرصةً للتوبة النصوحة والإنابة إلى الله، والاستغفار والتوسل إليه بصالح الأعمال، كما يتوجب على المسلمين في يوم عرفة -لغير الحاج- الصيام والدعاء والاستغفار، واستغلال هذا اليوم العظيم بكل ما يُقرِّب إلى الله من الأعمال الصالحة.

 

أحبتي.. يوم عرفة يوم استجابة الدعاء وتحقيق الأمنيات بإذن الله، يومٌ يفوز المسلم فيه إذا أحسن استغلال هذا اليوم بالعمل الصالح والصيام والطاعة وقراءة القرآن وغيرها من العبادات التي تجعل العباد ينالون مغفرة الله ورحمته.

وغداً يوم عرفة؛ ارفعوا أكفكم واطرحوا أمانيكم واعرضوها على ملك الملوك فلن يردها صفراً؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ حيِىٌّ كريمٌ يستحي إذا رفعَ الرَّجلُ إليْهِ يديْهِ أن يردَّهما صفرًا خائبتينِ].

اللهم هذا (دعاء يوم عرفة) نتقرب به إليك، فتقبل منا صيامنا ودعاءنا وصالح أعمالنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار. اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظُلماً كثيراً كبيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرةً من عندك، وارحمنا رحمةً نسعد بها في الدارين، وتُب علينا توبةً نصوحاً لا ننكثها أبداً، وألزمنا سبيل الاستقامة لا نزيغ عنها أبداً. اللهم انقلنا من ذُل المعصية إلى عِز الطاعة، واكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، ونوِّر قلوبنا، وابعد عنا الشر كله، واكتب لنا الخير كله. اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى. اللهم يسرِّنا لليُسرى وجنبنا العُسرى، وارزقنا طاعتك ما أبقيتنا، إنك سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/45rlkEP

 

الجمعة، 7 يونيو 2024

خُطوات الشيطان

 خاطرة الجمعة /450

الجمعة 7 يونيو 2024م

(خُطوات الشيطان)

 

يروي لنا هذه القصة شيخٌ فاضلٌ، أخبرنا أن مقصوده من نشر هذه القصة هو الاتعاظ وأخذ العبرة، وقال إنه سيترك الفتاة صاحبة القصة الحقيقية تحكي لنا ما حدث معها؛ تقول الفتاة عن نفسها: أنا من عائلةٍ معروفةٍ ومُحترمةٍ، تزوجتُ من أحسن الشباب، وحسدني الناس على زواجي منه. دللني زوجي، وعشتُ معه أسعد حياةٍ، ومرت الأيام، حياةٌ سعيدةٌ، سرورٌ وفرحٌ، نخرج ونتمتع، لم يمنعني يوماً من الأيام من شيءٍ طلبته، حتى جاء اليوم الذي أهداني فيه زوجي جهاز كمبيوتر، وعلمني كيفية الدخول على شبكة الإنترنت، وكانت لي صاحبةٌ تُعلمني كيفية استخدام الإنترنت. مرت الأيام وكنتُ قد عرفتُ وتعلمتُ كيف أستخدم مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي وغُرف المحادثة والدردشات وغيرها، وبدأتُ أتحدث مع أشخاصٍ لا أعرفهم، كان زوجي يذهب إلى العمل في الصباح وأجلس أنا ساعات الصباح بطولها وعرضها أمام شاشة الكمبيوتر أدخل -عن طريق الإنترنت- في حوارٍ ونقاشاتٍ ودردشاتٍ مع من أعرف ومن لا أعرف، ورغم أنني امرأةٌ صالحةٌ، لم أفعل أبداً شيئاً من الحرام إلا أن الكثير من حديث الناس في تلك الدردشات كان حديثاً ساقطاً، لا آبه به ولا أُشارك فيه، وكنتُ أقضي الساعات الطوال مع تلك المواقع والمنتديات وغُرف الدردشات.

وفي إحدى تلك الغُرف تعرفتُ على شابٍ من أفضل الشباب خُلُقاً، كان يكتب لي وأرد عليه كتابةً، ثم تطورت علاقتنا فصِرنا نتحدث بالصوت، ثم بدأنا نتواصل معاً بالصوت والصورة، وبعد أن كان تواصلنا مُتباعداً أصبحتُ أتحدث معه كل يومٍ، حتى تعلق قلبي به، لم أفكر بالحرام يوماً، لكني أحسستُ أنني لا أستطيع أن أُسيطر على عاطفتي الجياشة نحوه، ورغم أني كنتُ أحب زوجي، إلا أنني أحببتُ ذلك الشاب أيضاً. ومرت الأيام حتى بدأ ذلك الشاب يعدني بالزواج إن طلقني زوجي، وألحّ عليّ في ذلك، كنتُ أرفض الفكرة في بداية الأمر لكن مع إلحاحه بدأتُ أقبلها، وأتعايش معها، ويوماً بعد يومٍ، كانت علاقتي تقوى بذلك الشاب، وتضعف مع زوجي، ولاحظ زوجي تغيّري من ناحيته؛ فبدأت المشاكل بيني وبينه؛ فأخذ الكمبيوتر وحرمني منه، فأخذتُ أُكلم ذلك الشاب بالهاتف، وشك زوجي فيَّ فوضع جهاز تنصتٍ لتسجيل مُكالماتي دون أن أدري، وبعد أيامٍ اكتشف الفضيحة، وعلم بالأمر، فجاء إليّ ووضع المُسجل وأسمعني المُحادثة المُسجلة بيني وبين الشاب؛ فقلتُ له بعد أن بكيتُ: "الآن، ماذا تريد؟"، كان زوجي من أطيب الناس وأنبلهم، لم يفضحني، ولم ينفعل عليّ، فقط قال لي بهدوءٍ مع نظرة عتابٍ في عينيه: "اذهبي إلى بيت أهلك واطلبي الطلاق، وسوف آتي وأُطلقك، وكأن الأمر لم يحدث". فعلاً ذهبتُ إلى بيت أهلي وطلبتُ منهم أن يُطلقوني من زوجي، حاولوا أن يعرفوا مني سبب طلبي الطلاق، فلم أُجبهم إلا بدموعي، ولما رأوا إصراري على الطلاق اتصلوا بزوجي فحضر، وحاولوا أن يُصلحوا بيني وبينه، دون جدوى، فطلقني زوجي بناءً على رغبتي!

وبدأتُ أخرج مع عشيقي الشاب الذي تعرفتُ عليه من خلال شبكة الإنترنت، وازدادت مرات لقائنا، وفي كل مرةٍ نلتقي في مكانٍ جديدٍ، حتى كان اليوم الذي اصطحبني فيه إلى شقته لأرى بنفسي بيت الزوجية، وكان كلامه المعسول يجعلني كالمُخدرة، لم أدرِ كيف سلمتُ له نفسي، ثم تكرر الأمر مرةً أخرى، ثم تكرر مراتٍ عديدةٍ، وكلما كنتُ أقول له: "متى الزواج؟"، كان يقول لي: "اصبري قليلاً حتى أُرتب أُموري". ظللنا على هذه الحال شهوراً، حتى انقطع عني فترةً؛ فاتصلتُ به وسألته: "يا فلان! متى تأتي للزواج مني؟"، فوجئتُ برده؛ قال لي: "أيتها الساقطة"، قاطعته مُتسائلةً وأنا لا أصدق أُذني: "ماذا تقول؟"، قال: "أيتها الساقطة، أتظنين أن أحداً يُفكر بالزواج منكِ؟"، قلتُ: "لِمَ؟"، قال: مَن خانت مرةً ربما تخون مرةً أخرى، أنا شابٌ استمتع بكِ أياماً، لكن إذا فكرتُ في الزواج فلن أبحث عنه في الإنترنت، الزواج أعرف طريقه، والفتيات الصالحات أعرف طريقهن، أما أنتِ فساقطةٌ أقضي معها بعض الوقت فقط".

تقول الشابة: "أنا الآن قد تجاوزتُ الثلاثين من العُمر، ولم يأتِ أحدٌ لخطبتي ولا للزواج مني، ضيعتُ حياتي، وأفكر في الانتحار! وأنا الآن أكتب هذه الرسالة، التي ربما تصلكم وأنا مُنتحرةٌ، وربما تقرأون حكايتي وأنا تحت التراب، فإن كنتُ قد مِتُ فادعوا لي بالمغفرة، وإن كنتُ لا زلتُ حيةً فادعوا الله لي بالهداية، لعل الله عزَّ وجلَّ يستجيب دعوة الصالحين منكم فيقبل توبتي ويُكفر عني خطيئتي، ويهديني سواء السبيل.

يقول راوي القصة: وعندي قصصٌ لو تكلمتُ إلى الفجر فلن أنتهي من سردها، كلها حقيقيةٌ حدثت بالفعل؛ فتياتٌ بعضهن تكلمني بنفسها في الهاتف، والله إنهن يبكون الدم بدلاً من الدمع، من المآسي التي وصلن إليها، أولها دردشةٌ واتصال، وربما نظرةٌ، تقول إحداهن: "عندما خرجتُ من المدرسة إلى البيت، نهاية الدوام، نظر إليّ فكلمني، أول مرةٍ ارتعدت فرائصي وارتجفتُ وخفتُ، ثم مرةً بعد مرةٍ ذهب الخوف، وحل محله الشوق للقاء، والتقينا، وتكررت لقاءاتنا، وهو يعدني في كل مرةٍ بالزواج، ولم يفِ بوعده أبداً، وها أنا الآن في وكر الرذيلة، أتعرفون ما هو السبب؟ إنها (خُطوات الشيطان) خطوةٌ بعد أخرى، حتى يقع المحظور".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى بصيغة النهي عن تتبع (خُطوات الشيطان): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، ويقول أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾. يقول المفسرون إنّ تتبع (خُطوات الشيطان) يعني تتبع طرائقه ومسالكه وما يأمر به، وفي هذه الآيات الكريمة تنفيرٌ وتحذيرٌ من ذلك، بأفصح عبارةٍ وأوجزها وأبلغها وأحسنها، وفيها بيان أن كل معصيةٍ هي من الشيطان.

 

يقول أهل العلم إنّ التعبير القرآني بلفظة خُطوات هو من مُعجزات ألفاظ القرآن؛ ففيه دلالاتٌ أولها: أن الخُطوة مسافةٌ قصيرةٌ، وهكذا الشيطان يبدأ بالشيء اليسير. ثانياً: كلمة خُطوات فيها دلالةٌ على أنه لن يقف عند أول خطوةٍ في المعصية، بل هي خُطوةٌ ستتبعها خُطواتٌ، وسيئةٌ ستتبعها حتماً سيئات. ثالثاً: فيها رسمٌ واضحُ المعالمِ لتدرج الشيطان في غوايته: بِدءاً ببواعث المعصية في النفس حتى السقوط فيها ثم الاستمرار عليها ثم المداومة إلى الموت إلا أن يعصم الله، فهو يبدأ غوايته بخطرةٍ، ثم فكرةٍ، ثم هَمٍّ، ثم عَزمٍ، ثم فِعلٍ، ثم عادةٍ، ثم سلوكٍ، ثم مُجاهَرةٍ، والخاتمة يعلمها الله وحده، وفي ذلك يُقال: "احذروا أول خُطوةٍ من (خُطوات الشيطان)؛ فإن أصعب الحرام أوله، ثم يَسهل ثم يُستساغ، ثم يُؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يَبحث الشخص عنه، أو عن حرامٍ غيره، ثم ينشره ثم يدعو إليه".

 

لسنا ضد التطور، ولسنا نُعادي الحداثة، وإنما ندعو إلى استخدام الأدوات والأجهزة والطُرق والأساليب التي يوفرها العلم الحديث وفق ضوابط الشرع الحنيف؛ فهذا كتاب الله جلّ جلاله لم يترك لنا شيئاً إلا ضبطه لنا:

ضَبط صوتنا: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾، وضبط مشيتنا: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾، وضبط نظراتنا: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وضبط سمعنا: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾، وضبط طعامنا: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾، وضبط ألفاظنا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾؛ فالقرآن كفيلٌ أنْ يضبط لنا حياتنا كلها، ويُحقق لنا الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

 

أحبتي.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ]؛ فليس منا أحدٌ معصومٌ من وسوسة الشيطان ونزغه، والواجب علينا أنْ نحذر اتباع خُطواته، ولنحذر أول خُطوةٍ لأنها تبدأ بأصغر وأهون وأيسر الأمور، وتنتهي بأعظم الكبائر؛ فكم أوصلت الخُطوة بعد الخُطوة أُناساً إلى مهاوي الضلالة، وقد كانت البداية من الصغائر على حين غفلةٍ وتفريطٍ وبُعدٍ عن الله عزَّ وجلَّ؛ فإن المعصية بابٌ مُغلقٌ، إنْ تجرأ أحدنا على فتحه مرةً سيسهل عليه فتحه مراتٍ ومراتٍ، فلنحرص على ألا نفتحه. إن طريق الوقاية من نزغ الشيطان تكون بالاستعاذة بالله؛ يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، ويقول سبحانه مُعلماً لنا الدعاء النافع: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ . وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِ . مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعَوَّذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ مِن هَمْزِه ونَفْخِه ونَفْثِه.

كما أن على كلٍ منا أن يتقي الله فيمن يرعاهم؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ] وذكر منهم [والرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ ومسئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيةٌ في بَيْتِ زَوْجِهَا ومسئولةٌ عَنْ رعِيَّتِهَا]، فلنغرس الوازع الديني في نفوس أبنائنا، ونُتابعهم، ونمد جسور الحوار معهم، وننصحهم ونُوعيهم بحيل الشيطان الذي يأتيهم ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾، ونُحذرهم من خُطواته، ونُعَلّمهم كيف يتقونه، حتى لا يكونوا صيداً سهلاً له، ونكون دائماً بالقُرب منهم، والأهم هو أن نكون قدوةً صالحةً لهم.

اللهم احفظنا وأهلنا ومَن نُحب مِن الشيطان الرجيم، وألهمنا لزوم الاستعاذة بك سُبحانك في كل وقتٍ وحين.

https://bit.ly/3KuHYTn

الجمعة، 31 مايو 2024

الجنَّة تحت رجليها

 

خاطرة الجمعة /449

الجمعة 31 مايو 2024م

(الجنَّة تحت رجليها)

 

تحكي إحدى عاملات دار المسنين هذه القصة؛ فتقول: توفيت منذ شهرٍ نزيلةٌ بالدار عن عُمرٍ يُناهز الثانية والثمانين عاماً. كانت قد أتت إلى الدار منذ عشرين عاماً، وأتذكر جيداً ذلك اليوم؛ إذ أتى بها ابنها الطبيب وكان وجهها شاحباً، تكاد لا تتحدث إلا بإيماءاتٍ قليلةٍ، وعندما تحدثتُ معها أخذت في البكاء الشديد وقالت: كنتُ أعمل بمهنة التدريس للغة الفرنسية، وتعرفتُ على زميلٍ لي يعمل مدرساً للغة الفرنسية أيضاً، صارحني بإعجابه بي ورغبته في الزواج مني؛ فوافقتُ على الفور لأن أخلاقه وصفاته جيدة، تم الزواج ومرت السنون سريعاً، وأنجبتُ ثلاثة أبناء. لم يكن قد مرّ على زواجي عشر سنواتٍ حتى تُوفي زوجي إثر حادثٍ ليترك لي مسؤولية ثلاثة أبناء مسؤوليةً كاملةً. أكملتُ رسالتي مع أبنائي، ورفضتُ الزواج مرةً أخرى رفضاً قاطعاً مع كل الضغوطات من عائلتي، رغم أن عُمري وقتها لم يتعد الخامسة والثلاثين، ولكن كرستُ كل حياتي لأبنائي، عملتُ بالمدرسة، وبالدروس الخصوصية ليلاً ونهاراً لأُكمل تعليمهم في مدارس دولية، وليظهروا بمظهرٍ جيدٍ أمام المُحيطين بنا، وكذلك أمام زملائهم بالمدرسة وأصدقائهم بالنادي. كان يومي مشغولاً جداً؛ ما بين عملي ومذاكرة أبنائي وتمارين النادي.

مرت الأيام سريعاً؛ ليكبر أطفالي ويتخرجون من كليات القمة، وسافرت أكبر بناتي لاستكمال دراستها بإنجلترا، وتعرفت على زميلٍ لها وتزوجته واستقرت بالغربة. ابنتي الثانية تزوجت بأستاذها بالجامعة، وحصل على عقد عملٍ بدولةٍ عربيةٍ وسافرت معه. أما ابني الدكتور فقد أراد الزواج من طبيبةٍ زميلته، وطلب مني أن يتزوج في منزلي؛ فوافقتُ على الفور، وتم تجديد المنزل من كل شيءٍ لأرى السعادة في عين ابني، فقد تزوج، وإذا بزوجته تُعاملني مُعاملةً غريبةَ الشكل؛ عندما تنفرد بي تُعاملني كأنني خادمةً لها، ولكن أمام ابني تتعامل معي وكأنها هي الخادمة لي. مرت الأيام ورَزق الله عزَّ وجلَّ ابني بأطفالٍ، وضاق المنزل علينا، والظروف لا تسمح بتوفير منزلٍ أوسع؛ لأن زوجته تصرف مبالغ طائلةً على ملابسها ومظهرها، وتقوم كل عامٍ بتغيير سيارتها للموديل الأحدث؛ فلا يتبقى إلا بعض المصاريف. اقترحت زوجة ابني عليه أن يذهب بي إلى دارٍ للعجزة، ولم أعلم بذلك إلا في يومٍ من الأيام قال لي ابني: "أمي، حضِّري حقيبتك؛ فأنا أريد أن أذهب معكِ غداً في نُزهة"، فرِحتُ فرحاً شديداً؛ فأنا من زمنٍ لم أتنزه، حيث كان ابني يأخذ زوجته وأولاده إلى المصيف ويتركني وحيدةً أتحدث مع جُدران منزلي، فقلتُ له: "إلى أين يا بُنيّ؟"، قال: "إلى البحر"، وبالفعل وضعتُ كل ما هو جميلٌ من ملابسي وأشيائي في حقيبتي، وفي الصباح قال لي: "هيا أسرعي يا أمي"، فقلتُ له: "أنذهب أنا وأنت فقط؟ يا بُنيّ احضر معنا زوجتك وأولادك"، قال لي: "لا، فالنزهة لكِ أنتِ وحدكِ"، وبالفعل استقلينا السيارة، وبعد نصف ساعةٍ توقف، قلتُ له: "أوصلنا بهذه السرعة؟"، قال بحدةٍ: "إنزلي يا أمي"، نزلتُ من السيارة، رأيتُ أمامي لافتةً مكتوباً عليها "دار للمسنين"، تسمرتُ في مكاني، وزادت ضربات قلبي؛ فسحبني عُنوةً رغماً عني وأدخلني إلى هذه الدار، وها أنا الآن أمامك يا سيدتي. بذلك أنهت السيدة حديثها لي.

خلال العشرين عاماً التي قضتها معنا لم يأتِ أحدٌ من أبنائها لزيارتها، إلا إحدى البنتين أتت مرتين أو ثلاثة لرؤية والدتها. وقبل وفاة هذه السيدة اتصلنا بأبنائها وشرحنا لهم حالتها الصحية ورغبتها في رؤيتهم هُم وأحفادها، لكن للأسف لم يأتِ أحدٌ لزيارتها إلا بعد وفاتها؛ أتى أبناؤها الثلاثة معاً لاتخاذ إجراءات إعلام الوراثة!

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا . وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ويقول جلَّ جلاله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.

 

ويقول رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: [ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ؛ دَعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [كلُّ ذنوبٍ يؤخِرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلَّا البَغيَ، وعقوقَ الوالدَينِ، أو قطيعةَ الرَّحمِ، يُعجِلُ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ المَوتِ]. كما يقول: [أَرْبَعٌ حَقٌّ على اللهِ أن لا يُدْخِلَهُم الجنةَ، ولا يُذِيقَهم نَعِيمَها: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وآكِلُ الربا، وآكِلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حَقٍّ، والعاقُّ لوالِدَيْهِ]. ويقول كذلك: [خلقَ اللهُ الخلْقَ، فلما فرغَ منهُ قامت الرَحمُ فأخذتْ بحقْو الرحْمَن "الحقو موضع عقد الإزار وشده وهذا كنايةً عن الالتجاء إلى الله والاستعانة به"، فقال له: مَهْ "مَهْ اسم فعل معناه الزجر أي اكفف"، قالت: هذا مقامُ العائذِ بكَ من القطيعةِ، قال: ألا ترْضيْن أنْ أصلَ مَنْ وَصلكَ، وأقْطعَ مَنْ قَطعكَ، قالتْ: بلى يا ربِ، قال: فَذاك] قال الراوي: اقْرؤوا إنْ شئْتمْ “فهلْ عسيْتمْ إنْ توليْتمْ أنْ تفْسدوا في الأرْض وتُقطعوا أرْحامكمْ".

وحين سُئل المُصطفى صلى الله عليه وسلم عن أي الناس أولى بحُسن المصاحبة قدّم بِر الأُم على بِر الأب؛ فقال: [أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ]. وحين سُئل عليه الصلاة والسلام: هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ شيءٌ أَبَرُّهما به بعد موتِهما؟ قال: [نعم؛ الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عَهدِهما من بعدِهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلَّا بهما، وإكرامُ صديقِهما].

لكل ما سبق فقد اتفق الفُقهاء على أنّ بِرّ الوالدين كليهما -أحياءً وأمواتاً- فرضُ عينٍ على كل مُسلمٍ، وذهب الجُمهور منهم إلى أن للأمّ ثلاثة أضعاف ما للأب من البِر.

 

يقول أهل العلم إنّ عقوق الوالدين من الأمور التي حرّمها الله عزّ وجلَّ، فهي من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى. ولِما للوالدين من حَقٍّ على الولد؛ أوصى الله تعالى عباده ببِرهما وحَثّ على طاعتهما وشُكرهما، وقَرَن الله سُبحانه عبادته بالإحسان إليهما، وحرَّم عقوقهما. وحذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عُقوق الوالدين، وأمر ببِرّهما، وطاعتهما، والإحسان إليهما، وقدّم حق الأُم على حق الأب؛ وأخبرنا بأنّ (الجنَّة تحت رجليها) فهي أحقّ بالبرّ؛ إذ لها فضيلة الحمل والرضاع والتربية، وزيادة الشفقة، وهي أضعف وأعجز.

 

أحبتي.. إن كان منا مَن هو سبّاقٌ في البِر بوالديه فقد عرف طريق الحق وسبيل الرشاد فليلزمه، وليُقدِّم بِر أُمه على بِر أبيه إذ أنّ (الجنَّة تحت رجليها). وإن كان منا مَن هو مقتصدٌ فليزد من مظاهر بِره بوالديه وإحسانه إليهما. وإن كان منا مَن هو مُقصرٌ في حق والديه، أو أحدهما، فهو في خطرٍ عظيمٍ؛ فليُسرع بتدارك أمره قبل فوات الأوان؛ فاليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، فليشترِ نفسه ولا يُوردها المهالك، وليستعن بالله ولا يعجز، ولا يُنصت لوسوسة الشيطان الذي يُزين الهجر واستمرار القطيعة وتعمد الإساءة. ليتغلب على ضعفه وتردده، ويعزم على وصل ما انقطع من صلة الرحم، متوكلاً على الله، خائفاً من سخطه وغضبه وعقابه، راجياً عفوه ورضاه وثوابه.

اللهم ألهمنا الصواب، وخُذ بأيادينا نحو البِر بالوالدين، وخاصةً الأُم، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/4e4qrPq

الجمعة، 24 مايو 2024

إن ربك لبالمرصاد

 

خاطرة الجمعة /448

الجمعة 24 مايو 2024م

(إن ربك لبالمرصاد)

 

يَحكي هذه القصة قاضٍ كان يرأس محكمة الجنايات في إحدى المدن المصرية قبل أكثر من خمسين عاماً، كتب يقول: ما من جريمةٍ تُرتكب إلا يُقابلها قصاصٌ عادلٌ، إن لم يكن من وحي التشريع الوضعي فمن وحي السماء التي لا تُفلت المجرم أبداً. والأصل في هذا مرجعه إلى المبدأ العام الذي يقول: "إن الجزاء من جنس العمل". وقد شَهدتُ قضيةَ قتلٍ تؤكد هذا المعنى؛ كان المجني عليه فيها قروياً بسيطاً غادر داره وقت الغُروب ليودع ضيفاً كان عنده حتى محطة السكة الحديد، وفيما هو عائدٌ إلى منزله بعد أن استقل ضيفه القطار أُطلقت عليه رصاصةٌ استقرت في صدره فسقط على الأرض جثةً هامدةً، ولم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ تُنير السبيل أمام العدالة لمعرفة قاتله. اتهمت أسرة القتيل رجلاً من أهل بلدته كانت بينهما شراكةٌ في بقرةٍ اشترياها معاً واتفقا على أن تبقى عند كلٍ منهما شهراً، يتولى فيه إطعامها واستغلالها، ثم نفقت البقرة أثناء وجودها عند القتيل؛ فطالبه شريكه المُتهم بأن يرد إليه ما دفعه من ثمنها، وبنى مُطالبته هذه على أساس أن هذا الشريك أساء استخدام البقرة حتى نفقت بسبب ذلك، ولكن الشريك القتيل أصر على أنه غير مسئولٍ عن نفوق البقرة عنده، وأبى لذلك أن يدفع له مليماً واحداً من المبلغ الذي طالبه به!

قُبض على المُتهم، وكان رجلاً قد جاوز الخمسين من عمره، ضعيف البصر حتى لا يكاد يُبصر، ولما سُئل في التحقيق أنكر التُهمة المنسوبة إليه؛ واستند في دفاعه عن نفسه إلى أنه لا يُمكن أن يرتكب الجريمة المنسوبة إليه؛ لأن ضعف بصره يجعله غير قادرٍ على رؤية المجني عليه، فضلاً عن تسديد رصاصةٍ قاتلةٍ إليه، كما ذَكر أن الخلاف بينه وبين القتيل على البقرة مضى عليه نحو عامٍ ولو أنه أراد الانتقام منه ما انتظر كل هذه المدة الطويلة. لم تأخذ النيابة بهذا الدفاع؛ وجمعت بعض الأدلة والقرائن ضد المُتهم، ثم قدمته إلى محكمة الجنايات التي كنتُ أرأسها، فلما عُرضت القضية على المحكمة رأت أن تستكمل كل عناصر الدفاع في القضية؛ فانتقلت هيئتها مع المُتهم والطبيب الشرعي إلى مكان الحادث في مثل الوقت الذي وقع فيه كما أثبت التحقيق، وهناك دلت المُعاينة والتجربة على أن المُتهم ضعيف البصر إلى حد أنه لا يستطيع حقاً أن يُميز أي شخصٍ أمامه عند الغروب، فضلاً عن عدم استطاعته تصويب المقذوف الناري إلى صدره؛ وعلى ذلك قضت المحكمة ببراءة المتهم مما نُسب إليه. لم يكد ذلك المُتهم يُغادر السجن بعد أن مكث فيه قرابة ثلاثة أشهرٍ حتى كان القدر له بالمرصاد؛ فلم تمضِ عَشرة أيامٍ على حُكم البراءة الصادر عن المحكمة حتى أصدر القَدر حُكمه العاجل ضده، فانطلقت في وضح النهار رصاصةٌ قاتلةٌ استقرت في صدره وأردته قتيلاً لساعته، ولم يُحاول قاتله الفرار؛ فأطبق الناس عليه وقبضوا عليه مُتلبساً بجريمته! وقف هذا القاتل يروي للمُحقق الأسباب التي دعته إلى قتل القروي ضعيف البصر، فاعترف بأن القتيل كان قد اتفق معه على أن يقتل شريكه المجني عليه في القضية الأولى وذلك نظير ثلاثين جنيهاً، دفع له منها عشرة جنيهاتٍ مُقدماً، ووعد بدفع الباقي بعد قتل ذلك الشريك، وتمت الجريمة، ثم قُبض على مُحرضه رهن التحقيق فانتظر حتى أُفرج عنه، وذهب إليه مُطالباً ببقية أتعابه فأبى أن يدفع له شيئاً منها بحُجة أن الأشهر الثلاثة التي قضاها في السجن قد أبرأت ذمته من المبلغ المطلوب! ومضى القاتل المُتهم في اعترافه الخطير؛ فذكر أنه حاول عبثاً إقناع مُحرضه بإعطائه بقية الأتعاب المُتفق عليها، ثم أعطاه مُهلةً قدرها عَشرة أيامٍ ليُفكر فيها ويُراجع نفسه فإن لم يدفع له بعدها بقية المبلغ كان في حلٍ من أن يسفك دمه، وكان رد الرجل على هذا الإنذار أن رفضه في سخريةٍ وعناد، ثم مضت الأيام العشرة وهو ماضٍ في سخريته وعناده، فلم يسع المُتهم إلا أن قتله في وضح النهار إمعاناً في الانتقام منه! وجيء بالقاتل إلى محكمة الجنايات التي أرأسها، وبسط أمام المحكمة كل شيءٍ، ولم يُنكر شيئاً من اعترافه أمام النيابة، وفي غرفة المُداولة جلسنا نتداول في القضية ونستذكر العبرة السماوية في القضية الأولى والقضية الثانية؛ فقد كانت الدلالة فيهما أن عدالة السماء أقوى من كل شيءٍ، كانت العبرة فيهما أن الشيخ الذي حرّض على القتل واتُهم بالقتل لم يستطع القضاء أن يُدينه لاعتباراتٍ تتصل برعاية العدالة وأسبابها، وهي استحالة ارتكابه الجريمة بالصورة التي قدمته النيابة بها إلى محكمة الجنايات، وقد قدّر الله عزَّ وجلَّ ألا يُفلت القاتل ومُحرضه من العقاب، وقضت محكمة الجنايات بإعدام القاتل في الحادثين شنقاً!

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾، والمعنى كما قال المُفسرون: إن الله سُبحانه وتعالى يرى ويُبصر ويسمع، لا يخفى عليه ولا يفوته شيءٌ في الأرض ولا في السماء، يرصد أعمال الناس ويُراقبها، ويُحصيها عليهم، ليُجازي كلاً بسعيه في الدُنيا والآخرة، فيحكم فيهم بعدله، ويُقابل كلاً بما يستحقه، وهو المُنزه عن الظُلم والجوْر، وهو عزَّ وجلَّ بالمرصاد لمن يعصيه، ولكل مَن طغى واعتدى وتكبّر، يُعاقبه ويؤاخذه، يُمهله قليلاً ثم يُنزل به عقابه الأليم؛ يقول تعالى: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.

إنها سُنة الله في خَلقه فُرادى كانوا أو جماعاتٍ أو أقواماً (إن ربك لبالمرصاد)؛ يقول تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً﴾ أي بسبب ذنوبهم أُغرقوا، ويقول سُبحانه: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

 

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]. إن الظلم مرتعه وخيمٌ، ودعاء المظلومين مُستجابٌ ولو بعد حينٍ؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

(إن ربك لبالمرصاد) يُمهل ولا يهمل، ومن لُطف الله بعبده الظالم أن يُمهله لعله يتوب؛ ويؤخره لعله يُقلع، فإذا ما تمادى في ظُلمه فربما أخَّره ليزداد في الإثم؛ ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مُقتدرٍ؛ فمن يستطيع أن يُفلت من قبضة الله جلَّ وعلا إن أخذه؟

 

يقول أهل العلم إن الظالم قد يغتر بظُلمه سنواتٍ، يظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له، يتمادى الظالم في غيه وجبروته، وينسى أن الله يُمهل ولا يُهمل، كما ينسى الآية الكريمة: (إن ربك لبالمرصاد).

 

أما الشاعر فيقول:

لا تظلمنَ إذا ما كُنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مَرتعهُ يُفضي إلى النَدمِ

تنامُ عَينُكَ والمَظلومُ مُنتبهٌ

يَدعو عَليكَ وعَينُ الله لَمْ تَنمِ

 

أحبتي.. الحذرَ الحذرَ من الظُلم، أياً كان كبيراً أو صغيراً، مع الأغراب أو مع الأقارب؛ فالظُلم وبالٌ على صاحبه، وعلى كل من عاونه فيه وساعده، بل وعلى كل من رضي بظلم الظالم؛ فعاقبتهم كلهم جميعاً سيئةٌ في الدُنيا وفي الآخرة. وإن كان بعضنا قد وقع في الظُلم فليُسرع بتوبةٍ نصوحٍ إلى الله تعالى ويعود إليه. وإن كان بعضنا لم يظلم لكنه وافق الظالمين، ولو بقلبه، فليتذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، فليبادر بالامتناع عن الركون إلى الذين ظلموا حتى لا تمسه النار. وعلينا كلنا جميعاً أن ننتبه دائماً إلى الآية الكريمة (إن ربك لبالمرصاد)، مع حُسن الظن بالله، واليقين بمغفرته ورحمته؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ فمغفرة الله للتائبين توبةً نصوحاً لا يتعاظمها ذنبٌ، ولو كان الشرك بالله، فمن تاب صادقاً، فإن ذنبه مغفورٌ مهما كان ذلك الذنب عظيماً؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

والله نسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا، ويرحمنا؛ فلا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، ولا يُعاملنا بما نحن أهله، وإنما بما هو أهله؛ فهو عزَّ وجلَّ ﴿أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾.

اللهم آتِ قلوبنا تقواها، وزكِّهَا أنت خير من زَكَّاهَا، أنت وَلِيُّهَا ومولاها.

https://bit.ly/4bxPKaI

 

الجمعة، 17 مايو 2024

مفاتيح للخير

 

خاطرة الجمعة /447

الجمعة 17 مايو 2024م

(مفاتيح للخير)

 

في يومٍ من الأيام استُبدِلت مُعلمةٌ جديدةٌ بمُعلمةٍ كانت في نهاية فترة حملها فأخذت إجازة وضعٍ وأتت المعلمة الجديدة مكانها. كانت المُعلمة الجديدة حديثة التخرج من الجامعة، وكانت مُفعمةً بالنشاط والحيوية؛ بدأت في شرح الدرس بكل تفانٍ وحبٍ، وأثناء الحصة سألت أحد الطلاب سؤالاً فنظر إليه زملاؤه بالفصل وبدأوا يضحكون، لدرجةٍ جعلت المعلمة مُتعجبةً وفي حيرةٍ من أمرها بسبب ضحكهم، استنكرت في نفسها هذا الضحك على الطالب بلا سببٍ، لكنها سرعان ما أدركت سر الضحك من خلال نظرتها إلى عيون زملائه؛ فقد فهمت أنهم يعتبرونه الطالب الأكثر غباءً في الفصل. قررت المُعلمة الجديدة أن تُعِيِن هذا الطالب على أمره، وأن تُغيِّر نظرة زملائه إليه؛ فنادت عليه بعد الانتهاء من الدرس بحرصٍ شديدٍ كي لا يُشاهدها طلاب الفصل، وأعطته ورقةً مكتوباً بها بيت شِعرٍ وطلبت منه أن يحفظه عن ظهر قلبٍ وألا يُخبر أحداً بهذا السر!

في اليوم التالي كتبت المُعلمة بيت الشِعر على السُبورة وقامت بشرح معاني كلماته والصور البديعية من بلاغةٍ وصورٍ جماليةٍ، ثُم فجأةً قامت بمسح بيت الشِعر عن السُبورة، وسألت الطلاب: “من منكم قام بحفظ هذا البيت؟!”، وكانت المفاجأة لجميع الطلاب أن الوحيد الذي قام برفع يده هو الطالب الذي يعتبرونه الأكثر غباءً بينهم، رفع يده باستحياءٍ وترددٍ؛ فقالت له المُعلمة: “تفضل، أجب”، أجاب الطالب بتلعثمٍ، وفي الحال أثنت عليه المُعلمة بكلماتٍ عطرةٍ مليئةٍ بالحُب والحنان، وطلبت من طلاب الفصل أن يُصفقوا له، بدأ الطلاب يُصفقون له وهُم في ذُهولٍ وتعجبٍ! ظلت المُعلمة طوال أسبوعين كاملين تفعل مع هذا الطالب نفس حيلة بيت الشِعر، ولكن بطُرقٍ مُبتكرةٍ وأساليب مُختلفةٍ، فتكرر المدح والإطراء من المُعلمة والتصفيق من زملائه! وفي كل يومٍ كانت نظرة الطلاب لهذا الطالب تتغير، وبدأت نفسيته في التحسن والتغير نحو الأفضل، بدأ يثق في نفسه وفي قدراته، ولا يرى نفسه غبياً كما كانت تنعته مُعلمته السابقة على الدوام، بدأ يشعر بمدى قُدرته على أن يتنافس مع زملائه، بل وبات قادراً على التفوق عليهم جميعاً لثقته في نفسه التي اكتسبها بفضل مُعلمته الجديدة، والتي جعلته قادراً على الاجتهاد والمثابرة وخوض كافة المنافسات والاعتماد على نفسه، فصار يدرس طوال الوقت. كانت نفسه تتوق دوماً لسماع كلمة إطراءٍ من مُعلمته، التي أصبح يُكن لها كل الاحترام والتقدير. وفي الاختبارات النهائية نجح الطالب في جميع المواد، والتحق بالمرحلة الثانوية وتفوَّق فيها وصار الأول على دفعته؛ فالتحق بكلية الطب واجتهد فيها فحصل على الماجستير ثم تحدد له يومٌ لمناقشة رسالة الدكتوراه؛ فأرسل بخطابٍ إلى مُعلمته لتحضر مناقشة الرسالة. لم تتذكره المُعلمة حين وصلها خطابه إلى أن ذكر لها قصة بيت الشِعر؛ فتذكرته وسالت الدموع من عينيها، وأخبرته بأنها لم تنسهُ يوماً وأنها كانت على الدوام تسأل عنه وتتقصى أخباره. تمت مناقشة رسالة الدكتوراه، وحاز فيها على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف؛ فذهب يطبع قبلةً على جبين مُعلمته.

 

أحبتي في الله.. قال راوي القصة: علينا أن نعي دوماً أن الناس من حولنا نوعان: إما (مفاتيح للخير) مغاليق للشر، يمنحون من حولهم الأمل والتفاؤل، يشعرون بشعور الآخرين؛ يفرحون لفرحهم ويحزنون لأحزانهم. وإما مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ مُثَّبطون لمن حولهم، يضعون العقبات والعراقيل أمام غيرهم، دائمو الشكوى والتذمر، ويُلقون بأسباب فشلهم على الحظ. أما الذين هُم (مفاتيح للخير) فإن قصصهم تكون مصدر قوةٍ وإلهامٍ؛ لأنهم مثالٌ حيٌ لقدرة الإنسان على تحقيق المستحيل والنجاح؛ فإن وراء كل مُشكلةٍ فرصةً كبيرةً تختبئ يُمكن استثمارها، ومن المحنة تكون المنحة.

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ]. يقول شُرّاح الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الناس إلى قسمين: مفاتيح للخير، ومفاتيح للشر. والمفاتيح في هذا الحديث ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع لبيان كثرة المفاتيح للخير، وللشر كذلك. ومن أهم مفاتيح الخير تعليم العلوم النافعة وبثها في الناس، بإقامة الدروس والمحاضرات والندوات والدورات العلمية المُفيدة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفقٍ وحكمةٍ ولين، وإحياء السُنن، وإقامة المشروعات النافعة؛ كإنشاء مدارس قرآنيةٍ، والسعي في طباعة الكُتب الدينية وتوزيعها، وإصدار المجلات التي تدعو إلى الإصلاح والتوحيد الخالص، وغير ذلك من أوجه البِر والخير. قال أحد التابعين: "قد جعل الله سُبحانه لكل مطلوبٍ مفتاحاً يُفتح به، فجعل مفتاح الصلاة: الطهور، ومفتاح الحج: الإحرام، ومفتاح البِر: الصدق، ومفتاح الجنة: التوحيد، ومفتاح العِلم: حُسن السؤال وحُسن الإصغاء، ومفتاح النصر: الصبر، ومفتاح المزيد: الشُكر، ومفتاح الولاية والمحبة: الذِكر، ومفتاح الفلاح: التقوى، ومفتاح التوفيق: الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة: الدُعاء، ومفتاح الرغبة في الآخرة: الزُهد في الدنيا، ومفتاح الإيمان: التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح الدخول على الله: إسلام القلب وسلامته له والإخلاص له في الحُب والبُغض والفعل والترك، ومفتاح حياة القلب: تدبر القُرآن والتضرع بالأسحار وترك الذنوب، ومفتاح حصول الرحمة: الإحسان في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده، ومفتاح الرزق: السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العِز: طاعة الله ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة: قصر الأمل، ومفتاح كل خيرٍ: الرغبة في الله والدار الآخرة".

 

قال أهل العلم إن فتح أبواب الخير يستلزم إغلاق أبواب الشرور؛ فما فُتح بابٌ للخير إلا وأُغلق مكانه بابٌ من الشر، كما أنه ما أُحييت سنةٌ إلا أُميتت بدعة. وأما ما يُقابل مفاتيح الخير فهي مفاتيح الشر؛ وأعظمها الكُفر والإعراض عن دين الله والصد عن سبيله، ومُحاربة السُنة الشريفة، وإظهار البدع، ومنع المُصلحين من الإصلاح، والوقوف في وجه الدعوة والصد عنها وتنفير الناس منها. وجميع المعاصي مفاتيح الشر، فالخمر: مفتاح كل إثمٍ، والكسل والخُمول: مفتاح الخيبة والحرمان، والكذب: مفتاح النفاق، والحرص والشُح: مفتاح البُخل، والإعراض عن السُنة: مفتاح البدعة، ومفتاح كل شرٍ: حُب الدنيا وطول الأمل. وكل هذه الأبواب مفتوحةٌ، والسُبل إليها كثيرةٌ، وعلى كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إلى الشر والابتداع، والكُفر والنفاق.

 

إنّ هؤلاء الذين هُم (مفاتيح للخير) مغاليق للشر متفائلون دائماً مُستبشرون بقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتَّيسيرِ، والسَّناءِ والرِّفعةِ بالدِّينِ، والتَّمكينِ في البلادِ، والنَّصرِ، فمَن عمِلَ منهُم بعملِ الآخرةِ للدُّنيا، فليسَ لهُ في الآخرةِ مِن نصيبٍ].

 

قال الشاعر:

وصاحِبْ خيارَ الناس تنجو مُسَلَّمَاً

وصاحِبْ شِرار الناس يوماً فتَنْدَمَا

 

أحبتي.. يُقال إن الناس أمام الخير والشر ثلاثةٌ: مَن يبحث عن الشر فإذا وجده فتحه، وإذا وجد خيراً مفتوحاً أغلقه؛ فهذا شريرٌ نعوذ بالله أن نكون مثله، ومنهم مَن يبحث عن الخير فإذا وجده فتحه، وإذا وجد في طريقه شراً حاول أن يُغلقه بكل أمانةٍ؛ فهذا طيبٌ أمينٌ ينبغي أن نقتدي به، ومنهم سلبيٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يسكت عن الشر حتى لو كان قادراً على إغلاقه، ولا يُساهم في الخير حتى لو كان قادراً على ذلك؛ فلا هو يأمر بالمعروف ولا هو ينهى عن المُنكر، وربما كان هذا هو حال الكثير من الناس، فإذا كان أحدنا مثله فليُسارع إلى التخلص من هذه الحالة، ويعزم على أن يكون إيجابياً، وأن يكون ممن هُم (مفاتيح للخير)؛ يُلزم نفسه بكل عملٍ صالحٍ يستطيع عمله، ويدعو إليه أهله وجيرانه وأصدقاءه وزملاءه ومَن يستطيع من الناس. كما أن على كلٍ منا أن يجتهد في أن يكون -هو وكل مَن يُمكنه نُصحهم- مغلاقاً للشر؛ حتى ينال رضى الله؛ فطوبى لمن كان كذلك، وويلٌ لمن كان ضد ذلك. فلنتعاهد على أن نكون جميعاً مفاتيح للخير مغاليق للشر؛ حتى نكون من المُفلحين والسُعداء في الدنيا والآخرة. نسأل الله تعالى أن يُرينا الحق حقّاً ويرزُقنا اتباعه، ويُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

https://bit.ly/4bI4ZxK