الجمعة، 4 يونيو 2021

قصة قارون

 

خاطرة الجمعة /294


الجمعة 4 يونيو 2021م

(قصة قارون)

 

قصةٌ حقيقيةٌ رواها أحد الدعاة، وكان يتولى رئاسة لجنة الزكاة بالمملكة العربية السعودية، قال إن اللجنة كانت تُحصل الزكاة من كبار الأغنياء وتنفقها كالعادة على الفقراء والمستحقين للزكاة في مصارفها المحددة. فوجئنا بأن مليارديراً كانت تُحصل منه اللجنة مبلغاً بملايين الريالات رفض دفع الزكاة، وقال للجنة إنه لن يدفع زكاة ماله، فأرسلنا إليه محذرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وقلنا له ما الذي جرى لك؟ إن الشيطان ينزغ بينك وبين عملك الصالح فلا تستمع لصوت الشيطان، أنت تؤدي زكاواتك على الدوام فزادك الله نعيماً فوق نعيمٍ فلا تُهلك نفسك بنفسك، فرفض مرةً بعد مرةٍ، واستخسر أن يُفرط في الملايين التي كان يدفعها، فزدنا في نصحه ولكنه قال: "لن أدفع، ولا يقل لي أحدٌ إن المال سيضيع وسينتهي؛ فأنا معي مالٌ لو أراد الله أن يُفقرني فلن يستطيع"! وهنا تركوه ولم يتحدثوا معه ثانيةً.

‏تدور الأيام وبعد شهور قليلةٍ فقط يمرض ذلك الملياردير ويدخل المستشفى مصاباً بسخونةٍ، تتوقف درجة حرارته عند أربعين درجة، ويحتار الأطباء في أمره، حاولوا معه كل الحيل والحرارة لا تنزل أبداً وهو يتوجع؛ فأحضروا له أطباء من الخارج أجروا له عملية استئصالٍ لورمٍ بجانب المرارة، ولم يحدث له أي تقدم؛ فاستقدمت المستشفى أطباء آخرين، ومع ذلك لم تتحسن حالته، وتحملت المستشفى التكاليف والنفقات الباهظة انتظاراً للتحصيل من الملياردير في النهاية ثقةً منها في قدرته على السداد.

تعطلت أعمال الملياردير وشركاته؛ فاتصل مدير أعماله بنجله الشاب -الذي كان قد تزوج من أمريكيةٍ وهاجر معها إلى الولايات المتحدة- ليحضر مرض أبيه، فجاء الشاب ورافق أباه لمدة أسبوعين، وقام الأب بعمل توكيلٍ عامٍ للابن لإدارة أعماله، وبعد شهرٍ واحدٍ أصاب الضجر الابن وحضرت زوجته الأمريكية للسعودية بطفليها، واتفق الابن وزوجته على أن يبيعا جميع ممتلكات الأب ويعودا من حيث أتوا، ظناً منهم بأن مسألة موت الأب مسألة وقتٍ؛ فقام الابن ببيع جميع ممتلكات أبيه من شركاتٍ ومصانع واستولى على أرصدته بالبنوك وعاد إلى الولايات المتحدة مرةً أخرى، وبمجرد أن حدث ذلك فوجئ أطباء المستشفى بشفاء الملياردير وكأنه لم يمرض للحظة! وطالبته إدارة المستشفى بفاتورةٍ طويلةٍ كان الابن قد سافر دون أن يُسددها، واكتشف الرجل بأنه قد أصبح خالي الوفاض من أي مالٍ، بل وأصبح مديوناً؛ فاتصل بنجله ففوجئ به يسأله: "هل ما زلتَ حياً"؟ وأغلق الهاتف في وجهه وانقطعت العلاقة بينهما. ظل الرجل يبكي بكاءً مريراً وانتبه لحاله وتذكر قولته التي قالها، واتصل بأحد شيوخ اللجنة فجاءه في المستشفى وعلم ما حدث له ودعاه للتوبة من كلام الكفر الذي قاله وقال: "دعك الآن من مالك الذي ضاع، واسجد لله شكراً أن منحك فرصةً للتوبة". وقامت لجنة الزكاة بدفع فاتورة المستشفى بعد أن خفضتها إدارة المستشفى لتناسب حالة الفقير الجديد الخارج تواً من رحلته كملياردير في هذه الحياة المتقلبة!

 

أحبتي في الله .. كثيرون للأسف يكررون (قصة قارون) يغترون بأموالهم وثرواتهم وأملاكهم، ويظنون أنها آلت إليهم عن علمٍ أو ذكاءٍ أو شطارة، ويُزين لهم الشيطان أعمالهم، فيمتنعون عن أداء حق الله في المال الذي رزقهم إياه، والثروة التي مكنهم منها، والأملاك التي أنعم بها عليهم.

 

كنتُ منذ فترةٍ كتبت خاطرةً تحت عنوان فتنة المال عن أغنى رجلٍ عربيٍ على الإطلاق، كان يُلقب بقارون العصر؛ اشتهت ابنته ذات يومٍ آيس كريم من باريس، وشوكولاتة من جنيف، فأقلعت طائرته الخاصة بكامل طاقمها في رحلةٍ لمدة سبع ساعاتٍ لجلب الآيس كريم والشوكولاتة! ومع كل هذه الأموال الطائلة فإنه كان يستنكف أن يساعد محتاجاً، بل ويبخل حتى على عُمّاله وخدمه المحتاجين. أفلس في آخر عمره إفلاساً عجيباً. ويُقال إن رجلاً مغترباً كان يعمل خادماً عنده احتاج مبلغاً من المال ليرسله لأهله في بلاده لعلاج زوجته المريضة؛ فذهب وطلب المبلغ من الملياردير كمساعدةٍ أو قرضٍ يتم تقسيطه من راتبه الشهري، فوبّخهُ الملياردير وأذلهُ، وطرده من قصره ليلاً شرّ طردة؛ فقال له الخادم مقهوراً: "أسأل الله العلي العظيم ألا يُميتني حتى أراك ذليلاً تمدّ يدك للناس"، فغضب الملياردير من هذه الدعوة وقام بفصل العامل وأنهى عمله. ولما افتقر هذا الملياردير قيّض الله له أحد رجال الأعمال الكبار في بلده فاشترى له تذكرةً سياحيةً للسفر إلى بلدٍ آخر، وأعطاه مبلغاً من المال لاستئجار شقةٍ، وقال له: "أنا لم أتفضل عليك، ولكن الله أمرني أن أدفع لك، وكل شهرٍ سيأتيك مصروفك مني محولاً على البنك". قال قارون العصر: "قبل سفري ذهبتُ إلى رجل الأعمال لاستلام المال الذي وعدني به، فاتصل بأحد العاملين لديه ليحضر لي المال؛ فكانت أسوأ لحظةٍ عشتها في حياتي عندما دخل العامل الذي أعطاني المال؛ فإذا هو خادمي الذي طردته وفصلته من العمل وقف ينظر إليّ مذهولاً مفزوعاً عندما رآني، وكأنه لا يصدّق ما يرى، ورأيته خرج وعيناه مبللةٌ بالدموع".

 

إنها (قصة قارون) تتكرر، رغم أن الله سبحانه وتعالى أوردها في كتابه الكريم ليست كقصةٍ تُروى للتسلية، وإنما لكي نتعظ منها ونتعلم ونستخلص العبر.

ويتكرر مع كل قصةٍ خسفٌ ليس كالخسف بقارون، بل ربما أشد؛ فهو خسفٌ نفسيٌ؛ عذابٌ أليمٌ موجعٌ بالذل والخزي والمهانة، والإحساس المستمر بالحسرة والندامة، حتى أن صاحبه يتمنى الموت ولو بالخسف ولا يُدركه!

 

وعن المال في الإسلام يرى أهل العلم أن المال من نِعم اللَّه العظيمة على عباده؛ يقول تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، ويقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. والمال إما أن يُستخدم في الخير أو الشر؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، وهو من الفتن العظيمة التي يُبتلى بها المؤمن، والقليل من الناس من يصبر عليها؛ قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ]. والعبد يُسأل عن ماله يوم القيامة ماذا عمل فيه؛ قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ]. وقد جُبِلَت النفوس على حب المال؛ يقول تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ]. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ] والعَرَض هو متاع الدنيا؛ فالغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها لا كثرة المال.

قال الشاعر:

النفسُ تَجْزَعُ أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً

والفَقْرُ خَيْرٌ مِن غِنىً يُطغِيهَا

وَغِنَى النُّفُوسِ هُوَ الكفافُ فإنْ أَبَتْ

فَجَمِيعُ ما فِي الأرضِ لا يَكْفِيهَا

وهذا المال إن لم يستخدمه صاحبه في طاعة اللَّه وينفقه في سبيله، كان وبالاً وحسرة عليه؛ يقول تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون﴾، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ]. وقد أخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن البركة إنما تحل في هذا المال، إذا أخذه صاحبه بطيب نفسٍ من غير شَرَهٍ ولا إلحاح؛ قال عليه الصلاة والسلام: [... إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأكُلُ وَلَا يَشْبَعُ]. وقد أخبر عزَّ وجلَّ أن المال عَرَضٌ زائلٌ ومتاعٌ مُفارَقٌ، يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ]. وبعض الناس يظن أنّ مَن رُزق مالاً كثيراً، فإنه قد وُفِّق، وهو دليلٌ على محبة اللَّه له، والأمر ليس كذلك، فإن الدنيا يعطيها اللَّه من يحب ومن لا يحب؛ يقول تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون﴾، ويقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن . كَلاَّ﴾.

 

أحبتي .. فليحذر كلٌ منا أن يُزين له الشيطان أنه أُوتي ماله عن علمٍ أو شطارةٍ أو ذكاء، ولنعلم أن المال مال الله يؤتيه من يشاء من عباده بفضلٍ منه، وينظر ماذا نحن فاعلون؛ فلنحرص على اكتساب المال من حلالٍ وإرجاع الفضل لله وحده، وإنفاق المال في حلالٍ؛ بالوفاء بحق الله فيه وحقوق العباد خاصةً منهم الفقراء والمساكين، والبعد عن المعاملات المالية المحرمة: كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها؛ لنكون من الفائزين. ولنقاوم نزغات الشيطان ووسوسته وتزيينه، ونقهر هوى النفس، وإلا صار مَن ضَعُف وخضع لشيطانه وهوى نفسه ممن يكررون (قصة قارون) والعياذ بالله.

اللهم ثبِّتنا على طاعتك، وزِد إيماننا، وأعِنَّا على مغالبة الهوى، ولا تَدَعْنا لأنفسنا، واهدنا سواء السبيل.

 

https://bit.ly/3pmGeAf

الجمعة، 28 مايو 2021

عمل الخير لا يضيع

 

خاطرة الجمعة /293


الجمعة 28 مايو 2021م

(عمل الخير لا يضيع)

 

يُحكى أنه في ليلةٍ عاصفةٍ شديدة البرودة، كان هناك طبيبٌ شابٌ ساهرٌ في طوارئ إحدى المستشفيات الصغيرة، دخلت عليه امرأةٌ كبيرةٌ في السن تبدو عليها مظاهر الإجهاد والمرض، تظهر من ملابسها وهيئتها العامة حالتها المادية البسيطة، وكان معها شابٌ في العشرين من عمره، تبدو عليه هو الآخر علامات التعب والإرهاق وقلة النوم، وقد أخذ الزمن ضحكته. سأل الطبيب المريضة: "أخبريني سيدتي ما الذي يؤلمك"؟ أجابته المرأة بصوتٍ خافتٍ متعبٍ: "أعتقد أن السكر والضغط مرتفعان"، قال الطبيب بهدوءٍ: "حسناً؛ فلنبدأ الكشف على الفور". في هذه الأثناء رنَّ هاتف الشاب المصاحب للمرأة فخرج من غرفة الكشف معتذراً بأدبٍ حتى يُجيب على مكالمة الهاتف، وبعد دقائق معدودةٍ عاد إلى غرفة الكشف وعيونه مغرورقةٌ بالدموع، دون أن يقول أي شيءٍ، سأل باهتمامٍ الطبيب عن حالة المريضة؛ فأخبره أنها بحاجةٍ عاجلةٍ إلى الأنسولين، وهو للأسف غير متوفرٍ في المستشفى، فقال الشاب: "سوف أحضره حالاً من الصيدلية"، قالت له المرأة: "ولكن البرد قارسٌ بالخارج يا بني، لا أريد أن أشق عليك، يكفي ما قمتَ به حتي الآن"، رد الشاب بسرعة: "المهم سلامتك"، ثم انصرف ليشتري الأنسولين من الصيدلية. قال الطبيب للسيدة: "لا تقلقي، إن من واجبه رعايتك؛ فأنتِ أمه"، ردت المرأة باستغرابٍ: "أنا لستُ أمه، لقد كنتُ آتيةً إلى المستشفى سيراً على قدميّ في هذا الجو البارد؛ حتى أوفر ثمن المواصلات، فتوقف هذا الشاب بسيارته بجانبي وعرض عليّ أن يقوم بتوصيلي إلى المكان الذي أريده، وأحضرني إلى المستشفى، ثم ها هو أيضاً ذهب ليجلب لي الدواء ويدفع ثمنه من جيبه"! بعد دقائق معدودةٍ عاد الشاب ومعه الأنسولين، ومن جديدٍ رنَّ هاتفه فخرج ليجيب على المكالمة، لكنه عاد هذه المرة وعلى وجهه ابتسامةٌ عريضةٌ وهو يردد: "الحمد لله، الحمد الله، أشكرك يا رب، ألف حمدٍ وألف شكر"، لم يتمكن الطبيب من كبح فضوله فسأل الشاب: "ما الموضوع"؟ فأخبره الشاب أنه مغتربٌ، يعيش بمفرده في هذه البلاد، وزوجته تعيش في بلدٍ أخرى، وهي حاملٌ بعد سبع سنواتٍ من الزواج، واليوم هو موعد الولادة، وقد نزفت دماء كثيرةً، في الاتصال الأول أخبروني أن حالتها خطيرةٌ وتحتاج إلى دمٍ، ولا يوجد في المستشفى دمٌ من فصيلة دمها"، سكت برهةً واستطرد يقول: "طوال طريقي إلى الصيدلية لشراء الأنسولين كنتُ أدعو الله عزَّ وجلَّ أن يُنجِّيها ويُنجّي المولود"، التقط أنفاسه لبرهةٍ ثم قال: "في الاتصال الثاني أخبروني إنه فجأةً دخل ثلاثة أشخاصٍ من جمعية التبرع بالدم، غرباء وطلبوا التبرع بدمهم للمستشفى، وكانت فصيلة دم أحدهم من ذات فصيلة دم زوجتي، وهكذا تم إنقاذها وإنقاذ الوليد، وهما الآن بصحةٍ تامةٍ والحمد لله"، قال له الطبيب في ذهولٍ: “الخير الذي فعلته مع هذه السيدة عاد إليك بالخير؛ (عمل الخير لا يضيع)".

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بأخرى مترجمةٍ؛ فعمل الخير لا جنسية له ولا وطن، إنه من أعمال الفطرة التي يولد بها الإنسان أياً كان دينه أو لونه أو مستواه الثقافي أو مكانته الاجتماعية.

تقول القصة: في أحد الأيام الممطرة رأى رجلٌ يُدعى أندي سيدةً مسنةً تقف على جانب الطريق، وعلى ما يبدو أنها كانت تحتاج للمساعدة حيث رآها تقف بجوار سيارتها، وهي تبدو في حيرةٍ من أمرها، فتقدم إليها وسألها قائلاً: "هل تحتاجين للمساعدة يا أمي"؟ فقالت السيدة المسنة: "نعم يا بني فقد توقفت سيارتي فجأةً ويبدو أن الإطار الأمامي يحتاج إلى تغييرٍ، وأنا لا أستطيع القيام بذلك كما ترى فأنا امرأةُ عجوز"، ابتسم  لها وقال: "لا عليكِ يا أمي، تفضلي بالجلوس في سيارتك وسأقوم أنا بتغيير الإطار"، وبالفعل بدأ أندي في إصلاح الإطار المعطل، وبعد أن انتهى من تغيير الإطار، قالت له السيدة العجوز: "كم أنا مدينةٌ لك أيها الرجل الطيب، أنا مستعدةٌ لدفع كل ما تريده من المال لأنك أنقذتني بالفعل في هذا الجو العاصف"، ولكن أندي قال لها: "لقد كانت مجرد مساعدةٍ بسيطةٍ لشخصٍ يحتاج المساعدة، ويعلم الله أنني أفعل هذا دائماً؛ أساعد الناس حتى أجد من يساعدني". وحينما أصرت العجوز على رد المعروف قال لها أندي: "إذا أردتِ أن تردي لي المعروف، في المرة التي ترين فيها شخصاً يحتاج إلى المساعدة عليكِ أن تقدميها له"، فشكرته السيدة واستقلت سيارتها وسارت بها إلى وجهتها. وعلى بُعد عدة أميالٍ من الطريق شاهدت مقهىً صغيراً، فتوقفت لتأكل فيه وجبةً قبل أن تكمل طريقها إلى المنزل، وعندما جلست على الطاولة جاءت النادلة، وكان لها ابتسامةٌ جميلةٌ تُطل بها في وجه الزبائن؛ فارتاحت لها العجوز، ولاحظت أن النادلة حاملٌ في الشهور الأخيرة، ولكنها على الرغم من ذلك ومع صعوبة الجو كانت تتحامل على نفسها وتقوم بهذا العمل، وعلى الفور تذكرت أندي وما فعله معها، فقررت مساعدة النادلة. وبمجرد أن أنهت السيدة طعامها أعطت النادلة مائة دولار، وكان هذا المبلغ أكثر بكثيرٍ من ثمن الفاتورة الفعلي؛ فذهبت النادلة على الفور لجلب المبلغ الباقي، وعندما عادت به لترده إلى السيدة وجدت أنها غادرت المطعم وتركت على الطاولة منديلاً مكتوباً عليه بعض الكلمات، أمسكت به وقرأت ما عليه ثم بكت بكاءً شديداً؛ فقد كتبت لها تلك السيدة: "كنتُ على الطريق وتعرضتُ لمحنةٍ فساعدني شخصٌ لا أعرفه، وإذا كنتِ تريدين رد المعروف ساعدي أنتِ كل من يحتاج، ولا تدعي سلسلة الخير والعطاء تنتهي عندكِ"، ووجدت النادلة تحت المنديل مبلغ أربعمائة دولار تركته لها السيدة العجوز، ففرحت كثيراً، وحينما عادت إلى بيتها في تلك الليلة لم تستطع النوم، وظلت تفكر في المال الذي معها وما كتبته السيدة العجوز، وسألت نفسها: "كيف عرفت تلك السيدة بأمر احتياجها هي وزوجها للمال"؟ فمع قدوم الطفل في الشهر التالي سيكون الوضع صعباً عليها وعلى زوجها، وكانت النادلة تعرف بمدى قلق زوجها حيال هذا الأمر، فقبلته وهو نائمٌ بجوارها وقالت له: "كل شيءٍ سيكون على ما يُرام يا أندي"!

 

سبحان الله، (عمل الخير لا يضيع) أبداً، مهما قلٍّ أو صغر. يقول أهل العلم إن فعل الخير والمسارعة إليه، هو من أنبل المقاصد وأسمى الغايات التي يسعى الإنسان إليها؛ فبه تسمو إنسانيته ويتشبّه بالملائكة، ويتحلّى بأخلاق الأنبياء والصادقين، ولذلك فقد أوصى الإسلام المسلمين بأن يفعلوا الخير مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، والخير هو اسمٌ لكل ما يعود على بالنفع على صاحبه وعلى الآخرين، ويُعتبر من أهم الأعمال التي يقوم بها المسلم، لأنه يتقرّب به من الله، كما إنه يعتبر جزءاً من العبادة، وقد أكثر الله من الدعوة إليه، وجعله عنصراً من عناصر الفلاح والفوز؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

كثيرةٌ هي آيات القرآن الكريم التي تحثّ على فعل الخير؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، كما يقول: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم﴾، ويقول كذلك: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾، ويقول عزّ من قائل: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وغير ذلك من آيات.

 

(عمل الخير لا يضيع)، وينبغي على المسلم ألا يستصغر أي عملٍ من أعمال الخير، مهما كان صغيراً أو قليلاً فإن الله يؤجرنا عليه؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾. وفي الحديث أن رجلاً رأى غصن شوكٍ في الطريق فأزاله حتى لا يؤذي الناس؛ فشكر الله له وأدخله الجنة. وفي الحديث: بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. وفي الحديث: بينما كلب يطيف بركيةٍ كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغُفر لها به. ويصل تنوع أبواب الخير إلى حد أن كَفَّ شرِنا عن الغير هو في حد ذاته عملٌ من أعمال الخير؛ قالَ عليه الصلاة والسلام: [تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ].

 

قال الشاعر:

مَن يفعلِ الخيرَ لا يعدمْ جوازيه

لا يذهبْ العرفُ بين اللهِ والناسِ

مَن يزرعِ الخيرَ يحصدْ ما يُسَّر به

وزارعُ الشرَ منكوسٌ على الراسِ

وقال آخر:

الخيرُ زرعٌ والفتى حاصدُ

وغايةُ المزروعِ أنْ يُحصدا

وأسعدُ العالَمِ مَن قدَّمَ الإحسانَ

في الدنيا لينجو غدا

 

أحبتي .. (عمل الخير لا يضيع)، ينفع صاحبه في الدنيا وفي الآخرة؛ فلنحرص على مضاعفة جهودنا في مجالات الخير الكثيرة والمتنوعة، بالزكاوات والصدقات وإطعام الفقراء والمساكين ورعاية الأيتام والسعي في قضاء مصالح المحتاجين وإماطة الأذى عن الطريق والابتسامة في وجه الناس، وغير ذلك من أعمال الخير، شرط أن تكون مسبوقةً بنيتنا الصادقة وأن تكون خالصةً لله، بغير رياءٍ أو سمعةٍ أو نفاق.

اللهم اهدنا للخير، ويسِّره لنا، وتقبله منا خالصاً لوجهك الكريم.

 

https://bit.ly/3fvExwS

الجمعة، 21 مايو 2021

الوازع الديني

 

خاطرة الجمعة /292


الجمعة 21 مايو 2021م

(الوازع الديني)

 

حيزان الحربي، سيبقى في الذاكرة على أنه صاحب أغرب قضيةٍ عرفتها المحاكم الشرعية السعودية. ترجع تفاصيل القضية إلى اختلافه مع شقيقه الأصغر غالب، حول رعاية والدتهما المُسِنة، حيث كان يريد كلٌ منهما أن يبرها ويكسب أجرها، وتطوّر الخلاف بينهما حتى وصل إلى ساحة القضاء.

حيزان كان يعيش وحيداً، وكان لا يعمل في أي وظيفة ليتفرغ لإعالة والدته. وعندما تقدمت به السن جاء شقيقه الأصغر غالب الذي يسكن مدينةً أخرى، ليأخذ والدته حتى تعيش مع أسرته، ويوفر لها الخدمة والرعاية المطلوبة. حينها رفض حيزان التنازل عن أمه بحجة أنه لا زال قادراً على رعايتها، وأن شيئاً لا ينقصها، اشتد الخلاف بينهما ووصل إلى طريقٍ مسدود، استدعى تدخل المحكمة الشرعية لفض النزاع، وقال حيزان حينها "بيني وبينك حكم الله يا غالب". توجها بعدها إلى محكمة «الأسياح» لتتوالى الجلسات، وتتحول إلى قضية رأي عام على مستوى المحافظة، تحت شعار أيهما يفوز بالرعاية؟ نالت قضية خلاف حيزان الحربي وشقيقه حول من فيهما الأحق برعاية والدتهما، شهرةً واسعةً، كونها قضيةً غريبةً من نوعها؛ تعكس حرص كلٍ من الأخين على بر والدتهما. استمرت مداولات القضية في المحكمة فترةً طويلةً، ولاقت تفاعلاً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. حاولت المحكمة في البداية أن تُقرِّب بين وجهتي نظر الأخين، وعندما لم يصلا إلى حلٍ طلب القاضي إحضار الأم إلى المحكمة لتحسم الأمر وتختار بنفسها من تريد، وفي الجلسة المحددة أحضرها ابناها يتناوبان حملها في كرتون، ووضعاها أمام القاضي الذي وجه لها سؤالاً، لا تزال هي رغم تقدمها بالعمر تدرك كل أبعاده: "أيهما تختارين يا أم حيزان"؟ لم تكن الإجابة أفضل من كل محاولات تقريب وجهات النظر، نظرت إلى ابنيها بحنانٍ وأشارت إلى حيزان، وقالت: "هذا عيني هاذي"، ثم أشارت إلى غالب وقالت: "وذاك عيني تلك، ليس عندي غير هذا". هنا كان على القاضي أن يحكم بين الأخين بما تمليه مصلحة الأم. وبعد جلساتٍ قضائيةٍ طويلةٍ، حكم القاضي بأن تكون رعاية الأم للأخ الأصغر، وذلك لتقدُّم سن حيزان، فبكى حيزان بشدةٍ وتأثرٍ لأن والدته ستغادر منزله، ولأن ذلك يعني أن تُؤخذ أمه منه، وتنتقل إلى منزل شقيقه في ذلك اليوم، ومع بكاء حيزان، بكى شقيقه، وخرجا يتناوبان حمل أمهما إلى السيارة التي أقلتها -يرحمها الله- إلى مسكنها الجديد.

انتشرت قصة حيزان في الأوساط السعودية، وحظيت بإعجابٍ واسع. وظلت قضيته في الذاكرة، والمحاكمة الجميلة بين شقيقين، ربما تكون واحدةً من أغرب الخصومات التي شهدتها المحاكم الشرعية السعودية في تاريخها. المحاكمة التي بكى فيها حيزان، وبكى منها كل من سمع بها، تناولها خطباء الجوامع على المنابر، جاعلين منها مضرب مثلٍ للبر الحقيقي والتضحية الصادقة؛ فالخصومة بين حيزان وشقيقه الوحيد لم تكن بسبب مالٍ أو عقارٍ، بل كانا يتنازعان على امرأةٍ لا يتجاوز وزنها الحقيقي عشرين كيلوغراماً، هي والدتهما المسنة التي لا تملك في هذه الدنيا سوى خاتمٍ من النحاس في أصبع يدها. تم تصوير مقاطع فيديو لحيزان -قبل وفاته- وهو يتحدث عن فضل أمه وحبه لها، وكيف يحاول أن يقدم لها الطعام ويبر بها ويدعو لها بالجنة، ويقول كيف تكون أمه حيةً ولا يكون تحت قدميها، داعياً الصغار إلى البر بأمهاتهم ليكسبوا رضا الرحمن.

تُوفي حيزان بعد ذلك بفترةٍ متأثراً بإصابته في حادث دهسٍ تعرض له في بلدة «البندرية» بمحافظة «الأسياح» أدخل على إثره إلى المستشفى، وظل في العناية المركزة حتى رحيله.

ونعاه أمير المنطقة قائلاً: ”تُوفي حيزان الحربي بعد أن ضرب أروع النماذج في بر الوالدين عندما اختلف مع شقيقه حول أحقية رعاية والدتهما لتصل للقضاء للفصل بينهما، ويبكي عندما حُكم لصالح أخيه لأن والدته ستغادر منزله.. نموذجٌ لبر الوالدين يجب أن يُحتذى به في هذا الزمان. اللهم اغفر له وارحمه واجعل مثواه الجنة“.

 

أحبتي في الله .. كانت قصة حيزان وأخوه غالب قصةً حقيقيةً، حدثت في ذات الوقت الذي نقرأ ونسمع ونشاهد فيه الكثير من قصص عقوق الوالدين، وخاصةً الأم، وصل الأمر في إحداها، والتي وقعت قبل أيامٍ، وخلال شهر رمضان المبارك، إلى أن يقتل الابن العاق أمه. نشرت إحدى الصحف اليومية تفاصيل هذه الجريمة المروعة فقالت: بينما يتأهب المسلمون لتناول سحور اليوم السابع عشر من شهر رمضان، إذ بصرخات استغاثةٍ تصدر من أحد المنازل الهادئة التي تقطنها أمٌ برفقة ابنها. انتُزعت من الابن كل مشاعر الرحمة والإنسانية، فقد أطلقت الأم صرخاتها واستنجدت بجيرانها من فلذة كبدها الذي تجمد قلبه وتحجر، حيث يعيش برأس خالٍ من العقل وضلوعٍ لا تحمل بينها قلباً حسبما برهنت أفعاله. حاول الشاب التخلص من حياته لظروفٍ خاصةٍ ألمت به، ولكن الأم رأت هذه الظروف هينةً لا تستحق الحكم على النفس بالموت، عزَّ عليها أن يزهق نور عينيها وقرتها روحه بيده، فسعت العجوز بكل قواها المتواضعة لمنعه من إنهاء حياته. لم يهن الشاب على أمه بينما هانت هي عليه؛ لم ترضَ له الموت، ولكنه ارتضاه لها عن طيب خاطر، لم يُقدِّر حرصها وخوفها عليه، بل قابل هذا بطعناتٍ نافذةٍ في أحن صدرٍ ارتمى في حضنه. حاولت المسكينة منع ابنها من الانتحار، خشيت أن تضيع قطعةٌ من قلبها أو يذهب تعبها في تربية ابنها هدراً، فكان جفاؤه وجحوده، الذي لم يراعِ أنها بلغت من الكبر عتياً وشارفت على إتمام السبعين من عمرها، وما بقي لها من أيامٍ على ظهر الدنيا لا يُقارَن بما فات، هانت عليه تضحياتها وتحملها الآهات والهموم، ليكون سبباً في تركها الدنيا له بلا مصدرٍ للحنان بعدها، وليواجه قساوة الدنيا مكشوفاً بلا ساترٍ يقيه مرارة الأيام، أو دعواتٍ تزيل عنه الكربات، أو أيدٍ تطبطب عليه وقت الابتلاءات. أرادت أمه أن تمنعه من الانتحار فيموت كافراً، فنحرها بغير رحمة بذات السكين الذي كان ينوي الانتحار به!

 

أحبتي .. في كلتا القصتين نلاحظ أن (الوازع الديني) هو البطل؛ إما بحضوره بشدةٍ كما في القصة الأولى، أو بغيابه تماماً كما في القصة الثانية.

يُعرِّف العلماء (الوازع الديني) بأنه "زاجرٌ شرعيٌ قلبيٌ خفيٌ كافٌّ للنفس عن مخالفة الشرع بالقول أو الفعل أو القصد"، وهو يوازي الضمير والنفس اللوامة والتقوى بمفهومها الشرعي. فإن إيمان الفرد بالله وبالبعث ويوم الحساب هو الباعث الأساسي له على فعل الخيرات واجتناب المنكرات من الأقوال والأفعال والسلوكيات في الحياة.

كما أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها والتركيبة الخُلْقية التي شاء الله أن يُجبَل الناس عليها لها تأثيرٌ بالغٌ في تحديد مسار الإنسان في الحياة، والطريق الذي يسلكه، والوجهة التي يختارها، وهذا ما يظهر جلياً في تصرفاته وأفعاله لو بقي محافظاً على نقاء فطرته؛ قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ ... وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: "فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله"].

 

وإذا كانت التقوى هي الغاية من زرع وتنمية (الوازع الديني) لدى الإنسان، فإن أهل العلم يرون أنّ العبادات في الإسلام هي وسائل لتمكين التقوى في نفس الإنسان؛ فيقول الله تعالى في الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، فهي تهدف إلى خلق الوازع الذي يردع عن الانحراف، وإذا لم يتحقق هذا الهدف، فلا قيمة لتلك الصلاة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا]. والحكمة من تشريع الصوم هي الوصول إلى درجة التقوى؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وكذلك الحج؛ المقصود بمناسكه وشعائره -ومنها الأضحية- تحقيق التقوى، وتقوية (الوازع الديني) في النفس؛ يقول تعالى عن الأضاحي: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾؛ فالمطلوب أن نزرع ملكة التقوى في قلوبنا حتى تُثمر ويكون (الوازع الديني) قوياً وثابتاً، يدفع الإنسان نحو الخير، ويمنعه عن الانحراف والشر.

 

أحبتي .. نحن في حاجةٍ إلى تقوية (الوازع الديني) ليكون واعظاً وزاجراً لنا فلا نقع في المعاصي ولا نقترف الذنوب. إن جوهر الدين يكمن في زرع وتقوية وتعزيز هذا الوازع الذي يَنهى النفس الأمارة بالسوء عن تحقيق أهدافها، ويُمكِّن النفس اللوّامة من أن تقوم بدورها كضميرٍ حيٍ يراقب نوايانا وأقوالنا وأفعالنا طوال الوقت حتى نسمو بنفوسنا ونصل بها إلى درجة ومستوى النفس المُطمئنة، فنسعد في حياتنا ونرضي ربنا. وإن كان هذا الأمر مهماً للجميع، فإنه أكثر أهميةً لأبنائنا الصغار، حتى ينشأ أطفالنا ولديهم (الوازع الديني) ينمو معهم ويتحول مع الوقت إلى أن يكون مكوناً أساسياً من مكونات شخصياتهم، وجزءاً من منظومة القيم التي تضبط سلوكهم، وتكون بمثابة البوصلة التي ترشدهم إلى طريق الخير والرشد والصواب.

اللهم ألهمنا رشدنا، وأعنّا على أنفسنا الأمارة بالسوء، وردنا إلى دينك رداً جميلاً.

 

https://bit.ly/2RApwRj

الجمعة، 14 مايو 2021

الأم مَدرسة

 

خاطرة الجمعة /291


الجمعة 14 مايو 2021م

(الأم مَدرسة)

 

يروي الناشر قصتين كان لقلم الرصاص فيهما تأثيرٌ عجيبٌ في مستقبل طفلين؛ إذ أصبح أحدهما سارقاً، أما الآخر فقد صار مسؤولاً عن أكبر جمعيةٍ خيريةٍ في مدينته!

يقول راوي القصة الأولى: كنتُ ذات يومٍ جالساً في مكتب أحد المحامين، وهناك تعرفتُ على رجلٍ مسجلٍ أنه شقيٌ خطر سرقات، وله قضيةٌ عند هذا المحامي، فسألتُ الرجل: "كيف وصلتَ إلى هذه الحال"؟ فقال مبتسماً: "أمي هي السبب"، فقلتُ: "وكيف ذلك"؟ فازدادت ابتسامته وقال: "كنتُ تلميذاً في الصف الرابع الابتدائي، وذات يومٍ عدتُ من المدرسة وقد ضاع مني قلمي الرصاص، وعندما علمت أمي بالخبر ضربتني بشدةٍ وشتمتني بأبشع الشتائم ووصفتني بالعبط، وعدم تحمل المسؤولية. ونتيجةً لقسوة أمي الزائدة عن الحد قررتُ ألا أعود أبداً لأمي فارغ اليدين، قررتُ أن أسرق أقلام زملائي، وفي اليوم التالي نفذتُ خطتي، ولم اكتفِ بسرقة قلمٍ أو قلمين، بل سرقتُ جميع زملائي في الفصل! في بادئ الأمر كنتُ أحس بالخوف وأنا أسرق، وشيئاً فشيئاً تشجعتُ ولم يعد للخوف في قلبي مكانٌ. ومن الطرائف أنني كنتُ أسرق الأقلام من زملائي وأبيعها لهم، وبعد شهرٍ كاملٍ من سرقة زملائي في الفصل لم يعد الأمر يقتصر على سرقة أقلام الرصاص، ولم تعد له تلك اللذة الأولى، فقد قررتُ أن أنطلق نحو الفصول المجاورة وإلى أغراض أخرى، ومن فصلٍ إلى آخر انتهى بي المطاف إلى حجرة مدير المدرسة لأسرقها! علمت أمي بما كنتُ أقوم به، فلم تنهني عنه، وإن كانت لم تشجعني عليه بالكلام، لكني أحسستُ أنها راضيةٌ عنه. ذلك العام كان عام التدريب الميداني، تعلمتُ فيه السرقة عملياً بأساليب وطرق وحيل مختلفة ومتعددة، انطلقتُ بعد ذلك لسرقة الكثير من الأغراض خارج المدرسة، حتى صرتُ محترفاً".

أما راوية القصة الثانية فهي أم الولد الآخر؛ قالت: عندما كان ابني في الصف الثاني الابتدائي رجع يوماً من المدرسة وقد ضاع قلمه الرصاص، فقلتُ له: "وماذا فعلت"؟، قال: "أخذتُ قلماً من زميلي"، فقلتُ له: "تصرفٌ جيدٌ، ولكن ماذا كسب زميلك عندما أعطاك قلماً لتكتب به؟ هل أخذ منك طعاماً أو شراباً أو مالاً"؟، قال ابني: "لا، لم يفعل"، فقلتُ له: "إذاً لقد ربح منك الكثير من الحسنات. يا بُنيّ، لماذا يكون هو أذكى منك؟ لماذا لا تكسب أنت الحسنات"؟، قال: "وكيف ذلك"؟، فقلتُ: "سأشتري لك قلمين: قلماً تكتب به، والآخر نسميه قلم الحسنات، وهذا لأنك ستعطيه من نسي قلمه أو ضاع منه، ثم تأخذه بعدما تنتهي الحصة". كم فرح ابني بتلك الفكرة، وزادت سعادته بعدما طبقها عملياً، لدرجة أنه أصبح يحمل في حقيبته قلماً يكتب به وستة أقلام للحسنات! والعجيب في الأمر أن ابني هذا كان يكره المدرسة، ومستواه الدراسي ضعيف، لكن بعد أن طبق هذه الفكرة فوجئتُ بأنه بدأ يحب المدرسة؛ إذ أنه أصبح نجم الفصل في شيءٍ ما؛ فكل المعلمين أصبحوا يعرفونه، وزملاؤه يقصدونه في الأزمات، كل واحدٍ ضاع منه قلمه يأخذ منه واحداً، وكل معلمٍ يكتشف أن أحد التلاميذ لا يكتب لأن قلمه ليس معه يقول: "أين فلان صاحب الأقلام الاحتياطية"؟، ونتيجةً لأن ابني أحب الدراسة بدأ مستواه الدراسي يتحسن شيئاً فشيئاً. ورغم أنه اليوم قد تخرج من الجامعة وتزوج ورزقه الله الأولاد، فهو لم ينسَ يوماً قلم الحسنات، لدرجة أنه اليوم مسؤولٌ عن أكبر جمعيةٍ خيريةٍ في مدينتنا!

 

أحبتي في الله .. عقَّب ناشر القصتين عليهما مُرَكِّزاً على العامل المشترك فيهما وهو قلم الرصاص، لكن ما شد انتباهي ليس قلم الرصاص وإنما دور الأم في كلتا القصتين.

(الأم مَدرسة) ودورها مهمٌ في تربية الأطفال، يقول الخبراء في المجال التربوي إن الأم تتحمّل أعباء تغذية الأطفال والعناية بهم حتّى يتمكّنوا من الاعتماد على أنفسهم، وتلك المهام تتطلّب منها مشاعر فيّاضة من الصبر والمثابرة؛ فهي المعلمة الأولى في حياة أبنائها تُعلّمهم المهارات الأساسية في حياتهم كالكلام والمشي، وهي مصدر معظم المعلومات والحقائق، كما أنها هي التي تعلمهم المشاعر الإنسانية؛ كالحب، والرحمة، والمودة، والأخلاق الحميدة؛ مثل المساواة والاحترام والكرم وغير ذلك. ومعلومٌ أن الأطفال يتأثرون بكلّ ما يُحيط بهم، وتحتفظ عقولهم بما يُراقبونه ويُقلّدونه باستمرار، ونظراً إلى أنّهم يقضون معظم أوقاتهم مع الأم فإنّهم يتأثّرون بها كثيراً ويُصدّقونها ويُطيعونها؛ لذلك فالأم هي المسؤولة الأولى عن سعادة أبنائها وتكوين شخصياتهم بطريقة إيجابية، كما أنّ الأبناء يرون في أمهم صديقةً لهم تشاركهم أوقاتهم وألعابهم، ويتّخذونها قدوةً لهم؛ فيتشبهّون بها ويتمنّون أن يكونوا مثلها عندما يكبرون.

 

والأم في الإسلام لها وضعٌ فريدٌ؛ إذ يقول أهل الاختصاص إن التاريخ لا يعرف ديناً ولا نظاماً كرَّم المرأة باعتبارها أماً، وأعلى من مكانتها مثلما جاء به الإسلام الذي رفع مكانتها وجعل برها من أصول الفضائل، وجعل حقها أعظم من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية. ومن أعظم الأدلة على مكانة الأم في الإسلام الحديث النبوي الشريف الذي يروي قصَّة رجلٍ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: من أحق الناس بصحابتي يا رسول الله؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أبوك]. ويُروى أن رجلًا كان بالطواف حاملًا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: [لا، ولا بزفرةٍ واحدة]، أي زفرةٌ من زفرات الطلق والوضع ونحوها. ومن رعاية الإسلام للأمومة وحقها وعواطفها أنه جعل الأم المطلقة أحق بحضانة أولادها، وأولى بهم من الأب، حيث قالت امرأةٌ: "يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني"، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: [أنتِ أحقُ به ما لم تَنكِحي]. والأم التي عُني بها الإسلام كل هذه العناية، وقرر لها كل هذه الحقوق، واجبٌ عليها أن تُحسن تربية أبنائها، فتغرس فيهم الفضائل، وتُبغِّضهم في الرذائل، وتُعوِّدهم على طاعة الله.

لقد جعل الله سبحانه وتعالى الأم مسؤولةً عن تربية أولادها، فهي راعيةٌ ومسؤولةٌ عن رعيتها؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾، وقال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، ...].

 

يقول المتخصصون في علم النفس إنه يتوجب على الأم أن تدرك أثر كلّ عَملٍ تفعله على سلوك طفلها في المستقبل، متجنبةً إظهار الغضب والسخط والقسوة والترهيب والتهديد، ومبتعدةً أيضاً عن الصمت أو إبداء مشاعر القبول والرضا عند قيام الطفل بتصرفٍ خاطئٍ حتى لا يفهم الطفل من ذلك أنه تشجيعٌ له للاستمرار في الخطأ. والحب في قلب الأم غير كافٍ وحده لبناء سلوكٍ قويمٍ وشخصيةٍ سويةٍ للطفل، ما لم يكن مصحوباً بالعلم والمعارف العامة الأساسية التي تحتاجها كل أمٍ لتقوم بدورها التربوي على أكمل وجه؛ لذا فإنه من الأهمية إعداد الفتيات المُقبلات على الزواج إعداداً يُمكّنهن من تحقيق النجاح في تربية أطفالهن.

 

تخلص إحدى الناشطات الاجتماعيات إلى نتيجة مؤداها إن عملية التربية المناط بالأم القيام بها ليست بالأمر السهل أو الهين، وهي ليست مقتصرة على مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ، فهذا لا يليق إلا بتربية جروٍ أو قطةٍ أو أي كائنٍ آخر، لكن هنا الأمر يختلف فهو يتعلق بتربية إنسانٍ له عقلٌ وكيانٌ، و(الأم مَدرسة)، عليها أن تعي ذلك جيداً وتُعد نفسها لهذا الدور؛ فصلاح الأمم يبدأ بصلاح الأم.

 

وصدق الشاعر حين وصف الأم فقال:

(الأُمُّ مَدْرَسَةٌ) إِذا أَعدَدتَها

أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا

بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ

الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى

شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ

 

أحبتي .. (الأم مَدرسة) إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق، فليكن إعدادنا لبناتنا وفتياتنا الهدف منه تنشئة أطفال المستقبل على الفضيلة والقيم والأخلاق النبيلة، حتى يشبوا على ما تعلموه في صغرهم فيكونوا نواةً لشعبٍ مسلمٍ طيب الأعراق يجمع بين معايشة عصره والتفاعل معه واستيعاب علومه والتفوق فيها، وبين الحفاظ على دينه والفخر للانتماء له ودعوة الآخرين له من خلال السلوك العملي والمعاملات الطيبة والقدوة الحسنة. وليكن المرجع في تربية أطفال المستقبل هو الشريعة الإسلامية الغراء التي عندما تربى عليها سلفنا الصالح سادوا العالم، وكان لهم السبق في جميع العلوم؛ علوم الدين وعلوم الدنيا، وبنوا حضارةً استمرت لقرون عديدةٍ شهد لها القاصي والداني. صدق من قال: "علِّمُوا أولادكم القُرآن، والقُرآن سيُعلِّمهُم كُلَّ شَيء"، ولا تنسوا أنه سيكون من أهم ما سيتعلمونه البر بكم!

 

وفقنا الله لما يحب ويرضى، والله من وراء القصد.

 

https://bit.ly/3eKkp9S

الجمعة، 7 مايو 2021

لا يعملون بما يعلمون

 

خاطرة الجمعة /290


الجمعة 7 مايو 2021م

(لا يعملون بما يعلمون)

 

كان يحلم دائماً بمستقبلٍ باهرٍ مشرقٍ يجمع فيه بين المال والجاه والسُلطة، وقد وجد الطريق إليهم جميعاً في العلم؛ فأقبل عليه بنهمٍ حتى وصل إلى قمة الهرم العلمي بحصوله على الإجازة العالمية «الدكتوراه» في العلوم الشرعية، وتخصص في فرعٍ دقيقٍ منها وهو الفقه المقارن، لكن شيئاً من آماله لم يتحقق بعد. وذات يومٍ أحس أن حلمه قد بزغ فجره، وأوشك أن يتحقق شيءٌ منه؛ بعدما قرأ إعلاناً في إحدى الصحف المحلية أنَّ إحدى الدول تطلب أساتذةً في الفقه المقارن تنطبق شروطها عليه تماماً وكأنها تعنيه هو! لبس الأستاذ أبهى حلةٍ لديه وانطلق مسرعاً إلى سفارة تلك الدولة متفائلاً ومبتهجاً باقترابه من تحقيق حلمه.

في السفارة أدخلوه على اللجنة العلمية التي شكلتها إدارة الجامعة من أكبر علمائها لاختيار اللائقين من المتقدمين للوظائف المطلوبة، قدَّم لهم أوراق ترشحه وسيرته الذاتية والعلمية؛ فاستقبله أعضاء اللجنة بحفاوةٍ شديدةٍ ورحبوا به أبلغ ترحيب، إذ انبهروا بسيرته الذاتية وجعلتهم يُعظِّمون من شأنه. بدأ أعضاء اللجنة مقابلتهم له بالأسئلة الشفهية والمناقشات العلمية، كانت إجاباته دقيقةً بليغةً، وردوده موفقةً بارعةً، زادتهم انبهاراً بعلمه وفقهه، وإعجاباً بذكائه وفطنته، وقد حصل على الدرجة النهائية في جميع الفروع: "القرآن، والحديث، والفقه" بإجماع أعضاء اللجنة. وبدأ في تلقي التهنئة بالنجاح والقبول من رئيس اللجنة وأعضائها، غير أنه أحس بالعطش الشديد بعد هذه المناقشات الحامية فطلب ماءً؛ فأشار أحد أعضاء اللجنة إلى قلة ماءٍ موضوعةٍ على النافذة، فانطلق نحوها فشرب منها ثم عاد إلى رئيس اللجنة يسأله: "متى سيكون السفر إن شاء الله"؟ فأجابه رئيس اللجنة: "لا سفر"، تساءل الأستاذ مندهشاً: "وكيف ذلك؟! ألم تخبرني منذ قليلٍ أنني نجحت وقُبلت"؟! قال: "بلى، لقد نجحتَ في الاختبار النظري الشفهي لكنك رسبتَ في الامتحان العملي"، فتعجب الأستاذ وزادت دهشته وقال: "لكنى لم أمتحن عملياً"! فأجابه رئيس اللجنة: "بل اُمتحنت عملياً ورسبتَ"، قال: "متى؟! وكيف"؟! قال رئيس اللجنة: "عندما تقدمتَ لتشرب الماء تناولتَ القلة بشِمالك، ولم تُسمِ الله، ولم تجلس لتشرب كالسُنة، ولم تشرب ثلاثاً، ثم لم تحمد الله بعدها، فعلمنا أنك لا تعمل بعلمك، وأنك من الذين يقولون ما لا يفعلون، فلا حاجة لنا بك، إننا نريد لأبنائنا قدوةً يقتدون بهم في عملهم قبل أن يأخذوا عنهم علمهم"!

فكان الأستاذ إذا سُئل عن نتيجة المقابلة تلك قال: "نجحتُ في جميع العلوم الشرعية، ولكن سقطتُ في القُلَّة"!

 

أحبتي في الله .. في ذم من (لا يعملون بما يعلمون) يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾، ويقول تعالى عن نبيِّه شعيب عليه السلام: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.

وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [يُجَاءُ بِرَجُلٍ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابُهُ -أَي تخرُج أمعاؤه- وَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَأْتِيهِ أَهْلُ النَّارِ وَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانٌ! مَا شَأْنُكَ، أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟! قَالَ: بَلَى؛ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المنْكَرِ وَآتِيهِ]. ورأى النَّبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ- قَوْمًا تُقَرَّضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟! قَالُوا: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ؛ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ]، وقَال عليه الصلاة والسلام: [اطَّلَعَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَالُوا: بِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ، وَإِنَّمَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ بِتَعْلِيمِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَفْعَلُ].

ومن لم يعمل بعلمه سوف يُحاسب عليه؛ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: [لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعن عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وعن مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفيمَ أَنْفَقَهُ، وعن جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ].

ومما رُويَ عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: [مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ، كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ]، وقوله: [مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيامَةِ عَالِمٌ لَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ]، وقوله: [وَيْلٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ عَلِمَ ثُمَّ لَا يَعْمَلُ].

 

وعن عليٍ ابن أبي طالب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال فِي خُطْبَةٍ له: "هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ".

فالشرع ودلائل الكتاب والسُّنَّة وفعل الصحابة جاء فيهم وعيدٌ لمن (لا يعملون بما يعلمون)، ومن يدعون إلى شيءٍ ولا يعملون به؛ فيكون حظُّ النَّاس من علمهم أكثر من حظِّهم هم مِنْ علمهم.

 

قال الشاعر:

واعْمَلْ بِعِلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ

لَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ

وقال آخر:

مواعظُ الواعظِ لن تُقبلا

حتى تعيَها نفسُه أولا

يا قومِ مَن أظلمُ مِن واعظٍ

خالفَ ما قد قاله في الملا

أظهرَ بين الناسِ إحسانَه

وبارزَ الرحمنَ لمّا خلا

 

ويُقال: "إن العلم من دون عملٍ شجرٌ بلا ثمر"، و"كل علمٍ وبالٌ على صاحبه ما لم يعمل به"، و"العلم حجةٌ لك أو حجةٌ عليك".

 

أحبتي .. كم منا مَن يحرصون على نيل أعلى الشهادات في مجال علمهم ثم هم (لا يعملون بما يعلمون)؛ فينقلب علمهم وبالاً عليهم؟ هذه دعوةٌ لكل واحدٍ منا أن يُراجع نفسه ويعاهد الله سبحانه وتعالى على أن يعمل بما يعلم، ولا يخالف فعله قوله؛ حتى لا نكون ممن يمقتهم الله فيسخط عليهم، ويكون علمنا وبالاً علينا.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً. اللهم اجعل علمنا حجةً لنا، ولا تجعله حجةً علينا.

 

https://bit.ly/3epSD2g

الجمعة، 30 أبريل 2021

نور الهداية

 

خاطرة الجمعة /289


الجمعة 30 إبريل 2021م

(نور الهداية)

 

فنانةٌ صار لها أكثر من عشرين عاماً في مجال الدعوة إلى الله، ارتبط اسمها بالفنانات التائبات، وكان لها دورٌ دعويٌ بينهن، روت قصة توبتها فقالت:

درستُ في إحدى المدارس التبشيرية، ثم تخرجتُ في قسم الصحافة بكلية الآداب، عشتُ مع جدتي والدة فنانٍ معروفٍ؛ فهو عمي. كنتُ أجوب طرقات حي «الزمالك»، وأرتاد النوادي وكأنني أستعرض جمالي أمام العيون بلا حرمةٍ تحت مسمى التحرر والتمدن. وكانت جدتي العجوز لا تقوى عليّ، بل حتى أبي وأمي. كنتُ في غيبوبةٍ عن ديني، لا أعرف من الإسلام سوى اسمه. ‏لكنني برغم المال والجاه كنتُ أخاف من شيءٍ ما؛ أخاف من مصادر الغاز والكهرباء، وأظن أن الله سيحرقني جزاء ما أنا فيه من معصيةٍ، وكنتُ أقول في نفسي إذا كانت جدتي مريضةً وهي تُصلي، فكيف أنجو أنا من عذاب الله غداً؟ فأهرب بسرعةٍ من تأنيب ضميري بالاستغراق في النوم أو الذهاب إلى النادي.

عندما تزوجتُ، ذهبتُ مع زوجي إلى «أوروبا» لقضاء ما يُسمى بشهر العسل، وكان مما لفت نظري هناك أنني عندما ذهبتُ إلى «الفاتيكان» في «روما» وأردتُ دخول المتحف البابوي أجبروني على ارتداء البالطو أو الجلد الأسود على الباب؛ هكذا يحترمون ديانتهم .. وهنا تساءلتُ بصوتٍ خافتٍ: "فما بالنا نحن لا نحترم ديننا"؟! وفي أوج سعادتي الدنيوية المزيفة قلتُ لزوجي: "أريد أن أصلي شكراً لله على نعمته"، فأجابني: "افعلي ما تريدين، فهذه حريةٌ شخصية"! وأحضرتُ معي ذات مرةٍ ملابس طويلةً وغطاءً للرأس ودخلتُ المسجد الكبير في «باريس» فأديتُ الصلاة، وعند خروجي من باب المسجد أزحتُ غطاء الرأس وخلعتُ الملابس الطويلة وهممتُ أن أضعها في الحقيبة، وهنا كانت المفاجأة؛ اقتربت مني فتاةٌ فرنسيةٌ ذات عيونٍ زرقاء، لن أنساها ما حييت، ترتدي الحجاب، أمسكت يدي برفقٍ وربتت على كتفي، وقالت بصوتٍ منخفضٍ: "لماذا تخلعين الحجاب؟!

ألا تعلمين أنه أمر الله"!! كنتُ أستمع لها في ذهولٍ، والتمست مني أن أدخل معها المسجد بضع دقائق، حاولتُ أن أُفلت منها لكن أدبها الجم، وحوارها اللطيف أجبراني على الدخول. سألتني: "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ أتفهمين معناها؟ إنها ليست كلماتٍ تُقال باللسان، بل لابد من التصديق والعمل بها"؛ اهتز قلبي، وخضعت مشاعري لكلماتها ثم صافحتني قائلةً: "انصري يا أختي هذا الدين". لقد علمتني هذه الفتاة درساً في حياتي لن أنساه أبداً، خرجتُ من المسجد وأنا غارقةٌ في التفكير لا أحس بمن حولي، ثم صادف هذا اليوم أن صحبني زوجي في سهرةٍ إلى مكانٍ إباحيٍ يتراقص فيه الرجال مع النساء شبه عرايا، ويفعلون كالحيوانات، بل إن الحيوانات لتترفع من أن تفعل مثلهم، كرهتهم وكرهتُ نفسي الغارقة في الضلال، لم أنظر إليهم، ولم أحس بمن حولي، وطلبتُ من زوجي أن نخرج حتى أستطيع أن أتنفس، ثم عدتُ فوراً إلى «القاهرة»، وبدأت أولى خطواتي للتعرف على الإسلام.

وعلى الرغم مما كنتُ فيه من زخرف الحياة الدنيا إلا أنني لم أعرف الطمأنينة والسكينة، لكني أقترب إليها كلما صليتُ وقرأتُ القرآن. واعتزلتُ حياة الجاهلية التي كنتُ أعيشها، وهجرتُ حياة النوادي وسهرات الضلال، وعكفتُ على قراءة القرآن ليلاً ونهاراً، وأحضرتُ كتب ابن كثيرٍ وغيره؛ كنتُ أنفق الساعات الطويلة في حجرتي للقراءة بشوقٍ وشغفٍ، قرأتُ كثيراً، وبدأتُ أتعرف على أخواتٍ مسلمات. رفض زوجي في بداية الأمر بشدةٍ حجابي واعتزالي لحياتهم الجاهلية، لم أعد أختلط بالرجال من الأقارب وغيرهم، ولم أعد أصافح الذكور، وكان امتحاناً من الله، لكن أولى خطوات الإيمان هي الاستسلام لله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما. وحدثت مشاكل كادت تُفرق بيني وبين زوجي، ولكن الحمد لله فرض الإسلام وجوده على بيتنا الصغير، وهدى الله زوجي للإسلام، وأصبح الآن خيراً مني، داعيةً مخلصاً لدينه، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً. وبرغم المرض والحوادث الدنيوية، والابتلاءات التي تعرضنا لها فنحن سعداء ما دامت مصيبتنا في دنيانا وليست في ديننا.

 

أحبتي في الله .. يقول أحد العلماء تعليقاً على هذه القصة: من هذه القصة نأخذ دروساً وعظاتٍ وعبراً، منها أن حال هذه المرأة التائبة نموذجٌ لحال كثيرٍ من المسلمين والمسلمات الغارقين في بحار الظلمات والشهوات، البعيدين عن منهج الله سبحانه وتعالى، وهُم في أمسِّ الحاجة إلى من يُذكِّرهم بالله سبحانه، ويدلهم على شرعه وهديه، وهذا الأمر يؤكد لنا ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين حثنا عليهما القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

ومنها عدم احتقار أي جهدٍ يُبذل في سبيل دعوة الناس إلى الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ويتضح ذلك من خلال ما قالته الفتاة الفرنسية من كلماتٍ قليلةٍ كانت بمثابة (نور الهداية)، وسبباً في عودة امرأةٍ مسلمةٍ كانت غارقة في الملذات والشهوات إلى دين ربها، تلك الكلمات غيرت مجرى حياة المرأة رأساً على عقب، وتعدى هذا التغيير إلى زوجها فأصبح داعيةً إلى الله سبحانه وتعالى.

ومنها ضرورة العمل على إيقاظ الضمير ومخاطبة القلوب التي غطت عليها أغشية المعاصي، فهذه المرأة من خلال قصتها نرى أنها مع ما كانت فيه من سوء الحال إلا أنها كانت تخاف من الله أن يعذبها، وتطلب من زوجها أن يتركها تصلي، وتستنكر ما تفعله مقابل تمسك النصارى بشعائرهم، وهي مسلمةٌ ولكنها قد تخلت عن قيمها وشعائر دينها.

ومنها أن تفريط الراعي يُضَيِّع الرعية، فهذه المرأة لم يُحسِن الأبوان تربيتها، ولم يرعياها كما أمر الله، وانتقلت إلى زوجها فأضافت إلى ضياعها ضياعاً آخر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ، وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ].

ومنها بيان أثر الرفق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرفق الفتاة الفرنسية ترك الأثر البالغ في قلب المرأة العائدة إلى الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ]، وقال: [إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ].

ومنها أهمية الحرص على حُسن الخطاب وجودة الأسلوب الذي تميزت به الفتاة الفرنسية؛ ويظهر في خطابها الجميل وأسلوبها الرائع الذي أسرت به قلب أختنا التائبة.

 

يتعرض القرآن الكريم إلى (نور الهداية) في عدة مواضع منها قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾؛ فالله سبحانه وتعالى نورٌ، والنور نوره، وهو الهادي إليه. ويقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ فالنور هو كتاب الله يهدي به من يشاء. ويقول تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ فالنور هنا مقرونٌ بالقرآن الكريم يهدي به من اتبع رضوانه، ويُخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم.

والمفلحون حقاً هم الذين هداهم الله لنوره، وأورثهم الجنة بما كانوا يعملون، تجدهم آنذاك يقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾.

 

أحبتي .. إنه (نور الهداية) يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده؛ فيَرِق قلبه بعد قسوةٍ، وتدمع عيناه بعد طول جفاف، وتخف عليه الطاعة بعد ثِقَل؛ كأنما وُلد من جديد. هو (نور الهداية) عندما يشع في قلب الإنسان يُغيِّر حياته تغييراً شاملاً، ويضعه على بداية الطريق القويم، والصراط المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.

اللهم أنر قلوبنا بنورك واجعلنا من المهتدين. اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، بالقدوة الحسنة والكلمة الطيبة التي تأسر القلوب، عسى الله أن يوفقنا إلى هداية الغير فننال عظيم الأجر وجزيل الثواب؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ].

 

https://bit.ly/3xCx85V

الجمعة، 23 أبريل 2021

عناية الله

 

خاطرة الجمعة /288


الجمعة 23 إبريل 2021م

(عناية الله)

 

ﺍﻣﺃﺓٌ ﺻﺎﻟﺤﺔٌ ﺗﻘﻴّﺔٌ ﺗﺤ ﺍﻟﺨﻴ ﻭﻻ يفتر لسانها ﻋ ﺫِﻛ ﺍﻟﻠﻪ، ﻻ ﺗﺴﻤﺢ ﻟﻜﻠﻤﺔٍ ﻧﺎﺑﻴﺔٍ ﺃﻥ ﺗﺨﺝ ﻣ ﻓﻤﻬﺎ. ﺇﺫﺍ ﺫُﻛﺕ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﺧﺎﻓ ﻭﻓ ﻭﺭﻓﻌ ﺃﻛﻒ ﺍﻟﻀﺍﻋﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺎﻟﺒﺔً ﺍﻟﻗﺎﻳﺔ منها، ﻭﺇﺫﺍ ﺫُﻛﺕ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﺷﻬﻘ ﺭﻏﺒﺔً ﻓﻴﻬﺎ ﻭرفعت ﻳﻳﻬﺎ ﺑﺎﻟﻋﺎﺀ أن ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ الله ﻣ ﺃﻫﻠﻬﺎ. شعرت ﻓﺠﺄﺓً ﺑﺄﻟٍ ﻓﻲ ﺍلفخذ، ﻭﺑﻌ ﺭﺣﻠﺔٍ طويلةٍ ﻓﻲ ﻣﺴﺘﺸﻔﻴﺎﺕٍ ﻛﺜﻴﺓٍ، ﻭﻟﻯ ﻋدٍ ﻣ ﺍﻷﺒﺎﺀ دون جدوى، سافرت ﺇﻟﻰ «ﻟﻨﻥ» عسى أن تجد هناك الرعاية الصحية الأفضل، هناك اكتشف ﺍﻷﺒﺎﺀ وجود تعفنٍ ﻓﻲ ﺍﻟﻡ، ظلوا ﻳﺒﺤﺜﻥ ﻋ ﻣﺼﺭه؛ ﻓﺈﺫﺍ ﻫ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺨ، فقرروا ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺃﺓ ﺗﻌﺎﻧﻲ ﻣﺮﻃﺎﻥٍ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺨ، وﻫ ﻣﺒﻌ ﺍﻷﻟ ﻭﻣﺼﺭ ﺍﻟﻌﻔ، ﻭانتهى ﺗﻘ ﺇﻟﻰ ﺿﻭﺭﺓ ﺍﻹﺳﺍﻉ ﺑﺒﺘ رجلها ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﺘﺴﻊ ﺭﻗﻌﺔ ﺍﻟﻤﺽ. في يوم إجراء جراحة البتر أُدخلت المرأة غرفة ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺎﺕ لإجراء العملية، ﻛﺎﻧ ﻣﻤﺩﺓً ﻣﺴﺘﺴﻠﻤﺔً ﻟﻘﻀﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻗﺭه. ظلَّ ﻟﺴﺎﻧﻬﺎ يلهج بذِكر ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺍﻟﺘﻀﻉ ﺇليه حتى بدأ تأثير المخدر على جسمها، وكان هذا هو التوقيت المناسب لبدء عملية البتر.

الغريب أن الأجهزة الطبية الخاصة بالبتر تعطلت فجأةً مرةً واثنتين وثلاث مراتٍ، وسط دهشة الأطباء! وبعد مشاوراتٍ بينهم -وهم ما زالوا في غرفة العمليات- قرروا ﺇﺟﺍﺀ ﺟﺍﺣﺔٍ ﻟﻠﻔﺨ بدلاً من بتر الرجل؛ وﻣﺎ ﻛﺎﺩ مشرﻁ الجراح ﻳﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﻭﺳ الفخذ حتى رأى ﺍﻷﺒﺎﺀ بأﻋﻴﻨﻬﻨﺎً ﻣﺘﻌﻔﻨﺎً ﺑﺼﺭﺓٍ ﻛﻳﻬﺔٍ، ﻭﺑﻌ ﻋﻤﻠﻴﺔٍ ﻳﺴﻴﺓٍ ﻧﻒ ﺍﻷﺒﺎﺀ موضع الجراحة ﻭﻋﻘﻤه. أفاقت ﺍﻟﻤﺃﺓ بعد زوال تأثير المخدر، ﻭﻗ ﺯﺍﻟ ﺍﻵﻻﻡ عنها ﺑﺸﻜﻞٍ ﻧﻬﺎﺋﻲٍ ﺣﺘﻰ ﻟ ﻳﺒَ ﻟﻬﺎ ﺃﺛ، وﻧﻈﺮﺕ ﻓﺕ ﺭﺟﻠﻬﺎ ﻟ ﺗُﻤ بأذىً، ﻭﻭﺟﺕ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻳُﺤﺎﺩﺙ ﺍﻷﺒﺎﺀ ﺍﻟ ﺗﻐﺎﺩﺭ ﺍﻟﻫﺸﺔ ﻭﺟﻫﻬ؛ فسألوا ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻫﻞ ﺣﺙ ﻭﺃﻥ ﺃﺟﺕ زوجته ﻋﻤﻠﻴﺔً ﺟﺍﺣﻴﺔً ﻓﻲ ﻓﺨﻫﺎ؟ ﻋﻑ ﺍﻷﺒﺎﺀ أن ﺍﻟﻤﺃﺓ ﻭﺯﻭﺟﻬﺎ كانا قد تعرضا لحادثٍ ﻣﻭﺭيٍ ﻗﺒﻞ ﻓﺘﺓٍ ﻃﻮﻳﻠﺔٍ، وﻛﺎﻧ ﺍﻟﻤﺃﺓ ﻗ ﺟُحاً ﺑﺎلغاً ﻓﻲ ﺫﻟ ﺍﻟﻤﺿﻊ من الفخذ وأُجريت لها عملية جراحية، وعلى ذلك يكون هذا القطن المتعفن هو من آثار تلك العملية. ﻗﺎﻝ ﺍﻷﺒﺎﺀ إنه لولا تعطل أجهزة البتر لكانت رجلها قد بُترت من غير أن يتعرفوا على السبب الحقيقي للألآم التي كانت تُعاني منها. نظر بعضهم إلى بعض وقالوا في صوتٍ واحدٍ: "ﺇﻧﻬﺎ (عناية الله)".

ﻛﺎﻧﺣﺔ ﺍﻟﻤﺃﺓ ﻭهي ترى بأن ﻛﺎﺑﺱ ﺍﻟﺨﻄﺮ قد انجلى، وآلامها المبرحة قد زالت، ومع ذلك فهي لن تصبح مضطرةً للمشي ﺑﺟﻞٍ ﻭﺍﺣﺓٍ، وهو أمرٌ كان ﻳﺭﻗﻬﺎ؛ ﻓﺍﺣ ﺗﻠﻬﺞ ﺑﺎﻟﺤﻤ ﻭﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻱ ﻛﺎﻧ ﺗﺴﺘﺸﻌﺑﻪ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻟﻔﻪ ﺑﻬﺎ ﻭﺭﺣﻤﺘﻪ، وشموله لها برعايته وعنايته.

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصة ﺳﻴﺓٍ ﺟﺍﺋﻳﺔٍ جلست ﺗﺒﻜﻲ ﻭﺣﻫﺎ ﻓﻲ ﻣﺎﺭ ﺍﻟﺠﺍﺋ؛ لسببٍ أو لآخر ﺭﺣﻠ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﺎﺋﺓ التي تنقل الحجاج إلى الأراضي المقدسة، ﻧﺴﻫﺎ وطاروا بدونها، ﻭﻟﻜ الله سبحانه وتعالى ﻣﻕ ﺍﻟﻌﺵ ﻻ ينسى؛ فقبل أن تُغادر الطائرة الأجواء الجزائرية، وبعد ربع ساعةٍ من طيرانها، وهي ﺑﻴ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺍﻷﺭﺽ، ﻳﺴﻤﻊ ﺍﻟﻴﺎﺭ ﺻﺕ ﻗﻗﻌﺔٍ. ﺗﺍﻫﺎ ﺗﺸﺒﻪ ﻗﻗﻌﺔ قلب تلك السيدة ﺍﻟﺨﺎﺋﻒ؟! ﺍُﺿﻄﺮ الطيار ﺇﻟﻰ العودة إلى مطار ﺍﻟﺠﺍﺋ، ﻓﻲ ﻫﺒﻁٍ ﺎﺭﺉٍ، ﻓﻲ ﺫﺍﺕ ﺍﻟ ﻳﺠﻮﻇ ﺍﻟﻤﺎﺭ ﺻﺎﻟﺔً ﻳﻀﻌﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﻛﺎﺏ ﺣﺘﻰ ﻳُﺘ ﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺼﻴﺎﻧﺔ ﻋﻤﻠﻬ ﺇﻻ ﺗﻠ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧ ﺗﺒﻜﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﺓ! ﺗُﻯ ﻛﻴﻒ ﻛﺎﻧ ﺩﻫﺸﺘﻬﺎ ﺣﻴ ﺭﺃﺗﻬ ﺃﻣﺎﻣﻬﺎ؟! هل ﺃﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻠ؟! ﺃﻡ ﻳﻘﻴﻨﻬﺎ ﺑﺎلله ﺃﻛﺒ؟! ﻋﻨﻣﺎ ﺣﻀ ﺍﻟﻤﻬﻨﻥ ﻟﻜﺸﻒ ﺍﻟﺨﻠﻞ ﻗﺎﻟﺍ: "ﺇﻥ ﺍﻟﺎﺋﺓ ﺳﻠﻴﻤﺔٌ ﻭﻻ توجد ﺃية ﻣﺸﻜﻠﺔ"! ﻣ ﺃجل تلك السيدة ﻋﺎﺩﺕ ﺍﻟﺎﺋﺓ بعد إقلاعها، وﺗﻗﻒ ﻛﻞ ﺷﻲﺀٍ في المطار، وﺃُﻋﻠﻨ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻄﻮﺍﺭيء، وﻷﺟﻠﻬﺎ ﺗﻌﻞ ﺃﻛﺜ 200 ﺭﺍﻛ، وﻷﺟﻠﻬﺎ ﺣﻀ ﺍﻟﻤﻬﻨﻥ ﻭﺍﺣﺘﺎﺭ ﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺼﻴﺎﻧﺔ؛ فأﻱ أكفٍ طاهرةٍ تلك التي اﻣﺘﺕ ﺇﻟﻰ ﺍلله؟! وأي دعوةٍ ﺗﻠ ﺍﻟﺘﻲ ﺭﻓﻌﺘﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ؟! ﺃﻱ ﻳﻘﻴٍ ﻛﺎﻥ ﻳﺤﻤﻞ ﻗﻠﺒﻬﺎ ﻭﻫﺗﻌفاً من ضياع فريضة الحج؟!

ﺇﺫﺍ ﺭﺣﻞ ﻛﻞ ﺷﻲﺀٍ ﻋﻨ، ﻭأُغلقت ﺍﻷﺑﺍﺏ ﻓﺈﻥ (عناية الله) موجودةٌ ودائمةٌ وباقيةٌ ﻻ ترﺣﻞ؛ فهو سبحانه وتعالى لا يغفل ولا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، إنه الله الحافظ، وإنها عنايته بالمؤمنين؛ يقول تعالى عن نفسه: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.

وإذ يأتي قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ في صورة سؤالٍ، تكون إجابة أهل العلم: "بلى"؛ إن الله عزَّ وجلَّ كافٍ عبده، فهو لا يُسلم أولياءه للأعداء، ولا يخذل الصالحين من عباده، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاط المشركون ببيته، وفي يد كل رجلٍ منهم سيفٌ، يريدون أن يضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ ليتفرق دمه في القبائل، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم وأخذ حفنةً من ترابٍ فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو صدر سورة ياسين، إلى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾، والقوم وقوفٌ على بابه، ومعهم أبو جهل، لم يبقَ منهم رجلٌ إلا وُضع على رأسه التراب، ويخرج الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، من بينهم تصحبه (عناية الله). ثم وهو في طريق الهجرة مع صاحبه أبي بكرٍ الصديق لحق به سراقة بن مالك؛ الفارس المغوار، يريد قتله، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فساخت قوائم فرسه في الأرض، قال سراقة: "فعلمتُ أنه ممنوعٌ"، أي: أنني لن أصل إليه بأذىً، ولن أستطيع أن أمد إليه يداً بسوء؛ فطلب سراقة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقيل عثرته، فدعا صلى الله عليه وسلم ربه عزَّ وجلَّ فنهض فرس سراقة، وبشَّر النبي سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى بن هرمز، وحقق الله سبحانه وتعالى تلك النبوءة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه دخلا الغار، يختبئان فيه، والمشركون واقفون على باب الغار، حتى أشفق أبو بكر، رضي الله عنه، منهم، فقال له رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، إنها (عناية الله) أعمت أبصار المشركين عن النبي وصاحبه.

وفي مَعركَة أُحد، أتى أحد فرسان قريش فجعل يصول ويجول وهو يقول: "دلوني على مُحمَّدٍ، فلا نجوتُ إن نجا"! ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبه، ما معه أحد، ومع ذلك فقد جاوزه هذا الفارس ولم يره! وحين عاتبه أصحابه قال: "واللهِ ما رأيته، أحلف باللهِ إنه منا ممنوعٌ، خرجنا أربعةٌ فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك".

قال الشاعر في ذلك:

كَأنه وهو فَردٌ في جَلالَتِه

في مَوكِبٍ حين تلقَاه وفي حَشَمِ

عِنَايةُ اللهِ أغنَت عن مُضَاعَفَةٍ

مِنَ الدرُوْعِ وعَن عَالٍ من الأُطُم

وقال آخر:

وإذا العِنَايةُ لاحَظَتك عُيونُها

نَمْ فَالحوَادثُ كُلهُن أمَانُ

وقال ثالث:

ومَنْ يكُن الإلَهُ لَه حَفيْظَاً

فَحَاشَا أن يُضَيِّعهُ الإلَهُ

 

أحبتي .. المؤمن المقيم على طاعة الله، العامل بأوامر الله، المجانب لمحارمه، المبتعد بنفسه عن السيئات والآثام والخطايا، يطمئن إلى أن الله ناصره، وهو سبحانه لا يُخلف وعده؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾، فلنقترب من الله أكثر وأكثر، حتى ننعم برعاية و(عناية الله). وليكن عزمنا على ألا يمر علينا يومٌ واحدٌ بغير أن نتقرب منه سبحانه وتعالى حتى يُحبنا، فما أروع نتيجة ذلك؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: {... وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ...} وهذا يبين أنَّ أحبَّ الأعمالِ فِعلُ الفرائض، وأفضلُ القُرُبات بَعدَها فِعلُ النَّوافل.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واكلأنا برعايتك وعنايتك.

 

https://bit.ly/2QRmdV4