الجمعة، 1 يوليو 2022

أفضل أيام الدنيا

 

خاطرة الجمعة /350


الجمعة 1 يوليو 2022م

(أفضل أيام الدنيا)

 

يقول أحد الأخوة: كلما اقتربت أيام العشر من ذي الحجة ويوم عرفة أتذكر «سباستيان»! فمن هو «سباستيان»؟ وما علاقته بالأيام العشر ويوم عرفة؟

يقول: في أكتوبر سنة 2012م أجرت سلسلة محلاتٍ ألمانيةٍ شهيرةٍ اسمها «ساتورن Saturn» مسابقةً كبيرةً جداً لجمهور صفحتها على «فيسبوك» احتفالاً بافتتاح فرعها رقم 150 في «ألمانيا»؛ الفائز بهذه المسابقة يُسمح له بدخول المحل لمدة 150 ثانيةً فقط يأخذ فيها كل ما يستطيع أن يحمله مجاناً بدون أن يدفع شيئاً! انتهت المسابقة وتم الإعلان عن الفائزين، وكان من بين الفائزين شابٌ عمره 27 سنةً اسمه «سباستيان»، وكانت هناك يوم المسابقة تغطيةٌ إعلاميةٌ رهيبةٌ، بدأ العد التنازلي للـ 150 ثانية، وبدأ الفائزون يدخلون واحداً تلو الآخر ليأخذوا ما يُريدون ويخرجوا؛ هناك من كان يركض ويقع، وهناك من يأخذ أشياءً لا يحتاجها ثم يرميها ويأخذ غيرها، وآخرون يأخذون أي شيءٍ يجدونه أمامهم، وأكثرهم خرج بأشياءٍ غير ذات قيمةٍ أو أشياءٍ ليس في حاجةٍ لها أصلاً، لكن العجيب أن «سباستيان» هذا دخل بمُنتهى السرعة والنظام والتركيز، وكأنه يعرف تماماً ماذا يفعل! أخذ شاشاتٍ كبيرةً وسحبها إلى الخارج، موبايلات، وتابلتس، ولاب توبس، وأجهزةً من كل الأشكال والألوان، ومن أفخم الماركات وأغلى الأسعار، يضعها فوق بعضٍ بترتيبٍ عجيبٍ ويخرج بها، يضعها على الأرض، ثم يدخل مرةً أخرى! استغرب الناس من أدائه واختياراته، حتى أنه استطاع في آخر الثواني أن يسحب ثلاجةً كبيرةً ويُخرجها من المحل! انتهت الـ 150 ثانية، وخرج «سباستيان» هذا وسط تهليلٍ فظيعٍ من الجمهور، وسقط على الأرض من شدة تعبه. قُدرت قيمة الأشياء التي أخذها في الـ 150 ثانية -أي في دقيقتين ونصف- بـ 29 ألف يورو!

أول ما قال «سباستيان» بعدما خرج: "لقد نجحت استراتيجيتي!"؛ فأجروا معه لقاءً تلفزيونياً وسألوه: ماذا يقصد بذلك، فرد قائلاً: "إني من اليوم الذي سمعتُ به عن المسابقة وأنا أذهب إلى هذا المحل يومياً، أُخطط وأحفظ أماكن الأشياء الغالية التي أُريد أن آخذها، وأرتب مساري وأولوياتي وطريقي داخل المحل الكبير لأعرف كيف أخرج بأكبر قدرٍ مُمكن من المكاسب خلال الـ 150 ثانية هذه، وبالتالي عندما وقع عليّ الاختيار كنتُ جاهزاً ومُستعداً؛ فكانت أول كلمةٍ لي بعد الانتصار لقد نجحت استراتيجيتي".

 

أحبتي في الله.. لم أكن لأكتب هذه القصة لولا أنها تُمثل طريقة تفكيرٍ ذكيٍ يُمكن لنا كمُسلمين أن نستفيد منها في التعامل مع ما يُنعم به الله سبحانه وتعالى به علينا من رحمة وفضل بتخصيص مواسم للعبادات والطاعات تتضاعف فيها الأجور وتزداد الحسنات، كهذه الأيام الطيبة المباركة، العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة؛ فهي (أفضل أيام الدنيا)؛ أقسم بها المولى عزَّ وجلَّ، -ولا يُقسم إلا بعظيمٍ- فقال: ﴿وَلَيَالٍ عَشْر﴾ يقول المفسرون "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أُمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أفضلُ أيامِ الدُنيا أيامُ العَشْر] يعنى عشر ذي الحجة. قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: [ولا مثلهن في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ عفَّر وجهَه في التراب].

وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ] يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: [وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ].

 

لم يفت هذا المعنى راوي القصة فعقّب عليها بقوله: العبرة التي أخذتُها من هذه القصة، أنه كلما اقتربت أيام العشر ويوم عرفة، تذكرتُ «سباستيان» هذا، وقلتُ لنفسي: "أنا أولى في الفوز من هذا الرجل في التخطيط ليومٍ عظيمٍ كيوم عرفة! «سباستیان» خرج بأشياءٍ قيمتها 29 ألف يورو في دقیقتین ونصف، یا تُرى بماذا سأخرج أنا من هذه الأيام ويوم عرفة وهي (أفضل أيام الدنيا)؟". قال الأوزاعي رحمه الله: "أدركتُ أقواماً كانوا يُخبئون الحاجات ليوم عرفة ليسألوا الله بها"، فكيف تعلم قيمة وفضل تلك الأيام العظيمة ويوم عرفة ولا يكون لديك خطةٌ لاستثمار تلك الأيام؟! كيف تعلم أن هذا اليوم -يوم عرفة- هو الذي يعتق الله فيه الناس النار، وهو اليوم الذي يُباهي الله بعباده ملائكته، وأن صيامه يُكفِّر السنة الماضية والسنة القادمة، وأن العمل الصالح فيه أفضل مما دونه من الأيام، وأن خير الدعاء وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، كيف تعلم كل ذلك ولا تُجهِّز نفسك لعباداتك ودعواتك؟! هناك أناسٌ كثيرون حصلت لهم مُعجزاتٌ بسبب دعاء يوم عرفة! جهز قائمةً لكل ما تتمناه في دُنياك وآخرتك من الآن، وانزل يوم عرفة إلى أي مسجدٍ، أو حتى في غرفةٍ في بيتك، من العصر إلى المغرب، وادعُ ربك واطلب منه كل حاجاتك من خيريّ الدنيا والآخرة. إن كنتَ فقيراً، أو ليس لديك عمل، أو تائهاً، أو ذنوبك كثيرةٌ، ماذا تنتظر؟ جهِّز قائمة دعواتك من اليوم، أمامك عشرة أيامٍ من (أفضل أيام الدنيا) ويوم عرفة.

قال عبد الله بن المبارك: "جئتُ إلى سُفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تذرفان فالتفت إليّ، فقلتُ له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له".

انتبه إنه يوم عرفة القادم إن شاء الله، إنّه يومٌ شرّفه الله، إنّه يومٌ عظّمه الله، إنَه يومٌ يُباهي الله بأهل عرفة أهل السماء، إنّه يوم العتق من النيران، إنّه يوم الطاعة والاجتهاد في العبادة، وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة.

واجتهد ألا يخلو نَفَسٌ من أنفاسِكَ إلا في عمل طاعةٍ أو قُربةٍ تتقرب بها، فإنها لو كانت معك جوهرةٌ من جواهر الدنيا لساءك ذهابها، فكيف تُضيِّع (أفضل أيام الدنيا)؟! إذا كانت ليلة القدر مجهولةً فإن يوم عرفة معلومٌ، وإذا كانت ليلة القدر تتنزل فيها الملائكة، فإن الله ينزل يوم عرفة؛ فاغتنموا الفرصة، واجتهدوا ما استطعتم في يوم عرفة، وهو يومٌ واحدٌ في السنة: نم ليلة عرفة مُبكراً لتتقوى لطاعة الله، قُم قبل الفجر لتتسحر بنية صوم هذا اليوم ثم صلِّ ركعتين أو أربع على الأقل، وادعُ ربك وأنت ساجدٌ بخيري الدنيا والآخرة واحمده أنه بلّغك يوم تنزل فيه الرحمات والمغفرة، قبل الفجر اقضِ وقتاً في الاستغفار حتى تُكتب عند الله من المستغفرين في الأسحار، استعد لصلاة الفجر قبل الآذان بخمس دقائق واستشعر أن ذنوبك تخرج مع آخر قطرةٍ أثناء الوضوء، ثم قُل دعاء ما بعد الوضوء، صلِّ الفجر، واجلس في مُصلاك إلى ما بعد الشروق ب 15 دقيقة، ابدأ التكبير بعد السلام مباشرةً، أنت الآن في مُصلاك حتى الشروق تقرأ القرآن وتُسبح وتُهلل وتحمد الله ولا تنسَ أذكار الصباح، صلِّ ركعتي الشروق ليُكتب لك أجر حجةٍ وعُمرةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك أن تضيعها، أنت الآن مُخيرٌ إن استطعتَ ألا تنام اليوم كاملاً فلا تُضيّع ثانيةً واحدةً إلا وأنت في ذِكرٍ ودعاءٍ وكُن على يقينٍ بالإجابة، أو تنام ساعةً تنوي بها أن تتقوى على طاعة الله، ثم تقوم من النوم تتوضأ وتُصلي أربع ركعاتٍ على الأقل صلاة الضُحى وتُنوِع في الطاعات حتى لا تمل: تكبيرٌ ذِكرٌ تلاوةٌ وأكثِر من "لا إله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير"، صلِّ الظهر وكبِّر وسبِّح واقرأ شيئاً من القرآن، استمع إلى خُطبة عرفاتٍ بكل جوارحك، صلِّ العصر وكبِّر وقُل أذكار المساء، اقرأ القرآن إلى قبل المغرب بساعةٍ تقريباً، ادعُ الله ألا تغرب شمس عرفة إلا وأنت من عُتقائه من النار، ابدأ الدعاء بالحمد والثناء على الله ثم الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم الدعاء لنفسك ووالديك وزوجك وأولادك وإخوانك وأهلك ولا تنسَ الدعاء لإخوانك المسلمين في كل مكان.

 

يقول أحد العارفين: نحن مُقبلون على أعظم المواسم أجراً، وأكثرها عطاءً؛ مُقبلون على (أفضل أيام الدنيا) فادخلوا على الله فيها من أبواب مُتفرقةٍ؛ فلا تدرون أي الأبواب يُفتح لكم؟ ادخلوها بأزواد مُتعددةٍ؛ فرُبَّ زادٍ تستقله وفيه الخير كله. ادخلوها باستعطاف والديكم، أو من بقي من بعض ريحهم. ادخلوها بالتماس الدُعاء بظهر الغيب ممن تظنون بهم الخير. ادخلوها بأعمال خفيةٍ. ادخلوها بمعصيةٍ تهجرونها وكأنكم تقولون معها: "وعزتك وجلالك ما تركناها إلا ابتغاء وجهك فحرِّم على النار وجوهنا". ادخلوها بشفقةٍ على المسلمين يعلمها الله من قلوبكم. ادخلوها بانكسارةٍ يسمعها الله من أصواتكم ويراها من لمعان دموع أعينكم. ادخلوها بالصدقات، ادخلوها بالتوبات والاستغفارات. ادخلوها بالمصاحف لا تتركونها حتى تسقط من أياديكم، وبالقيام لا تتركونه حتى تتورم أرجلكم، ولسان حالكم قول القائل: "وعزتك وجلالك لا أعرف للراحة طعماً حتى أذوق للقبول طعماً". ادخلوها بمُعتكَفٍ صغيرٍ في بيوتكم، أو كبيرٍ في مساجدكم؛ فالاعتكاف لزومٌ والتصاقٌ بباب المَلِك، وحيثما شعر القلب بمعناه فليعتكف. ادخلوها بقلوبٍ غافرةٍ عفوَّةٍ، تُرسل العفو للمخلوق لتستقبل عفو الخالق. ادخلوها بهذا كله، وغيره من جميل الأعمال والنيات؛ فالمواسم الجليلة تحتاج لقرباتٍ جليلةٍ، وموسمنا هذا ليس ككل المواسم. رضي الله عن أنس بن مالك عندما قال: "تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ".

ورضي الله عن بعض أحبتنا الذين إذا دخلت المواسم غابوا عنا وحضروا عند ربهم، فلما كنا نسأل عنهم كانوا يقولون:

"لا ينبغي لعاقلٍ أن يغيب وقت توزيع الرحمات، وغيابنا عنكم يُستَدرك، لكن غيابنا عن باب المَلِك قد لا يُدرَك".

احملوا أزوادكم، وأنيخوا مطاياكم، وتخففوا من ضوضاء الدُنيا حولكم؛ فأنتم مُقبلون على أيامٍ وليالٍ لو كشف الله لكم حفلات توزيع جوائزه فيها لمُتُّم طرباً للقبول أو حُزناً للفوات. فَرِّغ قَلبكَ لأيام العشر! لُمَّ شعثَ نفسِكَ، وقلْ لها: "ما أدراكِ؟ فقد تكونُ هذه هي آخر عشرٍ تدركينها!". مزِّق شريطاً كان يُلهيك، أغلق جهازاً كان يسرقُ وقتك، ابتعد عن صحبك قليلاً وكُن مع الله؛ فأنت مُقبلٌ -إن شاء اللهُ- على رحلةٍ إيمانيةٍ لن يركبَ سفينتها إلا أنت وأقوامٌ صالحون ولكنهم أخفياءُ أتقياء!

لا يعلم عن أحوالِهم إلا الله، لقد أخفوا عن الخلقِ أعمالَهم الصالحة، فأخفى الله لهم الثوابَ الجزيل: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فكُن مثلَهم خفياً نقياً تقياً، لا تعلم يمينُك ما أنفقت شِمالك، تدمع عيناك خشيةً من الله؛ فتصدَّ بالدمعِ عن كل مَن حولك، انسحبْ منهم خِلسةً إلى حُجرتِك، وتبتلْ هناك في محرابك بعيداً عنهم. صحيحٌ أن ذلك ليس يسيراً على أنفسنا، فقد أغرقتنا الدنيا بلهوِها وزينتها، ولكن لا يخفى علينا أجرُ منْ جاهدَ نفسَه، فإنه مأجورٌ على ما يُلاقيه من نَصَبٍ ومشقةٍ في تفريغِ قلبه لاستقبال العشر؛ فكلما فترت همتُك، ووهَن عزمُك؛ تذكرْ وعدَ الله لك: ﴿وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنَا﴾؛ فجاهِد نفسَك ليهديَك الله سُبلَه؛ فقد جاهَدَ أحدُ السلفِ نفسَه على قيامِ الليلِ عشرين عاماً، ثم تلذَّذ به عشرين عاماً! أما علمتَ أن رسولَنا الكريمَ صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها -وصحابته- بالأعمال الصالحة؛ لأنها (أفضل أيام الدنيا)، والعمل فيها أحب إلى الله من غيرها؟ كيف لا؟ وفيها يومٌ عظيمٌ يعتق فيه الله عبيده من النار أكثر منْ غيره! بل إن صيامه يُكَفَّرُ به ذنوب سنتين! ويدنو فيه الله إلى خلقه يباهي بهم ملائكته ويُشْهِدُهُمْ أنه غفر لهم. فهلَّا اتخذتَ لك صاحباً يُعينُك على طاعةِ اللَّهِ وتُعينُه فيهَا؟ كم اشتاقت أرواحُنا إليك يا عشر؟ كم اشتقنا إلى أيامك؟ وإلى ظمأِ هواجرِك لتقربَنا إلى الله زُلفى؛ فتقوى العلائقُ بين العبدِ والربِّ حتى لكأنَّ أرواحَنا تطوفُ وتُحلِّقُ في نعيمٍ تلو نعيم، وعبادةٍ تلو عبادة! ارسم اليومَ خطتَك، بنية أن تعملَ صالحاً، واسألِ الله القبول. قم هذه الليلةَ في السَّحَرِ وانطرحْ بين يديّ ربك؛ ناجِه، نادِه، وقُل: يا رب، أنا مقبلٌ عليك، وأنت قد وعدتَ -ووعدُك الحق- أنني إن تقربَتُ إليك شبراً؛ تقربَتَ إلَيَّ ذراعاً، وإن تقربَتُ إليك ذراعاً؛ تقربَتَ إليّ باعاً، وإن أتيتك أمشي، أتيتني هرولةً. وإني -يا الله- لطامعٌ في الركضِ إليك، فأعني على نفسي، واخسأ شيطاني، واصرفْ قلبي عن زينة الدنيا! انطرحْ بين يديّ ربك، تذلل له، أرسلْ على وجنتيك دموعاً حبسَتْها مُلهياتُ الدنيا عن البكاء من خشيةِ الله، ونادِ: يا رب، إن عشرك الفضيلَة قد أقبلت، وإني إليك راغبٌ، وقد عجلتُ إليك ربي لترضى!

 

أحبتي.. ورد في الأثر "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ"، وورد أيضاً: "الحكمةُ ضالةُ المؤمنِ فحيث وجدها فهو أحقُ بها". فالكياسة والفطنة والحكمة تجعلنا نستفيد من تجارب غيرنا ولو كانوا كُفاراً، وكما قيل: فليس بغضُ المؤمنِ شخصاً ما بحامله على ردِ ما جاء به من الحكمة والخير، بل هو يأخذ الحكمةَ من أي وعاءٍ خرجت، وعلى أي لسانٍ ظهرت، على حد قول القائل:

لا تحقرنَ الرأيَ وهو مُوافقٌ

حُكمَ الصوابِ إذا أتى مِنْ ناقصِ

فالدرُ وهو أعزُ شيءٍ يُقتنى

ما حَطَ قيمتَه هوانُ الغائصِ

فلتكن استراتيجية «سباستيان» منهجاً لنا للتعامل مع (أفضل أيام الدنيا)، وغيرها من مواسم العبادات والطاعات، بل وفي جميع أيامنا وأوقاتنا؛ لنُزيد رصيد ثوابنا ونُضاعف أجورنا ونُثقِّل موازين أعمالنا.

أعاننا الله على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/3R22BIv

الجمعة، 24 يونيو 2022

الله غالبٌ على أمره

 

خاطرة الجمعة /349


الجمعة 24 يونيو 2022م

(الله غالبٌ على أمره)

كانت تريد تنصير إحدى المُسلمات فأسلمت؛ قصة إسلام "جميلة جولي". وُلدت جميلة في قريةٍ شمال نورثامبتون بإنجلترا، لأبٍ مُلحدٍ وأُمٍ مُلحدةٍ، تحكي قصتها فتقول: بسبب مرض أخي أرسلني والدي للعيش مع جدتي النصرانية؛ لذا ترعرعتُ نصرانيةً. عشتُ حياةً مُرفهةً وهادئةً بدون مشاكلٍ، درستُ الطب وتخرجتُ أخصائيةً في مُعالجة الأقدام. وكنتُ ناشطةً جداً في الكنيسة أحضر كل الصلوات وكل الدروس. وذات مرةٍ أرسلتني الكنيسة للعمل التطوعي في مُنظمةٍ اسمها «مُساعدة النساء»، وفي هذه المُنظمة تعرفتُ على امرأةٍ اسمها "حميدة"، تعمل بهذه المُنظمة، كانت علاقتنا جيدةً، وكنتُ دائماً أتحدث عن الدين مع فتاتين واحدةٍ كاثوليكية والأُخرى بروتستانتية، وكانت حميدة تجلس معنا دائماً ولكن لا تتحدث في هذه الأمور. وذات يومٍ سألتُ حميدة عن ديانتها؛ لأنها كانت امرأةً رائعةً وكانت أكثرنا صبراً وتحملاً وهدوءً ولا شيء يُغضبها، فقالت حميدة: "أنا مُسلمة"؛ فأصابني الهلع والذُهول، وقلتُ: "كيف لامرأةٍ مُتعلمةٍ مثلك أن تتبع ديناً بربرياً مثل الإسلام؟!".

وكل يومٍ أتحدث معها لإقناعها بالنصرانية، وبعد مُحاولاتٍ كثيرةٍ فاشلةٍ، قالت لي حميدة: "إذا وجدتِ أي خطأٍ في الإسلام -وليس في المسلمين- سأعتنق النصرانية"، قلتُ لها: "قبلتُ التحدي"، وسألتها: "كيف أعرف عن الإسلام؟"؛ فأعطتني كتاباً عن المساواة بين الجنسين في الإسلام؛ فلما قرأته وجدتُ أنه رائعٌ ويختلف عما أعرفه؛ فاعتقدتُ أنها أعطتني كتاباً مُنحازاً لتُضللني، فلم أكتفِ بهذا الكتاب، وذهبتُ إلى محلٍ في مدينة "لوتن" اسمه "زمزم"، وكان صاحب المحل بلحيةٍ طويلةٍ، بدا لي مُخيفاً جداً، ولكنه كان رائعاً في تعامله وأخلاقه فقلتُ له: "أبحث عن كُتبٍ تُعلِّم الإسلام"، فعرض عليّ بعض الكتب اشتريتُ منها ثلاثة، وقلتُ في نفسي: "سأجد خطأً في هذه الكُتب لأجعل حميدة نصرانيةً"، ثم ذهبتُ أنا وأولادي لتناول طعامنا في مطعم، وأثناء الأكل فتحتُ كيس الكُتب فوجدتُ سبعة كُتبٍ وليس ثلاثةً؛ فطلبتُ من ابني الأكبر إرجاع أربعة كُتب، لكن صاحب المحل قال لابني: "هذه الكُتب هديةٌ لكم"؛ فتفاجأتُ كثيراً لأن هذا لا يحدث عادةً في محلٍ إنجليزي. بدأتُ في قراءة الكُتب، وبعد الانتهاء منها لم أجد خطأً أو تناقضاً؛ فقلتُ في نفسي: "لا بد من التعمق أكثر حتى أجد أخطاء". درستُ الإسلام سنةً كاملةً، وكلما ألتقي حميدة أقول لها: "سوف أجد خطأً في الإسلام". وذات مرةٍ قالت لي حميدة مازحةً: "لم تجدي شيئاً مُتناقضاً في الإسلام، لكنك لا تريدين الاعتراف بذلك"، فأجبتها: "هل يُمكنك أن تجدي شيئاً مُتناقضاً في النصرانية؟"، فأعطتني كتاباً عن الإنجيل لأحمد ديدات وقالت: "اقرأي هذا"؛ قرأتُ الكتاب ولم أدرك يوماً حجم الأخطاء والتناقضات الموجودة في النصرانية، فعلمتُ أن الإنجيل الذي بين أيدينا ليس كلام الله، أما القرآن فلم يتغير منذ نزوله، وأن الإسلام هو دين الحق فأسلمتُ. وكل يومٍ أتعمق في تعلم الإسلام، وأندم على ما ضاع من عُمري ولم أكن مُسلمةً، والحمد لله علي نعمة الإسلام.

 

أحبتي في الله.. كثيرةٌ هي قصص دخول غير المسلمين في الإسلام، والتي تُثبت لنا أن (الله غالبٌ على أمره)، ومصداقاً لوعده سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، وتصديقاً لما بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: [لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمرُ مَا بَلَغَ الليلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّينَ، بعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ].

وقصتنا التالية انتهت بإسلام نصرانيٍ ثم إسلام يهوديٍ على يديه؛ إذ كان للرئيس الأمريكي الراحل "ريتشارد نيكسون" مُستشارٌ اسمه "روبرت كرين" حصل على دكتوراه في القانون العام، ثم دكتوراه في القانون الدولي، ثم أصبح رئيساً لجمعية هارفارد للقانون الدولي، ومُستشاراً للرئيس الأمريكي للشؤون الخارجية، ويتقن ست لغات. في أحد الأيام أراد الرئيس أن يقرأ عن "الأصولية الإسلامية" فطلب من المُخابرات الأمريكية أن تُعدّ له بحثاً في ذلك الموضوع، وقد كان بحثهم طويلاً بعض الشيء؛ فطلب من مُستشاره "روبرت كرين" أن يقرأ البحث، ويختصره له، وبالفعل قرأ روبرت البحث، ثم ذهب يحضر ندواتٍ ومُحاضراتٍ إسلاميةٍ؛ ليتعرّف أكثر على الموضوع، وما هي إلّا أيامٌ حتى دوى خبر إسلام "روبرت كرين" في أرجاء الولايات المُتحدة الأمريكية بالكامل؛ فقد أسلم وسمّى نفسه "فاروق عبد الحق". يقول أخونا فاروق عن سبب إسلامه: "بصفتي دارساً للقانون، فقد وجدتُ في الإسلام كلّ القوانين التي درستها، بل وأثناء دراستي في جامعة هارفارد لمدة ثلاث سنواتٍ لم أجد في قوانينهم كلمة العدالة ولو مرّةً واحدة! هذه الكلمة وجدتها في الإسلام كثيراً". سمّى نفسه "فاروق" تأسياً بالفاروق "عمر". يقول فاروق: كُنّا في حوارٍ قانونيٍ، وكان معنا أحد أساتذة القانون من اليهود، فبدأ يتكلّم، ثم بدأ يخوض في الإسلام والمسلمين، فأردتُ أن أُسكته فسألته: "هل تعلم حجم قانون المواريث في الدستور الأمريكي؟"، قال: "نعم، أكثر من ثمانية مجلدات"، فقلتُ له: "إذا جئتك بقانون المواريث في الإسلام فيما لا يزيد عن عشرة سُطورٍ، فهل تُصدّق أن الإسلام دينٌ صحيح؟"، قال: "لا يُمكن أن يكون هذا!"، فأتيتُ له بآيات المواريث من القرآن الكريم، وقدّمتها له؛ فجاءني بعد عدّة أيامٍ يقول لي: "لا يُمكن لعقلٍ بشريٍ أن يُحصي كلّ علاقات القُربى بهذا الشمول الذي لا ينسى أحداً، ثم يوزّع عليهم الميراث بهذا العدل الذي لا يظلم أحداً!"، ثم أسلم هذا الرجل أيضاً، سبحان الله، فعّال لما يشاء؛ إن (الله غالبٌ على أمره) ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

يُرجع العلماء انجذاب الأفراد والشعوب إلى اعتناق الإسلام إلى الأمان والصفاء الروحي الذي يشعرون به منذ اللحظة الأولى لدخولهم الإسلام، وتأثرهم بما لمسوه من الأخلاق الحميدة والأمانة التي يتصف بها عامة المسلمين في تعاملاتهم في حياتهم الاجتماعية والعملية، إضافةً إلى القيم الاجتماعية السامية التي يتميز بها المُجتمع المُسلم والتي تدعو إلى التسامح والتعايش على أساسٍ من التآخي ومشاعر المحبة؛ فقد كان التاجر يذهب إلى إندونيسيا وهو تاجرٌ لا يحفظ إلا فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص والمعوذتين، ينظرون إلى وجهه فإذا عليه النور، ويرون مُعاملته فإذا هي الصدق والوفاء، ويختبرون أخلاقه فإذا هو قرآنٌ يمشي فوق الأرض، فيدخلون في دين الله أفواجاً؛ سبحان الله، إن (الله غالبٌ على أمره) وهو على كل شيءٍ قدير.

 

ومما قرأتُ -تعقيباً على فرحتنا باعتناق البعض من غير المسلمين للإسلام- مقالاً قالت فيه كاتبته: ننظر أحياناً لكثيرٍ من النعم التي رزقنا الله إياها على كونها أموراً مُسلَّماً بها، وعلى رأسها إسلامنا، ما يلبث أن يتذكر بعضنا هذه النعمة ويشكرها حين يسمع قصة أحد المسلمين الجُدد، ويحمد الله عليها؛ فالواقع أننا: ﴿مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾. بيد أنه من المُثير للأسى، أن نجد مُسلمين يشنون الهجوم على ذات الأمور التي أدت إلى إسلام غيرهم من غير المسلمين حول العالم! ومن ذلك:

"البحث عن النفس": من أكثر الأسباب شيوعاً لاعتناق غير المسلمين للإسلام رغبة مُعظمهم في معرفة الهدف وراء الحياة، فأسلوب حياتهم المادي في الغرب، والغرق في ملذات الدُنيا، يبعث في نفوسهم شعوراً بالتعاسة والحيرة، والرغبة في عيش حياةٍ لها معنىً وهدفٌ ورسالة. ومع بحثٍ دؤوبٍ ومُستمرٍ، يجد معظمهم هذا في الإسلام. وفي المقابل، نجد كثيراً من المسلمين، بلا هويةٍ ولا هدفٍ، وحين يلجأ بعضهم للبحث، نراهم يلجأون لفلسفات ومراجع الغرب في النفس والحياة، والتي دحضها الإسلام بدليلٍ مُقنعٍ وجاء بخيرٍ منها!

"الطُمأنينة إلى القُرآن قراءةً واستماعاً": وهذا سببٌ لدخول البعض في الإسلام؛ فبعضهم يقرأ القُرآن خصيصاً ليُهاجم به المسلمين، ولكن سرعان ما ينقلب السحر على الساحر، وتكون النتيجة أن يعتنق هذا الشخص الإسلام. والبعض يتأثر بالاستماع إلى القُرآن، ويجد فيه راحةً نفسيةً وسكينة لا يجدها في غيره، وهو لا يفهم معانيه. والمؤسف أن نجد في المقابل من المُسلمين من يحرصون على سماع الأغاني من باب إراحة النفس والبال وتجديد النشاط والفكر!

"الصلاة": تجد فتاةً أسلمت حين رأت مُسلمةً تُصلي، مُبررةً ذلك بأنها رغبت هي الأُخرى في الصلاة لتتمكن من الحديث مع الله جلَّ وعلا بصورةٍ مُباشرةٍ. كما تلقى أحد المُسلمين الجُدد وقد علَّق على صلاة الجماعة بكونها "أمراً خارقاً"؛ فما إنْ يُكبِّر الإمام للصلاة حتى يُصبح جميع المُصلين مُصطفين جنباً إلى جنبٍ في ثوانٍ معدودةٍ بصورةٍ تلقائيةٍ شديدة التنظيم؛ فيتيقن أنّ هذا الدين الذي يجمع الناس من الطبقات الاجتماعية كافةً، ومن مُختلف الأجناس والأعراق والألوان، لا ريب هو دينٌ مميزٌ ورائعٌ؛ فيُبادر إلى إعلان إسلامه. والسؤال المؤلم الذي يطرح نفسه هو: تُرى كم مِن المُسلمين الآن مَن يحرصون على الصلاة بصفةٍ عامة وعلى صلاة الجماعة بالمسجد على وجه الخصوص؟!

أرى أنه من الواجب علينا كمُسلمين، حين نسمع إحدى قصص المُسلمين الجُدد، أن نُضيف إلى شُعورنا بالغبطة ورغبتنا في الشُكر والحمد على نعمة الإسلام، مرحلة التطبيق العملي، سواءً من خلال الأمر بالمعروف قولاً، أو تطبيق الفرائض فعلاً؛ حتى لا ينتهي الأمر بمعظمنا ليكونوا مُجرد مُسلمين بالاسم فحسب!

 

أحبتي.. على كلٍ منا أن يكون مثالاً إيجابياً للمُسلم صحيح الإسلام صحيح الإيمان بأن نلتزم في مظهرنا ومخبرنا، في أقوالنا وأفعالنا، في علاقاتنا ومُعاملاتنا، بمبادئ الإسلام الحنيف؛ فنكون سفراء لديننا -خاصةً في بلاد المهجر- فواجبٌ علينا أن نُغيِّر النظرة الغربية المُشوهة للإسلام، والصورة النمطية السلبية عنه التي يتعمد الإعلام المُعادي للإسلام تضخيمها. ليس المطلوب أن يعرف الناس كم نقرأ وكم نحفظ من القرآن، لكن المطلوب أن يظهر لهم أثر القرآن على سلوكنا وأخلاقنا ومُعاملاتنا، وقتها يُمكنا أن نقوم بواجب الدعوة إلى دين الله؛ وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [...فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]، وعلينا -عند الدعوة إلى الإسلام وعند الحديث عنه- أن نلتزم بالحكمة والقول الحسن؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وكما نتذكر دائماً أن (الله غالبٌ على أمره)، فلنتذكر أيضاً أن كلاً منا على ثغرٍ، فليحذر من أن يؤتى الإسلام منه.

وفقنا الله لما يُحب ويرضى، ويُعيننا على أن نكون خير سفراء لديننا القويم، وخير دعاةٍ له.

 

https://bit.ly/3yjPIC4

الجمعة، 17 يونيو 2022

فُرص لا تُعوض

                                                      خاطرة الجمعة /348


الجمعة 17 يونيو 2022م

(فُرص لا تُعوض)

 

كتب يقول: منذ مساء أمس وطفلي الصغير صحته ليست على ما يُرام؛ وعندما عدتُ مساء اليوم من عملي قررتُ الذهاب به إلى المستشفى. رغم التعب والإرهاق إلا أن التعب لأجله راحةٌ، كان المنتظرون في المستشفى كثيرين، قدّرتُ أننا ربما نتأخر أكثر من ساعةٍ، أخذتُ رقماً للدخول على الطبيب وتوجهتُ للجلوس في غرفة الانتظار، وجوهٌ كثيرةٌ مختلفةٌ؛ فيهم الصغير وفيهم الكبير، الصمت يُخيم على الجميع، يوجد عددٌ من الكتيبات الصغيرة استأثر بها بعض الحاضرين؛ منهم من هو مُغمض العينين لا تعرف فيم يُفكر، وآخر يُتابع نظرات الجميع، والكثير تُحس على وجوههم القلق والملل من الانتظار. يقطع السكون الطويل صوت المُنادي برقم كذا، الفرحة على وجه المُنادى عليه، يسير بخطواتٍ سريعةٍ نحو غرفة الطبيب، ثم يعود الصمت ليعم الجميع. لفت انتباهي شابٌ في مقتبل العمر، لا يعنيه أي شيءٍ حوله؛ لقد كان معه مُصحف جيبٍ صغيرٌ يقرأ فيه، لا يرفع طَرْفه، نظرتُ إليه ولم أُفكر في حاله كثيراً، لكن عندما طال انتظاري عن ساعةٍ كاملةٍ تحول نظري إليه، من مجرد نظرةٍ عابرةٍ إلى تفكيرٍ عميقٍ في أسلوب حياته ومحافظته على الوقت؛ ساعةٌ كاملةٌ من عُمري لم أستفد منها وأنا فارغٌ بلا عملٍ ولا شُغلٍ بل انتظارٌ مملٌ. أذَّن المؤذن لصلاة المغرب، ذهبنا للصلاة في مُصلى المستشفى، تعمّدتُ أن أكون بجوار الشاب صاحب المُصحف، وبعد أن أتممنا الصلاة سرتُ معه وأخبرته بإعجابي به لمحافظته على وقته؛ فكان حديثه يتركز على كثرة الأوقات التي لا نستفيد منها إطلاقاً، وهي أيامٌ وليالٍ تنقضي من أعمارنا دون أن نُحس أو نندم، أخبرني إنه أخذ مصحف الجيب هذا منذ سنةٍ واحدةٍ فقط عندما حثه صديقٌ له على المحافظة على الوقت، وأخبرني أنه يقرأ في الأوقات التي لا يُستفاد منها كثيراً أضعاف ما يقرأ في المسجد أو في المنزل، بل إن قراءته في المُصحف -زيادةٌ على الأجر والمثوبة إن شاء الله- تقطع عليه الملل والتوتر، وأضاف قائلاً إنه الآن في مكان الانتظار منذ ما يزيد عن الساعة والنصف، وسألني: "متى ستجد ساعةً ونصف ساعةٍ لتقرأ فيها القرآن؟" وقال: "إنها (فُرص لا تُعوَض)". تأملتُ ملياً فيما قال؛ كم من الأوقات تذهب سُدىً؟! وكم لحظةٍ في حياتي تمر ولا أحسِب لها حساباً؟! بل كم من شهرٍ مرّ عليّ ولم أقرأ القرآن؟!" تأملتُ حالي؛ وجدتُ أني محاسَبٌ والزمن ليس بيدي، فماذا أنتظر؟ قطع تفكيري صوت المنُادي؛ ذهبتُ إلى الطبيب. وبعد أن خرجتُ من المستشفى أسرعتُ إلى أقرب مكتبةٍ فاشتريتُ مُصحفاً صغيراً. قررتُ أن أحافظ على وقتي، سألتُ نفسي -وأنا أضع المُصحف في جيبي- كم من شخصٍ سيفعل ذلك؟ وكم من الأجر العظيم يكون للدال على ذلك؟

 

أحبتي في الله.. ما أسعد مثل هذا الشاب؛ استفاد من (فُرص لا تُعوَض)، وأهمها فرصة وقت الانتظار.

وهذا رجلٌ في الثمانين من عُمره، نادمٌ على عدم اغتنام الفرص حينما كانت متاحةً أمامه، كتب يقول إلى أولاده بشكلٍ خاصٍ، وإلى المهتمين بشكلٍ عامٍ: تهاونتُ في أمور ديني ولم أترك بيني وبين الله باباً مفتوحاً؛ كان من الممكن أن أصوم يومين في الأسبوع، بُمعدل مائة يومٍ في السنة، ولو فعلتُ لكنتُ ممن يدخلون الجنة من باب الريان فهو للصائمين، ولكنّي فهمتُ الدرس متأخراً عندما أصبحت لا أستطيع الصيام! تمنيتُ لو أنني قرأتُ يومياً بضع صفحاتٍ من القُرآن عندما أستيقظ وعندما أذهب إلى النوم مواظباً على ذلك يوماً بعد يومٍ، لو فعلتُ لكنتُ من أهل القرآن؛ أهل الله وخاصته، ولكني أدركتُ تقصيري عندما ضعُفَ بصري! تمنيتُ لو أنني واظبتُ على ترديد دعاء "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"، لو فعلتُ لغُفرت لي به ذنوبٌ كثيرةٌ، ولكني كُنتُ أستثقله، ويضيق عنه صدري! كُنت أترُك صلاة الفجر وأنا أعلم جيداً أن ترك صلاة الفجر من صفات المنافقين. ليتني كنتُ أُصلي ركعتين من قيام الليل يومياً قبل النوم، كُنت أعلم أنها سترفعني درجاتٍ عند الله؛ فلو كنتُ قمتُ بعشرِ آياتٍ لم أُكتَبْ منَ الغافلينَ، ولو قمتُ بمائةِ آيةٍ كُتِبَت منَ القانتينَ، ولو قرأتُ ألفَ آيةٍ كُتِبَت منَ المُقنطِرينَ، ليتني كنتُ منهم قانتاً ومُقنطراً. ليتني لم أرفع صوتي على أُمي وأَبي؛ فهما الجسر الذي كان من المُمكن أن أعبر عليه إلى الجنة. وصل عُمري عشرين عاماً ولم أسلك أي بابٍ إلى الجنة. ثم صار أربعين عاماً ولم أستطع الفكاك من مشاغل الدُنيا وزينتها. ثم صار ستين عاماً وأنا أسعى لتأمين مُستقبل أولادي. ثم صار ثمانين عاماً وتخلى عني أغلب الناس وعلى رأسهم من أفنيتُ عُمري لأجلهم. ندمتُ على ما فرطتُ وتمنيتُ الرجوع بالزمن إلى الوراء وأعيش حياتي بطريقةٍ مختلفةٍ؛ لأن الدُنيا رخيصةٌ وفانيةٌ. أنا وحيدٌ وسَفْرِي بَعيدٌ، وَزادي قليلٌ لا يُبلغني مُرادي، وَقُوَتي استهلكها أولادي، والموتُ كل يومٍ عليّ يُنادي. أيقنتُ الآن أن الدُنيا مهما عَظُمَت فهي حقيرةٌ، وأن العُمر مهما طال فهو قصيرٌ. يا أولادي؛ سردتُ لكم قصتي باختصارٍ كيلا تندموا مثلي بعد فوات الأوان. وإلى كل شخصٍ مُقصرٍ في طاعة الله أقول: خُذ مني وصية الرسول ﷺ والتي لم أكن أُعيرها اهتماماً، لأني كنتُ وقتها مغروراً بشبابي ومفتوناً بدنياي، فأُغشيت عينايّ عن فهم هذا الحديث الذي يقول: [اغتنِمْ خمساً قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هَرَمِك، وصحتَك قبلَ سقَمِك، وغِناك قبلَ فَقرِك، وفَراغَك قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ مَوتِك].

 

وحتى لا تضيع منا الفُرص، ثم نندم على ضياعها وقت لا ينفع الندم، يضرب لنا علماؤنا الأفاضل أمثلةً على (فُرص لا تُعوَض) لنغتنمها، ومنها الطاعات اليومية: الصلوات الخمس والوضوء لها، استعمال السواك عند الوضوء والصلاة، الترديد خلف المؤذِّن، صلاة الجماعة، السُنن الرواتب، صلاة الضُّحَى، قيام اللَّيل والوِتر، أذكار الصباح والمساء، أذكار اليوم والليلة: عند دخول البيت والخروج منه، عند دخول المسجد والخروج منه، عند دخول الخلاء والخروج منه، عند تناول الطعام والشراب، دبر الصلوات المكتوبات، عند النوم وعند الاستيقاظ، وغير ذلك. كما بينوا لنا أمثلةً على الطاعات الأسبوعيَّة: صلاة الجمعة، قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها، الإكثار من الصلاة على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمعة ويومها، صيام الإثنين والخميس. وأوضحوا لنا أمثلةً على الطاعات الشهريَّة: صيام ثلاثة أيَّام من كل شهرٍ هجري. وكذلك أمثلةً على الطاعات السنويَّة أو الموسميَّة: الزكاة لمَن توفَّرت فيه شروط وجوبها، الحجّ لمَن استطاعَ إليه سبيلاً، صوم رمضان، صلاة التراويح جماعةً في المسجد، اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، صلاة العيدَين، صيام ستة أيَّامٍ من شوال، صوم عاشوراء ويومٍ قبلَه أو يومٍ بعدَه، صوم يوم عرفة، الإكثار من الأعمال الصالحة في العشر الأُوَل من ذي الحجَّة. كما أن هناك أعمالاً تُشرَع في كلِّ وقتٍ وحينٍ، منها: صلاة النافلة في غير أوقات الكراهة، صيام التطوع، العُمرة، ذِكر الله، تلاوة القرآن، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الدُّعاء، الاستغفار، برّ الوالدَين، صلة الرَّحِم، الصدقة، إفشاء السَّلام، حُسن الخُلُق، عِفَّة اللِّسان، محبَّة الله، خشيته، رجاؤه، التوكُّل عليه، الرِّضا، اليقين، الاستعانة به سبحانه وتعالى. وهناك أعمالٌ ذوات سببٍ، تُشرَع إذا وُجِدَ سببها؛ منها مثلاً: عيادة المريض، صلاة الجنازة واتباعها، التعزية، تشميت العاطس، رَدّ السلام، إجابة الدَّعْوَة، صلاة الاستخارة، صلاة التوبة، صلاة الكسوف، صلاة الاستسقاء، الإصلاح بين المتخاصمَين، غضّ البصر، كفّ الأذى، الصبر على الأذى والبلاء... وغير ذلك.

 

يقول أهل العلم إن الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، وهو الثروة الوحيدة التي لا يُمكن تعويضها، فما ضاع منه لن يعود، وإنّ أهل الجنة لن يتحسروا من الدنيا إلا على الوقت الذي مضى ولم يذكروا فيه اسم الله. ولنتذكّر الموت وساعة الاحتضار حين نقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيقال لنا حينئذٍ انتهى الوقتﱡ ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾. يقول تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ]؛ فمن ملك الصحة والفراغ ولم يسعَ لاستثمارهما في إصلاح آخرته ودنياه فهو التعيس حقاً. وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ] وذكر منها: [عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ]، و[شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ]. إنّ ساعةً واحدةً من وقتنا نستطيع فيها أن نمسح دمعة يتيمٍ، أو نُعين عاجزاً، أو نُغيث ملهوفاً، أو نصل رحماً، أو نقرأ جُزءاً من القرآن، أو نُصلي بعض ركعاتٍ تطوعاً.

إن ما مضى من الوقت لا يعود، كانت فيه (فُرص لا تُعوَض)؛ ويُقال في هذا المعنى: «ما من يومٍ يمرُّ على ابن آدم إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يومٌ جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، وإذا ذهبتُ عنك لم أرجع إليك، فقدِّم ما شئتَ تجده بين يديك، وأخِّر ما شئتَ فلن يعود إليك أبداً، يا بن آدم إنما أنت أيامٌ، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك».

 

أحبتي.. فليُحاسب كلٌ منا نفسه: ماذا عمِل في يومه الذي انقضى؟ وكيف أنفق وقته؟ هل ازداد فيه من الحسنات أم ازداد فيه من السيئات؟

لنوطن أنفسنا على اغتنام الوقت واستغلال ساعات العُمر في طاعة الله. ولنَحْذَر الغفلة؛ فهي مرضٌ خطيرٌ أفقد الكثيرين الحسَّ الواعي بالأوقات واغتنامها؛ فاشتغلوا بالمُلهيات والشهوات حتى فاجأهم هادم اللذات. ولنَحْذَر التسويف؛ فإننا لا نضمن أن نعيش إلى الغد، وإن عشنا فلا نأمن المعوِّقات من شُغلٍ أو مرضٍ، فلنبادر إلى اغتنام أوقاتنا في طاعة الله، ولا نستهين بالدقائق فهي تتجمع لتكون ساعاتٍ، وما أعمارنا -مهما طالت- إلا دقائق وساعات. احمل معك كتيباتٍ صغيرةً ومصحف جيبٍ في سيارتك ونسخةً من القرآن الكريم في هاتفك المحمول، للقراءة أوقات الانتظار في المُستشفيات والعيادات والمصارف، وعند إنهاء المُعاملات في المصالح والمؤسسات، وغير ذلك من أماكن وأوقات.

وفقنا الله إلى اغتنام الأوقات، واقتناص (فُرص لا تُعوَض) نشغلها بذِكره وشكره وحمده وتسبيحه، وفيما يُرضيه -سبحانه وتعالى- من أعمالِ خيرٍ وبِرٍ وتقوى.

https://bit.ly/3zRPSBQ

الجمعة، 10 يونيو 2022

فضل الله

 

خاطرة الجمعة /347


الجمعة 10 يونيو 2022م

(فضل الله)

 

قصةٌ واقعيةٌ مؤثرهٌ؛ ذكرت إحدى المعلمات حادثةً حصلت لها قبل أكثر من ٢٠ سنةً، حين كانت مشرفةً على مقصف المدرسة، وكان من عادتها أنها بعد انتهاء الفسحة تجلس تعد النقود وتحسب الربح وتتفقد النواقص وغيرها من متطلبات المقصف، وكانت تُعاونها إحدى الفرّاشات، وكانت امرأةً مسكينةً ضعيفة الحال تُعول أبناءها الأيتام. تقول المعلمة كنتُ ذات مرةٍ أعد النقود ومُعظمها من فئة الريال، لأن الطالبات صغيرات السن والمدرسة ابتدائية، كانت الريالات أمامي كثيرةً فأردتُ أن أُمازح الفرّاشة فقلتُ لها: "تخيلي يا أم فلان لو أنّ هذه الريالات تحولت لأوراقٍ من فئة الخمسمائة ريال!"، فقالت: "الله أكبر!"، ثم قلتُ: "تخيلي لو صارت لكِ"، فقالت: "اللهم فضلك يا كريم"، فسألتها: "لو حدث هذا، ماذا تصنعين بهذه النقود؟"، أجابت بسرعةٍ: "أشتري بيتاً يضمني أنا والأيتام، ويُريحني من الإيجار الشهري". تقول المعلمة: ضحكتُ وقلتُ لها: "البيوت الآن غاليةٌ، لا يقدر على شرائها الميسورون، فما بالك بمن هُم غير ميسورين؟"، فاجأتني بأن نظرت إليّ نظرةً قويةً وقالت: "ما طلبتُ منكِ أنتِ، طلبتُ من الله سبحانه وتعالى؛ إنه (فضل الله) يُعطيه من يشاء"، فأفحمني ردها.

انتهينا من أعمال المقصف، وأكملتُ يومي الدراسي حتى نهايته، ثم عُدتُ إلى منزلي، فلما حان وقت العصر أخذتُ بناتي وذهبنا لزيارة والدتي، كنتُ أراها أثناء جلستنا معها تُكثر من استخدام الهاتف ومشغولةٌ بالاتصالات؛ فسألتها: "ما الخبر يا أُمي؟"، قالت: "فلانةٌ قريبتنا التي طُلقت، جمعنا -نحن الأقارب- لها مالاً لنشتري لها بيتاً، وبعد أن اشترينا البيت اتصلت تُخبرنا أنها ولله الحمد تصالحت مع زوجها وعادت لبيتها. والآن أستشير الأقارب، وكُلهم يقولون أخرجنا المال لله فلا نُريد استرجاعه بل يُصرف في الخير، ولا ندري ما نفعل به". انطلقت المعلمة بلا شعورٍ تحكي لوالدتها عن الفرّاشة المسكينة أُم الأيتام وحالها مع الإيجار الشهري وتعبها في توفيره وأُمنيتها بالبيت؛ فعادت أُم المعلمة تتصل بالأقارب وتسألهم عن رأيهم فاتفقوا أن يُعطى البيت للفرّاشة المسكينة.

تتحدث المعلمة عن نفسها فتقول: "سبحان الله، لقد كان هذا الحدث درساً لي في الثقة بالله وحُسن الظن به، أنا التي كنتُ في وقت الضُحى أضحك عليها وأقول من أين لك البيت؟ أنا بنفسي -وفي ذات اليوم- آخذها لِنَمُرَّ على المكتب العقاري، فتُوقع العقد، وتستلم البيت. ما أعظم (فضل الله) وما أحسن التعلق به وسؤاله من فضله؛ يُدبر لك الأمور، ويرزقك من حيث لا تحتسب".

 

أحبتي في الله .. إنه (فضل الله) يؤتيه من يشاء، هذا أمرٌ لا ريب فيه. وفيما يلي قصةٌ تُروى في هذا الشأن، فيها عبرةً لأولي الأبصار. تقول القصة:

جلس رجلان قد ذهب بصرهما على طريق أم جعفر زبيدة العباسية لمعرفتهما بكرمها. فكان أحدهما يقول: اللهم ارزقني من فضلك، وكان الآخر يقول: اللهم ارزقني من فضل أم جعفر. وكانت أم جعفر تعلم ذلك منهما وتسمع، فكانت ترسل لمن طلب (فضل الله) درهمين، ولمن طلب فضلها دجاجة مشوية في جوفها عشرة دنانير. وكان صاحب الدجاجة يبيع دجاجته لصاحب الدرهمين بدرهمين كل يوم، وهو لا يعلم ما في جوفها من دنانير. وأقاما على ذلك عشرة أيام متوالية، ثم أقبلت أم جعفر عليهما، وقالت لطالب فضلها: "أما أغناك فضلنا؟"، قال: "وما هو؟"، قالت: "مائة دينارٍ في عشرة أيامٍ"، قال: "لا، بل دجاجةٌ كنت أبيعها لصاحبي بدرهمين"؛ فقالت: هذا طلب من فضلنا فحرمه الله، وذاك طلب من (فضل الله) فأعطاه الله وأغناه.

 

ومن القصص المُتداولة عن (فضل الله) قصة امرأةٍ صوماليةٍ مُسلمةٍ فقيرةٍ تعيش في إنجلترا اتصلت بمحطة إذاعةٍ محليةٍ من أجل الحصول على مساعدةٍ، وتصادف أن شخصاً مُلحداً كان يستمع إلى المذياع وقتها، فاتصل بمحطة الإذاعة وطلب رقم هاتف وعنوان هذه المرأة لكي يُقدِّم لها مساعدةً، وكان في حقيقة الأمر يُضمر في نفسه أن يسخر منها. بعد أن أخذ رقمها وعنوانها أعطى التعليمات لسكرتيرته الخاصة بأن تُجهِّز مواد غذائيةً ومساعداتٍ أُخرى لهذه المرأة وتوصلها إليها، وقال للسكرتيرة: "إذا سألتك المرأة عن مصدر هذه المساعدات فقولي لها إنها من الشيطان!"، ولما وصلت السكرتيرة إلى منزل المرأة فرحت المرأة الفقيرة بهذه المساعدات؛ فسألتها السكرتيرة: "ألا تريدين أن تعرفي مصدر هذه المساعدات ومَن أرسلها لك؟"، أجابت المرأة المسلمة بجوابٍ رائعٍ إذ قالت: “لا أريد أن أعرف ولا أهتم بذلك؛ لأن هذا (فضل الله) الذي إذا أراد شيئاً فحتى الشياطين تُطيعه!!".

 

وفي القرآن الكريم كثيرةٌ هي الآيات التي ورد فيها ذِكر (فضل الله)؛ ومن ذلك يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، ويقول: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، ويقول: ﴿ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾، ويقول: ﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، ويقول: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾، ويقول: ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ويقول: ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾، ويقول: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾، ويقول: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ويقول: ﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، ويقول: ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.

 

ويقول العلماء إنه من (فضل الله) أن يسَّر -سبحانه وتعالى- لعباده طرق الخير التي تُسهِّل لهم طريق الجنة من غير مشقةٍ، وبارَك لهم في أعمال الخير بمُضاعفة الحسنات وتكفير السيئات بقليلٍ من العمل، وخصَّ -سبحانه- أعمالاً يسيرةً بثوابٍ جزيلٍ مُضاعَفٍ عنده؛ فالتوحيدُ دينُ الفِطرة وجزاءُ أهله الجنة؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ به شيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ]، و[من كان آخرُ كلامهِ لا إلهَ إلَّا اللهُ دخل الجنَّةَ]، وأثابَ -سبحانه- على فروعٍ في العباداتِ يتكرَّرُ عملُها في اليوم والليلة بتكفيرِ الخطايا وفتحِ أبوابِ الجِنان؛ ومن ذلك: [الطُّهورُ شطْرُ الإيمانِ]، و[السِّواكُ مَطهَرةٌ للفَمِ، مَرْضاةٌ للرَّبِّ]، و[مَن تَوَضَّأَ فأحْسَنَ الوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِن جَسَدِهِ، حتَّى تَخْرُجَ مِن تَحْتِ أَظْفَارِهِ]، و[من توضأ فأحسن الوضوءَ ثم قال: أشهد أن لا إله َإلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فُتحت له ثمانيةُ أبوابِ الجنةِ، يدخل من أيّها شاءَ]، و[مَن توضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ، ثمَّ صلَّى رَكعتينِ يُقبلُ عليْهِما بقلبِهِ ووجْهِهِ وجبَت لَهُ الجنَّةُ]، و[مَن تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إلى بَيْتٍ مَن بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِن فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إحْدَاهُما تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً]، و[مَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَقَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ]، و[مَنْ قالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، رَضِيتُ باللَّهِ رَبًّا وبِمُحَمَّدٍ رَسولًا، وبالإسْلَامِ دِينًا، غُفِرَ له ذَنْبُهُ]. ولفضلِ الصلاةِ وعُلُوِّ منزلتها، كان ثوابُ الأعمال فيها عظيماً؛ ومن ذلك: [مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ]، و[صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً]، و[مَن صَلَّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ]، ومن حافَظَ على صلاةِ العصر ضُوعِفَ له أجرُه مرتين؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذِه الصَّلَاةَ عُرِضَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فمَن حَافَظَ عَلَيْهَا كانَ له أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ]، و[مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ]، و[رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَما فِيهَا]، و[من صلَّى في يومٍ وليلةٍ اثنتي عشْرَةَ ركعةَ تطوعًا غيرَ فريضةٍ بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ]، وركعتان في الضُّحَى تُؤدِّي شُكرَ نعمةِ جميع مفاصِلِ الإنسان؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يُصْبِحُ علَى كُلِّ سُلَامَى مِن أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِن ذلكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُما مِنَ الضُّحَى].

جميع هذه الفضائل، مع الأذكار التي شُرعت صباحاً ومساءً ودُبر الصلوات، وغير ذلك من أعمالٍ، كلها لا تُمثل إلا جُزءاً يسيراً من (فضل الله) على عباده.

ثم ما أكرمك يا الله؛ فإن فضلك اتسع ليشمل مُجرد هَم العبد وعزمه على فعل العمل الصالح؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كُتِبَتْ له حَسَنَةً، ومَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَعَمِلَها، كُتِبَتْ له عَشْرًا إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، لَمْ تُكْتَبْ، وإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ].

 

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهَا إِلاَّ أَنْتَ]. ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: [اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ]. ومن دعائه إذا خرج من المسجد: [اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ].

 

أحبتي.. قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله؛ ألا تكفينا نعم الله -عزَّ وجلَّ- علينا؛ نعمة الإسلام، ونعمة الإيمان، ونعمة القرآن، ونعمة إرساله -سبحانه وتعالى- لنا النبي العدنان؟ إن (فضل الله) علينا كبيرٌ وعظيمٌ؛ فلنُخلص في عبادته على الوجه الذي يُرضيه عنا، ولنُصَوِّب أعمالنا لتكون موافقةً لسُنة رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- بغير زيادةٍ ولا نُقصان، ثم لتلهج ألسنتنا بالحمد والشُكر والثناء على صاحب كل هذه النعم والأفضال، ولندعوه ونسأله بإلحاحٍ أن يؤتينا من واسع فضله، وكريم عطائه، فإن خزائنه لا تنفد، وهو سبحانه ذو الفضل العظيم.

https://bit.ly/3HdhxPr

الجمعة، 3 يونيو 2022

القاسية قلوبهم

 

خاطرة الجمعة /346


الجمعة 3 يونيو 2022م

(القاسية قلوبهم)

 

‏حكت قصتها، وهي تبكي، قالت: "نشأتُ في أسرةٍ ميسورةٍ، بنتٌ وحيدةٌ وثلاثة إخوةٍ ذكورٍ أشقاء. سافرتُ للعمل بالخارج، وبقيتُ هناك سبع سنواتٍ، عانيتُ خلالها من كثيرٍ من المشاكل والصعوبات، حتى أُصبتُ بمرضٍ عُضال. كانت أمي تُرسل لي على سبيل المساعدة مبالغ بسيطةً وبعض الحُلي الذهبية التي كنتُ أبيعها لسداد تكاليف علاجي. كان أبي يمتلك بيتاً، أقنعته أمي أن يهبه لأخي الأكبر الذي قام بمراضاة إخواني الذكور، ولأني كنتُ مُغتربةً فلم يتذكروني بشيء. تُوفي أبي وتنفيذاً لوصيته تم بناء مسجدٍ باسمه. عُدتُ من بلاد الغُربة إلى وطني لأجد جميع إخوتي قد تحسنت أوضاعهم المادية؛ حيث اشتروا أراضي واستثمروا ما نالوه من هبة أبي قبل موته ومن ميراثه بعد وفاته، بل ووجدتهم يتقاسمون معاشاً شهرياً كبيراً عن والدي المُتوفى. وفوجئتُ بأن أمي وهبت هي الأخرى كل ما تملك لأخي الصغير كي يتصدق على الفقراء ويقوم ببناء مسجدٍ باسمها بعد وفاتها. حين طلبتُ حقي في إرث أبي من أخي الأكبر الذي صار مليونيراً، قال لي إن أمي أخبرتهم أنها أعطتك حقك وأكثر بما كانت تُرسله لك في الغُربة، وعندما طلبتُ منه مساعدةً ماليةً تُعينني على مصاريف الدراسة لأبنائي، قال لي أنت غير مضطرةٍ أن تُدخلي ابنتك الجامعة، ولا أن يدرس ابنك في مدرسةٍ خاصة. أنا الآن مريضةٌ، أعاني نفسياً ومادياً، لا أجد ما يسد احتياجاتي أنا وأبنائي، يتملكني الخوف كلما اقترب موعد دفع الإيجار الشهري لشقتي المتواضعة، أدعو الله كل يومٍ أن يُؤَّمِن لي قوتي وقوت أولادي، وأحمده وأشكره على تمام الستر ونعمة الذِكر، أدعو لنفسي ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إلا أبي وأمي وإخوتي، لا تطاوعني نفسي في الدعاء لهم؛ لظُلمهم لي فهُم من (القاسية قلوبهم)، ثم تغلب علىّ طيبتي فأدعو لهم لوجه الله".

وهذه امرأةٌ أخرى تحكي عن غدر شقيقها بها بعد وفاة والديها: "كان أخي يُعايرني لأني وصلتُ إلى سن 36 سنةً ولم أتزوج، رغم أني كنتُ أصرف عليه وعلى أولاده، ولم أُقصِّر معه يوماً، ولا طالبته بحقي في أموال أبي الذي كان يستحوذ عليها ويُخفيها في حسابه البنكي، لكني اكتشفتُ أن أهل زوجي قايضوا شقيقي مقابل مبلغٍ لتزويجي لابنهم المريض نفسياً والعاجز، بالإضافة للاتفاق معه على التحايل عليّ للتنازل عن حقي في ميراثي من والدي أثناء عقد القران".

 

أما هذه فإن أهلها أجبروها على إقامة دعوى خُلعٍ من زوجها بعد زواجٍ استمر لمدة 14 عاماً نتج عنه ثلاثةٌ من الأبناء، لمجرد أنه تجرأ وطلب من أهلها الإقرار بميراث زوجته من أبيها الذي تُوفي منذ عامين تاركاً لها ولأشقائها ميراثاً كبيراً، ومطالبته بإعطائها حقها في هذا الإرث. وقالت إن عادات وتقاليد القرية التي تعيش بها تمنع الإناث من الحصول على حقهن في الميراث، وتُعتبر مطالبة المرأة بحقها فيه بمثابة خروجٍ عن طاعة العائلة، مما دفع أهلها إلى اتهام زوجها بالنصب وبالتحريض على مخالفة العادات والتقاليد، وطالبوها بترك الزوج وإقامة دعوى خُلع.

 

وهذه وقفت أمام المحكمة تُطالب بحقها الشرعي في الميراث من زوجها بعد زواجٍ دام لأكثر من عشر سنوات كانت له خلالها ممرضةً وزوجةً وأماً لأولاده، سهرت على تربيتهم، وفي النهاية غدر بها وألقى عليها يمين الطلاق وهو يحتضر؛ حتى لا تُشارك أولاده في الميراث.

 

وهذه تستغيث مما حدث لها بعد وفاة زوجها وطرد أولاده لها، بعد علمهم بحملها بالولد، خوفاً من أن يُشاركهم وإياها مال والدهم. تحكي قصتها قائلةً: "أجبرني أهلي على الزواج بعد بلوغ سن الثلاثين دون زواجٍ، بحُكم إقامتنا بقريةٍ تتهكم على العوانس، بعدها عشتُ معه خمس سنواتٍ أرعاه وأرعى أولاده، ولكن عندما اشتد المرض به وعلم أولاده بحملي بولدٍ صاروا من (القاسية قلوبهم) فطردوني حتى لا يكتب زوجي لي مالاً يؤَّمِن به مستقبل صغيره، وبعد وفاته رفضوا دخولي المنزل وإعطائي حقوقي الشرعية".

 

وهذه زوجةٌ تقص مأساتها؛ تشكو ظلم أولاد شقيقتها وزوجها المتوفى قائلةً: "ضحيتُ بحياتي من أجل أولاد شقيقتي المُتوفاة، وتركتُ خطيبي الذي أُحبه قبل زواجنا بعشرة أيامٍ، وتزوجتُ والدهم حتى أسهر على رعايتهم حفاظاً على وعدي لشقيقتي الوحيدة، وتلبيةً لرغبة والدتي المريضة، وعشتُ برفقتهم سنواتٍ إلى أن تُوفي زوجي، بعدها رفض أبناؤه رد المعروف لي وعاملوني بشكلٍ سيئ؛ اغتصبوا حقي في الميراث، رغم ما فعلتُ من أجلهم وما تحملته من إهانةٍ ومعاملةٍ سيئةٍ من والدهم، وكيف ضحيتُ بحياتي وسعادتي من أجل تربيتهم".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى في ذم آكلي الإرث: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا﴾، يقول المفسرون إن المعنى هو: وتأكلون أيها الناس الميراث أكلاً لمًّا، يعني: أكلاً شديداً لا تتركون منه شيئاً؛ ذلك أن أهل الجاهلية كانوا من (القاسية قلوبهم) الذين يظلمون الضعيف ويأكلون ماله، فلا يورثون النساء ولا الصبيان، ويأكلون نصيبهم.

 

يقول علماء الشريعة إن قضية الحرمان من الإرث أو التحايل على أكله هي من المواضيع الهامة التي تُعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية؛ فكم من امرأةٍ حُرمت من ميراثها، وكم من يتامى أُكلت حقوقهم، وكم من ضُعفاء لم يجدوا لهم ناصراً، ومما يزيد من الألم ويفجع الفؤاد أن يكون الظلم من الآباء والأمهات والإخوة؛ ولله در الشاعر إذ يقول:

وظلمُ ذوي القربى أشدُ مضاضةً

على النفسِ من وقعِ الحسامِ المُهندِ

إن أكل الإرث ظلمٌ فادحٌ، وقد حرّم الله عزَّ وجلَّ الظلم على نفسه، وحرّمه على عباده؛ كما في الحديث القدسي: {يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا}، وتوعد الظالمين بالعذاب؛ يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.

إن الميراث هو وصية الله تعالى لعباده بيّنه سبحانه بدقةٍ وإحكامٍ مدهشين، وأوصانا بتنفيذه، ووصيَّة الله في الميراث واجبة التنفيذ، قالها سبحانه بصيغة الفعل المضارع ﴿يُوصِيكُمُ﴾ للدلالة على التجدُّد والاستمرارية، وفي ذلك إشارةٌ واضحةٌ إلى الاهتمام البالغ منه سبحانه باستمرار تقسيم الميراث على التفصيل الذي أورده في كتابه الكريم، دون تبديلٍ ولا تغيير.

وآكل الميراث -إلى جانب مخالفته لما أوصى به الله سبحانه وتعالى- فهو مخالفٌ لسُنة النبي كذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اللهم إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ].

ومن الأسباب التي تجعل الإنسان يأكل الميراث ويتعدى حدود ما أنزل الله تعالى: ضعف الإيمان؛ فآكل الميراث ضعيف الإيمان، وإن صلى وصام وقرأ القرآن؛ لأنه تَشبهَ بأعداء الله الذين أخبر الله تعالى عنهم: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، فالله تعالى أمرهم ولكنهم قالوا سمعنا وعصينا، وآكل الميراث إن لم يقلها بلسانه فهو يقولها بأفعاله وجحوده لحقوق الورثة. كذلك فإن طمع الأقارب في ميراث المرأة سببٌ آخر؛ فكثيرٌ من أكلة المواريث هُم من (القاسية قلوبهم) الذين أصابهم الجشع والطمع فجحدوا حق الورثة، والطمع جمرةٌ لا تحرق إلا صاحبها في الدنيا والآخرة.

كما أن التقاليد والعادات القبلية الجاهلية سببٌ لحرمان النساء من الميراث؛ فبعض الناس يفعل ذلك لعاداتٍ ورثها عن آبائه وأجداده، لا يورثون البنات ويجحدون حقوقهن، وهذه من عادات أهل الجاهلية؛ يقول تعالى في ذمهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾.

وعن عقوبة آكل الميراث يوضح علماؤنا أن أمرها ليس باليسير؛ فآكل الميراث متعدٍ لحدود الله منتهكٌ لحرماته، والله سبحانه بعد أن بين أنصبة الوارثين يقول: ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ لكونه غيَّر ما حكَم الله به، وضادَّ الله في حُكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسَم الله وحَكَم به؛ ولهذا يُجازيه الله سبحانه وتعالى بالخلود في النار وبالعذاب المهين. ولا شك أن مَن منعَ امرأةً -أختاً كانت أم أُماً أم جدةً أم زوجةً- ميراثها فقد ‏تعدى حدود الله، وعرَّض نفسه للعقوبة.

وآكل الميراث قاطعٌ لأرحامه، والله تعالى يُجازي أهل القطيعة بالقطيعة في الدنيا والآخرة، والجزاء من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾. وقال النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا من ذَنْب أَجْدَر أَن يُعجَل لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ] يعني قاطع رحم، وبهذا فإن آكل الميراث، ولأنه قاطعٌ لرحمه، يُجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وإن كان التعدي على المواريث بصفةٍ عامةٍ جُرماً عظيماً وإفكاً مُبيناً، فإنه إذا كان المُتعدَى عليه يتيماً كان الوزر أكبر وأشد؛ يقول تعالى: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾، والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثمٌ عظيمٌ وخطأٌ كبيرٌ فاجتنبوه. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾، وهذا تصويرٌ لضرر أكل الميراث؛ فآكله يكون كمن يأكل النار ويضعها في بطنه فهو في ألمٍ دائمٍ حتى يهلك، أما العقاب الذي ينتظره في الآخرة فهو ممن ﴿سَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ أي ستوقد بهم نارٌ شديدة الأُوار، يستمرون في بلاءٍ شديدٍ منها.

ويُعد في حُكم آكل الميراث، من يُماطل في تسليمه لمن يستحقه شرعاً أياً كانت ذرائعه، ولا يُستثنى من ذلك إلا كون المستحق للإرث غير أهلٍ لاستلام إرثه والتصرف فيه.

 

أما علماء الاجتماع فيرون أن حرمان المرأة من الإرث قضيةٌ مُعقدةٌ ومُتشعبةٌ، تنتشر غالباً في المجتمعات التي تقل فيها نسبة التعليم. وهي قضيةٌ لها آثارٌ اجتماعيةٌ وخيمةٌ؛ منها: التفكك الأسري، وارتفاع نسب الطلاق. وهي قضيةٌ تحتاج إلى التوعية ومُضاعفة الجهود للقضاء على العادات والتقاليد التي ما زالت مسيطرةً على عقول البعض الذين ينظرون للمرأة نظرةً دونيةً؛ فهي الضعيفة التي يُمكن أن يُهضم ويُسلب حقها بسهولةٍ دون أي رادعٍ أخلاقيٍ أو محاسبةٍ قانونية؛ فترى مشاعر التردد والخوف والخجل تنتاب المرأة في مجتمعنا قبل المُطالبة بحقها الشرعي بالميراث، وغالباً ما تُحرم منه عنوةً تحت ذرائع واهيةٍ. إن العادات والتقاليد البعيدة عن الدين تُعرِّض المرأة لضغوطٍ خفيةٍ حيناً وجليةٍ أحياناً أخرى من أجل التخلي عن ميراثها لصالح الذكور، وعندما ترفض المرأة ذلك تُعامل كمسيئةٍ لسمعة الأسرة وخارجةٍ عن المألوف. والمُلفت للنظر أن بعض الأُمهات يكون لهن دورٌ مؤثرٌ في حرمان بناتهن من الميراث، كأنهن يستكثرن أن تنال بناتهن حقاً حُرمن هُن منه!

 

أحبتي.. نداءٌ من القلب أوجهه إلى كل آكل إرثِ امرأةٍ أو يتيمٍ، أباً كان أو أُمّاً أو أخاً أقول له: اتقِ الله، وبادر إلى إعادة الحقوق إلى أصحابها، إلا تفعل تكن في خطرٍ عظيمٍ؛ لن تُفلح أبداً في دُنياك، وعذابٌ عظيمٌ في انتظارك في الآخرة، سارع إلى توبةٍ نصوحٍ؛ فأنت لا تعرف متى يوافيك الأجل المحتوم، إذا تُبتَ قبله توبةً صادقةً مخلصةً فستكون من الفائزين وعفى الله عما سلف، وإن لم تُدرك نفسك قبل ذلك فويلٌ لك من الحسرة والندم وقت لا يفيد الندم. وأقول للإخوة الذكور الذين قد يتحججون بأنهم لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً وأن الأمر كله راجعٌ للأب أو الأُم: إن حصولكم على إرث أخواتكم البنات لا يعطيكم الحق في الاستفادة منه، بل أنتم شركاء في الإثم إن لم تُبادروا إلى رد حقوق أخواتكم إليهن. وأقول لكل آكل ميراث: اشترِ نفسك اليوم قبل الغد؛ فما ارتكبته من جُرمٍ هو عند الله عظيم ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾، واحذر أن تكون من (القاسية قلوبهم) الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

https://bit.ly/3Nj2FRM

الجمعة، 27 مايو 2022

اغتنام الفرصة

 

خاطرة الجمعة /345


الجمعة 27 مايو 2022م

(اغتنام الفرصة)

كتب يقول: مررتُ بتجربة جهاز الرنين المغناطيسي وكدتُ أموتُ من صُعوبتها؛ إنه أشبه بتابوتٍ للموت المؤقت. الذي لم يُجرب هذا الجهاز فهو في نعمةٍ. بدأ الأمر بتعبٍ مفاجئٍ دخلتُ بعده في دوامةٍ من مراجعة الأطباء والأشعات والتحاليل، وكان لي وقفةٌ مع جهاز الرنين المغناطيسي المُغلق؛ تجربةٌ حياتيةٌ إذا مررتَ بها فلن تخرج بعدها كما دخلتَ، قلباً وشعوراً؛ 40 دقيقةً وأنتَ مُستلقٍ على ظهرك، داخل مكانٍ مُظلمٍ ضيقٍ وبارد، لا يتحرك منك أي شيءٍ، صَمتٌ لا يقطعه إلا ضجيج الآلات، لا تفتأ حينها تستحضر فكرة المآل الأخير، وتستشعر شيئاً من تفاصيله. كنتُ أظن الأمر سهلاً لا يستحق التهويل والمبالغة، فدخلتُ، ولم يمضِ من الوقت إلا شيءٌ يسيرٌ أظنه 10 دقائق، إلا وإذا بوحشةٍ شديدةٍ تجتاحني، ما شعرتُ بها في عُمري كله، نفد صبري، وضاقت نفسي التي بين جنبيّ وأنا أواجهها، فكرتُ في عملي وما قدّمتُ لحياتي؛ فعزمتُ أن أقرأ ما تيسر لي مما أحفظ من القرآن كي أُهدئ من روعي، وأنا مستلقٍ لا أسمع ولا أرى أي شيءٍ، فبدأتُ مُستعيناً باللّه بالفاتحة ثم بسورة البقرة، وعندما وصلتُ إلى منتصف الجزء الثاني، إذا بحفظي يتهاوى ويتداخل، ونسيتُ الآياتِ، حيلتي عاجزةٌ؛ لا مصحف أعود إليه، ولا سبيل لمراجعة ما أحفظ أبداً! اعتراني خوفٌ شديدٌ لا يعلم به إلا اللّه، وما استشعرتُ حينها شيئاً إلا لحظة الموت ومآلي إلى القبر، وتخيلتُ نسياني هناك ما أحفظ من القرآن. يا حسرةً! حفرةٌ ضيقةٌ أكثر، بقائي فيها مُضاعفٌ، دهراً طويلاً إلى أن يشاء اللّه، لا أنيس لي فيها ولا سعةً إلا بعملي، ولا عودةً لتصحيح ما مضى!

أخذتُ أتأمل: إن كان هذا أمري الآن، فكيف بيوم العرض الأكبر أمام رب العالمين؟ كيف لي أن أقف في مصافّ الحُفاظ، يقرأون ويرتلون ويرتقون في مراتب الجنة، بينما أنا غافلٌ لاهٍ قد وهبني اللّه القرآن ثم فرّطتُ فيه في حياتي أيما تفريط، وأهملتُ معاهدته فتفلّت مني؟ حسرةٌ تُساوي العمر كله! خرجتُ من هناك، وركبتُ سيارتي، وعندما وصلتُ إلى بيتي أسرعتُ إلى مُصحفي، أمسكتُ به، احتضنته وأنا أدافع العبرات، وأتحسس ملمسه ككنزٍ ثمينٍ فقدته طويلاً، استشعرتُ حينها أن مرضي، والتشخيص، والفحوصات، والأشعة كلها ما كانت إلا لأعيش تلك اللحظة. أيقنتُ أنها البداية الحقيقية، وأن عُمري الحقيقي قد بدأ الآن.

 

أحبتي في الله.. كانت هذه تجربةً شخصيةً مرّ بها كاتب القصة، ولعل غيره مرّ بها كذلك، والدرس المستفاد منها هو أهمية الاستعداد للرحيل، فالموت علينا حقٌ، لا مفر منه ولا مهرب؛ وإن كان نهايةً لحياتنا في الدنيا، فإنه بدايةٌ لحياةٍ أخرى، دائمةٍ وأبديةٍ، حياةٍ إذا قدمنا لها ما أمرنا الله به كانت نعيماً مُقيماً وجنةَ خُلدٍ فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ فإذا أردنا الفوز بالجنة علينا أن نعمل ونعمل، ولا نُضيع أوقاتنا في سفاسف الأمور، وليكن شعارنا (اغتنام الفرصة)؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: [اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ]، ولنتخير -إلى جانب العبادات المفروضة- أعمالاً يسيرةً عظيمةَ الأجرِ نرفع بها درجتنا في الجنة؛ فما هي يا تُرى تلك الأعمال؟

نجد الإجابة عن هذا السؤال في الحديث الشريف التالي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [لَقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسْريَ بي فقالَ: يا محمَّدُ، أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ وأخبِرْهُم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ]. فيا لها من فرصةٍ ينبغي علينا اغتنامها، طالما أننا مازلنا في هذه الدنيا، فنستكثر من الغرس في الجنة، ونضاعف الأجر والثواب بأن ندلّ أهلنا وأحبابنا على فضل قول "سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ"؛ فكلما قالها واحدٌ منهم، غُرِست له شجرةٌ في الجنة، وغُرست لنا مثلها.

 

يقول أهل العلم إن وقتنا محدودٌ؛ فأيامنا تمضي مسرعةً، تمر السنة كأنها شهرٌ، ويمر الشهر وكأنه أسبوعٌ. أجلنا مُسمىً، وأعمالنا قاصرةٌ، وأمانينا خادعةٌ، وآمالنا سراب. لذا فإن (اغتنام الفرصة) هو اختيار الأذكياء، لا تمر فرصةٌ إلا اقتنصوها، وإن لم تمر بادروا إلى صُنعها وإيجادها والإفادة منها، همهم منصرفٌ إلى ترك الأثر وكسب الثواب ومضاعفة الأجور. إنهم في سباقٍ دائمٍ مع الزمن، يعلمون أن الوقت ثمينٌ وهو رأس مال الشخص، وضياعه يعني ضياع أهم ما نملك، ضياعه يعني ضياع العمر.

 

قال أحد الصالحين: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي". وقال آخر: "يا ابن آدم، إنما أنت أيامٌ، إذا ذهب يومٌ ذهب بعضك، يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسِن إليه، فإنك إن أحسنتَ إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأتَ إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلتك". وقال ثالثٌ: "الدنيا ثلاثة أيامٍ؛ أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه". أما الرابع فقال: "مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ، أَوْ حَمْدٍ حَصَّلَهُ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ، أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ، فَقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ". وقال غيرهم: إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها". هكذا فهم العقلاء حالهم مع الدنيا، وعملوا على (اغتنام الفرصة) وكسب الوقت مدركين أنهم مثلهم مع الدنيا؛ مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها].

 

فلنُشمِّر عن سواعد الجد ولا نُضيّع أوقاتنا فيما لا نفع فيه، ولمن يتعلل بكثرة المشاغل وقلة الوقت، نقول له: إن الدقيقة من الزمن يُمكن أن يُفعل فيها خيرٌ كثيرٌ ويُنال بها أجرٌ كبيرٌ، دقيقةٌ واحدةٌ فقط يُمكن أن تزيد في عطائك، في فهمك، في حفظك، في حسناتك، دقيقةٌ واحدةٌ تُكتب في صحيفة أعمالك إذا عرفتَ كيف تستثمرها وتُحافظ عليها؛ ففي دقيقةٍ واحدةٍ تستطيع أن تقرأ سورة الفاتحة 3 مرات، أو أن تقرأ سورة الإخلاص 20 مرة. ويمكن أن تقول "سبحان الله وبحمده" 100 مرة، أو تقول "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" 50 مرة، أو تقول "لا إله إلا الله" 50 مرة، أو تقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" 40 مرة، أو تقول "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على شيء قدير" 20 مرة، أو تقول "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 20 مرة، أو تقول "سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" 15 مرة، أو تقول حين تسمع النداء "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته"، ولن يستغرق ذلك أكثر من دقيقةٍ واحدةٍ.

 

لابد من (اغتنام الفرصة)؛ فلا تُضيّع الوقت، استفد من دقائق الفراغ في أي مكانٍ: في منزلك أو مقر عملك، في المصرف، في المستشفى، في انتظار إنهاء مُعاملة، وأنت تسير على قدميك، وأنت تقود سيارتك، وأنت في وسيلةٍ من وسائل المواصلات. وفي أي وقتٍ: صباحاً أو مساءً، ظُهراً أو عصراً، دُبر الصلوات، بعد الاستيقاظ أو قبل النوم. وعلى أية هيئةٍ: واقفاً أو جالساً أو مُضجعاً. فذِكر الله من أجلّ العبادات وأشرفها، وهي عبادةٌ لا تتطلب وضوءاً ولا طهارةً، ولا يُشترط لها استقبال القبلة، وليس لها وقتٌ مُحددٌ، تُقال سراً وعلانيةً، يقولها الكبير والصغير، الصحيح والمريض، الغني والفقير، لا تُكلف مالاً ولا جُهداً، سهلةٌ وميسرةٌ للجميع، وثوابها عظيمٌ بإذن الله.

قال الشاعر عن أهمية الدقائق في حياة الإنسان:

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ

إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني

فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها

فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني

العمر فرصةٌ لا ضمان لبقائها، ومن الواجب (اغتنام الفرصة) التي لا تُعوض؛ حتى لا يكون من بيننا من يقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيكون الرد: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. ولا يكون منا من يقول: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾، ولا من يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، ولا من يقول: ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾. ولا من يصف الشاعر حاله فيقول:

إلهي لَقدْ أعْطَيتني الفُرصَةَ الكُبْرى

لكَ الحَمدُ رَبي حينَ أعْطيتَني العُمْرا

وهلْ مِثلُها مِنْ فُرْصَةٍ ذَهَبيةٍ

تُبَلغني المَجْدَ الذي يَرفَعُ الذِكْرا؟

ولكنْ لِفَرطِ الجَهْلِ مِني أضَعْتُها

ولَمْ أنتفعْ بالعُمرِ دُنيا ولا أُخْرى

وهلْ حَسْرةٌ في الدَهْرِ تُشْبِهُ حَسْرتي؟

وهلْ مِثلُ خُسْري في الحَياةِ ثَرىٌ خَسِرا؟

وهلْ فُرْصَةٌ كالعُمرِ ضَيعْتُها سُدَىً؟

وهلْ ثَرْوَةٌ كالوَقتِ قدْ ذَهَبتْ هَدَرا؟

 

ما دام في العمر بقيةٌ، وما دُمنا ما زلنا في دار الابتلاء والاختبار، ومع اهتمامنا بالدنيا التي نحن مأمورون بإعمارها والمشي في مناكبها، علينا أن ننتهز كل فرصةٍ متاحةٍ لاكتساب مزيدٍ من الحسنات تكون لنا رصيداً في الآخرة، إنها موازنةٌ مطلوبةٌ بين الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

 

وعن (اغتنام الفرصة) قال الشاعر:

اغتنمْ ركعتين إلى الله

إذا كنتَ فارغاً مُستريحاً

وإذا هممتَ بالنطقِ بالباطلِ

فاجعل مكانَه تَسبيحاً

فاغتنامُ السكوتِ أفضلُ من خوضٍ

وإنْ كنتَ بالكلامِ فصيحاً

 

ورد في الأثر أن «الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ» فليُظهر كلٌ منا كياسته وفطنته في اقتناص فرصة العُمر، والإكثار من ذِكر الله سبحانه وتعالى، ولنتأمل أين وردت كلمة "كثيراً" في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ لم ترد إلا مع ذِكر الله، فما ألطفك ربنا وما أرحمك وأكرمك، يسرّتَ لنا العبادة، ومننتَ علينا بالمغفرة والأجر العظيم. ويُروى أن رجلاً قال: يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به؛ فقال عليه الصلاة والسلام: [لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ].

 

أحبتي.. نُقل عن أحد الصحابة قوله: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". ونُقل عن غيره: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، يقول العلماء إنّ الجزء الأول من هذه المقولة له وجهٌ مقبولٌ إذا فُهم على أنه دعوةٌ إلى الأخذ بالأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق، والاهتمام بعمارة الأرض فيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، أما الجزء الثاني من ذات المقولة فيعني: بادر بالعمل، ولا تتهاون، وقدِّر كأنك تموت غداً، بل قدِّر كأنك تموت قبل غد؛ لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت، وفي هذا ترغيبٌ في الآخرة، واتخاذ الدنيا مزرعةً وسبيلاً إليها، ويكون الثواب يوم الحساب بقدر ما نُقدم من أعمال الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا﴾.

نسألك اللهم قلباً حياً ونفساً مطمئنةً وعملاً صالحاً ترضاه، وخاتمةً حسنةً، ونجاةً من النار، وفوزاً بالجنة. ونسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

 

https://bit.ly/3t1Re8X

الجمعة، 20 مايو 2022

حُسن الخاتمة

 

خاطرة الجمعة /344


الجمعة 20 مايو 2022م

(حُسن الخاتمة)

 

تم تعيين أحد أبنائها -قبل أسبوعٍ من وفاتها- في وظيفةٍ جديدةٍ فأبت عليه إلا أن يبدأ بعُمرةٍ قبل أن يُباشر وظيفته، وطلبت أن تصحبه وكان لها ذلك. رأت قبل رحلتها للعُمرة بأيامٍ رؤيا فأخبرت ابنتها أنها رأت رؤيا خيرٍ، وأن رؤياها إنْ صدقت فستعرفونها بعد أيامٍ قليلة، ولم تُخبرها شيئاً. ألقت قبل وفاتها بخمسة أيامٍ درساً عن الموت، وتحدثت فيه عن العزاء وأحكامه والبدع التي أحدثها الناس في العزاء، بحضور قريباتها، وكأنما شعرت باقتراب أجلها. وتذكر ابنتها أنّ لأمها مصلىً خاصاً فيه سجادةٌ لا تكاد تُطوى، وقبل سفرها مع ابنها للعُمرة طوت سجادتها -على خلاف العادة- ولما استغربت ابنتها من ذلك، ألحت الأم بأن ترفع سجادتها.

ولما همت بالخروج إلى المطار ودّعت أبناءها وزوجها ورفعت يديها إلى السماء ودعت لزوجها وأكثرت وهي تقول: "جزاكَ الله عني خير الجزاء؛ فقد يسّرتَ لي أن أدعو لربي، ولا حرمكَ الله أجري حيث لم تحرمني من الدعوة في سبيل الله"، وألحت بالدعاء ربع ساعةٍ وهو يسمعها. وصلت مع ابنها وابنتها إلى المسجد الحرام في الثُلث الأخير من الليل، وطافوا، وكانت تُلح بالدعاء أن تأتيها منيتها في هذا المكان الطاهر. وشرعوا بعد ذلك في السعي، وفي مُنتصف السعي نادى مؤذن المسجد الحرام لصلاة الفجر فقالت لابنها وابنتها: "سنُصبح صائمين؛ فاليوم خميس" فأصبح الثلاثة صائمين. ولما صعدت للصفا في بداية الشوط الخامس، وبين الأذان والإقامة في أشرف زمانٍ وأطهر مكانٍ، وهي صائمةٌ، وقد استقبلت القبلة، رفعت يديها داعيةً في بداية الشوط، وابنتها تقف بجانبها، تقول ابنتها: "لم أنتبه إلا ووالدتي قد خرّت ساجدةً لله تعالى، انتظرتها لتقوم من سجدتها؛ فقد ظننتُ أنها وافقت آية سجدةٍ في دُعائها فسجدت، فلما طالت سجدتها نبهتها فلم تنتبه، حاولتُ أن أقيمها فكأنما سعلت مرتين بلطفٍ ثم سقطت على الأرض، جاء الطبيب فكشف عليها سريعاً، وقال لقد فارقت الحياة".. فيا الله ما أحسنها من خاتمة.. في خير أرض الله، وهي صائمةٌ تؤدي مناسك العمرة.

هذه قصة «أم وليد» الداعية المعروفة في «الرياض»، رحمها الله في الحرم، وكانت تدعو الله كثيراً في محاضراتها أن يتوفاها الله تعالى وهي تُلقي درساً أو في بيته الحرام؛ فأجاب الله دعاءها.

 

أحبتي في الله.. عن (حُسن الخاتمة) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أراد اللهُ عزَّ وجلَّ بعبدٍ خيرًا عسَّلهُ، وهل تَدْرونَ ما عسَّلهُ؟]، قالوا: اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُهُ أعلمُ، قال: [يفتَحُ اللهُ عزَّ وجلَّ له عملًا صالحًا بيْنَ يَدَيْ موْتِهِ حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام في ذات المعنى: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ] فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: [يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ].

 

يقول العلماء أن (حُسن الخاتمة) هو أن يوفق العبد قبل موته للبُعد عما يُغضب الله سبحانه وتعالى، وأن يُسارع إلى التوبة من الذنوب والمعاصي، وأن يُقبل على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.

وقالوا إنّ لحُسن الخاتمة علاماتٍ؛ منها ما يعرفه العبد عند احتضاره، ومنها ما يظهر للناس. أما العلامة التي يظهر بها للعبد حُسن خاتمته فهي ما يُبشَر به عند موته من رضا الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ] وأوضح ذلك بقوله: [المُؤْمِنُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ]؛ فالمذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية المصير إلى الله والدار الآخرة؛ يقول تعالى عن هؤلاء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، أما محبة العبد للقاء الله فهي في إيثاره الآخرة على الدنيا؛ فلا يُحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها.

ومن علامات (حُسن الخاتمة) النُطق بالشهادتين عند الموت، والموت ليلة الجمعة أو نهارها، والشهادة في سبيل الله، والموت بمرض الطاعون أو بداءٍ قد أصيب بالبطن، أو بالغرق، أو بالهدم، أو بالحرق، وموت المرأة أثناء فترة النفاس، والموت أثناء الدفاع عن النفس أو المال أو الدين، وموت المُرابط في سبيل الله تعالى، والموت أثناء القيام بعملٍ من الأعمال الصالحة التي تُرضي الله.

ويُجمل أهل العلم أسباب (حُسن الخاتمة) في:

الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وحُسن الظن بالله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي]. والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. والصدق؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. والتوبة؛ يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والمداومة على الطاعات.

 

يقول أحدهم عن (حُسن الخاتمة) ليس المقصود أن تكون داعيةً لله، أو أن تموت وأنت في المسجد أو على سجادة الصلاة، أو تموت والمُصحف بين يديك؛ فقد مات خير البرية جمعاء صلى الله عليه وسلم وهو مُسندٌ على صدر زوجته، ومات الصديق أبو بكر رضي الله عنه -وهو خير الصحابة- على فراشه، وكذلك مات خالد بن الوليد على فراشه وهو المُلقب بسيف الله المسلول والذي خاض مائة معركةٍ لم يخسر أياً منها. أهم ما في (حُسن الخاتمة) أن تموتَ وأنت على الكتاب والسُنة، وأنت بريءٌ من الشرك والنفاق ومن كل بدعةٍ. (حُسن الخاتمة) أن تموتَ وأنت خفيف الحِمل من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، مؤدياً حق الله عليك وحق عباده عليك. وأن تموتَ سليم القلب طاهر النوايا حَسِن الأخلاق؛ لا تحمل غلاً ولا حقداً ولا ضغينةً لمسلم. (حُسن الخاتمة) أن تُصلي خمسك في وقتها مع الجماعة -لمن لهم حق الجماعة- وتؤدي ما افترضه الله عليك من زكاةٍ وصومٍ وحجٍ إن استطعتَ إليه سبيلاً، واصلاً رحمك، غير ظالمٍ لأحدٍ، وغير مُعينٍ لظالمٍ، مُحسناً ظنك بالله.

 

ولله دَّرُّ الشاعر حين قال:

يا عالمَ الغيبِ! ذَنْبي أنتَ تَعْرِفُه

وأنتَ تَعْلَمُ إعْلاني وإسْراري

وأنتَ أدْرَى بإيمانٍ مَنَنْتَ بِهِ

عَلَيّ ما خَدَشَتْهُ كُلُ أوْزاري

أحْبَبْتُ لُقْياكَ حُسْنُ الظنَِ يَشْفَعُ لي

أيُرْتَجَى العَفْوُ إلاّ عِندَ غَفَّارِ؟

 

أحبتي.. ليسأل كلٌ منا نفسه: "ماذا فعلتُ حتى أحظى بحُسن الخاتمة؟"، ولتكن إجابتنا عمليةً وفوريةً بغير تأجيلٍ ولا تسويفٍ ولا إبطاءٍ؛ فنُلزم أنفسنا بطاعة الله وتقواه ما استطعنا، ونبتعد عن ارتكاب المُحرمات، ونُبادر إلى التوبة من كل ما يُغضب الله عزَّ وجلَّ، ولنجعل لأنفسنا خبيئةً بيننا وبينه سبحانه وتعالى، كما أنّ علينا أنْ نُلّح في الدعاء أنْ يستعملنا عزَّ وجلَّ ويُعسِّلنا ويتوفانا على الإيمان والتقوى والعمل الصالح.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، واكتب لنا (حُسن الخاتمة) واجمعنا بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

 

https://bit.ly/3sMJHe4