الجمعة، 31 مايو 2024

الجنَّة تحت رجليها

 

خاطرة الجمعة /449

الجمعة 31 مايو 2024م

(الجنَّة تحت رجليها)

 

تحكي إحدى عاملات دار المسنين هذه القصة؛ فتقول: توفيت منذ شهرٍ نزيلةٌ بالدار عن عُمرٍ يُناهز الثانية والثمانين عاماً. كانت قد أتت إلى الدار منذ عشرين عاماً، وأتذكر جيداً ذلك اليوم؛ إذ أتى بها ابنها الطبيب وكان وجهها شاحباً، تكاد لا تتحدث إلا بإيماءاتٍ قليلةٍ، وعندما تحدثتُ معها أخذت في البكاء الشديد وقالت: كنتُ أعمل بمهنة التدريس للغة الفرنسية، وتعرفتُ على زميلٍ لي يعمل مدرساً للغة الفرنسية أيضاً، صارحني بإعجابه بي ورغبته في الزواج مني؛ فوافقتُ على الفور لأن أخلاقه وصفاته جيدة، تم الزواج ومرت السنون سريعاً، وأنجبتُ ثلاثة أبناء. لم يكن قد مرّ على زواجي عشر سنواتٍ حتى تُوفي زوجي إثر حادثٍ ليترك لي مسؤولية ثلاثة أبناء مسؤوليةً كاملةً. أكملتُ رسالتي مع أبنائي، ورفضتُ الزواج مرةً أخرى رفضاً قاطعاً مع كل الضغوطات من عائلتي، رغم أن عُمري وقتها لم يتعد الخامسة والثلاثين، ولكن كرستُ كل حياتي لأبنائي، عملتُ بالمدرسة، وبالدروس الخصوصية ليلاً ونهاراً لأُكمل تعليمهم في مدارس دولية، وليظهروا بمظهرٍ جيدٍ أمام المُحيطين بنا، وكذلك أمام زملائهم بالمدرسة وأصدقائهم بالنادي. كان يومي مشغولاً جداً؛ ما بين عملي ومذاكرة أبنائي وتمارين النادي.

مرت الأيام سريعاً؛ ليكبر أطفالي ويتخرجون من كليات القمة، وسافرت أكبر بناتي لاستكمال دراستها بإنجلترا، وتعرفت على زميلٍ لها وتزوجته واستقرت بالغربة. ابنتي الثانية تزوجت بأستاذها بالجامعة، وحصل على عقد عملٍ بدولةٍ عربيةٍ وسافرت معه. أما ابني الدكتور فقد أراد الزواج من طبيبةٍ زميلته، وطلب مني أن يتزوج في منزلي؛ فوافقتُ على الفور، وتم تجديد المنزل من كل شيءٍ لأرى السعادة في عين ابني، فقد تزوج، وإذا بزوجته تُعاملني مُعاملةً غريبةَ الشكل؛ عندما تنفرد بي تُعاملني كأنني خادمةً لها، ولكن أمام ابني تتعامل معي وكأنها هي الخادمة لي. مرت الأيام ورَزق الله عزَّ وجلَّ ابني بأطفالٍ، وضاق المنزل علينا، والظروف لا تسمح بتوفير منزلٍ أوسع؛ لأن زوجته تصرف مبالغ طائلةً على ملابسها ومظهرها، وتقوم كل عامٍ بتغيير سيارتها للموديل الأحدث؛ فلا يتبقى إلا بعض المصاريف. اقترحت زوجة ابني عليه أن يذهب بي إلى دارٍ للعجزة، ولم أعلم بذلك إلا في يومٍ من الأيام قال لي ابني: "أمي، حضِّري حقيبتك؛ فأنا أريد أن أذهب معكِ غداً في نُزهة"، فرِحتُ فرحاً شديداً؛ فأنا من زمنٍ لم أتنزه، حيث كان ابني يأخذ زوجته وأولاده إلى المصيف ويتركني وحيدةً أتحدث مع جُدران منزلي، فقلتُ له: "إلى أين يا بُنيّ؟"، قال: "إلى البحر"، وبالفعل وضعتُ كل ما هو جميلٌ من ملابسي وأشيائي في حقيبتي، وفي الصباح قال لي: "هيا أسرعي يا أمي"، فقلتُ له: "أنذهب أنا وأنت فقط؟ يا بُنيّ احضر معنا زوجتك وأولادك"، قال لي: "لا، فالنزهة لكِ أنتِ وحدكِ"، وبالفعل استقلينا السيارة، وبعد نصف ساعةٍ توقف، قلتُ له: "أوصلنا بهذه السرعة؟"، قال بحدةٍ: "إنزلي يا أمي"، نزلتُ من السيارة، رأيتُ أمامي لافتةً مكتوباً عليها "دار للمسنين"، تسمرتُ في مكاني، وزادت ضربات قلبي؛ فسحبني عُنوةً رغماً عني وأدخلني إلى هذه الدار، وها أنا الآن أمامك يا سيدتي. بذلك أنهت السيدة حديثها لي.

خلال العشرين عاماً التي قضتها معنا لم يأتِ أحدٌ من أبنائها لزيارتها، إلا إحدى البنتين أتت مرتين أو ثلاثة لرؤية والدتها. وقبل وفاة هذه السيدة اتصلنا بأبنائها وشرحنا لهم حالتها الصحية ورغبتها في رؤيتهم هُم وأحفادها، لكن للأسف لم يأتِ أحدٌ لزيارتها إلا بعد وفاتها؛ أتى أبناؤها الثلاثة معاً لاتخاذ إجراءات إعلام الوراثة!

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا . وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ويقول جلَّ جلاله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.

 

ويقول رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: [ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ؛ دَعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [كلُّ ذنوبٍ يؤخِرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلَّا البَغيَ، وعقوقَ الوالدَينِ، أو قطيعةَ الرَّحمِ، يُعجِلُ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ المَوتِ]. كما يقول: [أَرْبَعٌ حَقٌّ على اللهِ أن لا يُدْخِلَهُم الجنةَ، ولا يُذِيقَهم نَعِيمَها: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وآكِلُ الربا، وآكِلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حَقٍّ، والعاقُّ لوالِدَيْهِ]. ويقول كذلك: [خلقَ اللهُ الخلْقَ، فلما فرغَ منهُ قامت الرَحمُ فأخذتْ بحقْو الرحْمَن "الحقو موضع عقد الإزار وشده وهذا كنايةً عن الالتجاء إلى الله والاستعانة به"، فقال له: مَهْ "مَهْ اسم فعل معناه الزجر أي اكفف"، قالت: هذا مقامُ العائذِ بكَ من القطيعةِ، قال: ألا ترْضيْن أنْ أصلَ مَنْ وَصلكَ، وأقْطعَ مَنْ قَطعكَ، قالتْ: بلى يا ربِ، قال: فَذاك] قال الراوي: اقْرؤوا إنْ شئْتمْ “فهلْ عسيْتمْ إنْ توليْتمْ أنْ تفْسدوا في الأرْض وتُقطعوا أرْحامكمْ".

وحين سُئل المُصطفى صلى الله عليه وسلم عن أي الناس أولى بحُسن المصاحبة قدّم بِر الأُم على بِر الأب؛ فقال: [أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ]. وحين سُئل عليه الصلاة والسلام: هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ شيءٌ أَبَرُّهما به بعد موتِهما؟ قال: [نعم؛ الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عَهدِهما من بعدِهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلَّا بهما، وإكرامُ صديقِهما].

لكل ما سبق فقد اتفق الفُقهاء على أنّ بِرّ الوالدين كليهما -أحياءً وأمواتاً- فرضُ عينٍ على كل مُسلمٍ، وذهب الجُمهور منهم إلى أن للأمّ ثلاثة أضعاف ما للأب من البِر.

 

يقول أهل العلم إنّ عقوق الوالدين من الأمور التي حرّمها الله عزّ وجلَّ، فهي من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى. ولِما للوالدين من حَقٍّ على الولد؛ أوصى الله تعالى عباده ببِرهما وحَثّ على طاعتهما وشُكرهما، وقَرَن الله سُبحانه عبادته بالإحسان إليهما، وحرَّم عقوقهما. وحذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عُقوق الوالدين، وأمر ببِرّهما، وطاعتهما، والإحسان إليهما، وقدّم حق الأُم على حق الأب؛ وأخبرنا بأنّ (الجنَّة تحت رجليها) فهي أحقّ بالبرّ؛ إذ لها فضيلة الحمل والرضاع والتربية، وزيادة الشفقة، وهي أضعف وأعجز.

 

أحبتي.. إن كان منا مَن هو سبّاقٌ في البِر بوالديه فقد عرف طريق الحق وسبيل الرشاد فليلزمه، وليُقدِّم بِر أُمه على بِر أبيه إذ أنّ (الجنَّة تحت رجليها). وإن كان منا مَن هو مقتصدٌ فليزد من مظاهر بِره بوالديه وإحسانه إليهما. وإن كان منا مَن هو مُقصرٌ في حق والديه، أو أحدهما، فهو في خطرٍ عظيمٍ؛ فليُسرع بتدارك أمره قبل فوات الأوان؛ فاليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، فليشترِ نفسه ولا يُوردها المهالك، وليستعن بالله ولا يعجز، ولا يُنصت لوسوسة الشيطان الذي يُزين الهجر واستمرار القطيعة وتعمد الإساءة. ليتغلب على ضعفه وتردده، ويعزم على وصل ما انقطع من صلة الرحم، متوكلاً على الله، خائفاً من سخطه وغضبه وعقابه، راجياً عفوه ورضاه وثوابه.

اللهم ألهمنا الصواب، وخُذ بأيادينا نحو البِر بالوالدين، وخاصةً الأُم، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/4e4qrPq

الجمعة، 24 مايو 2024

إن ربك لبالمرصاد

 

خاطرة الجمعة /448

الجمعة 24 مايو 2024م

(إن ربك لبالمرصاد)

 

يَحكي هذه القصة قاضٍ كان يرأس محكمة الجنايات في إحدى المدن المصرية قبل أكثر من خمسين عاماً، كتب يقول: ما من جريمةٍ تُرتكب إلا يُقابلها قصاصٌ عادلٌ، إن لم يكن من وحي التشريع الوضعي فمن وحي السماء التي لا تُفلت المجرم أبداً. والأصل في هذا مرجعه إلى المبدأ العام الذي يقول: "إن الجزاء من جنس العمل". وقد شَهدتُ قضيةَ قتلٍ تؤكد هذا المعنى؛ كان المجني عليه فيها قروياً بسيطاً غادر داره وقت الغُروب ليودع ضيفاً كان عنده حتى محطة السكة الحديد، وفيما هو عائدٌ إلى منزله بعد أن استقل ضيفه القطار أُطلقت عليه رصاصةٌ استقرت في صدره فسقط على الأرض جثةً هامدةً، ولم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ تُنير السبيل أمام العدالة لمعرفة قاتله. اتهمت أسرة القتيل رجلاً من أهل بلدته كانت بينهما شراكةٌ في بقرةٍ اشترياها معاً واتفقا على أن تبقى عند كلٍ منهما شهراً، يتولى فيه إطعامها واستغلالها، ثم نفقت البقرة أثناء وجودها عند القتيل؛ فطالبه شريكه المُتهم بأن يرد إليه ما دفعه من ثمنها، وبنى مُطالبته هذه على أساس أن هذا الشريك أساء استخدام البقرة حتى نفقت بسبب ذلك، ولكن الشريك القتيل أصر على أنه غير مسئولٍ عن نفوق البقرة عنده، وأبى لذلك أن يدفع له مليماً واحداً من المبلغ الذي طالبه به!

قُبض على المُتهم، وكان رجلاً قد جاوز الخمسين من عمره، ضعيف البصر حتى لا يكاد يُبصر، ولما سُئل في التحقيق أنكر التُهمة المنسوبة إليه؛ واستند في دفاعه عن نفسه إلى أنه لا يُمكن أن يرتكب الجريمة المنسوبة إليه؛ لأن ضعف بصره يجعله غير قادرٍ على رؤية المجني عليه، فضلاً عن تسديد رصاصةٍ قاتلةٍ إليه، كما ذَكر أن الخلاف بينه وبين القتيل على البقرة مضى عليه نحو عامٍ ولو أنه أراد الانتقام منه ما انتظر كل هذه المدة الطويلة. لم تأخذ النيابة بهذا الدفاع؛ وجمعت بعض الأدلة والقرائن ضد المُتهم، ثم قدمته إلى محكمة الجنايات التي كنتُ أرأسها، فلما عُرضت القضية على المحكمة رأت أن تستكمل كل عناصر الدفاع في القضية؛ فانتقلت هيئتها مع المُتهم والطبيب الشرعي إلى مكان الحادث في مثل الوقت الذي وقع فيه كما أثبت التحقيق، وهناك دلت المُعاينة والتجربة على أن المُتهم ضعيف البصر إلى حد أنه لا يستطيع حقاً أن يُميز أي شخصٍ أمامه عند الغروب، فضلاً عن عدم استطاعته تصويب المقذوف الناري إلى صدره؛ وعلى ذلك قضت المحكمة ببراءة المتهم مما نُسب إليه. لم يكد ذلك المُتهم يُغادر السجن بعد أن مكث فيه قرابة ثلاثة أشهرٍ حتى كان القدر له بالمرصاد؛ فلم تمضِ عَشرة أيامٍ على حُكم البراءة الصادر عن المحكمة حتى أصدر القَدر حُكمه العاجل ضده، فانطلقت في وضح النهار رصاصةٌ قاتلةٌ استقرت في صدره وأردته قتيلاً لساعته، ولم يُحاول قاتله الفرار؛ فأطبق الناس عليه وقبضوا عليه مُتلبساً بجريمته! وقف هذا القاتل يروي للمُحقق الأسباب التي دعته إلى قتل القروي ضعيف البصر، فاعترف بأن القتيل كان قد اتفق معه على أن يقتل شريكه المجني عليه في القضية الأولى وذلك نظير ثلاثين جنيهاً، دفع له منها عشرة جنيهاتٍ مُقدماً، ووعد بدفع الباقي بعد قتل ذلك الشريك، وتمت الجريمة، ثم قُبض على مُحرضه رهن التحقيق فانتظر حتى أُفرج عنه، وذهب إليه مُطالباً ببقية أتعابه فأبى أن يدفع له شيئاً منها بحُجة أن الأشهر الثلاثة التي قضاها في السجن قد أبرأت ذمته من المبلغ المطلوب! ومضى القاتل المُتهم في اعترافه الخطير؛ فذكر أنه حاول عبثاً إقناع مُحرضه بإعطائه بقية الأتعاب المُتفق عليها، ثم أعطاه مُهلةً قدرها عَشرة أيامٍ ليُفكر فيها ويُراجع نفسه فإن لم يدفع له بعدها بقية المبلغ كان في حلٍ من أن يسفك دمه، وكان رد الرجل على هذا الإنذار أن رفضه في سخريةٍ وعناد، ثم مضت الأيام العشرة وهو ماضٍ في سخريته وعناده، فلم يسع المُتهم إلا أن قتله في وضح النهار إمعاناً في الانتقام منه! وجيء بالقاتل إلى محكمة الجنايات التي أرأسها، وبسط أمام المحكمة كل شيءٍ، ولم يُنكر شيئاً من اعترافه أمام النيابة، وفي غرفة المُداولة جلسنا نتداول في القضية ونستذكر العبرة السماوية في القضية الأولى والقضية الثانية؛ فقد كانت الدلالة فيهما أن عدالة السماء أقوى من كل شيءٍ، كانت العبرة فيهما أن الشيخ الذي حرّض على القتل واتُهم بالقتل لم يستطع القضاء أن يُدينه لاعتباراتٍ تتصل برعاية العدالة وأسبابها، وهي استحالة ارتكابه الجريمة بالصورة التي قدمته النيابة بها إلى محكمة الجنايات، وقد قدّر الله عزَّ وجلَّ ألا يُفلت القاتل ومُحرضه من العقاب، وقضت محكمة الجنايات بإعدام القاتل في الحادثين شنقاً!

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾، والمعنى كما قال المُفسرون: إن الله سُبحانه وتعالى يرى ويُبصر ويسمع، لا يخفى عليه ولا يفوته شيءٌ في الأرض ولا في السماء، يرصد أعمال الناس ويُراقبها، ويُحصيها عليهم، ليُجازي كلاً بسعيه في الدُنيا والآخرة، فيحكم فيهم بعدله، ويُقابل كلاً بما يستحقه، وهو المُنزه عن الظُلم والجوْر، وهو عزَّ وجلَّ بالمرصاد لمن يعصيه، ولكل مَن طغى واعتدى وتكبّر، يُعاقبه ويؤاخذه، يُمهله قليلاً ثم يُنزل به عقابه الأليم؛ يقول تعالى: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.

إنها سُنة الله في خَلقه فُرادى كانوا أو جماعاتٍ أو أقواماً (إن ربك لبالمرصاد)؛ يقول تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً﴾ أي بسبب ذنوبهم أُغرقوا، ويقول سُبحانه: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

 

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]. إن الظلم مرتعه وخيمٌ، ودعاء المظلومين مُستجابٌ ولو بعد حينٍ؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

(إن ربك لبالمرصاد) يُمهل ولا يهمل، ومن لُطف الله بعبده الظالم أن يُمهله لعله يتوب؛ ويؤخره لعله يُقلع، فإذا ما تمادى في ظُلمه فربما أخَّره ليزداد في الإثم؛ ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مُقتدرٍ؛ فمن يستطيع أن يُفلت من قبضة الله جلَّ وعلا إن أخذه؟

 

يقول أهل العلم إن الظالم قد يغتر بظُلمه سنواتٍ، يظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له، يتمادى الظالم في غيه وجبروته، وينسى أن الله يُمهل ولا يُهمل، كما ينسى الآية الكريمة: (إن ربك لبالمرصاد).

 

أما الشاعر فيقول:

لا تظلمنَ إذا ما كُنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مَرتعهُ يُفضي إلى النَدمِ

تنامُ عَينُكَ والمَظلومُ مُنتبهٌ

يَدعو عَليكَ وعَينُ الله لَمْ تَنمِ

 

أحبتي.. الحذرَ الحذرَ من الظُلم، أياً كان كبيراً أو صغيراً، مع الأغراب أو مع الأقارب؛ فالظُلم وبالٌ على صاحبه، وعلى كل من عاونه فيه وساعده، بل وعلى كل من رضي بظلم الظالم؛ فعاقبتهم كلهم جميعاً سيئةٌ في الدُنيا وفي الآخرة. وإن كان بعضنا قد وقع في الظُلم فليُسرع بتوبةٍ نصوحٍ إلى الله تعالى ويعود إليه. وإن كان بعضنا لم يظلم لكنه وافق الظالمين، ولو بقلبه، فليتذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، فليبادر بالامتناع عن الركون إلى الذين ظلموا حتى لا تمسه النار. وعلينا كلنا جميعاً أن ننتبه دائماً إلى الآية الكريمة (إن ربك لبالمرصاد)، مع حُسن الظن بالله، واليقين بمغفرته ورحمته؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ فمغفرة الله للتائبين توبةً نصوحاً لا يتعاظمها ذنبٌ، ولو كان الشرك بالله، فمن تاب صادقاً، فإن ذنبه مغفورٌ مهما كان ذلك الذنب عظيماً؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

والله نسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا، ويرحمنا؛ فلا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، ولا يُعاملنا بما نحن أهله، وإنما بما هو أهله؛ فهو عزَّ وجلَّ ﴿أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾.

اللهم آتِ قلوبنا تقواها، وزكِّهَا أنت خير من زَكَّاهَا، أنت وَلِيُّهَا ومولاها.

https://bit.ly/4bxPKaI

 

الجمعة، 17 مايو 2024

مفاتيح للخير

 

خاطرة الجمعة /447

الجمعة 17 مايو 2024م

(مفاتيح للخير)

 

في يومٍ من الأيام استُبدِلت مُعلمةٌ جديدةٌ بمُعلمةٍ كانت في نهاية فترة حملها فأخذت إجازة وضعٍ وأتت المعلمة الجديدة مكانها. كانت المُعلمة الجديدة حديثة التخرج من الجامعة، وكانت مُفعمةً بالنشاط والحيوية؛ بدأت في شرح الدرس بكل تفانٍ وحبٍ، وأثناء الحصة سألت أحد الطلاب سؤالاً فنظر إليه زملاؤه بالفصل وبدأوا يضحكون، لدرجةٍ جعلت المعلمة مُتعجبةً وفي حيرةٍ من أمرها بسبب ضحكهم، استنكرت في نفسها هذا الضحك على الطالب بلا سببٍ، لكنها سرعان ما أدركت سر الضحك من خلال نظرتها إلى عيون زملائه؛ فقد فهمت أنهم يعتبرونه الطالب الأكثر غباءً في الفصل. قررت المُعلمة الجديدة أن تُعِيِن هذا الطالب على أمره، وأن تُغيِّر نظرة زملائه إليه؛ فنادت عليه بعد الانتهاء من الدرس بحرصٍ شديدٍ كي لا يُشاهدها طلاب الفصل، وأعطته ورقةً مكتوباً بها بيت شِعرٍ وطلبت منه أن يحفظه عن ظهر قلبٍ وألا يُخبر أحداً بهذا السر!

في اليوم التالي كتبت المُعلمة بيت الشِعر على السُبورة وقامت بشرح معاني كلماته والصور البديعية من بلاغةٍ وصورٍ جماليةٍ، ثُم فجأةً قامت بمسح بيت الشِعر عن السُبورة، وسألت الطلاب: “من منكم قام بحفظ هذا البيت؟!”، وكانت المفاجأة لجميع الطلاب أن الوحيد الذي قام برفع يده هو الطالب الذي يعتبرونه الأكثر غباءً بينهم، رفع يده باستحياءٍ وترددٍ؛ فقالت له المُعلمة: “تفضل، أجب”، أجاب الطالب بتلعثمٍ، وفي الحال أثنت عليه المُعلمة بكلماتٍ عطرةٍ مليئةٍ بالحُب والحنان، وطلبت من طلاب الفصل أن يُصفقوا له، بدأ الطلاب يُصفقون له وهُم في ذُهولٍ وتعجبٍ! ظلت المُعلمة طوال أسبوعين كاملين تفعل مع هذا الطالب نفس حيلة بيت الشِعر، ولكن بطُرقٍ مُبتكرةٍ وأساليب مُختلفةٍ، فتكرر المدح والإطراء من المُعلمة والتصفيق من زملائه! وفي كل يومٍ كانت نظرة الطلاب لهذا الطالب تتغير، وبدأت نفسيته في التحسن والتغير نحو الأفضل، بدأ يثق في نفسه وفي قدراته، ولا يرى نفسه غبياً كما كانت تنعته مُعلمته السابقة على الدوام، بدأ يشعر بمدى قُدرته على أن يتنافس مع زملائه، بل وبات قادراً على التفوق عليهم جميعاً لثقته في نفسه التي اكتسبها بفضل مُعلمته الجديدة، والتي جعلته قادراً على الاجتهاد والمثابرة وخوض كافة المنافسات والاعتماد على نفسه، فصار يدرس طوال الوقت. كانت نفسه تتوق دوماً لسماع كلمة إطراءٍ من مُعلمته، التي أصبح يُكن لها كل الاحترام والتقدير. وفي الاختبارات النهائية نجح الطالب في جميع المواد، والتحق بالمرحلة الثانوية وتفوَّق فيها وصار الأول على دفعته؛ فالتحق بكلية الطب واجتهد فيها فحصل على الماجستير ثم تحدد له يومٌ لمناقشة رسالة الدكتوراه؛ فأرسل بخطابٍ إلى مُعلمته لتحضر مناقشة الرسالة. لم تتذكره المُعلمة حين وصلها خطابه إلى أن ذكر لها قصة بيت الشِعر؛ فتذكرته وسالت الدموع من عينيها، وأخبرته بأنها لم تنسهُ يوماً وأنها كانت على الدوام تسأل عنه وتتقصى أخباره. تمت مناقشة رسالة الدكتوراه، وحاز فيها على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف؛ فذهب يطبع قبلةً على جبين مُعلمته.

 

أحبتي في الله.. قال راوي القصة: علينا أن نعي دوماً أن الناس من حولنا نوعان: إما (مفاتيح للخير) مغاليق للشر، يمنحون من حولهم الأمل والتفاؤل، يشعرون بشعور الآخرين؛ يفرحون لفرحهم ويحزنون لأحزانهم. وإما مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ مُثَّبطون لمن حولهم، يضعون العقبات والعراقيل أمام غيرهم، دائمو الشكوى والتذمر، ويُلقون بأسباب فشلهم على الحظ. أما الذين هُم (مفاتيح للخير) فإن قصصهم تكون مصدر قوةٍ وإلهامٍ؛ لأنهم مثالٌ حيٌ لقدرة الإنسان على تحقيق المستحيل والنجاح؛ فإن وراء كل مُشكلةٍ فرصةً كبيرةً تختبئ يُمكن استثمارها، ومن المحنة تكون المنحة.

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ]. يقول شُرّاح الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الناس إلى قسمين: مفاتيح للخير، ومفاتيح للشر. والمفاتيح في هذا الحديث ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع لبيان كثرة المفاتيح للخير، وللشر كذلك. ومن أهم مفاتيح الخير تعليم العلوم النافعة وبثها في الناس، بإقامة الدروس والمحاضرات والندوات والدورات العلمية المُفيدة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفقٍ وحكمةٍ ولين، وإحياء السُنن، وإقامة المشروعات النافعة؛ كإنشاء مدارس قرآنيةٍ، والسعي في طباعة الكُتب الدينية وتوزيعها، وإصدار المجلات التي تدعو إلى الإصلاح والتوحيد الخالص، وغير ذلك من أوجه البِر والخير. قال أحد التابعين: "قد جعل الله سُبحانه لكل مطلوبٍ مفتاحاً يُفتح به، فجعل مفتاح الصلاة: الطهور، ومفتاح الحج: الإحرام، ومفتاح البِر: الصدق، ومفتاح الجنة: التوحيد، ومفتاح العِلم: حُسن السؤال وحُسن الإصغاء، ومفتاح النصر: الصبر، ومفتاح المزيد: الشُكر، ومفتاح الولاية والمحبة: الذِكر، ومفتاح الفلاح: التقوى، ومفتاح التوفيق: الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة: الدُعاء، ومفتاح الرغبة في الآخرة: الزُهد في الدنيا، ومفتاح الإيمان: التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح الدخول على الله: إسلام القلب وسلامته له والإخلاص له في الحُب والبُغض والفعل والترك، ومفتاح حياة القلب: تدبر القُرآن والتضرع بالأسحار وترك الذنوب، ومفتاح حصول الرحمة: الإحسان في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده، ومفتاح الرزق: السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العِز: طاعة الله ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة: قصر الأمل، ومفتاح كل خيرٍ: الرغبة في الله والدار الآخرة".

 

قال أهل العلم إن فتح أبواب الخير يستلزم إغلاق أبواب الشرور؛ فما فُتح بابٌ للخير إلا وأُغلق مكانه بابٌ من الشر، كما أنه ما أُحييت سنةٌ إلا أُميتت بدعة. وأما ما يُقابل مفاتيح الخير فهي مفاتيح الشر؛ وأعظمها الكُفر والإعراض عن دين الله والصد عن سبيله، ومُحاربة السُنة الشريفة، وإظهار البدع، ومنع المُصلحين من الإصلاح، والوقوف في وجه الدعوة والصد عنها وتنفير الناس منها. وجميع المعاصي مفاتيح الشر، فالخمر: مفتاح كل إثمٍ، والكسل والخُمول: مفتاح الخيبة والحرمان، والكذب: مفتاح النفاق، والحرص والشُح: مفتاح البُخل، والإعراض عن السُنة: مفتاح البدعة، ومفتاح كل شرٍ: حُب الدنيا وطول الأمل. وكل هذه الأبواب مفتوحةٌ، والسُبل إليها كثيرةٌ، وعلى كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إلى الشر والابتداع، والكُفر والنفاق.

 

إنّ هؤلاء الذين هُم (مفاتيح للخير) مغاليق للشر متفائلون دائماً مُستبشرون بقول الله سُبحانه وتعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتَّيسيرِ، والسَّناءِ والرِّفعةِ بالدِّينِ، والتَّمكينِ في البلادِ، والنَّصرِ، فمَن عمِلَ منهُم بعملِ الآخرةِ للدُّنيا، فليسَ لهُ في الآخرةِ مِن نصيبٍ].

 

قال الشاعر:

وصاحِبْ خيارَ الناس تنجو مُسَلَّمَاً

وصاحِبْ شِرار الناس يوماً فتَنْدَمَا

 

أحبتي.. يُقال إن الناس أمام الخير والشر ثلاثةٌ: مَن يبحث عن الشر فإذا وجده فتحه، وإذا وجد خيراً مفتوحاً أغلقه؛ فهذا شريرٌ نعوذ بالله أن نكون مثله، ومنهم مَن يبحث عن الخير فإذا وجده فتحه، وإذا وجد في طريقه شراً حاول أن يُغلقه بكل أمانةٍ؛ فهذا طيبٌ أمينٌ ينبغي أن نقتدي به، ومنهم سلبيٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يسكت عن الشر حتى لو كان قادراً على إغلاقه، ولا يُساهم في الخير حتى لو كان قادراً على ذلك؛ فلا هو يأمر بالمعروف ولا هو ينهى عن المُنكر، وربما كان هذا هو حال الكثير من الناس، فإذا كان أحدنا مثله فليُسارع إلى التخلص من هذه الحالة، ويعزم على أن يكون إيجابياً، وأن يكون ممن هُم (مفاتيح للخير)؛ يُلزم نفسه بكل عملٍ صالحٍ يستطيع عمله، ويدعو إليه أهله وجيرانه وأصدقاءه وزملاءه ومَن يستطيع من الناس. كما أن على كلٍ منا أن يجتهد في أن يكون -هو وكل مَن يُمكنه نُصحهم- مغلاقاً للشر؛ حتى ينال رضى الله؛ فطوبى لمن كان كذلك، وويلٌ لمن كان ضد ذلك. فلنتعاهد على أن نكون جميعاً مفاتيح للخير مغاليق للشر؛ حتى نكون من المُفلحين والسُعداء في الدنيا والآخرة. نسأل الله تعالى أن يُرينا الحق حقّاً ويرزُقنا اتباعه، ويُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

https://bit.ly/4bI4ZxK

 

 

الجمعة، 10 مايو 2024

حُب القرآن

 

خاطرة الجمعة /446

الجمعة 10 مايو 2024م

(حُب القرآن)

يقول راوي القصة: ذهبتُ إلى المسجد ذات يومٍ لأصلي العصر، صليتُ خلف الإمام، وعندما انتهت الصلاة ذهبتُ إلى ركنٍ في المسجد لأُردد أذكار المساء.. وضعتُ هاتفي أمامي وأخذتُ أقرأ منه، وقعت عيناي على طفلٍ في عُمر العشر سنواتٍ يدخل من باب المسجد ويتلفت يميناً ويساراً، ثم جاء إليّ وقال بصوتٍ يرتعد: "هل جاء الشيخ؟"، سألته: "أي شيخ؟"، ردّ: "الشيخ الذي يُحفِّظ الأطفال"، لم أكن أعلم أن هناك مُحفِّظاً هنا، فهمستُ له، وأنا أبتسم لأنزع الخوف الذي يسكن وجهه: "لا، لم يأتِ بعد، اجلس بجانبي"، جلس الطفل، وفتح مُصحفه وأخذ يُقلب في صفحاته، فهممتُ أن أسأله "في أي سورةٍ تحفظ یا فتی؟" فقطع ذلك صوته الذي كان يرتعد من الخوف وهو يقول: "یا عمي، هل لك أن تقرأ لي مرةً أو أكثر حتى أحفظ السورة جيداً؟ فوالدي يئس من قلة ترکیزي وضعف حيلتي.. ويشتكي دائماً من ذلك حتى أصبحتُ أستحي أن أطلب منه أن يُحفِّظني القرآن.. وعندما أذهب إلى شيخي وأُخطئ في التلاوة يغضب مني.. وأنا لا أجيد القراءة جيداً؛ فبعض الكلمات تشق عليّ"، ابتسمتُ للطفل وأخذتُ منه المصحف وهمستُ له: "اقترب یا حبيب عمك"، وبدأتُ أُرتل وهو يُرتل خلفي، وبعد ربع ساعةٍ طلبتُ منه أن يُسمِّع ذلك بمفرده فلم يستطع، تذكرتُ شيخي عندما قال لي ذات يومٍ: "إذا وجدتَ صعوبةً في الحفظ فافهم الآيات أولاً ثم حاول الحفظ ثانيةً؛ فحفظ الآيات بمثابة قفلٍ لبابٍ ضخمٍ يفصل بينك وبين الجنة حاول فتح هذا القفل بأي مفتاحٍ على قدر استطاعتك وسيُفتح الباب". نظرتُ إلى الطفل ثانيةً وهو يضغط على إصبعه من الخجل فتبسمتُ وهمستُ له: "دعك من الحفظ یا فتی، هل تعرف ماذا تعني هذه الآيات وماذا يقصد بها الله سُبحانه وتعالى؟".

وأخذتُ أشرح للفتى الآيات حتى انتهيتُ من الشرح ورددتُ السورة مرتين وهو يُردد خلفي، ثم طلبتُ منه أن يقولها بمفرده؛ فقال بعض الآيات، وعندما يشق عليه قول آيةٍ أو لا يتذكرها يبتسم ويقول لي: "هل أُخبرك بمعناها؟"، وبعد عدة محاولاتٍ حفظ الطفل السورة، كحفظه سورة الإخلاص! حضر الشيخ وجاء الأطفال فاستأذن الطفل مني ليذهب إليه، فقلتُ له: "يا فتى هل أُخبرك بشيءٍ تضعه نُصب عينيك؟"، ابتسم وقال: "أجل"، أمسكتُ يده وقبلتها ثم قلتُ: "سيأتي يومٌ يُقال لك: يا فلان هلم.. فتذهب، فتسمع ضجيج حفظة القرآن، ويُطلب منك أن تُرتل، والله وملائكته يستمعون إليك.. ألا تشتاق لتُرتل أمام الله ويقول لك رتِل وارتقِ؟"، ثم ربتُّ على كتفه وهمستُ له بعباراتٍ وددتُ لو قالها أحدٌ لي في صغري: "أنت الآن تُعَدّ وتُجهَز لتُرتل أمام الله عزَّ وجلَّ؛ فلا تمل ولا تكل ولا تيأس ولا تشتكِ من ضعف حيلتك.. ستكبر وتكون حاملاً لكتاب الله، وستكون مُميزاً في الدنيا عندما تكون إماماً للناس.. يرتعد صوتك خشوعاً أثناء تلاوتك.. وستجد نفسك في الآخرة مُميزاً ومُكرّماً أمام السَفرة الكرام البررة، فالله يُكرم أهل القرآن، وما أحب الله أحداً كحُبه لأهل القرآن؛ فالقرآن كلامه.. والله لن يُعذب بالنار لساناً تلا القرآن، ولا قلباً وعاه، ولا أُذناً سمعته، ولا عيناً نظرت إلى آياته.. هنيئاً لك زهرة شبابك التي نشأت في ظل آيات الله"، وقبلتُ رأسه ثم قلتُ له: "الآن اذهب إلى شيخك ورتِل وكأنك تُرتل في ظل عرش الرحمن والله يستمع إليك.. أنا أثق أنك تستطيع". ذهب الطفل إلى شيخه. وكنتُ أراه كل يومٍ وأُحفِّظه في المسجد حتى يأتي شيخه، وبعد شهرين ودعته لأنني انتقلتُ إلى سكنٍ آخر، ولم أره منذ ذلك اليوم، وعلمتُ بعدها أن شيخه أيضاً انتقل ليُحفِّظ في مسجدٍ آخر. وبعد سبع سنواتٍ خرجتُ من عملي وركبتُ السيارة فوقف السائق أمام مسجدٍ لنُصلي المغرب.. دخلتُ المسجد وذهبتُ لأصلي فرأيتُ شاباً وجهه كقطعةٍ من القمر يُردد: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ.. كانت ملامح الشاب ملامح أعرفها جيداً لكنني لا أتذكر أين رأيته.. كان صوته كصوت الكروان، لو كُنا خارج الصلاة لطلبتُ منه أن يُكثِر في التلاوة لأسمعه؛ فتلاوته كانت بمثابة الدواء لقلبي، فاكتفيتُ أن أدعو له في سجودي وقلت: اللهم زِدهُ. انتهت الصلاة وجلستُ لأُردد أذكار ما بعد الصلاة فإذا بالشاب يجلس أمامي ويُقبِّل رأسي ويقول: أشهد لك يوم القيامة أمام الله أنك كنتَ سبباً لما أنا عليه الآن.. فهممتُ أن أقول له مَن أنت یا فتی؟! فقطع ذلك صوته وهو يبتسم من شدة الفرحة ويقول: یا عمي، هل لك أن تقرأ لي مرةً أو أكثر حتى أحفظ السورة جیداً؟ فوالدي يئس من قلة تركيزي وضعف حيلتي.. وابتسم وعيناه تذرفان الدمع، ثم قال: هل تذكرتني الآن! ثم قام واحتضنني، وقال: لقد ختمتُ القرآن وأخذتُ الإجازة والآن أصبحتُ أنا المُحفِّظ.. هنيئاً لك يا عمي تاج الكرامة.. عاملتني بحُبٍ، واحتضنتَ قلبي بلطف قلبك، وجعلتَ القرآن أحب الأشياء إليّ دون أن تشعر بذلك، كنتُ آتي إليك ضعيفاً فتُرمم ضعف حيلتي.. فهنيئاً لك الجنان بأجر ما حفظتُ وأجر مَن أُحفِّظ.. يا عمي.. شكراً لأنك وثقتَ بي عندما أقرَّ الجميع بأنني لا أستطيع".

وقبَّل الشاب رأسي وذهب إلى الأطفال ليُحفّظهم.

 

أحبتي في الله.. لا أدري من كان منهم أكثر حُباً للقرآن الكريم: هذا الفتى الصغير الحريص على حفظ كتاب الله، أم والديه اللذان وجَّهاه إلى ذلك الطريق، أم راوي القصة الذي لم يبخل على الفتى الصغير بجهده ووقته وعِلمه، أم مُحفِّظ الفتى الذي جدَّ واجتهد حتى صار الفتى الصغير بعد سنواتٍ قليلةٍ حافظاً للقرآن الكريم، مُجوِّداً له، مُعلماً ومُحفِّظاً لغيره؟

الذي يبدو لي جلياً من هذه القصة أن من خطا خطوةً واحدةً في سبيل التقرب إلى الله سُبحانه وتعالى يسَّر الله له أمره كله، وجعل كل صعبٍ أمامه سهلاً، وسخّر له من يُعينه ويُساعده، فما بالنا بمن تملك (حُب القرآن) شِغاف قلبه، فوجَّه جوارحه كلها نحو هدفٍ عظيمٍ هو حفظ كتاب الله؛ ألا يكون هو الأولى بكل هذا التيسير الرباني وكل تلك الإعانة الإلهية؟

 

عن (حُب القرآن) قال أهل العلم إن القرآن الكريم كلامُ الله تعالى، أنزله على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم وحياً، نُقِلَ إلينا بالتواتر، وكُتِبَ في المصاحف، وتَعَبَّدَنا اللهُ بتلاوته، وأَعْجَزَ خلقَهُ ولو بسورةٍ منه. ولما كان القرآنُ الكريم كلامَ الله؛ فمحبتُهُ أصلٌ من أصول الإيمان، وسببٌ من أسباب محبة الرحمن، اختار الله سُبحانه وتعالى صفوةَ خلقِهِ ليرثوا القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، ولن يكون ذلك إلا من خلال (حُب القرآن).

في هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من أحبَّ أن يحبَّهُ الله ورسولُهُ فلينظر: فإن كان يحبُّ القرآنَ، فهو يحبُّ اللهَ ورسولَه]. وحَفَظَة كتاب الله هُم الصفوة، وهُم أهل القرآن؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِن النَّاسِ]، قالوا: يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ؟ قال: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ]. وأهل القرآن هُم أصحاب المنازل العالية الرفيعة عند الله، يرتفعون بقدْرِ ما يحفظون، فيكونون مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئكَ رَفِيقاً؛ يقول تعالى في وصف منازلهم وحليهم وزينتهم ومقامهم: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾.

وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ]، وقَالَ عليه الصلاة والسلام: [يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ]؛ فيُحَلَّوْنَ بتاج الوقارِ، ويُكسى آباؤهم الحُلل، ويرتقون في درجات الجنة. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ، فَتَعَلَّمُوا مِن مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ، وَلا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ...]. وعندما سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قال: [الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ]، قِيلَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: [صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ، وَمِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ، كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ]. وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من إهمال المسلم وتقصيره في حفظ شيءٍ من القرآن ليتلوه في صلاته، ويُناجي به مولاه، فقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِن الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ].

 

وعن (حُب القرآن) قال الشاعر:

أَكْرِمْ بقومٍ أَكْرَمُوا القُرآنا

وَهَبُوا لَهُ الأرواحَ والأَبْدَانا

قومٌ قد اختارَ الإلهُ قلوبَهُمْ

لِتَصِيرَ مِنْ غَرْسِ الهُدى بُسْتَانا

زُرِعَتْ حُروفُ النورِ بينَ شِفَاهِهِمْ

فَتَضَوَّعَتْ مِسْكاً يَفِيضُ بَيَانَا

رَفَعُوا كِتابَ اللهِ فوقَ رُؤوسِهِمْ

لِيَكُونَ نُوراً في الظلامِ فَكَانا

وقال آخر:

فالله يسّرَ حفظَ كتابه

وأعدّ للتّالين حُسنَ منالِ

قد فاز مَن جعل الكتابَ قرينه

ودليله أبداً إلى الأفضالِ

 

أحبتي.. ليسأل كل واحدٍ منا نفسه: إلى أي مدى أُحب القرآن؟ هل لي وردٌ يوميٌ منه؟ هل أشتاق إليه فأُقبل عليه بلهفة؟ هل أحرص على إجادة تلاوته؟ هل أقرأ تفسيره؟ هل أعمل على فهمه وتدبر معانيه؟ هل أسعى إلى حفظه؟ هل ألتزم بأحكامه؟ هل أتجنب نواهيه؟ هل آخذ بيد أقرب الناس إليّ: زوجتي وأبنائي، ليكون القرآن الكريم حبيبهم وصاحبهم ورفيقهم؟

إذا كانت الإجابة بنعم عن هذه الأسئلة أو معظمها فأنت في نعمةٍ حافظ عليها وزِد منها، ولو كانت الإجابة العكس؛ فتدارك أمرك، وأصلِح شأنك، لا تندم على ما فاتك، بل اعقد العزم على تصحيح مسارك وتعديل أولوياتك والإحسان إلى نفسك بأن ترعى بذرة (حُب القرآن) التي في نفسك وتتعهدها كي تنمو وتُزهر وتُثمر.. وتأكد بأنك ما زلتَ في سعةٍ من أمرك ما لم تُسوِّف أو تؤجل أو تتكاسل. لا تُعطي للشيطان فرصةً ليُثنيك عن هدفك.. توكل على الله تجده خير مُعين.

اللهم اجعلنا ممن أحب كتابك، واهتم بتلاوته، واجتهد في حفظه، وسعى إلى فهم معانيه وتدبر أحكامه، والعمل بما ورد فيه. اللهم اجعل القرآن الكريم خُلُقنا، وقائدنا ومُرشدنا، ونبراساً يُضيء لنا طريقنا، واجعله اللهم منهج حياتنا في الدنيا، وشفيعاً لنا في الآخرة.

https://bit.ly/4aak7m5

الجمعة، 3 مايو 2024

قسوة القلب

 خاطرة الجمعة /445

الجمعة 3 مايو 2024م

(قسوة القلب)

 

كان شاباً طموحاً، يحمل في قلبه أحلاماً كبيرةً وطموحاتٍ لا حدود لها. كان يعمل بجدٍ واجتهادٍ، يسعى لتحقيق أهدافه وتوفير حياةٍ كريمةٍ لعائلته الصغيرة. لكن القدر كان له رأيٌ آخر؛ إذ بدأت مُعاناته عندما تعرض لحادثٍ مُروعٍ أفقده قدرته على العمل. تحولت حياته من سعادةٍ ونجاحٍ إلى ألمٍ ومُعاناة. فقد وظيفته، وتراكمت عليه الديون، وأصبح عاجزاً عن تلبية احتياجات أسرته. في تلك اللحظات العصيبة، كان يتوقع أن يجد الدعم والمُساندة من أقرب الناس إليه، من أصدقائه وأقاربه، ولكن خاب ظنه؛ تحولت القلوب التي كانت بالأمس مليئةً بالحُب والوِد إلى قلوبٍ قاسيةٍ لا ترى سوى مصلحتها الشخصية. تنصل الجميع من مسؤوليته تجاه هذا الشاب؛ فصار وحيداً في مواجهة قسوة الحياة. حتى زوجته، التي أقسمت على الوقوف بجانبه في السرّاء والضرّاء، لم تتحمل ضغوط الحياة وتخلت عنه؛ تركته وحيداً مع طفليه الصغيرين، يواجهون مصيراً مجهولاً.

لم يستسلم الشاب لليأس؛ فقرر أن يبحث عن الأمل في مكانٍ آخر، حمل أطفاله الصغار، وخرج يطرق أبواب الجمعيات الخيرية، يطلب المُساعدة والعون، لكنه قوبل بالرفض في كل مكان. كانت القلوب التي يلتقي بها قاسيةً كالحجر، لا تعرف الرحمة ولا الشفقة. كانوا ينظرون إليه نظرة ازدراءٍ، ويُغلقون الأبواب في وجهه دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء الاستماع إلى قصته. بات هو وأطفاله في الشوارع، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. كانوا يعانون من الجوع والبرد والخوف، ولم يجدوا من يمد لهم يد العون. ومع مرور الأيام، بدأ الأمل ينطفئ في قلبه؛ كان يشعر بأنه وحيدٌ في هذا العالم، وأن لا أحد يهتم لأمره أو لأمر أطفاله. في أحد الأيام، وأثناء تجواله في الشوارع، التقى بامرأةٍ عجوز، كانت تجلس على الرصيف تبيع المناديل الورقية، رأته وهو يحمل أطفاله الصغار، وشعرت بحالته البائسة، اقتربت منه، وسألته عن قصته، استمعت إليه بإنصاتٍ، وشعرت بتعاطفٍ كبيرٍ معه؛ فقد كانت هي الأخرى قد ذاقت مرارة الحياة وقسوتها. عرضت عليه أن يبيت هو وأطفاله في غرفتها الصغيرة، وشاركتهم ما تملك من طعامٍ قليل. كانت تلك المرأة العجوز، بمثابة بصيص نورٍ في ظلام اليأس الذي كان يُحيط به. كانت تمتلك قلباً رحيماً، على عكس القلوب القاسية التي قابلها في رحلته.

تعلم الشاب من تلك المرأة العجوز دروساً قيمةً في الإنسانية والتضحية. أدرك أن القلوب الرحيمة ما زالت موجودةً، وأن الأمل لا يزال مُمكناً.

وبمُساعدة المرأة العجوز، تمكن الشاب من الوقوف على قدميه من جديدٍ؛ فبدأ يبحث عن عملٍ، ونجح في الحصول على وظيفةٍ مُتواضعةٍ، لكنه لم ينسَ أبداً فضل تلك المرأة عليه؛ فظلّ يزورها ويُقدم لها المساعدة حتى آخر أيامها.

 

أحبتي في الله.. يقول العُلماء إنّ من أعظم العقوبات التي يُبتلى بها العبد (قسوة القلب)؛ فهي تعني ذهاب اللين والرحمة والخُشوع من القلب، والخُلو من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، فإن قاسي القلب لا ينتفع بموعظةٍ، ولا يقبل نصيحةً، ولا يُميز بين الحق والباطل. وصاحب القلب القاسي أبعد ما يكون من الله تعالى، وعن دينه وشرعه وتعاليمه.

وقد ذمّ الله سُبحانه وتعالى (قسوة القلب)، وأخبر أنها مانعٌ عن قبول الحق والعمل به، وأخبرنا أن هذا الداء العُضال ظهر في الأمم السابقة كاليهود وغيرهم؛ فيقول تعالى مخاطباً إياهم وموبخاً: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. ويقول تعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وتوعَّد الله عزَّ وجلَّ أصحاب القلوب القاسية بالعذاب الأليم، وبيَّن أنّ (قسوة القلب) سببٌ للضلال وانغلاق القلب، فلا يخشع ولا يعي ولا يفهم؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾. وخاطب سُبحانه وتعالى المؤمنين بقوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ وفي هذا نهيٌ للمؤمنين عن أن يتشبهوا بأهل الكتاب الذين لمّا طال بهم الزمان قست قلوبهم وملوا الطاعة، فتغيروا وتغيرت أحوالهم، ففسقوا وضلوا. فإذا كان الله قد حذّر الصحابة -وهُم خير القرون وأهل قيام الليل وصيام النهار والجهاد في سبيل الله، والوحي ينزل عليهم ليلاً ونهاراً- فكيف بنا نحن في هذا الزمن الذي تعلَّق فيه الكثير منا بالدُنيا وانتشرت الفتن، وأصبح الواحد منا يعيش غُربة الدِين؟!

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعْمَالِكُمْ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ]. قال شُرّاح الأحاديث: إن القلب إذا صلح استقام حال العبد، وصحّت عبادته، وأثمرت له الرحمة والإحسان إلى الخَلق، وصار يعيش فى سعادةٍ وفرحةٍ تغمره لا تُقدر بثمنٍ، وذاق طعم الأُنس بالله ومحبته، ولذة مناجاته، مما يصرفه عن النظر إلى بهجة الدنيا وزُخرفها والاغترار بها، والركون إليها، وهذه حالةٌ عظيمةٌ يعجز الكلام عن وصفها، ويتفاوت الخَلق في مراتبها، وكلما كان العبد أتقى لله، كان أكثر سعادةً. وإذا قسى القلب وأظلم، فسد حال العبد، وخلت عبادته من الخُشوع، وغلب عليه البُخل والكِبر وسوء الظن، وصار بعيداً عن الله، وأحسّ بالضيق والشدّة والضنك، وافتقرت نفسه ولو ملك الدُنيا بأسرها، وحُرم لذة العبادة ومناجاة الله، وصار عبداً للدُنيا، مفتوناً بها!

 

قال العارفون: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من (قسوة القلب) والبُعد عن الله"، و"إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة"، و"ما جفّت الدّموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذّنوب"، و"مِن علامات (قسوة القلب) عدم الاشتياق إلى القرآن"، و"(قسوة القلب) تأتي من حُبّ الدّنيا"، و"لا يوجد سببٌ يُجفّف القلب ويُقسّيه مثل الغفلة عن ذِكر الله"، و"ما غضب الله على قومٍ إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

 

قال الشاعر:

إذا قسا القلبُ لم تنفعهُ موعظةٌ

كالأرضِ إن سَبِخَت لم ينفَعِ المَطرُ

 

إن (قسوة القلب) قد تكون مع الله عزَّ وجلَّ؛ بالإعراض عن دينه، أو عدم الالتزام بما يأمر به وينهى عنه، أو عدم الإخلاص في العبادة أو الخشوع فيها. كما قد تكون مع خَلْق الله؛ بسوء معاملتهم، والتكبر والتعالي عليهم، والفظاظة معهم، وعدم الحرص على مشاعرهم، وغير ذلك من وجوه غلاظة القلب.

 

أحبتي.. لنتعاهد أن نبتعد عن (قسوة القلب) فنُحسن عبادتنا الله؛ نُخلص له أعمالنا، ونزيد في إيماننا، ونُضاعف من أعمال الخير، ونحرص على خشوعنا، ونُكثر من النوافل التي تُجبر تقصيرنا في أداء فروضنا.. ثم إن علينا أن نحذر من أن يكون منا مَن هو فظٌ في معاملاته مع الناس، غليظ القلب معهم، قاسٍ عليهم، بل على كلٍ منا أن يحرص على مشاعر غيره؛ فيكون رحيماً بهم، ليناً معهم؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾؛ فننعم جميعاً برضا الله سُبحانه وتعالى، ونظفر بسعادة الدارين: الدُنيا والآخرة.

اللهم اجعلنا ممن استجابوا لأوامرك، واتبعوا سُنة نبيك، واكتبنا اللهم من الفائزين المُفلحين.

 

https://bit.ly/3QtoQs1

الجمعة، 26 أبريل 2024

ذِكر الله

 

خاطرة الجمعة /444

الجمعة 26 إبريل 2024م

(ذِكر الله)

 

يقول صاحب القصة: ركبتُ منذ فترةٍ، ذات صباحٍ مبكرٍ، مع سائق سيارة أُجرةٍ صامتٍ لا يتكلم.. سألته قبل الركوب عن وِجهتي، وهل يستطيع إيصالي إليها فأجابني برأسه: نعم، كلمته كعادتي مع كل مَن أرافقهم في طريقي؛ فلا أُحب أن أُضيّع فرصةً لدعوة مسلمٍ ولو رافقته لساعةٍ واحدة.. كلمته في كل شيءٍ...في الدين والدنيا.. في المعاد والمعاش.. والرجل ساكتٌ لا يرد.. فقط ينظر إليّ مبتسماً كأنه يوافقني؛ حتى وقع في نفسي شيءٌ من الضيق؛ إذ وجدتُ نفسي متطفلاً أُكلم شخصاً لا يُكلمني.. وأُمازح رجلاً لا يُمازحني! غير أني كنتُ ألاحظ شفتيه بين الحين والحين تتمتمان بشيءٍ لا أسمعه.. حتى إذا ما وصلتُ لوجهتي وهممتُ بإعطائه أجرته تكلم الرجل -ولأول مرةٍ- فقال: "سامحني يا أخي، ولا تحمل في نفسك شيئاً عليّ؛ فقد ركبتَ معي في الصباح الباكر.. وهذا وقت وِردي من الذِكر.. وقد عاهدتُ الله تعالى ألا أكلم أحداً قبله؛ لذا لا أبدأ في الكلام مع المخلوقين قبل أن أُكلم الخالق وأُناجيه، وقد ركبتَ معي وقت ذِكري، فلا تؤاخذني بما وجدتَ من صمتي!".

شكرتُ الرجل ودعوتُ له بالخير.. وانصرفتُ آسفاً على نفسي.. وأنا الذي أستثقل أذكار الصباح التي ربما لا تستغرق أكثر من سبع دقائق.. وأُحارب نفسي حتى أفتح مصحفي لأقرأ وِردي.. هزني سائق سيارة الأُجرة من مجامع قلبي هزاً.. وعلمني وهو في الشارع ما لم أُعلّمه أنا للناس في محاريب الدرس وفوق المنابر بنفس بهاء المعنى وروعته.

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة عن (ذِكر الله) بقصةٍ أُخرى عن نفس الموضوع؛ بدأت أحداثها في بيتٍ من بيوت الله بإحدى قرى «السعودية». يقول راوي القصة: بعد أن أُدينا فريضةً من فرائض الله قام أحد الدُعاة يُحدّث المصلين عن فضل (ذِكر الله)، لم يزل الشيخ مُتنقلاً بين آيات الكتاب الكريم وأحاديث السُنة المطهرة وأحوال السلف الصالح لترغيب عباد الله في ذِكره سبحانه وتعالى، والناس يُنصتون إليه في لهفةٍ وشوقٍ إلى هذا الذِكر الذي تعطشت له قلوبهم. كان ممن يجلس بين المصلين رجلٌ كبيرٌ في السن، أُميٌ لا يقرأ ولا يكتب، أقبل بوجهه وقلبه على كلام الشيخ، حتى بلغ الشيخ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]، ما إن سمع هذا الحديث حتى حفظه عن ظهر قلبٍ، ووقع في نفسه؛ فبات الشوق إلى (ذِكر الله) يُخالج قلبه. خرج من المسجد وهو يُردد هذه الكلمات المباركات: [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ] ولم يزل كذلك حتى عاد إلى بيته، فنادى في أهله: "إني لكم ناصحٌ أمينٌ، أنتم ها هنا في لهوٍ ولعبٍ وكأنكم لم تسمعوا بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم!"، قالوا: "وما الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟"، فساق لهم حديث النبي، ثم أردف قائلاً: "يا زوجتي ويا أولادي ويا بناتي؛ هيا طهِروا قلوبكم وثقِلوا موازينكم بهاتين الكلمتين: [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ] فاستجاب أهله لندائه ورطَبوا ألسنتهم بذِكر الله.

كان الرجل يخرجُ بعد صلاة العصر فيغشى الناس في أسواقهم ومجالسهم، ويُنادي فيهم: "يا قومي، هل أدلكم على ما ينفعكم؟"، يقولون: "نعم"، فيُخبرهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيستجيب له قومه ويُرطّبون ألسنتهم بذِكر الله.

عاش الرجل مُستمسكاً بهذا الذِّكر، لا يكاد لسانه يفتر عن ترديد تلك الكلمات المباركات. لم يكن يُقابل أحداً إلا أقرأه حديث النبي الكريم، ودعاه إلى (ذِكر الله). لقد امتلأ قلبه بنور هذا الذِّكر، وفاض هذا الحب على لسانه. أراد هذا الرجل لكل من يُقابله أن يشعر باللذة التي شعر هو بها، أراد للناس أن يأنسوا بذِكر الله كما أنس هو، وتطمئن قلوبهم كما اطمئن قلبه. مضتْ بِضْع سنين والرجل على حاله، لا يتغيّر ولا يتبدل، حتى إذا داهمه المرض وأُدخل المُستشفى، وكان المرض قد أنهك جسده؛ فلم يعد يقدر على شيءٍ، غير أن لسانه لم يزل مُتلذذاً بالكلمات المباركات [سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]. كان يدخل عليه الأطباء وفريق التمريض من العرب والعجم فينادي فيهم ويُرغّبهم في الذِّكر الذي اجتمع حبه في قلبه. حتى إذا جاءت لحظاته الأخيرة، والطبيب واقفٌ عند رأسه، وكان نصرانياً من دولةٍ عربيةٍ، فناداه: "يا دكتور"، قال الدكتور: "نعم يا عم"، قال الرجل: "يا دكتور قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ]"، ثم فاضت روحه إلى بارئها؛ عندها ذُهل الطبيب، ورقَّ قلبه، لقد شاهد في حياته العملية حالات احتضارٍ كثيرةٍ غير أن هذا المرة لم تكن كسابقاتها؛ لقد مات الرجل المُسن وهو يتحدث بكل ثقةٍ وثباتٍ وهدوءٍ واطمئنانٍ، لم يتردد الطبيب كثيراً؛ فما هي إلا أيامٌ حتى أخذ قراره الحكيم؛ وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

قال راوي القصة: تأملوا؛ كيف سمع هذا الرجل بحديثٍ واحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعاه وبلّغه إلى كل من رأته عيناه؟! كيف صلُحت حياته بحديثٍ واحد؟! كيف حسُنت خاتمته بحديثٍ واحد؟! فهنيئاً لكل من باتت ألسنتهم رطبةً من (ذِكر الله).

 

يأمرنا الله بذِكره؛ يقول سُبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾. ويُبين لنا أنّ من آثار (ذِكر الله) أنّ الله يذكر مَن يذكره؛ يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، ومن الآثار أيضاً اطمئنان القلب؛ يقول سُبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، ومن الآثار كذلك الفلاح؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، كما أنّ من الآثار المغفرة والأجر العظيم؛ يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾. ويُحذّرنا مما قد يُلهينا عن ذِكره؛ فيقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. ويوضح لنا عاقبة الإعراض عن ذِكره؛ فيقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾، ويُخبرنا بأن نسيان ذِكره هو من عمل الشيطان؛ فيقول سُبحانه: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ والذي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ‌[سبَق المُفرِّدونَ، سبَق المُفرِّدونَ]، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟، قال: [الذَّاكرونَ اللهَ كثيرًا والذَّاكراتُ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم فتَضْرِبوا أعناقَهُم ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟]، قالوا: بلى، قال: [ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى]. وخرج صلى الله عليه وسلم على حلقةٍ من أصحابه، فقال: [ما أَجْلَسَكُمْ؟]، قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ علَى ما هَدَانَا لِلإِسْلَامِ، وَمَنَّ به عَلَيْنَا، قال: [آللَّهِ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟] قالوا: وَاللَّهِ ما أَجْلَسَنَا إلَّا ذَاكَ، قال: [أَمَا إنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فأخْبَرَنِي أنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بكُمُ المَلَائِكَةَ].

 

يقول أهل العلم إنَّ معنى الذِّكر هو الثَّناء على الله وتنزيهه وتمجيده وتقديسه وحمده وتسبيحه وشكره على ما أنعم، وهو سرٌ بين العبد وربِّه، وفيه يستشعر العبد قُربه من الله، ويزيد من روحانيته ورِقَّة قلبه. وشُغل العبد لسانه بذِكر الله خيرٌ له من أن يشغله في الكلام العادي الذي قد يكون من الغيبة والنَّميمة. وللذِكر أنواعٌ عديدةٌ؛ وأفضل الذِكر وأعلاه مرتبةً هو القرآن الكريم؛ فتلاوته وتدبره من أفضل أنواع الذِكر، يكفي أنّ الله وصف القرآن بقوله: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾. ثم ذِكر أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، والثَّناء عليه بها، وتنزيهه عمَّا لا يليق به. ثم ذِكر أوامره ونواهيه وأحكامه. ثم ذِكر آلائه ونعمه وأفضاله على عبيده. ثم الدُّعاء والاستغفار، والذِكر المُطلَق بذِكر الله على كل حالٍ وفي كل وقتٍ، والذِكر المُقيَّد بزمنٍ أو مكانٍ مثل: الذِكر أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، وذِكر الركوب، والذِكر عند دخول المسجد وعند الخروج منه، والذِكر عند دخول المنزل وعند الخروج منه، وغير ذلك من أدعيةٍ وأذكار.

 

أحبتي.. (ذِكر الله) عبادةٌ يسرّها الله سُبحانه وتعالى بلُطفه لجميع خلقه، فكل ما في الكون يذكر الله ويُسبّحه؛ يقول تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾. ومن لُطفه سُبحانه وتعالى أنّ ذِكره لا يُكلف المُسلم ما لا يطيق؛ فهو ليس كالصلاة تستوجب طهارةً للبدن ونظافةً للثوب والمكان واستقبالاً للقبلة، وليس كالزكاة تُكلف مالاً، وليس كالصوم فيه امتناعٌ عن شهوتي البطن والفرج، وليس كالحج يتطلب استطاعةً ماليةً وجسمانية. فليكن لكلٍ منا وِردٌ يوميٌ يذكر الله به. ويا لها من بِشارةٍ وردت في الحديث الشريف؛ فهذا رجلٌ قالَ: يا رسول الله إنَّ شرائع الإِسلام قد كثرتْ عليّ فأخبرني بشيءٍ أتشبث به، فقال عليه الصلاة والسلام: [لا يَزالُ لِسانُك رَطْبًا مِن ذِكْرِ اللهِ]، فهل هناك ما هو أيسر من (ذِكر الله) نتشبث به؟ لكن لنحذر ما هو مُبتدعٌ في الذِكر، ونلتزم بما له مرجعيةٌ شرعيةٌ ودليلٌ من كتاب الله سُبحانه وتعالى وسُنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

اللهم يسّر لنا ذِكرك، واجعلنا من المُفلحين، ولا تجعلنا من الغافلين، وتقبّل منا، واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين.

https://bit.ly/3Jz8Kth

الجمعة، 19 أبريل 2024

الفطرة السليمة

 

خاطرة الجمعة /443

الجمعة 19 إبريل 2024م

(الفطرة السليمة)

 

طفلٌ أمريكيٌ درس الإسلام في سن السادسة، وأشهر إسلامه في سن الثامنة! إنه «ألكساندر فرتز» الذي وُلد لأبوين مسيحيين في عام 1990م، وقررت أمه منذ البداية أن تتركه ليختار دينه بعيداً عن أية تأثيراتٍ عائليةٍ أو اجتماعية؛ فما أن تعلم القراءة والكتابة حتى أحضرت له كُتباً عن كل الأديان السماوية وغير السماوية. وبعد قراءةٍ متفحصةٍ قرّر «ألكساندر» أن يكون مُسلماً. وقد شغف حباً بهذا الدين لدرجة أنه تعلم الصلاة، وتعرف على كثيرٍ من الأحكام الشرعية، وقرأ التاريخ الإسلامي، وتعلم الكثير من الكلمات العربية، وحفظ بعض سور القرآن الكريم، وتعلم الأذان، كل هذا بدون أن يلتقي بمسلمٍ واحد! وبناءً على قراءاته اختار لنفسه اسمه الجديد «محمد عبد الله» تيمناً باسم الرسول الذي أحبه منذ نعومة أظفاره.

استضافته إحدى القنوات الإسلامية وكان بصحبة والدته، وكان مُقدم البرنامج يستعد لإلقاء الأسئلة عليه، لكنه فوجئ به هو الذي يسأله: "كيف يُمكنني أداء الحج والعمرة؟"، "هل الرحلة مُكلفة؟"، "من أين أشتري ملابس الإحرام؟"، "هل بإمكاني شراؤها من هنا أم يبيعونها في «السعودية» فقط؟".

يقول مُقدم البرنامج أجبته عن أسئلته، ثم فوجئتُ به يسألني: "هل أنت حافظٌ للقرآن؟" قالها بالعربية! قلتُ له: "لا"؛ فأحسستُ بخيبة أمله حيث تابع يقول: "ولكنك مسلمٌ وتعرف العربية، أليس كذلك؟". ثم سألني: "هل حججتَ؟"، "هل قمتَ بأداء العمرة؟"، ويبدو أن إجاباتي لم تُرضه. أخذتُ زمام المبادرة وسألته: "ما هي الصعوبات التي تُعاني منها كونك مسلماً في بيئةٍ غير إسلامية؟"، لقد توقعتُ أن يذكر أشياء تتعلق بزملائه أو مدرسيه، أشياء تتعلق بأكله أو شربه، أو بالطاقية البيضاء التي يرتديها، أشياء تتعلق بالغُترة التي يلفها على رأسه على الطريقة اليمنية، أو بوقوفه مؤذناً في الحديقة العامة قبل أن يُصلي، ولكن جوابه كان غير متوقعٍ، وكان هادئاً ممزوجاً بالحسرة؛ قال: "تفوتني بعض الصلوات في بعض الأحيان بسبب عدم معرفتي بالأوقات!". سألته: "ما هو الشيء الذي جذبك للإسلام؟ لماذا اخترتَ الإسلام دون غيره؟"، سكت لحظةً ثم أجاب: "لا أدري، كل ما أعرفه أنني قرأتُ عنه وكلما زادت قراءتي أحببته أكثر". سألته: "هل صمتَ رمضان؟"، ابتسم وقال: "نعم لقد صمتُ رمضان الماضي كاملاً والحمد لله، وهي المرة الأولى التي أصوم فيها، لقد كان صعباً وخاصةً في الأيام الأولى"، ثم أردف: "تحداني والدي بأني لن أستطيع الصوم، لكنه ذُهل عندما فعلتُ ذلك!". سألته: "ما هي أمنيتك؟"، فأجاب بسرعةٍ: "عندي العديد من الأمنيات أولها أتمنى أن أذهب إلى «مكة المكرمة» أحج وأُقبِّل الحجر الأسود"، قلتُ له: "لقد لاحظتُ اهتمامك الكبير بالحج، هل هناك سببٌ لذلك؟"، تدخلت أمه -ولأول مرةٍ- لتقول: "إن صور الكعبة تملأ غرفته، بعض الناس يظن أن ما يمر به الآن هو نوعٌ من الخيال، نوعٌ من المغامرة التي ستنتهي يوماً ما، ولكنهم لا يعرفون أنه ليس جاداً فحسب، بل إن إيمانه عميقٌ لدرجةٍ لا يُحسها الآخرون"، علت الابتسامة وجه «محمد عبد الله» وهو يرى أمه تدافع عنه، ثم أخذ يشرح لها الطواف حول الكعبة، وكيف أن الحج هو مظهرٌ من مظاهر التساوي بين الناس كما خلقهم الله سُبحانه وتعالى بغض النظر عن اللون والجنس والغنى والفقر، ثم استطرد قائلاً: "إنني أحاول جمع ما يتبقى من مصروفي الأسبوعي لكي أتمكن من الذهاب إلى «مكة المكرمة» يوماً ما، لقد سمعتُ أن الرحلة ستكلف قريباً من أربعة آلاف دولار, ولديّ الآن ثلاثمائة دولار"، علقت أمه قائلةً -في محاولةٍ لنفي أي تقصيرٍ من طرفها-: "ليس عندي أي مانعٍ من ذهابه إلى «مكة» ولكن ليس لدينا المال الكافي لإرساله في الوقت الحالي". سألته: "ما هي أمنياتك الأخرى؟"، قال: "أتمنى أن تعود فلسطين للمسلمين؛ فهذه أرضهم وقد اغتصبها الإسرائيليون منهم"، نظرت إليه أمه مستغربةً فأردف موحياً أن هناك نقاشاً سابقاً بينه وبين أمه حول هذا الموضوع: "أمي، أنتِ لم تقرأي التاريخ، إقرائي التاريخ، لقد تم اغتصاب فلسطين". أكملت سؤالي: "وهل لديك أمنياتٌ أخرى؟" قال: "أمنيتي أن أتعلم اللغة العربية وأحفظ القرآن الكريم". سألته: "ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟"، ففوجئتُ برده: "أريد أن أصبح مصوراً لأنقل الصورة الصحيحة عن الإسلام؛ لقد شاهدتُ الكثير من الأفلام التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين، كما شاهدتُ العديد من الأفلام الجيدة عن الإسلام والتي أصدرها أشخاصٌ أعتبرهم مَثلي الأعلى وقد اعتنقوا الإسلام في الستينيات، كما سأقوم بدراسة الإسلام في جامعة «أكسفورد» لقد قرأتُ أن لديهم برنامجاً جيداً في الدراسات الإسلامية، قلتُ له: "هل تود أن تدرس في العالم الإسلامي؟"، فأجاب: "بالتأكيد، خاصةً في الأزهر". انتقلتُ بالحوار إلى ساحةٍ أخرى؛ فسألته: "هل تأكل مع والديك لحم الخنزير؟"، أجاب: "الخنزير حيوانٌ قذرٌ جداً، أنا لا آكله، ولا أعرف كيف يأكله الناس! أهلي يعلمون أني لا آكل لحم الخنزير لذلك لا يُقدمونه لي، وإذا ذهبنا إلى مطعمٍ فإنني أُخبرهم أني لا آكل لحم الخنزير". سألته: "هل تُصلي في المدرسة؟"، قال: "نعم، وقد اكتشفتُ مكاناً سرياً في المكتبة أُصلي فيه كل يوم". وحان وقت صلاة المغرب؛ فنظر إليّ قائلاً: "هل تسمح لي بالأذان؟"، ثم قام وأذّن في الوقت الذي اغرورقت فيه عيناي بالدموع!

 

أحبتي في الله.. إنها (الفطرة السليمة) هي التي دلت هذا الطفل على الإسلام، وهي التي أعانته على الثبات عليه؛ فلم يكن لطفلٍ صغيرٍ في هذا العمر، بعد أن تم إبعاد المؤثرات البيئية والاجتماعية عنه، إلا أن توجهه فطرته السليمة إلى طريق الحق. فهو لم يكن في سنٍ قد اكتمل فيه عُمره العقلي بحيث يكون قادراً على أن يقرأ بتركيزٍ وتفهمٍ ثم يُقارن بحكمةٍ ثم يختار لنفسه ما يراه صواباً، في مجالٍ يعجز فيه من هُم أكبر منه سناً عن المقارنة الصحيحة والاختيار الصائب!

 

وردت الإشارة إلى (الفطرة السليمة) في القرآن الكريم وفي سُنة رسولنا المُصطفى؛ ومن ذلك: يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، قال المفسرون عن معنى هذه الآية: سدِّد وجهك واستمرَّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها وكمّلها لك غاية الكمال، لازِم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها؛ فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وهذا أمرٌ صريحٌ من المولى سُبحانه وتعالى بلزوم هذه الفطرة التي فُطرنا عليها من معرفته وتوحيده بصيغة الحثّ والترغيب.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ؛ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه]، ومعنى الحديث أن كل مولودٍ يولد مُتهيئاً للإسلام إذا لم تدخل عوامل الإفساد في حجبه عن فطرته؛ وقصة هذا الطفل الأمريكي هي مصداقٌ لهذا الحديث النبوي الشريف. وقال عليه الصلاة والسلام: [يقول الله: إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم إذا أصبح أو أمسى أن يقول: [أَصبَحْنا على فِطرةِ الإسلامِ، وكَلِمةِ الإخلاصِ، ودِينِ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]؛ فالله سُبحانه وتعالى فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تُركت الفطرة بلا فسادٍ كان القلب عارفاً بالله، محباً إياه، عابداً له وحده.

 

يقول أهل العلم إنّ كلّ مولودٍ يولد على (الفطرة السليمة) أي على الجبلَّة القابلة لدين الحقِّ؛ فهي الحالة التي فطر الله عليها الإنسان، وخلقه عليها؛ لذلك نجد أن كل مخلوقٍ قد فُطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكيرٍ أو تعليمٍ، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها. والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، أما حين تُلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم مُنيبين، مهما يكونوا من قبل غافلين أو مُكابرين.

 

يقول أحد الدعاة إنه لو ركب البحر إنسانٌ مُلحدٌ، عميقٌ في إلحاده، فصارت الأمواج كالجبال، وأصبحت السفينة تتهاوى بين الأمواج كريشةٍ في مهب الريح، عندئذٍ يلتجئ هذا المُلحد إلى الله عزَّ وجلَّ. وإذا ركب طائرةً وقعت في عدة جيوبٍ هوائيةٍ، وظن أن الطائرة على وشك السقوط دعى الله مخلصاً؛ فالإنسان مؤمنٌ بالفطرة. وهذا شخصٌ نشأ في بيئةٍ تُنكر وجود الله عزَّ وجلَّ إنكاراً كُلياً، وعمل عند شخصٍ يُنكر هو الآخر وجود الله، فعاش مُلحداً يفعل ما يشاء، لم يترك معصيةً إلا وارتكبها؛ فهو يرى أنّ الحياة فرصةٌ لاقتناص الملذَّات. عمل في التجارة فربح مئات الألوف، وتزوج وسافر إلى العديد من الدُول وفعل كل أنواع المعاصي، وفجأةً صودرت بضاعته، وبقي بلا دخلٍ وعليه دَيْنٌ، وصار أصحاب الدَيْن يطالبونه بإلحاحٍ، مرضت زوجته وليس معه ثمن الدواء فضلاً عن ثمن الطعام لأولاده، وضاقت عليه الدُنيا حتى أنه قال: "أصابتني مصائب لو أنها نزلت على جبلٍ لهدَّته، ومع ذلك، فما شعرتُ في أحد الأيام إلا وأنا أدخل إلى المسجد لأُصلي، وكم كانت الراحة التي أحسستُ بها، والسكينة التي غمرتني". لقد أرجعته مصيبته إلى (الفطرة السليمة).

إنسانٌ آخر مُلحدٌ، وله أعمالٌ مُخزيةٌ جداً، وعنده بنتٌ صغيرةٌ في سن الورود مرضت مرضاً شديداً، هذا المرض جعله يُنفق كل ما يملك على علاجها إلى أن قال له أحد الأطباء: "لا يُنتظر أن تعيش هذه الفتاة"؛ فكان يأخذها معه إلى عمله خشية أن تموت في غيابه؛ لشدة تعلقه بها، وهو ما زال يُصر على أنه لا إله! ارتفعت حرارة ابنته ووصلت إلى الأربعين، لم يترك طبيب أطفالٍ إلا وزاره، ولم يترك دواءً إلا واستعمله، وهذه الحرارة لا تنخفض أبداً. وفي أوج الشدة التي يُعانيها قام فاغتسل واستعد للصلاة، وسأل زوجته: "ماذا تقرئين في الصلاة؟"، إنه لا يعرف الفاتحة! تقول زوجته: "بقي واقفاً نصف ساعةٍ يبكي ويقول: "يا رب؛ إما أن تأخذها أو أن تأخذني أو أن تُشفيها". ضيّق الله عليه حتى عاد إلى (الفطرة السليمة)، وما أن سلّم من صلاته حتى رأى حرارة ابنته قد انخفضت، وبدأت تتعافى برحمة الله.

 

يقول أهل الاختصاص إن التدين أصيلٌ في النفس الإنسانية، قديمٌ قِدَم البشرية؛ فما من جماعةٍ إنسانيةٍ عاشت على هذه الأرض إلا وكان لها دينٌ ومعبودٌ تتجه إليه بالعبادة والتقديس. وإن الناظر في تاريخ الحضارات في العالم عبر العصور كالحضارة الفرعونية واليونانية والرومانية وحضارة بابل وآشور وغيرها لَيَجِد التدين مَلْمَحاً بارزاً من ملامح هذه الحضارات. إن الفطرة هي المُحرك الأساسي الذي دفع الإنسان عبر العصور للبحث عن خالقه ورازقه؛ فالتدين هو مظهرٌ من مظاهر هذه الفطرة التي ولَّدَت في الإنسان دائماً الشعور بالقوة العليا التي خلقته وخلقت العالم كله، ولا زالت تُدبر شئونه، فتعلق الإنسان بها لكي تدفع عنه عوادي الزمن وتجلب له الخير في الحياة. وما حدث للإنسان من ابتعادٍ عن الله تعالى أو إشراكٍ به فهو انحرافٌ في الطريق، وخطأٌ في الأسباب، راجعٌ إلى عوامل كثيرةٍ؛ ولذلك مَنَّ الله تعالى على الناس بإرسال الرُسل لتوجيههم إلى الطريق المستقيم.

 

ومن (الفطرة السليمة) بعد عبادة الله سبحانه وتعالى، حب العدل والإنصاف، والصدق والبِر، والإحسان والوفاء بالعهد، والنصيحة للخَلق، والرحمة بالمساكين، ونُصرة المظلوم، ومواساة أهل الحاجة والفاقة، وأداء الأمانات، ومقابلة الإحسان بالإحسان، والعفو والصفح، والصبر، والبذل، والحلم، والسكينة والوقار، والرأفة والرفق، والتؤدة، وحُسن الأخلاق، وجميل المعاشرة، وستر العورات، وإقالة العثرات، والإيثار، وإغاثة الملهوف، وتفريج الكربات، والتعاون، والشجاعة والسماحة، والبصيرة والثبات، والعزيمة، والقوة في الحق، واللين لأهله، والإصلاح بين الناس، وتنزيل الناس منازلهم، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وبالإجمال تقودنا (الفطرة السليمة) إلى كل ما هو صحيحٌ وجميلٌ ومفيدٌ ونافع، تقودنا إلى كل خيرٍ وبِرٍ، وتُبعدنا عن كل سوءٍ وشر.

 

أحبتي.. النفوس السليمة مجبولةٌ ومفطورةٌ على محبة الله وتعظيمه، وعبادته، والإنسان تقوده (الفطرة السليمة) إلى أن يؤمن بأنّ له خالقاً عظيماً، عليه أن يعرفه في الرخاء، وهو غنيٌ معافىً وفي أوج صحته وقوته، لا أن يعرفه فقط في حالات الشدة؛ فليُصحح كلٌ منا بوصلته، ويُعدِّل مساره، ويُصوَّب اتجاهه، إن كُنا قد ابتعدنا عن طريق الله فلنعد فوراً إلى فطرتنا التي خلقنا الله عليها، عباداً صالحين، مؤمنين بالله، مُخلصين له، قانتين خاشعين؛ ولْنَدَع (الفطرة السليمة) تقودنا إلى طريق الإيمان، طريق الحق والخير، فنهنأ بسعادة الدارين: الدُنيا والآخرة.

نسأل الله لأنفسنا ولغيرنا الهداية والتوفيق والسداد.

https://bit.ly/445fzfy

الجمعة، 12 أبريل 2024

متعة العطاء

 

خاطرة الجمعة /442

الجمعة 12 إبريل 2024م

(متعة العطاء)

 

يُحكى أن تلميذاً كان يسير مع أستاذه ومُعلمه بين الحقول والمزارع، وأثناء سيرهما معاً وجدا حذاءً قديماً، فظنا أن هذا الحذاء لابد أن يكون لعاملٍ ممن يعملون في أحد الحقول القريبة، تركه لحين الانتهاء من عمله، فقال التلميذ لمعلمه: "ما رأيك أن نقوم بإخفاء هذا الحذاء عن صاحبه، ثم نختبئ خلف الأشجار وننتظر عودة صاحبه حتى نرى دهشته وحيرته عندما لا يجد حذاءه؛ على سبيل المزاح، وإدخال السعادة على أنفسنا؟"، قال المُعلم لتلميذه: "يا بُني؛ لا تبني سعادتك على حساب ألم غيرك وحزنه، في حين أنه يمكنك أن تجلب لنفسك السعادة، وفى نفس الوقت تُدخل البهجة والسرور على نفس هذا الفقير أيضاً"، قال التلميذ مُتلهفاً: "وكيف أجلب السعادة لنفسي وله في نفس الوقت يا سيدي؟"، قال المُعلم الفاضل: "السعادة تكون بالعطاء لا بالأخذ يا بُني، وأنت ميسور الحال والحمد لله، بإمكانك أن تُعطي هذا الفقير ما استطعتَ من المال، تضعه في حذائه بدلاً من أخذه وإخفائه، ونختبئ خلف الأشجار لنشاهد تأثير ذلك عليه". اقتنع التلميذ باقتراح مُعلمه وقام بوضع مبلغٍ من المال داخل حذاء العامل ثم اختبأ هو ومعلمه خلف الأشجار، وبعد قليلٍ جاء عاملٌ فقيرٌ يرتدي ملابس رثةً ليأخذ حذاءه، تفاجأ العامل عندما حاول ارتداء الحذاء إذ وجد بداخله نقوداً، أخذ العامل الفقير النقود، وخرَّ على رُكبتيه ساجداً شاكراً لله تعالى على عطيته، وهو يبكي من شدة الفرح رافعاً يديه إلى السماء، يُخاطب ربه قائلاً: "أعلم أنك رحيمٌ، وأنك سبحانك على كل شيءٍ قديرٌ، علمتَ أني لا أملك ما أشتري به طعام أبنائي الجياع، ودواء زوجتي المريضة، فأعطيتني ورزقتني من حيث لا أحتسب؛ فلك الحمد والشكر يا رب العالمين". شاهد التلميذ ومعلمه ما حدث، بكى التلميذ من شدة التأثر بفرحة الفقير بالعطاء، حينذاك قال له مُعلمه الفاضل: "علمتَ الآن يا بُني أن سعادتك بالعطاء كانت أكبر وأكثر فائدةً من سعادتك بالأخذ! إنك بالعطاء جلبتَ السعادة للفقير، كما ذُقتَ (متعة العطاء) ولذته؛ فقد أطعمتَ أبناءه الجياع، وساهمتَ فى علاج زوجته المريضة، ولك أجرٌ عظيمٌ عند الله سبحانه وتعالى".

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة عن (متعة العطاء) بقصةٍ أخرى عن نفس الموضوع؛ ففي لقاءٍ تلفزيونيٍ سأل المذيع ضيفه الملياردير: "ما أكثر شيءٍ أسعدك في الحياة؟"، فقال الرجل: "مررتُ بأربع مراحل للسعادة حتى عرفتُ السعادة الحقيقية؛ الأولى: اقتناء الأشياء. الثانية: اختيار الأغلى والأنفس من الأشياء والاحتفاظ بها. والثالثة: كانت امتلاك المشاريع الضخمة؛ كشراء الفرق الرياضية والمنتجعات السياحية بأكملها، كنتُ أظن أن اقتناء الأشياء -خاصةً الغالي والنفيس والضخم منها- يُحقق لي السعادة، لكني لم أجد السعادة التي كنتُ أتخيلها بل وجدتُ أن تأثير كل ذلك كان وقتياً سريع الزوال. أما المرحلة الرابعة: فكانت حين طلب مني صديقٌ لي أن أُساهم بشراء مجموعةٍ من الكراسي المتحركة لعددٍ من الأطفال لديهم إعاقةٌ حركيةٌ؛ فقمتُ فوراً بالتبرع بالمبلغ اللازم لشراء تلك الكراسي، لكن صديقي أصر -دون رغبةٍ مني- أن أذهب معه وأُقدم هديتي بنفسي للأطفال، ذهبتُ معه، وقدمتُ الهدية بنفسي، ورأيتُ الفرحة الكبيرة التي تعلو وجوه الأطفال وهم يتسلمون كراسيهم، وكيف صاروا يتحركون في كل الاتجاهات بواسطة تلك الكراسي البسيطة، وهم يضحكون كأنهم في مدينة ملاهٍ، إلا أن ما أدخل السعادة الحقيقية إلى نفسي هو إمساك أحد الأطفال برجلي وأنا أهُم بالمغادرة، حاولتُ أن أُحرر رجلي من يده برفقٍ لكنه ظل مُمسكاً بها بينما عيناه تركزان بشدةٍ على وجهي، انحنيتُ لأسأله: "هل تريد شيئاً آخر مني قبل أن أذهب يا بُني؟"، فكان رده الذي غيّر حياتي كلها؛ وعرفتُ بعدها معنى السعادة الحقيقية، قال: "أريد أن أتذكر ملامح وجهك حتى أتعرف عليك عندما ألقاك يوم القيامة أمام الله فأشكرك مرةً أخرى!".

 

وليس ببعيدٍ عن (متعة العطاء) ما قام به ذات يومٍ رجلٌ خرج مسافراً، محاولاً اللحاق بأحد القطارات، وكان القطار قد بدأ بالتحرك قبل أن يصعد إليه؛ انطلق الرجل مُسرعاً ليلحق بالقطار؛ فسقطت منه إحدى فردتي حذائه أثناء ركوبه، فخلع فردة حذائه الأخرى من قدمه، وأسرع برميها بجوار الفردة الأولى التي وقعت منه على سكة القطار، فتعجب مَن معه وسألوه عن سبب رميه لفردة الحذاء الأخرى بدلاً من نزوله لجلب الفردة الأولى؟ فأجابهم: "لقد رميتها لأني أحببتُ للفقير الذي يجدها أن يسعد بالعثور على الفردتين معاً؛ لأن فردةً واحدةً معي لن تنفعني، وفردةً واحدةً معه لن تنفعه. كان الرجل سعيداً بعطائه كاملاً حتى ينتفع به الفقير؛ فرغم احتياج هذا الرجل للحذاء إلا أنه فضّل (متعة العطاء).

 

عن العطاء يقول اللهُ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.

وحثاً على العطاء يقول تبارك وتعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، ويقول تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا].

 

أما أهل العلم فيقولون إن العطاء صفةٌ أخلاقيةٌ ساميةٌ وحميدةٌ، كما أنه عبادةٌ؛ حيث تقديم العطايا والصدقات والمساعدات للمحتاجين والفقراء من أركان الإسلام وفروضه، كما أن العطاء يحمي الإنسان من أنانيته، ويجعله يشعر بالآخرين ويُكسبه قدرةً على التفاعل والتعايش مع الناس والإحساس بهم، كما أنه يمنح صاحبه الشعور بالرضا الذاتي الذي هو بدوره نعمةٌ كبيرةٌ من الله سبحانه وتعالى. وحتى يكون العطاء خالصاً لوجه الله، لا ينتظر المعطي رؤية الذُل والانكسار في عين مَن يُعطيه، ولا حتى ينتظر منه رد الجميل أو الشكر والثناء. و(متعة العطاء) مستمرةٌ وباقيةٌ؛ فأصحاب اليد العليا، الذين اعتادوا على العطاء بلا مقابل وفى الخفاء دون رياءٍ، سعداء في الدنيا، كما أن لهم أجراً عظيماً في الآخرة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]، والصدقة عطاءٌ للمحتاج، والعلم النافع عطاءٌ للجاهل، والولد الصالح عطاءٌ للمجتمع كله.

ليس العطاء عطاء مالٍ فقط؛ فإطعام الجائع عطاء، وكساء العاري عطاء، وكفالة اليتيم عطاء، ومساعدة الأرملة عطاء، والكلمة الطيبة عطاءٌ، والتبسم في وجه الناس عطاء، وإماطة الأذى عن الطريق عطاء، وعيادة المريض عطاء، وقضاء حاجات الناس عطاء، وتعليم الناس أمور دينهم ودنياهم عطاء، والعطف على الضُعفاء عطاء، وتقديم النصيحة بحكمةٍ لمن يحتاجها في وقتها عطاء، وغير ذلك كثير.

 

قال الشاعر في وصف المُعطي الكريم:

تَراهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلِلًا

كأنكَ تُعْطيهِ الذي أنتَ سائِلهْ

وَذي نَسَبٍ نَاءٍ بَعيدٍ وَصَلْتَهُ بِمالٍ

وَما يَدْري بِأنّكَ واصِلُهْ

وقال آخر:

ليس يعطيك للرجاء ولا الخَوفِ

ولكنْ يلذّ طعم العطاءِ

وقال ثالثٌ:

ليس الكريمُ الذي يُعطي عطيتَهُ

على الثناءِ وإن أغلى به الثمنا

بل الكريمُ الذي يُعطي عطيتَه

لغير شيءٍ سوى استحسانه الحسنا

 

أحبتي.. من المؤكد -كما يرى الخبراء- أننا لا نستطيع أن نحصل على السعادة إلا إذا أعطيناها لغيرنا، والشخص الذي يمنح السعادة بسخاءٍ يبقى لديه مخزونٌ كبيرٌ منها؛ فهي تتضاعف عندما يمنحها، ويُشاطرها الآخرين من دون أن ينقص منها شيء؛ فالسعادة تزدهر بالعطاء، ومن أراد أن يَسعد عليه أن يُسعد الآخرين، يكفي ذلك الشعور الذي يغمر المعطي عندما يُدرك أنه قد أسهم في عملٍ من أعمال الخير، وأنه ليس في حاجةٍ إلى شيءٍ في المقابل ولا حتى إلى كلمة شكر. يقول تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، فأروا الله من أنفسكم خيراً، بالسخاء في عطاء ما تستطيعون عطاءه، إلى كل من يحتاج العطاء، لا ترجون إلا وجه الله سبحانه وتعالى، وعلّموا أبناءكم العطاء من صغرهم، وعوّدوهم أن يكون عطاؤهم من مالهم الخاص؛ فيشبوا ويكبروا على ما تعودوا عليه.

اللهم قِنا شُح أنفسنا، ويسّر لنا سُبل العطاء بجميع صوره، ولا تحرمنا (متعة العطاء) ولذته في الدنيا، وأجزل لنا ثوابه في الآخرة، إنك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/4d5z0ZQ