الجمعة، 1 مايو 2020

البراعة والإحسان

الجمعة 1 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٧

(البراعة والإحسان)

 

تحت عنوان «كلمة راس في طائرة» كتب يحكي عن موقفٍ أدهشه:

بعد أن استويتُ على مِقعدي بدرجة رجال الأعمال في الطائرة، وفي انتظار الإقلاع من جدة إلى الدمام، هزَّ كتفي أحد المسافرين، وقال لي بصوتٍ خفيضٍ: "أريدك في كلمة راس"، أي: أريد أن أتحدث معك على انفراد، توقعتُ لأول وهلةٍ أنه يريد نقوداً؛ كَوْن "كلمة راس" ارتبطت في مخيلتي بالسَلَف والدَّيْن. فقلتُ لنفسي: "يا الله، وصل المتسولون إلى الطائرات! ألم تكفهم الأموال الطائلة التي يمتصونها منا ونحن نقف في إشارات المرور؟"، قاطع أفكاري وأنا أمخر عُباب خيالي قائلاً: "عذراً أزعجتك، ولكن لا أريد أن تسمع أمي ما أريد أن أقوله لك الآن؛ لذلك أخذتك جانباً". قلتُ له: "مَن أمك؟ وما علاقتي بها؟". أجابني: "هي مَن تجلس بجوارك، لا تجيد اللغة الإنجليزية، والمضيفات لا يُجدن العربية؛ فهي تحتاج إلى مساعدتك في الترجمة لها إذا تقاطعت معهن. لا أود أن تعرف أمي أنني طلبتُ منك هذا الشيء، فتشعر بأنها ناقصةٌ؛ أنا أريدها أن تشعر بأنها الأفضل، أفضل منا جميعاً"، قلتُ له: "أبشر؛ لم تطلب شيئاً، أنت وأمك فوق رأسي، لكن لِمَ لَمْ تجلس بجوارها، ألم تجد مقعداً معها في نفس الدرجة؟"، رد عليّ: "لا، إمكاناتي محدودةٌ؛ فلا أستطيع أن أشتري تذكرتين في درجة رجال الأعمال، بوسعي بمشقةٍ أن أشتري واحدةً وهي لأمي. لا يمكن أن أسمح لأمي أن تركب الدرجة السياحية". عرضتُ عليه مِقعدي ليجلس فيه، فرَّد وابتسامةٌ كبيرةٌ تملأ وجهه: "أنا أكثر سعادةً عندما تكون أمي في درجة رجال الأعمال وأنا في الدرجة السياحية؛ أشعر أنها أعلى وأرقى مني". ودَّعني وعاد إلى مقعده، وتوقعتُ أن ألتقيه مع نهاية الرحلة، بَيْدَ أنه فاجأني بزياراتٍ مباغتةٍ كل عشر دقائق، يُقَبِّل رأس أمه ويقول لها: "توصين علىّ شيء؟ تأمريني بشيء؟"، وأحياناً ينادي المضيفة ويسألها أن تجلب شاياً أو ماءً إلى أمه. لم يَغب طويلاً عن أمه وعني، كان حاضراً بجوارنا طوال الرحلة! بعد أن هبطت الطائرة في مطار الملك فهد الدولي بالدمام عانقني بحرارةٍ كأنه يعرفني منذ عشرين سنة، وشكرني بشدةٍ، وقبل أن يودعني قلتُ له: "أنا مَن يستحق أن أشكرك؛ تعلمتُ منك درساً جديداً في البر بالوالدين، دُمتَ عالياً".

شعرتُ أمام هذا الشاب بأني ضئيلٌ جداً ومقصرٌ جداً؛ إنه مثالٌ لشبابٍ كثيرين حولنا يبرعون في البر بوالديهما، يتفننون في التعبير عن حبهم لهما، ويتقنون هذا التعبير. جعلنا الله مثلهم.

 

أحبتي في الله .. شدني إلى هذه القصة مدى بِر هذا الشاب بأمه. واستوقفني هذا التعبير الجميل «يبرعون في البِر بوالديهما»؛ فاستخدام كلمة «يبرعون» جاء مدهشاً؛ فهو في محله تماماً!

تأملتُ في هذه الكلمة، وسألتُ نفسي هل وردت كلمة «بَرَع» أو مشتقاتها في القرآن الكريم؟ بحثتُ فلم أجد لها أي استخدام على أي وجهٍ من الوجوه، لكني انتبهتُ إلى أن هناك كلمةً أخرى تفيد نفس المعنى وتزيد؛ هي كلمة الإحسان؛ يقول الله سبحانه وتعالى آمراً المسلمين: ﴿وَأَحسِنوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنينَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى﴾، ويقول تعالى واعداً المحسنين: ﴿هَل جَزاءُ الإِحسانِ إِلَّا الإِحسانُ﴾، ويقول مُبشراً المحسنين بالهداية وبمعيته: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهل أحسن من معية الله جزاءً؟ ويَعِد المحسنين بنعيم الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى: ﴿لِلَّذينَ أَحسَنوا في هذِهِ الدُّنيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وَلَنِعمَ دارُ المُتَّقينَ﴾، ويوضح أن جزاء المحسنين الحسنى؛ يقول تعالى: ﴿وَيَجزِيَ الَّذينَ أَحسَنوا بِالحُسنَى﴾، ويبشرهم بأكثر من ذلك؛ يقول تعالى: ﴿لِلَّذينَ أَحسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرهَقُ وُجوهَهُم قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصحابُ الجَنَّةِ هُم فيها خالِدونَ﴾. كما ورد الحث على الإحسان في مواضعَ أخرى كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾.

 

وأمرنا رسولنا الكريم بالإحسان في كل شيءٍ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: [إنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسانَ على كلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ولْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرحْ ذَبيحَتَهُ]، ومُعرفاً الإحسان؛ قال -عليه الصلاة والسلام-:[الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ]، يقول العلماء إن هذا الحديث يُبين أن مرتبة الإحسان ومنزلة المُحسن على درجتين؛ الأولى عبادة رجاء، وهي الأعلى والأفضل، والثانية عبادة خوف. كما أن في الحديث إشارةً إلى أن مَن شقَّ عليه أن يعبد الله كأنه يراه، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه، فيستحي من نظره إليه.

ويقولون إن الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو لغةً: ضد الإساءة؛ فهو إجادة العمل وإتقانه والإخلاص فيه. تقول أحسنتُ العمل إذا أتقنته، وأحسنتُ إلى فلانٍ إذا أوصلتَ إليه نفعاً، وهذا هو الإحسان إلى عباد الله؛ ويكون واجباً، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام. أو مستحباً، مثل الإحسان إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين. وأهل الإحسان هم الصفوة الخُلَص من عباد الله المؤمنين، ولهذا ورد الثناء عليهم كثيراً في القرآن الكريم وفي السُنة النبوية الشريفة.

 

ومن أعظم أبواب (البراعة والإحسان) في عمل الخير وأكثرها ثواباً؛ الصدقات الجارية كبناء المساجد، ووقف الأموال لمساعدة طلبة العلم، وإنشاء مكتباتٍ إسلاميةٍ لخدمة العلم والعلماء، وبناء المستشفيات، وبناء دور إيواءٍ للعجزة والأرامل والمساكين، وبناء المدارس، وتشييد دورٍ لتحفيظ القرآن الكريم، وبناء عماراتٍ تُؤَجَّر ويخرج ريعها ‏للفقراء والمساكين، وغرس الأشجار المعمرة، وحفر آبار المياه، وغيرها، فهي صدقاتٌ جاريةٌ يعود ثوابها على كل مَن قام بها -منفرداً أو شارك وساهم فيها- في حياته، وتستمر فيما تجلبه لصاحبها من ثوابٍ بعد مماته، إلى أجلٍ لا يعلمه إلا الله.

 

يقول أهل العلم إن من أنبل المقاصد وأسمى الغايات التي يسعى الإنسان إليها هي فعل الخير، والمسارعة إليه، وبهذا تسمو إنسانيته ويتشبّه بالملائكة، ويتحلّى بأخلاق الأنبياء والصادقين، ولذلك فقد أوصى الإسلام المسلمين بأن يفعلوا الخير مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم، فقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. فما بالنا بمن يبرع في عمل الخير ويُحسنه ويتفنن في أدائه؟

 

ويقول الشاعر:

ﺍﻟﻨـﺎﺱُ ﻟﻠﻨـﺎﺱِ ﻣﺎ ﺩﺍﻡَ ﺍﻟﻓـﺎﺀُ ﺑـﻬ

ﻭﺍﻟﻌﺴرُ ﻭﺍﻟﻴﺴرُ ﺃﻭﻗــﺎﺕٌ ﻭﺳـﺎﻋـﺎﺕُ

ﻭﺃﻛﻡُ ﺍﻟﻨـﺎﺱِ ﻣـﺎ ﺑﻴ ﺍﻟﺭﻯ ﺭﺟـﻞٌ

ﺗُﻘﻀﻰٰ ﻋﻠﻰ ﻳـدهِ ﻟﻠﻨـﺎﺱِ ﺣﺎﺟـﺎﺕُ

ﻻ ﺗﻘﻌنَ ﻳـدَ ﺍﻟﻤﻌـﻭﻑِ ﻋ ﺃﺣـدٍ

ﻣـﺎ ﺩُﻣـتَ ﺗـﻘـﺭُ ﻭﺍﻷﻳـــﺎﻡُ ﺗــﺎﺭﺍﺕُ

ﻭﺍﺫﻛر ﻓﻀﻴﻠﺔَ ﺻـﻨﻊِ ﺍﻟﻠﻪِ ﺇﺫ ﺟﻌﻠ

ﺇﻟﻴـكَ ﻻ ﻟكَ ﻋﻨدَ ﺍﻟﻨـﺎﺱِ ﺣﺎﺟــﺎﺕُ

ﻣﺎﺕَ ﻗﻡٌ ﻭﻣﺎ ﻣﺎﺗ ﻓﻀـﺎﺋﻠُﻬ

ﻭﻋﺎﺵَ ﻗﻡٌ ﻭﻫُ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱِ ﺃﻣﺍﺕُ

 

أحبتي .. نرى مِن الناس مَن يبرع في مجالٍ ما من مجالات الدنيا؛ كالرياضة، أو الكتابة، أو الهندسة، أو التدريس، أو الطب، وفي غيرها من المجالات فنقول سبحان الله، هذه موهبةٌ ونعمةٌ اختص بها المولى عزَّ وجلَّ بعض عباده. أما (البراعة والإحسان) في أعمال الخير والبر فهي متاحةٌ -بفضل الله ونعمته- لجميع خلقه؛ يقول تعالى: ﴿وَفي ذلِكَ فَليَتَنافَسِ المُتَنافِسونَ﴾.

فلنكُن بارعين ومحسنين فيما يُرضي الله -سبحانه وتعالى- ليس فقط في أعمال الخير والبر، ولكن في ممارسة العبادات كذلك: لنكُن بارعين ومحسنين في صلاتنا؛ حضوراً واطمئناناً وخشوعاً والتزاماً بالجماعة ومحافظةً على السنن الرواتب وغير الرواتب وقيام الليل. ولنكُن بارعين ومحسنين في صومنا؛ إيماناً واحتساباً وحفظاً للجوارح من الحرام نُطقاً ومشاهدةً وسمعاً. ولنكُن بارعين ومحسنين في تعاملنا مع أقرب الناس إلينا؛ والدينا وأزواجنا وأبنائنا وإخواننا وأخواتنا وذوي أرحامنا وجيراننا، صلةً ورحمةً ومودةً ومحبةً واحتراماً. ولنكُن بارعين ومحسنين في معاملاتنا مع جميع الناس؛ إعانةً وإيثاراً وأمانةً ونُصحاً وصدقاً. وكلما برعنا وأحسنا في ذلك كله كلما زادنا الله من نعيمه، ورضيَ عنا.

وفقنا الله إلى (البراعة والإحسان) في كل عملٍ نقوم به قاصدين به وجهه الكريم سبحانه، راجين رضاه.

 

https://bit.ly/2StFaLE


الجمعة، 24 أبريل 2020

بناء الإنسان

الجمعة 24 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٦

(بناء الإنسان)

 

نشر الكاتب البرازيلي الشهير "باولو كويلو" قصةً قصيرةً يقول فيها:

كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، ولكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته؛ وحين تعب الأب من ابنه قام بقطع ورقةٍ من الصحيفة -كانت تحتوي على خريطة العالم- ومزقها إلى قطعٍ صغيرةٍ وقدمها لابنه وطلب منه إعادة تجميع الخريطة، ثم عاد لقراءة صحيفته ظاناً أن الطفل سيبقى مشغولاً بقية اليوم، إلا أنه لم تمر خمسة عشر دقيقة حتى عاد الابن إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة!

فتساءل الأب مذهولاً: "هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟!"، رد الطفل قائلاً: "لا، لكن كانت هناك صورةٌ لإنسانٍ على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدتُ (بناء الإنسان)، أعدتُ بناء العالم"!

كانت عبارةً عفويةً؛ ولكنها كانت جميلةً وذات معنىً عميق!

 

أحبتي في الله .. عندما قرأتُ هذه القصة القصيرة تساءلت بيني وبين نفسي: "هل نستطيع بالفعل إعادة (بناء الإنسان) لنعيد بناء العالم؟ ولماذا؟ وكيف؟".

في محاولتي للإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة، وجدتُ نفسي وقد عدتُ إلى الوراء كثيراً، أمتطي آلة الزمن أقودها إلى الماضي؛ علَّه يكون ملهماً لي وأنا أستشرف المستقبل، وفي ذهني المقولة الشهيرة "لا مستقبل لمن لا ماضي له".

 

وجدتُ في العودة إلى الماضي إجابةً واضحةً عن السؤال الأول، هل نستطيع؟ نعم نستطيع، فقد استطعنا ذلك من قبل، حين التزم المسلمون الأوائل منهج الإسلام في (بناء الإنسان) تسيدنا العالم لأكثر من ثمانية قرونٍ متتالية، توسعت خلالها الدولة الإسلامية شرقاً وغرباً، وقدمت للبشرية حضارةً مشرقةً وصفها أحد المفكرين الإسلاميين -رحمه الله- حين التفت إليه أحد المشاركين في مجلسٍ وخاطبه مستهزئاً وقال: "أفهم من كلامك أنك تريد تطبيق أحكام الشريعة والعودة بنا إلى الوراء"، فكان مما رد به مفكرنا: "هل تقصد إلى الوراء عندما كنا كمسلمين نحكم نصف الكرة الأرضية؟ عندما كان ملوك أوروبا محميين من الدولة الإسلامية ويحكمون بتفويضٍ من حكامها؟ أم تقصد إلى الوراء زمن حكم المماليك الذين أنقذوا العالم من المغول والتتار؟ أم إلى الوراء عندما حكم العباسيون نصف الأرض؟ أم إلى الوراء أيام الأمويين؟ أم قبلهم زمن سيدنا عمر -رضي الله عنه- الذي حكم أكثر الكرة الأرضية؟ أم إلى زمن عبد الرحمن الداخل الذي طوّق جيشه إيطاليا وفرنسا؟ أم تقصد عندما كان علماء العرب مثل ابن سينا والفارابي وابن جبير والخوارزمي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، يُعلِّمون العالم العربي والغربي الطب والصيدلة والهندسة والفلك؟! أم تقصد عندما عبث يهوديٌ بعباءة امرأةٍ مسلمةٍ فصاحت «وامعتصماه»، فجرّد المعتصم جيشاً وطرد اليهود من أرض الدولة الإسلامية؟! أم عندما أنشأ المسلمون أول جامعةٍ تعرفها أوروبا في إسبانيا؟! أنتظر أن توضح لي قصدك، وتخبرني كم تريد أن نرجع إلى الوَراء؟!".

 

أما السؤال الثاني، وهو لماذا نعيد (بناء الإنسان)؟ فالإجابة عنه هي أن الإسلام دينٌ أكمله الله لنا، وأتمم به نعمته علينا، وارتضاه لنا ديناً؛ فهو دينٌ للبشرية جمعاء وليس للعرب فقط دون غيرهم من الناس. لقد أرسل الله كل نبيٍ إلى قومه خاصةً إلا رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء- أرسله ربه إلى الناس جميعاً؛ يقول تعالى: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشيرًا وَنَذيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا رَحمَةً لِلعالَمينَ﴾.

والمتتبع لعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ في القرآن الكريم يجد أنها تكررت في عشرين موضعاً، في مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُمُ الرَّسولُ بِالحَقِّ مِن رَبِّكُم فَآمِنوا خَيرًا لَكُم﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [... وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً].

وعلى ذلك يكون (بناء الإنسان) الهدف منه هو تبليغ رسالة المولى عزَّ وجلَّ إلى البشرية جمعاء؛ يقول تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ﴾، يقول العلماء: ولما لم يكن هناك بعد رسول الله رسول، وجب على أمته حمل دعوته من بعده والقيام بتبليغها للخلق أجمعين، وكان لابد لهذه الأمة أن تقوم بهذه المهمة ـ ضرورةً لا اختياراً ـ وأن يكون منها مَن يقوم بهذا الواجب كفرض كفاية، وإلا أثم المسلمون جميعهم وحوسبوا على التقصير في أداء الواجب المنوط بهم كأمةٍ ختم الله بها الأمم؛ ومن ثَمَّ كان واجباً على كل مسلمٍ -بقدر طاقته- أن يتحمل من هذا الواجب ما يقدر عليه؛ كما أمرنا الله بقوله تعالى: ﴿وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾، وكما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً].

خلاصة القول -كما يقول أحد العلماء- إنه في زماننا هذا كل مكلفٍ من المسلمين مطالبٌ بهذا الواجب، وليس هذا التبليغ مقصوراً على العلماء، بل كل مسلمٍ مطالبٌ أن يُبَلِّغ ما فهمه وعلمه، وأما العلماء فهم يختصون ـ مع دعوتهم العامة ـ بالقيام بواجب التبليغ التفصيلي والأحكام الشرعية والمعاني التي يحتاج إليها عامة المسلمين؛ نظراً لسعة علمهم ومعرفتهم بالتفاصيل؛ يقول تعالى: ﴿فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾. فالدعوة إلى دين الله ضرورةٌ شرعيةٌ لا يمكن النهوض بأعبائها بغير (بناء الإنسان) المسلم الواعي؛ المساير لمعارف عصره، المتمكن من التقنيات الحديثة، المتقن للغات أهل الأرض جميعاً، القادر على نقل وشرح وتوضيح رسالة الإسلام إلى كل البشر في أقاصي الأرض وأركانها الأربعة بروح العصر.

 

أما السؤال الثالث؛ كيف يكون (بناء الإنسان)؟ فالإجابة عنه أنّ من السهل تحقيق هذا الهدف عندما نُغَيِّر نظرتنا إلى أطفالنا، ونغير طريقة تربيتنا لهم، ونعود إلى تاريخنا الإسلامي لنستلهم منه كيف كانت الأمهات يقمن بتربية أطفالهن؛ فهذه أم الإمام مالك، العالية بنت شريك بن عبد الرحمن الأسدية، دفعت ابنها لحفظ القرآن الكريم فحفظه، وأرسلته إلى مجالس العلماء، وكانت تختار له ما يأخذه عن العلماء؛ فتقول له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، فأصبح الإمام مالك جبلاً من جبال العلم وعالم المدينة النبوية ومفتيها، وأحد أكابر علماء الأمة الإسلامية. وهذه أم الإمام الشافعي، مات زوجها، فنشأ الشافعي يتيماً، وكانت أمه ذات حِذقٍ وذكاءٍ وتفقُّهٍ في الدين، ارتحلت به حين بلغ عامين من عمره من غزَّة إلى مكة، حيث العلم والفضل، وحيث البادية حولها، والتي فيها يُقَوَّم لسان الغلام وتصح لغته، فأصبح الإمام العلامة الفقيه والشاعر الفصيح ومن أئمة الإسلام، هو ثمرة جهود تلك المرأة الفاضلة. وهذه أم الإمام أحمد بن حنبل، صفية بنت عبد الملك الشيبانية، مات أبوه وهو طفلٌ، فتكفلت أمه بتربيته، فحفظ القرآن وعمره عشر سنوات، ولما بلغ السادسة عشرة، قالت له أمه: "اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرةٌ إلى الله الواحد الأحد"، وأعطته متاع السفر عشرة أرغفة شعيرٍ، ووضعت معها صرة ملحٍ، وقالت: "يا بني! إن الله إذا استُودِع شيئاً لا يُضَيِّعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه"؛ فأصبح العالِم المحدث الفقيه الشجاع في الحق، وإماماً من أئمة السنة. 

إن تعليم القرآن الكريم للأطفال هو -كما قيل- أصلٌ من أصول الإسلام، فينشؤون على الفطرة، وتسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة، قبل أن تتمكن الأهواء منها، وقبل سوادها بفعل المعصية والضلال. ومع تعليم القرآن ليكون (بناء الإنسان) على عقيدةٍ صحيحةٍ، يكون شرح هذه العقيدة بأسلوبٍ سهلٍ وبسيطٍ للصغار؛ قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كنتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ]، ويكون (بناء الإنسان) كذلك بإكسابه القيم والآداب اللازمة لبناء عالمٍ تسوده محاسن الأخلاق والفضائل؛ قال عمر بن أبي سلمة: كُنْتُ غُلَامًا في حَجْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ] فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْدُ.

إن (بناء الإنسان) يبدأ حين تتغير نظرتنا القاصرة إلى أبنائنا المراهقين على أنهم ما زالوا صغاراً وليسوا أهلاً للمسئولية، ونعود إلى تاريخنا الإسلامي لنستلهم منه كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- يتعاملون مع المراهقين؛ فهذا زيدٌ بن ثابت، تعلم لغة اليهود في 17 ليلة فقط، وصار ترجمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وكاتب الوحي، كان عمره 13 سنة. وقاتِلا أبا جهلٍ بغزوة بدر: معاذ بن الجموح، وكان عمره 13 سنة، ومعوذ بن عفراء، وكان عمره 14 سنة. وأول من سلَّ سيفه في الإسلام، الزبير بن العوام، كان عمره 15 سنة. والذي فتح بيته بمكة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، الأرقم بن أبي الأرقم، كان عمره 16 سنة. وأول من رمى بسهمٍ في الإسلام، سعد بن أبي وقاص، كان عمره 17سنة. أما الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على مكة حين خرج للغزو، عتاب بن أسيد، فقد كان عمره 18 سنة.

ومحمد القاسم، فاتح بلاد السند، كان عمره 17 سنة. وأسامة بن زيد، قائد جيش المسلمين -وفيه كبار الصحابة منهم أبو بكر وعمر- كان عمره 18سنة. وعبد الرحمن الداخل، فاتح بلاد الأندلس، كان عمره 21 سنة. ومحمد الفاتح، فاتح القسطنطينية، كان عمره 22 سنة.

إن (بناء الإنسان) كمدخلٍ لبناء العالم لا يمكن أن يتم إلا وفق مبادئ وقيم المنهج الإسلامي الذي أثبت صلاحيته تاريخياً؛ فحينما انتكست البشرية، وابتعدت عن هذا المنهج، وسار مَن سار على درب الشيوعية الملحدة، وسار البعض على درب الرأسمالية المتوحشة، واغتر الغافلون بالعلم المادي الحديث فنادوا بالعلمانية فصلاً للدين عن الدولة، حين حدث ذلك لم يَجنِ العالم إلا الحروب والخراب والمجاعات والأزمات والنكبات، وثبت للقاصي والداني -إلا لمكابر- أنه لا مناص لبناء عالمٍ مثاليٍ نقيٍ فاضلٍ إلا بالعودة إلى المنهج الإسلامي في (بناء الإنسان)؛ لأنه ببساطة منهج الفطرة السليمة، وهو المنهج الذي أكمله لنا الله وأتمم به نعمته علينا وارتضاه لنا ديناً؛ يقول تعالى: ﴿اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دينًا﴾.

 

أحبتي .. بداية (بناء الإنسان) الذي يمكنه أن يُغير العالم هي أن يبدأ كلٌ منا بنفسه. وأهم قاعدة في ذلك هي ألا نخبر الناس كم نحفظ من القرآن الكريم، وكم نتلو منه، لكن ندعهم يَرَوْن فينا قرآناً يمشي ويتحرك: نُطعم جائعاً، نكسو عارياً، نرحم يتيماً، نُسامح مسيئاً، ننصر مظلوماً، نُعلِّم جاهلاً، نبر والدينا، نصل رحمنا، نُميط الأذى عن الطريق، نُنظف أبداننا وثيابنا وبيوتنا وقلوبنا، نُحسن معاملتنا للجميع، نبتسم لهم؛ لا نقتل، لا نزني، لا نسرق، لا نكذب، لا نَظلِم، لا نغدر، لا نخون، لا نَفْجُر، فليست العبرة أين وصلنا في تلاوة القرآن وحفظه، إنما أين وصل القرآن فينا، وكيف انعكس على أخلاقنا وسلوكنا ومعاملاتنا؟ علينا أن نُلزم أنفسنا وأبناءنا وأهلنا باتباع هذا المنهج الإسلامي السلوكي الصحيح، ولا نكتفي -كما يفعل بعضنا- باختزال الدين في تربية لحيةٍ أو إطالة ثوبٍ أو لبس نقابٍ.

اللهم ثبتنا على الإسلام، وساعدنا على أن نرتقي بأنفسنا، ونصلح من أحوالنا، لنكون خير سفراء لهذا الدين القيم، ننقله إلى الناس كافةً بالقدوة والمثال الحسن والمعاملة الطيبة.

 

https://bit.ly/2KuX5gr


الجمعة، 17 أبريل 2020

رد الأمانات إلى أهلها

الجمعة 17 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٥

(رد الأمانات إلى أهلها)

 

يقول عم مصطفى: لم أكن أتصور أن شهادة وفاة صاحب الشركة التي عملتُ بها طوال الثلاثين عاماً الماضية هي شهادة شقائي أنا؛ فبعد أن تولى ابنه هيثم مقاليد إدارة الشركة كانت أول قراراته التخلص مني وطردي إلى الشارع، فهو لم ينسَ ذلك الموقف القديم حين اكتشفت تحويله أموالاً من حسابات الشركة إلى حسابه الخاص دون علم أبيه، وطلب مني هيثم عدم إخبار والده، وأصررتُ أنا على إبلاع أبيه من باب الأمانة؛ فلابد من (رد الأمانات إلى أهلها). وها أنا أدفع اليوم ثمن الأمانة؛ الطرد من العمل، بل من الشركة التي ساهمتُ في نموها حتى كبرت وصارت إلى ما صارت إليه.

ماذا أفعل؟ ومشكلتي الكبيرة والمستمرة كانت دائماً تتمثل في شُح المال خاصةً في آخر الشهر، لأجد نفسي فجأةً الآن أعيش ذات المشكلة ولكن في جميع أيام الشهر! ابني الكبير في كلية الطب يحتاج إلى مراجع باهظة الثمن ووعدته في أول الشهر! ابنتي أرادت ملابس جديدةً للشتاء ووعدتها في أول الشهر! ولدي الصغير في الثانوية العامة ودروسه الخاصة تُدفع رسومها أول الشهر! فواتير الماء والكهرباء والبقال وغيرهم كلها تنتظر السداد آخر الشهر! يا إلهي؛ والصيدلية! دوائي ودواء زوجتي! لقد أصبحتُ الآن بلا تأمينٍ صحي، ماذا إذا مرضتُ أو مرضت زوجتي أو أحد الأبناء؟! هل من العدل أن يكون هذا ثمن خدمة السنين بأمانة وإخلاص، بعد أن شاب شعري وخارت قواي أعود لنقطة الصفر؟!

لم أشعر بنفسي إلا وأنا واقفٌ أمام باب البنك، حيث وضع صاحب الشركة أكثر من مائة ألف جنيهٍ باسمي -خارج حسابات الشركة لأصرف منها على بعض أموره في غيابه- وأنا في انتظار دوري لصرف هذا المبلغ وإعادته لابن المرحوم، بإذن الله، صاحب الشركة، فهذا المال أمانةٌ لديّ، يتوجب عليّ إعادتها إلى أصحابها.

لكني ترددتُ وفكرتُ للحظات! ألا يكون هذا المال من حقي وحق أولادي، بعد خدمة هذه السنين؟ ألا يكون هو مكافأة نهاية الخدمة التي أستحقها؟ ألا يكون هذا المال ثمن الغدر الذي نالني من هيثم ابن المرحوم صاحب الشركة؟ أقنعتُ نفسي بأنه إذا أراد القدر ذلك فلتكن مشيئته!

حان دوري، وتقدمتُ نحو الصراف، وصرفتُ المال، ثم انصرفتُ من البنك في طريق عودتي إلى البيت بحقيبةٍ ملأى بمالٍ أحدث نفسي وأقول: "هذا المال هو تذكرة الأمان لي ولأسرتي، ليس لآخر الشهر فقط، وإنما لآخر العمر إن شاء الله!". مع آخر كلمةٍ فكرتُ فيها، تسمرتُ قدماي في مكانهما، وكأنما شُلتا! أفقتُ على صوتٍ بداخلي يُنبهني، يوقظني من غفلتي: "هل قلتَ إن شاء الله؟! هل تذكر الله وأنت تسرق؟! هل تذكر الله وأنت تخون الأمانة؟!". تذكرتُ فجأةً الآية الكريمة ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾؛ فأصابني ما يشبه الصعقة الكهربائية، أفقتُ وبدأتُ أسائل نفسي: "هل هذا هو أنا الذي فكرتُ في الاستيلاء على مالٍ ليس لي؟! أم هو شيطاني اللعين أوحى لي بهذا العمل وزينه في قلبي؟! كيف أرضى لنفسي ولأسرتي أن نعيش من مالٍ حرام؟! حتى وإن كان هيثم لا يعلم شيئاً عن هذا المال، ألا يراني الله ويعلم ما أفعل؟! هل أنا الذي عشتُ عمري كله شريفاً أميناً أسرق الآن وأخون الأمانة؟! يا للعار! ما الذي أفعله؟! هل جُننت؟!".

انتهت لحظات الحساب مع النفس سريعاً؛ ووجدتُ نفسي وقد غيرتُ اتجاهي من طريق العودة إلى البيت إلى طريق الذهاب إلى مقر الشركة.

تحولتُ في لحظاتٍ من إحساسي بأني أسرق وأخون، إلى إحساسٍ آخر، هو الشعور بالراحة والسعادة أني جاهدتُ نفسي الأمارة بالسوء، وانتصرتُ على شيطاني. إحساسٌ طاغٍ بالعزة والفخر، والإيمان بأن الله الذي رزقني كل تلك السنوات هو الذي سيتولاني ويسترني ويرزقني في آخر عمري، كيف يكون ذلك؟ لا أدري، لكني تذكرتُ آيةً واحدةً وقتها: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، فوجدتُ روحي وقد امتلأت أملاً وسلاماً.

وصلتُ إلى باب الشركة، دلفتُ مسرعاً أخاف أن تخور إرادتي أو تضعف عزيمتي، اتجهتُ فوراً إلى مكتب مَن ظلمني؛ مكتب هيثم، دخلتُ عليه دون استئذان، لأجده جالساً والدهشة تملأ وجهه، وهو يمسك بورقةٍ في يده، علمتُ فيما بعد إنها خطابٌ من والده له، وضعتُ حقيبة المال في هدوءٍ أمامه، وحكيتُ له قصتها، والدهشة تزداد على وجهه، وعيناه حائرتان بين حقيبة المال أمامه والورقة في يده! هممتُ بالخروج وأنا في قمة الفخر، مع حزنٍ راودني حين تراءت لي أطياف أبنائي وهم في انتظاري أول الشهر يمدون أيديهم لي! ليوقفني نداء هيثم مليئاً بما يشبه الاعتذار: "انتظر يا عم صلاح!"، التفتُ إليه لأتفاجأ به؛ وجهه بشوشٌ مبتسمٌ، يمد يده بالورقة التي كان يقرأ فيها لحظة دخولي عليه، لأتناولها وأقرأ ما بها:

ولدي العزيز

أعرف أن أول قراراتك هي طرد عمك صلاح من العمل؛ فأنت تكرهه منذ أن أفشى سرك لي، وكان الأجدر أن تحترمه لأمانته. اعلم يا بني أنك الخاسر إن لم يعد عمك صلاح إليك مرةً أخرى، ولكن إن عاد -وهذا ظني به- فسوف يكون ليعطيك درساً قاسياً، حينها أعطه الشيك المرفق بالخطاب، واعلم إنه كان رفيق دربي وكفاحي لنصنع لك تلك الشركة الكبيرة".

أجهشتُ بالبكاء مع آخر كلمات الخطاب، وأقبل هيثم يحتضنني بقوةٍ، وهو يردد "أنا آسف يا عم صلاح" وأعطاني الشيك، فإذا قيمته أضعاف ما كنتُ سوف أختلسه من مالٍ بالحرام! وصار لي بالحلال مالٌ أستطيع أن أكمل به باقي عمري -أنا وأسرتي- في عزةٍ، وأودع أيام آخر الشهر إلى الأبد!

 

أحبتي في الله .. عرضتُ عليكم هذه القصة كما نُشرت على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعديلاتٍ طفيفةٍ وإضافاتٍ قليلة.

ما أبرك الحلال وإن قلَّ، وما أمحق الحرام وإن كَثُر، وما أروع أن يحصل الإنسان على ثواب (رد الأمانات إلى أهلها) بأسرع مما يتصور، ومع ذلك فلحكمةٍ ربانيةٍ، قد يؤخر الله سبحانه وتعالى حصول الإنسان على ذلك الثواب إلى وقتٍ بعيد، وقد يدخر له ذلك إلى يوم الحساب.

لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، قال المفسرون إن هذه الآية من أمهات الأحكام؛ تضمنت جميع الدين والشرع؛ فاللّه تعالى يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق اللّه عزّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك، مما هو مؤتمنٌ عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك، فأمر اللّه عزَّ وجلَّ بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أُخذ منه ذلك يوم القيامة؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ]. {"يُقَاد": يُقتص، "الْجَلْحَاء": التي ليس لها قرن، "الْقَرْنَاء": التي لها قرن}.

 

وأكد الله سبحانه على ضرورة أداء الأمانة؛ يقول تعالى: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، ويقول في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، ونهانا سبحانه عن خيانة الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ونهانا عن أكل أموال الناس بالباطل؛ يقول تعالى: ﴿وَلا تَأكُلوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالباطِلِ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ]، وقال عليه الصلاة والسلام في وصف المنافقين: [أَرْبَعٌ مَنْ كنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتّى يَدَعَهَا: إِذا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا عاهَدَ غَدَرَ، وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ]، كما قال: صلى الله عليه وسلم: [لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ]، وقال كذلك: [مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ].

 

أما العلماء فيقولون إن الأمانات في حقيقتها هي ما أؤتمن عليه الإنسان المكلف من الأوامر والنواهي الشرعية؛ من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وفرائضَ وحدودٍ وغير ذلك من التكاليف؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾. ومن الأمانات؛ الودائع التي للناس، فإن الواجب على المرء أداء الأمانة في ذلك حتى يحصل له الثواب من الله جلَّ وعلا، كما إن الإخلال في أداء الأمانة يُعرض المرء للعقاب. إن عدم رد الأمانات إلى أصحابها هو سُحتٌ نهانا الله عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَتَرى كَثيرًا مِنهُم يُسارِعونَ فِي الإِثمِ وَالعُدوانِ وَأَكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ].

 

جعل الشرع الحنيف كفارة خيانة الأمانة أن نستغفر الله تعالى، ونندم على ما فعلنا، ونعزم ألا نعود إلى ذلك أبداً، ونرد الأمانات إلى أصحابها.

ويقول أهل العلم إن خشية الإنسان من الفضيحة لا تبيح له عدم (رد الأمانات إلى أهلها) والتحلل منها، ولا يحملنا الخجل على عدم الوفاء وأداء الأمانة إلى أهلها، فإن الحياء من الله وإبراء الذمة والتحلل من الإثم أحق من الخجل من مقابلة أصحاب الحقوق، لنخلص أنفسنا في الدنيا قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهمٌ يوم القيامة، فتُوفى حقوقهم من حسناتنا، أو يوضع علينا من سيئاتهم فنُلقى بها في النار والعياذ بالله‏.‏

 

وليست جميع الأمانات ماليةً كالنقود والأموال، وليست جميعها ماديةً كالأراضي والشقق والسيارات وما شابه، فبعض الأمانات أدبيةٌ ومعنويةٌ كأمانة الكلمة، وأمانة الفتوى، وأمانة حفظ السر، وأمانة الرعاية لمن نلزم برعايتهم، وغيرها من أماناتٍ مماثلة.

ومن أهم وأخطر ما علينا من ديونٍ -نكاد لا نتذكرها أو نشعر بها- ما صدر منا من غيبةٍ ونميمةٍ وكذبٍ وافتراءٍ وشهادة زورٍ ورمي محصناتٍ وتهكمٍ وسخريةٍ وتنابزٍ بالألقاب؛ إنها أمانات للآخرين يتوجب علينا ردها، وطلب السماح من أصحابها وأهلها. وتظل أهم الأمانات الواجب عدم التفريط فيها أبداً، ما تعلق بالعقيدة والعبادات؛ وفي مقدمتها الصلاة وصلة الأرحام.

 

أحبتي .. ليبدأ كلٌ منا بمحاسبة نفسه؛ هل يؤدي أمانات الله كما ينبغي؟ هل يصلي، هل يصوم، هل يزكي، على الوجه الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى؟ هل توفرت له استطاعة الحج فحج؟ أم أجلّ وسوَّف حتى ضاعت فرصة أداء ركنٍ من أركان الإسلام؟ ثم لنسأل أنفسنا عن حقوق الغير علينا؛ هل نقوم بحقوق الوالدين كما ينبغي؟ هل نصل أرحامنا كما أمرنا الله؟ وماذا عن حقوق أزواجنا وأبنائنا، هل نؤديها على وجهها الأكمل؟ وحقوق إخواننا وأخواتنا كيف نؤديها؟ هل نؤدي حقوق الجيران؟ ثم حقوق الغير التي في رقابنا؛ من ديونٍ وعهودٍ ووعودٍ هل أوفينا بها؟ هل ما يزال لبعض الناس حقوقٌ علينا؟

حقوق الغير هي أماناتٌ علينا أن نؤديها ونردها إلى أهلها، والقاعدة التي نُلزم بها أنفسنا في التعامل مع حقوق الغير هي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

فلنسارع أحبتي إلى (رد الأمانات إلى أهلها) قبل أن يداهمنا الوقت ويحين الأجل وما تزال في رقابنا أماناتٍ لم نؤدها.

أعاننا الله سبحانه وتعالى على إنقاذ أنفسنا من حسابٍ عسير، والتصدق على أنفسنا بثوابٍ كبير.

 

https://bit.ly/2VHOVGW


السبت، 11 أبريل 2020

النذير، فرصة جديدة

الجمعة 10 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٤

(النذير، فرصة جديدة)

 

هذه قصةٌ يرويها أحد الشباب السعوديين، كتب يقول: كنا مجموعةً من الأصدقاء مستقلين سيارة واحدٍ منا، متوجهين من "الرياض" إلى "الدمام" لقضاء عطلة نهاية الأسبوع والاستمتاع بشاطئ البحر. في الطريق السريع مررنا بإحدى اللوحات الإرشادية على جانب الطريق؛ فقرأها أصدقائي «الدمام 300 كيلو»، فقلتُ لهم: "أنا أراها «جهنم 300 كيلو»!"، اعتبروها نكتةً وصاروا يضحكون عليها. مرَّ بعض الوقت، كلهم يتسامرون ويتضاحكون، أما أنا فقد كنتُ محتاراً ومتعجباً مما قرأته مكتوباً في اللوحة! قال أحدهم ساخراً: "هذه لوحةٌ ثانيةٌ «الدمام 200 كيلو»، كيف قرأتَها أنت؟!"، قلتُ: "أنا أراها «جهنم 200 كيلو»"، فضحكوا وقالوا: "أمجنونٌ أنت؟!" أقسمتُ لهم وقلتُ: "واللهِ العظيم إني أرى المكتوب أمامي «جهنم 200 كيلو»"!! فضحكوا مثل المرة الأولى، وقالوا: "لقد أزعجتنا"، سكتُ وأنا مقهورٌ، ورحتُ أفكر؛ فهذا بالفعل أمرٌ غريب! مع استمرار الضحك، جاءت اللوحة الثالثة، قال الشباب: "ما بقي إلا قليل.. «الدمام 100 كيلو»"، أقسمتُ لهم مرةً أخرى وقلتُ: "واللهِ الذي لا إله إلا هو إني أراها «جهنم 100 كيلو»"!! قالوا: "آذيتنا من أول السفرة!!"، قلتُ: "أنزلوني هنا أعود إلى ""الرياض!!"، قالوا: "هل أنت مجنون؟!"، قلتُ: "أنزلوني أرجع!! واللهِ لن أكمل معكم الطريق!!". عندما وجدوني مُصِرِّاً على النزول أنزلوني؛ فقطعتُ الطريق وتوجهت إلى الجانب الآخر منه، طريق العودة إلى "الرياض"!!ظللتُ واقفاً فترةً طويلةً أؤشر للسيارات عسى أن يقف لي أحدهم، تمر السيارات مسرعةً، لا أحد ينظر إليّ، كأني غير موجود!! إلى أن استجاب لإشارتي سائق سيارة نقلٍ كبيرةٍ أوقف سيارته ودعاني للركوب فركبتُ معه، كان صامتاً لا يتكلم تبدو على وجهه علامات الحزن، سألته: "لماذا تبدو حزيناً يا أخي؟ ألا تريد أن نتسامر لنقطع هذه الطريق؟ إنها طريقٌ طويلة"، قال: "اعذرني؛ فقد شاهدتُ قبل قليلٍ حادثاً، واللهِ ما رأيتُ أبشع منه في حياتي"، قلتُ متسائلاً: "عائلةٌ أم شباب؟"، قال: "شبابٌ، سيارتهم ..."، وذكر مواصفات السيارة التي يستقلها أصدقائي!! صُعقتُ وقلتُ وأنا غير مصدقٍ ما سمعتُ للتو: "أسألك بالله؟"، قال: "واللهِ العظيم هذا ما رأيتُه". فعلمتُ أن الله قد أخذ أرواح أصدقائي بعد أن نزلتُ من السيارة، وأكملوا هُم طريقهم. حمدتُ الله أن أنقذني من بينهم، ولا أدري هل هُم إلى جهنم كما كنتُ أقرأ في اللوحات الإرشادية؟! لا أتمنى ذلك؛ فهم أصدقائي، إلا أنني أعرف كيف كانت معاصيهم! غفر الله لهم.

اللهم لك الحمد؛ فقد كنتُ خرجتُ معهم من "الرياض"، وما في بالي أن أعمل طاعةً لله، ولكن الله أعطاني فرصةً أخرى، وأرسل إليّ نذيراً حتى أعود وأنضم إلى قوافل العائدين التائبين؛ فله الفضل والمنة!

 

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى عن نفسه: ﴿إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرينَ﴾، ويقول تعالى عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿إِن أَنتَ إِلّا نَذيرٌ﴾، ويقول تعالى عن الأنبياء والرسل: ﴿وَما نُرسِلُ المُرسَلينَ إِلّا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ﴾، كما أن مِن الصحابة رضي الله عنهم مَن كانوا ينذرون؛ يقول تعالى: ﴿وَما كانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾، بل إن مِن المنذرين مَن هُم من غير البشر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذ صَرَفنا إِلَيكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَستَمِعونَ القُرآنَ فَلَمّا حَضَروهُ قالوا أَنصِتوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوا إِلى قَومِهِم مُنذِرينَ﴾. ووصف الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم بأنه نذير؛ يقول تعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ عَلى عَبدِهِ لِيَكونَ لِلعالَمينَ نَذيرًا﴾، والآيات والمعجزات الربانية وصفها المولى عزَّ وجلَّ بأنها نُّذُرُ؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَد جاءَ آلَ فِرعَونَ النُّذُرُ﴾ وذلك حين أرسل الله إلى آل فرعون سيدنا موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات القاهرات.

 

وكما في القصة التي رواها الشاب كان (النذير، فرصة جديدة) له ليصلح من نفسه ويعود إلى الطريق المستقيم.

أفلا يكون وباء "كورونا" الذي يجتاح العالم هذه الأيام نذيراً للبشرية جمعاء، وفرصةً جديدةً للإصلاح؟

لِمَ لا وأقل من ذلك كثيراً يقول الناس عنه أنه نذير؟ يقول الشاعر:

أليسَ المشيبُ نذيرُ الإِلهِ؟

ومَن ذا يُسَوِّدُ وجهَ النذير

 

يقول أهل العلم إن الكوارث والمصائب نُذُرٌ تُحفِّزُ أهل النُهى للاتعاظ والاعتبار، ثم الإنابة والإخبات لله عزَّ وجلَّ. إن ڤيروس "كورونا" ليس بلاءً، وإنما هو ابتلاءٌ؛ فمن تاب وأناب، واستغفر وصبر وأخذ بأسباب الوقاية، كان له رحمةٌ، وعليه نعمةٌ وسلام، ومن أدبر واستكبر، وأصرَّ وعاند، كان له عذابٌ، وعليه نِقمة.

 

تصور بعضهم ڤيروس "كورونا" وهو يخاطب الناس فيقول: لقد أرسلني الله إليكم نذيراً مرسلاً للناس جميعاً؛ أما الكافرون فلأريهم ضعفهم وعجزهم وهُم في أوج قوتهم، حجةً من الله قائمةً عليهم، ولله الحجة البالغة، وسبحان الله ربما كنتُ سبباً في إيمانهم وعودتهم إلى الإسلام؛ الدين الذي ارتضاه الله للناس أجمعين. وأما المؤمنون فأقول لهم: أنا لستُ مرضاً لأجسادكم بل أنا دواءٌ لقلوبكم الغافلة، أنا مرسلٌ من قِبل حبيبكم وطبيبكم، أنا علاجٌ لمرض غفلتكم وبُعدكم عن الله. أنا آيةٌ من آيات الله أُرسلتُ للمؤمنين ﴿لِيَزدادوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِم﴾، ولأصحح لهم بوصلة التوجه إلى الله؛ فلقد تعلقت القلوب بالدنيا تعلقاً صدها عن طاعة الله وعن ذكره، وأوقعها في المعاصي والفجور والغفلة، لقد حُرمتم الجمعة والجماعات، وأُغلقت المساجد، وخلا بيت الله الحرام من الطائفين والعاكفين الركع السجود، وتوقفت العمرة، ومُنع المسلمون من دخول مسجد رسول الله، وأُلغيت فريضة الحج، وكادت فريضة الصوم أن تتعطل؛ فإن لم تستفق القلوب مع كل هذا البلاء فمتى تستفيق؟! سأرحل عنكم حين يأذن مَن أرسلني إليكم نذيراً فقد جئتُ بأمره، وأغادر بأمره، فلا تكونوا من الذين ذكرهم الحق سبحانه في قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾.

 

قال الشاعر عن ڤيروس "كورونا":

الــمـوتُ يـحـصـدُ آلافــاً مــن الـبـشرِ

فـالأرضُ فـي هَـرَج ٍمن وطْأةِ الخَــطَرِ

خــوفُ الـمـنيَّةِ هـزَّ الـنَّاسَ أسـكرهـمْ

مـن شـدَّة الـرُّعبِ والأوهــامِ والـحَذَرِ

تــأتــي الــكــوارثُ أســتــاذا يـنـبِّـهنا

إذا ابـتـعـدنا عـــن الـتّـفـكيرِ والـنَّـظرِ

تــأتــي الــكــوارثُ آيـــاتٍ تُـحـفِّـزُنـا

نــحــو الإنــابـةِ والإخــبـاتِ والـعِـبَـرِ

إنَّ الــوبـاءَ الـــذي بــثَّ الـمـآتم فـي

كـــلِّ الـشـعـوبِ نـذيـرٌ أبــلـغُ الــنُّـذُرِ

 

وصاغ بعضهم الأمر في شكل الحوار التالي:

إذا سألوا: مِن أين جاء هذا الوباء؟ قل: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ ‏بمعاصيكم وسيئاتكم. فإن سألوا: إلى أين المفر؟ قل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ بالرجوع السريع إلى الله سبحانه وتعالى. وإن سألوا: وماذا نفعل؟ قل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وذلك بالأخذ بكل طرق الوقاية الممكنة وأساليب العلاج المتاحة، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بالرجوع إلى الله والتوبة النصوح من جميع المعاصي والسيئات فهذا طريق الفلاح. فإذا قالوا: لقد ضاقت منا الصدور، قل: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ صبرٌ بغير ضجرٍ، ودعاءٌ وتضرعٌ إلى الله سبحانه وتعالى واستعانةٌ به، مع اليقين بأن الله يختار لنا الخير دائماً مهما بدا لنا غير ذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.

 

أحبتي .. لا أحد منا يدري متى نهايته، وڤيروس "كورونا" هذا الكائن الصغير الذي لا يُرى بالعين المجردة جاء لنا لينذرنا أن الموت قريبٌ منا، وهو أقرب إلينا مما نتصور، صحيحٌ أن لكل أجلٍ كتاب، وأنه لن يموت الإنسان بهذا الڤيروس أو بغيره من الأسباب إلا حينما يحين أجله، لكن الصحيح أيضاً أن علينا جميعاً أن ننتبه إلى هذا النذير فنسارع إلى التزود بما ينفعنا يوم القيامة ويرفع من قدرنا يوم الحساب، حين لا ينفع نفساً إلا إيمانها وما قدمت من عملٍ صالح. فليكن هذا (النذير، فرصة جديدة) لنا، ولنعمل على أن نلقى الله في أي وقتٍ على الطاعة والتقوى. ليس عيباً أن نخطئ، لكن العيب أن نستمر في الخطأ ونتمادى فيه؛ كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

أحذركم أحبتي وأحذر نفسي من أن نكون من اللاعبين اللاهية قلوبهم الذين يقول الله تعالى عنهم: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، ولنأخذ هذا النذير باهتمامٍ وجدية؛ يقول تعالى: ﴿هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾، فليس لنا حجةٌ عند المولى عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/34orTbZ

 


حقيقة التوكل على الله

الجمعة 3 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٣

(حقيقة التوكل على الله)

 

كنا في مسجدنا، وكان الوقت بعد صلاة الفجر -وقت أن كنا نصلي الجمعة والجماعة في المساجد، أعاد الله لنا هذه النعمة ولا حرمنا منها- وكان من المعتاد أن يصافح بعضنا بعضاً بعد انتهاء الصلاة؛ وفي ذهننا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تحث على المصافحة؛ ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ المُؤمِنَ إذا لَقِيَ المُؤمِنَ فسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأخَذَ بِيَدِهِ فَصافَحَهُ تَناثَرَتْ خَطاياهُما كَما يَتَناثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ]، إلا في ذلك اليوم؛ مد أحد الإخوة الأفاضل يده لي لمصافحتي، فلم أصافحه ووضعت يدي على صدري مع ابتسامة ترضيةٍ ورد للتحية بالكلام، وقلتُ له مداعباً: "سلام كورونا!"، تغير وجهه وسألني: "وهل تراني مصاباً بهذا الڤيروس؟"، قلتُ بسرعة: "أبعد الله الشر عنك، بل أريد أن أجنبك العدوى، خوفاً عليك، وحباً فيك"، سألني باستغراب: "وهل أنت مصاب؟"، قلت له: "قد أكون حاملاً للڤيروس، ولم تظهر أعراضه عليّ؛ فأخشى أن ينتقل إليك مني"، هدأ قليلاً وقال: "ألست تتوضأ للصلاة؟ هذا يكفي"، قلتُ: "بلى، لكن الالتزام بما يقوله الخبراء مهمٌ، فهُم أهل الذكر الذين أمرنا الله سبحانه وتعالى بالرجوع إليهم؛ بقوله: ﴿فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ﴾"، قال: "توكل على الله يا رجل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ﴾"، قلتُ له: "لكن التوكل عليه سبحانه غير التواكل، فالتوكل الحق يدعونا للأخذ بالأسباب، ولنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم حين قال رجلٌ يا رسولَ اللهِ: أعقِلُها وأتوكَّلُ؟ أو أُطلقُها وأتوكَّلُ؟ قال: [اعقِلها وتوكَّلْ]، أي اجمع بين الأمرين، اعقل الناقة، وتوكل على الله". سكت صديقي، وما زال شيءٌ من علامات عدم الرضا بادياً على وجهه، أما أنا فانصرفت!

 

أحبتي في الله .. مع ذكر التوكل على الله تحضرني قصةٌ شائعة عن رجلٍ متعبدٍ يعيش في قريةٍ، كان قدوةً للجميع لتدينه وتقواه، وكان كل أهل القرية يسألونه في أمور دينهم، ويتخذونه نموذجاً يُحتذى به في الإيمان بالله. في أحد الأيام حلَّ طوفانٌ بالقرية أغرقها بالماء، ولم يستطع أحدٌ النجاة إلا من كان معه قاربٌ؛ فمر بعض أهل القرية بقاربهم على بيت المتعبد لينقذوه، فقال لهم: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ثم مر أناسٌ آخرون؛ فقال لهم نفس الكلام: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ومرت آخر أسرةٍ تحاول النجاة وقالوا للمتعبد: "اركب معنا، نحن آخر مَن في القرية فإن لم ترحل معنا ستغرق"، فأجاب: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". انتهى الطوفان، وتجمع من بقي من أهل القرية فوجدوا جثة المتعبد، فثار الجدل بين الناس وتساءل بعضهم: "أين الله؟ لماذا لم ينقذ عبده المؤمن المتعبد؟"، وكانت فتنةً كبيرةً كادت تعصف بإيمان البعض، حتى جاء شابٌ متعلمٌ واعٍ وقال: "مَن قال لكم إن الله لم ينقذه؟ إن الله أنقذه ثلاث مراتٍ عندما أرسل له ثلاث أسرٍ لمساعدته، لكنه لم يُرد أن ينجو!".

 

هناك فرقٌ كبيرٌ بين التواكل، والتوكل على الله، (حقيقة التوكل على الله) أنه مقرونٌ دائماً بالأخذ بالأسباب، ونحن مأمورون بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ﴾، رغم تسليمنا جميعاً بأن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على نصر المؤمنين بغير قتال.

فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لو لم يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب ما تحمل ما تحمل في سبيل نشر الدعوة، وما غزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وقيل خمساً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين، وقيل تسعاً وعشرين، هذا غير السرايا التي بلغت نحو الأربعين إلى السبعين. «الغزوة ما شارك فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه، والسرية هي التي لم يشارك فيها ويكون العدد فيها في الغالب قليلاً».

ولقد أخذ الأنبياء جميعهم بالأسباب؛ حين علموا (حقيقة التوكل على الله)؛ فهذا نوحٌ عليه السلام صنع السفينة، والله قادرٌ على أن ينجيه ومن معه من المؤمنين بغير سفينةٍ، ولكن الله سبحانه يُعَلِّم عباده الأخذ بالأسباب.

وهذه السَّيدة مريم، يطلب الله سبحانه وتعالى منها أن تأخذ بالأسباب، وهي في أشدِّ حالات الضعف والوهن، وقت الولادة؛ قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ وكان سبحانه وتعالى قادراً على أن يُسقط عليها الرطب بغير أن تُضطر إلى هز جزع النخلة، لكنها سُنة الله في كونه؛ الأخذ بالأسباب.

 

يقول العلماء إن الأخذ بالأسباب مطلبٌ شرعيٌ؛ فالذي يزعم أنه متوكلٌ ولا يأخذ بالأسباب يُعد مخالفاً للشرع، فالتوكل يجمع الأمرين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

 

وعن علاقة التوكل على الله بجائحة "كورونا"، أعجبني قول أحدهم: إذا كان احتمال موتك بڤيروس "كورونا" هو ١٪، واحتمال موتك في أية لحظة -بهذا الڤيروس أو بغيره- هو ١٠٠٪، إذن جدد إيمانك، واتقِ الله، وتوكل عليه؛ فمن توكل على الله كفاه؛ يقول تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ فالناجي من هذا البلاء ليس هو مَن ينقضي الوباء دون أن يمرض، ولكنَّ الناجي هو من فهم الرسالة وسارع بالتوبة، وأعاد ترتيب حياته. الناجي هو من نظر حوله فأيقن أن الأمان ليس في مالٍ يكنزه، ولا منصبٍ مرموقٍ يصل إليه، ولا في دولةٍ متقدمةٍ يعيش فيها، ولا في أسرةٍ حاكمةٍ ينتمي إليها، ولكن الأمان الحقيقي في العودة إلى الله، حتى إذا رفعنا أيدينا إلى السماء وقلنا -كما ورد في الأثر-: يا رب؛ قال الله تبارك وتعالى: لبيك عبدي، سَلْ تُعْطَ. وصدق من قال: وإذا الشدائدُ أقبلت بجنودِها، والدهرُ من بعد المَسرةِ أوجعك، إرفع يديك إلى السماءِ ففوقَها، ربٌ إذا ناديتَه ما ضيعك.

 

وهذه كلماتٌ طيباتٌ عن أسبابٍ يمكن لنا نأخذ بها، يقول كاتبها: مُنعنا من الصلاة في المسجد، ولم نُمنع من الصلاة في البيوت. مُنعنا من حلقات حفظ وتلاوة القرآن في المساجد، ولم نُمنع من حفظ وتلاوة القرآن الكريم في بيوتنا. مُنعنا من الاختلاط بالبشر، لنأنس برب البشر نتقرب إليه نناجيه ونذل له ونخشع وننكسر بين يديه. مُنعنا من الخروج، لتكون لدينا الفرصة كاملةً لنتعبد في البيوت فلا عذر لمن كانت حجتهم ضيق الوقت. ربنا إننا لا نخشى ڤيروس "كورونا" ولا غيره؛ فما هو إلا خلقٌ من خلقك، يأتمر بأمرك، وينتهي بنهيك، ليس المراد منه، غسل الأيدي وتنظيفها، وإنما غسل القلوب وتطهيرها بالتوبة النصوح والاستغفار والتضرع إلى الله والندم؛ يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾. ألم يأنِ لمدمن الأغاني أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمدمن المسلسلات والأفلام والنظر إلى النساء العاريات أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن ظلم أن يوقف ظلمه ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن أكل أموال الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك الصلاة أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لقاطع الرحم أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك محارمه يمشين في الشارع بملابس ضيقةٍ تكشف مفاتنهن أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمخاصم الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ للنائم عن صلاة الفجر، أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لنا جميعاً ترك الذنوب صغيرها وكبيرها، وأن نكف ونتعظ؟ أيها الناس أروا الله من أنفسكم خيراً، اتقوا الله، أدوا عباداته كما أمركم، وليس تبعاً لأهوائكم، توقفوا عن الظلم وعن تأييد الظالمين، ردوا الحقوق إلى أصحابها، ورددوا في أنفسكم قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

 

ومن أفضل ما كُتب شعراً عن "كورونا":

ما لي أراكَ من الوبا مفتونا

وتكادُ مِن رعبٍ تُجنَ جُنونا!

إن كان موتُك لا محالةَ آتياً

فلِمَ تخافُ الموتَ من "كورونا"؟!

قد ماتَ بالطاعونِ قومٌ قبلَنا

ما بالُ مَن لم يُدرك الطاعونا؟!

مَن لم يمت بالطعنِ ماتَ بغيرِه

فالموتُ حقٌ والورى فانونا!

إنّ الذي كتبَ البقاءَ لنفسِه

كتبَ الفناءَ على الورى قانونا!

لو كان ذخرُكَ صالحاً ما خِفتَه

لكنْ حملتَ من الذنوبِ ديونا!

اللهُ أنذرَ بالوباءِ عبادَه

اللهُ حرَّكَ بالبلاءِ سُكونا!

سبحانَ مَن يُنجي العبادَ بفضلِه

ويقرُ منهم أنفساً وعُيونا!

فاعملْ لنفسِك قبلَ موتِك صالحاً

فالمتقونَ له هُم الناجونا!

 

وكتب أحدهم يقول إن أحرف "كورونا" ترشدنا إلى تحسين علاقتنا بالله سبحانه وتعالى ليكرمنا برفع البلاء عنا:

«ك» كونوا واثقين بلطف ورحمة رب الأرض والسماء وتوكلوا عليه

«و» واصلوا نهاركم وليلكم بالتضرع إليه بالدعاء والتذلل بين يديه

«ر» راجعوا تاريخ الأمم السابقة لتعرفوا مقاصد سنن الابتلاء

«و» وظفوا طاقاتكم وجهودكم للتقرب من الله وللتخفيف عن الفقراء

«ن» نظفوا قلوبكم من الكبْر والحسد والبغضاء والركون إلى الظالمين

«ا» الزموا الصلاة والاستغفار وأكثروا من الصدقات ليرفع الله البلاء والوباء

أما "كوفيد-19"؛ فإنّ حروفها تعني:

«ك» كل، «و» واحد، «ف» فينا، «ي» يلزم، «د» داره، «19» يوم. "وهذا أخذٌ بالأسباب"!

 

أحبتي .. ولأن (حقيقة التوكل على الله) أن نكون إيجابيين، ونعمل ولا نتواكل؛ فقد أطلقتُ حملةً تحت شعار "سأترك معصيتي لتعلوَ أمتي"، قلتُ فيها أن على كلٍ منا أن يبدأ بإصلاح نفسه؛ بترك ذنبٍ واحدٍ على الأقل، يكون مقيماً عليه منذ زمن، كعدم صلاة الفجر، أو ترك الصلاة مع جماعة المسلمين، أو تأخير الصلوات، أو عدم إخراج الزكاة، أو قلة التصدق، أو هجر القرآن الكريم، أو النظر إلى المحرمات، أو التقصير في حق الوالدين، أو قطيعة الأرحام، أو الغيبة، أو النميمة، أو إساءة الظن، أو السرقة، أو الرشوة، أو أكل المال بغير حق، أو ظلم الغير، أو نصرة الظالم، أو التقاعس عن نُصرة المظلوم، أو الكذب والافتراء على الغير، أو شهادة الزور، أو رمي المحصنات، أو غير ذلك. ثم ليعاهد الله سبحانه أن يترك هذا الذنب -أو الذنوب- حتى يُبعد الله الشر عنه، ويُفرِّج الغمة عن الأمة. فلو ترك كل واحدٍ منا ولو ذنباً واحداً، وقال في نفسه: "معصيتي سببٌ في محنة أمتي، وأُشهد الله على تركها طمعاً في رضاه، وخوفاً من عقابه، وابتغاءً لما عنده من الثواب" فإن الله سبحانه وتعالى سيفرج عنا بعفوه ولطفه، عندما يرانا قد توكلنا عليه، وأخذنا بالأسباب، وعُدنا إليه، والتزمنا بتطبيق شرعه؛ انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة.

ما تزال الدعوة للانضمام إلى هذه الحملة مستمرةً؛ فشاركوا فيها يرحمنا ويرحمكم الله.

ولنتوكل على الله حق التوكل، وندعو الله سبحانه وتعالى ونتضرع إليه؛ وهو القائل: ﴿فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا﴾، ولنراجع علاقتنا بالله عزَّ وجلَّ، نجبر ما انكسر منها، ونقوي ما ضعف، ونزيد ما هو قويٌ منها قوةً، مع الأخذ بالأسباب كما أُمرنا.

هيا أحبتي نشمر عن سواعد الجد، ونرفع رصيدنا من جميع أنواع الخير والبر والتقوى، وهي التي سماها رسول الله صلى الله وعليه وسلم صنائع المعروف في قوله: [صَنَائِعُ الْـمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَالْآفَاتِ وَالْـهَلَكَاتِ، وَأَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ].

 

https://bit.ly/3aBwbyS


الجمعة، 27 مارس 2020

وما كان ربك نسيا/2


الجمعة 27 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٣٢
(وما كان ربك نسيا)

قصةٌ حقيقيةٌ رائعةٌ ومؤثرةٌ جداً في فعل الخير وقعت أحداثها في الجزائر؛ يقول أحد الشيوخ:
في سنة 1994م، مَرضتْ ابنتي، وكان عمرها أربعة عشر عاماً، فوجهني الأطباء لنقلها إلى مستشفى عين النعجة بالجزائر العاصمة، توكلتُ على الله وسافرتُ إلى العاصمة، وصلتُ إلى المستشفى، سألتُ عن الجناح المقصود، فوجدته بعيداً، ولم أكن أعلم أن المستشفى كبيرٌ إلى هذه الدرجة، مدينةٌ طبيةٌ متكاملةٌ يسير فيها الراكب بسيارته، فكيف بشيخٍ مثلي!؟ مشيتُ قليلاً، ولم أجد من يساعدني؛ فتَعَبُ الشيخوخة، وتَعَبُ السفر، وتَعَبُ الحاجة، وتَعَبُ المرض الذي ألَمَّ بابنتي، جميعها ابتلاءاتٌ أرهقتني، جلستُ لأستريح في مكانٍ مخصصٍ لصف السيارات. وكُنت بين الفينة والأخرى أذرف الدمع، وأتوارى عن ابنتي وعن الناس كي لا يرونني باكياً. وبينما أنا كذلك، وإذا بسيارةٍ فاخرةٍ تصف بجواري، خرج منها شابٌ طويل القامة بهي المُحَيَّا، يرتدي مئزراً أبيضاً، بطاقته المهنية تتدلى على صدره، ثم توجه نحوي، وسألني عن حاجتي، فخنقتني العبرات ولم أقدر على الكلام، سألني: "يا عم هل معك رسالة طبية؟ أعطني بطاقة هويتك". يقول الشيخ: لمّا سَلَّمْتُ البطاقة للشاب، راح يتأملني من رأسي إلى أخمص قدمي، وقد بدت عليه علامات الدهشة والاستغراب!! ثم أرسل تنهيدةً من أعماق جوفه، وجلس بجانبي، وراح يتفرس في ملامحي تارةً، ويُقَبِّلُ جبيني تارةً أخرى، ولم يتمالك نفسه وذرفت عيناه بالدموع!!
سألتُه: "ما بك يا ولدي!؟ هل أصابك مكروه لا قدّر الله!؟"، قال: "لا، وإنما أشفقت لحالك"، ثم حَمَلَ ابنتي بين يديه، وقال: "تعال يا عم معي". دخل الشاب أروقة جناحٍ طبيٍ متخصصٍ، ووَضَعَ الطفلة على كرسيٍ متحركٍ، وأخذ يأمر وينهي، والكل يُحيّيه تحية تقديرٍ واحترامٍ ويتودد إليه؛ يبدو أنه صاحب مكانةٍ وشأنٍ في هذا المستشفى. وراح يطوف بالبنت بين قاعة الاستعجالات، ومخبر التحاليل، وجناح التصوير بالأشعة، وقسم التخدير والإنعاش، والجراحة العامة. وفي حدود الساعة الرابعة صباحاً كانت البنت قد أُجريت لها عمليةٌ جراحيةٌ ناجحةٌ واستعادت وعيها!! حمدتُ الله، وشكرتُ الشاب الذي كان لي ظهيراً وسنداً ومعيناً، وقلتُ له: "سيبقى خيرك يطوق عنقي ما حييت"؛ فقد كان كل مَن في المستشفى يخدمني خدمةً استغربتُ من مستواها الراقي جداً، ولم أسمع بها سوى في مستشفيات الدول المتقدمة في هذا المجال!! وبعد ثلاثة أيامٍ، أمرني الطبيب الذي أجرى العملية الجراحية لابنتي بمغادرة المستشفى؛ فطلب مني صاحبي الذي التقيته أول يومٍ أن تمكث الطفلة في بيته أسبوعاً آخر حتى تسترد عافيتها، وتستكمل نقاهتها، لأن السفر متعبٌ والمسافة بعيدة!! استحييتُ من كرمه وخيره، لكني استجبتُ له، ومكثتُ في ضيافته سَبع ليالٍ، وكانت زوجته تخدم ابنتي، وكان هو وأولاده يترفقون بي وبابنتي، ويعاملوننا بمنتهى الرقة واللطف والأدب. وفي الليلة السابعة، لمّا وضعوا الطعام على المائدة، وتحلقوا للعَشاء، امتنعتُ عن الطعام، وبقيتُ صامتاً لا أتكلم، قال لي الرجل: "كُلْ يا عم، كُلْ، ما ألمَّ بك!؟"، قلتُ وبصوتٍ مرتفعٍ ونبرةٍ حادةٍ: "واللهِ لن أذوق لكم طعاماً إلا إذا أخبرتموني مَن أنتم؟ ومَن تكونون؟ أنتَ تخدمني طوال أسبوعٍ كاملٍ، وأنا لا أعرفك. تخدمني وتُبالغ في إكرامي!! وأنا لم ألتقِ بك سوى مرةٍ واحدةٍ في المستشفى!! مَن أنت!؟"، قال: "يا عم كُلْ، هيا كُلْ وبعد العشاء أُخبرك"، قلتُ: "واللهِ لن تدخل فمي لقمةٌ واحدةٌ، ولن آكل طعامك إنْ لم تخبرني من أنت؟ ومن تكون؟"، حاول الرجل التهرب من الجواب لكنه -وأمام إصراري- أطرق برأسه قليلاً، ثم قال بنبرةٍ خافتةٍ: "يا عم إن كنتَ تَذْكُر؛ فأنا ذاك الطفل الذي أعطيتَه خمسة دنانير سنة 1964م عندما كنتُ أجلس خلفك في الحافلة. أنا ابن فلانٍ ابن فلان"، قلتُ: "آه تذكرتُ؛ أنت ابن فلانٍ من قريتنا!! نعم، نعم، لقد تذكرتُ؛ يومها كنتُ في الحافلة متجهاً من قريتنا الفلاحية إلى إحدى المدن القريبة، وكان يجلس خلفي صَبِّيان عمرهما لا يتجاوز، على ما يبدو، سبعة أعوامٍ، سمعتُ أحدهما يحدث الآخر قائلاً له: هذا العام شحت السماء، والخريف يوشك أن ينصرم، والأرض لا تُنبت شيئاً، وأبي فلاحٌ فقيرٌ ليس لديه ما ينفقه عليَّ، ولذلك فأنا مضطرٌ لترك مقاعد الدراسة هذا العام!! لمّا سمعتُ الطفلين يتحدثان عن الفقر والحرمان بهذا الوعي الذي لا يدركه إلا الكبار، تأثرتُ وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت!! وعلى الفور أخرجتُ من جيبي خمسة دنانير ونَاولتها للصبي، وقلتُ له: خذ هذه الدنانير -والمبلغ آنذاك يفي لشراء الأدوات المدرسية كلها- رَفَضَ الصبي أخذ الدنانير، فقلتُ له: ولماذا يا ولدي!؟ قال: ربما يظن أبي أني سرقتُها؟ قلتُ: قل له فلانٌ بن فلانٍ أعطاني إيّاها لشراء الأدوات المدرسية، فإن أباك يعرفني تمام المعرفة، تهللت أسارير الطفل وتناول الدنانير الخمسة، وابتسم ابتسامة الرضا والسرور ودسها في جيبه، ونسيتُ من يومها هذا الموقف مع ذاك الصبي"، قال الرجل: "فأنا يا عم ذاك الصبي، بفضل الله، ثم بفضل هذه الدنانير الزهيدة لما أصبحتُ اليوم بروفيسوراً في أكبر مستشفى بالجزائر، وها قد التقينا بعد أنْ منَّ الله علي بأعلى المراتب في أنبل وأشرف المهن، فقد افترقنا سنة 1964م وها نحن نلتقي سنة 1994م بعد ثلاثين عاماً بالتمام والكمال!! والحمد لله أنْ قدرني لأرد لك بعض الجميل؛ يا عم الدنانير الخمسة التي أعطيتَها لي صنعت مني بروفيسوراً في الطب، يا عم واللهِ لو أعطاني أحدٌ كنوز الدنيا ما فرحتُ بها الآن كفرحي يومها بتلك الدنانير الزهيدة. يا عم أفضالك عليَّ كبيرة، واللهِ مهما فعلتُ فلن أرد لك الجميل؛ فأسأل الله أن يجازيك خير الجزاء".

أحبتي في الله .. يصف الملائكة الكرام المولى عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم بقولهم: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. يقول أهل العلم إن الإنسان من طبيعته النسيان؛ لأنه لو تذكَّر ما ألمَّ به من آلامٍ وأحزانٍ، وما أحاطه من مكايد وشدائد، لكَرِهَ العيش، وسَئِم الحياة، إنما رحمه الله فجعَلَه يتذكَّر القريب، فإذا ضربه الزمن بأيامه ولياليه، فإن الأيام تنتهي، والساعات تنقضي، والجروح تندمِلُ، والأحزان تنمحي، ويُشغَلُ الإنسان بحاضره، لكن ما ينساه الإنسان لا ينساه الملِك الديَّان. والإنسان مراقَبٌ على مدار اللحظة، الكتاب الإلهي ينسخ ما يفعل، ويسجِّلُ ما يترك حتى يوم العرض الأكبر؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾، هناك كتابٌ ينطق بالحق ويخبر بكل ما يعمل الإنسان؛ يقول تعالى:﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، عملُك يُنسَخُ ويُحفَظُ في مكان مأمون لا يتلف ولا يسرق، ولا يصادر، ولا يتغير؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، فهو تعالى عالمٌ بكل شيءٍ، بيده كل شيءٍ، بكل شيءٍ بصير، وعلى كل شيءٍ قدير، يخلق ما يشاء ويختار، وكل شيءٍ عنده بمقدار؛ يقول تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾؛ أي أن أعمالنا تُحصَى علينا، يستوي في ذلك كبيرُها وصغيرها، جليلُها ودقيقُها، سرُّها وجهرها، إحصاءٌ دقيقٌ، وحفظٌ وثيق؛ يقول تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾، ويقول: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾. وفي يوم القيامة وبين يدي الله تعالى سيُفاجَأُ الخلق بهذه الأعمال مكتوبةً يقرؤونها، ومسطورةً يشهدونها، وبارزةً يُحسونها، فيُسقَط في أيديهم، وتعلو الحسرة وجوههم، ويقولون كما قال القرآن: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
وتؤكد آيات القرآن الكريم على أن جميع المخلوقات تقع تحت سمع الله وبصره، وإحاطته وعلمه، صغرت هذه المخلوقات أم كبرت، رأتها العيون أو اختفت عنها ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. والله تعالى يحصي للإنسان حتى آثاره ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾.
 ثم يكون الحساب: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

يقول العلماء أن التركيز يكون عادةً على جزاء المؤمنين الصالحين في الآخرة، بأنهم سيدخلون جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وينعمون بالعيش فيها، ولكن يغفل الكثيرون عن جزاء الدنيا الذي ورد بالقرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ومن ذلك:
أن الله تعالى يخرجه مما يقع فيه من أزماتٍ أو مكائد أو مشاكل، ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
ومنها زيادة المال ومضاعفته لمن ينفقه في سبيل الله على الفقراء والمساكين والمحتاجين؛ يقول تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
ومنها أن الله تعالى يهب الحكمة والعلم للمحسنين من البشر؛ يقول تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومنها تيسير سبل الهداية والعلم والمعرفة لمن يسعى لذلك مخلصا لله؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

واللهِ إنه لثوابٌ من الله عظيمٌ في الحياة الدنيا لمن يعمل الخير والإحسان، وهو مع عظمته قليلٌ إذا قُورن بثواب الآخرة؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أحبتي .. ليفعل كلٌ منا ما يشاء، لكن علينا أن نتذكر دائماً أن كل شيءٍ موثقٌ في كتابٍ عند ربنا سبحانه وتعالى (وما كان ربك نسيا)، وكل ما نفعل وكل ما نقول يكتبه رقيبٌ عتيدٌ، بل وكل ما يخطر في بالنا يعلمه علام الغيوب، ويحاسب عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فلنحسن أعمالنا وأقوالنا وظننا بالغير، ولنكثر من أعمال الخير، ومن الصدقات، ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين، فذلك كله -وإنْ قل- لا يضيع أبداً، يأتينا ثوابه في الحياة الدنيا، ويضاعف لنا أجره في الآخرة أضعافاً كثيرة (وما كان ربك نسيا).
اللهم حببنا في الخير، وحبب الخير إلى نفوسنا، اللهم أعِنّا على فعل الخير واجعلنا ممن يتسابقون على فعله، اللهم استعملنا لطاعتك وسخرنا لفعل كل ما يقربنا إليك.

https://bit.ly/39iEQVu

الجمعة، 20 مارس 2020

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا


الجمعة 20 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٣١
(لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)

تصارعني نفسي بين هاتفي ومصحفي، ﺃﺷﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺗﻼﻭﺓ ﺍﻵﻳﺎﺕ ﻓﺄﺭﻛ ﺑﻘﻠﺒﻲ ﻧﺤ ﺍﻟﻘﺁﻥ، ﻓﻴﺄﺗﻴﻨﻲ على هاتفي ﺇﺷﻌﺎﺭٌ ﺑﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﺍﺗ آب ﻭﺍﻟﻔﻴ بوك ﻭﺍﻻﻧﺴﺘﺠﺍم؛ ﻓﺘﺼﺎﺭﻋﻨﻲ ﻧﻔﺴﻲ ﻷﻟﺘﻘط ﻫﺎﺗﻔﻲ، ﻭﺃﻧﻈﺮ ﻟﻤﺼﺤﻔﻲ ﻗﺎئلاً: "ﻟﺤﺎﺕ ﻭﺃﻋﺩ ﺇﻟﻴ"!! أضع مصحفي على رفٍ بعيدٍ بكل إجلالٍ مُمنياً نفسي بأن أعود إليه بعد دقائق قليلة. أفتح هاتفي فإذا هذه ﺭﺳﺎﻟﺔٌ أقرأها، ﻭهذا ﺗﻌﻠﻴقٌ أكتبه، ﻭتلك ﻣﺸﺎﺭﻛﺔٌ في مجموعة، ﻭبعدها ﻣﻨﺸﺭٌ أُعممه وﺻﺭﺓٌ أرفعها. تمضي الدقائق مسرعةً، وتستطيل وتتمادى، ﺳﺎﻋﺔٌ تمر، وﺳﺎﻋﺔٌ أخرى تنقضي، ثم ساعةٌ ثالثةٌ تلحق بأختيها، وما يزال ﻫﺎﺗﻔﻲ ﻓﻲ ﻳﻱ، عيناي لا تفارقان شاشته، ﻭﻣﺼﺤﻔﻲ ﻓﻕ ﺍﻟﻑ ﻳﻨﺘﻈﺮ. أخجل من نفسي؛ فأتناول مصحفي من ذلك الرف البعيد، وأُمسكه بكلتا يديّ، وأقبله وكأني أعتذر له، وما كدتُ أفتحه حتى وصلني من هاتفي إشعارٌ جديدٌ بوصول رسالة، أتجاهل الإشعار، وأفتح المصحف على صفحةٍ كنتُ قد وضعتُ عليها علامةً منذ آخر مرةٍ فتحتُه فيها قبل أسبوع، أهمُ بالقراءة، فإذا هاتفٌ بداخلي يطلب مني فتح الهاتف للاطلاع على الرسالة؛ ربما تكون هامةً، ولن يستغرق الأمر سوى ثوانٍ معدودة؛ أترك المصحف وأفتح الهاتف وأقرأ الرسالة ثم أنتقل -دون أشعر- إلى رسالةٍ أخرى، ثم يأخذني الفضول لمعرفة تفاصيل هذا الخبر، فإذا بمنشورٍ من أحدهم يستفزني فأُسرع بالتعليق عليه. وهكذا يمضي الوقت وأنا على هذه الحال؛ هاتفي في يدي يشغلني، ومصحفي قريبٌ مني ينتظرني!
غفوتُ لثوانٍ معدودةٍ فرأيتُ -فيما يرى النائم- جسدي مسجىً لا حراك فيه، وأهلي حولي يبكون وينتحبون، فأدركتُ أني قد مُت، ووجدتُ نفسي أصرخ في هلع: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، فيأتيني الرد حاسماً: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. أفقتُ من غفوتي مفزوعاً أتحسس جسمي لأتأكد إن كان ما رأيته حقيقةً أم خيالاً، أنفاسي لاهثةٌ، عيناي زائغتان، صوت خفقان قلبي كأنه طبولٌ تدق من حولي، حاولتُ النهوض، فإذا بقوايّ خائرة، قدمايّ غير قادرتين على حملي، ويدايّ ترتعشان. لا أدري كم مرَّ عليّ من وقتٍ، لكني تبينتُ في نهاية الأمر أني ما زلتُ حياً ولم أمت! يا لها من لحظات رعبٍ، كيف لو كانت حقيقةً، وكان آخر ما فعلته في دنيايّ ترك مصحفي من أجل بعض تفاهاتٍ في هاتفي؟ أهكذا تكون نهايتي؟ ﻭﻳﺤ ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺇﺫﺍ ﻫﺠ ﻋﻠﻴ ﻫﺎﺩﻡ ﺍﻟﻠﺍﺕ، ﻭﻧﻉ ﻣﻨ ﺍﻟﻭﺡ، وفات وقت التوبة، وآن أوان الحسرة والندم. ﻭﻳﺤ ﻳﺎ نفسي ﺣﻴ ﻏﻴﻙ ﻳﻌﺒ ﺍﻟﺼﺍﻁ ﻛﻠﻤﺢ ﺍﻟﺒﺼ ﻧﺤ ﺟﻨﺔٍ ﻋﺿﻬﺎ ﺍﻟﺴﻤﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ، ﻭﺃﻧ ﺗﺴﻴين ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺒﺍً.
الحمد لله أنني ماﺯﻟُ إلى ﺍلآﻥ أتنفس، وما تزال أمامي فرصةٌ لمراجعة النفس والتوبة إلى الله. آهٍ لو كان موتي حقيقياً وأنا ممسكٌ بمصحفي أقرأ فيه، يا لها من موتةٍ أتمناها لنفسي.
ﻭأﻧ ﻳﺎ ﻫﺎﺗﻔﻲ ﺍﻟﻤﺸﻭﻡ: ﺑُﻌﺍً ﻟ، ﺇﻥْ ﻛﻨَ ﺃﻭ ﺳﺘﻜﻥ ﺳﺒﺒﺎً ﻓﻲ ﺷﻘﺎﺋﻲ. تساءلت بيني وبين نفسي: هل أستطيع أن أترك الهاتف وأتخلى عنه بعد أن صرتُ مدمناً عليه؟ أجد نفسي -وقد تجاوبَتْ معي- تُذكرني بيوم قررتُ الإقلاع عن التدخين، وكيف كان الأمر في بدايته صعباً، لكنه أصبح الآن جزءاً من الماضي، أسعد كلما تذكرته، وأتباهى به مع أصدقائي، وأجني ثماره اليوم صحةً وعافيةً في جسدي، أفلا أستطيع نفس الشيئ لأجني لروحي ما جنيته لجسدي؟ هل سيكون الأمر صعباً؟ نعم سيكون، لكني على يقينٍ تامٍ أن الله سبحانه وتعالى سيعينني ويساعدني. قررتُ أن أفتح المصحف بشكلٍ عشوائيٍ وأنظر ما هي أول آيةٍ ستقع عليها عيناي؛ فإذا هي الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، تفاءلت كثيراً بهذه الآية، وأحسستُ أن ربي مطلعٌ على ما في قلبي ويعلم إخلاصي، وأن هذه الآية الكريمة رسالةٌ خاصةٌ لي فتحت أمامي باب الأمل وأرشدتني إلى درب السعادة!
منذ تلك اللحظة لم أترك مصحفي يوماً؛ جعلتُ لنفسي وِرداً يومياً، واخترتُ لنفسي أن أجمع بين الحسنيين: قيام الليل وقراءة القرآن؛ فكنتُ وما زلتُ - وأدعو لنفسي بالثبات- أُصلي قيام الليل ركعتين أو أربع، وأقرأ بالتتابع ما تيسر من القرآن صفحتين أو أكثر، حتى أنني أنهيتُ قراءة القرآن الكريم كاملاً لأول مرةٍ في حياتي في فترةٍ لم تتجاوز ثلاثة أشهر، وشعرتُ بسعادةٍ غامرةٍ لم أشعر بمثلها أبداً من قبل.
وها أنا أحتفل اليوم بمرور سنتين على هذا الحال. أما هاتفي فقد خصصتُ له ساعتين فقط في اليوم لا أتجاوزهما أبداً.

أحبتي في الله .. هذه ليست كلماتي، إنها كلماتٌ كتبها واحدٌ منا، عانى مما يعاني منه الكثيرون، ثم أفاق بعد سُبات ٍعلى وعد الله (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، وتدارك أمره قبل فوات الأوان، وأراد أن ينقل تجربته لنا عسى أن نستفيد منها.
ختم ما كتب بقوله: أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله، قبل أن تأتي لحظةٌ -في أقل من لمح البصر وطرفة العين- لا يعود لنا بعدها من الأمر شيء.

من المؤسف والمؤلم أن يكون من المسلمين من لا يقرأ القرآن، وإذا قرأه لا يقرأه إلا في شهر رمضان فقط، ويمر به العمر، ويشيخ، ويقترب أجله، وربما مات ولم يقرأ المصحف كاملاً في حياته ولا مرةً واحدة! وبعضهم لا يستمع إلى القرآن إلا عرضاً بغير قصدٍ، أو عند قيامه بواجب عزاءٍ، وكأن القرآن أُنزل للموتى وليس للأحياء! لقد هجروا القرآن، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾.

يقول أهل العلم عن هذه الآية إنها تبين شكوى الرسول عليه الصلاة والسلام من قومه حين جعلوا القرآن مهجوراً بإعراضهم عنه وتركهم له. وإن الله سبحانه وتعالى، كما جعل الإنسان يحيا بالإسلام، جعل القلوب تحيا بالقرآن؛ يقول تعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾، ووصف سبحانه القرآن بالنور الذي ينير لنا الطريق ويبعدنا عن الظلمات، وشبَّه سبحانه مَن أحيا القرآنُ قلبَه بعد مواتٍ بالأرض يحييها بعد موتها؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. يقول المفسرون إن في ذلك إشارةً إلى أنه تعالى يُلَيِّن القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالتهم، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الوابل المنهمر، كذلك يهدي القلوب القاسية بالقرآن الكريم، ويولج إليها النور بعدما كانت مقفلةً مظلمةً لا يصل إليها نور الهداية.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ أي: هلّا يتدبر المعرضون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؛ فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم بالإيمان، وأفئدتهم من اليقين.
إن الإسلام جعل صلاح القلوب وشفاءها ويقظتها في مدارسة القرآن وتدبره؛ يقول تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.

يقول أحد الصالحين: القرآن معنا، لكن القليل مَن يُقبل عليه، وأقل مِن القليل مَن يتدبر معانيه، فكيف نحيا وقلوبنا لا تستمد الحياة من مصدر الحياة ومنبع النور؟ وكيف نقضي على الداء ونحن نُعرض عن الدواء؟ والعجب أنّ دواءنا معنا، وداءنا يكاد يقضي علينا؛ وكأننا كما يقول الشاعر:
كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظما
والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ
{"العيس": الإبل، "البيداء": الصحراء}

وقد سمى الله القرآن روحاً في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ لأنه تحيا به القلوب، كما أن الروح يحيا بها البدن.
وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾، لأن القرآن الكريم هو للذين آمنوا هدىً إذا لم تعتريهم الأسقام من البدع والمعاصي والشبهات، فإذا اعترتهم تلك الأسقام، فالقرآن لها شفاء، فهو يحيينا ثم يهدينا ثم يشفينا.
وعن فضل القرآن يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها].

وقيل عن القرآن الكريم:
"كثرة قراءة القرآن تربي صاحبها دون أن يشعر فيزيد إيمانُه، ويطمئن قلبُه، ويهنأ بحياته، ويقنعُ برزقه، وتظهرُ الفصاحة في حديثِه، ويخلُو حديثه من الألفاظ التي لا تليقُ بمثله، ويترك مجالس اللّغو، ويترك أموراً كان يفعلها؛ لأن قلبه قد أضاء واستنار".
"الناس تُجمع في مقامٍ واحدٍ يوم القيامة إلا حافظ القرآن فهو مع الملائكة السفرة الكرام البررة".
"لو علم المقصر مع القرآن ما الذي ينتظره من نعيمٍ حين يشرع في التلاوة ما أضاع واللهِ لحظةً واحدةً لا يقرأ فيها القرآن".
"ما رأيتُ شيئاً يغذّي العقل والروح ويحفظ الجسم ويضمن السعادة أكثر من إدامة النظر في كتاب الله تعالى".
"اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات والخيرات في الدنيا".
"أحسنُ ما يُوصَى به لعلاج القلب وقسوته العناية بالقرآن الكريم، وتدبره، والإكثار من تلاوته".
"إنّ القرآن عزيزٌ؛ لا يعطيك أسراره حتى تعطيه أعز أوقاتك، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك؛ ومَن رام أمراً عظيماً ضحى بعظيم".
"بقدر حظك من القرآن بقدر حظك من العزة؛ لأن الله وصف كتابه بأنه عزيز، فٙخُذْ حظك من القرآن تلاوةً وحفظاً وتدبراً وعملاً، وهو خير أنيسٍ وجليس".
"لا تُعطوا القرآن فضلٙ أوقاتكم، بل اعطوه أفضلَ أوقاتكم".

أحبتي .. لينظر كلٌ منا إلى حاله، ويسأل نفسه ليعرف مكانته من القرآن، ومدى قربه منه أو هجره له؛ فلتسأل نفسك: كم أقرأ من القرآن يومياً؟ كم أحفظ من القرآن؟ إلى أي مدىً أتدبر القرآن وأفهم معاني ألفاظه وأعلم أسباب نزول آياته وأُلِم بتفسيره؟ إلى أي مدىً أنا ملتزمٌ بأحكامه وآدابه، عاملاً بما أمرني الله به في محكم آياته، تاركاً ما نهاني عنه؟
لتكن أحبتي أسئلتنا واضحةً، وإجاباتنا عنها صادقةً، لنبدأ -بغير توانٍ- صفحةً جديدةً مع كتاب الله الكريم، بنيةٍ خالصةٍ، وعزمٍ أكيدٍ، موقنين بأن الله سبحانه وتعالى سيجعلنا من المحسنين ويفي بوعده لنا بالهداية: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) حين نكون بالفعل ممن قال عنهم: ﴿الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾؛ فلنجاهد في الله ونبعد أنفسنا عن الشهوات ونغالب الهوى، ونلتزم الصراط المستقيم الذي يُرشدنا إليه كتاب الله؛ ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾.
نسأل الله تعالى أن يحيي بالقرآن قلوبنا، وينير به طريقنا، ويشفينا به من كل داء، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.

https://bit.ly/3a7WfS6