الجمعة، 5 أبريل 2024

ففروا إلى الله

 خاطرة الجمعة /441

الجمعة 5 إبريل 2024م

(ففروا إلى الله)

 

هذه قصة توبة سائق سيارةٍ بعد مشاهدته لحادثٍ وقع أمام عينيه؛ يروي هذا الشاب قصته فيقول:

كنتُ أعمل سائقاً للمسافات الطويلة، وكان خط سيري بين «جدة – المدينة» وبالعكس.. وبالجهد والكفاح استطعتُ -بفضل الله- أن أشتري سيارةً أعمل عليها، وكان العمل يشتد في مواسم: رمضان، والحج، وعطلة الربيع.. وأنا لا أستطيع أن أواصل الليل بالنهار لأني كنتُ أحلم بالحياة الوردية -كما يقولون- مما أدى بي إلى استعمال الحبوب المنبهة؛ فأصبحتُ أواصل السهر والسفر من ثلاثة أيامٍ إلى خمسة أيامٍ دون نوم. بقيتُ على هذه الحال ما يقرب من سنتين، جمعتُ خلالهما مبلغاً كبيراً من المال، وذات يومٍ فكرتُ في الراحة فصممتُ على أن تكون هذه الرحلة آخر سفريةٍ وبعدها أرتاح من هذا العناء. وكانت إرادة الله فوق كل شيء. ركب المسافرون السيارة، وخرجنا من مدينة «جدة» وقطعتُ مسافةً لا بأس بها، وإذا بي أفاجأ بسيارةٍ تمر من جواري تسير بسرعةٍ جنونيةٍ، أحسستُ بداخلي بأن أمراً ما سوف يحدث.

وبالفعل ما هي إلا لحظاتٌ حتى رأيتُ السيارة المذكورة وهي تنقلب أمامي، ومع انقلابها كنتُ أرى أشلاء السائق وجثته تتقطع وتتطاير في الهواء. هالني المنظر؛ فلقد مرّت بي حوادث كثيرةٌ ولكن هذا الذي رأيتُ كان فوق تصوري. وجُمتُ للحظاتٍ أفقْتُ بعدها على صوت بعض المسافرين وهم يرددون: "لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون". قلتُ في نفسي: "كيف لو كنتُ مكان هذا الشاب؟ كيف أقابل ربي بلا صلاةٍ ولا عبادةٍ ولا خوفٍ من الله؟"، أحسستُ برعدةٍ شديدةٍ في جسمي ثم لم أستطع قيادة السيارة إلا بعد ثلاث ساعاتٍ، بعدها أوصلتُ الركاب إلى «المدينة» ثم عدتُ إلى «جدة» وفي الطريق أديتُ صلاة المغرب، وكانت أول صلاة أصليها في حياتي، وقرأ الإمام فيها الآية الكريمة من سورة الذاريات (ففروا إلى الله) أحسستُ أنها رسالةٌ إلهيةٌ موجهةٌ لي شخصياً. دخلتُ إلى منزلي، وقابلتني زوجتي، فرأتْ تغيراً واضحاً وجلياً في هيئتي، ظنتْ أنني مريضٌ فصرخت في وجهي: "ألم أقل لك اترك هذه الحبوب، حبوب البلاء، إنك لن تدعها حتى يقصف الله عمرك فتذهب إلى النار". كانت هذه الكلمات بمثابة صفعاتٍ وجهتْها لي زوجتي؛ فقلتُ لها: "أعاهد الله أنني لن أستعمل هذه الخبائث بعد اليوم".. وبشرتها بأني قد صليتُ المغرب والعشاء، وأني تبتُ إلى الله وأُجهشتُ بالبكاء، بكيتُ بكاءً مرّاً وشديداً. أيقنت زوجتي أني صادقٌ فيما أقول؛ فما كان منها إلا أن بكت هي الأخرى فرحةً بتوبتي ورجوعي إلى الحق. في تلك الليلة لم أتناول عشائي، نمتُ وأنا خائفٌ من الموت وما يليه؛ فرأيتُ فيما يرى النائم أني أملك قصوراً وشركاتٍ وسياراتٍ وملايين الريالات.. وفجأة، وجدتُ نفسي بين القبور أتنقل من حفرةٍ إلى حفرةٍ أبحث عن ذلك الشاب الذي تقطع جسده وتحول إلى أشلاء فلم أجده، وأحسستُ بضربةٍ شديدةٍ على رأسي أفقتُ بعدها لأجد نفسي على فراشي. تنفستُ الصُعداء، وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل، قمتُ وتوضأتُ وصليتُ حتى بزغ الفجر؛ فخرجتُ من البيت إلى المسجد. ومنذ ذلك اليوم وأنا -ولله الحمد- ملتزمٌ بالصلاة في بيوت الله لا أنقطع عنها أبداً، وأصبحتُ حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تُقام في المساجد، وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة، عساه أن يعفو عني ويقبل توبتي.

 

أحبتي في الله.. ولأن الموت يأتي فجأة.. ولأن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم الصالح أن يُبادر إلى توبةٍ نصوحٍ لا رجعة عنها، يفتح بها صفحةً جديدةً مع الله سبحانه وتعالى، يصوب بها أخطاءه ويصحح مسيره، ولا ينتظر أن يرى حادث سيرٍ أمامه حتى يثوب إلى رشده، كما كان الحال مع الشاب صاحب القصة.

على كل مسلمٍ أن يراجع نفسه، ويُصوّب مسيرته، ويُجبر ما قصّر فيه من عبادات.. والله كريم، بل هو أكرم الأكرمين؛ يعفو ويصفح، بل ويُحوّل للمسلم سيئاته حسناتٍ إذا صدق في توبته وأتبعها بالعمل الصالح؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. ويقول سبحانه حاثاً على المسارعة إلى التوبة وترك المعاصي: ﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ﴾. ويقول تعالى حاضاً على التسابق في ذلك: ﴿سابِقوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُها كَعَرضِ السَّماءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذينَ آمَنوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ في وصف المؤمنين: ﴿أُولئِكَ يُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَهُم لَها سابِقونَ﴾. ومن صفات الصالحين يقول جلَّ وعلا: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. إن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هُم السابقون إلى رفيع الدرجات في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ورد على لسانه في القرآن الكريم: ﴿فَفِرّوا إِلَى اللَّهِ إِنّي لَكُم مِنهُ نَذيرٌ مُبينٌ﴾.

كما كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه وهو ساجدٌ فيقول: [اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ].

 

وعن تفسير قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، قال أهل العلم إن هذه الآية من أعظم آيات القرآن الكريم، تجمع معاني الخوف والرجاء: الخوف من الله تعالى، واللجوء إليه سبحانه، إذ لا منجا منه إلا إليه عزَّ وجلَّ، أَمَرَ بالفرار منه إليه؛ ليدل العباد على أنه أرحم بهم مِن كل مَن سواه، وأنه عزَّ وجلَّ يريد بالعباد الرحمة والمغفرة.

ومعنى (ففروا إلى الله): اهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته؛ ففروا من معاصيه إلى طاعته، وفروا منه إليه بالتوبة من ذنوبكم. وفروا من أنفسكم إلى ربكم. وفيها معنى: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن.

وقيل إن معنى (ففروا إلى الله) هو الفرار مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً، إلى ما يُحبه ظاهراً وباطناً، فرارٌ من الجهل إلى العِلم، ومن الكُفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى ذِكر الله؛ فالمؤمن يفر من ضيقٍ يعتريه، ضيق الهم، وضيق الغم، وضيق الحزن، إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحُسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبِره.

وسمى الله الرجوع إليه فراراً: لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع الأمن والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضاء الله وقدره إلى قضائه وقدره. وكل مَن خِفتَ منه فررتَ منه، إلا الله تعالى؛ فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه؛ يقول تعالى: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)؛ أي: منذرٌ لكم من عذاب الله.

 

ومن بشائر حُسن الظن بالله، ومن كرمه، أنَّ العبد إذا فرَّ إليه وتقرَّب منه شبراً أو ذراعاً، يأتيه الله سبحانه وتعالى هرولةً؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)]. ومِمَا رُويَ عَنِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: {يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ}. وقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا].

 

قال الشاعر:

إني فررتُ إليك ربي خائفًا

أخشاك لا أخشى سواك نقيرا

ومعي شهادة أن ربي واحدٌ

ونبيه المختار كان نذيرا

فهي النجاة إذا جهنم أُزلفت

من وحَّد الرحمن نال سرورا

 

أحبتي.. عن آية (ففروا إلى الله) أختم باقتباسٍ من أحد العلماء قال فيه: لنتأمل في حالنا؛ هل نحن فارون إلى الله كما أمرنا؟ هل إذا نادى منادي الله "حي على الصلاة حي الفلاح" فررنا إلى بيوت الله نرتجي الثواب من الله؟ أم أننا ننتظر الإقامة فإذا قامت الصلاة قمنا للوضوء متثاقلين لا يهمنا أن تفوتنا تكبيرة الإحرام أو تفوتنا ركعةٌ أو ركعتان؟ هل إذا سمعنا منادي الله ينادي في صلاة الفجر "الصلاة خيرٌ من النوم" فزعنا وانتزعنا أنفسنا من الفُرش الوثيرة والدافئة وفررنا إلى الله؟ هل فررنا إلى الله بتلاوة شيءٍ من كتابه في كل يوم؟ هل.. وهل.. وتطول الأسئلة، وكلٌ أدرى بنفسه. اجعل من هذا الشهر الفضيل نقطة انطلاقك في فرارك إلى ربك وخالقك، اجعلها لحظة استجابةٍ لنداء الله يوم أن ناداك (ففروا إلى الله)، وإلا فإلى متى التسويف؟ إذا لم تفر إلى الله الآن وأنت بكامل قوتك وعافيتك فمتى تفر؟ أتفر بعد أن يشيب شعرك وتضعف قوتك وتتراكم على جسدك الأمراض والعلل؟

أحبتي.. أقول لنفسي المقصرة: "لا تنظر خلفك وتقول تأخرّت! فكلّ يومٍ متبقٍ في رمضان يصلح أن يكون بدايةً جديدةً، اغتنم الفرصة، فربما كان هذا اليوم باباً واسعاً للجنّة. إنه الفرار إلى الله؛ لأن خلفك عدوك إبليس يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتي من قوةٍ ليجعلك من أصحاب السعير. إِذا هَمَمْتَ فبادِر، وَإِذا عزمتَ فثابِر، وَاعْلَم أَنه لَا يُدْرك المفاخر مَن رَضِي بالصف الآخر. قُل توكلتُ على الله، وفِر إلى الله، بإخلاصٍ يغفر لك ما مضى ويُعينك على ما تبقى. ليكن شعارك ﴿عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.

اللهم كرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وحبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وتقبل منا، وأعنّا؛ إنك سبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3TNO9pH

الجمعة، 29 مارس 2024

الصبر والشكر

 

خاطرة الجمعة /440

الجمعة 29 مارس 2024م

(الصبر والشكر)

 

قال أحد الأطباء: من أغرب ما شاهدتُ في حياتي المهنية مريضاً، عمره سبعون سنةً، كان يُراجعني بسبب إصابته بمرض السكري، وكل مرةٍ يُراجعني يقول مع ابتسامةٍ كبيرةٍ على وجهه: "الحمد لله يا ربّي على نعمة السكري"! سألته مرةً: "عمي أنت غريب! أول مرةٍ أسمع أحداً يُسمي مرض السكري نعمة"، قال: "يا ولدي السكري نعمةٌ وأكثر!"، قلتُ له: "كيف؟"، قال سأقول لك: "الله أعطاني مرضاً ليس فيه ألمٌ، وكثيرٌ من النّاس يتألمون من أمراضهم.. الله أعطاني مرضاً في وقتٍ استطاع الطبّ أن يجد له العلاج والدواء، وكثيرٌ من النّاس عندهم أمراضٌ لا شفاء منها ولا دواء لها.. الله أعطاني مرضاً يجعلني أراجع الطبيب كل أربعة أشهرٍ فأتأكد من سلامة صحتي بشكلٍ دوري.. الله أعطاني مرضاً حتى اسمه حلوٌ "سكري".. والأهم من ذلك أن الله أعطاني مرضاً لأصبر وأشكر فيغفر لي سيئاتي وذنوبي ويزيد من حسناتي من دون تعبٍ أو عناء.. كما أنه أعطاني مرضاً يجعلني أصحو في الليل مرتين لقضاء الحاجة؛ فصرتُ مواظباً على صلاة التهجد وقيام الليل، والفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى ثم لمرض السكري.. ثم لا تنسَ أن الله أعطاني مرضاً يجعلني أراجع طبيباً حلواً مثلك!".

يقول الطبيب: قرأتُ الكثير عن الصبر وعن الرضا بأقدار الله، وعن شكر الله على كل حال، لكني لم أتعلم منها كما تعلمتُ من هذا الرجل في دقيقتين!!

 

أحبتي في الله.. لله در هذا الرجل؛ فقد تجاوز مرحلة الرضا بقضاء الله وقدره، ومرحلة الصبر على ما أصابه، إلى مرحلة شكر الله عزَّ وجلَّ على ما هو فيه؛ وكأنه يتمثل الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، واختار لنفسه أن يكون من القليلين الذين يقول عنهم سبحانه: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. وعن الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قال المفسرون: هذا عامٌ في جميع أنواع الصبر؛ الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حسابٍ، أي: بغير حدٍ ولا عدٍ ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه، وأنه معينٌ على كل الأمور.

وعن (الصبر والشكر) بَشَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنَ الصابرَ الشاكرَ لا يزال ينقلب من خيرٍ إلى خيرٍ، ومن أجرٍ إلى أجرٍ حتى يلقى ربَّه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلَّا للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ].

وعن التلازم بين (الصبر والشكر) يقول العلماء إن الإيمان نصفان: نصفه صبرٌ، ونصفه شكرٌ، ولا يكون العبد مؤمناً حقَّ الإيمان إلا إذا كان صابراً شاكراً. والصبر ثلاثة أنواعٍ لا بُدَّ منها لكل مؤمنٍ: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على بلاء الله. وقد كتب الله تعالى البلاء في هذه الدنيا على عباده جميعاً؛ فلا ينجو من بلائه غنيٌّ ولا فقيرٌ، ولا عظيمٌ ولا حقيرٌ، ولا مؤمنٌ تقيٌّ، ولا كافرٌ شقيٌّ؛ بل ربما يكون حظُّ المؤمن من البلاء أعظمَ، ونصيبه من المصائب أكبر؛ ليُكفِّر الله بها من سيِّئاته، ويُضاعف له في حسناته، ويرفع له في درجاته. والصبر صبرٌ على شيءٍ أمر به الله، وصبرٌ عن شيءٍ نهى الله عنه.

وأما الشكر فهو شكرٌ بالقلب؛ اعترافاً بأن الفضل لله وحده، وشكرٌ باللسان؛ حمداً لله وثناءً عليه سبحانه، وشكرٌ بالجوارح؛ باستعمالها في الطاعة وترك المعصية.

وتأكيداً على العلاقة بين (الصبر والشكر) يقول أهل العلم إنه لا يكون العبد شاكراً إلا إذا كان صابراً، فإن الصبر أساس الشكر. ودرجة الشكر فوق درجة الصبر؛ بل فوق درجة الرِّضا؛ لأن الرِّضا مندرجٌ في الشكر ومندمجٌ فيه؛ فلا يكون العبد شاكراً لربِّه إلا إذا كان راضياً بقضائه، مُثْنِياً عليه بالثناء الحسن الجميل.

فلا شكَّ أن الوصفين: (الصبر والشكر) مُتَلازِمان، بهما يكمل الإيمان ويتم اليقين، وبهما يصل المؤمن المُوقن إلى مقام الإحسان الذي فَسَّره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ].

 

أحبتي.. جعل الله للصابرين أموراً ثلاثةً لم يجعلها لغيرهم: وهي الصلاة منه والرحمة والهداية؛ يقول تعالى: ﴿الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. كما وعد بالجزاء للشاكرين؛ يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾. فلنجعل حياتنا كلها دائرةً بين (الصبر والشكر)، فلا نخرج من الصبر إلى الجزع، ولا نخرج من الشكر إلى الكفر؛ فإذا نزل بنا بلاءٌ صبرنا، وإذا أنعم الله علينا بسرّاء شكرنا. وهكذا تكون حياتنا كلها دائرةً بين عبادتين: عبادة الشكر وعبادة الصبر، فتكون خيراً كلها.

اللهم أعنّا على الصبر، وألهمنا الشكر، وتقبل منا صالح الأعمال، وارزقنا اللهم رزقاً واسعاً، وعِلماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، وجسداً على البلاء صابراً، ولساناً ذاكراً شاكراً.

 

https://bit.ly/4aixamr

الجمعة، 22 مارس 2024

محاسبة النفس

 

خاطرة الجمعة /439

الجمعة 22 مارس 2024م

(محاسبة النفس)

في ذات يومٍ قام صبيٌ صغيرٌ بالذهاب إلى متجرٍ به هاتفٌ أرضي، كان الصبي الصغير قصيراً لكن تبدو عليه ملامح الذكاء والاجتهاد، وضع كرسياً من أجل الوصول إلى الهاتف، ثم أخرج من جيب بنطاله منديلاً لفه حول سماعة الهاتف، وقام بالاتصال لترد عليه سيدةٌ. كل هذا وصاحب المتجر يُتابع المكالمة باهتمامٍ شديد. تحدث الصبي إلى المرأة وطلب منها العمل بحديقتها، لكن من الواضح أن المرأة رفضت طلبه، ويبدو أنها قالت إن لديها شخصٌ يقوم بذلك؛ حيث قال الطفل إنه مستعدٌ للقيام بهذه المهمة بنصف الأجر الذي يتقاضاه ذلك الشخص، ويبدو أن السيدة رفضت هذا العرض أيضاً، إذ رّد عليها الصبي بأنه سيقوم بتنظيف السيارة ويحرس البوابة إضافةً للعمل بالحديقة، وواضحٌ كذلك أن المرأة رفضت عرضه الأخير؛ حيث أغلق الصبي الهاتف، ومع ذلك كانت تبدو على وجهه علامات الارتياح. فوجئ صاحب المتجر -الذي كان يتابع المكالمة- من تقبل الصبي رفض عروضه للعمل لدى المرأة بصدر رحبٍ حتى أن علامات السرور كانت تبدو جليةً على وجهه؛ فقال للصبي: "من أجل رغبتك في العمل وهمتك فإني أريدك أن تعمل لديّ في هذا المتجر"، شكره الصبي وقال له: "إنني أعمل بالفعل لدى هذه السيدة، ولكنني كنتُ أختبر مدى رضاها عني"، قال هذا وانصرف تاركاً الرجل صاحب المتجر في حالة دهشةٍ منه على أمانته وفطنته.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الله عزَّ وجلَّ حثّ أهل الإيمان على (محاسبة النفس)، والتأمل فيما قدموه لأُخراهم؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. قال المفسرون لهذه الآية الكريمة: إن على المسلم أن يُراجع نفسه دائماً، ويتأمل صحيفة أعماله؛ لينظر ماذا قدّم لغده، وهذا التأمل كفيلٌ بأن يوقظه إلى مواضع ضعفٍ ومواضع نقصٍ ومواضع تقصيرٍ، مهما يكن قد أسلف من خيرٍ وبذَلَ من جهدٍ، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ورصيده من البر ضئيلاً؟! ويقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، قال المفسرون: ليس من نفسٍ برةٍ ولا فاجرةٍ إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيراً قالت: هلّا ازددتُ، وإن عملت شراً قالت: ليتني لم أفعل. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾، وهذا وصفٌ للمؤمنين الذين يُحاسبون أنفسهم عند الزلة والتقصير فيرجعون عما كانوا عليه.

 

وعن (محاسبة النفس) رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ]، قال شُراح الحديث: معنى قوله: [مَن دان نفسَه] أي حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسب يوم القيامة.

 

ورُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾.

 

قال أحد الدُعاة: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه؛ ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان؛ إن لم تُحاسبه ذهب بمالك".

وقال غيره: "يجب أن ندرك مغبة المخالفة وعاقبة الطاعة، وأن الكلمة والموقف، والعمل والترك؛ كل هذا له عاقبته وحسابه بين يديّ رب العالمين.

إن الأمر عظيم الشأن، جاد المأخذ؛ قد قامت له الدنيا وخُلقت من أجله؛ فلم نأتِ للعبٍ ولا للعبث. ومن لم يُدرك هذا اليوم أدركه غداً عندما ينكشف الغطاء ويُعاين الغيب؛ ولهذا فالعقل والحزم أن نُدرك هذا وقت نفع الإدراك وإمكان الاستعتاب والإصلاح وتغيير الحال".

وقال ثالثٌ: "إن العبد لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".

 

وعن (محاسبة النفس) قال الشاعر:

إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعها

وكلُ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ

فاعملْ لنفسكَ قبلَ الموتِ مُجتهداً

فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

وقال آخر:

وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى

حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا

وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ فلنُكثر من أعمال الخير والأعمال الصالحة، ولنُقلل إلى الحد الأدنى الممكن من المعاصي والخطايا والسيئات، وإذا فعلنا شيئاً منها فلنُبادر بالتوبة وطلب المغفرة.

أختم بما قاله أحد العارفين: "تعاهدْ نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملتَ فاذكر نظَرَ الله تعالى عليك، وإذا تكلمتَ فانظر سمْع الله منك، وإذا سكتَّ فانظر علم الله فيك".

اللهم أعنّا الله على (محاسبة النفس) ومحاربة هواها، وحبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان.

 

https://bit.ly/4crP2fZ

الجمعة، 15 مارس 2024

بركات رمضان

 خاطرة الجمعة /438

الجمعة 15 مارس 2024م

(بركات رمضان)

 

أسلم شخصٌ وكانت قصة إسلامه من (بركات رمضان) شهر الخير، إذ قال إنه تعجَّب من حال المسلمين في قريته، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّب في السماء عندما انصرم الشهر الذي قبل شهر الصوم، كأنهم ينتظرون إشارةً من خالق الكون من فوقهم ليقوموا بشيءٍ بعدها؛ فلما رأوْا هلال رمضان فرحوا فرحاً عظيماً، كأنهم بُشروا بأعظم البشرى. لم يتوقّع أن يكون فرح المسلمين بأنهم سيمتنعون عن الشهوات طيلة شهرٍ كاملٍ طوال النهار كلِّه! هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها، وتُخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلها. ليس هذا فحسب، بل وكانت فرحة المسلمين في قريته أيضاً أنهم سيقضون معظم الليل واقفين على أقدامهم يُصلون مناجاةً لربهم!

استحوذ هذا التعلق وهذه التصرفات على قلبه، فصام مع المسلمين، وهو لا يعرف شيئاً عن الإسلام، ولم ينطق بالشهادتين؛ فاكتفى بالامتناع عن الأكل والشرب وإتيان زوجته، من وقت ذهاب المسلمين لصلاة الفجر، ولا يأكل أو يشرب إلا إذا سمع أذان المسجد لصلاة المغرب! الأغرب من ذلك أنه ذهب وصلى مع المسلمين في المسجد صلاة التراويح وفعل مثل ما يفعلون؛ قياماً وركوعاً وسجوداً، غير أنه لا يتكلم بشيءٍ، فكان يجد راحةً عجيبةً، وسكينةً لم تعرفها روحه من قبل! حتى إذا انتصف الشهر، لاحظ إمام المسجد أنّ هذا الرجل غريبٌ عن القوم، فسأله الإمام عن نفسه؛ فصدقه الرجل القول وحكى له حكايته؛ فدُهش الإمام منها اندهاشاً حمله على أن يجمع رواد المسجد ليسمعوا منه، فلما سمعوا قصة ذلك الرجل عرضوا عليه الإسلام؛ فنطق بالشهادتين، فكبّر كل من كان بالمسجد، وقال له أحدهم: "أنتَ أسلمتَ بسبب شهر رمضان، فليكن اسمك من اليوم «رمضان»"!

 

أحبتي في الله.. عن شهر رمضان، شهر الخير والبركات يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ].

 

شهر رمضان بركاته كثيرةٌ؛ وأول (بركات رمضان) أن اختصه الله جلَّ جلاله وأعلى منزلته بين الشهور بأن فرض الله صيامه. ومن بركاته أنه شهرٌ تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق فيه أبواب النار. وهو شهرٌ تُصفد فيه الشياطين. وأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن. وهو شهر الجود والكرم والعطاء؛ بالتوسعة على الأهل والإنفاق على الفقراء والمحتاجين وإطعامهم وتفطير الصائمين. ومن (بركات رمضان) السحور؛ ففيه بركةٌ كما أخبرنا بذلك النبي عليه الصلاة والسلام. إن أيام هذا الشهر الفضيل ولياليه كلها بركة، وأفضل أيامه ولياليه العشر الأواخر منه، وأعظم تلك الليالي بركةً، الليلة التي أُنزل فيه القرآن، وهي الليلة التي هي خيرٌ من ألف شهر، إنها ليلة القدر.

 

وعن (بركات رمضان) وصف أحد التابعين شهر رمضان بقوله: "رمضان بين الشهور كيوسف عليه السلام بين إخوتِه؛ فكما أن يوسف كان أحبّ الأولاد إلى أبيه يعقوب، كذلك رمضان هو أحب الشهور إلى علَّام الغيوب".

وقال غيره: "رمضان بين أحد عشر شهراً، كيوسف بين أحد عشر من إخوته، فلا تقتلوه، ولا تلقوه في غيابة الجُب، ولا تبيعوه بثمنٍ بخسٍ، بل أكرموا مثواه؛ عسى أن ينفعنا أو نتخذه شفيعاً يوم الحساب".

واختصر أحد العارفين وصف شهر رمضان في عبارتين؛ فقال: "الشهر قصير لا يحتمل التقصير، وقدومه عبور لا يقبل الفتور" وأضاف: "الهمة يا رفاق الجنة، وكلما تكاسلت تذكر: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾".

ومن أطرف ما وصلني عن (بركات رمضان) منشورٌ بعنوان "طائرة رمضان"؛ إذ النداء فيها هو: "حضرات السادة الركاب برجاء الانتباه؛ طائرة رمضان تستعد الآن للإقلاع، من مطار شعبان الدولي رقم الرحلة 1445، الوجهة: باب الريان، قائد الرحلة: القرآن الكريم. نرجو منكم ربط أحزمة التقوى. ممنوعات الرحلة: الانشغال بالمسلسلات، الانشغال بالأكل والطعام، الغيبة والنميمة. علماً بأن الطائرة مزودةٌ بأجهزة مراقبة ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. كما ننصح طوال الرحلة بالحفاظ على: الصلوات المفروضة، صلاة التراويح، صلاة التهجد، ذِكر الله كثيراً، الصلاة على النبي، بِر الوالدين، صلة الرحم، المزيد من الصدقات، إطعام الفقراء والمساكين، وعيادة المرضى. نتمنى لكم رحلةً سعيدةً، وإلى اللقاء عند حوض النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم القائل عن الحوض: [مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا]".

 

وللحصول على (بركات رمضان) كتب أحد العلماء يُحذر من لصوص رمضان، فَعَدَّ من اللصوص ما يلي: التلفاز؛ لصٌ خطيرٌ لما فيه من إفساد صيام الناس وإنقاص أجرهم بمشاهدة مسلسلاتٍ وبرامج تافهة. الأسواق؛ لصٌ متخصصٌ في بذل المال والوقت بلا حساب. المطبخ؛ لصٌ يسرق الكثير من الوقت لعمل أنواع كثيرةٍ من الطعام والشراب. السهر؛ لصٌ يسرق أغلى الأوقات، التي يمكن أن يستفيد منها العبد في صلاة التهجد في الثلث الأخير من الليل ومن الاستغفار والتوبة. الهاتف؛ وهو لصٌ يجعل الذنوب -من غيبةٍ ونميمةٍ وكذبٍ ومدحٍ وذمٍ أو إفشاء سرٍ أو جدلٍ في الحق بدون علم- تنهال على العبد طوال المكالمة. البُخل؛ وهو لصٌ يمنع العبد من الإنفاق على وجوه الخير كالصدقات التي تقي من النار، ما كان منها سراً أو علانية. شبكة الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي -مثل الفيس بوك والواتس آب- وتطبيقات الهاتف المحمول؛ فهي -إذا لم تُستغل وتُستخدم على الوجه الصحيح

في الخير- يمكن اعتبارها من أكبر وأخطر لصوص الوقت. والمجالس الخالية من ذكر الله؛ فهي لصٌ آخر يدّخر للعبد الحسرة يوم القيامة والعياذ بالله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما جَلَس قومٌ مجلسًا لم يذكروا اللهَ فيه ولم يُصلُّوا على نبيِّهم إلَّا كان عليهم تِرةٌ فإن شاءَ عذَّبَهم وإن شاءَ غفَر لهم]. والتِرة: هي الحسرة.

 

أحبتي.. الحمد لله الذي بلّغنا رمضان، اللهمّ بارك لنا فيه، وأعِنّا على صيام نهاره وقيام ليله، وحفظ الجوارح، وتلاوة القرآن، واجعلنا فيه من أهل الجود والإحسان. اللهمّ أعنّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا. جعلنا الله وإياكم ممن وُفق لحسن اغتنام (بركات رمضان).

 

https://bit.ly/3TlTpkg

الجمعة، 8 مارس 2024

الأيادي البيضاء

 خاطرة الجمعة /437

الجمعة 8 مارس 2024م

(الأيادي البيضاء)

 

تناقلت وسائل الإعلام العالمية خلال الأيام السابقة خبراً عن امرأةٍ أمريكيةٍ تبرعت بمليار دولار لإحدى كليات الطب في «نيويورك» مُسددةً الرسوم الدراسية لجميع الطلاب وإلى الأبد! والمتبرعة هي أستاذةٌ سابقةٌ في الجامعة، وأرملة أحد المستثمرين في «وول ستريت»، وهذا المبلغ يضمن التعليم المجاني للطلاب في منطقة «برونكس». وقالت المؤسسة التي تم التبرع لها، والتي تضم كلية الطب: "إن هذا التبرع يُحدث ثورةً جذريةً في قدرتنا على مواصلة جذب الطلاب الراغبين في دراسة الطب المؤهلين لذلك". فرحةٌ عارمةٌ انتابت الطلبة لحظة إعلان خبر هذا التبرع السخي، حيث قفز بعضهم من على الكراسي، بينما صفق آخرون بحرارةٍ ووقفوا احتراماً للسيدة المتبرعة. وقالت المتبرعة في كلمةٍ لها: "في كل عامٍ، يدخل أكثر من مائة طالبٍ إلى كلية الطب، وأنا ممتنةٌ جداً لزوجي الراحل؛ لأنه ترك لي هذه الأموال، وأشعر بالسعادة الغامرة لحصولي على شرف تقديم هذه الهدية لأولئك الطلاب الذين يحلمون بأن يكونوا أطباء".

 

أحبتي في الله.. قصة هذه المرأة صاحبة (الأيادي البيضاء) أبهرت الملايين حول العالم لما اعتبروه تبرعاً شديد السخاء، لكن هؤلاء ربما لم يعلموا أن رجلاً عربياً مسلماً سبقها وتبرع للأعمال الخيرية بأكثر بكثيرٍ مما تبرعت به؛ فقبل حوالي أربع سنواتٍ تربَّع رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي" على عرش أكبر المنفقين والمحسنين والمتبرعين لأعمال الخير في العالم العربي، وكان هو العربي الوحيد في قائمة المحسنين العشرة الكبار على مستوى العالم؛ إذ احتل وقتها المركز السادس عالمياً من حيث حجم الأموال التي أنفقها في أعمال الخير والأموال التي تبرع بها للفقراء ولمشاريع الخير والإحسان في العالم؛ فقد كشفت شركة أبحاثٍ عالميةٍ متخصصةٍ في دراسة حركة الثروات ورؤوس الأموال في العالم أنه قدَّم تبرعاتٍ وأموالاً لدعم أعمال الإحسان في العالم بلغت قيمتها 5.7 مليار دولار. وقالت شركة الأبحاث إن إجمالي المبالغ التي تبرَّع بها أكبر عشرين مُحسناً في العالم من ذوي (الأيادي البيضاء) تجاوزت مائة مليار دولار أميركي؛ وهو ما يعني أن المبالغ التي يُساهم بها هؤلاء الأثرياء في أعمال الخير تتفوق أحياناً على ما تُقدمه بعض الدول الكبرى من معوناتٍ للمحتاجين في مختلف أنحاء العالم.

 

وأنقل لكم فيما يلي ما قرأته عن قصة نجاح الملياردير رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي"، والتي قيل عنها إنها تختلف عن كل القصص الملهمة التي سمعنا وقرأنا عنها، لأنها تُجسد حكاية رجلٍ فقيرٍ بدأ من الصفر، وعاد إليه طواعيةً بعد ثمانين سنة من الكفاح والتحدي؛ حيث تبرَّع هذا العام بثلثي ثروته التي تزيد عن سبعة مليارات دولار للأعمال الخيرية؛ فأنشأ شركة أوقاف سليمان الراجحي القابضة، وقام بتوزيع الأرباح الناتجة من استثماراته المختلفة على المشروعات الخيرية التي تُعنى بالفقراء والتعليم وبناء المساجد، كما قام ببناء جامعة سليمان الراجحي في مسقط رأسه في «البكيرية». اشتُهر الراجحي بحبه للأعمال الخيرية؛ حتى أنَّ موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية سجلت مزرعة الراجحي كأكبر وقفٍ خيريٍ في العالم؛ إذ يبلغ عدد النخيل فيها 200 ألف نخلة!

وأبقى "سليمان الراجحي" ثُلث ثروته لأبنائه ليعود فقيراً مثلما بدأ، قائلاً: "وصلتُ لمرحلة الصفر مرتين في حياتي، إلا أن وصولي هذه المرة كان بمحض إرادتي"!

نشأ "الراجحي" فقيراً، وعمل في بداية حياته حمالاً وكناساً وطباخاً وقهوجياً وصرافاً، إلى أن أسس مصرف الراجحي، أول بنك إسلامي في «السعودية»، وأحد أكبر البنوك الإسلامية في العالم بقيمة 33 مليار دولار أميركي، ويبلغ رأسماله أربعة مليارات دولار ويعمل فيه أكثر من ثمانية آلاف موظف، كما امتلك الراجحي العديد من الشركات المساهمة في التنمية الزراعية والصناعية والتعليمية والخيرية.

لم يُكمل "سليمان" تعليمه، وترك مقاعد الدراسة في الصف الثاني الابتدائي، وكان كثير التغيب عن المدرسة بسبب انجذابه الشديد للتجارة؛ يقول في أحد حواراته الصحفية إنه في طفولته اشترى طائرةً ورقيةً بقرشٍ واحدٍ -كان لا يملك سواه في جيبه- وفككها ليتعرف على طريقة صنعها، ثم جمع سعف النخيل ليصنع منه الطائرات، ويبيع الواحدة منها بنصف قرش! وفي سن الـ 12 بدأ "سليمان" جمع البلح لأصحاب مزارع النخيل، الذين كانوا يدفعون له ستة ريالاتٍ شهرياً لقاء ما يقوم به من عمل. ثم انتقل للعمل بوظائف بسيطةٍ مختلفةٍ؛ فعمل كناساً وحمالاً وحارساً وطباخاً، ولم يكن يتردد في القيام بأي عملٍ مهما كان بسيطاً، الأمر الذي أكسبه خبرةً واحتكاكاً مع الناس، كما عمل في البناء، واكتسب خبرةً جيدةً بالسوق وأساليب التعامل مع فئات المجتمع المختلفة. يقول "سليمان الراجحي": "لم أكن أُفطر، كنتُ حمّالاً لأغراض الناس، وأنتظر الثوب الوحيد حتى يجف لألبسه". حينما بلغ عامه الـ 15 كان يدّخر القرش على القرش -على حد قوله في أحد اللقاءات الصحافية- حتى تمكن من إنشاء دكانٍ بسيطٍ خاصٍ به يبيع فيه بعض السلع الاستهلاكية؛ كالشاي والسكر والحلوى والكبريت، تمكن من خلال عمله في البقالة من جمع 1500 ريال، وهي ثروةٌ كبيرةٌ في ذلك الوقت، فحقق رغبة والديه في الزواج، رغم أن ذلك كلفه كل ما جمعه. يقول "الراجحي": "وُفقت بالزواج من أربع نساءٍ ساعدنني في حملي الكبير". بعد سنواتٍ قرر "سلیمان" العمل مع شقيقه الأكبر "صالح" في مؤسسة صرف العملات؛ فكان يُغيّر العملة في شوارع «مكة» للحجاج ويحمل الطرود والأمانات على ظهره لإيصالها للمطار، فيقطع ما يزيد على 10 كيلو مترات ليوفر أجرة الحمّال والنقل، ولم يكتفِ بذلك فتاجر في أوقات فراغه في الأقفال والأقمشة ومواد البناء لتحسين دخله. في عام 1970م قام "سليمان" بافتتاح شركةٍ خاصةٍ به لتبادل العملات، بعد أن انفصل عن أخيه "صالح"، وبدأت أعماله تنجح وتتوسع، وحقق نجاحاً باهراً، وتنامت ثروته واستثماراته. وفي عام 1987م أسس مصرف الراجحي برأسمال 15 مليار ريال، وتعددت فروعه لتصل إلى 500 فرع، كما امتلك أكبر شبكة صرافاتٍ آليةٍ في «السعودية» بعدد يزيد على 2750 ماكينة صرافٍ آليٍ في جميع أرجاء المملكة، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الفروع المنتشرة في العالم. ودخل الراجحي العديد من المجالات التجارية الأخرى؛ فكان يمتلك شركةً للورق والبلاستيك، فضلاً عن امتلاكه عدداً كبيراً من الأسهم في شركة الاستثمار الأسرية التي تُنفذ العديد من المشروعات الزراعية والصناعية داخل المملكة وخارجها كما في «إفريقيا» و«أوروبا الشرقية». بالإضافة إلى امتلاكه شركتي: الوطنية للصناعة والوطنية للنقل. وقد احتفظت شركة الراجحي بأصولٍ أخرى تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار، بما في ذلك الدواجن الوطنية التي تُعتبر من أكبر مزارع الدواجن في منطقة الخليج. حافَظ ثالث أغنى رجلٍ في العالم العربي على تواضعه وحُبه للعمل، فهو يُتابع -رغم كبر سنه- أعماله بشغفٍ، ويُراقب كل شيءٍ بنفسه، ويتمنى لو أن الأسبوع تسعة أيامٍ ليقضيها في العمل، فهو أول من يأتي إلى مكان العمل وآخر من يخرج منه. كما أنه يلبس ثوباً أبيضاً عمره أكثر من 30 عاماً؛ لكي يُذكِّر نفسه دائماً بأنه كان فقيراً، ولكي لا ينسى ماضيه وبداياته!

وكتب الملياردير السعودي "سليمان الراجحي" في وصيته أنه لا يريد أن يُقام له عزاءٌ بعد موته، وأن يتم التبرع بكلفة ذلك للجمعيات خيرية.

 

لقد استجاب "الراجحي" لنداء الله سبحانه وتعالى الذي يحثنا فيه على الإنفاق بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. لقد وعد سبحانه المنفقين بمضاعفة ما أنفقوا وبالأجر الكريم وبالأمن؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

وحثاً على الإنفاق قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ] ذكر منهما [رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَهو يُهْلِكُهُ في الحَقِّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وقال أيضاً: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثٍ] ذكر منها [صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ].

 

أحبتي.. إنّ الإنفاق في الخير ليس قاصراً على الأغنياء فقط، وإنما هو دعوةٌ لأن يقوم كلٌ منا بالإنفاق في وجوه الخير بما يستطيع؛ يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ] قالوا وكيف؟ قال: [كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها] فالأول تصدَّق بنصف ماله، أما الآخر فقد تصدَّق ببعض ماله.

فلنُنفق على كل وجهٍ من أوجه الخير المتعددة، حتى نكون من المحسنين فنحظى بمحبة الله؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. ولننتهز فرصة قدوم شهر رمضان المبارك لنُكثر من إنفاقنا، وليكن لنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم؛ فقد "كان صلَّى الله عليه وسلَّم أجْوَد النَّاس، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ". ولنتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا].

اللهم أعِنّا على أن نتغلب على شُح أنفسنا؛ لنكون من ذوي (الأيادي البيضاء) الذين يُنفقون سراً وعلانية، وتقبل اللهم منا صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/43b5fSF

الجمعة، 1 مارس 2024

الظاهرون على الحق

 

خاطرة الجمعة /436

الجمعة 1 مارس 2024م

(الظاهرون على الحق)

 

يقول أحد الدُعاة السعوديين: قبل عدة سنواتٍ كنتُ في رحلةٍ إلى «قرقيزيا» إحدى جمهوريات «الاتحاد السوڤيتي» سابقاً، وتقع على حدود «الصين». دُعيتُ إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين ربما، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفُصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، وذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، رحب بنا وأعد لنا وليمةً، وحاول تدريبنا على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكانت لا تعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتان بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية؛ حتى اضُطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز!

انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل. وتحت ضغط الفضول العارم سألته: "يا شيخ؛ كيف درستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في «قرقيزستان» تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلاميٍ، فضلاً عمّن يُمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا النظام الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة الإسلامية فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدّم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد؛ فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح؟!"، تبسَّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشِدّة والكَرب، وقال: "نعم كنّا تحت حُكمهم لكن لم نستسلم لهم! كنّا أقوى منهم بإيماننا وإصرارنا وقدرتنا على التكيّف؛ كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عُمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشرات وربما مئات الأطفال، كلها تحت الأرض! كنا نحن (الظاهرون على الحق) وكان الوالدان المسلمان إذا بلغ طفلهما الخامسة من عمره، تسللوا به في جُنح الظلام وساروا بحذرٍ خلف مُرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفُوهة في حُجرةٍ من بيت ٍمهدومٍ أو خربةٍ مهجورة- وهنا تستلمه إدارة المدرسة، وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ، لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن الكريم أو أكثره، ومِن الحديث الشريف ما قُدِّر له، ومِن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية، وربما عاد مرةً أخرى ليكمل دراسته وتعليمه!". سألتُ الشيخ عما درَسوه في اللغة العربية مثلاً؛ فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك!"، ثم تحامل على نفسه ونهض مُتثاقلاً إلى كُوّةٍ في الجدار، ومدّ يده النحيلة إلى كتابٍ مُتهالكٍ فيها؛ فجاء به وفتحه أمامي، فإذا هو نسخته الخاصة من "شرح ابن عقيل"! كنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثُقاة لشككتُ في صحته؛ فقد كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعَسفها وقسوتها على الناس، حتى ظنتُ أنها قد قدرت عليهم وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره "الكتاب والسُنة"، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة العربية. كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله؛ فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمسٌ ولا هواء، ولا لهوٌ، ولا لعب.. وإنما عملٌ شاقٌ مُضنٍ وخطير، ثمنه حياة أحدهم ومَن معه لو افتُضح أمره! كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يُمكن أن يمر به مجتمعٌ، فما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش، ولا استرهبتهم سطوته، فلما سقطت الشيوعية وطوتها سُنّة الله خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتُعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية سابقاً تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العِجاف، وفِي أعماق الأرض! وكان (الظاهرون على الحق) هم المنصورون.

 

أحبتي في الله.. علّق الداعية السعودي -كاتب هذه القصة- بالقول: إنّ هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبْتَلى المسلمون بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، وليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين.

 

يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ –عزَّ وجلَّ- إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ]. وحين سُئل: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال عليه الصلاة والسلام: [الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ].

 

يقول العلماء إنّ حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت اختصاص المؤمن غالباً بنزول البلاء؛ تعجيلاً لعقوبته في الدنيا أو رفعاً لمنزلته، أما الكافر والمُنافق فيُعافى ويُصرَف عنه البلاء وتؤخر عقوبته في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتَّى تَسْتَحْصِدَ]. والناس حين نزول البلاء ثلاثة أقسام: الأول: محرومٌ من الخير؛ يُقابل البلاء بالتسخط وسوء الظن بالله واتهام القدر. الثاني: موفقٌ؛ يُقابل البلاء بالصبر وحُسن الظن بالله. الثالث: راضٍ؛ يُقابل البلاء بالرضا والشكر وهو أمرٌ زائدٌ على مجرد الصبر. وللابتلاء فوائد منها: أنه تكفيرٌ للذنوب ومحوٌ للسيئات، ورفعٌ للدرجة والمنزلة في الآخرة، وإشعارٌ للعبد بالتفريط في حق الله واتهامه نفسه ولومها، وفتحٌ لباب التوبة والذُل والانكسار بين يدي الله، وتقويةٌ لصلة العبد بربه، وتذكيرٌ له بأهل الشقاء والمحرومين والإحساس بآلامهم، وزيادةٌ في قوة الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتذكيرٌ بالمآل وإبصارٌ للدنيا على حقيقتها. وللابتلاء صورٌ كثيرةٌ: ابتلاءٌ في الأهل والولد، وفي المال، وفي الدين، وأعظمها ما يُبتلى به العبد في دينه.

 

وكما رأينا في قصتنا عن المسلمين تحت الحكم الشيوعي كيف كان ابتلاؤهم في دينهم -وهو أشد أنواع الابتلاء- فما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل أحسن هؤلاء (الظاهرون على الحق) الظن بالله وأخذوا بالأسباب. لم يكن منهم مَن يتخيل أن ينفرط عقد «الاتحاد السوڤيتي» ويتفكك ويتحول إلى جمهورياتٍ مستقلةٍ بعضها تُمارَس فيه العبادات وتُقام فيه الشعائر الإسلامية علناً بغير خوفٍ. لقد كانت الفئة التي أحسنت الظن بالله وأخذت بالأسباب من هؤلاء المسلمين هي التي حفظت الدين وحافظت على العقيدة وربّت أبناءها وأنشأتهم على التوحيد والإخلاص، رغم وجود المُثّبطين والمُتخاذلين، وكأنهم كانوا هم المقصودون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ]. ورأينا في النهاية أن هذا الوعد قد تحقق وأتى أمر الله وظهر الحق، رغم عداوة الكافرين، ورغم تثبيط وخذلان بعض المسلمين، بل ورغم تعاون قلةٍ قليلةٍ منهم مع أعداء الله.

 

أحبتي.. لنأخذ العبرة والعظة؛ ونسلك طريق الحق، لا يَفُت في عضدنا قلة السالكين في هذا الطريق، ولا تغرنا كثرة المُغيَبين عنه، ولا نكون أبداً من المُتخاذِلين، ولا ممن يُثبطون الهمم، فضلاً عن أننا نربأ بأنفسنا أن يكون من بيننا خائنون متعاونون مع الأعداء، وإنما علينا أن نُحسن الظن بالله ونأخذ بالأسباب إلى الحد الأقصى الممكن، فإن لم نكن نحن (الظاهرون على الحق) فعلينا أن نكون عوناً لمن سبقونا إلى ذلك، لا نخذلهم ولا نتخلى عنهم، ولا نتركهم وحدهم، وإنما نكون سنداً لهم، مرابطين في ظهورهم؛ نُساعدهم بما استطعنا. ولنكن على ثقةٍ كاملةٍ ويقينٍ صادقٍ بأن النصر ليس بالعَدَد ولا بالعتاد ولا المُعدات، ولا بكثرة وحداثة وقوة الأسلحة، إنما هو من عند الله؛ يقول تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. اللهم اجعلنا من الذين يُدافعون عن دينك، واجعلنا من الصابرين، وأعِز اللهم الإسلام والمسلمين، وانصرنا على القوم الكافرين، وحقق اللهم وعدك الذي وعدت به عبادك المؤمنين: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾؛ أنت وليُّ ذلك وأنت القادر عليه؛ فأنت سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/3wycY0N

الجمعة، 23 فبراير 2024

كفالة اليتيم

 

خاطرة الجمعة /435

الجمعة 23 فبراير 2024م

(كفالة اليتيم)

 

يقول رجلٌ رأيت أمام أحد المحلات امرأةٌ تصرخ بعصبيةٍ في وجه ابنها الصغير، وتبكي، وكان يقف بالقُرب منها شابٌ تبدو عليه علامات الغضب والعصبية، فشدني الفضول لمعرفة ما يحدث معهم؛ حيث كان الشاب يصرخ في وجه المرأة، وكانت المرأة تصرخ في وجه ابنها، وبدأ الناس يحتشدون حولهم ويُشاهدون ما يحدث، اقتربتُ من الشاب وسألتُه عن سبب الشجار؛ فقال: "ابن هذه المرأة قام برمي حجرٍ على زجاج المحل فكسره، وعندما طلبتُ من أمه دفع ثمن الزجاج المكسور قالت لي إن ابنها يتيمٌ وليس لديها مالٌ" واستطرد الشاب يقول: "أنا مجرد عاملٍ في المحل، وإذا عرف صاحب المحل بما حدث فسيُحملني المسؤولية"، فسألتُ المرأة: "لماذا لا تدفعين المال للشاب كي يقوم بتركيب زجاجٍ بدلاً من الذي كسره ابنك؟"، قالت المرأة وهي تبكي: "من أين أدفع له هذا المبلغ؟ والله إننا نمنا البارحة دون عشاءٍ، فنحن لا نملك المال لشراء الخبز، ولا يوجد من يعولنا، نأكل يوماً ونجوع أسبوعاً". أحزنني حديثها وشعرتُ بالأسف لما يحصل معها، فقلتُ للشاب: "سوف أتكفل بدفع نصف المبلغ، وسننتظر حتى يصل صاحب المحل وسأطلب منه أن يُسامح المرأة في النصف الآخر؛ فاتركها تذهب الآن"، لكن الشاب أصَّر على عدم مُغادرة المرأة حتى يأتي صاحب المحل ويُسلمه القضية ويُخرج نفسه من المشكلة حتى لا يتحمل المسؤولية.

بعد ساعةٍ وصل صاحب المحل، وحكى له الشاب ما حدث، وتقدمتُ لصاحب المحل وقلتُ له: "إن حالة المرأة صعبةٌ جداً؛ فهي مَن تعول أسرتها ولا تمتلك المال لشراء الطعام لصغارها، وقد تكفلتُ أنا بنصف تكلفة تركيب زجاجٍ جديدٍ، أما النصف الآخر فأطلب منك أن تتكفل به لوجه الله"؛ فقال صاحب المحل: "أبداً؛ سأتكفل أنا بالمبلغ كله وحدي لوجه الله، وأعفو عنها وأتركها تذهب"، لم أستطع أن أمنع دموعي؛ فتساقطت بشكلٍ لا ٳرادي، وقلتُ له: "جزاك الله خيراً، جعل الله هذا في ميزان حسناتك، وعوضك عن خسارتك"، ثم قلتُ للمرأة: "إنني كنتُ قد نويتُ أن أدفع المال لوجه الله؛ فلا ترديني، هذا المال لكِ"، ثم فوجئتُ بصاحب المحل وقد أخرج مبلغاً من جيبه وأعطاه للمرأة أيضاً. شعرتُ بالدهشة للتعاطف الذي حصل مع هذه المرأة وكأن بينها وبين الله سراً؛ فقد كانت تبكي حُزناً منذ قليلٍ، وأصبحت الآن تبكي فرحاً! أخذت المرأة المال وهمَّت بمغادرة المكان فسألتها: "معذرةً يا أختي؛ أخبريني ما الذي بينك وبين الله حتى تبدلت دموعك من دموع حزنٍ إلى دموع فرحٍ، لقد كنتِ قبل قليلٍ في مشكلةٍ وكان عليك أن تدفعي المال بشكلٍ إجباريٍ ولكن بدل ذلك أرى أنكِ حصلتِ على المال!"، أجابت وهي تبكي: "إن معي في المنزل-إضافةً إلى ابني اليتيم- أربع بناتٍ لسن بناتي فهُنّ بنات أختي الراحلة، تكفلتُ بهنّ عندما قرَّر والدهن أن يتزوج بعد رحيل أرملته، وتركهن دون رعايةٍ أو اهتمامٍ في بيت أهله؛ فقررتُ أن أتكفل بهن لوجه الله، لقد مرّ على رعايتي لهن خمس سنوات". يقول الرجل: "عرفتُ الآن السر الذي جعلني أبكي كلما تذكرتُ تلك المرأة وما حدث معها".

 

أحبتي في الله.. لقد كان السر هو (كفالة اليتيم)؛ يقول أهل العلم إن اليتامى هُم أطفالٌ ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بموت الأبوين أو أحدهما؛ فحُرموا الأُبوة والرعاية، والدفء والحنان، فحثَّ الله سبحانه وتعالى على (كفالة اليتيم) ليقوم المؤمنون بهذا الدور الأبوي العظيم، والعمل الإنساني الفضيل؛ إحساناً منهم وتفضلاً؛ فالإحسان إلى اليتيم خُلقٌ إسلاميٌ رفيعٌ، حثنا ديننا عليه وندبنا إليه، بل وجعله من أفضل الأعمال وأزكاها. والاهتمام باليتامى والوقوف على شؤونهم ورعاية مصالحهم شرفٌ ومنقبةٌ؛ فقد اهتم الإسلام بشأن (كفالة اليتيم) اهتماماً بالغاً؛ من حيث تربيته ورعايته ومعاملته وضمان سُبل العيش الكريم له؛ بدفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، والحث على الإحسان إليه، ومراعاة الجانب النفسي لديه.

 

وردت كلمة اليتيم ومشتقاتها في العديد من آيات القرآن العظيم، منها: يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾. ويقول سبحانه: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾. ويقول أيضاً: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾. كما يقول: : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.

 

وعن (كفالة اليتيم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا] وَأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً. وقال عليه الصلاة والسلام: [أدْنِ اليَتِيمَ مِنْكَ وأَلْطِفْهُ وامْسَحْ بِرَأسِهِ وأَطْعِمْهُ مِنْ طَعامِكَ فإنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ ويُدْرِكُ حاجتك]. وقال: [إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؛ فَأَطْعِمِ الْمَسَاكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ]. وقال أيضاً: [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ] وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. وقَالَ كذلك: [خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ]. كما قَالَ: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِىَ عَنْهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ]، وذكر منها: [أَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ اليتيمِ والمرأةِ] ومعنى أحرج: أحذر من الوقوع في ظلمهم. وقال: [والذي بَعَثَني بالحَقِّ لا يُعَذِّبُ اللهُ يومَ القيامةِ مَن رَحِمَ اليَتيمَ، وأَلانَ له في الكلامِ، ورَحِمَ يُتْمَه وضَعْفَه]. وقال أيضاً: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ].

 

قال الشاعر:

مسحتَ على رأسِ طفلٍ يتيمٍ

فكفُّكَ نورٌ وقلبُكَ حيُّ

مسحتَ عليه فمُلّئتَ عَطفًا

وفُزتَ كما قدْ أبانَ النبيُّ

وقال آخر:

انظرْ إلى وجه اليتيمِ وهَبْ له

عَطْفاً يعيش به الحياةَ كريماً

وافتحْ له كَنْزَ الحنانِ، فإنما

يرعى الحنانُ، فؤادَه المكلوما

يا كافلَ الأيتامِ، كأسُكَ أصبحتْ

مَلأَى، وصار مِزاجُها تَسنيماً

حَسْبُ اليتيمُ سعادةً أنَّ الذي

نشرَ الهُدَى في الناسِ عاشَ يَتيماً

 

أحبتي.. (كفالة اليتيم)، بابٌ واسعٌ لرضا الله سبحانه وتعالى، ثم إنها سببٌ لدخول الجنة بإذن الله؛ فليُبادر كل مسلمٍ مقتدرٍ إلى كفالة اليتامى بشكلٍ مباشرٍ، أو عن طريق دعم المؤسسات التي تقوم برعايتهم. ومَن كانت (كفالة اليتيم) مسئوليته فليتقِ الله في مال اليتيم وفي طعامه وشرابه وفي جميع شئونه، فهو أمانةٌ حتى يكبر ويصل إلى بر الأمان. إنّ كافل اليتيم وراعيه، يُعرِّض نفسه للعديد من المِنح الربانية، والعطايا الإلهية؛ فهل بعد كل هذه المِنح والعطايا يتكاسل عاقلٌ عن رعاية اليتيم وكفالته؟ إن (كفالة اليتيم) هو فرصةٌ أغلى من الذهب؛ فلنحرص على ألا نفوِّتها، وندعو الله أن يُعيننا على الوفاء بمسئولياتها، طاعةً لله وقربةً منه.

 

https://bit.ly/3T6vKW2

الجمعة، 16 فبراير 2024

ذنوب الخلوات

 

خاطرة الجمعة /434

الجمعة 16 فبراير 2024م

(ذنوب الخلوات)

 

طالبٌ مغتربٌ عن وطنه، يدرس في إحدى الدول الغربية، كتب في أحد مواقع التواصل الاجتماعي يعرض مشكلته الشخصية، يقول: صباحٌ مُختلفٌ، صباحُ غربةٍ عن الأهل والوطن، مساءُ أحلامٍ لا نقدر على البوح بها، مساءُ أملٍ بالله سبحانه وتعالى، صباحُ شابٍ يحلم بخدمة دينه وأمته ووطنه ومجتمعه، صباحُ دموعِ فرحٍ بقُرب الفرج من الله -سبحانه وتعالى. مشكلتي لا أعرف كيف أصفها ولكني سأفعل، أرهقتني (ذنوب الخلوات) وأنا الملتزم في الجلوات، بدأت مشكلتي منذ تسعة أشهرٍ -تقريباً- عندما بدأتُ بمتابعة القنوات الفضائية الإباحية، والتي من السهل جداً متابعتها في بلاد الغُربة. البداية كانت -في ذلك اليوم المشؤم- بدايةً سيئةً لطريقٍ غريبٍ، خاصةً بأنني شابٌ مؤثرٌ على من حولي من أقاربي، يعتبرونني قدوةً لهم، يتمنون أن يكون أولادهم مثلي! وأكاد أُقسم بالله، أنهم لا يتوقعون مني فعل هذا الأمر، وأنا الشاب الملتزم، الحافظ لأجزاءٍ من القرآن الكريم، المواظب على الصلاة، لا أعرف ما جرني إلى هذا الطريق؟!

بعد ثمانية أشهرٍ من ذلك اليوم المشئوم بدأ اهتمامي يزداد بمشاهدة الأفلام الإباحية، ليس فقط من خلال القنوات الفضائية بل واتجهتُ إلى مشاهدة تلك الأفلام من خلال مواقع الإنترنت باستخدام حاسوبي، وتطور الأمر إلى تنزيل بعض المقاطع على هاتفي المحمول، ولكم أن تتخيلوا ما كان يُصاحب ذلك من ممارسة عادةٍ رذيلةٍ لا أريد حتى أن أذكر اسمها. أنا الذي أنصح غيري بالتقوى والعفة والنقاء أجد نفسي -وأنا في خلوتي بعيداً عن الناس- أسيراً لشهواتي؛ مُدمناً على مشاهدة المواقع الإباحية وممارسة تلك العادة! كيف وصل بي الحال إلى أن أعصي الله سبحانه وتعالى في السر؟ كيف وأنا المُعتمد عليه في كل أموري، والملتزم في العلن؟!

أحلامي كبيرةٌ، وأملي بالله ورجائي في رحمته وفضله؛ فقد نويتُ التوبة، وعندما أقرأ الآية الكريمة: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ يتقطع قلبي، وأُحس أن طريقي طويلٌ وصعبٌ، ومع ذلك فإني واثقٌ أن الله سيكون معي، لقد قررتُ الآن -ومن هذه اللحظة-، الرجوع إلى ما كنتُ عليه، الرجوع إلى شخصي القديم، النظيف النقي التقي المتفائل، المعتمد على الله سبحانه وتعالى، القوي به؛ سأبدأ مشروعاً كبيراً، سأترك هذه العادة السيئة المحرمة، وأرجع لأكون أفضل بكثيرٍ، أبتعد عن الاستجابة للشهوة وهوى النفس، وسأعمل كل شيءٍ يُخلصني من تلك العادة. أُعلنها -من الآن- توبةً كاملةً، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني، خاصةً وأنا في غُربتي وعائلتي -خاصةً أمي- بانتظاري. صحيحٌ أني ضعيفٌ وفقيرٌ، ولكني قويٌ وغنيٌ بالله سبحانه وتعالى؛ فيا ربِ لا تحرمني أجمل ما عندك بسوء ما عندي.

 

أحبتي في الله.. يقول أحد الشباب وقد ابتُلي بالنظر للحرام وارتكاب (ذنوب الخلوات): سمعتُ خشخشةً في الباب، فبلغ قلبي حُنجرتي، وانقطع نفَسي، فأغلقتُ جهازي، وفتحتُ الباب؛ فوجدتها هِرَّة! ألم يعلم هذا المسكين أن الله ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، وأن ليس بين الرجلِ وبين خِزيٍ تلك الذنوب إلا جدار مراقبة الله والتي هي أعظم واعظٍ وأكبر زاجرٍ؛ فمن هدم الجدار فقد تجرَّأ على الله، وما أقبح هذه الجرأة.

 

عن (ذنوب الخلوات) يقول تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾.

وقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا] قَالَ صحابيٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: [أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا].

 

ويقول أهل العلم إن (ذنوب الخلوات) هي تلك الذنوب التي يتعمدها المرء تعمداً فيتجرأ على محارم الله أينما كان، ويجعل الله عزَّ وجلَّ أهون الناظرين إليه. إن داء انتهاك محارم الله في مكانٍ لا يعرفك ولا يراك فيه إلا الله داءٌ خطيرٌ، بنظرةٍ تنظر إليها، بشاشةٍ تُقلِّبها، ومشافهاتٍ إلكترونيةٍ تختبئ معها خلف أسماءٍ مُستعارةٍ فتتجرأ على المُحرمات، وتنتهك الخصوصيات، وتعتدي على محارم الآخرين وأعراضهم، وربما تسافر إلى بلدٍ بعيدٍ، إلى مكانٍ لا يعرفك فيه أحدٌ ولا يعرفك إلا الله؛ فتتجرأ على محارم الله وكأن الله لا ينظر إليك، وكأنك لم تقرأ الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ كأنك نسيتها أو تناسيتها، ويستولي عليك الشيطان، ولو كنتَ بين الناس ومعهم لاستحييتَ منهم، والله أحق أن يُستحيا منه، راقبتَ أهل الأرض أكثر مما راقبتَ مَن في السماوات، واستخفيتَ من الناس ولم تستخفِ من الله، وخشيتَ الناس كخشية الله بل أشد خشيةً؛ اجترأتَ على ربك جرأةً ما تجرَّأتَ مثلها على بشر! خُذ حذرك من (ذنوب الخلوات) وخاصةً مع الجوالات والكمبيوتر والتلفاز عند غياب الأهل والناس، وعليك بعبادة السر فإنها تقي النفس من نوازع الشهوات، وإذا أردتَ الثبات حتى الممات فعليك بمراقبة الله سبحانه وتعالى، وضبط النفس في الخلوات.

 

قيل عن (ذنوب الخلوات): "مَنْ خانَ اللهَ في السرِّ هَتَكَ اللهُ سِرَّه في العَلانِيَةِ". و"السَّيِّئاتُ في الخَلَواتِ تَنْسِفُ الحَسَناتِ الظاهِراتِ". و"ما أسَرَّ عَبْدٌ سَريرَةً إلا أظْهَرَها اللهُ على قَسَماتِ وَجْهِهِ وفَلَتاتِ لِسانِه". و"ذُنوب الخَلَواتِ هي أصْلُ الانتكاساتِ". و"إن (ذنوب الخلوات) من أعظم المُهلكات وهي محرقةٌ للحسنات". و"لا تكن ولياً لله في الظاهر، عدواً لله في الباطن". وفي هذا المعنى قيل في وصف مُرتكب هذا الإثم: "أمام الناس قديس، وفي خلوته صاحبٌ لإبليس".

 

وقال الشاعر:

إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُل

خَلَوتُ، وَلكن قُل عَليّ رَقيبُ

وَلا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُل ساعةً

وَلا أنَّ مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيبُ

 

قدّم أهل العلم هذه النصائح لمن يُريد أن يتخلص من (ذنوب الخلوات): لا تخلو بنفسك فترةً طويلةً؛ حتى لا يبدأ الشيطان في الوسوسة لك ويقودك إلى طريق الخطأ. اشغل وقتك دائماً بما يُفيد. توجه بالدعاء لله عزَّ وجلَّ بأن يُصلح لك نفسك. اجتهد أن تكون عبداً مُطيعاً لله وأن تتبع سُنة النبي عليه الصلاة والسلام. تذكَّر ستر الله عليك؛ فهو بمثابة فرصةٍ جديدةٍ من أجل أن تتدارك أخطاءك. تذكَّر وقوفك بين يدي الله تعالى يوم القيامة. صاحِب من يُعينك على الصلاح والاستقامة. اجعل خلواتك لعبادة الله تعالى فقط؛ فقد مدح الله عباده الذين يخشونه، خاصةً إذا غابوا عن أعين الناس؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾؛ فإذا أُغلقت دونك الأبواب، وأُسدلت على نوافذك الأستار، وغابت عنك أعين البشر، فتذكر مَنْ ﴿لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾، والذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾. وفي خلوتك لا يغرنك صمتُ أعضائك، فإن لها يوماً تتكلم فيه؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

فالله الله بإصلاح الخلوات، والصدق مع رب البريات، لتجد بذلك اللذة في المناجاة وإجابة الدعوات. راقِب الله تعالى في كل أحوالك، واعلم أنه معك بعلمه مطلعٌ عليك في كل شؤونك، فاستحِ من الله حق الحياء، واحذر سطوته ولا تُغضبه سبحانه بارتكاب ما حرّم عليك، سارِع بالتوبة والاستغفار تجد الله ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾.

 

أحبتي.. من وقع في (ذنوب الخلوات) فليتُب إلى الله؛ فهو قابل التائبين، والعافي عن المذنبين. ولنُكثر من قراءة القرآن، ونُصاحب الصالحين، وندعو الله جلَّ وعلا أن يجعلنا من المُتقين، ونداوم على ذِكر الله، فمن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، عرفه وقت ما تتزين له المعصية فيلهمه القول: ﴿إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، فيتوقف عن المعصية ويقول: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾. وكما أن (ذنوب الخلوات) هي أصل الانتكاسات؛ فإنَّ عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات؛ فلنجعل بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ خبيئةً لا يعلمها إلّا هو، لا يطَّلع عليها أحدٌ، ولا نتكلم عنها ولا نُحدِّث بها ونجعلها خالصةً للهِ؛ فلا تكتمل التَّقوى إلا بصلاحِ السريرة، والتقوى في السرِّ أصعب، لكنَّ أجرها أعظمُ.

اللهم عظِّم قدرك في قلوبنا، واجعل مراقبتك نُصب أعيننا، واجعلنا من الصالحين المُصلحين، ومن الهادين المهديين، وثبِّت أقدامنا، واجعل سرائرنا أفضل من ظواهرنا. اللهم إنا نسألك أن تُقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك في السر والعلن.

 

https://bit.ly/48jDA2L

الجمعة، 9 فبراير 2024

جَزَاءً وِفَاقًا

 

خاطرة الجمعة /433

الجمعة 9 فبراير 2024م

(جَزَاءً وِفَاقًا)

 

قال: لا أعرف من أين أبدأ رواية مأساتي التي أُعاني منها الآن، وعمري يُقارب السبعين عاماً؟! هل يُعيد الزمان نفسه معي فتدور الدائرة عليَّ لأشرب من نفس الكأس التي أذقتها لوالدتي من قبل خلال فترة شبابي؟!

وحتى تفهموا قصة ما أعانيه أعود بكم خمسين عاماً إلى الوراء... وقتها كنتُ شاباً في حوالي العشرين من عمري حيث فُجعت بموت والدي التاجر الكبير... ولما كنتُ ابنه الوحيد فقد وضعتُ يدي على كل ما يمتلكه من نقودٍ ذهبيةٍ وثلاثة محلاتٍ تجاريةٍ مليئةٍ بأفخر أنواع الأثاث، ووافقتني والدتي -رحمها الله– على ذلك لأنها كانت غير راغبةٍ في شيءٍ من حُطام الدنيا سوى ما يُقيم صلبها من طعامٍ وشراب.

عشتُ مع والدتي ردحاً من الزمان حتى اختارت لي زوجةً من قريباتي لمستُ فيها الطيبة وحُسن الخلق. لكن يبدو أن والدتي –رحمها الله– لم تكن تدري لطيبتها المفرطة بذلك المكر والدهاء المتمثليْن في قلب تلك الزوجة؛ فما إن وضعت ابني الأول حتى طالبتني بشراء منزلٍ خاصٍ لنا بعيداً عن والدتي، وتحججت زوجتي بأنها تريد الاستقلال بحياتها لتُحس بأنها سيدة المنزل! حاولتُ الاعتراض في البداية.. لكن تحت إلحاحها بادعاء أن والدتي تتدخل في شؤونها الخاصة، وافقتُ على بناء دارٍ جديدةٍ لنا تبعد عدة أميالٍ عن منزل والدتي.. ولم أستجب وقتها لتوسلات والدتي العجوز التي كانت في حاجةٍ إلى من يرعاها، أو يتولى شؤونها بالاستمرار معها في المنزل، وانسقتُ وراء رغبة زوجتي في الاستقلال بمنزلها! وكنتُ أتوجه لزيارة والدتي في بداية انفصالي بالمنزل الجديد بشكلٍ أُسبوعيٍ لشراء احتياجاتها من الطعام والشراب.. لكن تحت ضغط زوجتي وإلحاحها بدأتُ أقلل من زياراتي لوالدتي؛ لتصبح بشكلٍ شهريٍ نظراً لبُعد المسافة بين منزلينا في ظل عدم وجود وسائل سريعةٍ للمواصلات. أصاب والدتي المرض.. وعندما عرضتُ على زوجتي ضرورة عودتنا للحياة مع والدتي مرةً أُخرى لإعداد طعامها والإشراف على تطبيبها؛ رفضت زوجتي بحُجة أنها ليست خادمةً لوالدتي أو لغيرها، وهكذا لم أستجب لتوسلات أُمي بالبقاء إلى جوارها مُكتفياً بتوصية جيرانها على الاهتمام بحالها.. وفي أحد الأيام بلغني خبر وفاتها من أحد هؤلاء الجيران.

ومضت الأيام والسنون فنسيتُ واقعة أمي وواصلتُ الحياة السعيدة مع زوجتي وولديّ.. وبعد وفاة أُم أولادي منذ عامين أحسستُ بأنني وحيد. فاتحتُ ولديّ الاثنين في أمر الزواج من امرأةٍ أُخرى؛ فلم يوافقا، وعندما رفضتُ رأيهما عازماً على الزواج فوجئتُ بمعاملتهما تتغير تجاهي بشكلٍ لم أكن أتخيله. نسيتُ أن أذكر أنني وكلتُ أولادي في مسؤولية كل شيءٍ أمتلكه لاقتناعي بأن الموت لا مفر منه وسوف يرثون ما أملك يوماً ما.. فلا مانع من تكليفهما بإدارة المؤسسة التي أمتلكها في حياتي، وعندما لاحظتُ هذا التغيير في المعاملة منهما هددتهما بإلغاء الوكالة المقدمة، ففوجئتُ بأن معاملتهما ازدادت سوءاً لدرجة أنهما أصبحا يُقاطعاني ولا يُرسلان لي مبالغ ماليةٍ تكفي لإعالتي كما كان يفعلان من قبل. وكلما أتذكر ما كنتُ أفعله مع والدتي من قبل تتساقط الدموع من عينيّ على تكرار نفس المأساة في حياتي التي فعلتها من قبل مع والدتي -رحمها الله- وأخشى أن أموت مثل أُمي دون أن يكون أحد أولادي إلى جواري.. وما أرجوه الآن أن تتسع رحمة الله -عزَّ وجلَّ- لتشملني وتغفر خطيئتي فلا أموت وحيداً منعزلاً كما حدث مع والدتي".

 

أحبتي في الله.. هذه قصةٌ واقعيةٌ تُظهر لنا من جانبٍ عقوق الأبناء لأبيهم، كما تُظهر من جانبٍ آخر عقوق الأب لأمه وما وصل إليه من إحساسٍ بالندم بعد فوات الأوان، كما تُبين لنا عدل الله سُبحانه وتعالى إذ أن ما يُعامَل به الأب الآن من أبنائه (جزاءً وِفاقاً) لما قام به مع أمه.

تُذكرني هذه القصة بأخرى حدثت مع أُمٍ كانت جالسةً مع أبنائها تُساعدهم في واجباتهم المدرسية، وكان من بينهم طفلها الصغير الذي لم يدخل المدرسة بعد، بعد الانتهاء من الواجبات الدراسية قامت الأُم لتحضير الغداء لوالد زوجها الذي كانت له غرفةٌ منعزلةٌ في الخارج في حديقة المنزل، ذهبت إليه وقدمت له الغداء واطمأنت عليه وتأكدت أنه لا يُريد شيئاً آخر، أثناء عودتها إلى المنزل أصابها الفضول فيما كان يفعله ابنها الطفل، لاحظت الأم قبل إحضار الطعام لوالد زوجها أن ابنها كان مُمسكاً بقلم أحد إخوته ويرسم مربعاتٍ ودوائر على ورقةٍ فتجاهلت الأمر، لكنها تفاجأت بعد عودتها من عند والد زوجها أن ابنها ما يزال مُمسكاً بالقلم ويرسم؛ فاقتربت منه وسألته: "ماذا يرسم الحبيب؟"؛ فقال لها: "أرسم بيت المستقبل الذي سأسكنه أنا وزوجتي وأطفالي"، فرحت الأُم لما سمعته، لكنها لاحظت أن ابنها رسم مُربعاً منعزلاً خارج المنزل فسألته: "لِمَ هذا المربع هنا؟ ولِمَ هو منعزلٌ عن باقي المربعات والممرات في المنزل؟"، فكان وقع جوابه كالصاعقة عليها؛ إذ كان قال ببراءة الأطفال: "هذه ستكون غرفتك يا أمي عندما تكبرين"، فسألته: "وهل ستجعلني في غرفةٍ وحدي ولا أحد يؤنسني؟"، فقال لها: "لا؛ سأزورك، ولكنني سأجعلك في غرفةٍ مُنعزلةٍ مثل غرفة جدي". ما إن سمعت الأُم هذا الجواب من ابنها حتى فاضت عيناها بالدموع؛ فقامت فوراً بإعداد غرفة الجلوس في البيت ليقيم فيها والد زوجها، ونقلت غرفة الجلوس إلى الخارج، وما إن دخل والد الزوج إلى غرفته الجديدة بالمنزل حتى تفاجأ الابن لما يراه فغيّر رسم بيت المستقبل وأضاف غرفة والدته من المكان المنعزل في الحديقة إلى داخل بيته.

لقد عرفت الاُم أن الدنيا صغيرةٌ جداً، وما تفعله اليوم سوف يُفعَل مثله معها، وما فعلته مع والد زوجها سوف ترى مثله من أبنائها وبنفس الطريقة؛ فحقاً تلك الدنيا صغيرةٌ جداً ودوارةٌ، وكما تدين تُدان.

 

ورد في الأثر: "البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ". وقيل إنه مكتوبٌ في التوراة: "كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا تَزرَعُ تَحصُدُ"، أي: كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى، أي: تُجَازَى بفعلك وبحسب ما عملت.

يقول العلماء إن عبارة "كما تدين تُدان"، وعبارة "الجزاء من جنس العمل"، تُعبران بدقةٍ عن التعبير القرآني الفريد والمتميز (جَزَاءً وِفَاقًا). يقول المفسرون أن هذا التعبير يعني جزَيْناهم جَزَاءً مُوافِقا لأعمالِهِم؛ فقد استحق أهل الكُفر عقوباتٍ فظيعةً جزاءً لهم ووفاقاً على ما عملوا من أعمالٍ سيئةٍ موصلةٍ إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم؛ فتعذيبُ الله الناسَ إنما هو مَحضُ عدلٍ منه سبحانه، فلا يُعاقَب إلا من استحقَّ العقاب بجُحوده. أي: جوزوا جزاءً موافقاً لأعمالهم القبيحة التي كانوا يعملونها في الدنيا، حيث كانت أعمالهم سيئةً، فأتاهم الله بما يسوؤهم.

 

فقاعدة (جَزَاءً وِفَاقًا) فيها حكمةٌ بليغةٌ جاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالةً على صدقها، وهي سنةٌ كونيةٌ جعلها الله سبحانه وتعالى عظةً وعبرةً للناس، وهي قاعدةٌ عظيمةٌ مطردةٌ في جميع الأحوال، وبالتأمل في الكتاب والسنة نجد شواهد ذلك؛ فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقاباً من جنس عملهم؛ فقال سبحانه: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يقول أهل العلم: ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي مجازاةً على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، والجزاء من جنس العمل. كما يظهر ذلك في أمورٍ أخرى؛ يقول تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته. كما رتّب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مُناسبٌ للعمل نفسه؛ ومن ذلك:

يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، ويقول كذلك: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾. كما يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾. ويقول: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾.

ويقول في الحديث القُدسي: {يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ}.

ومن السُنة الشريفة أحاديث كثيرةٌ؛ منها: قال صلى الله عليه وسلم: [ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ]. كما قال: [.. مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وقال أيضاً: [مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ]. وقال كذلك: [مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ].

وذلك من مُقتضى عدل الله عزَّ وجلَّ وحكمته؛ فمن عاقب بجنس الذنب لم يظلم، ومع ذلك فلابد من أن نذكر هنا أن وعيد الله وعقابه قد لا يقع؛ لأن الله سبحانه وتعالى عفوٌ يُحب العفو، ويصفح عمن ارتكب الذنوب والمعاصي، فلا يُعجّل له الحساب إذا تاب من ذنبه واستقام حاله.

 

قال الشاعر:

المَرءُ يُجزى بِمَا يُسديهِ مِنْ عَملٍ

للنَّاسِ مَهما تَولَّى عنهُ وامتنعا

يومًا سيلقاهُ لو طالَ الزَّمانُ بِهِ

خيرًا وشرًّا سَيَجنِي كُلَّ ما زَرعا

فاصنَعْ لِنَفسِكَ بعدَ الموتِ منزِلَةً

إنْ مَرَّ ذِكرُكَ قَالُوا ذَاكَ مَن صَنَعا

واستَنهِضِ النَّفسَ واشغِلها بفَائِدَةٍ

لَا يَبلغُ المَرءُ إلَّا ما إلَيهِ سَعَى

 

أحبتي.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به]؛ فليُراجع كلٌ منا أفعاله وعلاقاته، وليُسارع إلى تصحيح وتصويب ما قد يكون عليه من أخطاءٍ، ويعمل بنيةٍ خالصةٍ للتوبة من كل ذنبٍ، والعودة إلى الطريق المستقيم الذي ارتضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى، ووجهنا إليه رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وليحمد الله أن أعطاه فرصةً للتوبة قبل أن يحين الأجل فيقول وقتها: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيأتي الرد حاسماً: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

 

https://bit.ly/3usBKyR