خاطرة الجمعة /449
الجمعة 31 مايو 2024م
(الجنَّة تحت رجليها)
تحكي إحدى عاملات دار المسنين هذه القصة؛ فتقول: توفيت منذ شهرٍ نزيلةٌ
بالدار عن عُمرٍ يُناهز الثانية والثمانين عاماً. كانت قد أتت إلى الدار منذ عشرين
عاماً، وأتذكر جيداً ذلك اليوم؛ إذ أتى بها ابنها الطبيب وكان وجهها شاحباً، تكاد
لا تتحدث إلا بإيماءاتٍ قليلةٍ، وعندما تحدثتُ معها أخذت في البكاء الشديد وقالت:
كنتُ أعمل بمهنة التدريس للغة الفرنسية، وتعرفتُ على زميلٍ لي يعمل مدرساً للغة
الفرنسية أيضاً، صارحني بإعجابه بي ورغبته في الزواج مني؛ فوافقتُ على الفور لأن
أخلاقه وصفاته جيدة، تم الزواج ومرت السنون سريعاً، وأنجبتُ ثلاثة أبناء. لم يكن
قد مرّ على زواجي عشر سنواتٍ حتى تُوفي زوجي إثر حادثٍ ليترك لي مسؤولية ثلاثة
أبناء مسؤوليةً كاملةً. أكملتُ رسالتي مع أبنائي، ورفضتُ الزواج مرةً أخرى رفضاً
قاطعاً مع كل الضغوطات من عائلتي، رغم أن عُمري وقتها لم يتعد الخامسة والثلاثين،
ولكن كرستُ كل حياتي لأبنائي، عملتُ بالمدرسة، وبالدروس الخصوصية ليلاً ونهاراً
لأُكمل تعليمهم في مدارس دولية، وليظهروا بمظهرٍ جيدٍ أمام المُحيطين بنا، وكذلك
أمام زملائهم بالمدرسة وأصدقائهم بالنادي. كان يومي مشغولاً جداً؛ ما بين عملي
ومذاكرة أبنائي وتمارين النادي.
مرت الأيام سريعاً؛ ليكبر أطفالي ويتخرجون من كليات القمة، وسافرت أكبر
بناتي لاستكمال دراستها بإنجلترا، وتعرفت على زميلٍ لها وتزوجته واستقرت بالغربة.
ابنتي الثانية تزوجت بأستاذها بالجامعة، وحصل على عقد عملٍ بدولةٍ عربيةٍ وسافرت
معه. أما ابني الدكتور فقد أراد الزواج من طبيبةٍ زميلته، وطلب مني أن يتزوج في
منزلي؛ فوافقتُ على الفور، وتم تجديد المنزل من كل شيءٍ لأرى السعادة في عين ابني،
فقد تزوج، وإذا بزوجته تُعاملني مُعاملةً غريبةَ الشكل؛ عندما تنفرد بي تُعاملني
كأنني خادمةً لها، ولكن أمام ابني تتعامل معي وكأنها هي الخادمة لي. مرت الأيام
ورَزق الله عزَّ وجلَّ ابني بأطفالٍ، وضاق المنزل علينا، والظروف لا تسمح بتوفير
منزلٍ أوسع؛ لأن زوجته تصرف مبالغ طائلةً على ملابسها ومظهرها، وتقوم كل عامٍ
بتغيير سيارتها للموديل الأحدث؛ فلا يتبقى إلا بعض المصاريف. اقترحت زوجة ابني
عليه أن يذهب بي إلى دارٍ للعجزة، ولم أعلم بذلك إلا في يومٍ من الأيام قال لي
ابني: "أمي، حضِّري حقيبتك؛ فأنا أريد أن أذهب معكِ غداً في نُزهة"،
فرِحتُ فرحاً شديداً؛ فأنا من زمنٍ لم أتنزه، حيث كان ابني يأخذ زوجته وأولاده إلى
المصيف ويتركني وحيدةً أتحدث مع جُدران منزلي، فقلتُ له: "إلى أين يا
بُنيّ؟"، قال: "إلى البحر"، وبالفعل وضعتُ كل ما هو جميلٌ من
ملابسي وأشيائي في حقيبتي، وفي الصباح قال لي: "هيا أسرعي يا أمي"،
فقلتُ له: "أنذهب أنا وأنت فقط؟ يا بُنيّ احضر معنا زوجتك وأولادك"، قال
لي: "لا، فالنزهة لكِ أنتِ وحدكِ"، وبالفعل استقلينا السيارة، وبعد نصف
ساعةٍ توقف، قلتُ له: "أوصلنا بهذه السرعة؟"، قال بحدةٍ: "إنزلي يا
أمي"، نزلتُ من السيارة، رأيتُ أمامي لافتةً مكتوباً عليها "دار
للمسنين"، تسمرتُ في مكاني، وزادت ضربات قلبي؛ فسحبني عُنوةً رغماً عني
وأدخلني إلى هذه الدار، وها أنا الآن أمامك يا سيدتي. بذلك أنهت السيدة حديثها لي.
خلال العشرين عاماً التي قضتها معنا لم يأتِ أحدٌ من أبنائها لزيارتها، إلا
إحدى البنتين أتت مرتين أو ثلاثة لرؤية والدتها. وقبل وفاة هذه السيدة اتصلنا
بأبنائها وشرحنا لهم حالتها الصحية ورغبتها في رؤيتهم هُم وأحفادها، لكن للأسف لم
يأتِ أحدٌ لزيارتها إلا بعد وفاتها؛ أتى أبناؤها الثلاثة معاً لاتخاذ إجراءات
إعلام الوراثة!
أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ
وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو
كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا .
وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما
رَبَّياني صَغيرًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
إِحْسَانًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ويقول جلَّ جلاله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا﴾.
ويقول رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: [ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا
شَكَّ فيهِنَّ؛ دَعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ].
ويقول عليه الصلاة والسلام: [كلُّ ذنوبٍ يؤخِرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ
القيامةِ إلَّا البَغيَ، وعقوقَ الوالدَينِ، أو قطيعةَ الرَّحمِ، يُعجِلُ لصاحبِها
في الدُّنيا قبلَ المَوتِ]. كما يقول: [أَرْبَعٌ حَقٌّ على اللهِ أن لا
يُدْخِلَهُم الجنةَ، ولا يُذِيقَهم نَعِيمَها: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وآكِلُ الربا،
وآكِلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حَقٍّ، والعاقُّ لوالِدَيْهِ]. ويقول كذلك: [خلقَ اللهُ
الخلْقَ، فلما فرغَ منهُ قامت الرَحمُ فأخذتْ بحقْو الرحْمَن "الحقو موضع عقد
الإزار وشده وهذا كنايةً عن الالتجاء إلى الله والاستعانة به"، فقال له: مَهْ
"مَهْ اسم فعل معناه الزجر أي اكفف"، قالت: هذا مقامُ العائذِ بكَ من
القطيعةِ، قال: ألا ترْضيْن أنْ أصلَ مَنْ وَصلكَ، وأقْطعَ مَنْ قَطعكَ، قالتْ:
بلى يا ربِ، قال: فَذاك] قال الراوي: اقْرؤوا إنْ شئْتمْ “فهلْ عسيْتمْ إنْ
توليْتمْ أنْ تفْسدوا في الأرْض وتُقطعوا أرْحامكمْ".
وحين سُئل المُصطفى صلى الله عليه وسلم عن أي الناس أولى بحُسن المصاحبة
قدّم بِر الأُم على بِر الأب؛ فقال: [أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ
أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
[ثُمَّ أَبُوكَ]. وحين سُئل عليه الصلاة والسلام: هل بَقِيَ مِن بِرِّ أَبَويَّ
شيءٌ أَبَرُّهما به بعد موتِهما؟ قال: [نعم؛ الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما،
وإنفاذُ عَهدِهما من بعدِهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلَّا بهما،
وإكرامُ صديقِهما].
لكل ما سبق فقد اتفق الفُقهاء على أنّ بِرّ الوالدين كليهما -أحياءً
وأمواتاً- فرضُ عينٍ على كل مُسلمٍ، وذهب الجُمهور منهم إلى أن للأمّ ثلاثة أضعاف
ما للأب من البِر.
يقول أهل العلم إنّ عقوق الوالدين من الأمور التي حرّمها الله عزّ وجلَّ،
فهي من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى. ولِما للوالدين من حَقٍّ على الولد؛
أوصى الله تعالى عباده ببِرهما وحَثّ على طاعتهما وشُكرهما، وقَرَن الله سُبحانه
عبادته بالإحسان إليهما، وحرَّم عقوقهما. وحذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من
عُقوق الوالدين، وأمر ببِرّهما، وطاعتهما، والإحسان إليهما، وقدّم حق الأُم على حق
الأب؛ وأخبرنا بأنّ (الجنَّة تحت رجليها) فهي أحقّ بالبرّ؛ إذ لها فضيلة الحمل
والرضاع والتربية، وزيادة الشفقة، وهي أضعف وأعجز.
أحبتي.. إن كان منا مَن هو سبّاقٌ في البِر بوالديه فقد عرف طريق الحق
وسبيل الرشاد فليلزمه، وليُقدِّم بِر أُمه على بِر أبيه إذ أنّ (الجنَّة تحت
رجليها). وإن كان منا مَن هو مقتصدٌ فليزد من مظاهر بِره بوالديه وإحسانه إليهما.
وإن كان منا مَن هو مُقصرٌ في حق والديه، أو أحدهما، فهو في خطرٍ عظيمٍ؛ فليُسرع
بتدارك أمره قبل فوات الأوان؛ فاليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، فليشترِ
نفسه ولا يُوردها المهالك، وليستعن بالله ولا يعجز، ولا يُنصت لوسوسة الشيطان الذي
يُزين الهجر واستمرار القطيعة وتعمد الإساءة. ليتغلب على ضعفه وتردده، ويعزم على
وصل ما انقطع من صلة الرحم، متوكلاً على الله، خائفاً من سخطه وغضبه وعقابه،
راجياً عفوه ورضاه وثوابه.
اللهم ألهمنا الصواب، وخُذ بأيادينا نحو البِر بالوالدين، وخاصةً الأُم،
على الوجه الذي يُرضيك عنا.
https://bit.ly/4e4qrPq