السبت، 11 أبريل 2020

النذير، فرصة جديدة

الجمعة 10 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٤

(النذير، فرصة جديدة)

 

هذه قصةٌ يرويها أحد الشباب السعوديين، كتب يقول: كنا مجموعةً من الأصدقاء مستقلين سيارة واحدٍ منا، متوجهين من "الرياض" إلى "الدمام" لقضاء عطلة نهاية الأسبوع والاستمتاع بشاطئ البحر. في الطريق السريع مررنا بإحدى اللوحات الإرشادية على جانب الطريق؛ فقرأها أصدقائي «الدمام 300 كيلو»، فقلتُ لهم: "أنا أراها «جهنم 300 كيلو»!"، اعتبروها نكتةً وصاروا يضحكون عليها. مرَّ بعض الوقت، كلهم يتسامرون ويتضاحكون، أما أنا فقد كنتُ محتاراً ومتعجباً مما قرأته مكتوباً في اللوحة! قال أحدهم ساخراً: "هذه لوحةٌ ثانيةٌ «الدمام 200 كيلو»، كيف قرأتَها أنت؟!"، قلتُ: "أنا أراها «جهنم 200 كيلو»"، فضحكوا وقالوا: "أمجنونٌ أنت؟!" أقسمتُ لهم وقلتُ: "واللهِ العظيم إني أرى المكتوب أمامي «جهنم 200 كيلو»"!! فضحكوا مثل المرة الأولى، وقالوا: "لقد أزعجتنا"، سكتُ وأنا مقهورٌ، ورحتُ أفكر؛ فهذا بالفعل أمرٌ غريب! مع استمرار الضحك، جاءت اللوحة الثالثة، قال الشباب: "ما بقي إلا قليل.. «الدمام 100 كيلو»"، أقسمتُ لهم مرةً أخرى وقلتُ: "واللهِ الذي لا إله إلا هو إني أراها «جهنم 100 كيلو»"!! قالوا: "آذيتنا من أول السفرة!!"، قلتُ: "أنزلوني هنا أعود إلى ""الرياض!!"، قالوا: "هل أنت مجنون؟!"، قلتُ: "أنزلوني أرجع!! واللهِ لن أكمل معكم الطريق!!". عندما وجدوني مُصِرِّاً على النزول أنزلوني؛ فقطعتُ الطريق وتوجهت إلى الجانب الآخر منه، طريق العودة إلى "الرياض"!!ظللتُ واقفاً فترةً طويلةً أؤشر للسيارات عسى أن يقف لي أحدهم، تمر السيارات مسرعةً، لا أحد ينظر إليّ، كأني غير موجود!! إلى أن استجاب لإشارتي سائق سيارة نقلٍ كبيرةٍ أوقف سيارته ودعاني للركوب فركبتُ معه، كان صامتاً لا يتكلم تبدو على وجهه علامات الحزن، سألته: "لماذا تبدو حزيناً يا أخي؟ ألا تريد أن نتسامر لنقطع هذه الطريق؟ إنها طريقٌ طويلة"، قال: "اعذرني؛ فقد شاهدتُ قبل قليلٍ حادثاً، واللهِ ما رأيتُ أبشع منه في حياتي"، قلتُ متسائلاً: "عائلةٌ أم شباب؟"، قال: "شبابٌ، سيارتهم ..."، وذكر مواصفات السيارة التي يستقلها أصدقائي!! صُعقتُ وقلتُ وأنا غير مصدقٍ ما سمعتُ للتو: "أسألك بالله؟"، قال: "واللهِ العظيم هذا ما رأيتُه". فعلمتُ أن الله قد أخذ أرواح أصدقائي بعد أن نزلتُ من السيارة، وأكملوا هُم طريقهم. حمدتُ الله أن أنقذني من بينهم، ولا أدري هل هُم إلى جهنم كما كنتُ أقرأ في اللوحات الإرشادية؟! لا أتمنى ذلك؛ فهم أصدقائي، إلا أنني أعرف كيف كانت معاصيهم! غفر الله لهم.

اللهم لك الحمد؛ فقد كنتُ خرجتُ معهم من "الرياض"، وما في بالي أن أعمل طاعةً لله، ولكن الله أعطاني فرصةً أخرى، وأرسل إليّ نذيراً حتى أعود وأنضم إلى قوافل العائدين التائبين؛ فله الفضل والمنة!

 

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى عن نفسه: ﴿إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرينَ﴾، ويقول تعالى عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿إِن أَنتَ إِلّا نَذيرٌ﴾، ويقول تعالى عن الأنبياء والرسل: ﴿وَما نُرسِلُ المُرسَلينَ إِلّا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ﴾، كما أن مِن الصحابة رضي الله عنهم مَن كانوا ينذرون؛ يقول تعالى: ﴿وَما كانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾، بل إن مِن المنذرين مَن هُم من غير البشر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذ صَرَفنا إِلَيكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَستَمِعونَ القُرآنَ فَلَمّا حَضَروهُ قالوا أَنصِتوا فَلَمّا قُضِيَ وَلَّوا إِلى قَومِهِم مُنذِرينَ﴾. ووصف الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم بأنه نذير؛ يقول تعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ عَلى عَبدِهِ لِيَكونَ لِلعالَمينَ نَذيرًا﴾، والآيات والمعجزات الربانية وصفها المولى عزَّ وجلَّ بأنها نُّذُرُ؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَد جاءَ آلَ فِرعَونَ النُّذُرُ﴾ وذلك حين أرسل الله إلى آل فرعون سيدنا موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات القاهرات.

 

وكما في القصة التي رواها الشاب كان (النذير، فرصة جديدة) له ليصلح من نفسه ويعود إلى الطريق المستقيم.

أفلا يكون وباء "كورونا" الذي يجتاح العالم هذه الأيام نذيراً للبشرية جمعاء، وفرصةً جديدةً للإصلاح؟

لِمَ لا وأقل من ذلك كثيراً يقول الناس عنه أنه نذير؟ يقول الشاعر:

أليسَ المشيبُ نذيرُ الإِلهِ؟

ومَن ذا يُسَوِّدُ وجهَ النذير

 

يقول أهل العلم إن الكوارث والمصائب نُذُرٌ تُحفِّزُ أهل النُهى للاتعاظ والاعتبار، ثم الإنابة والإخبات لله عزَّ وجلَّ. إن ڤيروس "كورونا" ليس بلاءً، وإنما هو ابتلاءٌ؛ فمن تاب وأناب، واستغفر وصبر وأخذ بأسباب الوقاية، كان له رحمةٌ، وعليه نعمةٌ وسلام، ومن أدبر واستكبر، وأصرَّ وعاند، كان له عذابٌ، وعليه نِقمة.

 

تصور بعضهم ڤيروس "كورونا" وهو يخاطب الناس فيقول: لقد أرسلني الله إليكم نذيراً مرسلاً للناس جميعاً؛ أما الكافرون فلأريهم ضعفهم وعجزهم وهُم في أوج قوتهم، حجةً من الله قائمةً عليهم، ولله الحجة البالغة، وسبحان الله ربما كنتُ سبباً في إيمانهم وعودتهم إلى الإسلام؛ الدين الذي ارتضاه الله للناس أجمعين. وأما المؤمنون فأقول لهم: أنا لستُ مرضاً لأجسادكم بل أنا دواءٌ لقلوبكم الغافلة، أنا مرسلٌ من قِبل حبيبكم وطبيبكم، أنا علاجٌ لمرض غفلتكم وبُعدكم عن الله. أنا آيةٌ من آيات الله أُرسلتُ للمؤمنين ﴿لِيَزدادوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِم﴾، ولأصحح لهم بوصلة التوجه إلى الله؛ فلقد تعلقت القلوب بالدنيا تعلقاً صدها عن طاعة الله وعن ذكره، وأوقعها في المعاصي والفجور والغفلة، لقد حُرمتم الجمعة والجماعات، وأُغلقت المساجد، وخلا بيت الله الحرام من الطائفين والعاكفين الركع السجود، وتوقفت العمرة، ومُنع المسلمون من دخول مسجد رسول الله، وأُلغيت فريضة الحج، وكادت فريضة الصوم أن تتعطل؛ فإن لم تستفق القلوب مع كل هذا البلاء فمتى تستفيق؟! سأرحل عنكم حين يأذن مَن أرسلني إليكم نذيراً فقد جئتُ بأمره، وأغادر بأمره، فلا تكونوا من الذين ذكرهم الحق سبحانه في قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾.

 

قال الشاعر عن ڤيروس "كورونا":

الــمـوتُ يـحـصـدُ آلافــاً مــن الـبـشرِ

فـالأرضُ فـي هَـرَج ٍمن وطْأةِ الخَــطَرِ

خــوفُ الـمـنيَّةِ هـزَّ الـنَّاسَ أسـكرهـمْ

مـن شـدَّة الـرُّعبِ والأوهــامِ والـحَذَرِ

تــأتــي الــكــوارثُ أســتــاذا يـنـبِّـهنا

إذا ابـتـعـدنا عـــن الـتّـفـكيرِ والـنَّـظرِ

تــأتــي الــكــوارثُ آيـــاتٍ تُـحـفِّـزُنـا

نــحــو الإنــابـةِ والإخــبـاتِ والـعِـبَـرِ

إنَّ الــوبـاءَ الـــذي بــثَّ الـمـآتم فـي

كـــلِّ الـشـعـوبِ نـذيـرٌ أبــلـغُ الــنُّـذُرِ

 

وصاغ بعضهم الأمر في شكل الحوار التالي:

إذا سألوا: مِن أين جاء هذا الوباء؟ قل: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ ‏بمعاصيكم وسيئاتكم. فإن سألوا: إلى أين المفر؟ قل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ بالرجوع السريع إلى الله سبحانه وتعالى. وإن سألوا: وماذا نفعل؟ قل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وذلك بالأخذ بكل طرق الوقاية الممكنة وأساليب العلاج المتاحة، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بالرجوع إلى الله والتوبة النصوح من جميع المعاصي والسيئات فهذا طريق الفلاح. فإذا قالوا: لقد ضاقت منا الصدور، قل: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ صبرٌ بغير ضجرٍ، ودعاءٌ وتضرعٌ إلى الله سبحانه وتعالى واستعانةٌ به، مع اليقين بأن الله يختار لنا الخير دائماً مهما بدا لنا غير ذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.

 

أحبتي .. لا أحد منا يدري متى نهايته، وڤيروس "كورونا" هذا الكائن الصغير الذي لا يُرى بالعين المجردة جاء لنا لينذرنا أن الموت قريبٌ منا، وهو أقرب إلينا مما نتصور، صحيحٌ أن لكل أجلٍ كتاب، وأنه لن يموت الإنسان بهذا الڤيروس أو بغيره من الأسباب إلا حينما يحين أجله، لكن الصحيح أيضاً أن علينا جميعاً أن ننتبه إلى هذا النذير فنسارع إلى التزود بما ينفعنا يوم القيامة ويرفع من قدرنا يوم الحساب، حين لا ينفع نفساً إلا إيمانها وما قدمت من عملٍ صالح. فليكن هذا (النذير، فرصة جديدة) لنا، ولنعمل على أن نلقى الله في أي وقتٍ على الطاعة والتقوى. ليس عيباً أن نخطئ، لكن العيب أن نستمر في الخطأ ونتمادى فيه؛ كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

أحذركم أحبتي وأحذر نفسي من أن نكون من اللاعبين اللاهية قلوبهم الذين يقول الله تعالى عنهم: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، ولنأخذ هذا النذير باهتمامٍ وجدية؛ يقول تعالى: ﴿هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾، فليس لنا حجةٌ عند المولى عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/34orTbZ

 


حقيقة التوكل على الله

الجمعة 3 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٣

(حقيقة التوكل على الله)

 

كنا في مسجدنا، وكان الوقت بعد صلاة الفجر -وقت أن كنا نصلي الجمعة والجماعة في المساجد، أعاد الله لنا هذه النعمة ولا حرمنا منها- وكان من المعتاد أن يصافح بعضنا بعضاً بعد انتهاء الصلاة؛ وفي ذهننا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تحث على المصافحة؛ ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ المُؤمِنَ إذا لَقِيَ المُؤمِنَ فسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأخَذَ بِيَدِهِ فَصافَحَهُ تَناثَرَتْ خَطاياهُما كَما يَتَناثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ]، إلا في ذلك اليوم؛ مد أحد الإخوة الأفاضل يده لي لمصافحتي، فلم أصافحه ووضعت يدي على صدري مع ابتسامة ترضيةٍ ورد للتحية بالكلام، وقلتُ له مداعباً: "سلام كورونا!"، تغير وجهه وسألني: "وهل تراني مصاباً بهذا الڤيروس؟"، قلتُ بسرعة: "أبعد الله الشر عنك، بل أريد أن أجنبك العدوى، خوفاً عليك، وحباً فيك"، سألني باستغراب: "وهل أنت مصاب؟"، قلت له: "قد أكون حاملاً للڤيروس، ولم تظهر أعراضه عليّ؛ فأخشى أن ينتقل إليك مني"، هدأ قليلاً وقال: "ألست تتوضأ للصلاة؟ هذا يكفي"، قلتُ: "بلى، لكن الالتزام بما يقوله الخبراء مهمٌ، فهُم أهل الذكر الذين أمرنا الله سبحانه وتعالى بالرجوع إليهم؛ بقوله: ﴿فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ﴾"، قال: "توكل على الله يا رجل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ﴾"، قلتُ له: "لكن التوكل عليه سبحانه غير التواكل، فالتوكل الحق يدعونا للأخذ بالأسباب، ولنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم حين قال رجلٌ يا رسولَ اللهِ: أعقِلُها وأتوكَّلُ؟ أو أُطلقُها وأتوكَّلُ؟ قال: [اعقِلها وتوكَّلْ]، أي اجمع بين الأمرين، اعقل الناقة، وتوكل على الله". سكت صديقي، وما زال شيءٌ من علامات عدم الرضا بادياً على وجهه، أما أنا فانصرفت!

 

أحبتي في الله .. مع ذكر التوكل على الله تحضرني قصةٌ شائعة عن رجلٍ متعبدٍ يعيش في قريةٍ، كان قدوةً للجميع لتدينه وتقواه، وكان كل أهل القرية يسألونه في أمور دينهم، ويتخذونه نموذجاً يُحتذى به في الإيمان بالله. في أحد الأيام حلَّ طوفانٌ بالقرية أغرقها بالماء، ولم يستطع أحدٌ النجاة إلا من كان معه قاربٌ؛ فمر بعض أهل القرية بقاربهم على بيت المتعبد لينقذوه، فقال لهم: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ثم مر أناسٌ آخرون؛ فقال لهم نفس الكلام: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". ومرت آخر أسرةٍ تحاول النجاة وقالوا للمتعبد: "اركب معنا، نحن آخر مَن في القرية فإن لم ترحل معنا ستغرق"، فأجاب: "لا داعي، الله سينقذني، اذهبوا". انتهى الطوفان، وتجمع من بقي من أهل القرية فوجدوا جثة المتعبد، فثار الجدل بين الناس وتساءل بعضهم: "أين الله؟ لماذا لم ينقذ عبده المؤمن المتعبد؟"، وكانت فتنةً كبيرةً كادت تعصف بإيمان البعض، حتى جاء شابٌ متعلمٌ واعٍ وقال: "مَن قال لكم إن الله لم ينقذه؟ إن الله أنقذه ثلاث مراتٍ عندما أرسل له ثلاث أسرٍ لمساعدته، لكنه لم يُرد أن ينجو!".

 

هناك فرقٌ كبيرٌ بين التواكل، والتوكل على الله، (حقيقة التوكل على الله) أنه مقرونٌ دائماً بالأخذ بالأسباب، ونحن مأمورون بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ﴾، رغم تسليمنا جميعاً بأن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على نصر المؤمنين بغير قتال.

فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لو لم يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب ما تحمل ما تحمل في سبيل نشر الدعوة، وما غزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وقيل خمساً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين، وقيل تسعاً وعشرين، هذا غير السرايا التي بلغت نحو الأربعين إلى السبعين. «الغزوة ما شارك فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه، والسرية هي التي لم يشارك فيها ويكون العدد فيها في الغالب قليلاً».

ولقد أخذ الأنبياء جميعهم بالأسباب؛ حين علموا (حقيقة التوكل على الله)؛ فهذا نوحٌ عليه السلام صنع السفينة، والله قادرٌ على أن ينجيه ومن معه من المؤمنين بغير سفينةٍ، ولكن الله سبحانه يُعَلِّم عباده الأخذ بالأسباب.

وهذه السَّيدة مريم، يطلب الله سبحانه وتعالى منها أن تأخذ بالأسباب، وهي في أشدِّ حالات الضعف والوهن، وقت الولادة؛ قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ وكان سبحانه وتعالى قادراً على أن يُسقط عليها الرطب بغير أن تُضطر إلى هز جزع النخلة، لكنها سُنة الله في كونه؛ الأخذ بالأسباب.

 

يقول العلماء إن الأخذ بالأسباب مطلبٌ شرعيٌ؛ فالذي يزعم أنه متوكلٌ ولا يأخذ بالأسباب يُعد مخالفاً للشرع، فالتوكل يجمع الأمرين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

 

وعن علاقة التوكل على الله بجائحة "كورونا"، أعجبني قول أحدهم: إذا كان احتمال موتك بڤيروس "كورونا" هو ١٪، واحتمال موتك في أية لحظة -بهذا الڤيروس أو بغيره- هو ١٠٠٪، إذن جدد إيمانك، واتقِ الله، وتوكل عليه؛ فمن توكل على الله كفاه؛ يقول تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ فالناجي من هذا البلاء ليس هو مَن ينقضي الوباء دون أن يمرض، ولكنَّ الناجي هو من فهم الرسالة وسارع بالتوبة، وأعاد ترتيب حياته. الناجي هو من نظر حوله فأيقن أن الأمان ليس في مالٍ يكنزه، ولا منصبٍ مرموقٍ يصل إليه، ولا في دولةٍ متقدمةٍ يعيش فيها، ولا في أسرةٍ حاكمةٍ ينتمي إليها، ولكن الأمان الحقيقي في العودة إلى الله، حتى إذا رفعنا أيدينا إلى السماء وقلنا -كما ورد في الأثر-: يا رب؛ قال الله تبارك وتعالى: لبيك عبدي، سَلْ تُعْطَ. وصدق من قال: وإذا الشدائدُ أقبلت بجنودِها، والدهرُ من بعد المَسرةِ أوجعك، إرفع يديك إلى السماءِ ففوقَها، ربٌ إذا ناديتَه ما ضيعك.

 

وهذه كلماتٌ طيباتٌ عن أسبابٍ يمكن لنا نأخذ بها، يقول كاتبها: مُنعنا من الصلاة في المسجد، ولم نُمنع من الصلاة في البيوت. مُنعنا من حلقات حفظ وتلاوة القرآن في المساجد، ولم نُمنع من حفظ وتلاوة القرآن الكريم في بيوتنا. مُنعنا من الاختلاط بالبشر، لنأنس برب البشر نتقرب إليه نناجيه ونذل له ونخشع وننكسر بين يديه. مُنعنا من الخروج، لتكون لدينا الفرصة كاملةً لنتعبد في البيوت فلا عذر لمن كانت حجتهم ضيق الوقت. ربنا إننا لا نخشى ڤيروس "كورونا" ولا غيره؛ فما هو إلا خلقٌ من خلقك، يأتمر بأمرك، وينتهي بنهيك، ليس المراد منه، غسل الأيدي وتنظيفها، وإنما غسل القلوب وتطهيرها بالتوبة النصوح والاستغفار والتضرع إلى الله والندم؛ يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾. ألم يأنِ لمدمن الأغاني أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمدمن المسلسلات والأفلام والنظر إلى النساء العاريات أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن ظلم أن يوقف ظلمه ويتعظ؟ ألم يأنِ لمن أكل أموال الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك الصلاة أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لقاطع الرحم أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لتارك محارمه يمشين في الشارع بملابس ضيقةٍ تكشف مفاتنهن أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لمخاصم الناس أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ للنائم عن صلاة الفجر، أن يكف ويتعظ؟ ألم يأنِ لنا جميعاً ترك الذنوب صغيرها وكبيرها، وأن نكف ونتعظ؟ أيها الناس أروا الله من أنفسكم خيراً، اتقوا الله، أدوا عباداته كما أمركم، وليس تبعاً لأهوائكم، توقفوا عن الظلم وعن تأييد الظالمين، ردوا الحقوق إلى أصحابها، ورددوا في أنفسكم قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

 

ومن أفضل ما كُتب شعراً عن "كورونا":

ما لي أراكَ من الوبا مفتونا

وتكادُ مِن رعبٍ تُجنَ جُنونا!

إن كان موتُك لا محالةَ آتياً

فلِمَ تخافُ الموتَ من "كورونا"؟!

قد ماتَ بالطاعونِ قومٌ قبلَنا

ما بالُ مَن لم يُدرك الطاعونا؟!

مَن لم يمت بالطعنِ ماتَ بغيرِه

فالموتُ حقٌ والورى فانونا!

إنّ الذي كتبَ البقاءَ لنفسِه

كتبَ الفناءَ على الورى قانونا!

لو كان ذخرُكَ صالحاً ما خِفتَه

لكنْ حملتَ من الذنوبِ ديونا!

اللهُ أنذرَ بالوباءِ عبادَه

اللهُ حرَّكَ بالبلاءِ سُكونا!

سبحانَ مَن يُنجي العبادَ بفضلِه

ويقرُ منهم أنفساً وعُيونا!

فاعملْ لنفسِك قبلَ موتِك صالحاً

فالمتقونَ له هُم الناجونا!

 

وكتب أحدهم يقول إن أحرف "كورونا" ترشدنا إلى تحسين علاقتنا بالله سبحانه وتعالى ليكرمنا برفع البلاء عنا:

«ك» كونوا واثقين بلطف ورحمة رب الأرض والسماء وتوكلوا عليه

«و» واصلوا نهاركم وليلكم بالتضرع إليه بالدعاء والتذلل بين يديه

«ر» راجعوا تاريخ الأمم السابقة لتعرفوا مقاصد سنن الابتلاء

«و» وظفوا طاقاتكم وجهودكم للتقرب من الله وللتخفيف عن الفقراء

«ن» نظفوا قلوبكم من الكبْر والحسد والبغضاء والركون إلى الظالمين

«ا» الزموا الصلاة والاستغفار وأكثروا من الصدقات ليرفع الله البلاء والوباء

أما "كوفيد-19"؛ فإنّ حروفها تعني:

«ك» كل، «و» واحد، «ف» فينا، «ي» يلزم، «د» داره، «19» يوم. "وهذا أخذٌ بالأسباب"!

 

أحبتي .. ولأن (حقيقة التوكل على الله) أن نكون إيجابيين، ونعمل ولا نتواكل؛ فقد أطلقتُ حملةً تحت شعار "سأترك معصيتي لتعلوَ أمتي"، قلتُ فيها أن على كلٍ منا أن يبدأ بإصلاح نفسه؛ بترك ذنبٍ واحدٍ على الأقل، يكون مقيماً عليه منذ زمن، كعدم صلاة الفجر، أو ترك الصلاة مع جماعة المسلمين، أو تأخير الصلوات، أو عدم إخراج الزكاة، أو قلة التصدق، أو هجر القرآن الكريم، أو النظر إلى المحرمات، أو التقصير في حق الوالدين، أو قطيعة الأرحام، أو الغيبة، أو النميمة، أو إساءة الظن، أو السرقة، أو الرشوة، أو أكل المال بغير حق، أو ظلم الغير، أو نصرة الظالم، أو التقاعس عن نُصرة المظلوم، أو الكذب والافتراء على الغير، أو شهادة الزور، أو رمي المحصنات، أو غير ذلك. ثم ليعاهد الله سبحانه أن يترك هذا الذنب -أو الذنوب- حتى يُبعد الله الشر عنه، ويُفرِّج الغمة عن الأمة. فلو ترك كل واحدٍ منا ولو ذنباً واحداً، وقال في نفسه: "معصيتي سببٌ في محنة أمتي، وأُشهد الله على تركها طمعاً في رضاه، وخوفاً من عقابه، وابتغاءً لما عنده من الثواب" فإن الله سبحانه وتعالى سيفرج عنا بعفوه ولطفه، عندما يرانا قد توكلنا عليه، وأخذنا بالأسباب، وعُدنا إليه، والتزمنا بتطبيق شرعه؛ انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة.

ما تزال الدعوة للانضمام إلى هذه الحملة مستمرةً؛ فشاركوا فيها يرحمنا ويرحمكم الله.

ولنتوكل على الله حق التوكل، وندعو الله سبحانه وتعالى ونتضرع إليه؛ وهو القائل: ﴿فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا﴾، ولنراجع علاقتنا بالله عزَّ وجلَّ، نجبر ما انكسر منها، ونقوي ما ضعف، ونزيد ما هو قويٌ منها قوةً، مع الأخذ بالأسباب كما أُمرنا.

هيا أحبتي نشمر عن سواعد الجد، ونرفع رصيدنا من جميع أنواع الخير والبر والتقوى، وهي التي سماها رسول الله صلى الله وعليه وسلم صنائع المعروف في قوله: [صَنَائِعُ الْـمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَالْآفَاتِ وَالْـهَلَكَاتِ، وَأَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ].

 

https://bit.ly/3aBwbyS


الجمعة، 27 مارس 2020

وما كان ربك نسيا/2


الجمعة 27 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٣٢
(وما كان ربك نسيا)

قصةٌ حقيقيةٌ رائعةٌ ومؤثرةٌ جداً في فعل الخير وقعت أحداثها في الجزائر؛ يقول أحد الشيوخ:
في سنة 1994م، مَرضتْ ابنتي، وكان عمرها أربعة عشر عاماً، فوجهني الأطباء لنقلها إلى مستشفى عين النعجة بالجزائر العاصمة، توكلتُ على الله وسافرتُ إلى العاصمة، وصلتُ إلى المستشفى، سألتُ عن الجناح المقصود، فوجدته بعيداً، ولم أكن أعلم أن المستشفى كبيرٌ إلى هذه الدرجة، مدينةٌ طبيةٌ متكاملةٌ يسير فيها الراكب بسيارته، فكيف بشيخٍ مثلي!؟ مشيتُ قليلاً، ولم أجد من يساعدني؛ فتَعَبُ الشيخوخة، وتَعَبُ السفر، وتَعَبُ الحاجة، وتَعَبُ المرض الذي ألَمَّ بابنتي، جميعها ابتلاءاتٌ أرهقتني، جلستُ لأستريح في مكانٍ مخصصٍ لصف السيارات. وكُنت بين الفينة والأخرى أذرف الدمع، وأتوارى عن ابنتي وعن الناس كي لا يرونني باكياً. وبينما أنا كذلك، وإذا بسيارةٍ فاخرةٍ تصف بجواري، خرج منها شابٌ طويل القامة بهي المُحَيَّا، يرتدي مئزراً أبيضاً، بطاقته المهنية تتدلى على صدره، ثم توجه نحوي، وسألني عن حاجتي، فخنقتني العبرات ولم أقدر على الكلام، سألني: "يا عم هل معك رسالة طبية؟ أعطني بطاقة هويتك". يقول الشيخ: لمّا سَلَّمْتُ البطاقة للشاب، راح يتأملني من رأسي إلى أخمص قدمي، وقد بدت عليه علامات الدهشة والاستغراب!! ثم أرسل تنهيدةً من أعماق جوفه، وجلس بجانبي، وراح يتفرس في ملامحي تارةً، ويُقَبِّلُ جبيني تارةً أخرى، ولم يتمالك نفسه وذرفت عيناه بالدموع!!
سألتُه: "ما بك يا ولدي!؟ هل أصابك مكروه لا قدّر الله!؟"، قال: "لا، وإنما أشفقت لحالك"، ثم حَمَلَ ابنتي بين يديه، وقال: "تعال يا عم معي". دخل الشاب أروقة جناحٍ طبيٍ متخصصٍ، ووَضَعَ الطفلة على كرسيٍ متحركٍ، وأخذ يأمر وينهي، والكل يُحيّيه تحية تقديرٍ واحترامٍ ويتودد إليه؛ يبدو أنه صاحب مكانةٍ وشأنٍ في هذا المستشفى. وراح يطوف بالبنت بين قاعة الاستعجالات، ومخبر التحاليل، وجناح التصوير بالأشعة، وقسم التخدير والإنعاش، والجراحة العامة. وفي حدود الساعة الرابعة صباحاً كانت البنت قد أُجريت لها عمليةٌ جراحيةٌ ناجحةٌ واستعادت وعيها!! حمدتُ الله، وشكرتُ الشاب الذي كان لي ظهيراً وسنداً ومعيناً، وقلتُ له: "سيبقى خيرك يطوق عنقي ما حييت"؛ فقد كان كل مَن في المستشفى يخدمني خدمةً استغربتُ من مستواها الراقي جداً، ولم أسمع بها سوى في مستشفيات الدول المتقدمة في هذا المجال!! وبعد ثلاثة أيامٍ، أمرني الطبيب الذي أجرى العملية الجراحية لابنتي بمغادرة المستشفى؛ فطلب مني صاحبي الذي التقيته أول يومٍ أن تمكث الطفلة في بيته أسبوعاً آخر حتى تسترد عافيتها، وتستكمل نقاهتها، لأن السفر متعبٌ والمسافة بعيدة!! استحييتُ من كرمه وخيره، لكني استجبتُ له، ومكثتُ في ضيافته سَبع ليالٍ، وكانت زوجته تخدم ابنتي، وكان هو وأولاده يترفقون بي وبابنتي، ويعاملوننا بمنتهى الرقة واللطف والأدب. وفي الليلة السابعة، لمّا وضعوا الطعام على المائدة، وتحلقوا للعَشاء، امتنعتُ عن الطعام، وبقيتُ صامتاً لا أتكلم، قال لي الرجل: "كُلْ يا عم، كُلْ، ما ألمَّ بك!؟"، قلتُ وبصوتٍ مرتفعٍ ونبرةٍ حادةٍ: "واللهِ لن أذوق لكم طعاماً إلا إذا أخبرتموني مَن أنتم؟ ومَن تكونون؟ أنتَ تخدمني طوال أسبوعٍ كاملٍ، وأنا لا أعرفك. تخدمني وتُبالغ في إكرامي!! وأنا لم ألتقِ بك سوى مرةٍ واحدةٍ في المستشفى!! مَن أنت!؟"، قال: "يا عم كُلْ، هيا كُلْ وبعد العشاء أُخبرك"، قلتُ: "واللهِ لن تدخل فمي لقمةٌ واحدةٌ، ولن آكل طعامك إنْ لم تخبرني من أنت؟ ومن تكون؟"، حاول الرجل التهرب من الجواب لكنه -وأمام إصراري- أطرق برأسه قليلاً، ثم قال بنبرةٍ خافتةٍ: "يا عم إن كنتَ تَذْكُر؛ فأنا ذاك الطفل الذي أعطيتَه خمسة دنانير سنة 1964م عندما كنتُ أجلس خلفك في الحافلة. أنا ابن فلانٍ ابن فلان"، قلتُ: "آه تذكرتُ؛ أنت ابن فلانٍ من قريتنا!! نعم، نعم، لقد تذكرتُ؛ يومها كنتُ في الحافلة متجهاً من قريتنا الفلاحية إلى إحدى المدن القريبة، وكان يجلس خلفي صَبِّيان عمرهما لا يتجاوز، على ما يبدو، سبعة أعوامٍ، سمعتُ أحدهما يحدث الآخر قائلاً له: هذا العام شحت السماء، والخريف يوشك أن ينصرم، والأرض لا تُنبت شيئاً، وأبي فلاحٌ فقيرٌ ليس لديه ما ينفقه عليَّ، ولذلك فأنا مضطرٌ لترك مقاعد الدراسة هذا العام!! لمّا سمعتُ الطفلين يتحدثان عن الفقر والحرمان بهذا الوعي الذي لا يدركه إلا الكبار، تأثرتُ وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت!! وعلى الفور أخرجتُ من جيبي خمسة دنانير ونَاولتها للصبي، وقلتُ له: خذ هذه الدنانير -والمبلغ آنذاك يفي لشراء الأدوات المدرسية كلها- رَفَضَ الصبي أخذ الدنانير، فقلتُ له: ولماذا يا ولدي!؟ قال: ربما يظن أبي أني سرقتُها؟ قلتُ: قل له فلانٌ بن فلانٍ أعطاني إيّاها لشراء الأدوات المدرسية، فإن أباك يعرفني تمام المعرفة، تهللت أسارير الطفل وتناول الدنانير الخمسة، وابتسم ابتسامة الرضا والسرور ودسها في جيبه، ونسيتُ من يومها هذا الموقف مع ذاك الصبي"، قال الرجل: "فأنا يا عم ذاك الصبي، بفضل الله، ثم بفضل هذه الدنانير الزهيدة لما أصبحتُ اليوم بروفيسوراً في أكبر مستشفى بالجزائر، وها قد التقينا بعد أنْ منَّ الله علي بأعلى المراتب في أنبل وأشرف المهن، فقد افترقنا سنة 1964م وها نحن نلتقي سنة 1994م بعد ثلاثين عاماً بالتمام والكمال!! والحمد لله أنْ قدرني لأرد لك بعض الجميل؛ يا عم الدنانير الخمسة التي أعطيتَها لي صنعت مني بروفيسوراً في الطب، يا عم واللهِ لو أعطاني أحدٌ كنوز الدنيا ما فرحتُ بها الآن كفرحي يومها بتلك الدنانير الزهيدة. يا عم أفضالك عليَّ كبيرة، واللهِ مهما فعلتُ فلن أرد لك الجميل؛ فأسأل الله أن يجازيك خير الجزاء".

أحبتي في الله .. يصف الملائكة الكرام المولى عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم بقولهم: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. يقول أهل العلم إن الإنسان من طبيعته النسيان؛ لأنه لو تذكَّر ما ألمَّ به من آلامٍ وأحزانٍ، وما أحاطه من مكايد وشدائد، لكَرِهَ العيش، وسَئِم الحياة، إنما رحمه الله فجعَلَه يتذكَّر القريب، فإذا ضربه الزمن بأيامه ولياليه، فإن الأيام تنتهي، والساعات تنقضي، والجروح تندمِلُ، والأحزان تنمحي، ويُشغَلُ الإنسان بحاضره، لكن ما ينساه الإنسان لا ينساه الملِك الديَّان. والإنسان مراقَبٌ على مدار اللحظة، الكتاب الإلهي ينسخ ما يفعل، ويسجِّلُ ما يترك حتى يوم العرض الأكبر؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾، هناك كتابٌ ينطق بالحق ويخبر بكل ما يعمل الإنسان؛ يقول تعالى:﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، عملُك يُنسَخُ ويُحفَظُ في مكان مأمون لا يتلف ولا يسرق، ولا يصادر، ولا يتغير؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، فهو تعالى عالمٌ بكل شيءٍ، بيده كل شيءٍ، بكل شيءٍ بصير، وعلى كل شيءٍ قدير، يخلق ما يشاء ويختار، وكل شيءٍ عنده بمقدار؛ يقول تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾؛ أي أن أعمالنا تُحصَى علينا، يستوي في ذلك كبيرُها وصغيرها، جليلُها ودقيقُها، سرُّها وجهرها، إحصاءٌ دقيقٌ، وحفظٌ وثيق؛ يقول تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾، ويقول: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾. وفي يوم القيامة وبين يدي الله تعالى سيُفاجَأُ الخلق بهذه الأعمال مكتوبةً يقرؤونها، ومسطورةً يشهدونها، وبارزةً يُحسونها، فيُسقَط في أيديهم، وتعلو الحسرة وجوههم، ويقولون كما قال القرآن: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
وتؤكد آيات القرآن الكريم على أن جميع المخلوقات تقع تحت سمع الله وبصره، وإحاطته وعلمه، صغرت هذه المخلوقات أم كبرت، رأتها العيون أو اختفت عنها ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. والله تعالى يحصي للإنسان حتى آثاره ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾.
 ثم يكون الحساب: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

يقول العلماء أن التركيز يكون عادةً على جزاء المؤمنين الصالحين في الآخرة، بأنهم سيدخلون جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وينعمون بالعيش فيها، ولكن يغفل الكثيرون عن جزاء الدنيا الذي ورد بالقرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ومن ذلك:
أن الله تعالى يخرجه مما يقع فيه من أزماتٍ أو مكائد أو مشاكل، ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
ومنها زيادة المال ومضاعفته لمن ينفقه في سبيل الله على الفقراء والمساكين والمحتاجين؛ يقول تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
ومنها أن الله تعالى يهب الحكمة والعلم للمحسنين من البشر؛ يقول تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومنها تيسير سبل الهداية والعلم والمعرفة لمن يسعى لذلك مخلصا لله؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

واللهِ إنه لثوابٌ من الله عظيمٌ في الحياة الدنيا لمن يعمل الخير والإحسان، وهو مع عظمته قليلٌ إذا قُورن بثواب الآخرة؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أحبتي .. ليفعل كلٌ منا ما يشاء، لكن علينا أن نتذكر دائماً أن كل شيءٍ موثقٌ في كتابٍ عند ربنا سبحانه وتعالى (وما كان ربك نسيا)، وكل ما نفعل وكل ما نقول يكتبه رقيبٌ عتيدٌ، بل وكل ما يخطر في بالنا يعلمه علام الغيوب، ويحاسب عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فلنحسن أعمالنا وأقوالنا وظننا بالغير، ولنكثر من أعمال الخير، ومن الصدقات، ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين، فذلك كله -وإنْ قل- لا يضيع أبداً، يأتينا ثوابه في الحياة الدنيا، ويضاعف لنا أجره في الآخرة أضعافاً كثيرة (وما كان ربك نسيا).
اللهم حببنا في الخير، وحبب الخير إلى نفوسنا، اللهم أعِنّا على فعل الخير واجعلنا ممن يتسابقون على فعله، اللهم استعملنا لطاعتك وسخرنا لفعل كل ما يقربنا إليك.

https://bit.ly/39iEQVu

الجمعة، 20 مارس 2020

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا


الجمعة 20 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٣١
(لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)

تصارعني نفسي بين هاتفي ومصحفي، ﺃﺷﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺗﻼﻭﺓ ﺍﻵﻳﺎﺕ ﻓﺄﺭﻛ ﺑﻘﻠﺒﻲ ﻧﺤ ﺍﻟﻘﺁﻥ، ﻓﻴﺄﺗﻴﻨﻲ على هاتفي ﺇﺷﻌﺎﺭٌ ﺑﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﺍﺗ آب ﻭﺍﻟﻔﻴ بوك ﻭﺍﻻﻧﺴﺘﺠﺍم؛ ﻓﺘﺼﺎﺭﻋﻨﻲ ﻧﻔﺴﻲ ﻷﻟﺘﻘط ﻫﺎﺗﻔﻲ، ﻭﺃﻧﻈﺮ ﻟﻤﺼﺤﻔﻲ ﻗﺎئلاً: "ﻟﺤﺎﺕ ﻭﺃﻋﺩ ﺇﻟﻴ"!! أضع مصحفي على رفٍ بعيدٍ بكل إجلالٍ مُمنياً نفسي بأن أعود إليه بعد دقائق قليلة. أفتح هاتفي فإذا هذه ﺭﺳﺎﻟﺔٌ أقرأها، ﻭهذا ﺗﻌﻠﻴقٌ أكتبه، ﻭتلك ﻣﺸﺎﺭﻛﺔٌ في مجموعة، ﻭبعدها ﻣﻨﺸﺭٌ أُعممه وﺻﺭﺓٌ أرفعها. تمضي الدقائق مسرعةً، وتستطيل وتتمادى، ﺳﺎﻋﺔٌ تمر، وﺳﺎﻋﺔٌ أخرى تنقضي، ثم ساعةٌ ثالثةٌ تلحق بأختيها، وما يزال ﻫﺎﺗﻔﻲ ﻓﻲ ﻳﻱ، عيناي لا تفارقان شاشته، ﻭﻣﺼﺤﻔﻲ ﻓﻕ ﺍﻟﻑ ﻳﻨﺘﻈﺮ. أخجل من نفسي؛ فأتناول مصحفي من ذلك الرف البعيد، وأُمسكه بكلتا يديّ، وأقبله وكأني أعتذر له، وما كدتُ أفتحه حتى وصلني من هاتفي إشعارٌ جديدٌ بوصول رسالة، أتجاهل الإشعار، وأفتح المصحف على صفحةٍ كنتُ قد وضعتُ عليها علامةً منذ آخر مرةٍ فتحتُه فيها قبل أسبوع، أهمُ بالقراءة، فإذا هاتفٌ بداخلي يطلب مني فتح الهاتف للاطلاع على الرسالة؛ ربما تكون هامةً، ولن يستغرق الأمر سوى ثوانٍ معدودة؛ أترك المصحف وأفتح الهاتف وأقرأ الرسالة ثم أنتقل -دون أشعر- إلى رسالةٍ أخرى، ثم يأخذني الفضول لمعرفة تفاصيل هذا الخبر، فإذا بمنشورٍ من أحدهم يستفزني فأُسرع بالتعليق عليه. وهكذا يمضي الوقت وأنا على هذه الحال؛ هاتفي في يدي يشغلني، ومصحفي قريبٌ مني ينتظرني!
غفوتُ لثوانٍ معدودةٍ فرأيتُ -فيما يرى النائم- جسدي مسجىً لا حراك فيه، وأهلي حولي يبكون وينتحبون، فأدركتُ أني قد مُت، ووجدتُ نفسي أصرخ في هلع: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، فيأتيني الرد حاسماً: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. أفقتُ من غفوتي مفزوعاً أتحسس جسمي لأتأكد إن كان ما رأيته حقيقةً أم خيالاً، أنفاسي لاهثةٌ، عيناي زائغتان، صوت خفقان قلبي كأنه طبولٌ تدق من حولي، حاولتُ النهوض، فإذا بقوايّ خائرة، قدمايّ غير قادرتين على حملي، ويدايّ ترتعشان. لا أدري كم مرَّ عليّ من وقتٍ، لكني تبينتُ في نهاية الأمر أني ما زلتُ حياً ولم أمت! يا لها من لحظات رعبٍ، كيف لو كانت حقيقةً، وكان آخر ما فعلته في دنيايّ ترك مصحفي من أجل بعض تفاهاتٍ في هاتفي؟ أهكذا تكون نهايتي؟ ﻭﻳﺤ ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺇﺫﺍ ﻫﺠ ﻋﻠﻴ ﻫﺎﺩﻡ ﺍﻟﻠﺍﺕ، ﻭﻧﻉ ﻣﻨ ﺍﻟﻭﺡ، وفات وقت التوبة، وآن أوان الحسرة والندم. ﻭﻳﺤ ﻳﺎ نفسي ﺣﻴ ﻏﻴﻙ ﻳﻌﺒ ﺍﻟﺼﺍﻁ ﻛﻠﻤﺢ ﺍﻟﺒﺼ ﻧﺤ ﺟﻨﺔٍ ﻋﺿﻬﺎ ﺍﻟﺴﻤﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ، ﻭﺃﻧ ﺗﺴﻴين ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺒﺍً.
الحمد لله أنني ماﺯﻟُ إلى ﺍلآﻥ أتنفس، وما تزال أمامي فرصةٌ لمراجعة النفس والتوبة إلى الله. آهٍ لو كان موتي حقيقياً وأنا ممسكٌ بمصحفي أقرأ فيه، يا لها من موتةٍ أتمناها لنفسي.
ﻭأﻧ ﻳﺎ ﻫﺎﺗﻔﻲ ﺍﻟﻤﺸﻭﻡ: ﺑُﻌﺍً ﻟ، ﺇﻥْ ﻛﻨَ ﺃﻭ ﺳﺘﻜﻥ ﺳﺒﺒﺎً ﻓﻲ ﺷﻘﺎﺋﻲ. تساءلت بيني وبين نفسي: هل أستطيع أن أترك الهاتف وأتخلى عنه بعد أن صرتُ مدمناً عليه؟ أجد نفسي -وقد تجاوبَتْ معي- تُذكرني بيوم قررتُ الإقلاع عن التدخين، وكيف كان الأمر في بدايته صعباً، لكنه أصبح الآن جزءاً من الماضي، أسعد كلما تذكرته، وأتباهى به مع أصدقائي، وأجني ثماره اليوم صحةً وعافيةً في جسدي، أفلا أستطيع نفس الشيئ لأجني لروحي ما جنيته لجسدي؟ هل سيكون الأمر صعباً؟ نعم سيكون، لكني على يقينٍ تامٍ أن الله سبحانه وتعالى سيعينني ويساعدني. قررتُ أن أفتح المصحف بشكلٍ عشوائيٍ وأنظر ما هي أول آيةٍ ستقع عليها عيناي؛ فإذا هي الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، تفاءلت كثيراً بهذه الآية، وأحسستُ أن ربي مطلعٌ على ما في قلبي ويعلم إخلاصي، وأن هذه الآية الكريمة رسالةٌ خاصةٌ لي فتحت أمامي باب الأمل وأرشدتني إلى درب السعادة!
منذ تلك اللحظة لم أترك مصحفي يوماً؛ جعلتُ لنفسي وِرداً يومياً، واخترتُ لنفسي أن أجمع بين الحسنيين: قيام الليل وقراءة القرآن؛ فكنتُ وما زلتُ - وأدعو لنفسي بالثبات- أُصلي قيام الليل ركعتين أو أربع، وأقرأ بالتتابع ما تيسر من القرآن صفحتين أو أكثر، حتى أنني أنهيتُ قراءة القرآن الكريم كاملاً لأول مرةٍ في حياتي في فترةٍ لم تتجاوز ثلاثة أشهر، وشعرتُ بسعادةٍ غامرةٍ لم أشعر بمثلها أبداً من قبل.
وها أنا أحتفل اليوم بمرور سنتين على هذا الحال. أما هاتفي فقد خصصتُ له ساعتين فقط في اليوم لا أتجاوزهما أبداً.

أحبتي في الله .. هذه ليست كلماتي، إنها كلماتٌ كتبها واحدٌ منا، عانى مما يعاني منه الكثيرون، ثم أفاق بعد سُبات ٍعلى وعد الله (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، وتدارك أمره قبل فوات الأوان، وأراد أن ينقل تجربته لنا عسى أن نستفيد منها.
ختم ما كتب بقوله: أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله، قبل أن تأتي لحظةٌ -في أقل من لمح البصر وطرفة العين- لا يعود لنا بعدها من الأمر شيء.

من المؤسف والمؤلم أن يكون من المسلمين من لا يقرأ القرآن، وإذا قرأه لا يقرأه إلا في شهر رمضان فقط، ويمر به العمر، ويشيخ، ويقترب أجله، وربما مات ولم يقرأ المصحف كاملاً في حياته ولا مرةً واحدة! وبعضهم لا يستمع إلى القرآن إلا عرضاً بغير قصدٍ، أو عند قيامه بواجب عزاءٍ، وكأن القرآن أُنزل للموتى وليس للأحياء! لقد هجروا القرآن، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾.

يقول أهل العلم عن هذه الآية إنها تبين شكوى الرسول عليه الصلاة والسلام من قومه حين جعلوا القرآن مهجوراً بإعراضهم عنه وتركهم له. وإن الله سبحانه وتعالى، كما جعل الإنسان يحيا بالإسلام، جعل القلوب تحيا بالقرآن؛ يقول تعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾، ووصف سبحانه القرآن بالنور الذي ينير لنا الطريق ويبعدنا عن الظلمات، وشبَّه سبحانه مَن أحيا القرآنُ قلبَه بعد مواتٍ بالأرض يحييها بعد موتها؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. يقول المفسرون إن في ذلك إشارةً إلى أنه تعالى يُلَيِّن القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالتهم، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الوابل المنهمر، كذلك يهدي القلوب القاسية بالقرآن الكريم، ويولج إليها النور بعدما كانت مقفلةً مظلمةً لا يصل إليها نور الهداية.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ أي: هلّا يتدبر المعرضون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؛ فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم بالإيمان، وأفئدتهم من اليقين.
إن الإسلام جعل صلاح القلوب وشفاءها ويقظتها في مدارسة القرآن وتدبره؛ يقول تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.

يقول أحد الصالحين: القرآن معنا، لكن القليل مَن يُقبل عليه، وأقل مِن القليل مَن يتدبر معانيه، فكيف نحيا وقلوبنا لا تستمد الحياة من مصدر الحياة ومنبع النور؟ وكيف نقضي على الداء ونحن نُعرض عن الدواء؟ والعجب أنّ دواءنا معنا، وداءنا يكاد يقضي علينا؛ وكأننا كما يقول الشاعر:
كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظما
والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ
{"العيس": الإبل، "البيداء": الصحراء}

وقد سمى الله القرآن روحاً في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ لأنه تحيا به القلوب، كما أن الروح يحيا بها البدن.
وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾، لأن القرآن الكريم هو للذين آمنوا هدىً إذا لم تعتريهم الأسقام من البدع والمعاصي والشبهات، فإذا اعترتهم تلك الأسقام، فالقرآن لها شفاء، فهو يحيينا ثم يهدينا ثم يشفينا.
وعن فضل القرآن يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها].

وقيل عن القرآن الكريم:
"كثرة قراءة القرآن تربي صاحبها دون أن يشعر فيزيد إيمانُه، ويطمئن قلبُه، ويهنأ بحياته، ويقنعُ برزقه، وتظهرُ الفصاحة في حديثِه، ويخلُو حديثه من الألفاظ التي لا تليقُ بمثله، ويترك مجالس اللّغو، ويترك أموراً كان يفعلها؛ لأن قلبه قد أضاء واستنار".
"الناس تُجمع في مقامٍ واحدٍ يوم القيامة إلا حافظ القرآن فهو مع الملائكة السفرة الكرام البررة".
"لو علم المقصر مع القرآن ما الذي ينتظره من نعيمٍ حين يشرع في التلاوة ما أضاع واللهِ لحظةً واحدةً لا يقرأ فيها القرآن".
"ما رأيتُ شيئاً يغذّي العقل والروح ويحفظ الجسم ويضمن السعادة أكثر من إدامة النظر في كتاب الله تعالى".
"اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات والخيرات في الدنيا".
"أحسنُ ما يُوصَى به لعلاج القلب وقسوته العناية بالقرآن الكريم، وتدبره، والإكثار من تلاوته".
"إنّ القرآن عزيزٌ؛ لا يعطيك أسراره حتى تعطيه أعز أوقاتك، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك؛ ومَن رام أمراً عظيماً ضحى بعظيم".
"بقدر حظك من القرآن بقدر حظك من العزة؛ لأن الله وصف كتابه بأنه عزيز، فٙخُذْ حظك من القرآن تلاوةً وحفظاً وتدبراً وعملاً، وهو خير أنيسٍ وجليس".
"لا تُعطوا القرآن فضلٙ أوقاتكم، بل اعطوه أفضلَ أوقاتكم".

أحبتي .. لينظر كلٌ منا إلى حاله، ويسأل نفسه ليعرف مكانته من القرآن، ومدى قربه منه أو هجره له؛ فلتسأل نفسك: كم أقرأ من القرآن يومياً؟ كم أحفظ من القرآن؟ إلى أي مدىً أتدبر القرآن وأفهم معاني ألفاظه وأعلم أسباب نزول آياته وأُلِم بتفسيره؟ إلى أي مدىً أنا ملتزمٌ بأحكامه وآدابه، عاملاً بما أمرني الله به في محكم آياته، تاركاً ما نهاني عنه؟
لتكن أحبتي أسئلتنا واضحةً، وإجاباتنا عنها صادقةً، لنبدأ -بغير توانٍ- صفحةً جديدةً مع كتاب الله الكريم، بنيةٍ خالصةٍ، وعزمٍ أكيدٍ، موقنين بأن الله سبحانه وتعالى سيجعلنا من المحسنين ويفي بوعده لنا بالهداية: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) حين نكون بالفعل ممن قال عنهم: ﴿الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾؛ فلنجاهد في الله ونبعد أنفسنا عن الشهوات ونغالب الهوى، ونلتزم الصراط المستقيم الذي يُرشدنا إليه كتاب الله؛ ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾.
نسأل الله تعالى أن يحيي بالقرآن قلوبنا، وينير به طريقنا، ويشفينا به من كل داء، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.

https://bit.ly/3a7WfS6

الجمعة، 13 مارس 2020

حالقات الزمن


الجمعة 13 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٣٠
(حالقات الزمن)

عندما كنت صبياً صغيراً، قبل نحو خمسين سنة، كنت أزور الحلاق مرةً كل ثلاثة أسابيع أو أربعة لحلاقة شعر رأسي، الذي اختفى اليومَ أكثرُه وأعفاني من تلك المهمة المتعِبة المملة! كان الحلاق مسلماً ولكنه لا يصلي، وكنتُ أستغرب من عدم صلاته لأنني ظننتُ -وأنا في تلك السن المبكرة- أن الكبار كلهم يُصلّون، ثم كبرتُ وأدركتُ أن كثيرين لا يفعلون! لم أرَ ذلك الحلاق ولم أسمع عنه من نحو أربعين سنة، وأحسب أنه مات منذ وقتٍ طويلٍ، وأرجو أن يكون قد عاد إلى الصلاة والتحقَ قبل موته بركب التائبين. لم أرَه ولم أسمع عنه ولكني فكرتُ به كثيراً على مَرّ السنين، تذكرتُه وأنا قاعدٌ أرقبه على كرسيّ الانتظار الذي كان يطول نصفَ ساعةٍ في بعض الأحيان أو يزيد، وتصورتُه واقفاً على رجلَيه اليومَ كله، فكنتُ أرثي له، فإنّ أحدنا إذا وقف في صف انتظار "طابور" ربعَ ساعةٍ أو نصفَها أزعجه الوقوفُ وأعْنَتَه، وهؤلاء الحلاقون لا تنقضي من أعمارهم سنواتٌ إلا وقد أصيبوا بِدَوالي السيقان المؤلمة، فيا لها من مهنةٍ شاقةٍ متعبة!
ولم يكن حلاّقي من كبار الأثرياء؛ كان يقف على رجليه عشر ساعاتٍ في اليوم، ويداه تتحركان طَوال الوقت مع المِقَصّات والأمشاط في حركةٍ سرمديّةٍ، لا يُدرَى متى بدأت ولا يُدرَى متى تنتهي، ليعيش بعد ذلك الجهد كله عَيْشَ الكفاف! لقد رضي أن يقف على رجليه خلف كرسيّ الحلاقة عشر ساعاتٍ في اليوم مقابل بضع عشراتٍ من الأمتار المربعة يقيم فيها هو وأسرته، وثوبين في السنة لكل واحدٍ من أفراد أسرته، ولُقَيماتٍ تبقيهم أحياء، واستكثر نصفَ ساعةٍ يقف فيها بين يدي الله تُورِثه -بإذن الله- مُستقَراً ونعيماً أبدياً في جنةٍ بعرض السماء والأرض، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
على مر السنين تصورتُ ذلك الحلاق البائس، وأنا أتذكر الأعرابي الذي تلقى عرضاً سخياً بدخول الجنة مقابل سبع عشرة ركعةً لا تستغرق -بقيامها وركوعها وسجودها وقعودها- أكثرَ من نصف ساعةٍ في اليوم، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنّ ولا أنقص منهنّ، قال صلى الله عليه وسلم: [لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ].
على أن حلاقي القديم لم يكن صاحبَ القصة المحزنة الوحيدة في الدنيا، فكم له بيننا من أمثال! كم من قصصٍ أخرى من نوع هذه القصة نشاهدها كل يوم! مساكين أصحاب هذه القصص، يبذلون من أجل نعيمٍ زائلٍ محدودٍ جهدَهم كله، ويضنّون بنصف عُشره على الذي يورثهم نعيماً خالداً لا يزول! مساكين، أولئك المحرومون لو كانوا يعلمون.

أحبتي في الله .. تلك كانت خاطرةً كتبها أحدهم ونشرها على موقعٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، لا ليكون حديثه عن حلاقٍ بعينه، بل ليكون حديثه عنه كمثالٍ لكثيرين غيره شغلتهم الدنيا، وكمثالٍ لكل من يترك وقته لتذهب به (حالقات الزمن)، تلك التي تحلق أوقاتنا كما تحلق الأمواس رؤوسنا!
فهناك كثيرٌ مما يحلق بغير موس، منها فساد ذات البين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: [أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ، وَالصَّلاةِ، وَالصَّدَقَةِ؟]، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: [صَلاحُ ذَاتِ الْبَينِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ]، ويُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: [هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: هي تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ].
وما أكثر الحالقات هذه الأيام؛ حالقات الدين، حالقات القيم والأخلاق، و(حالقات الزمن). وهذه الأخيرة منها؛ السعي على الرزق. ومنها الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي، والانشغال المبالغ فيه بتطبيقات وألعاب الحاسوب. والهواتف الذكية، والاستخدام غير المفيد لشبكة الإنترنت. ومنها الإسراف في إجراء المكالمات الهاتفية بغير حاجةٍ ماسةٍ أو ضرورةٍ ملحةٍ. ومنها الانخراط إلى درجة الهوس في تشجيع الأندية الرياضية المحلية والعالمية ومشاهدة مباريات كرة القدم. ومنها متابعة ما يُبث على القنوات الفضائية من أفلامٍ وتمثيلياتٍ ليل نهار. ومنها الاهتمام المبالغ فيه بتنمية القدرات الشخصية -رياضيةً أو فنيةً- عند أبنائنا الصغار. كل ذلك وغيره يستحوذ على الوقت كله فلا يترك وقتاً لأنشطةٍ أخرى أولى بالاهتمام والرعاية! فلا عيب أن نستقطع بعض وقتنا لكسب العيش، أو تنمية هواياتنا أو قدرات أبنائنا، أو لشيء مقبولٍ من الترفيه، لكن العيب أن ننشغل طوال الوقت بهذه الأمور، التي هي في الأصل أمورٌ دنيويةٌ زائلةٌ ومؤقتةٌ، فلا نعمل لآخرتنا الباقية التي نخلد فيها بإذن الله! مثلنا في ذلك مثل مَن يسكن بيتاً يستأجره فيسعى دائماً إلى العناية به وتجميله وتوسيعه وتعليته، وهو تاركه ومفارقه، طال الزمن أو قصر، ثم هو يترك أرضاً ملكاً له لا يبنيها ولا يُعَّمِرها -ولن يكلفه بناؤها وتعميرها إلا أقل مما يصرفه على تجميل بيت الإيجار- رغم أنها داره التي سيعيش فيها مُخلداً أبداً، يقول الله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾، يقول المفسرون لهذه الآية إن ثواب الله سبحانه في الدار الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دَنيةٌ فانيةٌ، والآخرة شريفةٌ باقيةٌ، فكيف يُؤْثِر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟ ويهتم بما يزول عنه قريباً، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخُلد؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفراغُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اغتنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حَياتَك قبلَ موتِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغْلِك، وشبابَك قبلَ هَرَمِك، وغِناك قبلَ فقرِكَ].

الزمن أو الوقت هو موردٌ رباني حابانا الله به، يُنعم علينا به بشكلٍ يوميٍ بانتظامٍ ودون انقطاع، يشحن رصيد كل إنسانٍ ما يزال على قيد الحياة بأربعٍ وعشرين ساعةً كاملةً كل يومٍ إلى أن يحين أجله. إنه موردٌ، رغم أنه مستمرٌ ومتكررٌ، إلا أنه مرتبطٌ بأجلٍ سوف ينتهي فيه لا محالة، كما أنه موردٌ ينتهي من تلقاء نفسه ولا يمكن تعويضه أو إيجاد بديلٍ له، يمضي ولا يعود، سواءً أحْسَنّا الاستفادة منه أو أسأنا استخدامه، أو أهدرناه بالكامل؛ لا استفدنا منه ولا أضعناه فيما لا يفيد، أنه موردٌ متفردٌ في خصائصه يعرض نفسه علينا كل ثانيةٍ للاستفادة منه وإلا مرَّ كأن لم يكن!
كتب أحد العلماء عن خصائص الوقت؛ فقال: للوقت خصائص عديدة، لابدّ من أن نعرفها كي نتمكن من استثمارها جيداً، منها أنه لا يمكن تخزينه لاستخدامه فيما بعد، كما أن ما يمضي منه لا يعود ولا يُعوَّض؛ قال حكيمٌ: "ما من يومٍ ينشقُّ فَجْرُه إلا ويُنادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد منِّي فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة".
والوقت يمضي سريعاً، ومهما طال عمر الإنسان فهو قصيرٌ ما دام الموت في انتظاره؛ قال نوحٌ عليه السلام -وهو أطول الأنبياء عمراً- فيما يُنسب إليه حينما سُئل كيف رأيتَ الدنيا: "مثل رجلٍ بُنيَ له بيتٌ له بابان، فدخل من واحدٍ وخرج من الآخر".
والوقت هو أغلى ما نملكه على الإطلاق؛ فالوقت هو الحياة، فما حياة الإنسان إلّا الوقت الذي يقضيه من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة، وفي هذا قال أحد العارفين: "يا ابن آدم؛ إنما أنت أيامٌ، كلّما ذهبَ يومٌ ذهب بعضُكَ!".
واستثمار الوقت بشكلٍ فعّالٍ يزيد من قيمته، وكيفية قضائنا لوقتنا تحدّد مدى جودة استثمارنا له، ونحن ندرك جيداً أنّ الوقت يمضي سريعاً ولا يُمهلنا لاستغلاله.
كما أن هناك تفاضلاً للأعمال في أوقاتٍ مخصوصةٍ، إذا لم يتم إنجاز هذه الأعمال في وقتها ضاعت قيمتها أو قلت وضعفت، كالصلاة على وقتها مثلاً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾، ومن الملفت للنظر أن هذه الآية نزلت في سياق الحديث عن الصلاة وقت الحرب ومواجهة الأعداء، مما يبين أهمية المحافظة على أداء الصلاة، وعدم التفريط أبداً في أدائها على وقتها، حتى لو كان العذر هو حالة الحرب الفعلية، فما بالنا بأعذارٍ أضعف كثيراً من ذلك؟

وقد خلصت دراسةٌ علميةٌ حديثةٌ أُجريت في ١٤ دولةً ناميةً إلى أن عدم تحديد الأهداف بوضوح، وعدم ترتيب الأولويات، وضعف الهمة، والافتقار إلى الانضباط الذاتي، وعدم إدراك أهمية الوقت، والتسويف والتأجيل هي من أهم الأسباب التي تُمكِن (حالقات الزمن) من تضييعه. ألا تذكرنا هذه النتيجة بما ورد في الأثر: "إن قوماً غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، والمعنى واضحٌ أنهم قومٌ أضاعوا أوقاتهم في غير ما ينفعهم في آخرتهم، وكان الأجدر أن يُحسنوا العمل باستغلال أوقاتهم فيما يفيد.

وإن أفضل ما يمكن أن نشغل به أوقاتنا -بعد العبادات المفروضة والنوافل- هو قراءة القرآن؛ يقول أحد الصالحين: اجعل حياتك ممزوجةً بالقرآن لا تنفك عنه، تلاوةٌ دائمةٌ -من المصحف أو من حفظك- واستماعٌ دائمٌ في غير وقت التلاوة، خصص له وقتاً، واستغل فراغك وأوقاتك البينية، ووقت المواصلات، وفي الطرقات، ووقت انشغالك بأعمال لا تحتاج تركيزاً، واللهِ لتجدن بركةً في وقتك، وتيسيراً في كل شأنك، وسعادةً غامرةً في صدرك ما كنتَ لتجدها إلا ببركة كلام الله؛ يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ ومن بركته: أنه ما زاحم شيئاً إلا باركه ببركته! وأما عن الوقت الذي لا تتهيأ فيه نفسك لتلاوة القرآن، فاستمع له وأنصت من أحب أصوات القُرَّاء إليك، فما الرحمة إلى أحدٍ بأسرع منها إلى مُستمع القرآن؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ و"لعل" من الله واجبةٌ، وقد كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من غيره مع أنه عليه أُنزِل وكان يقول: [إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي]. وعلى قَدْر نصيبك من كلام الله يكون نصيبك من رحمة الله؛ يقول تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وكذلك ترشد الآية إلى أن شفاء صدرك وزوال همك يكون بالقرآن، وإن لم يكن لك إلا قول النبي عليه الصلاة والسلام: [اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ] لكان ذلك سبباً كافياً لتعكف عليه آناء الليل وأطراف النهار! سيشفع لك هذا الرفيق المبارك يوم يفر منك أقرب الناس إليك. ولنحذر أن نهجر القرآن أو نغفل عنه؛ فكل بُعْدٍ عن القرآن هلاكٌ لأنفسنا؛ يقول تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي يبعدون عنه، ثم يقول: ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
واللهِ إني لأخجل من نفسي إن لم أقرأ في مصحفي صفحةً واحدةً على الأقل كل يومٍ، لا تستغرق قراءتها عُشْر ما أصرفه من وقتٍ للاطلاع على رسائل ومنشورات الواتس آب أو الفيس بوك، أو مشاهدة مباراةٍ لكرة القدم، أو أحد البرامج الحوارية اليومية، أو حلقةٍ من مسلسلٍ على التلفاز!

أحبتي .. المؤمن -كما ورد في الأثر- كيسٌ فطنٌ، عليه أن يكون ذكياً في اختياراته؛ فلا يَدَع فرصةً إلا واستثمرها، ولا وقتاً إلا واستفاد منه. علينا أن نسارع إلى تحديد أهدافنا في الحياة بدقةٍ، وأن نرتب أولوياتنا بوضوحٍ، وأن نختار من الأعمال والأنشطة التي نشغل بها أوقاتنا ما يفيدنا وينفعنا، ولنتذكر أنّنا محاسبون يوم القيامة على ما أفنينا من أعمارنا، وما أبلينا من أجسادنا -فضلاً عن العلم والمال- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ]. فلنحسن الاستفادة من أوقاتنا -التي هي أعمارنا- ونبتعد عن (حالقات الزمن) التي تُهدر أوقاتنا فيما لا يفيد، ولنشغل أوقاتنا بقراءة القرآن، وحضور مجالس العلم، والإكثار من ذكر الله والتسبيح والتهليل، وصلاة التطوع، وعيادة المرضى، والسعي على الأرامل والمساكين، وقضاء حوائج الناس، والإصلاح بين المتخاصمين، وغير ذلك من الأعمال الصالحة وأوجه الخير والبر والتقوى؛ ليزداد رصيدنا من الحسنات بإذن الله.
هدانا الله جميعاً إلى ما فيه الخير والصواب.

http://bit.ly/2wP8pAt

الجمعة، 6 مارس 2020

تدبير الله


الجمعة 6 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٩

(تدبير الله)

العم مصطفى سائق سيارة أجرة بالقاهرة، متزوجٌ ولديه طفلةٌ مريضةٌ بالقلب، ركب معه ذات يومٍ شابٌ أسمر اللون، نحيفٌ، يرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً أسود، ركب من ميدان رمسيس قاصداً ألماظة. العم مصطفى مريض سكرٍ، ويُعالَج بالأنسولين، أحس أثناء القيادة أن السكر قد ارتفع في جسمه، بدأ يحس باضطرابٍ في بصره، ثم بدوارٍ شديدٍ؛ حيث أنه لم يتناول دواءه ذلك اليوم؛ إذ لم يكن معه من النقود ما يكفي لشراء الدواء، فقرر أن يؤجل الجرعة لآخر اليوم حتى يتوفر له ثمن الدواء. تمكن بصعوبةٍ بالغةٍ من إيقاف السيارة بجانب الطريق. لم يحس بنفسه إلا وهو نائمٌ على سريرٍ بمستشفى. سأل عما حدث له، أخبره العاملون بالمستشفى بأن شاباً أحضره وهو في غيبوبة السكر، وتركه ومشى، ووصفوا له ذلك الشاب، هو إذن الشاب الذي كان آخر من ركب معه، لكنه لا يتذكر أي شيءٍ بعد إيقافه السيارة. حمد الله أنَّ هذا الشاب كان معه وقت غيبوبة السكر، وأنه لم يتركه بل أوصله إلى المستشفى لتلقي العلاج. ومع استعادة وعيه، بحث السائق عن هاتفه فلم يجده، وبحث عن حافظة نقوده لم يجدها، ثم بحث عن السيارة خارج المستشفى فلم يجدها! عاد أدراجه إلى المستشفى وطلب بيانات الشاب الذي أوصله، فوجئ بأنه ترك لهم بيانات السائق من واقع بطاقة إثبات الشخصية التي كانت بحافظة نقوده، لكن الأمر الغريب أنه دفع حساب المستشفى قبل أن ينصرف! إذن هي عملية سرقةٍ مكتملة الأركان؛ استولى فيها الشاب على سيارة الأجرة، والهاتف، وحافظة النقود، لكنه كان صاحب قلبٍ رحيمٍ فقام بدفع تكاليف العلاج! وربما فعل ذلك ليبعد عن نفسه شبهة السرقة! خرج العم مصطفى من المستشفى كالمجنون، وتوجه فوراً إلى أقرب مخفر للشرطة، وقدم بلاغاً بسرقة سيارة الأجرة، ضمَّنه مواصفات الشاب الذي كان يركب معه وقت أن فاجأته غيبوبة السكر، والمكان الذي ركب منه، وترك لهم صورة ذلك الشاب التي حصل عليها بعد مراجعة كاميرات المستشفى.
من شدة الصدمة، لم يستطع عم مصطفى أن يعود إلى بيته، ظل يلف في الشوارع وهو يبكي من حسرته على نفسه، وعلى ابنته المريضة، وعلى فقدان سيارته التي كان يتكسب منها والتي هي كل ما يملكه في هذه الدنيا. ويا للعجب؛ قبل حدوث هذه الواقعة بشهرٍ واحدٍ فقط، كان قد دفع آخر قسطٍ من أقساط السيارة، ولا يعلم إلا الله كم تعب وتحمل من أجل ذلك، ثم ها هو يجد نفسه وقد ضاعت منه سيارته في لحظة! ظل يبكي ويصرخ قائلاً: "أيرضيك يا ربِ، بعد كل هذا التعب، يضيع مني مصدر دخلي الوحيد؟ كيف أصرف الآن على أسرتي وعلى علاج ابنتي؟ ليس مهماً علاجي أنا، لكن ما ذنب ابنتي؟ ماذا أفعل؟ هل أدور في الشوارع حاملاً ابنتي أتسول بها؟". كان يكلم الله سبحانه وتعالى وهو يبكي بكاءً شديداً في الشارع، حتى أنَّ بعض الناس سارعوا إلى تهدئته وأحضروا مقعداً له ليجلس عليه وأحضروا له ماءً ليشربه. وكان ممن تأثروا بحاله سائق سيارة أجرةٍ أشفق عليه؛ فسأله عن عنوان بيته، وقام بتوصيله إليه. عندما وصل إلى منزله نزل من سيارة الأجرة مثل المجنون، وكأن ماساً كهربائياً أمسك به؛ فما رآه كان غير معقولٍ أبداً، رأى آخر ما يمكن أن يتوقع رؤيته، رأى سيارة الأجرة الخاصة به واقفةً أمام باب بيته! توجه مسرعاً إلى شقته فوجد ابنته نائمةً على السرير ومُعلقٌ لها جهاز تنفس، وبجوارها زوجته التي رحبت بعودته سالماً حيث فوجئ أنَّها كانت تعلم أنه محجوزٌ في المستشفى! سأل عما حدث، قالت له زوجته: "اشتد تعب البنت أمس؛ فاتصلتُ بك فرَّد عليّ شابٌ وأخبرني بحالة غيبوبة السكر التي حدثت لك، وأنه قام بنقلك إلى المستشفى، وعرف عنوان البيت فأتى إلينا بسيارة الأجرة الخاصة بك وأوصلنا إلى المستشفى، وبعد أن اطمأننتُ عليك، كان لابد من سرعة علاج البنت، فقام هذا الشاب بكل ما يلزم لعلاجها واشترى لها جهاز التنفس الذي تراه، وأعادنا إلى البيت، وسلمني هاتفك وحافظة نقودك ومفاتيح سيارتك. ولولا هذا الشاب لكانت البنت قد ماتت، جزاه الله خيراً لم يترك لي فرصةً لصرف أية نقود، قام بتحمل كل النفقات الخاصة بعلاج البنت!"، كان عم مصطفى يستمع إلى كلامها وهو مندهشٌ، كما لو كان يستمع إلى قصةٍ من نسج الخيال، لولا أن رأي بأم عينيه سيارته، وجهاز التنفس الواصل بابنته، وها هي متعلقاته الشخصية كلها بين يديه لم ينقص منها شيء. شَعر عم مصطفى بالندم الشديد، واكتشف كم كان مخطئاً حينما أساء الظن بذلك الشاب، الذي أرسله الله له في الوقت المناسب لينقذه، ولولا عودته بالسيارة إلى البيت ومسارعته إلى علاج البنت لكانت ماتت. سأل نفسه: "ماذا كان سيحدث لو لم يرسل الله لي هذا الشاب في ذلك الوقت وفي ذلك المكان؟!" وأيقن أن كل ما تم كان من (تدبير الله). ذهب بسرعةٍ إلى مخفر الشرطة وتنازل عن المحضر، وظل يبحث عن ذلك الشاب في كل مكانٍ، لكنه لم يجده أبداً!

أحبتي في الله .. تذكرني هذه القصة بقصةٍ أخرى لأحد القضاة بالشام؛ كتب يقول: ذهبنا في المساء عند أحد الأصدقاء، فشعرتُ بضيقِ نفسٍ، واختناقٍ شديدٍ، فاستأذنتُ أصدقائي للرحيل، فأصروا على أن أُتم السهرة معهم، ولكني لم أستطع، وقلتُ لهم: أريد أن أتمشى لأستنشق هواءً نقياً؛ فخرجتُ أمشي وحدي في الظلام، وبينما أنا كذلك، إذ سمعتُ بكاءً ونحيباً وابتهالاً، آتياً من خلف تلةٍ، فنظرتُ فوجدتُ امرأةً تبدو عليها مظاهر البؤس، وكانت تبكي بحُرقةٍ، وتدعو الله،
اقتربتُ منها، وقلتُ لها: "ما الذي يبكيكِ يا أختي؟"، قالت: "إن زوجي رجلٌ قاسٍ وظالمٌ، طردني من البيت، وأخذ أبنائي، وأقسم ألا أراهم يوماً، وأنا ليس لي أحدٌ، وليس لي مكانٌ أذهب إليه"؛ فقلتُ لها: "ولماذا لا ترفعين أمرك للقاضي؟"، فبكت كثيراً وقالت: "كيف لامرأةٍ مثلي أن تصل للقاضي؟". يقول الشيخ وهو يبكي: والمرأة تقول هذا، وهي لا تعلم أن الله سبحانه وتعالى قد جَرَّ القاضي -يقصد نفسه- من رقبته ليُحضرهُ إليها!
فسبحان مدبر الأمر، سبحان من جعل القاضي يخرج في ظلمة الليل، ليقف أمام هذه المرأة بقدميه، ويسألها هو بنفسه عن حاجتها، إنه من يعلم السر وأخفى. لماذا أحس القاضي بالضيق؟ ولماذا خرج وحده في الظلام؟ ولماذا في هذا الوقت وفي هذا المكان دون غيره؟ كل ذلك لم يكن ليكون لولا أنه من (تدبير الله) سبحانه وتعالى.

يقول الله جلَّ شأنه: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.
يقول المفسرون: التدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود. ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ أي يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويُهيئ الأسباب لإنفاذ مشيئته؛ فالله سبحانه وتعالى يدبر أمر الخلائق ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ ولا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، ولا تُعجزه المسائل: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ و﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
ويقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [... إِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ...].

أما أهل العلم فيقولون إن من أركان الإيمان الستة، الإيمان بالقضاء والقدر؛ خيره وشره، فالمؤمن يعتقد أن الله تعالى يدبر الأمر كله، وتدبير الأمر يعم تقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حال وأحمد عاقبة. و"المدبر" يعني أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الفاعل الحقيقي في هذا الكون، وأنَّ ما نظنه هو الفاعل من البشر أو غيرهم ما هو إلا سبب، فلو لم يُرد الله أمراً لن يحدث أبداً. و"المدبر" يعني -أيضاً- أن الله -سبحانه وتعالى- يدبر شؤون عباده المؤمنين بما هو أصلح لدينهم ودنياهم.
‏‏
ويقول أحد السلف: "لو علم العبد كيف يدبر الله له أموره؛ لعلم يقيناً أنّ الله أرحم به من أمه وأبيه، ولذاب قلبه محبةً لله".

ويقول الشاعر:
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ
أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِهِ
لا تَيْئَسَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً
لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ
إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ
فحَسْبُك اللهُ في كُلٍّ لكَ اللهُ

تتكرر قصة عم مصطفى وقصة قاضي الشام في حياتنا بأشكالٍ وصور وتفاصيل مختلفةٍ؛ نتساءل في أول الأمر: "لماذا يحدث هذا؟!"، أو "كيف حدث هذا؟!"، أو "لماذا أنا يا رب؟"، ثم عندما يتبين لنا أن ما حدث هو من (تدبير الله) سبحانه وتعالى، لا نملك سوى أن نقول: سبحانك ربنا، رضينا بما قسمتَ لنا، والحمد لله رب العالمين. قد ندرك نعمة الله علينا وتلطفه بنا ورحمته لنا بما كنا نظنه شراً -بعد وقتٍ قصيرٍ أو طويلٍ- حينها نخجل من أنفسنا، ونستحي من الله سبحانه وتعالى، وندرك أننا كأننا نطالع لأول مرةٍ الآية الكريمة: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقد تمر الأيام والسنون ولا ندرك حكمته سبحانه فيما جرت به المقادير فنسَلِّم بعدها بأن ما حدث هو من (تدبير الله) عزَّ وجلَّ؛ خفف عنا به ضُراً لم نكن نعلمه، أو أنه ادخر لنا ثواباً وأجراً في الآخرة لم نكن لنستحقه لولا وقوع ما نحسبه شراً أو بلاءً.

أحبتي .. إن (تدبير الله) خيرٌ من تدبيرنا لأنفسنا. وصدق مِن الصالحين مَن قال: إذا أردنا الفلاح في الدنيا والآخرة فلندعو الله أن يدبر لنا؛ فنحن ليس بأيدينا شيءٌ إلا السعي والأخذ بالأسباب، والله ولي التدبير لنا وللمخلوقات جميعاً، وقد ندعو الله بما نحب، فإذا وقع لنا ما نكره علينا الرضا والتسليم بما قدَّر الله؛ فان اختيار الله لنا أفضل وأكمل. وقد تتأخر استجابة الدعاء، فلنثق بالله ولا نستعجل.
سبحان مُدَبِّر الأمر، سبحان العليم بخلقه، اللطيف بهم؛ يسمع دعاءهم وشكواهم، ويُفَرِّج كروبهم وهمومهم، فيا مَن تشعر بالبؤس والضيق، ويا مَن تشعر بالظلم، ويا مَن تظن أن الدنيا قد أظلمت في وجهك، فقط ارفع يديك إلى السماء، وتضرع لمن يسمع الدعاء، ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وكُن على يقينٍ أن الله يُدَبِّر الأمر، ويأتي بالفرج بعد الضيق، وباليسر بعد العسر؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
اللهم دَبِّر لنا فإنّا لا نُحسن التدبير، وأعِنّا على ما أردته بنا مِن تغيير، واكتب لنا في كل خطوةٍ التيسير، إنك بنا يا ربنا لطيفٌ خبير.

http://bit.ly/3axdZWF)