الجمعة، 16 أبريل 2021

جبر الخواطر

 

خاطرة الجمعة /287


الجمعة 16 إبريل 2021م

(جبر الخواطر)

 

صاحبة هذه القصة امرأةٌ كتبت تقول: ﺃﻧﺎ ﻓﺘﺎﺓٌ ﻣﻠﺘﻣﺔٌ ﻣﺘﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻯ ﻋﺎلٍ ﻣ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﻭﺍﻟ،

ﻣﻀ ﺑﻲ ﺍلسنون ﻭﻟ ﻳﺘﻘﻡ ﺃﺣٌ ﻟﺨﺒﺘﻲ، ﻭﺃﻧﺎ أﺭﻯ ﺍﻟﻔﺘﻴﺎﺕ ﺍلأﺻﻐ ﻣﻨﻲ سناً تتزوجن وتنجبن ﺍﻷﻔﺎﻝ، إﻟﻰ أﻥ ﺑﻠﻐُ ﻣ ﺍﻟﻌﻤ 34 ﻋﺎﻣﺎً. ﻭﻓﻲ ﻳﻡٍ ﺗﻘﻡ ﻟﺨﺒﺘﻲ ﺷﺎﺏٌ ﻣ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﺔ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻛﺒ ﻣﻨﻲ ﺑﻌﺎﻣﻴ، ﻭأﺧﻼﻗﻪ ﻻ ﻏﺒﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻃﺮﺕُ ﻣ ﺍﻟﻔﺡ ﻭﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ، ﻭﺑﺃﻧﺎ ﻧُﻌ لعقد ﺍﻟﻘﺍﻥ، ﻭ خطيبي ﻣﻨﻲ ﺻﺭﺓ بطاقتي ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺣﺘﻰ يجهز الأوراق المطلوبة للعقد، ﻓﺄﻋﻴﺘﻬﺎ ﻟﻪ. ﺑﻌﻫﺎ ﺑﻴﻣﻴ ﻭﺟﺕُ ﻭﺍﻟة خطيبي ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻲ ﻭﺗ ﻣﻨﻲ ﺃﻥ ﺃﻗﺎﺑﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﺃﺳﻉ ﻭﻗٍ.

ذﻫﺒُ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﻬﺎ ﺗُﺨﺝ ﺻﺭﺓ ﺑﺎﻗﺘﻲ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻭﺗﺴﺄﻟﻨﻲ: "ﻫﻞ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﻣﻴﻼﺩك ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻗﺔ ﺻﺤﻴﺢ"؟ ﻓﻘﻠُ ﻟﻬﺎ: "ﻧﻌ"، قاﻟ: "ﺇﺫﺍً ﺃنتِ قاربتِ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺑﻌﻴ ﻋﻤﻙ"، ﻓﻘﻠُ ﻟﻬﺎ: "ﺃﻧﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺍﺑﻌﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼثين"، ﻗﺎﻟ: "ﺍﻷﻣ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ؛ ﻓﺄنتِ ﻗ تجاوزتِ ﺍﻟﺜﻼثين، ﻭﻗﻠْ ﻓﺹ ﺇﻧﺠﺎﺑ، ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺭﻳ ﺃﻥ ﺃﺭﻯ ﺃﺣﻔﺎﺩﻱ"! ﻭﻟ ﺗﻬﺃ ﺇﻻ ﻭﻗ ﻓﺴﺨ ﺍﻟﺨﺒﺔ ﺑﻴﻨﻲ ﻭﺑﻴ اﺑﻨﻬﺎ، وربما لم تحس أو تشعر بأنها قد كسرت خاطري!

ﺕ عليّ ﺳﺘﺔ ﺃﺷﻬٍ ﻋﺼﻴﺒﺔٌ؛ ﻛﺄﻧﻲ ﻛﻨُ أحلق ﺑﺎﻟﺴﻤﺎء ثم ﻭﻗﻌُ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ! ﻗﺭ ﻭﺍﻟﻱ ﺃﻥ ﻳﺳﻠﻨﻲ لأداء ﻋُﻤﺓٍ ﻷﻏﺴﻞ ﺣﻧﻲ ﻭﻫﻤﻲ ﻓﻲ ﺑﻴ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﺍﻡ؛ ﻓﺴﺎﻓﺕُ ﻭﺟﻠﺴُ ﺑﺎﻟﺤﻡ وصليتُ وﺩﻋتُ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳُﻬﻲﺀ ﻟﻲ ﻣ ﺃﻣﻱ ﺭﺷﺍً، ﻭﺑﻌ ﺃﻥ ﺍﻧﺘﻬﻴُ ﻣ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺟﺕُ بالقرب مني ﺇﻣﺃﺓً ﺗﻘﺃ ﺍﻟﻘﺁﻥ ﺑﺼﺕٍ ﺟﻤﻴﻞٍ ﻭﺳﻤﻌﺘﻬﺎ ﺗﺩﺩ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﻳﻤﺔ ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، فإذا بدﻣﻋﻲ ﺗﺴﻴﻞ ﺭﻏﻤﺎً ﻋﻨﻲ ﺑﻐﺍﺭﺓٍ، ﻓﺠﺑﺘﻨﻲ ﻫه ﺍﻟﺴﻴﺓ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﺿﻤﺘﻨﻲ ﻭﺃﺧﺕْ ﺗﺩﺩ ﻋﻠﻲّ ﻗﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، ﻭﺍﻟﻠﻪِ ﻛﺄﻧﻲ ﺃسمع هذه الآية ﻷﻭﻝ ﻣﺓٍ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻓﻬأت ﻧﻔﺴﻲ. ﺍﻧﺘﻬﺍﺳ ﺍﻟﻌﻤﺓ، ﻭعدتُ إﻟﻰ ﺑﻠﻱ، ﻭﺻﻠْ ﺍﻟﺎﺋﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺎﺭ ﻭﻧُ ﻣﻨﻬﺎ ﻷﺟﻳﻘﺘﻲ ﻭﺯﻭﺟﻬﺎ ﻓﻲ ﺻﺎﻟﺔ ﺍلاﻧﺘﺎﺭ، ﻛﺎﻧﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮﺍﻥ ﺻ ﺯﻭﺟﻬﺎ، ﻭﻟ ﺗﻤِ ﻟﺤﺎﺕٌ ﺇﻻ ﻭﺟﺎﺀ ﺍﻟﺼ ﻓﺴﻠﻤُ ﻋﻠﻴﻬ ﻏﺎﺩﺭﺕُ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﺑﺼﺤﺒﺔ ﻭﺍﻟﻱ. ﻣﺎ إﻥ ﻭﺻﻠُ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﻴ ﻭﺑُ ﻣﻼﺑﺴﻲ ﻭﺍﺳﺘُ ﺑﻌ ﺍﻟ ﺣﺘﻰ ﻭﺟﺕُ ﺻﻳﻘﺘﻲ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻲ ﻭﺗﻘﻝ ﻟﻲ ﺃﻥ ﺻ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻣﻌﺠٌ ﺑﻲ ﺑﺸﺓٍ، ﻭﻳ ﻓﻲ ﺧﺒﺘﻲ، ﺧﻔ ﻗﻠﺒﻲ ﻟﻬه ﺍﻟﻤﻔﺎﺟﺄﺓ ﻏﻴ ﺍﻟﻤﺘﻗﻌﺔ. ؤﻟ ﺗﻤِ عدة ﺃﻳﺎﻡٍ ﺣﺘﻰ ﻛﺎﻥ ﻗ ﺗﻘﻡ ﻟﻲ، وبعد ﺷﻬٍ ﻭﻧﺼﻒ ﺍﻟﺸﻬ ﻛﻨﺎ ﻗﻭﺟﻨﺎ، ﻭﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔ ﺑﺎﻷﻣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ. ﻭﺑﺃﺕُ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﺍﻟﻭﺟﻴﺔ ﻣﺘﻔﺎﺋﻠﺔً ﻭﺳﻌﻴﺓً، وﻭﺟﺕُ ﻓﻲ ﺯﻭﺟﻲ ﻛﻞ ﻣﺎﺗﻤﻨﻴﺘﻪ ﻟﻨﻔﺴﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺟﻞ ﺍﻟﻱ ﺃﺳﻜ ﺇﻟﻴﻪ ﻣٍ ﻭﺣﻨﺎﻥٍ ﻭﻛﻡٍ ﻭﺑٍِ ﺑﺄﻫﻠﻪ ﻭﺃﻫﻠﻲ. ﻏﻴ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻬﺭ ﻣﻀ ﻭﻟ ﻋﻠﻲّ ﺃﻳﺔ علامةٍ من ﻋﻼﻣﺎﺕ ﺍﻟﺤﻤﻞ، ﻭﺷﻌﺕُ ﺑﺎﻟﻘﻠ ﺧﺎﺻﺔً ﺃﻧﻲ ﻛﻨُ ﻗ ﺗﺠﺎﻭﺯﺕُ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼﺛﻴ، ﻭﻠﺒُ ﻣ ﺯﻭﺟﻲ ﺃﻥ ﺃُﺟﻱ ﺑﻌ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻴﻞ ﻭﺍﻟﻔﺤﺹ ﺧﻓﺎً ﻣ ﺃﻻ ﺃﺳﺘﻴﻊ ﺍﻹﻧﺠﺎﺏ؛ ﻭﺫﻫﺒﻨﺎ ﺇلى ﺒﻴﺒﺔٍ مشهورةٍ ﻷﻣﺍﺽ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻠﺒ ﻣﻨﻲ ﺇﺟﺍﺀ ﺑﻌ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻴﻞ، ﻭﺟﺎﺀ ﻣ ﺗﺴﻠ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺃﻭﻝ ﺗﺤﻠﻴﻞٍ ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺟﺌُ ﺑﻬﺎ ﺗﻘﻝ ﻟﻲ ﺇﻧﻪ ﻻ ﺩﺍﻋﻲ ﻹﺟﺍﺀ بقية التحاليل؛ "ﻣﺒﻭﻙ ﻳﺎﻣﺍﻡ، ﺃنتِ ﺣﺎﻣﻞ"!

ﻣﻀ ﺑﻘﻴﺔ ﺷﻬﺭ ﺍﻟﺤﻤﻞ ﻓﻲ ﺳﻼﻡٍ، ﻭﺇﻥ ﻛﻨُ ﻗ ﻋﺎﻧﻴ ﻣﻌﺎﻧﺎﺓً ﺯﺍﺋﺓً ﺑﺴ ﻛﺒ ﺳﻨﻲ، ﻭﺣُ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺤﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻻ ﺃﻋﻑ ﻧﻉ ﺍﻟﺠﻨﻴ ﻷﻥ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻴﻨﻲ ﺑﻪ ﺭﺑﻲ ﺧﻴٌ ﻭﻓﻀﻞٌ ﻣﻨﻪ. ﻭﻛﻨُ أﺣ ﺑﻜﺒ ﺣﺠﻨﻲ ﻋ ﺍﻟﻤﻌﺘﺎﺩ، وﻓﺴتُ ذلك ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺗﺄﺧﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻤﻞ ﺇﻟﻰ ﺳ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼﺛﻴ. ﻭﺗﻤ ﺍﻟﻻﺩﺓ، ﻭﻟﻤﺎ ﺃﻓﻘُ ﻣ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻭﺟﺕُ ﺃﻫﻠﻲ ﻭﺃﻫﻞ ﺯﻭﺟﻲ ﺣﻟﻲ ﺟﺎﻟﺴﻴ ﻳﻀﺤﻜ

ﻓﺴﺄﻟﺘﻬ: "ﻣﺎﺫﺍ ﺃﻧﺠﺒ"؟ ﺭﺩﻭا ﺑﺼﺕٍ ﻭﺍﺣٍ: "ﺑﻨٌ ﻭﺻﺒﻲ"، ﻫﻤﺴُ في نفسي: "ﺗﺃﻡ؟! جبرتَ بخاطري يا رب، ما أكرمك"، ﻭﺑﺃﺕ ﺩﻣﻉ ﺍﻟﻔﺡ ﺗﻐﺴﻞ ﻭﺟﻬﻲ، ﻭﺗﺕُ ﺍﻟﻤﺃﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻡ الشريف بمكة وهي تتلو الآية الكريمة: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، وتذكرتُ قول ﺍﻟﺤ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ﻭَﺍﺻْﺒِْ ﻟِﺤُﻜِْ ﺭَﺑَِّ ﻓَﺈِﻧََّ ﺑِﺄَﻋْﻴُﻨِﻨَﺎ﴾.

 

أحبتي في الله .. تقول صاحبة القصة: عندما يُشيع الميت إلى مثواه الأخير يُسأل أهله عما إذا كان عليه دَيْنٌ حتى يسددوه عنه، لكن هناك ديوناً معنويةً من يا تُرى سوف يسددها عنه؟ فمن سوف يسدد ديون من يكسر خاطر أحدٍ في هذه الدنيا؟ لكن الله لطيفٌ بعباده، رؤوفٌ بهم، وهو سبحانه وتعالى الذي يهيئ لهم الخير ويجبر خاطرهم.

 

والجبر كلمةٌ مأخوذةٌ من «الجبار» وهو من أسماء الله الحسني، معناه: "الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ".

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، عن هذه الآية يقول المفسرون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أحب مكة التي وُلد فيها ونشأ أُخرج منها ظلماً، فاحتاج في هذا الموقف الصعب وهذا الفراق الأليم إلى شيءٍ من المواساة والصبر، فأنزل الله تعالى له قرآناً مؤكداً بقسمٍ؛ أن الذي فرض عليك القرآن وأرسلك رسولاً، وأمرك بتبليغ شرعه، سيردك إلى موطنك مكة عزيزاً منتصراً، وهذا ما حصل، والآية بهذا المعنى فيها جبرٌ لخاطر النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، فسر العلماء هذه الآية بقولهم إنها رسالةٌ إلى كل مهمومٍ ومغمومٍ، وتسليةٌ لصاحب الحاجة، وفرجٌ لكل من وقع ببلاءٍ وفتنة؛ أن الله يجبر كل قلبٍ لجأ إليه بصدق. ومثلها في ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ . وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾، ففيه كما يقول العلماء أجمل تطييبٍ للخاطر، وأرقى صورةٍ للتعامل؛ فكما كنتَ يتيماً يا محمد -عليك أفضل الصلاة وأزكى السلام-، فآواك الله، فلا تقهر اليتيم، ولا تُذله، بل: طيِّب خاطره، وأحسن إليه، وتلطف به.

 

وكان من دعاء النبي صلي الله عليه وسلم بين السجدتين: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي].

 

يقول أهل العلم إن (جبر الخواطر) من العبادات الخفية، ربما لزهد الناس بها وغفلتهم عنها، ومع ذلك فأجرها يفوق الكثير من العبادات والطاعات، حتى أن أحد العلماء قال عنها: “ما رأيت عبادةً يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.

و(جبر الخواطر) لا يحتاج إلى كثير جهدٍ ولا كبير طاقةٍ؛ ربما يحتاج البعض لمساعدةٍ ماليةٍ، وربما ينتظر البعض قضاء حاجةٍ، لكنهم جميعاً في حاجةٍ إلى المعاملة الحسنة والبشاشة والكلمة الطيبة والابتسامة؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ]،

فعلينا أن نجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا، ونجبر خواطرهم، ولا نبخل على أنفسنا بأعمال بسيطةٍ لها أجرٌ كبيرٌ بإذن الله.

 

أحبتي .. إياكم وكسر الخواطر؛ فإنها ليست عظاماً تُجبر، بل أرواحٌ تُقهر. يقول أحدهم عن (جبر الخواطر): ما أجمل أن نتقصد الشراء من بائعٍ متجولٍ في حر الشمس يُضطر للسير على قدميه باحثاً عن رزقه مساعدةً له وجبراً لخاطره. وما أروع أن نقبل اعتذار المخطئ بحقنا وخصوصاً عندما نعلم أن خطأه غير مقصودٍ وأن تاريخ صحبتنا معه طيبٌ نقيٌ، فالصفح عنه ومسامحته تُطَيِّبُ نَفسه وتَجبرُ خاطره. وتبادل الهدايا بين الأقارب والأصدقاء والأحباب من أجمل ما يُدخل الفرحة للقلب والهناء للنفس وهي سبيل الحب، وبساط الود، وطريق الألفة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: [تَهادَوْا تَحابُّوا]. كما لا ننسى صاحب الحاجة والمسكين الذي انكسر قلبه وذلت نفسه وضاق صدره، ما أجمل أن نجعل له من مالنا نصيباً، ولو كان قليلاً، بذلك نجبر كسره ونُطيِّب قلبه ولا نُشعره بالنقص.

اللهم اجبرنا يا جبار، واجعلنا ممن يجبرون بخواطر الناس، واجعل ذلك في موازين حسناتنا، وضاعفه لنا وأنت أكرم الأكرمين.

 

https://bit.ly/3e9q1sF

الجمعة، 9 أبريل 2021

ابتغاء وجه الله

 

 

خاطرة الجمعة /286


الجمعة 9 إبريل 2021م

(ابتغاء وجه الله)

 

قصةٌ حقيقيةٌ يرويها شيخٌ كبيرٌ من قبيلة مطير ب«المملكة العربية السعودية»؛ يقول:

كنا في حدود عام 1370هـ رعاة إبلٍ نجوب الصحراء، وصادف ذات يومٍ أن قاربت مؤنتنا على النفاد، ونحن آنئذٍ بالقرب من مدينة «عنيزة». ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏كنا مجموعة رعاةٍ ولم يكن مع أحدٍ منا ريالٌ واحدٌ، وأيضاً – لسوء الحظ – لم يكن معنا ما نقايض به؛ كأن نشتري تمراً أو إقطاً بسمن. اتفق الجميع على أن أنزل وحدي إلى «عنيزة»، وأن أتلمس واحداً من تجارها يُقرضنا إلى حين ميسرة. نزلتُ إلى سوق «عنيزة»، وبدأتُ أتفرس وجوه الرجال أصحاب الدكاكين، بحثاً عن تاجرٍ أتوسم فيه المروءة في ذلك الزمن الشحيح! هفت نفسي إلى رجلٍ منهم، توسمتُ فيه الخير والمروءة، فسلّمتُ عليه، ثم قصصتُ عليه خبري وخبر جماعتي. قال التاجر: "لو كنتَ وحدك لأعطيتك ما يكفيك، ولكنكم جماعةٌ تحتاجون إلى ما لا يقل عن 40 ريالاً، وهذا يضر بتجارتي، فضلًا عن أني لا أعرفك". احترتُ فيما أقول له؛ فحجته قويةٌ، ولا يُرضيني أن أضُّر بِه، وأنا بدويٌ تقذفني الصحراء من فجٍ إلى فجٍ، ولا أدري متى سأعود إليه، عندئذٍ ألهمني الله أن أتذكر محزم الرصاص الذي كنتُ ألبسه؛ فقلتُ: "خُذ هذا المحزم، فيه 10 أمشطة، تساوي 40 ريالًا، هي لك، بعها إن لم أعد بعد شهرٍ إليك". ارتاحت نفس التاجر؛ فقال: "اتفقنا، خذ بقيمة 40 ريالاً ما شئتَ من التمر، وموعدنا بعد شهرٍ: إن عدتَ، وإلا بعتُ هذا المحزم، واستوفيتُ ثمني منه". أخذتُ التمر، وعدتُ إلى رفاقي، ثم -كما هي العادة– دفعتنا الصحراء إلى بطنها؛ فمضى الأجل الذي بيني وبين التاجر، وقلتُ في نفسي: "الرجل أخذ حقه، فلتطب نفسي".

تقلّبت بي الحياة ظهراً لبطن، فتركتُ البداوة، وعملتُ سائقاً في «أرامكو»، ثم صرتُ سائقاً يقوم بتوصيل السيارات الجديدة من الميناء إلى وكالاتها. بعد قرابة 20 سنةً ذهبتُ بحملة سياراتٍ من الميناء إلى «القصيم» لإيصال السيارات إلى وكالة «المشيقح»، كانت السيارات في ذلك الزمن تحتاج إلى التبريد؛ وهو أن تُوقف السيارة فترةً مع رفع غطاء ماكينتها حتى تبرد. توقفنا في أطراف «عنيزة» لتبريد سياراتنا، ونزلتُ أتريض في بعض بساتينها، لقد تغيّرت «عنيزة»، ولك أن تتخيل ماذا فعلت الطفرة بالمدن السعودية. فيما أنا في تلك المزرعة إذ بصاحبها يقترب مني ويُسلم عليّ، فسلمتُ عليه، وأخبرته أننا مجموعةٌ من السائقين نبرّد سياراتنا، وأني دخلتُ أتريض هنا، فقال صاحب المزرعة: "قل لأصحابك ألا يطبخوا شيئاً للغداء، وأخبرهم بأنّ غداءهم عندي هنا في المزرعة". اعتذرتُ قليلاً فألحّ كثيراً. وفيما أنا أتريض معه في المزرعة تذكرتُ قصة محزم الرصاص وذلك التاجر، فقلتُ لصاحب المزرعة: "يا عم؛ لم أزر «عنيزة» منذ 20 سنةً، ولي فيها قصةٌ" ورويتُ له قصتي مع التاجر، سألني الشيخ صاحب المزرعة: "هل تذكر شكل التاجر"؟، قلتُ: "لا"، فقال: "هل تذكر أمارةً فارقةً تُذكرك به"؟، فقلتُ: "بجوار دكانه نخلة"، فقال الشيخ: "وصلتَ، أنا هو ذلك التاجر، وأتى الله بك، فقد كنتُ أنتظرك، وكتبتُ أمرك في وصيتي؛ ذاك أني بعتُ محزم الرصاص بـ 50 ريالاً، وهذا هو ثمنه الحقيقي، فأدخلتُ العشرة ريالات لك في تجارتي، وقد نما لك منها شيء"، ثم سحبني من يدي‏، وأخذني إلى فضاءٍ واسعٍ في المزرعة مليءٍ بالأغنام وقال: "هذه الأغنام كلها لك يا بني، من عشرة ريالاتٍ قبل 20 سنة". اعترتني دهشةٌ من أمانته، فقلتُ: "لا آخذ شيئاً"، فقال: "واللهِ لا أتركك"، فقلتُ: "النصيفة بيننا لترضى"، فقال: "كما تريد، فقد أزاح مجيئك عني هماً طويلاً".

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أحبتي في الله .. العجب من الاثنين؛ من التاجر لأمانته، ومن صاحب المحزم لسخائه. أما التاجر فقد اتقى الله سبحانه وتعالى، واحتفظ لرجلٍ -لا يعرفه- بحقه، بل ونمَّى له هذا الحق على مدار عشرين عاماً، وقاوم ما يُزينه له الشيطان بوساوسه ونزغه، ولم يكتفِ بذلك؛ بل وإبراءً لذمته كتب هذا الحق وما صار إليه بعد نمائه في وصيته التي تركها لأبنائه! لم يقصد من ذلك إلا (ابتغاء وجه الله)، وجاهد نفسه، وتغلب على شيطانه، أبدله الله خيراً؛ بما أهداه إياه البدوي صاحب المال عن سلامة صدرٍ ورضا نفسٍ وطيب خاطر، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ].

يقول أهل العلم إن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاث جُمَل؛ الأولى قوله: [لَنْ تَدَعَ شَيْئًا]، وهذا لفظٌ عامٌ يشمل كل شيءٍ يتركه الإنسان ابتغاءَ وجه الله تعالى. الثانية: قوله: [للهِ -عزَّ وجلَّ-]، هذه الجملة بَيَّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن التَرك لابد أن يكون ابتغاءَ مرضاة الله، لا خوفاً من سُلْطانٍ، أو حَيَاءً من إنسانٍ، أو عدم القدرة على التمكن منه، أو غير ذلك. الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: [أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]، وهذه الجملة فيها بيانٌ للجزاء الذي يناله من قام بذلك الشرط، وهو تعويض الله للتارك خيراً بأفضل مما ترك. والعوض من الله قد يكون من جنس المتروك، أو من غير جنسه، ومنه الأنس بالله عزَّ وجلَّ ومحبته وطُمأنينة القلب وانشراح الصدر. ولا يكون الجزاء في الدنيا فقط بل وفي الآخرة أيضاً؛ قال صلى الله عليه وسلم، فيما يَرْوِيه عن ربه: [يقول الله: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أنْ يَعْمَلَ سَيئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوا لَهُ حَسَنَة، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سُبْعُمَائَة].

 

يقول العلماء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما هاجروا تركوا ديارهم وأموالهم (ابتغاء وجه الله) تعالى، فعوَّضهم الله بأن جعلهم قادة الدنيا، وحُكَّام الأرض وفتح عليهم خزائن كِسْرَى وقيصر، مع ما يُرجى لهم من نعيم الآخرة. ومن الصحابة من نزل فيه قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

ونبي الله سليمان عليه السلام، من حبه للجهاد في سبيل الله، كانت عنده خيلٌ كثيرةٌ، وكان يحبها حباً شديداً، فاشتغل بها يوماً حتى فاتته صلاة العصر، فغربت الشمس قبل أن يُصلي، فأمر بها فرُدَّتْ عليه، فضرب أعناقها وعراقبيها بالسيوف؛ إيثاراً لمحبة الله عزَّ وجلَّ، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم، فعَوَّضه الله خيراً منها الريح التي تجري بأمره رخاءً حيث أصاب؛ يقول تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾.

ونبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، عُرِضَتْ عليه المغريات في أتم صورها، فاستعصم؛ فعصمه الله، وترك ذلك (ابتغاء وجه الله) عزَّ وجلَّ وفضَّل السجن على ما يدعونه إليه، وصبر واختار ما عند الله فعوضه الله تعالى أحسن العوض؛ يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

المؤكد إذن أن من ترك شيئاً (ابتغاء وجه الله) عزَّ وجلَّ أثابه الله، إلا أن الثواب قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، وثواب الآخرة مهما قَلَّ، أعظم من الدنيا وما فيها؛ قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ: دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا] ومعنى قوله: [حُلَلِ الإِيمَانِ]: يَعْنِى مَا يُعْطَى أَهْلُ الإِيمَانِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ. وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ].

 

يقول العالمون إن الله عزّ وجلّ خلق الخلق، وفطر عباده من البشر على الطاعة، ولكنّ حكمته البالغة شاءت أن يبتلي ثبات عباده، ويختبرهم في طريق الاستقامة، فوضع لهم الهوى، ونزوح النفس الأمّارة بالسوء للمعصية؛ فتدعو صاحبها إلى الانحراف عن الدين، ووسوسة الشياطين التي تُزيّن للإنسان المعصية وتجمّلها في قلبه؛ فيرتكبها. ويبتليه بمُغرَيات الدنيا وملذّاتها التي تُعظِّم زينة الدنيا في قلب الإنسان، ومن هنا كان العبد في طريق الثبات على الطريق المستقيم أمام أعداء كُثرٍ، ويحتاج في هذا الطريق إلى إيمانٍ عميقٍ بأنّ ما يتركه من عملٍ أو قولٍ (ابتغاء وجه الله) تعالى، يُبدله الله خيراً منه، ويُعوّضه بما يُفرح قلبه.

وإن أهل التقوى والبصيرة لا يأبهون بالعوِض الذي ينالونه في الدنيا، وإنما كل همّهم ومنتهى آمالهم أن ينالوا العوض في الآخرة، بل إنهم إذا أدركوا من ذلك شيئاً في الدنيا، فإنهم يداخلهم الخوف والوجل، يخشون أن يكونوا ممن عُجلت لهم طيباتهم في الدنيا. فما دام العبد قد ترك شيئاً مما نهاه الله عنه، لا يتركه إلا لوجه الله عزَّ وجلَّ فالعوض له محققٌ، وهذا وعدٌ من الله، ولن يُخلف الله وعده. حتى أن أحد الصالحين قال:

"لا يقدر رجلٌ على حرامٍ ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله عزَّ وجلَّ، إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة"، وقيل: "لو اتقى اللهَ السارقُ، وترك سرقة المال المعصوم، لم يفعل ذلك إلا لوجه الله؛ لآتاه الله مثله، بل وخيراً منه، حلالاً؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾".

 

أحبتي .. فلينظر كلٌ منا إلى حاله، ماذا يمكن أن يترك من المعاصي (ابتغاء وجه الله)، وليجعل ذلك خبيئةً بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فيثيبه الله في الدارين: الدنيا والآخرة.

يقول واعظٌ: "طهر قلبك من الحسد والغل والحقد والكراهية والبغض وقطيعة الرحم. اترك الكبر والتعالي وغمط الناس حقوقهم. اترك النظر إلى الصور والمقاطع والشاشات المحرمة. اترك السجائر والمخدرات والمسكرات. تُب عن الغيبة والنميمة والكذب. غُض بصرك واتقِ الله في الخلوات. افعل ما استطعت من ذلك، واترك ما استطعت من الخطايا، رجاء ما عند الله تعالى من الأجر والثواب، يوسع صدرك، ويُيسر أمرك، ويزيد رزقك، ويُسعدك في الدنيا والآخرة".

أحبتي .. فلنفر من المعاصي والخطايا كما يفر المرء من عدوٍ يلاحقه، ولنبتعد ونُقلع عنها (ابتغاء وجه الله)، ولنتذكر أنه لا يمنعنا عن تركها والبُعد عنها إلا الكبر أو العند أو تزيين الشيطان.

جعلنا الله ممن يتقونه ويخشونه، ويرجون رضاه ومغفرته، ويطمعون في رحمته ويأملون ثوابه.

 

https://bit.ly/3wH5DaO

الجمعة، 2 أبريل 2021

يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق

 

خاطرة الجمعة /285


الجمعة 2 إبريل 2021م

(يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)

 

سيدةٌ تعمل لدي شركةٍ لتنسيق وتجميل الحفلات في «المملكة العربية السعودية»، تقول إنها ذات يومٍ كان لديها طلب تجهيز صينيتين شوكولاتة من محل راقٍ جداً بمناسبة عقد قران عروس، وكان سعر الصينية الواحدة 800 ريال، في الساعة الثانية ظهراً تسلمت الصينيتين من المحل، وفي الساعة الرابعة عصراً أرسلتهما مع السائق لبيت العروس. تقول السيدة: انتهت المهمة بنجاحٍ، وعند الساعة السادسة مساءً اتصلت أم العروس وسألتني عن الصينيتين، أخبرتها بأني أرسلتهما قبل ساعتين، قالت أم العروس إنه لم يصلهم شيءٌ، والضيوف على وصول! تقول السيدة: جزعتُ واتصلتُ بالسائق وطلبتُ منه الحضور فوراً، ولما حضر ذهبتُ معه إلى البيت الذي وصَّل إليه الصينيتين. عندما وصلنا إلى البيت فإذا هو لعائلةٍ فقيرةٍ جداً عندهم 9 أطفال، اعتدتُ أن أرسل لهم بواقي البوفيهات. تقول السيدة: خرجتُ من السيارة وبابهم مفتوحٌ على مصراعيه، وأمامه الأطفال يلعبون حفاةً في الشارع، ودخلتُ منزلهم فإذا الصينيتين مفتوحتين وفارغتين تماماً وملقتين في حوش البيت، والأطفال أفواههم وثيابهم كلها ملطخة بالشوكولاتة، استعنتُ بالله ولم أنطق ببنت شفة، فهذا رزقهم ساقه الله إليهم، خرجتُ مسرعةً واشتريتُ صينيتي شوكولاتة وجملتهما بالورد الطبيعي وأوصلتهما بنفسي إلى بيت أهل العروس، وأعدتُ لأم العروس باقي الثمن؛ حيث أن الصينيتين الجديدتين لم تكونا بنفس ما طلبت؛ فطلبها يحتاج إلى حجزٍ مسبقٍ ولا يتوفر بديلٌ له. في اليوم التالي اتصلتُ بأم العروس لأعتذر عما حدث، وأحكي لها قصة البيت الذي وصلت إليه الصينيتان بالخطأ؛ فأصرت أن تزور البيت بنفسها وتشتري لهم مؤونةً، ولازالت تتذكرهم بالصدقات حتى اليوم.

فسبحان الله الرازق، (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق) ويُسَخِّرُ الناس بعضهم لبعض، ويرزق بغير حساب.

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ مشابهةٍ نقلتها وكالات الأنباء العالمية منذ عدة شهور، وكانت عن مواطنٍ بسيطٍ في دولة «غانا»، يعيش في المناطق الفقيرة، سقطت بجواره طائرة الدرون التابعة لقناة أخبار «ناشونال جيوجرافيك»، بحث أفراد الفريق الصحفي عنها ليتفاجأوا أنها بيده. سلمها لهم وهو يضحك ويقول بكل براءةٍ: "هل لديكم حجمٌ أكبرٌ منها تستطيع أن تأخذني إلى مكة لأحج"؟! قالها ضاحكًا ثم سلمها لهم، ومضوا في حال سبيلهم. قام صّحفيٌ من أعضاء الفريق بالتغريد بالصورة ومعها القصة؛ فوصل الخبر إلى الحكومة السعودية فقررت على الفور تلبية رغبة هذا المواطن البسيط وتحقيق أمنيته، وتواصلت معه السفارة السعودية، ورتبت له جميع الأمور حتى وصل إلى «مكة المكرمة» وأدى فريضة الحج على نفقة المملكة.

فالرزق ليس دوماً مالاً، الرزق أوسع من ذلك كثيراً؛ فسبحان من (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)، وسبحانه ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

ويُحكى أنه في يومٍ من الأيام كان هنالك شيخٌ عالمٌ وطالبه يمشيان بين الحقول عندما شاهدا حذاءً قديماً؛ فاعتقدا أنه لرجلٍ فقيرٍ يعمل في أحد الحقول المجاورة، وسينهي عمله بعد قليل. التفت الطالب إلى شيخه وقال: "هيا بنا نمازح هذا العامل بأن نقوم بتخبئة حذائه، ونختبئ نحن وراء الشجيرات، وعندما يأتي ليلبسه لا يجده؛ فنرى دهشته وحيرته"، فأجابه العالم الجليل: "يا بُني يجب ألا نسلي أنفسنا على حساب الفقراء، وأنت غنيٌ يمكن أن تجلب لنفسك مزيداً من السعادة بأن تقوم بوضع قطعٍ نقديةٍ بداخل حذائه، ونختبئ نحن ونشاهد مدى تأثير ذلك عليه"، أُعجب الطالب بالاقتراح، وقام بالفعل بوضع عدة قطعٍ نقديةٍ في حذاء ذلك العامل، ثم اختبأ هو وشيخه خلف الشجيرات ليريا ردة فعل ذلك العامل الفقير. بعد دقائق معدودةٍ جاء عاملٌ فقيرٌ رث الثياب بعد أن أنهى عمله في تلك المزرعة ليأخذ حذاءه؛ فتفاجأ عندما وضع رجله اليمنى في الحذاء بأن هنالك شيئاً بداخله، وعندما أراد إخراج ذلك الشيء وجده نقوداً، ووجد نفس الشيء عندما وضع رجله اليسرى في الحذاء، نظر ملياً إلى النقود، وكرر النظر ليتأكد من أنه لا يحلم، بعدها نظر حوله بكل الاتجاهات عله يجد أحداً حوله، وضع النقود في جيبه، وخرَّ على ركبتيه ونظر إلى السماء باكياً، ثم قال بصوت عالٍ يخاطب ربه: "أشكرك يا رب، علمتَ أن زوجتي مريضةٌ، وأولادي جياعٌ لا يجدون الخبز، لقد أنقذتني وزوجتي وأولادي من الهلاك"، واستمر يبكي طويلاً ناظراً الى السماء، شاكراً لهذه المنحة من الله. إنه رزق الله ساقاه له؛ فسبحان من (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)، وسبحان من ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾.

 

ويُحكى أيضاً أنه كان هناك رجلان ذهب بصرهما، جلسا ذات يومٍ على طريق «أم جعفر، زبيدة العباسية» لأنهما يعلمان بكرمها وحرصها على مساعدة الفقراء والمحتاجين، فكان أحد الرجلين يدعو الله عزَّ وجلَّ قائلاً: "اللهم ارزقني من فضلك"، بينما كان الآخر يدعو قائلاً: "اللهم ارزقني من فضل أم جعفر". وكانت «أم جعفر» تعلم بدعاء الرجلين وتسمعهما؛ فكانت ترسل لمن يطلب الفضل والنعمة من الله عزَّ وجلَّ درهمين، بينما ترسل لمن يطلب الفضل منها دجاجةً مشويةً في جوفها عشرة دنانير، فكان في كل يومٍ يبيع صاحب الدجاجة دجاجته لصاحب الدرهمين مقابل درهمين فقط، دون أن يدري أن في جوف الدجاجة عشرة دنانير. واستمر الرجلان على هذا الحال لعدة أيامٍ متتاليةٍ، ثم أقبلت «أم جعفر» عليهما وقالت للرجل الذي يطلب الفضل منها: "أما أغناك فضلنا"؟ فقال الرجل: "وما هو"؟ فقالت: "مائة دينارٍ في عشرة أيام"، فأجابها الرجل متعجباً: "لا، بل دجاجةٌ كنتُ أبيعها لصاحبي بدرهمين"، فقالت «أم جعفر»: "هذا طلب من فضلنا فحرمه الله، وذاك طلب من فضل الله فأعطاه الله وأغناه".

إنه هو الله الرزاق (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.

 

سبحانه وتعالى إذا أراد لك خيراً سخّر لك الدنيا كلها جنوداً لتنفيذ ما كتبه الله لك ولتحقيق أمنياتك. هو الله يرزق النّملة السّوداء على الصّخرة الصّماء في اللَّيْلَة الظلماء، ويرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾.

والرزق ليس كما يتصور البعض؛ مالٌ فحسب، بل الإيمان رزق، والزوجة الصالحة رزق، والذرية البارة رزق، والعلم رزق، ومحبة الناس رزق، والصحة رزق، وكثيرٌ غير ذلك هي من نعم الله سبحانه وتعالى وهي أرزاقٌ للبشر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

 

صدق الشاعر حين قال:

لَوْ أَنْ في صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ

في البَحْر رَاسِيَةٌ مِلْسٌ نَوَاحِيهَا

رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ

حَتَّى تُؤدِّي إِلَيْهِ كُلَّ مَا فِيهَا

أَوْ كَانَ فَوْقَ طِباقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا

لَسَهَّلَ اللهُ في المَرْقَى مَرَاقِيهَا

حَتَّى يَنَال الذِي في اللَّوحِ خُطَّ لَهُ

فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلاّ سَوْفَ يَأْتِيهَا

 

أحبتي .. كونوا مع الله، وأخلصوا النية له، وألحوا عليه في الدعاء. تعرفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة. حذارِ أن يكون من بيننا من يظن أن الرزق بيد فلانٍ أو علان، أو أن جهده وسعيه هو فقط سبب رزقه، فالرزاق هو الله ذو القوة المتين؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ وهو سبحانه الذي ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾.

ولنتذكر قول رسولنا الكريم ﷺ: [... ولا يحْمِلَنَّكم اسْتِبْطاءُ الرِّزقِ أن تَأخذُوهُ بِمعصيةِ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ لا يُنالُ ما عِندَه إلا بِطاعتِه]. فلنطع المولى عزَّ وجلَّ، ونسعى في طلب الرزق بالحلال، موقنين بأن الرزق هو من عند الله وحده؛ يقول تعالى: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾، عسى الله أن يفتح علينا أبواب الرزق فينهمر علينا مدراراً؛ فهو وحده الذي (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق).

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.

 

https://bit.ly/3fCHso6

الجمعة، 26 مارس 2021

أهل الفضل

 

خاطرة الجمعة /284


الجمعة ٢٦ مارس ٢٠٢١م

(أهل الفضل)

 

قالت الأم لزوجة ابنها مبتسمةً بعد انقضاء شهر العسل: "لقد تمكنتِ أن تجعلي ابني يلتزم بالصلاة في المسجد، نجحتِ في ثلاثين يوماً فيما فشلتُ فيه أنا في ثلاثين عاماً" وامتلأت عيناها بالدموع. ردت زوجة الابن قائلةً: "هل تعلمين يا أمي قصة: الحجر والكنز"؟، لم تنتظر الإجابة واستطردت تقول: "يُحكى أنه كان هناك حجرٌ كبيرٌ يعترض طريقاً لمرور الناس، فتطوع رجلٌ لكسره وإزالته، حاول الرجل وضرب الحجر بالفأس 99 مرةً ثم تعب، ثم مرَّ به رجلٌ فسأله أن يعاونه، وفعلاً تناول الرجل الفأس وضرب الحجر الكبير فانفلق من أول ضربةٍ.

‏ وكانت المفاجأة أنهما وجدا صرةً مملوءةً بالذهب تحت الصخرة؛ فقال الرجل: "هي لي؛ أنا فلقتُ الحجر"، فتخاصم الرجلان إلى القاضي، قال الأول: "ليعطيني بعض الكنز؛ أنا ضربتُ الحجر 99 ضربةً ثم تعبت"، وقال الآخر: "الكنز كله لي؛ أنا الذي فلق الحجر"، فرَّد القاضي: "للأول 99 جزءاً من الكنز، ولك يا من فلقتَ الحجر جزءاً واحداً. يا هذا لولا ضرباته ال99 ما انفلق الحجر في الضربة المئة".

ثلاثون عاماً والأم تحث ابنها على الصلاة دونما يأس، ثم تفرح أن ابنها صلى استجابةً لطلب زوجته، رغم أنه عصاها ثلاثين عاماً!

ثم ما أجمل تصرف زوجة الابن، وما أعظم أخلاقها، حينما لم تنسب الفضل لنفسها، بل جعلت الأم تثق تماماً أن تعبها لم يضع سدىً، وأنها هي التي أنشأت حجر الأساس وقامت بالبناء لبنةً لبنةً حتى بقيت اللبنة الأخيرة التي أكملتها زوجة الابن.

 

أحبتي في الله .. نسبة الفضل لصاحبه خُلُقٌ إسلاميٌ راقٍ ونبيل، امتدح الله عزَّ وجلََ من يعترف بالفضل لأصحابه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾.

وهو خُلُق علمنا إياه سيد البشر، نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ إذ وجهنا إلى أن نشكر صاحب الفضل؛ فمن يشكر (أهل الفضل) إنما يشكر ربه عزَّ وجلَّ، لأنه هو الذي أجرى هذا الفضل على هؤلاء؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا أولُوا الفضل]. كما أمرنا بأن نكافيء صاحب الفضل؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ]، وأحسن ما يُدعى به لصاحب المعروف أن يُقال له: "جزاك الله خيراً"؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ].

 

ومن المواقف التي يظهر فيها كمال خُلُق نبينا الكريم، وحرصه على حق (أهل الفضل) في الوفاء والعرفان، ما أخبرت به السيدة عائشة رضي الله عنها؛ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ"، قَالَتْ: "فَغِرْتُ يَوْمًا..، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ -تغمز عن كبرها وسقوط أسنانها- قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا"، فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم معترفاً بفضلِ خديجة: [مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ..].

وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِالشَّيْءِ يَقُولُ: [اذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلَانَةٍ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةَ خَدِيجَةَ، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَيْتِ فُلَانَةٍ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ]. وعَنْ السيدة عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا بِي أَنْ أَكُونَ أَدْرَكْتُهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيَتَتَبَّعُ بِهَا صَدَائِقَ خَدِيجَةَ فَيُهْدِيهَا لَهُنَّ».

فهل بعد ذلك من وفاءٍ وردٍ للجميل وعرفانٍ بالفضل؟

 

وكان ذلك خُلُق الصحابة والتابعين؛ فقد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهما ركابيهما حتى خرجا من عنده، فقال له بعض من حضر: "أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسنُّ منهما"؟ فقال له: "اسكتْ يا جاهل، لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا ذَوُو الفضل".

وهذا هو الخليفة العباسي المأمون، علم أن معلم ابنيه، أراد أن ينهض إلى بعض شأنه، فابتدر ابنا الخليفة إلى نعله يقدمانها له، فتنازعا أيهما يفعل، ثم اتفقا على أن يُقَدِّم كل واحدٍ منهما فردةً، فقدماها. فاستدعى المأمون المعلم وسأله عن ذلك، قال المعلم: "يا أمير المؤمنين، لقد أردتُ منعهما من ذلك، ولكن خشيتُ أن أدفعهما عن مَكْرُمَةٍ سبقا إليها، وأكسر نفوسهما عن شريفةٍ حرصا عليها"؛ فقال له المأمون: "لو منعتَهما عن ذلك لأوجعتُك لوماً وعتباً، وألزمتُك ذنباً، وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبيّن عن جوهرهما". وأمر للمعلم بمكافأةٍ على حُسن أدبه للولدين.

 

يقول أهل العلم إن الاعتراف بفضل (أهل الفضل) خُلقٌ رفيعٌ تعرفه النفوس الكريمة، وتنكره الطبائع المتمردة اللئيمة. إنه الإقرار بفضل من يصدر منه الفضل دون جحودٍ أو نسيانٍ، جحودٍ يغمط الحق، أو نسيانٍ يستر الإحسان.

ولهذه الصفة وقعٌ إيجابيٌ وأثر ٌطيبٌ، ليس على الفرد فقط، بل وعلى المجتمع كله؛ فطبيعة الإنسان أنه ينشط إذا فَعل الفضل فأُثني عليه، مما يدفع الناس لينشطوا في بذل الخير والزيادة فيه. إن عدم الاعتراف بفضل الناس هو الكِبْر بعينه؛ قال عليه الصلاة والسلام: [الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَاسِ]. وقد سُئل حكيمٌ: "ما التواضع"؟ قال: "ألا تقابل أحداً إلا رأيتَ له الفضل عليك، بكلمةٍ قالها لك، أو معروفٍ أسداه إليك، أو ابتسامةٍ قابلك بها".

 

كيف ننسى فضل من أحسن إلينا يوماً، ولله در القائل:

أحسِنْ إلى الناسِ تستعبدْ قلوبَهم

فلطالما استعبدَ القلبَ إحسانُ

وقال الشاعر:

ومَن يُسدِ مَعروفاً إليكَ فكُن لَهُ

شَكُوراً، يكُن مَعروفُهُ غيرَ ضائعِ

ولا تبخلنَّ بالشكرِ، والقَرْضَ فاجْزِهِ

تكنْ خَيرَ مَصنوعٍ إليه وصَانعِ

وقال ثالثٌ:

إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ

واللؤمُ مقرونٌ بذي الإخلافِ

وترى الكريمَ لمن يعاشرُ منصفًا

وترى اللئيمَ مُجانبَ الإنصافِ

 

أحبتي .. الكلمة الطيبة صدقةٌ، فلا تبخلوا بردٍ جميل، وكلمةٍ طيبةٍ لكل من أسدى إليكم معروفاً. إياك أن ننسى من أحسن إلينا في وقتٍ كنا فيه بأمَّس الحاجة إليه. لنكن جميعاً من (أهل الفضل) ولنُعَوِّد أنفسنا على شكر الناس، ولو على أقل شيءٍ يقدمونه أو يفعلونه لنا. ليكن هذا ديدننا مع الصغير والكبير، مع الغني والفقير، مع الرئيس والمرؤوس، مع القريب والبعيد، مع المسلم وغير المسلم. لنجعل ذلك منهج حياةٍ؛ فلكلمة الشكر مفعول السحر في كسب القلوب واستمالة النفوس.

ولا ننسَ نية أن يكون ذلك تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، واقتداءً بسنة رسوله الكريم، صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى نؤجر ونثاب، ومَن منا مستغنٍ عن الأجر والثواب؟!

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/3lVO41H

 

الجمعة، 19 مارس 2021

كفارة اليمين

 

خاطرة الجمعة /283


الجمعة ١٩ مارس ٢٠٢١م

(كفارة اليمين)

 

يقول راوي القصة:

اضطررتُ للعمل وأنا أحضر للماجستير فعملتُ في جمعيةٍ خيريةٍ، وكانت وظيفتي في استقبال التبرعات الخاصة بالأعمال الخيرية، والمشاركة في توزيعها، فضلاً عن تنظيف المكان، وترتيباتٍ إداريةٍ أخرى. وكان إذا حلَّ المساء جلستُ مستقبلاً المتبرعين. في أحد الأيام دخل عليّ رجلٌ وألقى التحية؛ فرددتُ التحية بأحسن منها! سألني: "هل يُدفع هنا لكفارة اليمين؟ وهل تكفي خمسمائة ليرة لذلك؟ فقد أُخبرت أنها مقدار الكفارة"، قلتُ له: "لا يجوز إخراج (كفارة اليمين) نقداً؛ لذا فإنه يمكن لك أن توكلنا لننوب عنك في إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم"، وذكرتُ له الآية الكريمة: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، قال: "أتنصحني بأن أوكلكم"؟ قلتُ: "أنصحك بالأفضل من ذلك؛ أن تذهب بنفسك وتشتري طعاماً لذيذاً يشتاقه أهلك، وتجهزه، ثم تبحث بنفسك عن مساكين توصله إليهم، والإطعام يوجب حُسن العِشرة، فتعرف عليهم"، رد عليّ قائلاً: "سأفعل بإذن الله"، قلتُ: "حسناً تفعل، واعلم أن القيام بمثل هذا العمل، مع مشقته لا يكون كفارةً فحسب، بل ويكون حرزاً بإذنه تعالى عن الوقوع بمثله في المستقبل"، فقال لي: "صدقني؛ لا يخلو شهرٌ من كفارة يمينٍ أرصد لها من الميزانية خمسمائة ليرة!".

ذهب الرجل، ثم التقيتُه بعد مدةٍ فسألتُه: "ما فعلتَ بكفارة اليمين"؟ فأخبرني أنه ذهب إلى الجزار واقتطع لحماً، وذهب به إلى خبازٍ ليعده طعاماً جاهزاً، وتجوَّل في السوق آخذاً معه بعض الفاكهة، وما يُشارَك على المائدة، وكان يُحدِّث نفسه وهو يشتري؛ فيقول: "هذا يحبه ابني، وهذ تستطيبه ابنتي"، وامتلأت يداه طعاماً لذيذاً يُحَبُ للأهل، ثم توجه إلى مختار الحي وسأله عن عائلةٍ فقيرةٍ فأرشده إلى عائلةٍ تسكن على سطح بناءٍ، وعددهم يقارب العشرة. توجه إليهم وبدأ يصعد الدرج ونفسه فَرِحة؛ يقول: "واللهِ إني لأشعر أنني أحقق مراد الله من الآية". وصل السطح وقد تعب من صعود الدرج، ووجد أمام الباب أطفالاً بثيابٍ رثةٍ يلعبون، أسرعوا مهرولين للداخل، فصاح الرجل مستأذناً أهل الدار، فأجابه رجلٌ عجوزٌ: "تفضل! من تريد"؟ قال: "عفواً، أنا أتيتُ لزيارتكم"، استغرب الرجل العجوز وقال: "أهلا وسهلاً، ولكن نأسف فلا شيء يليق عندنا باستقبال الضيوف"، فأجابه الرجل: "بل أنتم أهلٌ، والمكان بأصحابه"، واستأذن دقيقةً ليأخذ له طريقاً. بعد قليلٍ قيل له تفضل، والخجل يعلو وجه العجوز لما يفقد المكان من حُسن الضيافة. فلما دخل الرجل، إذا هي غرفةٌ واحدةٌ، في زاويةٍ من زواياها مربعان صغيران لعلهما المطبخ والحمام، وانزوى الجميع في زاويةٍ، الأطفال جلسوا حول أمهم وجِدَتهم، ومعاقٌ في طرفٍ متمدد، حصيرٌ مهترئٌ، واسفنجٌ رقيقٌ. بيتٌ خالٍ من كل شيءٍ؛ لا موقد ولا ثلاجة ولا أي شيءٍ .. يا الله.. يا الله.. أي فقرٍ هذا؟ وأي حاجةٍ؟ وأي طعامٍ أحمل في يدي؟ واخجلتاه من هذا الطعام! تمالك نفسه وجلس يسايرهم ويسأل عن أسمائهم واقترب من المعاق مُقَبِّلاً رأسه. وأشار العجوز عليهم بأن يصنعوا قهوةً أو شاياً ترحاباً بالضيف المجهول. فقلتُ: "لا يمكن قبل تناول الطعام، فهذا طعامٌ بمناسبة نجاح ابني، وأنا أوزعه في الجوار؛ فتقبلوه هديةً واسمحوا لي بالمغادرة لأنني مكلفٌ بإيصال طعامٍ للأقارب"، تقبل العجوز جد الأيتام الهدية بخجلٍ، وعانق الرجل الذي وعده بزيارةٍ قريبةٍ. يقول الرجل: "حبستُ أنفاسي ودموعي حتى غادرت؛ ولم أتمالك نفسي في حبس دموعي وأنا أنزل الدرج، يا الله!! كم نُقَصِّر في شكر نعمائك!! كم نُقَصِّر في الإحسان للمساكين من خلقك!! يا الله ما أكرمك!! حتى في الكفارة تُحسن وتُصلح خلقك"!!

يقول الرجل: "رجعتُ إلى بيتي، وحدثتُ إخوتي وأهلي عما حدث معي، ثم جمعتُ خير الأثاث ومتطلبات بيتٍ مع بعض الأطعمة الممونة وألبسةً وفرشاً، وزهدت نفسي بكل ما عندي، وتمنيتُ لو أهبه كله لهم". في المساء وصلت سيارةٌ كبيرةٌ أسفل مسكن العجوز والأيتام، وبدأ العمال ينقلون الهدية الجديدة، وعيون الأطفال ترقبهم، ونظرات الجميع تنبيء عن سرور.

ومنذ ذلك الوقت، وهو يتعهدهم بالسؤال، وصار يزورهم وكأنهم من الأرحام. قال لي ودمع عينيه يسابق كلامه: "سبحانه هو الحكيم، وجزاك الله عني خيراً، وواللهِ أول مرةٍ أشعر أني أُكَفِّر عن اليمين بحق".

 

أحبتي في الله .. إن للأحكام، في كتاب الله وسُنة رسوله، أسراراً وحِكماً عظيمةً؛ لا تُدرَك إلا بالإتيان بها على وجهها المأمور به، ومن ذلك أحكام (كفارة اليمين).

 

واليمين -كما يقول أهل العلم- له أنواعٌ:

اليمين الغموس: هي المحلوفة على ماضٍ مع كذب صاحبها وعلمه بالحال، وسُمِّيت هذه اليمين غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، والإتيان بهذه اليمين حرامٌ وكبيرةٌ من الكبائر؛ لما فيها من الجرأة العظيمة على الله تعالى، ويجب على من اقترف هذه اليمين أن يتوب إلى الله عزَّ وجلَّ ويندم على ما فعله، ويعزم على عدم العودة إلى مثله، وعليه (كفارة اليمين).

ويمين اللغو: وهي التي يسبق اللسان إلى لفظها بلا قصدٍ لمعناها؛ كقولهم: "لا والله" و"بلى والله" في نحو صلة كلامٍ أو غضبٍ، سواءً أكان ذلك في الماضي أو الحال أو المستقبل، وهذه اليمين لا إثم على قائلها، ولا كفارة عليه.

واليمين المعقودة: وهي كل يمينٍ لا تُعَدُّ لغوًا. ومَن حلف يمينًا معقودةً على أمرٍ وحنث فيها، تكون (كفارة اليمين) واجبةً عليه، ويُخَيَّر فيها بين ثلاثة أمور:

-إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يُطعم أهله، فيعطي كل مسكينٍ نصف صاعٍ من غالب طعام البلد، كالأرز مثلاً، ومقداره كيلو ونصف تقريباً، وإذا كان يعتاد أكل الأرز مثلاً ومعه إدام وهو ما يُسمى في كثيرٍ من البلدان "الطبيخ" فينبغي أن يعطيهم مع الأرز إداماً أو لحماً، ولو جمع عشرة مساكين وغداهم أو عشاهم كفى.

-كسوة عشرة مساكين، فيكسو كل مسكينٍ كسوةً تصلح لصلاته، فللرجل قميصٌ "ثوب" أو إزارٌ ورداءٌ، وللمرأة ثوبٌ سابغٌ وخمار.

-تحرير رقبة مؤمنة.

وبما أنّ الرّقبة في هذا الزمان تكاد تكون معدومةً وغير موجودةٍ؛ فإنّ الإنسان الذي لزمته كفّارة اليمين مخيّرٌ بين الإطعام أو الكسوة، فإن لم يقدر على أيٍّ منهما وجب عليه حينها صيام ثلاثة أيّامٍ متتابعة.

وجمهور العلماء على أنه لا يُجزئ إخراج الكفارة نقوداً؛ لأن الله ذكر الطعام فلا يحصل التكفير بغيره، ولأن الله خَيَّرَ بين الأشياء الثلاثة، ولو جاز دفع القيمة لم يكن التَخْييرُ منحصراً في هذه الثلاثة.

 

ومن صيغ اليمين: واللهِ، باللهِ، تاللهِ، وربِ العالمين، والحي الذي لا يموت، ونحو ذلك من أسماء الله عزَّ وجلَّ. أو من صفاته مثل: وعظَمةِ الله، وعزةِ الله، ورحمةِ الله، وقدرةِ الله، ونحو ذلك. أو يحلف بكتاب الله، أو القرآن، أو المصحف؛ لأنها كلام الله سبحانه وتعالى.

إن الإنسان عند حلف اليمين أمامه أمران لا ثالث لهما: إما الحلف بالله، وإما السكوت وعدم الحلف بغيره، ولو كان ذلك الغير بالغاً من التعظيم اللائق به ما بلغ؛ كأنبياء الله ورسله وملائكته والكعبة، فلا يجوز أن يقول المسلم في حلفه: والنبي، وجبريل، والكعبة، وبيتِ الله، وحياتي، وحياتك، وحياة فلان، وغير ذلك من المخلوقات؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ألا إنَّ اللَّهَ يَنْهاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ، مَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ أوْ لِيَصْمُتْ]، فوجب علينا أن نأخذ بما آتانا به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن ننتهي عما نهانا عنه؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

 

أحبتي .. أنصحكم -وأنصح نفسي- بأن نتجنب كثرة الأيْمان والحلف ما استطعنا، وأن نتذكر دائماً قوله تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾، فإذا اُضطررنا إلى الحلف علينا أن نقلل منه، وألا نحلف بغير الله. ثم يجب علينا الوفاء بما حلفنا وأقسمنا عليه، فإن لم نستطع، أو رأينا أن المصلحة تقتضي الحنث وعدم التنفيذ، صارت (كفارة اليمين) لزاماً علينا، فلنؤدها طعاماً للفقراء والمساكين، فإن لم نستطع فكسوةً لهم، فإن لم نستطع فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعة، ولا يجوز إخراج قيمتها نقداً.

اللهم أرنا الحق حقاً ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه.

 

https://bit.ly/3c1DnHV

الجمعة، 12 مارس 2021

حسبنا الله ونعم الوكيل

 

خاطرة الجمعة /282


الجمعة 12 مارس 2021م

(حسبنا الله ونعم الوكيل)

 

قصةٌ يرويها لنا خطيب أحد المساجد بالشام؛ يقول راوي القصة:

كنتُ أمشي في بعض أسواق دمشق، فخرج من أحد المحلات رجلٌ واعترضني، وقال لي: أنت تخطب في المسجد؟ قلتُ: نعم، قال لي: البارحة بأحد أسواق دمشق المغطاة، كان هناك بائع أقمشةٍ سمع إطلاق رصاصٍ، فمدّ رأسه ليرى ما الخبر، فإذا رصاصةٌ تستقر في نخاعه الشوكي، فشُلَّ فوراً؛ فما ذنبه؟ أليس العمل عبادة؟ إنسانٌ عنده أولادٌ جاء لمحله التجاري وفتحه حتى يسترزق؛ أين الخطأ؟ أين الذنب؟ هو في عملٍ في بيعٍ وشراء؟ أليس عمله مباحاً؟ فقلتُ: واللهِ أنا لا أعلم، ولكني أثق في عدل الله، أثق أن الله عادلٌ، لكن لماذا حصل له ذلك، لا أعلم.

ولحكمةٍ بالغةٍ بعد عشرين يوماً كان عندي في المسجد أحد الأخوة، وهو مديرٌ لأحد المعاهد، قال لي: أنا ساكنٌ في أحد أحياء دمشق، لنا جارٌ فوقنا مغتصبٌ لبيتٍ لأولاد أخيه الأيتام، وخلال ثماني سنواتٍ رفض أن يعطيهم إياه، فشكوه إلى أحد العلماء الأفاضل هو شيخ قرّاء الشام -تُوفي رحمه الله- فاستدعى العالِم الجليل عم هؤلاء الأيتام، وتكلم معه في الأمر؛ فرفض -بوقاحةٍ- أن يعطي أولاد أخيه البيت. كان العالِم حكيماً فخاطب أبناء أخ ذلك الجار وقال لهم: يا أولادي هذا عمكم، لا يليق بكم أن تشكوه إلى القضاء، اشكوه إلى الله؛ قولوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فقالوها جميعاً ثم انصرفوا. كان هذا الكلام في الساعة التاسعة مساءً، الساعة التاسعة صباحاً كان العم المغتصب هو نفسه الذي أطلّ برأسه ليرى ما الخبر، فجاءت رصاصةٌ -لا تقل طائشة- بل كانت مصوبةً نحوه؛ فاستقرت في عموده الفقري، فشُلّ فوراً.

 

أحبتي في الله .. لقد رفع المظلومون قضيتهم إلى الله سبحانه وتعالى حينما قالوا (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وقتها انتقل ملف قضيتهم من الأرض إلى رب الأرض، ومن المخلوق إلى الخالق. انتقل الملف من أيدي الضعاف إلى عرش ملك الملوك القوي القاهر الجبار الكبير المتعال، ومن دهاليز محاكم الأرض إلى عدالة محكمة الآخرة والتي من قوانينها:

أن الملفات علنيةٌ غير سريةٍ؛ يقول تعالى: ﴿ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا﴾. والحضور تحت حراسةٍ مشددةٍ وبوجود شهود؛ يقول تعالى: ﴿وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾. والظلم فيها مستحيل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾. كما أنه ليس هناك محامٍ يدافع عنك؛ يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾. والرشوة والواسطة مستحيلةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾. كل شيءٍ مسجلٌ وموثقٌ ومرصودٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. أما استلام الحكم فيكون باليد؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾. ولا يوجد حكمٌ غيابيٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾. ولا يوجد استئنافٌ للحكم ولا نقضٌ؛ يقول تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾. وشهود الإثبات لا يكذبون؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

لا توجد ملفاتٌ منسيةٌ؛ يقول تعالى: ﴿أحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾. إنه ميزانٌ دقيقٌ للأعمال؛ يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسبين﴾.

 

يقول أهل العلم إن (حسبنا الله ونعم الوكيل) من أعظم الأدعية الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة، وردت مشروعيته في القرآن الكريم في حكاية الله عز وجل عن الصحابة الكرام في أعقاب معركة أُحُد، في "حمراء الأسد"، وذلك حين خوَّفهم بعضُ المنافقين بأن أهل مكة جمعوا لهم الجموع التي لا تُهزم، وأخذوا يثبِّطون عزائمهم، فلم يزدهم ذلك إلا إيماناً بوعد الله، وتمسكاً بالحق الذي هم عليه، فقالوا في جواب هذه المعركة النفسية العظيمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل)؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ عندما قالوا ذلك كانت استجابة المولى عزَّ وجلَّ لهم فوريةً؛ يقول تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.

كما ورد في صحيح البخاري أن تلك الكلمة كانت على لسان أولي العزم من الرسل؛ قالها إبراهيم عليه السلام في أعظم محنةٍ اُبتلي بها حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس: "إن الناس قد جمعوا لكم".

ومعناها: الله وحده كافينا، ومنه اسمه تعالى الحَسيب، وهو ناصرٌ لمن انتصر به واستنصر به؛ فإذا اتجه الإنسان إليه في أموره أعانه وساعده وتولاه. وهذا الدعاء من أعظم الأدعية فضلاً وأعلاها مرتبةً؛ لأنه يتضمن حقيقة التوكل على الله عزَّ وجلَّ، ومَن صَدَق في لجوئه إلى ربه سبحانه حقق له الكفاية المطلقة، من شر الأعداء، ومن هموم الدنيا ونكدها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ ومن كفاه الله سَعِدَ في الدنيا والآخرة بقدرة الله وعزته وحكمته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذا وَقَعْتُمْ فِي الأَمْرِ العَظِيمِ فَقُولوا: حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ]. وقَالَ عليه الصلاة والسلام: [ ... فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]. وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا].

والظالم الذي يُقال في حقه هذا الدعاء ليس له إلا التوبة الصادقة، وطلب العفو ممن ظلمهم وانتهك حقوقهم، ورد المظالم إلى أهلها؛ وإلا فإن الله عز وجل سيكون خصمه يوم القيامة، وغالباً ما يُعجِّل له العقوبة في الدنيا، فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

 

قال الشاعر:

لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدراً

فَالظُلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إلى النَّدَمِ

تنامُ عَيْنُكَ والمَظْلومُ مُنَتَبِـهٌ

يَدعو عليكَ وعينُ الله لم تنمِ

وقال آخر:

أما واللهِ إنَّ الظُلمَ شُؤمٌ

وما زالَ الظَلومُ هو المَلومُ

إلى دَيانِ يومِ الدينِ نَمضي

وعندَ اللهِ تَجتمعُ الخصومُ

ستعلمُ في المعادِ إذا التقينا

غدًا عندَ المليكِ مَنْ الظَلومُ

 

أحبتي .. اتقِّوا دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب، واحذروا مقت الله تعالى وانتقامه؛ فمن قال (حسبي الله ونعم الوكيل) كفاه الله وانتقم له؛ فلنتقِ الله وننأى بأنفسنا عن أن نَظلم؛ فالظلم عاقبته وخيمةٌ على الظالم في الدنيا والآخرة. ومن كان منا قد ظَلم، فليسارع برد المظالم إلى أهلها، طاعةً لربه، والتزاماً بسُنة نبيه، ودفعاً لما سيصيبه حتماً إذا دعى المظلومون عليه وقالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل).

ربنا لا تجعلنا من الظالمين الذين قال الله عنهم: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. ولا تجعلنا من أعوان الظالمين الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: [مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ]. ولا تجعلنا اللهم ممن يرضون عن أعمال الظالمين ويميلون إليهم، ولو بقلوبهم، فهؤلاء -وإن لم يَظلموا- ستمسهم النار؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾. ولنتواصَى باتباع سِنة النبي؛ قال عليه الصلاة والسلام: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا]، قال رجلٌ: يا رسول الله، نصرتُه مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: [تحْجُزُهُ - أَوْ تمْنَعُهُ - مِنَ الظُلْمِ؛ فَإِنَّ ذلِكَ نَصرُهُ]، فإن أبي البعض منا أن ينصر أخاه، فلا أقل من أن يلتزم بالحكمة التي تقول: "إن لم تستطع قول الحق، فلا تصفق للباطل".

اللهم اجعلنا من ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

 

https://bit.ly/30z3yyY

الجمعة، 5 مارس 2021

عقوق الأبناء

 

خاطرة الجمعة /281


الجمعة 5 مارس 2021م

(عقوق الأبناء)

 

قصةٌ واقعيةٌ حدثت في زمن كورونا، كتب يقول: بعد نحو ستين سنةٍ من التعب والعمل، أمتلك الآن أربعة محلاتٍ في السوق، أعمل في واحدٍ منها، أما الثلاثة الأخرى المتبقية فهي مؤجرةٌ، بالإضافة إلى شقةٍ سكنيةٍ أعيش فيها مع زوجتي، عندي ولدان وابنتان منحتهم كل الحقوق المادية، وزوجتهم، وهم يعيشون في بيوتهم المستقلة، ولدي أحفاد كالورود، نعيش حياتنا بهدوءٍ دون أي منغصات. بعد كورونا طلبت مني زوجتي إغلاق المحل حتى لا أصاب بالعدوى لكنني أصررتُ على العمل؛ عندها قامت زوجتي بدعوة الأولاد جميعاً مع عوائلهم، وصنعت لهم وليمةً كبيرةً لأجل أن يقنعوني بترك العمل، ولم أكن أعلم بالأمر. أنهيتُ عملي مساءً وعدتُ إلى منزلي، رأيتُ المائدة مليئة بالطعام والفاكهة، ورأيتُ زوجتي مغمومةً حزينةً، وحين سألتها عن السبب أخبرتني بالأمر، وكيف أن جميع الأولاد اعتذروا عن الحضور بحججٍ واهيةٍ، والحقيقة أنهم خافوا على أنفسهم من أن يُصابوا بكورونا. اتخذتُ قراراً بترك العمل، وبعد عدة أيام أرادت زوجتي أن تختبر بر أبنائنا بنا ومدى حرصهم علينا؛ فاتصلتْ بالأولاد وزعمتْ لهم إنني مصابٌ بكورونا، فأخذوا يتصلون هاتفياً يسألون عن حالتي، فتخبرهم زوجتي أنها تسوء يوماً بعد يومٍ، حتى أخبرتهم فيما بعد بنقلي إلى المستشفى، وكانت تطلب منهم الذهاب إلى المستشفى لرؤيتي والاطمئنان عليّ، لكنهم كانوا يعتذرون بأنهم يخافون من التعرض للإصابة. بعد عدة أيامٍ أخبرتهم زوجتي بأنني تُوفيت، وأن الدولة تولت دفني، وأنها محجورةٌ في منزلها، فلم يزرها أحدٌ منهم! وبعد أربعة عشر يوماً أخبرتهم أنها تأكدت أنها سليمةٌ وليست مصابةً؛ فقرر الأبناء أن يأتوا مع عوائلهم لزيارة والدتهم بعد وفاتي الكاذبة، فجاؤوا يبكون، ويرتدون ثياب الحزن، جلسوا مع والدتهم -وأنا حاجزٌ نفسي في إحدى الغرف أستمع إليهم- بعد أن قرأوا الفاتحة على المرحوم، الذي هو أنا! سمعتهم يطلبون من أمهم التوقيع على أوراق كانوا قد أعدوها أثناء فترة حجرها لتقسيم التركة وتوزيع الإرث فيما بينهم، ولم يتركوا لأمهم سوى الشقة التي تقيم فيها! ظلت أمهم تتوسل إليهم أن ينتظروا حتى الأربعين لكنهم رفضوا ذلك، ولم يستمعوا لها. وحين أتموا كل شيءٍ وانتهوا من توزيع التركة، خرجتُ عليهم من مخبئي، وفعلتُ بهم ما فعلت وطردتهم، وانتبهتُ لنفسي أني لم أكن أربي ذريةً من أربعة أبناءٍ، إنما كنتُ أربي أربعة ڤيروسات كورونا كبيرة! حينها صممتُ أن أبيع أملاكي جميعها، وأهدي ثمنها لمعالجة مرضى كورونا، وأنتقل أنا وزوجتي إلى قريةٍ صغيرةٍ، نسكن فيها بقية العمر، ونشتري عدداً من الأغنام نربيها ونتعب عليها، ونعيش معها؛ فهي بالتأكيد ستكون أفضل لنا من هؤلاء الأبناء!

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ واقعيةٌ مؤلمةٌ جداً عن (عقوق الأبناء)؛ أبناء عاقين بوالديهما، شغلتهم الدنيا عن برهما والإحسان إليهما. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ أخرى متداولةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي يقول فيها أحد المصلين: خرجتُ من المسجد بعد أدائي لصلاتي فوقَعَتْ عيني على شيخٍ وقورٍ طاعنٍ في السن يجلسُ على كرسيٍّ متحرّكٍ وبجانبه خادم؛ فاقتربتُ منه وقبّلتُ رأسه، ثم قلتُ له: "أدعُ لي يا عم"، فسألني: "هل والدك موجود؟" قلتُ: "نعم"، قال: "هل والدتك موجودة؟" قلتُ: "نعم"؛ فابتسم ابتسامةً ممزوجةً بأسى العُمرِ وأحزان الأيام، ثم قال: "إذن أنتَ تاجرٌ كبيرٌ، حافظ على تجارتك يا ولدي، فأولادي قد ضيّعوا تجارتهم". أحسستُ بقشعريرةٍ في بدني وهزّةٍ في قلبي، فقبّلتُ رأسهُ ثانيةً ثم انصرفتُ عنه وأنا أتمتم بلساني: "حافظ على تجارتك يا ولدي، تلك حقاً هي التجارة الرابحة".

 

البر بالوالدين له منزلةٌ عظيمةٌ لدى المولى عزَّ وجلّ، تتبين من أن الإحسان إليهما ورد مقروناً بعبادته سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، كما أنّ شكرهما ورد مقروناً بشكر الله؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

ومع كون بر الوالدين واجباً في كل وقتٍ فإن له أهميةً خاصةً في حال كِبَرهما أو كِبَر أحدهما؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ ويتبين من هذه الآية الكريمة مدى عظم بر الوالدين؛ فقد قرن الله سبحانه وتعالى عبادته ببر الوالدين والإحسان إليهما، كما يُستفاد من الآية أن بلوغ الوالدين الكِبَر يجعلهما في حالةٍ من الضعف تزيد من احتياجهما لبر أبنائهما وإحسانهم.

وأوجب سبحانه بر الوالدين والإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين؛ يقول تَعَالَى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.

 

وفي السُنة الشريفة الكثير عن بر الوالدين، من ذلك؛ حين سُئل رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم عن أي الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: [الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ]. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ].

وعن تقديم بر الأم على بر الأب؛ قال صحابيٌ جليل: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: [وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟] قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ]. يقول علماء الحديث: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا] كنايةٌ عن لزوم خدمتها، والتواضع، وحُسن الطاعة لها. [فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا] أي نصيبك من الجنة لا يصل إليك إلا برضاها. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: [أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ- ثَلَاثًا - إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ].

وعن البر بالأب؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ]. كما قَالَ: [رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ]. وقال كذلك: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ].

وعن البر بالوالدين بعد موتهما؛ سأل سائلٌ: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيءٌ أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: [نَعَم؛ الصَّلاَةُ عَلَيهِما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما، وإِنْفَاذُ عَهدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِم الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وإِكرَامُ صَدِيقِهِما].

 

كتب أحد الناس وصفاً للوالدين من كبار السن، وتوجيهاً لأبنائهم حتى لا يقعوا في ذنبٍ عظيمٍ هو (عقوق الأبناء) لوالديهم، فقال عن كبار السن: إنهم قد يرقدون ولا ينامون، وقد يأكلون ولا يهضمون، وقد يضحكون ولا يفرحون، وقد يوارون دمعتهم تحت بسمتهم. يؤلمهم بُعدُك عنهم، وانصرافُك من جوارهم، واشتغالك بهاتفك في حضرتهم. لم يعودوا محور البيوت وبؤرة العائلة كما كانوا من قبل؛ فانتبه ولا تكن من الحمقى فتشقى!! شابت شعورهم ورقّت مشاعرُهم. حوائجهم أبعد من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ودواءٍ، بل وأهمُّ من ذلك بكثيرٍ؛ يحتاجون إلى الاهتمام بهم والاستماع إليهم والصبر عليهم وتفقد أحوالهم. يحتاجون إلى بسمةٍ في وجوهكم، وكلمةٍ جميلةٍ تطرق آذانهم، ويدٍ حانيةٍ تمتد لهم، وعقلٍ لا يضيق برؤاهم. الكلمة التي كانت لا تريحهم حال قوتهم الآن تجرحُهم، والتي كانت تجرحهم الآن تذبحُهم. لديهم فراغٌ يحتاج عقلاء رحماء يملؤونه. يحتاجون من يسمع لحديثهم، ويأنس لكلامهم، ويبدو سعيداً بوجودهم. فقدوا كثيراً من أحبائهم ورفقائهم؛ فقلوبهم جريحةٌ ونفوسهم مطويةٌ على الكثير من الأحزان. غادر بهم القطار محطة اللذة، وصاروا في صالة انتظار الرحيل، ينتظرون الداعي ليلبوه، قريبون من الله؛ دعاؤهم أقرب للقبول؛ فاغتنم ذلك قبل نفاد الرصيد. اجعلهم يعيشون أياماً سعيدةً، ولياليَ مشرقةً، ويختمون كتاب حياتهم بصفحاتٍ ماتعةٍ من البرِّ والسعادة، حتى إذا خلا منهمُ المكان لا تصبح من النادمين. كن العِوضَ عما فقدوا، وكن الربيعَ في خريف عمرهم، وكن العُكَّازَ فيما تبقى لهم.

 

أحبتي .. أختم بكلمةٍ موجهةٍ إلى الأبناء: سلامٌ على من يُراعي منكم كِبارَ السن؛ فهم سيذهبون، وعما قليلٍ ستكونون أنتم كبار السن؛ فانظروا ما أنتم زارعون، لأنكم لن تحصدوا إلا ما سبق أن زرعتموه. راجعوا تجارتكم مع أمهاتكم وآبائكم قبل فوات الأوان، إنها تجارةٌ ليس فيها إلا الربح أو الخسارة، ليست الخسارة فيها عدم المكسب، بل هي فقدان أصل رأس المال، والندم طوال العمر على فرصة رضا الوالدين التي ضاعت ولن تُعوض، ثم يأتي الأصعب وهو أن يعاملكم أبناؤكم -عندما تهرمون- كما كنتم تعاملون أبويكم، فاحذروا من جريمة (عقوق الأبناء) واحرصوا على أن تكونوا من الفائزين في تجارتهم مع والديهم بأعلى قدر من الأرباح، ويكفيكم من الربح رضا الله سبحانه وتعالى.

اللهم احفظ من بقي من والدينا، وارحم من مات منهم. هدانا الله جميعاً إلى صراطه المستقيم.

https://bit.ly/2O4TECz