الجمعة، 6 يوليو 2018

تطوعوا يرحمكم الله!


الجمعة 6 يوليو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٢
(تطوعوا يرحمكم الله!)

يروي هذه القصة الواقعية طالبٌ أجنبيٌ كان يدرس في سويسرا، وكان يسكن في غرفةٍ عند امرأةٍ عمرها سبعٌ وستون سنة، كانت تعمل معلمةً قبل تقاعدها، وهي تستلم راتب تقاعدٍ مُجزٍ، لكنه رآها تذهب للعمل مرتين في الأسبوع؛ حيث كان عملها بدارٍ لرعاية المسنين، كانت ترعى مسناً عمره سبعٌ وثمانون سنة! أبدى الشاب عجبه مما تفعل، وسألها إن كانت تعمل لكسب المال، فقالت له إنها لا تعمل لأجل المال بل لتكسب الوقت؛ وأنها تودع لنفسها وقتاً في بنك الزمن، وهي بعملها هذا توُدِع الوقت لكي تستطيع الصرف منه عندما تحتاج له في كبرها أو عندما تُصاب بحادثٍ وتحتاج إلى من يساعدها!
يقول الطالب إنها المرة الأولى الذي يسمع فيها عن بنك الزمن، فسألها عن معلوماتٍ أكثر عن ذلك البنك، قالت له إن الحكومة السويسرية أنشأت ذلك البنك كضمانٍ اجتماعيٍ للناس؛ حيث يفتح كل راغبٍ في الاشتراك فيه حساب زمن، بحيث يُحسب له الوقت الذي يقضيه في الخدمة الاجتماعية، خصوصاً خدمة المسنين والمرضى الذين لا يوجد لديهم من يرعاهم أو يساعدهم من عائلاتهم. يُشترط على المشترك أن يكون سليماً صحياً وقادراً على العطاء والتواصل مع الآخرين ولديه القدرة على التحمل وراغباً في تقديم الخدمات بنفسٍ راضيةٍ وإخلاصٍ، ثم عندما يحتاج المشترك إلى مساعدةٍ يُرسِل له البنك شخصاً من أصحاب حسابات الزمن في البنك ليخدمه ويَخْصِم الوقت من حسابه. والخدمات التي يقدمها المشترك تُقدم للمحتاج إما في مستشفى أو دار مسنين أو في البيت؛ كأن يرافق المحتاج للتسوق أو للتمشية أو لمساعدته في تنظيف منزله.
يقول الطالب أنه في أحد الأيام احتاجت تلك المرأة للمساعدة عندما سقطت أثناء تنظيف نافذتها وكُسر كاحل قدمها واضطرت للبقاء في السرير عدة أيام، أراد الطالب تقديم إجازةٍ اضطراريةٍ لمساعدتها، لكنها قالت له إنها لا تحتاج مساعدته لأنها تقدمت بطلب سحبٍ من رصيدها في البنك، وأنهم سيرسلون لها من يساعدها. جاء المساعد الذي عينه البنك وكان يرعاها ويتحدث معها ويرافقها ويقضي لها بعض حاجياتها من السوق. وأرسل لها البنك ممرضةً عندما احتاجت لذلك. بعد أن تعافت من الكسر عادت للعمل مرتين في الأسبوع لتعويض ما خسرته من وقت في البنك. وهكذا يعمل بنك الزمن!
يقول الطالب إن الشعب السويسري يؤيد هذا البنك ويدعمه لأنهم لمسوا فوائده على المجتمع؛ فقد وُجد ذلك البنك لتبادل أو مقايضة خدماتٍ اجتماعية بدلاً من الأموال. ويقول عن فكرة بنك الزمن أنها فكرةٌ جميلةٌ جداً ومفيدةٌ ويمكن تطبيقها في كل مجتمعٍ من المجتمعات لكنها تتطلب انضباطاً وإحساساً بالمسؤولية وإخلاصاً في أداء العمل، مع إدارةٍ جادةٍ وحريصةٍ على الناس والمجتمع.

أحبتي في الله .. بنوك توفير الأموال كثيرةٌ، ولها أسماء مختلفة، ومشروعاتها متعددة .. منها ما هو إسلاميٌ ومنها ما هو ربويٌ، أما هذا البنك، بنك الزمن، ففكرته عبقريةٌ تتلخص في أنه يشجع كل مواطنٍ على إنشاء حسابٍ لإيداع الوقت عندما يكون قادراً على الإيداع، ويسمح له بالسحب من رصيده المدخر من الوقت عندما يحتاج إلى ذلك، وفي الحالتين: حالة الإيداع والسحب، تكون العملة المتداولة المقبولة من جميع أصحاب الحسابات في هذا البنك هي خدمةٌ اجتماعيةٌ في أي مجالٍ يرغب فيه عند الإيداع أو يحتاجه عند السحب، كمجال رعاية المسنين أو الأيتام أو المرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرها من مجالات.
ذكرتني هذه الفكرة بفكرةٍ مماثلةٍ إلى حدٍ ما، كنتُ قد تقدمت بها إلى وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة قبل انتهاء عملي بها، أعتقد أنهم قد أخذوا بها وطبقوها بعد تقاعدي ومغادرتي الإمارات، وتتلخص في الاستفادة من طاقة طلاب المدارس بنين وبنات وتوجيهها لخدمة المجتمع في جميع مجالات العمل التطوعي، وما أكثرها. فقد قمتُ بتصميم برنامج متكاملٍ لاحتساب وتسجيل ساعات العمل التطوعي لكل طالبٍ في المرحلة الثانوية، بحيث لا يحصل الطالب على شهادة إتمام المرحلة الثانوية إلا بعد أن يكون قد أنهى عدداً محدداً من ساعات العمل التطوعي الموثقة سواءً أثناء العام الدراسي أو خلال عطلات نهاية الأسبوع أو العطلات الأخرى كعطلة منتصف العام الدراسي أو العطلة الصيفية التي تمتد لشهور. وقد قمتُ بإعداد "دليل العمل التطوعي في المجال التربوي"، وكان الأول من نوعه في العالم العربي وقت إصداره، وربما حتى الآن، ضمنته البرنامج شاملاً الأهداف وآليات التنفيذ، والاستمارات الخاصة بذلك، وأساليب تهيئة الطلاب وأولياء أمورهم وتدريب المشرفين، وتهيئة المؤسسات الاجتماعية للإفادة من جهود العمل التطوعي للطلاب. كما قمتُ بالإشراف على التنفيذ التجريبي لهذه الفكرة في عددٍ من المدارس، ثم أجريت دراسةً ميدانيةً أثبتت نجاح مرحلة التنفيذ التجريبي، وقدمت نتائج العمل في شكل مخرجاتٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ وتربويةٍ، إلى جانب قياس العائد المادي لتلك الجهود مقدراً بمئات الآلاف من الدراهم خلال فترةٍ زمنيةٍ محدودةٍ وفي عددٍ قليلٍ من المدارس.
ولمن أراد أن يستفيد من هذا البرامج يمكنه تنزيل نسخةٍ من الدليل والاستمارات اللازمة للتطبيق من مدونةٍ أنشأتها خصيصاً لذلك سميتها "متطوعون بلا حدود".

التطوع لغةً، ما تبرع به الإنسان من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه. وهو من الفعل تَطَوَّعَ أي بَذَلَ ومَنَحَ دون مقابلٍ بنفسٍ طيبةٍ ورحابة صدرٍ. قال ابن منظور في لسان العرب: جاء متطوعاً أي طائعاً غير مكرهٍ.
أما التطوع اصطلاحاً، فهو مفهومٌ يشير إلى "تخصيص وقتٍ وجهدٍ بشكلٍ إراديٍ حرٍ دون الحصول على أرباح ماديةٍ، لمساعدة الآخرين والإسهام في تحقيق النفع والصالح العام"، أو هو "السَّعي إلى بذل المجهود الفكريّ أو العضليّ أو الماليّ أو العينيّ أو النَّفسيّ لفئةٍ من النَّاس محتاجةٍ للعون والمساعدة والمؤازرة على كافّة الصُّعد بصورةٍ فرديّةٍ أو جماعيّةٍ".

يقول أهل العلم أن الإسلام قد حث على العمل التطوعي؛ فهو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تحقق الترابط والتاَلف والتآخي بين أفراد المجتمع. ويعتبر الإسلام العمل التطوعي من أعمال الخير؛ يقول تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ فلا يدخل في العمل التطوعي الفروض والواجبات، وإنما يشتمل على: المستحب، والمندوب، والنفل والتطوع. فهو مستحبٌ لأن فعله ليس على سبيل الإلزام يُثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. وهو مندوبٌ حيث بيَّن الشرع ثوابه وندب ورغَّب فيه. وهو نفلٌ لأنه زائدٌ على الفرض والواجب. وهو تطوعٌ باعتبار أن فاعله يفعله من غير أن يُؤمر به حتماً. وقد توسع الشرع فيما يمكن اعتباره عملاً تطوعياً؛ فمن ذلك مثلاً: إماطة الأذى عن الطريق، إعانة الغير ومساعدتهم، إنقاذ الغرقى، إطفاء الحرائق، رعاية المسنين والمرضى، التصدق على المحتاجين، عمل المعروف، الإصلاح بين الناس، وغير ذلك من مجالاتٍ؛ يقول عزَّ وجل: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
وذكر لنا القرآن الكريم عدة أمثلة للعمل التطوعي؛ منها: تطوع ذي القرنين ببناء السد لحماية القوم من يأجوج ومأجوج الذين كانوا يفسدون في الأرض، وتطوع سيدنا موسى عليه السلام عندما ورد ماء مدين بالسقاية لامرأتين كانتا تذودان وأبوهما شيخٌ كبير، وتطوع الرجل الصالح لبناء الجدار الخاص بغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما. فالعمل التطوعي الذي فيه نفع الناس والإحسان إليهم يدخل في عموم العمل الصالح المثاب عليه والممدوح في مثل قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾. وفي مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. والمسلم مثابٌ على كل ما يعمل من أعمال الخير والبر والتقوى، مهما قلّ أو صَغُر هذا العمل؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. وجماع الأمر كله في هذه الآية الكريمة: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.
وقد وَسَّعَت الشريعة مفهوم العمل التطوعي حتى أنه من الصعب ألا يجد المسلم أي عملٍ خيرٍ يمكن أن يقدمه إلى مجتمعه بالفعل، كما لو كانت الرسالة الموجهة إلى كلٍ منا هي (تطوعوا يرحمكم الله!).
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى]. وقال صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيْهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيْطُ الأَذى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ سَلَامَكَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتَكَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ أَمْرَكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وإن َنَهْيَكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلبُ فِي الجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيق، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [من فرج عن أخيه المؤمن كُربةً من كُرب الدنيا فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلمٍ ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنَ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ]. وأوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال، وأكد على أن منها كف الشر عن الناس؛ فعَنْ أَبِي ذَرَ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: [الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ]. قَالَ قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: [أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا]. قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: [تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ]. قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: [تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ].

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؛ فعندما نزل عليه جبريل عليه السلام بأول الوحي ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، دخل على السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأخبرها الخبر وقال لها: [لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي]، فقالت خديجة: "كَلَّا أَبْشِرْ، فَوَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا، وَاللهِ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يتفقد الناس ليلاً فإذا ببيت شعر ٍينبعث منه أنين امرأةٍ على وشك الولادة وليس عندها إلا زوجها، فعاد إلى منزله وقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما: "هل لك في أجرٍ ساقه الله إليك؟"، قالت: "وما هو؟"، فأخبرها الخبر، وأمرها أن تأخذ معها ما يحتاج إليه الوليد من ثيابٍ وما تحتاج إليه المرأة وقِدراً وحبوباً وسمناً. فجاءت به؛ فحمل القدر ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت، وقال لامرأته: ادخلي إلى المرأة، وجلس هو مع زوجها وأوقد النار وطبخ ما جاء به، والرجل جالسٌ لا يعلم من هو. وولدت المرأة فقالت أم كلثوم من داخل البيت: "بَشِّر يا أمير المؤمنين صاحبك بغلام"، فتهيب الرجل لما سمع "يا أمير المؤمنين"، هدَّأ عمر من روعه، وأطعمه من الطعام الذي أعده، وأعطى زوجته أم كلثوم فأطعمت المرأة النفساء، وقال للرجل: "إذا كان غداً فأتنا نأمر لك بما يصلحك"، فلما أصبح أتاه ففرض لابنه في الذرية وأعطاه.
والعمل التطوعي ربما كان سبباً من أسباب المغفرة، ولو مع وجود كبائر الذنوب؛ كما غفر الله للبغي الزانية من بني إسرائيل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بينما كلب يُطِيفُ بركِيَّةٍ كاد يقتله العطش، إذ رأتْه بغيٌّ مِن بَغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها فسَقَتْه، فغُفرَ لها به]. الركية البئر، موقها خفها.

أحبتي .. كم نحن اليوم في حاجةٍ إلى غرس قيمة العمل التطوعي في نفوس أبنائنا أطفالاً وشباباً، وكم هو راقٍ هذا الدين الذي ارتضاه لنا المولى عزَّ وجل يُطَهِّر لنا نفوسنا ويُصلح قلوبنا ويجعلنا نتعاطف مع غيرنا من البشر مسلمين وغير مسلمين، بل ونحنو على الحيوانات والطيور فلا نؤذيها ونسارع في تقديم الطعام والشراب لها وتطبيبها إذا لزم الأمر. هل يوجد في العالم كله دينٌ أو شريعةٌ أو نظامٌ يكفل حقوق الإنسان وحقوق الحيوان إلى هذه الدرجة؟ ويعتبر صيانة بعض هذه الحقوق عبادةً وبعضها عملاً تطوعياً يُثاب فاعله؟
أحبتي .. إذا كانت سويسرا، وهي دولةٌ غير مسلمةٍ، تنظم تقديم الأعمال التطوعية عن طريق بنك الزمن، فما بالنا، ونحن دولٌ وشعوبٌ أعزها الله بالإسلام، لدينا ما يزيد كثيراً عن ذلك لكننا عنه غافلين. ومع ذلك يظل نموذج بنك الزمن، وبرنامج إنجاز عددٍ محددٍ من ساعات العمل التطوعي كشرطٍ للحصول على شهادةٍ دراسيةٍ أو مؤهلٍ جامعيٍ، وغيرهما من برامج مماثلةٍ نماذج تمثل الحد الأدنى لإحياء قيمة العمل التطوعي والنهوض بمستوى الخدمات المجتمعية في مجتمعاتنا.
(تطوعوا يرحمكم الله!)؛ واغرسوا في نفوس أبنائكم حب التطوع والمبادرة إلى عمل الخير حتى تتحقق السعادة والسكينة والطمأنينة لهم ولجميع أفراد المجتمع في الدنيا، ولتثقل موازين أعمالهم وأعمالكم في الآخرة بما يقدمونه من أعمال البر والإحسان إلى الغير؛ من يدري لعل مساعدة كفيفٍ أو رعاية مُسنٍ أو قضاء حاجةٍ لمريضٍ أو ضعيفٍ تكون هي المنجية.

اللهم اجعلنا ممن ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، واهدنا لخير الأعمال لا يهدي لخيرها إلا أنت سبحانك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/fGe9fm

الجمعة، 29 يونيو 2018

نعمة العقل


الجمعة 29 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤١
(نعمة العقل)

يُحكى أن شاباً أمريكياً عمره تسع عشرة سنة، دخل السجن بتهمة اختراق شبكة المخابرات الأمريكية وسرقة بعض أسرار الدولة، وكان يُلقب بالثعلب لشدة دهائه! كان والده رجلاً كبيراً في السن يعيش في منزلٍ وحده في نفس الولاية، أراد أن يزرع البطاطس داخل حديقة منزله ولكنه لا يستطيع لكبر سنه، فأرسل لابنه المسجون رسالةً قال فيها: "ابني الحبيب، تمنيت أن تكون معي لمساعدتي في حرث الحديقة لكي أزرع البطاطس؛ فليس عندي من يساعدني".
بعد فترةٍ استلم الأب رسالةً من ابنه تقول: "أبي العزيز، أرجوك إياك أن تحرث الحديقة؛ لأني أخفيت فيها شيئاً مهماً، وعندما أخرج من السجن سأخبرك ما هو". لم تمضِ ساعةٌ على استلام الأب رسالة ابنه، وإذا برجال المخابرات والشرطة الفيدرالية يحاصرون المنزل ويقلبون أرض الحديقة شِبراً شِبراً، ولما لم يجدوا شيئاً غادروا المنزل. وصلت رسالةٌ إلى الأب من ابنه في اليوم التالي: "أبي العزيز .. أرجو أن تكون الحديقة قد حُرثت بشكلٍ جيدٍ؛ هذا ما استطعت أن أساعدك به، وإذا احتجت لشيء آخر أخبرني"!

وقيل أن قاضياً حكم على مجرمٍ بالإعدام؛ فعُلِّقَت على رقبته لافتةٌ مكتوبٌ فيها نص الحكم: "الإفراج عنه مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم"، ومن شدة ذكاء أحد أقارب المجرم أن وضع نقطةً في الجملة غيرت معناها وأُطلق سراح قريبه. لقد وضع النقطة بين كلمتي: "عنه" و"مستحيل"!

أحبتي في الله .. إنها حقاً (نعمة العقل) التي أنعم الله بها على خلقه. والعقل لغةً من عَقَلَ؛ يُقال رجلٌ عاقلٌ، أي: جامعٌ لأمره ورأيه؛ فالعقل يعقِل صاحبه، أي يحبسه عن التورُّط في المهالك. وقيل: العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردُّها عن هواها.
واصطلاحاً، يُعَرَّف العقل بأنّه مجموعةٌ من القدرات المتعلّقة بالإدراك، والتقييم، والتذكّر، وأخذ القرارات، وهو ينعكس في بعض الحالات على الأحاسيس، والتصورات، والعواطف، والذاكرة، والتفكير، والرغبات، والدوافع، والخيارات، واللاوعي، بالإضافة إلى التّعبير عن السّمات الخاصة بالشّخصيّة.
وفي حياتنا اليوم نستخدم عبارة "الإنسان العاقل" في مقابل "الإنسان المجنون"، أو "الإنسان العاقل" في مقابل "الإنسان المتهور المندفع". فالعقل ليس عضواً من أعضاء الجسد، ولكنَّه ملكةٌ إدراكيةٌ تتعاون جميع الأعضاء الظّاهرة والباطنة في الإنسان من أجلها.
والعقل له مكانةٌ كبيرةٌ في الإسلام، فلولا العقل لما كان الشَّرع، لأنَّ الشَّرع لا يأتي إلاَّ للمكلّفين.

في دراسةٍ لأحد علمائنا الأفاضل عن الآيات التي تحدثت عن العقل في القرآن الكريم أوضح ما يلي:
ذُكر العقل بصيغة الفِعل في تسعةٍ وأربعين موضعاً، ولم يَرِدْ بشكلِ المصدر أو على صيغة الاسم مطلقاً، وكل أفعال العقل تدلُّ على عملية الإدراك والتفكير والفهم لدى الإنسان، ويمكن حصر هذه الأفعال بما يلي:
ورد بصيغة "تعقلون" في أربعةٍ وعشرين موضعاً في القرآن؛ منها قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. وورد بصيغة "يعقلون" في اثنينِ وعشرين موضعاً؛ منها قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾. وورد بصيغة "يعقِلُها" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾. وورد بصيغة "نعقل" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. وورد بصيغة "عقَلوه" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
وقد وردت كلمة "الألباب" جمع لُب، في القرآن في صفة أصحاب العقول ستَّ عَشْرةَ مرة؛ منها قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وقد وردت بلفظ "النُهىٰ" لتدل على أصحاب العقول أيضاً مرتين؛ وبنفس الكلمات: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ﴾.
وورد لفظ "القلب" في مائةٍ وأربعةٍ وأربعين موضعاً ليدلَّ على العقل أيضاً في إحدى دلالاته، قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾، وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
وورد بلفظ "الحِجْر" ليدل على العقل مرةً واحدةً؛ قال تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾.
وورد بصيغة "فكَّر" مرةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾. وورد بصيغة "تتفكَّروا" مرةً واحدةً أيضاً في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾. وورد بصيغة " تتفكَّرون" ثلاث مراتٍ؛ منها قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾. وورد بصيغة "يتفكَّروا" مرتين؛ منها قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾. وورد بصيغة "يتفكَّرون" إحدى عشرة مرةً، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

وفي السنة الشريفة؛ يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: [ما اكتسب المرء مثل عقلٍ يهدي صاحبه إلي هدي أو يرده عن ردي].
وعن ذكائه عليه الصلاة والسلام أن أسيراً وقع في يد المسلمين قبل غزوة بدر، أخذ الصحابة يحاولون أن يعرفوا منه عدد المشركين فلا يخبرهم ويقول لهم: "هم كثيرٌ عددهم، شديدٌ بأسهم"، حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: [كم القوم؟] فيقول: "هم كثيرٌ عددهم، شديدٌ بأسهم"، فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم فأبى، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: [كم ينحرون من الجزر؟]، فقال: "عشراً لكل يوم"، فقال صلى الله عليه وسلم: [القوم ألف كل جزور لمئة وتبعها].
ومثالٌ آخر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ، ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ]؛ حتى يبين للناس أن سبب نقض وضوئه هو الرعاف وهو دمٌ يخرج من الأنف، فيبعد الإحراج عن نفسه، ولا يعرض نفسه للسخرية من قبل بعض الناس.
ومثالٌ ثالث؛ قال رجل: "يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني"، فقال عليه الصلاة والسلام: [انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ]، فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس عليه فقالوا: "ما شأنك؟"، قال: "لي جارٌ يؤذيني فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: [انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ]"، فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم اخزه، فبلغه فأتاه، فقال: "ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك".
ومن أمثلة ذكاء الصحابة، جاءت امرأةٌ إلى على ابن أبي طالب، رضي الله عنه، وقالت: "إن أخي مات وخلف ستمائة دينار، وقد دفعوا لي منها ديناراً واحداً، وأسألك إنصافي"، فقال لها: "خلف أخوك بنتين فلهما الثلثان؛ أربعمائة دينار، وخلف أُْماً فلها السدس؛ مائة دينار، وخلف زوجةً فلها الثُمن؛ خمسة وسبعون ديناراً، وخلف معك اثنا عشر أخاً لكل أخٍ ديناران، ولك دينارٌ واحدٌ".
لم تُعطِ المرأة أية معطيات سوى أنها ذكرت أن التركة ستمائة دينار وأن نصيبها دينارٌ واحدٌ فافترض رضي الله عنه المسألة كاملةً وحكم بعدالة القسمة!
وسُئل أعرابيٌ عن الدليل على وجود الله قال: "إنَّما السير يدلّ على المسير، والبعرة تدلّ على البعير، وهذا الكون بأفلاكه يدل على القدير".

يقول علماؤنا الأفاضل أن من أعظم نعم الله علينا (نعمة العقل)، التي كرّمنا الله بها على سائر مخلوقاته، والعقل هو الفهم والإدراك لحقائق الأمور وحسن التدبير، وقد أمرنا الله عزَّ وجل باستخدامه بالتفكير والتأمل، والاستفادة منه في شؤون الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وأعظم ثروةٍ حقيقيةٍ يمتلكها الإنسان هي ثروة العقل، فبه يسمو ويرتفع، وبه يميّز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، والنافع والضار، وبه تُعرف الفضيلة من الرذيلة، وبه يُعبد الله على بصيرةٍ. لقد جعل الإسلام النظر العقلي واجباً دينياً، وجعل ممارسة الوظائف العقلية فريضةً إلهيةً؛ بل ومسؤوليةً سيحاسَب على مدى حُسن أو إساءة استخدامه لها. فالإسلام أعظم دينٍ حرَّر العقل من قيوده، وأطلق له الحريّة ليتفكّر، وجعل الحجة العقلية أساس كلّ إيمانٍ؛ لهذا من رُفِع عنه العقل، بغير إرادته، فهو معذورٌ غير محاسبٍ، وأجمل ما في العقل إرشاده ودلالته للإيمان بالله وحده لا شريك له وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، فمهما أوتي الإنسان من علمٍ ومعرفةٍ لا توصله للإيمان بالله وحده لا شريك له وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ويتبع ما جاء به فليس بعاقلٍ، بل وكان عقله وبالاً عليه.

أحبتي .. ورد في الأثر "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ"؛ فليكن لنا من الكياسة والفطنة ما يجعلنا نُحسن استخدام هذه النعمة (نعمة العقل)، فنُعمل عقولنا في استعدادنا للدار الآخرة كما نُعملها في تعاملنا مع الحياة الدنيا. إننا لو فكرنا بمنطق المكسب والخسارة؛ سنكتشف أن الإيمان هو اختيار الأذكياء، العقلاء ذوي الألباب والأفهام السليمة، وكلما ابتعدنا عن المعاصي، واقتربنا من المولى عزَّ وجل بالعبادات والنوافل وأعمال الخير وحسن التعامل مع غيرنا، وقدَّمنا شرع الله على ما عداه، وجعلنا الأولوية المطلقة لطاعة الله والحرص على إرضائه، أدهشنا الله سبحانه وتعالى بعطائه في الدارين: في الدنيا والآخرة، أليس هو القائل في كتابه الكريم: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؟

اللهم ثبتنا على الإيمان، ويَسِّر لنا كل عملٍ صالحٍ، وأحينا اللهم في الدنيا حياةً طيبةً، وجازِنا في الآخرة، كما وعدتنا، أجرنا بأحسن ما كنا نعمل.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

 هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/Lg4nwZ

الجمعة، 22 يونيو 2018

القابضون على الجمر


الجمعة 22 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٠
(القابضون على الجمر)

لم ألتقِ به منذ تخرجنا من الجامعة، ثم التقيته فجأةً وبغير ترتيبٍ في إحدى ليالي رمضان؛ كنا نصلي التراويح في مسجد الأرقم بمدينة نصر. المسجد كعادته كل عامٍ يمتلأ بالمصلين من قبل وقت صلاة العشاء بأكثر من ساعة، ثم يزداد عددهم بالتدريج كلما اقترب موعد الصلاة، ومن يأتي متأخراً فلن يجد له مكاناً داخل المسجد، رغم اتساعه، فيُضطر للصلاة على حُصرٍ تُفرش في الحدائق المحيطة بالمسجد، ومن لم يجد مكاناً له في هذه الحدائق فليس أمامه سوى فرش سجادته والصلاة في أحد الشوارع المحيطة بالمسجد!
يأتي الناس فرادى وزرافاتٍ يتابعون ختم القرآن مرتين خلال الشهر الكريم: مرةً من الشيخ رضا عبد المحسن أثناء صلاة العشاء وبعدها في صلاة التراويح حيث يختم القرآن ليلة السابع والعشرين، وأخرى من الشيخ هاني الشحات أثناء صلاة التهجد قبيل الفجر حيث يختم القرآن ليلة التاسع والعشرين. وكلاهما: الشيخ رضا والشيخ هاني، ممن أنعم الله عليهما بحفظ القرآن الكريم وإجادة تلاوته بصوتٍ جميلٍ حسن، جزاهما الله عنا خير الجزاء.
أعود لقصة زميلي، ليلة التقيته كنت قد تأخرت قليلاً في التوجه للمسجد، وكنت أحاول أن أجد لنفسي موطئ قدمٍ داخله، فإذا بي أرى أمامي هذا الزميل الذي لم أقابله منذ أكثر من أربعين عاماً! عرفته قبل أن يتعرف عليّ، رغم أن الزمن قد ترك عليه كثيراً من بصماته: شعره صار بلون الأرز الأبيض، كست التجاعيد وجهه، تغلبت السمنة على ما كان عليه من رشاقةٍ، يلبس نظاراتٍ طبية، ظهره منحنٍ قليلاً، ويتكأ على عصاةٍ خشبيةٍ، كل ذلك لم يفلح في إخفاء ملامحه التي بقيت محفورةً في ذاكرتي طوال هذه السنوات! اقتربت منه، دققت النظر، وعندما تأكدت أنه هو نطقت اسمه الرباعي كاملاً بصوتٍ عالٍ، لحظةٌ واحدةٌ كانت كافيةً له لاسترجاع الذاكرة؛ نطق باسمي ووجهه يتهلل سروراً وفرحاً، وتعانقنا وسط دهشة المحيطين. جلست بجواره مكان شابٍ كان يتابع هذا المشهد بتعجبٍ، تنازل لي عن مكانه عن طيب خاطر. سألت زميلي القديم عن أحواله، علمت منه أنه هاجر هو وأسرته إلى إحدى دول أوروبا، وحصلوا على جنسيتها. سألته عن أحوال المسلمين هناك؛ أخبرني أن بعض من هاجروا إلى تلك الدولة قد انسلخوا للأسف من دينهم، كما لو كانوا قد هاجروا من أجل التحرر من تكاليف الدين ومن التزاماتهم نحو خالقهم، هؤلاء، والحمد لله، قلةٌ قليلةٌ، أما الغالبية فإن تمسكهم بإسلامهم ازداد بعد هجرتهم، خاصةً حينما أحسوا بأنهم أقليةٌ، وأن واجب كلٍ منهم أن يكون سفيراً لدينه رغم الكثير من الصعوبات التي يعانون منها. وقال لي إن أكثر صعوبةٍ تواجههم هي تعليم أطفالهم وشبابهم أصول الدين؛ فمعظم مصادر التعليم كالمدارس ووسائل الإعلام لا تهتم بالإسلام ولا تُدَرِّس أصوله، والمساجد قليلةٌ جداً ومتباعدةٌ، أما الأسر فالسعي من أجل كسب الرزق وتأمين العيش يستحوذ على معظم وقتهم؛ فترى الأب والأم كلٌ منهما مشغولٌ بعمله. كما أن المجتمع الذي يعيشون فيه ملئٌ بالمغريات التي تجذب الأطفال والشباب بعيداً عن دينهم. وأخبرني أن تعليم أبنائهم اللغة العربية هو من أكبر المشاكل التي يواجهونها؛ فهي مفتاح تعلم الدين، ومن يجيدها من الأطفال والشباب يصبح بمقدوره الاستفادة من مواقع شبكة الإنترنت سواءً لتنزيل الكتب الإسلامية والاطلاع عليها أو للولوج إلى مواقع إسلاميةٍ مفيدةٍ يتعلم منها أصول الدين ويَطَّلِع من خلالها على الفتاوى الدينية، كما يلتقي عن طريق برامج التواصل الاجتماعي مع مسلمين آخرين يتبادلون الآراء والأفكار ويشكلون مجتمعاً إلكترونياً داعماً ومُثَبِّتاً ومُعيناً.

حكى لي عن مشروعٍ نفذوه نجح وفاقت نتائجه ما كان متوقعاً، فقد أنشأ أحد المسلمين هناك صفحةً خاصةً على الفيس بوك ينضم إليها من يرغب من شباب المسلمين، وجعل أهم أنشطة المجموعة نشر المعلومات الصحيحة عن الإسلام، وفكَّر في طريقةٍ يجذب بها الشباب؛ فأعلن عن مسابقاتٍ دينيةٍ: يختار لكل مسابقةٍ موضوعاً محدداً، ويطلب من كل عضوٍ في المجموعة أن يقرأ شيئاً عن هذا الموضوع ثم يبادر إلى نشره، على أن يلتزم بأن يكون النقل عن أحد الكتب أو أحد مواقع الإنترنت الموثوق فيها، وألا ينشر شيئاً يكون غيره قد سبق ونشره، ويتم توزيع جوائز على أصحاب أفضل المشاركات.
قطع حديثنا صوت مؤذن المسجد وهو يرفع أذان العشاء؛ فقررنا استكمال الحديث بعد الانتهاء من صلاتي العشاء والتراويح.
انتهينا من الصلاة، وخرجنا من المسجد سوياً، سألته عن حياته الخاصة وأسرته وأبنائه، كما سألته عن عمله ووظيفته، وسألني هو نفس الأسئلة تقريباً، وتبادلنا العناوين وأرقام الهواتف، ووعدني قبل أن نفترق أن يرسل لي عن طريق الواتس آب نماذج لما كتبه الشباب وهم يشاركون في إحدى تلك المسابقات الدينية التي أخبرني عنها، وكان موضوعها {الأذان للصلاة}، شكرته لاهتمامه، وقلت له مودعاً: "أعانكم الله؛ فأنتم (القابضون على الجمر) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: [يِأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ عَلَى دينه كالقابض على الجمر]".
بعد عدة ساعاتٍ وصلتني منه على الواتس آب رسائلُ متتابعةٌ هي بعض مشاركات الشباب المسلم في المسابقة الدينية التي أخبرني عنها.

أحبتي في الله .. أنقل لكم فيما يلي بعضاً من مشاركات الشباب في المسابقة المذكورة، لم أتدخل إلا في ترتيبها والتصحيح اللغوي لبعضها:

- "الأذان هو التعبد لله بالإعلام بدخول وقت الصلاة بذِكرٍ ٍمخصوصٍ".
- "الأذان إعلامٌ بدخول وقت الصلاة، ودعوةٌ إلى صلاة الجماعة التي فيها خيرٌ كثيرٌ".
- "الأذان تنبيهٌ للغافلين، وتذكيرٌ للناسيين لأداء الصلاة التي هي من أجَّل النعم، والتي تُقرب العبد إلى ربه، والأذان دعوةٌ للمسلم حتى لا تفوته هذه النعمة".
- "الأذان والإقامة فرض كفايةٍ على الرجال دون النساء حضراً وسفراً".
- "دلَّ على مشروعية الأذان القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة:9]".
- "شُرع الأذان في السنة الأولى من الهجرة".
- "كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتماً بالنداء للصلاة؛ ويفكر مع الصحابة كيف يجمع الناس للصلاة؟ فقيل له: انصب رايةً عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك. فذُكر له القنع {هو الشبور أو البوق}، فلم يعجبه ذلك، وقال: [هو من أمر اليهود]، فذُكر له الناقوس، فقال: [هو من أمر النصارى]، فانصرف الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتمٌ لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُريَ الأذان في منامه؛ قال: رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً، فقلت له: يا عبد الله تبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: أنادي به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خيرٍ من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: فلما أصبحت أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: [إنها لرؤيا حقٍ إن شاء الله، فَقُم مع بلالٍ فألْقِ عليه ما رأيتَ فإنه أندى صوتاً منك]، قال: فقمتُ مع بلالٍ فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثل الذي أُرِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فلله الحمد]".
- "قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا].
- "يقول صلى الله عليه وسلم: [عَجِبَ ربُّكَ من راعي غنمٍ في رأس شظية الجبل، يؤذِّن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عزَّ وجلَّ: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذِّن ويقيم الصلاة، يخاف منِّي؛ قد غفرتُ لعبدي وأدخلته الجنة]".
- "صفة أذان بلال رضي الله عنه الذي كان يؤذن به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هو خمس عشرة جملة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
   يزيد المؤذن في أذان الفجر بعد حي على الفلاح {الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خيرٌ من النوم}".
- "زيادة {الصلاة خيرٌ من النوم} قالها بلالٌ رضي الله عنه، وأقره عليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن بلالٍ أنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يؤذنه بالصبح فوجده راقداً، فقال: الصلاة خيرٌ من النوم مرتين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ما أحسن هذا يا بلال، اجعله في أذانك]".
- "الإقامة هي التعبد لله بالإعلام بالقيام إلى الصلاة بذكرٍ مخصوصٍ".
- "صفة الإقامة الواردة والثابتة في السُنة إحدى عشرة جملةً، وهي إقامة بلال رضي الله عنه التي كان يقيم بها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي:
الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا
الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي
على الصلاة، حي على الفلاح، قد
قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله
أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".
- "يُستحب في الأذان الترسُّل والتمهُّل، ويستحب في الإقامةِ الإسراعُ؛ لأن الأذان للغائبين، فكان الترسُّل فيه أنسب، والإقامةُ للحاضرين، فكان الإسراع فيها أنسب".
- "يُستحب الدعاء بين الأذان والإقامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة]".
- "يُسن للمؤذن أن يرفع صوته بالأذان، قال عليه الصلاة والسلام: [لا يسمع صوته شجرٌ ولا مَدَرٌ ولا حَجَرٌ، ولا جِنٌّ ولا إنسٌ إلا شهد له]. وقال أيضاً: [المؤذن يُغفَر له مدَّ صوته، ويشهد له كل رَطْبٍ ويابسٍ]، وفي روايةٍ: [وله أجرُ مَنْ صلَّى معه]". وقال كذلك: [المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة]".
- "من دخل المسجد والمؤذن يؤذن يُستحب له أن يتابع المؤذن، ثم يدعو بعد الفراغ من الأذان، ولا يجلس حتى يصلي تحية المسجد ركعتين".
- "إذا أذن المؤذن فلا يجوز لأحدٍ الخروج من المسجد إلا لعذرٍ من مرضٍ، أو تجديد وضوءٍ، ونحوهما".
- "يُسن لمن سمع المؤذن من الرجال أو النساء أن يقول مثله لينال مثل أجره إلا في الحيعلتين، فيقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا سمعتم النداءَ، فقولوا مثل ما يقول المؤذن]. ولا يُسَنُّ ذلك عند الإقامة".
- "إذا قال المؤذن في صلاة الصبح: الصلاة خيرٌ من النوم، فإن المستمع يقول مثله".
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة]". كما قال: [من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً وبالإسلام ديناً، غُفر له ذنبه]".
- "بعد انتهاء الأذان يُسن أن يصلي المؤذن والسامع على النبي صلى الله عليه وسلم سراً".
- "الأذان والإقامة يُشرعان للصلوات الخمس المفروضة، أما غيرها مما تسنُّ فيه الجماعة كالعيدين، والكسوف، والجنازة، والاستسقاء، وقيام الليل، والتهجد وما في حكمها فلا يُسن فيها الأذان ولا الإقامة، وإنما يقال فيها: الصلاة جامعة".
- "مؤذنو النبي صلى الله عليه وسلم أربعةٌ: بلال بن رباح، وعمرو بن أم مكتوم في مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وسعد بن عائذ القَرَظ في مسجد قِباء، وأبو محذورة في المسجد الحرام بمكة".

أحبتي .. نقلت إليكم هذه التجربة المفيدة، وأنا أعلم أن بعض ما نقله الشباب من نصوصٍ معروفٌ ومعلومٌ لكم ولكثيرٍ من المسلمين، لكنها بالنسبة لهؤلاء في بلاد الغربة، خاصةً تلك التي لها دينٌ غير ديننا وثقافةٌ غير ثقافتنا، قد تكون جديدةً، مع الوضع في الاعتبار ضعف هؤلاء الشباب باللغة العربية التي هي وعاء علوم الدين. على كل حالٍ، هؤلاء المغتربون في تلك البلاد هم (القابضون على الجمر)، ندعو لهم بالثبات والتوفيق في تنشئة جيلٍ جديدٍ من المسلمين لديهم القدرة على التعايش مع الحياة العصرية دون التفريط في دينهم وعقيدتهم الإسلامية السمحاء. إنهم أقليةٌ مسلمةٌ، على ثغرٍ من ثغور الإسلام يحرص كلٌ منهم على ألا يُؤتى الإسلام من قِبَلِه؛ فتراهم يعلمون أبناءهم كل شيء عن الإسلام، ويربونهم على إجابة النداء والصلاة مع الجماعة في المسجد، وفي بلادنا ذات الأغلبية المسلمة كم من مسلمٍ يسمع الأذان خمس مراتٍ في اليوم من مسجدٍ يبعد عن بيته خطوات قليلة ولا يفكر في الصلاة مع جماعة المسلمين، ولا يهتم بأن يواظب أبناؤه على الصلاة في المسجد؟!

هدانا الله وإياكم وجميع المسلمين إلى ما فيه الخير، لنا ولأبنائنا، في الدنيا والآخرة، ولما فيه عز الإسلام، ورفعة شأن المسلمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/8jh4Wu

الجمعة، 15 يونيو 2018

شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟


الجمعة 15 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٩
(شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟)

"كم مرةً ختمتَ القرآن في رمضان؟"، "ختمتُه ثلاث مرات"، "أنا عن نفسي ختمتُه ست مرات". "هل واظبتَ على صلاة التراويح والتهجد؟" "واظبت على التراويح عدا مرةٍ واحدةٍ كان لدينا ضيوفٌ على الإفطار، أما صلاة التهجد فلم أحضرها إلا مرتين فقط"، "أنا عن نفسي، لم أُفَوَّت التراويح ولا التهجد ليلةً واحدةً"، "عسى الله أن يتقبل"، "منا ومنكم".
هذا حوارٌ دار بين اثنين من الشباب كانا يسيران خلفي، استمعت إليه بغير قصد، وأنا في طريق عودتي من مسجد دار الأرقم إلى المنزل ليلة التاسع والعشرين من رمضان.

أحبتي في الله .. انطفأت المصابيح، وانقطعت التراويح، فارقنا شهر العبادة، ورجعنا إلى العادة، وذهب أهل الاجتهاد بأجر اجتهادهم في رمضان.
قال أحدهم مودعاً شهر رمضان: ها هو شهر الخير قد قُوضت خيامه، وتصرمت أيامه، فحق لنا أن نحزن على فراقه، وأن نذرف الدموع عند وداعه. وكيف لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندركه مرةً أخرى أم لا؟ كيف لا تجري دموعنا على رحيله؟ ونحن لا ندري هل رُفع لنا فيه عملٌ صالحٌ أم لا؟ وهل ازددنا فيه قرباً من ربنا أم لا؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟
مضى رمضان بعد أن أحسن فيه أقوامٌ وأساء آخرون، مضى وهو (شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا)؛ شاهدٌ للمشمر بصيامه وقيامه وبره وإحسانه، وشاهدٌ على المقصر بغفلته وإعراضه ونسيانه. رمضان سوقٌ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، فلله كم سجد فيه مِنْ ساجد؟ وكم ذكر فيه مِن ذاكر؟ وكم شكر فيه مِن شاكر؟ وكم خشع فيه مِن خاشع؟ وكم فرّط فيه مِن مفرِّط؟ وكم عصى فيه مِن عاصٍ؟

انتهى شهر رمضان المبارك، صمنا أيامه وقمنا لياليه، فهل يا ترى كنا من الرابحين؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، وعنه أيضاً أنه قَالَ: [مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، فهل كان صومنا نهار رمضان وقيامنا لياليه، وتحرينا وإحياؤنا ليلة القدر بالمزيد من الذكر والعبادة في العشر الأواخر من رمضان، هل كان كل ذلك إيماناً واحتساباً؟ هل يقاس الإيمان والاحتساب بعدد ختمات القرآن؟ أم بعدد ركعات التراويح والتهجد؟ أم بالحرص على الاعتكاف في المسجد؟
ما هو مقياس الربح أو الخسارة عندما ننفرد بأنفسنا بعد انتهاء الشهر الفضيل نريد أن نُقَيِّم أعمالنا وننظر هل كنا من الرابحين أم الخاسرين؟
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ]. إذن فالعبرة هنا ليست بالأفعال في حد ذاتها، وإنما العبرة بنتائجها، لذلك عندما شرع لنا المولى عزَّ وجل الصيام بيَّن لنا الحكمة منه لتكون هي ما نسعى للوصول إليه وتحقيقه؛ قال سبحانه: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
تعالوا إذن نقَيِّم ما حققناه بصيام أيام هذا الشهر الفضيل وقيام أيامه، لنعرف إلى أي مدى حققنا فيه التقوى، وهل هو (شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟)، وليكن ذلك عن طريق أسئلةٍ يوجهها كلٌ منا لنفسه ويجيب عنها بأمانةٍ ونزاهةٍ:
عن الصلاة مثلاً؛ هل لم أكن أصلي وبدأت الالتزام بالصلاة؟ هل كنت أصلي بشكلٍ متقطعٍ وبدأت في المحافظة على جميع الصلوات؟ هل كنت أصلي في البيت وبدأت الصلاة مع جماعة المسلمين في المسجد؟ هل بدأت ألتزم بصلاة السنن الرواتب؟ هل أضفت لصلواتي صلوات نفل؟ هل تعودت على صلاة قيام الليل؟ هل زاد خشوعي أثناء الصلاة؟
وعن القرآن؛ هل أتممت قراءة القرآن كله لأول مرة في حياتي؟ هل ختمت تلاوة القرآن لأكثر من مرة؟ هل قرأت القرآن الكريم بتدبر؟ هل حفظت منه سوراً أو آياتٍ لم أكن أحفظها من قبل؟ هل أدركت معانيه وعلمت أحكامه؟ هل راجعت تفسير بعض آياته؟ هل حضرت مجالس علم خُصصت لبيان فضل تلاوة القرآن في شهر القرآن؟
وعن الصدقات؛ هل استطعت أن أتغلب على شُح نفسي؟ هل تصدقت على المساكين والفقراء؟ هل وسعت عليهم؟ هل أخرجت زكاة الفطر؟ هل لمست في نفسي ميلاً نحو المزيد من الإنفاق على أوجه الخير المختلفة؟
وعن المعاملات، هل بررت بوالدي خلال شهر رمضان؟ هل أحسنت إلى أهلي وأبنائي؟ هل وصلت رحمي؟ هل ابتعدت عن فحش القول؟ هل صرت أكثر ليونةً وأقل قسوة في تعاملي مع الناس؟ هل أصبحت أقدر ظروف غيري وألتمس لهم الأعذار؟ هل زادت رغبتي في خدمة المعاقين وغير القادرين وأصحاب الاحتياجات الخاصة؟
وهكذا .. لنسأل أنفسنا مثل هذه الأسئلة وغيرها، إذا وجدنا أنفسنا قد تغيرنا نحو الأحسن خلال الشهر الفضيل فقد ربحنا وكسبنا، أما إذا وجد أحدنا نفسه بعد رمضان كما كان قبله فليقف مع نفسه وقفةً حازمةً للحساب؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وقال عمر الفاروق، رضي الله عنه: "أيها الناس حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾". وقال الفضيل بن عياض: "من حاسَب نفسه قبل أن يُحاسَب خف في القيامة حسابه، وحضر عن السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت واشتغل بعيوبه وإصلاحها".
وإذا كنا أذنبنا أو أسأنا أو قصرنا فلنبادر إلى الاستغفار؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾.

ارتحل شهر الصوم، فما أسعد نفوس الفائزين، وما ألذ عيش المقبولين، وما أذل نفوس العصاة المذنبين، وما أقبح حال المسيئين المُفَرِّطين.
لا بُد من وقفة محاسبةٍ جادةٍ مع النفس، ننظر ماذا قدمنا في شهرنا من عمل؟ ما العبادات وأعمال الخير التي قمنا بها؟ وما هي الأمور التي قصَّرنا فيها؟ فمن كان مُحسناً، فليحمد الله، وليزدد إحساناً، وليسأل الله الثبات والقبول والغفران، ومن كان مقصراً فليتُب إلى مولاه قبل حلول الأجل.

مشاعر الختام تبكينا يا رمضان، ‏ما أجمل حضورك، وما أسرع مرورك، وما أعظم أجورك.
قال شاعر:
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا
وقـدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا
بخـيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمـضانِ
وقال آخر:
رمضانُ قد رحلت فما عسايّ أقولُ
والدمعُ من ألم الفراق يسيلُ؟
فلك التحية ما أقمت بأرضنا
ولك التحية ما احتواك رحيلُ
وقال ثالث:
يا عين جودي بالدموع وودعي
شهر الصيام تشوقاً وحناناً
شهرٌ به غفر الكريم ذنوبنا
وبه المهيمن يستجيب دُعانا
شهرٌ به الرحمن يفتح جنةً
للصائمين ويغلق النيرانَ

أحبتي .. لا تودّعوا رمضان، وإنما استمتعوا به باقي عامكم؛ فرمضان ليس شهراً فقط، بل هو أسلوب حياةٍ وبدايةٌ لتغيير النفوس والسلوك .. لا تودعوا شهر رمضان بل افسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام بصوم التطوع، وحفظ وتلاوة القرآن، والتصدق على الفقراء والمساكين، وصلة الرحم التي لا يضيعها إلا أحمق أو جاهل أو مَنْ في قلبه كِبرٌ والعياذ بالله، وصلاة الجماعة على وقتها في المسجد، وقيام الليل، وأعمال الخير والبر.
لتكن عبادتنا مستمرةٌ بإذن الله فهي لم تكن لرمضان وإنما هي لرب رمضان ورب وغيره من الشهور؛ قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.
‏أسأل الله العلي القدير أن يكون قد ختم لنا شهر رمضان بذنبٍ مغفور، وسعيٍ مشكور، وعملٍ متقبلٍ مبرور، وأن يجعلنا وأنتم ووالدينا وأهلينا وأحبتنا من عتقائه من النار.
اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واجعلنا من المقبولين برحمتك وغفرانك وعفوك ورضوانك، وأعده علينا أعواماً عديدة، وأزمنةً مديدة، ونحنُ إليك أقرب.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/iT777o



الجمعة، 8 يونيو 2018

مهلاً رمضان!


الجمعة 8 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٨
(مهلاً رمضان!)

كم كنت أدعو أن يبلغنا الله رمضان، وكم وضعت لنفسي من خطط وبرامج  لهذا الشهر، ومع ذلك أعترف الآن بأني قد فاتني الكثير فيما مضى من أيام  رمضان .. فتمهل أيها الشهر الفضيل عسى أن أتدارك في آخر أيامك ما فاتني!
صدق الله العظيم حين قال عن أيامك: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾، لكن لم نكن، أنا وكثيرون غيري، نتصور أن تمر أيامك المعدودة بهذه السرعة .. فهلَّا تمهلت قليلاً؟

أحبتي في الله .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ]؛ فليسأل كلٌ منا نفسه: هل نحن من الذين رغمت أنوفهم؟ أم من الذين غفر الله لهم؟ هل استفدنا مما انقضى من أيام الشهر الفضيل ولياليه؟ أم كنا من المقصرين الذين غرّهم الأمل فقضينا ما فات من رمضان لاعبين لاهين؟

اقتربت نهاية شهر الخير فماذا نحن فاعلون فيما تبقى من لياليه؟
قال ابن الجوزي: "عباد الله، إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحيةٍ وسلام". وقال: "الليالي والأيام الفاضلة لا يصلح أن يُغفل عنهنّ؛ لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح، فمتى يربح؟". وقال كذلك: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قُصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم. فإنك إذا لم تُحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع".
وقال ابن تيمية: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات".
وقال قتادة: "من لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له؟ ومن رُد في ليلة القدر متى يُقبل؟".
وقال الحسن البصري: "أحسِن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تُدرَك رحمة الله"!
وقال الشاعر:
فيا شهرَ الصيامِ فدتكَ نفسي
تمهلْ بالرحيلِ والانتقالِ
فما أدري إذا ما العامُ وَلَّىَ
وعُدَتَ بقابلٍ في خيرِ حالِ
أتلقاني مع الأحياءِ حياً
أم أنكَ تلقني في اللحدِ بالي

ما أسرع مرور الأيام، وانقضاء الأعوام؛ وإن في مرورها وسرعتها لعبرةً للمعتبرين، وعظةً للمتعظين؛ قال عز وجل: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾، بالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدوم شهر رمضان، ونسأل الله بلوغه، وعندما استقبلناه كان لسان حالنا يقول: أهلاً رمضان، واليوم اقتربنا من وداعه بكل أسىً، ونقول له: (مهلاً رمضان!).
يقول الشاعر:
يا خير من نزلَ النفوسَ أراحلُ
بالأمسِ جئتَ فكيفَ كيفَ سترحلُ
بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً
كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
ما بال شهرِ الصومِ يمضي مسرعاً
وشهورُ باقي العامِ كم تتمهّلُ
عشنا انتظارك في الشهورِ بلوعةٍ
فنزلتَ فينا زائراً يتعجّلُ
فعساكَ ربي قد قبلتَ صيامَنا
وعساكَ كُلَّ قيامِنا تتقبَّلُ
إنْ كانَ هذا العامُ أَعطى مهلةً
هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟
رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي
في قادمِ الأيامِ أم نتقابلُ؟!

يقول أهل العلم أن العمر فرصةٌ لا تُمنح للإنسان إلا مرةً واحدةً، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت، فهيهات أن تعود مرةً أخرى؛ فاغتنم أيام عمرك قبل فواتِ الأوان ما دمتَ في زمن المهلة؛ قال عمر بن عبدالعزيز: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما"، وقال ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَرَبت شمسُه، نَقَصَ فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".

لقد أكرمنا الله بشهر رمضان بأن ضاعف فيه الأجور، وأعطانا فرصةً لتدارك ما فاتنا من الأعمال الصالحة، فهل كنا على قدر عطاء الله، وهل كنا على قدر كرم الله؟! فطوبى للتائبين في رمضان، وطوبى للعابدين في رمضان، وهنيئاً لمن أقبل على الله في رمضان، والخسارة كل الخسارة، والثبور كل الثبور لمن لم يستثمر هذا الشهر؛ فقد لا يدركه مرةً أخرى. فمن لم يتب في رمضان متى يتوب؟ ومن لم يرجع إلى ربه في رمضان متى يؤوب؟ ومن لم يأخذ بحظٍ وافرٍ من هذه الليالي متى يحصل على المطلوب؟!
قال الشاعر:
غداً تُوفى النفوسُ ما كسبت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسِهم
وإن أساءوا فبئسَ ما صنعوا

كتبت إحداهن تقول: منا من يشعر بالحزن لأنه لم ينجز في رمضان ما كان يتمنى من الطاعات وفضائل الأعمال، ولكن هيهات هيهات أن تعود عجلة الزمن إلى الخلف لنحقق لأنفسنا ما كنا نتمنى، وها نحن قبل الحسرة والحزن على فوات فرصة رمضان يظل الأمل وتظل الفرصة أمامنا سانحةً؛ فها هو رمضان ما زال بيننا حياً ومستمراً، ومنحةً ما زالت بين أيدينا. فإن كنت ممن لم يحقق ما يرضي طموحه في الطاعة واغتنام فرص رمضان الكثيرة، فشمر الآن ودون تسويف؛ ما تزال لديك أيامٌ لا تُضَيِّعها، وربك كريمٌ يقبل التوبة، والسباق ما زال قائماً فلا تتأخر، إن ربك ينتظر عودتك إليه؛ فهو يحبك ويريد أن يأخذ بيديك إليه ليرحمك ويغفر لك ويعتقك من النيران، ويمنحك الجنة، فأقْبِل على ربك بقلب المحب المشتاق إلى رحمة ربه وغفرانه والعتق من نيرانه.

أقول لك يا رمضانُ، كما يقول غيري: ترفق، دمع الفراق تدفق، وفؤاد المحبين تمزق، عسى بركب المقبولين نلحق، وعسى من النيران نُعتق، فلا تفارقنا إلا ورضى الرحمن علينا تحقق.
وأقول لنفسي ولكل من غفل عن الأيام والليالي التي انقضت من هذا الشهر الفضيل: أَفِقْ من غفلتك، وبادر إلى خير العمل في خير الشهور لتكون من الفائزين برضوان الله، لا تقنط، لا تؤجل، لا تُسَوِّف، وتأمل قول رب العزة يخاطبك: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾.

وأختمُ بالقول ‏أن الخسران المبين هو أن يمضي شهر رمضان، خاصةً العشر الأواخر منه، وأنت مفلسٌ من صيام الجوارح، ومن تلاوة القرآن، ومن صلاة الجماعة على وقتها في المسجد، ومن القيام، ومن التهجد، ومن الصدقات، ومن صلة الأرحام، ومن أعمال الخير والبر التي تقربك إلى الله، فاغتنم ما بقي من العشر.

أحبتي .. ما تزال أمامنا أغلى ساعاتٍ في العام كله، لو أضعناها نكون قد أضعنا فرصةً لن تعود إلا بعد قرابة عامٍ، وعندما تعود لا نعلم إن كنا سنكون على قيد الحياة وقتها أم لا .. إنها الساعات القليلة المتبقية من العشر الأواخر من أيام رمضان ولياليه، وقد يكون فيها ليلة القدر، وهي ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر؛ فلنقل لرمضان (مهلاً رمضان!)، ولنقتصد في راحتنا، ونقلّل من نومنا، ونتعب أنفسنا في الطاعة، ونتزوّد لآخرتنا.
قال الشاعر:
يا غَافِلاً وَليالِي الصَّومِ قَد ذَهَبَتْ
زادَتْ خَطَايَاكَ قِفْ بِالبَابِ وَابْكِيهَا
وَاغْنَمْ بقيـةَ هذا الشَّهْرِ تَحْظَ
غرستَـهُ مِنْ ثِمَارِ الخيـرِ تَجْنِيـهَا

اللهم اجعل قلوبنا خاشعةً لذكرك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وتقبل اللهم منا صيامنا وقيامنا وسجودنا وركوعنا وسائر أعمالنا .. واجعل اللهم الصيام والقرآن يشفعان لنا يوم القيامة، كما أخبرنا بذلك رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/ckqkBG