الجمعة، 27 مايو 2022

اغتنام الفرصة

 

خاطرة الجمعة /345


الجمعة 27 مايو 2022م

(اغتنام الفرصة)

كتب يقول: مررتُ بتجربة جهاز الرنين المغناطيسي وكدتُ أموتُ من صُعوبتها؛ إنه أشبه بتابوتٍ للموت المؤقت. الذي لم يُجرب هذا الجهاز فهو في نعمةٍ. بدأ الأمر بتعبٍ مفاجئٍ دخلتُ بعده في دوامةٍ من مراجعة الأطباء والأشعات والتحاليل، وكان لي وقفةٌ مع جهاز الرنين المغناطيسي المُغلق؛ تجربةٌ حياتيةٌ إذا مررتَ بها فلن تخرج بعدها كما دخلتَ، قلباً وشعوراً؛ 40 دقيقةً وأنتَ مُستلقٍ على ظهرك، داخل مكانٍ مُظلمٍ ضيقٍ وبارد، لا يتحرك منك أي شيءٍ، صَمتٌ لا يقطعه إلا ضجيج الآلات، لا تفتأ حينها تستحضر فكرة المآل الأخير، وتستشعر شيئاً من تفاصيله. كنتُ أظن الأمر سهلاً لا يستحق التهويل والمبالغة، فدخلتُ، ولم يمضِ من الوقت إلا شيءٌ يسيرٌ أظنه 10 دقائق، إلا وإذا بوحشةٍ شديدةٍ تجتاحني، ما شعرتُ بها في عُمري كله، نفد صبري، وضاقت نفسي التي بين جنبيّ وأنا أواجهها، فكرتُ في عملي وما قدّمتُ لحياتي؛ فعزمتُ أن أقرأ ما تيسر لي مما أحفظ من القرآن كي أُهدئ من روعي، وأنا مستلقٍ لا أسمع ولا أرى أي شيءٍ، فبدأتُ مُستعيناً باللّه بالفاتحة ثم بسورة البقرة، وعندما وصلتُ إلى منتصف الجزء الثاني، إذا بحفظي يتهاوى ويتداخل، ونسيتُ الآياتِ، حيلتي عاجزةٌ؛ لا مصحف أعود إليه، ولا سبيل لمراجعة ما أحفظ أبداً! اعتراني خوفٌ شديدٌ لا يعلم به إلا اللّه، وما استشعرتُ حينها شيئاً إلا لحظة الموت ومآلي إلى القبر، وتخيلتُ نسياني هناك ما أحفظ من القرآن. يا حسرةً! حفرةٌ ضيقةٌ أكثر، بقائي فيها مُضاعفٌ، دهراً طويلاً إلى أن يشاء اللّه، لا أنيس لي فيها ولا سعةً إلا بعملي، ولا عودةً لتصحيح ما مضى!

أخذتُ أتأمل: إن كان هذا أمري الآن، فكيف بيوم العرض الأكبر أمام رب العالمين؟ كيف لي أن أقف في مصافّ الحُفاظ، يقرأون ويرتلون ويرتقون في مراتب الجنة، بينما أنا غافلٌ لاهٍ قد وهبني اللّه القرآن ثم فرّطتُ فيه في حياتي أيما تفريط، وأهملتُ معاهدته فتفلّت مني؟ حسرةٌ تُساوي العمر كله! خرجتُ من هناك، وركبتُ سيارتي، وعندما وصلتُ إلى بيتي أسرعتُ إلى مُصحفي، أمسكتُ به، احتضنته وأنا أدافع العبرات، وأتحسس ملمسه ككنزٍ ثمينٍ فقدته طويلاً، استشعرتُ حينها أن مرضي، والتشخيص، والفحوصات، والأشعة كلها ما كانت إلا لأعيش تلك اللحظة. أيقنتُ أنها البداية الحقيقية، وأن عُمري الحقيقي قد بدأ الآن.

 

أحبتي في الله.. كانت هذه تجربةً شخصيةً مرّ بها كاتب القصة، ولعل غيره مرّ بها كذلك، والدرس المستفاد منها هو أهمية الاستعداد للرحيل، فالموت علينا حقٌ، لا مفر منه ولا مهرب؛ وإن كان نهايةً لحياتنا في الدنيا، فإنه بدايةٌ لحياةٍ أخرى، دائمةٍ وأبديةٍ، حياةٍ إذا قدمنا لها ما أمرنا الله به كانت نعيماً مُقيماً وجنةَ خُلدٍ فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ فإذا أردنا الفوز بالجنة علينا أن نعمل ونعمل، ولا نُضيع أوقاتنا في سفاسف الأمور، وليكن شعارنا (اغتنام الفرصة)؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: [اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ]، ولنتخير -إلى جانب العبادات المفروضة- أعمالاً يسيرةً عظيمةَ الأجرِ نرفع بها درجتنا في الجنة؛ فما هي يا تُرى تلك الأعمال؟

نجد الإجابة عن هذا السؤال في الحديث الشريف التالي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [لَقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسْريَ بي فقالَ: يا محمَّدُ، أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ وأخبِرْهُم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ]. فيا لها من فرصةٍ ينبغي علينا اغتنامها، طالما أننا مازلنا في هذه الدنيا، فنستكثر من الغرس في الجنة، ونضاعف الأجر والثواب بأن ندلّ أهلنا وأحبابنا على فضل قول "سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ"؛ فكلما قالها واحدٌ منهم، غُرِست له شجرةٌ في الجنة، وغُرست لنا مثلها.

 

يقول أهل العلم إن وقتنا محدودٌ؛ فأيامنا تمضي مسرعةً، تمر السنة كأنها شهرٌ، ويمر الشهر وكأنه أسبوعٌ. أجلنا مُسمىً، وأعمالنا قاصرةٌ، وأمانينا خادعةٌ، وآمالنا سراب. لذا فإن (اغتنام الفرصة) هو اختيار الأذكياء، لا تمر فرصةٌ إلا اقتنصوها، وإن لم تمر بادروا إلى صُنعها وإيجادها والإفادة منها، همهم منصرفٌ إلى ترك الأثر وكسب الثواب ومضاعفة الأجور. إنهم في سباقٍ دائمٍ مع الزمن، يعلمون أن الوقت ثمينٌ وهو رأس مال الشخص، وضياعه يعني ضياع أهم ما نملك، ضياعه يعني ضياع العمر.

 

قال أحد الصالحين: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي". وقال آخر: "يا ابن آدم، إنما أنت أيامٌ، إذا ذهب يومٌ ذهب بعضك، يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسِن إليه، فإنك إن أحسنتَ إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأتَ إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلتك". وقال ثالثٌ: "الدنيا ثلاثة أيامٍ؛ أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه". أما الرابع فقال: "مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ، أَوْ حَمْدٍ حَصَّلَهُ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ، أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ، فَقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ". وقال غيرهم: إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها". هكذا فهم العقلاء حالهم مع الدنيا، وعملوا على (اغتنام الفرصة) وكسب الوقت مدركين أنهم مثلهم مع الدنيا؛ مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها].

 

فلنُشمِّر عن سواعد الجد ولا نُضيّع أوقاتنا فيما لا نفع فيه، ولمن يتعلل بكثرة المشاغل وقلة الوقت، نقول له: إن الدقيقة من الزمن يُمكن أن يُفعل فيها خيرٌ كثيرٌ ويُنال بها أجرٌ كبيرٌ، دقيقةٌ واحدةٌ فقط يُمكن أن تزيد في عطائك، في فهمك، في حفظك، في حسناتك، دقيقةٌ واحدةٌ تُكتب في صحيفة أعمالك إذا عرفتَ كيف تستثمرها وتُحافظ عليها؛ ففي دقيقةٍ واحدةٍ تستطيع أن تقرأ سورة الفاتحة 3 مرات، أو أن تقرأ سورة الإخلاص 20 مرة. ويمكن أن تقول "سبحان الله وبحمده" 100 مرة، أو تقول "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" 50 مرة، أو تقول "لا إله إلا الله" 50 مرة، أو تقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" 40 مرة، أو تقول "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على شيء قدير" 20 مرة، أو تقول "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 20 مرة، أو تقول "سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" 15 مرة، أو تقول حين تسمع النداء "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته"، ولن يستغرق ذلك أكثر من دقيقةٍ واحدةٍ.

 

لابد من (اغتنام الفرصة)؛ فلا تُضيّع الوقت، استفد من دقائق الفراغ في أي مكانٍ: في منزلك أو مقر عملك، في المصرف، في المستشفى، في انتظار إنهاء مُعاملة، وأنت تسير على قدميك، وأنت تقود سيارتك، وأنت في وسيلةٍ من وسائل المواصلات. وفي أي وقتٍ: صباحاً أو مساءً، ظُهراً أو عصراً، دُبر الصلوات، بعد الاستيقاظ أو قبل النوم. وعلى أية هيئةٍ: واقفاً أو جالساً أو مُضجعاً. فذِكر الله من أجلّ العبادات وأشرفها، وهي عبادةٌ لا تتطلب وضوءاً ولا طهارةً، ولا يُشترط لها استقبال القبلة، وليس لها وقتٌ مُحددٌ، تُقال سراً وعلانيةً، يقولها الكبير والصغير، الصحيح والمريض، الغني والفقير، لا تُكلف مالاً ولا جُهداً، سهلةٌ وميسرةٌ للجميع، وثوابها عظيمٌ بإذن الله.

قال الشاعر عن أهمية الدقائق في حياة الإنسان:

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ

إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني

فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها

فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني

العمر فرصةٌ لا ضمان لبقائها، ومن الواجب (اغتنام الفرصة) التي لا تُعوض؛ حتى لا يكون من بيننا من يقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيكون الرد: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. ولا يكون منا من يقول: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾، ولا من يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، ولا من يقول: ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾. ولا من يصف الشاعر حاله فيقول:

إلهي لَقدْ أعْطَيتني الفُرصَةَ الكُبْرى

لكَ الحَمدُ رَبي حينَ أعْطيتَني العُمْرا

وهلْ مِثلُها مِنْ فُرْصَةٍ ذَهَبيةٍ

تُبَلغني المَجْدَ الذي يَرفَعُ الذِكْرا؟

ولكنْ لِفَرطِ الجَهْلِ مِني أضَعْتُها

ولَمْ أنتفعْ بالعُمرِ دُنيا ولا أُخْرى

وهلْ حَسْرةٌ في الدَهْرِ تُشْبِهُ حَسْرتي؟

وهلْ مِثلُ خُسْري في الحَياةِ ثَرىٌ خَسِرا؟

وهلْ فُرْصَةٌ كالعُمرِ ضَيعْتُها سُدَىً؟

وهلْ ثَرْوَةٌ كالوَقتِ قدْ ذَهَبتْ هَدَرا؟

 

ما دام في العمر بقيةٌ، وما دُمنا ما زلنا في دار الابتلاء والاختبار، ومع اهتمامنا بالدنيا التي نحن مأمورون بإعمارها والمشي في مناكبها، علينا أن ننتهز كل فرصةٍ متاحةٍ لاكتساب مزيدٍ من الحسنات تكون لنا رصيداً في الآخرة، إنها موازنةٌ مطلوبةٌ بين الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

 

وعن (اغتنام الفرصة) قال الشاعر:

اغتنمْ ركعتين إلى الله

إذا كنتَ فارغاً مُستريحاً

وإذا هممتَ بالنطقِ بالباطلِ

فاجعل مكانَه تَسبيحاً

فاغتنامُ السكوتِ أفضلُ من خوضٍ

وإنْ كنتَ بالكلامِ فصيحاً

 

ورد في الأثر أن «الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ» فليُظهر كلٌ منا كياسته وفطنته في اقتناص فرصة العُمر، والإكثار من ذِكر الله سبحانه وتعالى، ولنتأمل أين وردت كلمة "كثيراً" في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ لم ترد إلا مع ذِكر الله، فما ألطفك ربنا وما أرحمك وأكرمك، يسرّتَ لنا العبادة، ومننتَ علينا بالمغفرة والأجر العظيم. ويُروى أن رجلاً قال: يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به؛ فقال عليه الصلاة والسلام: [لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ].

 

أحبتي.. نُقل عن أحد الصحابة قوله: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". ونُقل عن غيره: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، يقول العلماء إنّ الجزء الأول من هذه المقولة له وجهٌ مقبولٌ إذا فُهم على أنه دعوةٌ إلى الأخذ بالأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق، والاهتمام بعمارة الأرض فيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، أما الجزء الثاني من ذات المقولة فيعني: بادر بالعمل، ولا تتهاون، وقدِّر كأنك تموت غداً، بل قدِّر كأنك تموت قبل غد؛ لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت، وفي هذا ترغيبٌ في الآخرة، واتخاذ الدنيا مزرعةً وسبيلاً إليها، ويكون الثواب يوم الحساب بقدر ما نُقدم من أعمال الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا﴾.

نسألك اللهم قلباً حياً ونفساً مطمئنةً وعملاً صالحاً ترضاه، وخاتمةً حسنةً، ونجاةً من النار، وفوزاً بالجنة. ونسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

 

https://bit.ly/3t1Re8X

الجمعة، 20 مايو 2022

حُسن الخاتمة

 

خاطرة الجمعة /344


الجمعة 20 مايو 2022م

(حُسن الخاتمة)

 

تم تعيين أحد أبنائها -قبل أسبوعٍ من وفاتها- في وظيفةٍ جديدةٍ فأبت عليه إلا أن يبدأ بعُمرةٍ قبل أن يُباشر وظيفته، وطلبت أن تصحبه وكان لها ذلك. رأت قبل رحلتها للعُمرة بأيامٍ رؤيا فأخبرت ابنتها أنها رأت رؤيا خيرٍ، وأن رؤياها إنْ صدقت فستعرفونها بعد أيامٍ قليلة، ولم تُخبرها شيئاً. ألقت قبل وفاتها بخمسة أيامٍ درساً عن الموت، وتحدثت فيه عن العزاء وأحكامه والبدع التي أحدثها الناس في العزاء، بحضور قريباتها، وكأنما شعرت باقتراب أجلها. وتذكر ابنتها أنّ لأمها مصلىً خاصاً فيه سجادةٌ لا تكاد تُطوى، وقبل سفرها مع ابنها للعُمرة طوت سجادتها -على خلاف العادة- ولما استغربت ابنتها من ذلك، ألحت الأم بأن ترفع سجادتها.

ولما همت بالخروج إلى المطار ودّعت أبناءها وزوجها ورفعت يديها إلى السماء ودعت لزوجها وأكثرت وهي تقول: "جزاكَ الله عني خير الجزاء؛ فقد يسّرتَ لي أن أدعو لربي، ولا حرمكَ الله أجري حيث لم تحرمني من الدعوة في سبيل الله"، وألحت بالدعاء ربع ساعةٍ وهو يسمعها. وصلت مع ابنها وابنتها إلى المسجد الحرام في الثُلث الأخير من الليل، وطافوا، وكانت تُلح بالدعاء أن تأتيها منيتها في هذا المكان الطاهر. وشرعوا بعد ذلك في السعي، وفي مُنتصف السعي نادى مؤذن المسجد الحرام لصلاة الفجر فقالت لابنها وابنتها: "سنُصبح صائمين؛ فاليوم خميس" فأصبح الثلاثة صائمين. ولما صعدت للصفا في بداية الشوط الخامس، وبين الأذان والإقامة في أشرف زمانٍ وأطهر مكانٍ، وهي صائمةٌ، وقد استقبلت القبلة، رفعت يديها داعيةً في بداية الشوط، وابنتها تقف بجانبها، تقول ابنتها: "لم أنتبه إلا ووالدتي قد خرّت ساجدةً لله تعالى، انتظرتها لتقوم من سجدتها؛ فقد ظننتُ أنها وافقت آية سجدةٍ في دُعائها فسجدت، فلما طالت سجدتها نبهتها فلم تنتبه، حاولتُ أن أقيمها فكأنما سعلت مرتين بلطفٍ ثم سقطت على الأرض، جاء الطبيب فكشف عليها سريعاً، وقال لقد فارقت الحياة".. فيا الله ما أحسنها من خاتمة.. في خير أرض الله، وهي صائمةٌ تؤدي مناسك العمرة.

هذه قصة «أم وليد» الداعية المعروفة في «الرياض»، رحمها الله في الحرم، وكانت تدعو الله كثيراً في محاضراتها أن يتوفاها الله تعالى وهي تُلقي درساً أو في بيته الحرام؛ فأجاب الله دعاءها.

 

أحبتي في الله.. عن (حُسن الخاتمة) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أراد اللهُ عزَّ وجلَّ بعبدٍ خيرًا عسَّلهُ، وهل تَدْرونَ ما عسَّلهُ؟]، قالوا: اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُهُ أعلمُ، قال: [يفتَحُ اللهُ عزَّ وجلَّ له عملًا صالحًا بيْنَ يَدَيْ موْتِهِ حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام في ذات المعنى: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ] فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: [يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ].

 

يقول العلماء أن (حُسن الخاتمة) هو أن يوفق العبد قبل موته للبُعد عما يُغضب الله سبحانه وتعالى، وأن يُسارع إلى التوبة من الذنوب والمعاصي، وأن يُقبل على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.

وقالوا إنّ لحُسن الخاتمة علاماتٍ؛ منها ما يعرفه العبد عند احتضاره، ومنها ما يظهر للناس. أما العلامة التي يظهر بها للعبد حُسن خاتمته فهي ما يُبشَر به عند موته من رضا الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ] وأوضح ذلك بقوله: [المُؤْمِنُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ]؛ فالمذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية المصير إلى الله والدار الآخرة؛ يقول تعالى عن هؤلاء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، أما محبة العبد للقاء الله فهي في إيثاره الآخرة على الدنيا؛ فلا يُحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها.

ومن علامات (حُسن الخاتمة) النُطق بالشهادتين عند الموت، والموت ليلة الجمعة أو نهارها، والشهادة في سبيل الله، والموت بمرض الطاعون أو بداءٍ قد أصيب بالبطن، أو بالغرق، أو بالهدم، أو بالحرق، وموت المرأة أثناء فترة النفاس، والموت أثناء الدفاع عن النفس أو المال أو الدين، وموت المُرابط في سبيل الله تعالى، والموت أثناء القيام بعملٍ من الأعمال الصالحة التي تُرضي الله.

ويُجمل أهل العلم أسباب (حُسن الخاتمة) في:

الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وحُسن الظن بالله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي]. والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. والصدق؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. والتوبة؛ يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والمداومة على الطاعات.

 

يقول أحدهم عن (حُسن الخاتمة) ليس المقصود أن تكون داعيةً لله، أو أن تموت وأنت في المسجد أو على سجادة الصلاة، أو تموت والمُصحف بين يديك؛ فقد مات خير البرية جمعاء صلى الله عليه وسلم وهو مُسندٌ على صدر زوجته، ومات الصديق أبو بكر رضي الله عنه -وهو خير الصحابة- على فراشه، وكذلك مات خالد بن الوليد على فراشه وهو المُلقب بسيف الله المسلول والذي خاض مائة معركةٍ لم يخسر أياً منها. أهم ما في (حُسن الخاتمة) أن تموتَ وأنت على الكتاب والسُنة، وأنت بريءٌ من الشرك والنفاق ومن كل بدعةٍ. (حُسن الخاتمة) أن تموتَ وأنت خفيف الحِمل من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، مؤدياً حق الله عليك وحق عباده عليك. وأن تموتَ سليم القلب طاهر النوايا حَسِن الأخلاق؛ لا تحمل غلاً ولا حقداً ولا ضغينةً لمسلم. (حُسن الخاتمة) أن تُصلي خمسك في وقتها مع الجماعة -لمن لهم حق الجماعة- وتؤدي ما افترضه الله عليك من زكاةٍ وصومٍ وحجٍ إن استطعتَ إليه سبيلاً، واصلاً رحمك، غير ظالمٍ لأحدٍ، وغير مُعينٍ لظالمٍ، مُحسناً ظنك بالله.

 

ولله دَّرُّ الشاعر حين قال:

يا عالمَ الغيبِ! ذَنْبي أنتَ تَعْرِفُه

وأنتَ تَعْلَمُ إعْلاني وإسْراري

وأنتَ أدْرَى بإيمانٍ مَنَنْتَ بِهِ

عَلَيّ ما خَدَشَتْهُ كُلُ أوْزاري

أحْبَبْتُ لُقْياكَ حُسْنُ الظنَِ يَشْفَعُ لي

أيُرْتَجَى العَفْوُ إلاّ عِندَ غَفَّارِ؟

 

أحبتي.. ليسأل كلٌ منا نفسه: "ماذا فعلتُ حتى أحظى بحُسن الخاتمة؟"، ولتكن إجابتنا عمليةً وفوريةً بغير تأجيلٍ ولا تسويفٍ ولا إبطاءٍ؛ فنُلزم أنفسنا بطاعة الله وتقواه ما استطعنا، ونبتعد عن ارتكاب المُحرمات، ونُبادر إلى التوبة من كل ما يُغضب الله عزَّ وجلَّ، ولنجعل لأنفسنا خبيئةً بيننا وبينه سبحانه وتعالى، كما أنّ علينا أنْ نُلّح في الدعاء أنْ يستعملنا عزَّ وجلَّ ويُعسِّلنا ويتوفانا على الإيمان والتقوى والعمل الصالح.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، واكتب لنا (حُسن الخاتمة) واجمعنا بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

 

https://bit.ly/3sMJHe4

الجمعة، 13 مايو 2022

فضل القرآن

 

خاطرة الجمعة /343


الجمعة 13 مايو 2022م

(فضل القرآن)

 

هذه قصةٌ واقعيةٌ، حدثت في المملكة العربية السعودية، وبطلة القصة امرأةٌ اسمها «أمينة» كانت تصارع ورماً في المخ. تقول «أمينة»: أنا إنسانةٌ أحسب نفسي وُئدتُ قبل أن أُولد لما عانيته من مصاعب في حياتي، مصاعب لا تخطر على بال الكثيرين، لكن -والحمد لله- لم تتأثر ثقتي بالله أبداً، كنتُ مصابةً بورمٍ في المخ، ولم يكن خبيثاً إلا أن ألمه كان فظيعاً، ورغم أنّ العلاج لم يُحدث أي تحسنٍ على مدار أربع سنوات، لكن كان بداخلي يقينٌ بأن الله لم يبتليني ألا ليهبني شيئاً عظيماً، ويغفر لي ذنوبي. مع آخر مرةٍ زرتُ فيها الطبيب أظلمت الدنيا في عينيّ؛ إذ لم يكن آخر تقرير علاجٍ يبشر بالخير. قررتُ أن أحفظ القرآن، لم يكن ذلك في البداية بنية الشفاء، ولكن كان بنية أن أحفظ القرآن قبل أن أموت؛ فبدأتُ أحفظ أجزاء متفرقةً، وكنتُ أحمد الله ليل نهار، إلى أن حفظتُ سورة البقرة كاملةً، شعرتُ وقتها بفرحةٍ أنستني ألمي. كنتُ أخاف أن يضيع مني الوقت وأموت قبل إتمام الحفظ.

كان للنوم هجماتٌ كنتُ أستعين عليها بالوضوء، وكنتُ أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم حتى لا يغلبني، وكنتُ أتحرك كثيراً حتى لا أستسلم للمرض، كما كنتُ أستعين بالصلاة وكثرة الاستغفار، كل هذا وأنا أسارع في الحفظ، وأصارع المرض في نفس الوقت؛ فقد كان ألم الصداع يزداد يوماً بعد يومٍ فالورم يكبر ويكبر. أذكر عندما كنتُ أقرأ في سورة طه قوله تعالى: ﴿قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ وجدتُ نفسي أنفجر في البكاء لإحساسي أني سأموت قريباً، فبدأتُ أُسرِع في الحفظ حتى ألقى الله وأنا حافظةٌ لكتابه الكريم؛ عسى أن يغفر لي. وأنا في صراعي مع المرض كان الشيطان يوسوس لي ويقول إني -مهما فعلتُ- لن أحفظ القرآن، فلماذا أُضيّع ما تبقى من عُمري في شيءٍ لن أُتمه؟ كان يُحاول بكل طريقةٍ أن يُثنيني عن عزمي ويجعل الملل يتسرب إلى قلبي، ويفت من عزمي، لكني كنتُ أقاوم وأقول بيني وبين نفسي: "أنا سأموت، وكل الناس ستموت، لكن بماذا ألقى ربي؟ أريد شفيعاً لي عنده سبحانه، وأريد مؤنساً لي في قبري؛ فإن للقبر وحشةً". واستمر صراعي مع المرض، وصراعي مع الشيطان، حتى جاء اليوم الذي وفقني فيه ربي لإتمام حفظ القرآن الكريم كاملاً؛ فقررتُ ألا أنام قبل أن أتوضأ وأختم القرآن، وحينما وصلتُ إلى سورة الناس أحسستُ أني وُلدت من جديد؛ إنه (فضل القرآن).

بعدها بأيامٍ قليلةٍ ذهبتُ لمتابعة التحاليل الدورية على الورم، وكنتُ على أتم الاستعداد لتلقي الخبر الكارثة، أقصد معرفة نتائج التحاليل. حدث اضطرابٌ في غرفة المُختبر، وتنادى الأطباء واجتمعوا لمتابعة الأمر، وأنا أقول في نفسي: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها"، لكني صُدمت صدمة عُمري كله عندما قال الطبيب: "لقد تم شفاؤك بنسبه 70 %!"، الله أكبر، وأنا التي كنتُ أطمع في تحسن 1% فقط؛ صدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ لقد شفاني الله ب(فضل القرآن)؛ فلا تقنطوا أبداً من رحمة الله ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾.

 

أحبتي في الله.. إنه (فضل القرآن)، فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء، ولا ينال فضله سبحانه وتعالى إلا كل مجتهدٍ يعمل بإخلاصٍ فتكون الإعانة ويكون التيسير من الله عزَّ وجلَّ، ومع الإخلاص والمثابرة ومجاهدة النفس يكون عطاء الله مُدهشاً إلى أبعد الحدود.

 

وإنْ تعجب فاعجب على هؤلاء الأشخاص، الذين هُم منا، دينهم الإسلام، يعيشون معنا بأجسادهم، أما أرواحهم فقد خطفها الشيطان، يتجرأون على ثوابت الدين، ويقومون بالإساءة إلى القرآن الكريم، لا تهزهم قصصٌ مثل قصة «أمينة» عن (فضل القرآن) ولا يصدقونها، يحسبونها من أساطير الأولين، رغم أن من السهل التأكد من مدى صدقها، تجدهم يرفضونها بغير سبب، بل وتجد بعضهم يسخرون من الدين، ومن رجال الدين، ومن القرآن الكريم وممن يحفظه، لكن الله سبحانه وتعالى يُقيض لهم من يكبتهم ويُخرس ألسنتهم؛ فهذه -على سبيل المثال- واحدةٌ من هؤلاء؛ دكتورةٌ علمانيةٌ ظنت أنها بشهادتها قد وصلت إلى قمة العِلم، كتبت على موقع التدوين المصغر «تويتر» تغريدةً تقول فيها: "مسکین الطفل الذي يُدخله أبوه مركز تحفيظ قرآن ولا يعلمه اللغة الإنجليزية؛ يكبر الطفل ويُصدم عندما يجد أن كل الوظائف شرطها إجادة اللغة الإنجليزية، ولا توجد أية وظيفة تشترط حفظ القرآن"، فإذا بأحد الشباب -حفظه الله وبارك فيه- يرد عليها بتغريدةٍ يقول فيها: "حفظتُ القرآن الكريم كاملاً وأنا في سن 14 عاماً، كنتُ من الأوائل دائماً، أجيد ثلاث لغات. حفظي للقرآن لم يُعيقني لأتخرج الأول على دفعتي بأمريكا، وبلغةٍ ليست لُغتي الأم، وكنتُ من القلائل الذين يحرزون العلامة الكاملة 100 من 100؛ فتعلم القرآن واللغة العربية يُضيئان العقل والروح، ولا يُنكر ذلك إلا جاهل".

 

وعن (فضل القرآن) بيَّنَ أهل العلم أنّ تعلُّم القرآن الكريم وقراءته، من أشرف العلوم، وأعظم الأعمال؛ فلا يوجد ما هو أعظم من كلام الله؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾. وقد أمر الله عباده المؤمنين بقراءة آيات القرآن آناء الليل وأطراف النهار؛ يقول تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، ووصف التالين له بالإيمان؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾. كما أن من (فضل القرآن) أنه حرزٌ وحمايةٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً﴾. ومن فضائله أيضاً نيل الأجر والثواب؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾.

 

وعن (فضل القرآن) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [منْ قرأَ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقولُ آلم حرفٌ، ولَكِن ألِفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْماهِرُ بالقُرْآنِ مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، والذي يَقْرَأُ القُرْآنَ ويَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وهو عليه شاقٌّ، له أجْرانِ]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [ما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ]. كما قال صلّى الله عليه وسلّم: [اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ، لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُها طَيِّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ، ومَثَلُ المُنافِقِ الذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ، كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، ليسَ لها رِيحٌ وطَعْمُها مُرٌّ]. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ]. وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: [من قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتب منَ الغافلينَ ومن قامَ بمائةِ آيةٍ كتبَ منَ القانتينَ ومن قامَ بألفِ آيةٍ كتبَ منَ المقنطرينَ]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [لا حسدَ إلا على اثنتينِ؛ رجلٌ آتاه اللهُ مالًا فهو ينفقُ منه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ للهِ أهلِينَ مِنَ الناسِ] قالوا: من هُمْ يا رسولَ اللهِ؟ قال: [أهلُ القرآنِ هُمْ أهلُ اللهِ وخَاصَّتُهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ].

 

أحبتي.. لعل قصة «أمينة» تُحرك قلوباً ابتعدت عن القرآن، وتهدي نفوساً انشغلت عن تدبر كلام الرحمن،

ولعل ما ذكرناه عن (فضل القرآن) يكون دافعاً لنا لننظر في علاقتنا بكتاب الله سبحانه وتعالى؛ هل نُداوم على تلاوته؟ هل نُجاهد النفس لحفظه؟ كله أو بعضه؟ هل نتدبر معانيه؟ هل نعمل بأحكامه؟ أم قد شغلتنا الدنيا عن كل ذلك؟ لا أظن أبداً أن يخلو بيتٌ من بيوتنا من مُصحفٍ، وليس هذا هو المهم، لكن المهم هو كيف نتعامل مع القرآن الكريم في حياتنا اليومية؟ البعض منا اكتفى بأن يترك مصحفه موضوعاً على الرفوف، يُجّله ويُقدسه ويحترمه، ويضع يده عليه ليُقسم به! وصار القرآن لدى البعض وسيلةً يُتبرك به فقط؛ فتجدهم يضعون المصحف في مكاتبهم وسياراتهم، ومنهم من يحرص على أن يُسمع الحي كله آياتٍ من القرآن تُتلى من مكبرات الصوت ليلة افتتاح متجره الجديد! وهناك منا من لا يستمع إلى القرآن إلا في المقابر وقت دفن أحد المسلمين، أو في شوادر وقاعات العزاء! والبعض يتعامل مع القرآن بشكلٍ موسميٍ؛ قبل الامتحانات وفي أوقات الشدة وفي شهر رمضان ثم تنتهي علاقته بالقرآن بانتهاء الموسم! فهل يليق هذا بكلام الله عزَّ وجلَّ؟ علينا أن نُراجع طريقة تعاملنا مع كتاب الله سبحانه وتعالى حتى لا نكون ممن اشتكى منهم الرسول صلى الله عليه وسلم لرب العزة فقال: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾. أحبتي.. اجعلوا لأنفسكم وِرداً يومياً، وخصصوا للقرآن أفضل أوقاتكم لا فضلة وقتكم، ولا تحرموا أنفسكم من (فضل القرآن)، حفظنا وحفظكم الله بحفظه، ونفعنا به، عسى الله أن يُفرَّج لنا به كُرب الدنيا والآخرة، وأن يكون أنيساً لنا في قبورنا وشفيعاً لنا يوم الحساب.

 

https://bit.ly/39me9VK

الجمعة، 6 مايو 2022

أمانة التربية

 

خاطرة الجمعة /342


الجمعة 6 مايو 2022م

(أمانة التربية)

 

إهداءٌ خاصٌ لكل مسلمٍ في بلاد المهجر؛ قال الطبيب راوي القصة: كنتُ أدرس الطب في كندا، ولا أنسى أبداً ذلك اليوم الذي كنتُ أقوم فيه بالمرور اليومي على المرضى في غرفة العناية المركزة في المستشفى ولفت انتباهي اسم المريض الذي في السرير رقم 3, إنه «محمد». أخذتُ أتفحص وجهه -الذي لا يكاد يُرى من كثرة الأجهزة والأنابيب على فمه وأنفه- إنه شابٌ في الخامسة والعشرين من عُمره مصابٌ بمرض الإيدز، أُدخل إلى المستشفى قبل يومين إثر التهابٍ حادٍ في الرئة. حالته خطيرةٌ جداً جداً. اقتربتُ منه، وحاولتُ أن أكلمه برفق: "محمد.. محمد".. إنه يسمعني لكنه يُجيب بكلماتٍ غير مفهومة.

اتصلتُ ببيته فردت عليّ أمه، يبدو من لكنتها أنها من أصلٍ لبنانيٍ، عرفتُ منها أن أباه تاجرٌ كبيرٌ يمتلك محلات حلويات. شرحتُ للأم حالة ابنها، وطال الكلام، وأثناء حديثي معها بدأت أجراس الإنذار تتعالى بشكلٍ مخيفٍ من الأجهزة الموصلة بذلك الفتى مؤشرةً على هبوطٍ حادٍ في الدورة الدموية. ارتبكتُ في حديثي مع الأم، وصرختُ بها: "لا بد أن تحضري الآن"، قالت: "أنا مشغولةٌ في عملي وسوف أحضر بعد انتهاء الدوام!"، قلتُ لها: "عندها ربما يكون الأمر قد فات"، ووضعتُ السماعة.

بعد نصف ساعةٍ أخبرتني الممرضة أن أم الفتى وصلت وتُريد مقابلتي؛ قابلتها، امرأةٌ في متوسط العُمر لا تبدو عليها مظاهر الإسلام، رأت حالة ابنها فانفجرت باكيةً، حاولتُ تهدئتها فقلتُ: "تعلقي بالله تعالى واسألي له الشفاء", قالت بذهول: "أنت مسلم؟!"، قلتُ: "نعم والحمد لله"، قالت: "نحن أيضاً مسلمون"، قلتُ: "حسناً، لماذا لا تقفين عند رأسه وتقرئين عليه شيئاً من القرآن لعل الله أن يُخفف عنه؟"، ارتبكت الأم ثم انخرطت في بكاءٍ مريرٍ وقالت: "لا أحفظ شيئاً من القرآن!!"، قلتُ: "كيف تُصلين إذن؟ ألا تحفظين الفاتحة؟!!"، فغُصت بعبراتها وهي تقول: "نحن لا نُصلي إلا في العيد، منذ أن أتينا إلى هذا البلد"، سألتها عن ابنها: "هل كان يُصلي؟"، قالت: "لا، لكنه كان ينوي أن يحج في آخر عمره!!". بدأت أصوات أجهزة الإنذار ترتفع أكثر وأكثر، اقتربتُ من الفتى المسكين، إنه يُعالج سكرات الموت. الأجهزة تُصفِّر بشكلٍ مخيفٍ. الأم تبكي بصوتٍ مسموعٍ. الممرضات ينظرن بدهشةٍ. اقتربت من أذنه وقلتُ: "لا إله إلا الله. قُل: لا إله إلا الله" لكن الفتى لا يستجيب. "قُل: لا إله إلا الله". إنه يسمعني. بدأ يفيق وينظر إليّ. يحاول المسكين بكل جوارحه. الدموع تسيل من عينيه. وجهه يتغير إلى السواد.

"قُل: لا إله إلا الله. قُل: لا إله إلا الله". بدأ يتكلم بصوتٍ متقطعٍ: "آه.. آه.. ألمٌ شديدٌ.. آه.. أريد مسكناً للألم.. آه.. آه". بدأتُ أدفع عبراتي وأتوسل إليه: "قُل: لا إله إلا الله". بدأ يحرك شفتيه. فرحتُ.. يا إلهي سيقولها.. سينطقها الآن.. لكنه قال: "I Can’t.. I Can’t أين صديقتي أريد صديقتي.. لا أستطيع.. لا أستطيع". الأم تنظر وتبكي. نبض الفتى يتناقص. يتلاشى. لم أتمالك نفسي. أخذتُ أبكي بحرقةٍ. أمسكتُ بيده. عاودت المحاولة:

"أرجوك قُل: لا إله إلا الله". "لا أستطيع.. لا أستطيع". توقف النبض. انقلب وجه الفتى أسوداً. ثم مات. انهارت الأم وارتمت على صدره تصرخ. رأيتُ هذا المنظر فلم أتمالك نفسي، نسيتُ كل الأعراف الطبية، انفجرتُ صارخاً بالأم: "أنتِ المسئولة. أنتِ وأبوه. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله".

 

أحبتي في الله.. نعم لقد أضاع الوالدان ابنهما وخانا (أمانة التربية)؛ فالأمانة ليست فقط في المال -كما يَرِد على ذهن الكثيرين عند ذِكر لفظ الأمانة- بل إن الأمانات التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بأدائها بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ وردت بصيغة الجمع لتشمل العديد من صور وأشكال وأنواع ومجالات الأمانة، وربما كانت (أمانة التربية) هي أول وأهم الأمانات بعد أمانة الدين مباشرةً والتي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾.

أما (أمانة التربية) المُناط بالوالدين القيام بها فهي المُشار إليها في قوله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

وهي التي رواها عبد الله بن عُمر قال: "أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: [كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]، قالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَحْسِبُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: [والرَّجُلُ في مَالِ أبِيهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ].

 

إن الإسلام -كما يرى أهل العلم- قد أوجب على الآباء والأمهات ضرورة الاهتمام الدائم بالأولاد وحُسن تربيتهم على العموم، وتزداد أهمية تربيتهم وتأديبهم والحفاظ عليهم في بلاد الغُربة كي ينشأوا على هدى الإسلام وأحكامه، بدلاً من أن تُغيرهم الأيام شيئاً فشيئاً حتى يتحولوا عن الإسلام ذاته. والأمانة ثقيلةٌ، وأرض الواقع حافلةٌ بالأمثلة الواقعيَّة التي يراها أهل الغُربة في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها من ضياع الأولاد والبنات وانجرافهم مع هذه المجتمعات في تقليدٍ أعمى بلا تعقِّلٍ، وذلك لأن الوالديْن قد قطعا الروابط التي تربط الأولاد بجذورهم، فلم يعد لهم ارتباطٌ بدينهم، ولا لغتهم الأصيلة، ولا بوطنهم الأم، فانحدرت القيم وضاعت الأخلاق، وأصبحت الصورة العامة للناشئ المسلم في بلاد الاغتراب –إلا من رحم الله– أنه فاقد القدوة الحسنة في المنزل، فيرى أباه وأمه وإخوته الكبار على جملةٍ من المخالفات الشرعية قولاً وعملاً، فيتأثر بهذه المخالفات ويُقلدها، ويظنها حقاً، وما عداها باطلاً، ثم يُفاجَأ الوالدان بأن شخصية هذا الناشئ قد تبلورت على خلاف ما كانا يرجوان له من خيرٍ، رغم أنهما السبب في ذلك. إن لسان حال هذا الناشئ وأمثاله ليقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾

وحال هذا الوالد وهذه الأم كما قال الشاعر:

وينشأُ ناشئُ الفتيانِ منا

على ما كان عوَّدهُ أبوهُ

فيظهر أثر القدوة في نفس الولد والبنت في زمن الصغر، ويظهر ذلك بانطباعه على نقش الذاكرة، ويظل معيناً دائماً لا ينضب في نفس الناشئ حتى يكبر.

ولا شك أنه من صور الإجحاف والظلم للنبت الصغير تركه في العراء بلا تعهدٍ ولا رعاية، حيث ينشغل الوالد والوالدة تماماً عن الفتاة والصبي، فلا مشاركةٍ وجدانيةٍ، ولا علاقةٍ حميمةٍ، ولا متابعةٍ للأخلاق والسلوك، ولا تقويمٍ ولا تهذيبٍ، إنما يبذل الوالدان كل جهدهم من أجل حصول أبنائهما على أكبر قدرٍ من الرفاهية في المسكن والمأكل والملبس وشتى المطالب المادية، وهذا شيءٌ مطلوبٌ وحيويٌ، ولكنه لا يكفي وحده في بناء أبناء الإسلام في بلاد الغُربة على الخصوص. ومع انشغال الوالدين تبدو بوارق الخطر؛ إذ تتدخل عوامل خارجيةٌ هدّامةٌ تعمل عمل السُّمِّ في نفسية الناشئ؛ كالإعلام المرئي والمقروء المجرد عن أي حياءٍ، والاختلاط الإباحي في كل مكانٍ، وأثر الصديقات والأصدقاء، وتبرز من جراء ذلك ثمراتٌ كأنها رؤوس الشياطين، لعل أهمها ضياع معنى الشرف والطهارة، وإهدار منظومة القيم والمُثل الإسلامية، وبقية الثمرات المُرة، وكلها من سخائم المجتمع الغربي، ويأتي في مقدمتها ترك الصلاة التي هي عماد الدين؛ يقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، وكل ذلك من وراء تقصير الآباء والأمهات الذين يُهملون أبناءهم حتى ينفرط عقدهم، ويفلت زمامهم إلى سنٍ بعيدةٍ عن زمن التعلم والتأديب.

 

ومما يؤلم أن نرى بعض الآباء والأمهات في البلاد الإسلامية قد أضاعوا أبناءهم؛ بعدم الاهتمام بتنشئتهم التنشئة الإسلامية الصحيحة بحُجة مُجاراة الحضارة الغربية وإعداد أبنائهم للعيش في عصر الحداثة والعلمانية والانفتاح والحرية والتقدم المزعوم، مُضحين في سبيل ذلك بالكثير من القيم الإسلامية، غير عابئين بتعليم أبنائهم أصول دينهم؛ فلا يهتمون بتعويدهم الصلاة، ولا بتحفيظهم بعض آياتٍ من القرآن الكريم، فينشأ بعضهم لا يكاد يُحسن قراءة الفاتحة أو سورة الإخلاص. وهؤلاء الآباء والأمهات ممن يصفهم المولى عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.

 

وهذه نصيحةٌ من ذوي الاختصاص تُساعد الوالدين -خاصةً المغتربين منهم- على الوفاء بواجبات ومسئوليات و(أمانة التربية) حتى ينشأ أبناؤهم نشأةً إسلامية صحيحة: حافظوا على دينكم وهويتكم الإسلامية، وربوا في نفوس أبنائكم الاعتزاز بالدين، وربوهم على أن يكون لهم هدفٌ في الحياة، وأن المسلم له هدفٌ من وجوده وغايةٌ خُلق لها؛ وهي عبادة الله سبحانه في الأرض، وإقامة دينه وشرعه، وأنه لم يُخلق ليأكل ويشرب ويتمتع فقط، فالمسلم يتلقى الأوامر والنواهي من الله الخالق، الذي كرمه بهذا، ليسعده في دنياه وأخراه، ويُدخله الجنة، أما هؤلاء الذين يأكلون ويتمتعون كما يشاؤون وليس عندهم حلالٌ ولا حرامٌ، فإنهم ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾. اغرسوا في نفوس أبنائكم هذه المعاني بأسلوبٍ شيقٍ مؤثرٍ؛ فيعرفون لماذا يجب على المسلم فعل أشياء، ولماذا يحرُم عليه إتيان أشياء.

 

وللأمانة فإن هناك أسراً تُعد نماذج نفخر بها، وأمثلةً يُقتدى بها؛ عاشت في بلاد الغرب متمسكةً بدينها، قابضةً على الجمر، حريصةً على الوفاء بتلك الأمانة (أمانة التربية) فنشأ أبناؤها تنشئةً إسلاميةً صحيحةً؛ علم الوالدان أن المسلم مسؤولٌ أمام الله تعالى عن أولاده؛ فكانا لهم كالراعي الذي يسوقهم إلى مواطن الخير ويُدخلهم فيها، ويُحذِّرهم من مواطن التهلكة والضرر؛ فليس المهم أن ينجو المؤمن من العذاب وحده، بل عليه أيضاً أن يحرص على وقاية أهله من النار، وأولاده هُم أهم أهله وأقربهم إليه.

 

أحبتي.. تحيةً خاصةً نُقدمها من أعماق قلوبنا لكل أسرةٍ تعيش في الغرب وتحرص على أن ينشأ أبناؤها مسلمين صالحين، عسى الله أن يُضاعف أجر الآباء والأمهات في تلك الأسر. أما الأسر التي بعُدت عن الدين ولم تهتم بتنشئة أبنائها على منهج الإسلام القويم، سواءً في الغربة أو في بلاد المسلمين، فنقول لهم اتقوا الله في أنفسكم وأبنائكم، ضيعتم (أمانة التربية)، عودوا إلى رُشدكم يرحمكم الله، وتداركوا ما يُمكن تداركه، أخلصوا النية لله وأحسنوا العمل؛ ليكون سبحانه وتعالى خير مُعينٍ لكم، ويوفقكم في مسعاكم.

اللهم اهدنا صراطك المستقيم، وهب المسيئين منا للمحسنين، وأعز الإسلام والمسلمين.

 

https://bit.ly/3kSMTQV

الجمعة، 29 أبريل 2022

البِر بالوالد

 

خاطرة الجمعة /341


الجمعة 29 إبريل 2022م

(البِر بالوالد)

 

كتب والدٌ يعيش وحيداً، يقول:

أُمضي شهر رمضان وحيداً عاجزاً مُثقلاً بالأمراض التي تحد كثيراً من حركتي، أتفقد هاتفي لعلي قد تلقيتُ مكالمةً ولم أشعر بها، فأنظر في الجوال فلا أجد من ذلك شيئاً. خلّفتُ ثلاثة شبابٍ وأختهم، خلّفوا لي أربعة عشر حفيداً معظمهم في الجامعات، وأغلب هؤلاء الأحفاد قضى معظم طفولته على أكتافي متجولاً ما بين ديزني لاند في لوس أنجلس وباريس ولندن وميلانو.

أفنيتُ شبابي في تدليل آبائهم وأمهاتهم. كنا نجتمع على الطعام خمسة عشر فرداً، بل وأكثر، وفجأةً لا أجد أحداً، تختفي الضوضاء والأطفال وآباؤهم، وأرى نفسي صديقاً مخلصاً لصديقين؛ النوم والنوافذ، وأقسم بالله أصبحت النافذة أعزَّ عليّ من أولادي كلهم. تُجري زوجتي بعض المكالمات مع صديقاتها المغتربات سواءً في أمريكا أو الخليج، وبسبب كوني فضولياً فإني أتلصص على مكالماتها، فأرى أنها مكالماتٌ من الأهل والسؤال عن احتياجاتهم بشكلٍ يومي. تصوروا أن في أمريكا وتركيا والخليج مكاتب تُسجل طلب الطعام في هذه البلاد وتتقاضى ثمنه وتُرسل الطعام من دمشق إلى أهل الصديقة الموجودة في أمريكا، وبالمقابل لي ولدٌ موجودٌ في كندا وهو الأصغر -عمره أربعون عاماً- يُكلمني بمعدل مُكالمةٍ واحدةٍ كل شهر، هل تصدقون أنه لم يُبارك لي بشهر رمضان حتى الآن؟ وطبعاً خلال عشر سنوات غيابٍ، ومع قلة مُكالماته لم يسألني يوماً بجديةٍ إن كنتُ بحاجةٍ لشيءٍ -زوج من الجوارب مثلاً- وفي نهاية المُكالمة يقول لي: "ارضَ عني"، وكأن الرضا كميةٌ من البونبون أضعها في جيبي وأُخرج منها لأصبَّ في جيبه متى طلب مني! وأما الآخر فهو في إستانبول، يحتاج عشرة أيامٍ حتى يُكلمني من جواله مُكالمةً مُقتضبةً يُنهيها بجملةٍ سريعةٍ ومتصلةٍ "عاوز شي بابا خاطرك"، عفواً نسيتُ أن أقول لكم أنه زارني بعد غياب عشر سنواتٍ حاملاً معه أربعة علب سجائر هديةً لي؛ لأني مازلتُ أدخن! وأما الكبير فيهم فيكتفي بالسلام عليّ -فقط السلام لا أكثر- عن طريق رسائل الماسنجر المكتوبة وليست الصوتية! وأخيراً كُلهم يطلبون الرضا! وأتساءل أنا: الرضا على ماذا؟ كُل أولادي يشهدون كيف كانت مُعاملتي لأمي وأبي -رحمهما الله- حتى أنهما طلبا مني ذات مرةٍ التوقف عن تقديم الهدايا لهما، ولم أكن أرضى أن تدخل بيتي فاكهةٌ أو أي نوعٍ من الطعام غير العادي قبل أن يدخل بيتهما قبلي بيومٍ على الأقل، وأُقسم بالله إنني سألتُ أبي مرةً -وكان يجلس بجانبي في السيارة- سألته أن يرضى عليّ، فدمعت عيناه، وقال لي: "وهل أنت بحاجةٍ إلى رضا؟".

كنتُ وحيداً قبيل المغرب أجلس بقرب النافذة، أنتظر أذان المغرب، سكونٌ وسكون، وأفكارٌ سوداء، وأتساءل أين أولئك الذين أفنيتُ كل شبابي ومعظم كهولتي في تدليلهم وتدليل نسائهم وأولادهم؟ أين هُم؟ ويقولون لي في نهاية المُكالمة الموسمية: "ارضَ علينا"، وهنا أتساءل: "هل إذا رضيتُ أنا سيرضى الخالق؟".

 

أحبتي في الله.. ليس من (البِر بالوالد) نسيانه وهجره وعدم السؤال عنه وتركه وحيداً، فالوحدة صعبةٌ على الجميع، فما بالنا بالوالد عندما يكون كبيراً في السن، يعيش وحده وبمفرده؟ إنه يُحس بمرارة الوحدة، ويتضاعف إحساسه بها عندما يكون له أبناء لا يسألون عنه، وإذا سألوا كان سؤالهم لرفع العتب، وكأنهم يقومون بواجبٍ يتمنون لو يتخلصون منه!

ذكرتني هذه القصة بقصيدةٍ مؤثرةٍ لشاعرٍ سوريٍ كان مقر عمله في لبنان، قضى وقتاً طيباً مع جميع أفراد أسرته خلال عُطلةٍ بمصيف "قرنابلٍ" بلبنان، وفي نهاية العُطلة ودّعوه وتركوه وحيداً وعادوا إلى حلب، ومع إحساسه بمرارة الوحدة كتب هذه القصيدة:

أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟

أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولةُ في توقُّدها؟

أين الدُّمى، في الأرضِ، والكتبُ؟

أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟

أين التشاكي ما له سببُ؟

أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في

وقتٍ معًا، والحُزْنُ والطَّربُ؟

أين التسابقُ في مجاورتي

شغفًا، إذا أكلوا وإنْ شربوا؟

يتزاحمون على مُجالَستي

والقربُ منِّي حيثما انقلبوا

فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا

ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا

وهتافهمْ "بابا" إذا ابتعدوا

ونجيُّهمْ "بابا" إذا اقتربوا

بالأمس كانوا ملءَ منزلِنا

واليومَ -ويحَ اليومِ- قد ذهبوا

ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهمْ

في القلبِ، ما شطّوا وما قَرُبوا

إني أراهم أينما التفَتتْ

نفسي، وقد سَكنوا، وقد وثبوا

وأُحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ

في الدارِ، ليس ينالهم نصبُ

وبريقُ أعينِهمْ إذا ظفروا

ودموعُ حُرقتِهمْ إذا غُلبوا

في كلِّ ركنٍ منهمُ أثرٌ

وبكلِ زاويةٍ لهم صَخَبُ

في النَّافذاتِ، زُجاجُها حَطَموا

في الحائطِ المدهونِ، قد ثقبوا

في البابِ، قد كسروا مزالجَه

وعليه قد رسموا وقد كتبوا

في الصَّحنِ، فيه بعضُ ما أكلوا

في عُلبةِ الحلوى التي نهبوا

في الشَّطرِ من تفّاحةٍ قضموا

في فضلةِ الماءِ التي سكبوا

إنِّي أراهم حيثما اتَّجهتْ

عيني، كأسرابِ القَطا، سربوا

بالأمسِ في "قرنابلٍ" نزلوا

واليومَ قدْ ضمتهمُ "حلبُ"

دمعي الذي كتَّمتُهُ جَلَدًا

لمَّا تباكَوْا عندما ركِبوا

حتى إذا ساروا وقد نزعوا

منْ أضلعي قلبًا بهمْ يَجِبُ

ألفيتُني كالطفلِ عاطفةً

فإذا به كالغيثِ ينسكبُ

قد يَعجبُ العُذَّالُ من رَجُلٍ

يبكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ

هيهاتَ ما كلُّ البُكا خَوَرٌ

إنّي -وبي عزمُ الرِّجالِ- أبُ

 

وعن (البِر بالوالد) وأسلوب معاملته -باعتباره أحد الوالدين- ذكرت الآيات القرآنية طاعة الوالدين بعد طاعة الخالق؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجنة قاطع]، يقول شُرّاح الحديث إنّ أعلى درجات قطيعة الرحم هي قطيعة الوالدين -ومنها قطيعة الوالد- لأن البعض قد يهجر والده أو تكون العلاقة بينهما فيها نوعٌ من الهجر، وقد تصل الأمور بينهما إلى المحاكم، كل هذا من صور العقوق، وبعض الأبناء يقول والدي ظلمني، فحتى لو حدث ذلك فإنه لا يعني أحقية الابن بأن يُعاقب والده على ما قام به من الأعمال؛ فهذا بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، فيجب على الابن أن يُظهر لأبويه -ومنهما والده- الإحسان والبِر مهما فعلا به، وعليه مصاحبتهما بالمعروف حتى لو وصل الأمر إلى أنْ يأمراه بالشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ .

وعن خُصوصية مُعاملة الوالد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الوالدُ أوسطُ أبواب الجَنَّة، فإنْ شئتَ فأضِعْ ذلك الباب أو احفظْه]، خير الأبواب وأعلاها، وأحسَن ما يُتوسَّل به إلى دخول الجَنَّة، والوصول إلى درجتها العالية، بابٌ يغفل عنه كثيرون.

وعن مكانة الوالد في الإسلام يقول أهل العلم إنّ للوالد مكانةً مهمةً في الإسلام، وله مقامٌ شامخٌ ومنزلةٌ كبيرةٌ. كما أنّ له دوراً مهماً في تحديد مصير المجتمع من خلال تربيته لأبنائه؛ فالخير والصلاح الذي يُصيب المجتمع إنما يكشف عن الجهود الخيّرة التي يبذلها الآباء لتربية أبنائهم فتنشأ الأجيال الصالحة.

إنَّ (البِر بالوالد) ليس قُبلةً تضعُها على جبينه أو يده، أو دراهم تضعُها في جيبه، أو هديةً تُدخل بها السُرور عليه، وإنْ كان كلُّ ما سبق مِن البِرِّ، لكن بعض الأبناء يختزل البِرَّ في تلك الصوَر، إنَّ البرَّ هو رُوحٌ وحياةٌ تبعثُها في كل عملٍ تقدِّمه لوالدك، فإنْ أعطيتَه مالاً أظهرتَ أنك ما كنتَ لِتحصل عليه لولا الله ثم بسببه، وإنْ دفعتَ عنه أذىً أبَنْتَ أنه قد دفع عنك مِن الأذى أضعافه، وإنْ جلبتَ له خيراً أقررتَ أنه قد سبقكَ وقدَّم لك أعلى منه وأعظمَ. وكأنَّ لسان حالك يقول: يا والدي وسيِّدي! قد قدَّمتَ أكثر مما عليك، وبقي ما هو لك، و﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

 

وذكر العلماء جملةً من الآداب في التعامل لتحقيق (البِر بالوالد) فقالوا: للوالد حق الإحسان إليه وطاعته، واللطف معه، والحنان عليه، وتحقيق كل ما يتمناه، وود الصُحبة والعِشرة ومرافقته في الخير. وللوالد حق الأدب في الحديث معه، وحُسن المعاملة، والنفقة عليه في حالة الاحتياج، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنتَ ومالُك لأبيكَ] فلوالدك عليك حق النفقة والرعاية عند الكبر والشيخوخة، رفقاً وإحساناً واحتراماً ووداً ورحمةً به يرحمك الله في الكبر.

 

ومع ذلك نجد من الأبناء من يُسيء الأدب مع والده؛ إما بالتصرف الخاطئ أو النظرة الحادة أو العقوق الظاهر، والبعض يهجر والده بالكلام والبُعد عنه، وهناك أبناء يصرخون في وجوه آبائهم، وهناك من يضرب والده، وهناك من يودعه بإحدى دور المسنين، بل وصل الأمر إلى أقصى درجات العقوق بأن يقتل الابن والده!

 

أحبتي.. (البِر بالوالد) واجبٌ شرعيٌ علينا جميعاً الوفاء به، فهو سبيلٌ إلى الجنة. ولا يتحقق هذا البِر إلا إذا أحسن كلٌ منا تصور الأسلوب الذي يُحب أن يُعامله أبناؤه به؛ حينئذٍ نكون قد علمنا ما ينبغي علينا أن نقوم به بِراً بوالدنا وإحساناً إليه، كما يحثنا على ذلك المولى عزَّ وجلَّ، ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فمن كان منا باراً بوالده فليزد من بِره، ومن كان مُقصراً فليتدارك نفسه ويُصحح مسار علاقاته بوالده ويُصوِّب أسلوب تعامله معه.

هدانا الله إلى مرضاته سبحانه وتعالى، وأعاننا على أن نكون أبناء بررة، وجعل حُسن بِرنا بوالدنا في ميزان حسناتنا.

 

https://bit.ly/3LtBFOM

 

الجمعة، 22 أبريل 2022

المتعففون

 

خاطرة الجمعة /340


الجمعة 22 إبريل 2022م

(المتعففون)

 

تروي إحدى الأخوات قصةً من الواقع فتقول: كنا في المرحلة الثانوية، نجتمع في أوقات الاستراحة مع بعض الصديقات، ونضع فطورنا مع بعض دون أن تعرف إحدانا ماذا جلبت الأخرى! وكانت هناك طالبةٌ مسكينةٌ لم تكن تجلب معها شيئاً، فأقنعتها بالجلوس معنا، لأنه لا يدري أحدٌ من جلب الطعام. واستمر الحال هكذا لفترةٍ طويلةٍ إلى أن اقترب وقت تخرجنا من المدرسة الثانوية، وقتها تُوفي والد هذه الطالبة المسكينة وتغير حالها؛ فأصبحتْ في وضعٍ أفضلٍ من ذي قبل، تعتني بملابسها، وتأتي بالطعام، أي أنها صارت بوضعٍ جيدٍ، فتوقعتُ أنها ورثت شيئاً من أبيها، فجلستُ معها وسألتها: "ماذا جرى معك؟ ما سر هذا التغيير؟". فأمسكتْ بيدي وبكت وقالت: "والله، كنا ننام بلا عشاءٍ، وأنتظر ذهابي للمدرسة صباحاً لكي أتناول الطعام معكم من شدة جوعي، وكانت أمي تُخبئ كسرات خبزٍ من العشاء لفطور الصباح لإخواني، فأخرج باكراً من البيت متعمدةً لكي أوفر لهم زيادةً من الطعام، والآن بعد وفاة أبي، أصبح كل من حولنا من أقارب ومعارف وأصدقاء يُعطوننا ويعتنون بنا، كوننا أصبحنا أيتاماً!"، سكتتْ لحظةً ثم قالت لي وفي حلقها غُصةٌ: "تمنيتُ لو أن أبي شبع ولو مرةً قبل أن يموت"، قالتها والدموع ممزوجةٌ بأحرف كلماتها، قالت لي: "كأنهم لم يعرفوا أننا محتاجين إلا عندما مات أبي!"، بكت بحرقةٍ وهي تقول تلك الكلمات، ومازلتُ أحس بحرارة دموعها وحرقتها إلى الآن.

 

وتساءلت راوية القصة: هل يجب أن يموت الإنسان الفقير حتى يشعر الأغنياء بأولاده الأيتام؟! ما بال الناس اليوم؟ أين الإنفاق؟ أين الزكاة؟ أين صلة الرحم؟ أين إغاثة الملهوف؟ أين الرحمة؟

أيها الأخوة والأخوات: تفقدوا الأسر العفيفة، تفقدوا الأقرباء والجيران والأصدقاء لعل فيهم مَن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، والله إن في دهاليز حياة بعضهم آلاماً لا يسمع أنينها إلا الله تعالى. أنفِقوا يُنفق الله عليكم، تصدقوا وادفعوا زكاة أموالكم ولا تخشوا الفقر أبداً، واعلموا أن حاجتكم إلى الصدقة أشد من حاجة مَن تتصدقون عليه.

 

أحبتي في الله.. المتعفف كصفةٍ لفردٍ أو أسرةٍ أصلها من التعفف، وهو من العفة، وهي الترك؛ يقال: عفَّ عن الشيء إذا كف عنه، وتعفف إذا تكلف في الإمساك. والتعفف ترك السؤال، والاستعفاف هو الصبر والنزاهة عن الشيء.

و(المتعففون) وردت سماتهم في الآية الكريمة التي تصف الذين هم أولى الناس بالصدقات؛ يقول تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم﴾. يقول المفسرون إن المعنى العام للآية هو: اجعلوا صدقاتكم للفقراء الذين منعهم الجهاد في سبيل الله من السفر طلباً للرزق، يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء لتعففهم عن السؤال، ويعرفهم المطلع عليهم بعلاماتهم، من الحاجة الظاهرة على أجسامهم وثيابهم، ومن صفاتهم أنهم ليسوا كسائر الفقراء الذين يسألون الناس مُلِحِّين في مسألتهم، وما تُنفقوا من مالٍ وغيره فإن الله به عليم، وسيجازيكم عليه أعظم الجزاء.

 

و(المتعففون) عن السؤال وردت أحاديث نبويةٌ شريفةٌ متعددةٌ تمدحهم وتذم المُلحفين في السؤال؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [ليسَ المِسْكِينُ الذي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَا اللُّقْمَةُ ولَا اللُّقْمَتَانِ، إنَّما المِسْكِينُ الذي يَتَعَفَّفُ، واقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا}]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن يستعفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ عزَّ وجَلَّ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ تعالى إذا أنعَم على عبدٍ نعمةً، يُحبُّ أن يرى أثرَ النِّعمةِ عليه، ويكره البُؤسَ والتَّباؤسَ، ويُبغِضُ السائلَ الملْحِفَ، ويحبُّ الحييَّ العفيفَ المتعفِّفَ].

 

يقول أهل العلم إن التعفف من سمات الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروفٌ تمنعهم من الكسب قهراً، وتأبى كرامتهم أن يسألوا العون من الناس، فهُم يتجملون كي لا تظهر حاجاتهم، ويحسبهم الجاهل -من حولهم- بما وراء ما يبدو منهم أنهم أغنياء لتعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة النافذة يُدرك سيماهم وهم يُدارونها في حياء.

و(المتعففون) لهم سمات تُميزهم قيل إنها التخشع والتواضع، وقيل إنها أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقيل إنها صُفرة ألوانهم من الجوع والضُر، وقيل رثاثة ثيابهم، وقيل: إذا كان عندهم غداءٌ لا يسألون عَشاءً، وإذا كان عندهم عشاءٌ لا يسألون غَداءً.

 

وهذا شاعرٌ متعفف يصف نفسه:

لَقَدْ زادَني تِيهاً عَلَى النَّاسِ أنّني أرانيَ

أَغْناهُمْ، وَإِنْ كُنْتُ ذا فَقْرِ

فوَاللهِ لا يُبْدي لِساني لَجاجَةً إِلَى أحَدٍ

حَتَّى أُغَيَّبَ في القَبرِ

فَلَو لَمْ أرِثْ فَخْراً لَكانَتْ صِيانَتي فَمي

عَنْ سُؤالِ النَّاسِ حَسْبي مِنَ الفَخْرِ

 

و(المتعففون) يرى علماء الاجتماع أنّهم أصحاب مميزاتٍ وصفاتٍ خاصةٍ؛ فهُم شريحةٌ من الفقراء والمعوزين يتصفون بالقناعة والتعفف وعزة النفس، إنهم صنفٌ من البشر سترهم الله بستره فتسربلوا بستره والتحفوا بالتعفف، فمهما كانت حاجتهم أظهروا الستر والاستغناء لا يسألون إلا الله، وهؤلاء يحتاجون من المنفقين والمحسنين بعض العناء في البحث عنهم، لذا فإن علينا كأفراد وعلى المؤسسات الخيرية بذل مجهودٍ أكبر للوصول لهم واتباع أحسن سُبل حفظ ماء الوجه عند مساعدتهم وإعانتهم.

 

أحبتي.. أختم بما أوصى به بعض الأفاضل؛ إذ قالوا: لا شك أن الدلالة على الأسر المتعففة من أفضل القُرب. ينبغي أن ينبري كلٌّ مِنَّا ليدُلّ المحسنين على أهل العفاف والكفاف حيثما كانوا، والدَّال على الخير كفاعله. إنّ الأمل أنْ تتسع دائرة الشعور بالمسؤولية ليشترك فيها الجميع؛ فيشعر كل واحدٍ منا بمسؤوليته تجاه المتعففين؛ قد يكون (المتعففون) من أقرب الناس إلينا دون أن ننتبه؛ فقد يكونون من قرابتنا أو جيراننا ونظن أنّ أحوالهم طيبةٌ، فقط لأنهم لم يطلبوا منا حاجةً، ولم نسمع منهم شكايةً، يصطبرون على معاناتهم بصمتٍ دون ضجيج؛ فلنبحث عنهم ونُقدم لهم ما استطعنا من مساعدةٍ، أو ندل المحسنين أو المؤسسات الخيرية عليهم حتى نكفيهم مؤونة السؤال. نحن جميعاً مسئولون أمام الله عنهم. إن قضاء حوائج الناس والستر عليهم في ميزان رب العزة والجلالة أكبر من تصورنا. وحين نقضي حاجةً لمسلمٍ سيقضي الله حوائجنا ويُيسّر لنا من الناس من يقف معنا في وقت ضيقنا واحتياجنا، ومَن نُسعده ستكون دعوته شفيعةً لنا في يومٍ نبحث فيه عن كل حسنةٍ وكل فعلٍ يُقربنا من الجنة ويُبعدنا عن النار. فلنبحث عن المتعففين ونُساعدهم بسريةٍ وتكتم، ولتكن قلوبنا نحن أيضاً متعففةً عن التباهي والتفاخر والعُجب بالنفس والرياء، لتكون أعمالنا خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وجعلنا ممن يرحمهم ويغفر لهم ويعتقهم من النار.

 

https://bit.ly/3ECOnba

الجمعة، 15 أبريل 2022

أمانة الكلمة

 

خاطرة الجمعة /339


الجمعة 15 إبريل 2022م

(أمانة الكلمة)

 

يقول راوي القصة: بعد خروجي في اليوم الأول من البرنامج التدريبي بتلك المؤسسة التي كنتُ سأقدم لها هذا البرنامج مدة ثلاثة أيامٍ متواصلةٍ، وكانت المؤسسة بجانب مبنى المحكمة، الساعة تُشير إلى الواحدة والربع ظهراً، الوقت صيفاً، درجة الحرارة من بين 40 -45 مئوية، فجأة سيارةٌ خارجةٌ من مبنى المحكمة بها شابان دخلتْ الشارع الرئيسي بطريقةٍ غريبةٍ؛ دون توقفٍ أو تريثٍ أو النظر للشارع لمعرفة هل هو خالٍ من السيارات؟! وكأنما تسوقهما سيارتهما إلى الموت! شاحنةٌ مقبلةٌ من الاتجاه الآخر ترتطم بسيارة الشابين؛ فتسحبها مسافة 600 متراً من قوة الصدمة، ثم تستقر بين أنياب الشاحنة ومخالب عمودٍ للكهرباء، فتحترق على الفور!

أوقفتُ سيارتي على حافة الطريق، وهُرعتُ كما هُرع جمعٌ من السائقين الذين كانوا في تلك اللحظة قريبين من الحادث. السيارة تلتهمها النيران. الشابان يصرخان. يستغيثان. سيارتهما ناشبةٌ في أظفار عمود الكهرباء، وبين فكي الشاحنة. محاولات الإنقاذ كلها كانت دون جدوى، الكل لا حول له ولا قوة. درجة الحرارة عاليةٌ، والسيارة بين قبضتي وحشين كاسرين، وكأنها فريسةٌ تنعي حتفها! والنيران سريعة الاشتعال. وأنا في هول الموقف اخترق أذني صوتٌ من خلفي: "أليس هذان الشابان اللذان أقسما يميناً قبل قليلٍ في المحكمة؟!" ردّ عليه أحدهم: "نعم، إنهما هما". النار التهمت الشابين مع سيارتهما. لا حول ولا قوة إلا بالله. في المساء التقيتُ بأحد المنظمين للبرنامج التدريبي، على موعدٍ مسبقٍ للعشاء معه، قال لي: "عندما خرجتَ اليوم بعد البرنامج وقع حادثٌ شنيعٌ لشابين بجانب مؤسستنا"، قلتُ له: "نعم رأيته، فعلاً كان مؤلماً وشنيعاً؛ لقد تفحما في سيارتهما، وهما يستغيثان، والناس من حولهما ينظرون لا يستطيعون لهما حيلةً ولا هُم ينصرون"، قال لي: "للأسف كانا قبلها في المحكمة!"، قلتُ له: "نعم سمعتُ أحدهم يقول هذا"، قال: "لقد شهدا زوراً في قضية تملك أرضٍ لصالح رجلٍ له نفوذٌ ضد رجلٍ فقير!". لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال لي: "تصور

يُخبرني ابن عمي -الذي يعمل في المحكمة- أنه بعد نُطق القاضي بالحكم لصالح الرجل صاحب النفوذ -بعد أن سمع شهادة الشابين- نظر الرجل الفقير إلى الشابين قائلاً: "الله ينتقم منكما، وتذوقان نار الدنيا قبل نار الآخرة، كما أشعلتما قلبي ناراً على ضياع حقي". وسبحان الله، ما كان بين الدعوة والاستجابة إلا دقائق معدودة!

يا الله، صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: [اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حجابٌ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم: الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ]. وصدق الشاعر إذ يقول:

تنامُ عيناكَ والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ

 

أحبتي في الله .. تنتهي قصتنا بالحديث عن دعوة المظلوم، لكن لو أنّا رجعنا خطوةً واحدةً إلى وراء ما حدث من ظلمٍ لوجدنا أنه ما كان ليقع لولا شهادة الزور في المحكمة. وشهادة الزور هي حالةٌ خاصةٌ من قول الزور الذي يتناقض مع (أمانة الكلمة) التي يجب على المؤمن الالتزام بها.

ويقول أهل العلم إنّ قول الزور هو قول الكذب، وهو القول المجافي للحقيقة، أي الإخبار بالشيء بخلاف حقيقته على وجه العلم والعمد لتحقيق هدفٍ ماديٍ أو اجتماعيٍ أو نفسيٍ أو غيره، وهو من أبشع وأشنع الذنوب عند الله. وقول الزور اصطلاحٌ عامٌ يشمل الشهادة وغير الشهادة، بينما تختص شهادة الزور بالقضاء وغيره من المجالات التي تتطلب الإدلاء بشهادة، وهي أن يشهد المرء بما لا يعلم أو بخلاف الحقيقة التي يعلمها عالماً عامداً.

 

ويرى العلماء أنه يترتب على قول الزور وشهادة الزور مفاسد كبيرةٌ، ومظالم خطيرةٌ، تنخر جسد المجتمع، تضيع بها حقوق الناس ويُضلَّل بها القضاء وتُزرَع البغضاء والأحقاد بين الناس، مما قد يؤدي الى ارتكاب الجرائم وانتهاك المحارم.

ونظراً لأضرار ومخاطر الزور -شهادةً كان أم قولاً- على الأفراد والمجتمعات فقد ورد ذمه في كتاب الله؛ يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، ويقول عزَّ وجلّ: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً﴾.

كما ورد ذم قول الزور في السُنة المشرفة؛ فقد سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليُعَلِّمَهم: [أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟] قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: [الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ] وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فقالَ: [ألَا وقَوْلُ الزُّورِ]، فَما زالَ يُكَرِّرُها حتَّى قال الصحابة: لَيْتَهُ سَكَتَ. يقول العلماء إن جملة "وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ" تُشعرنا باهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بأمر الزور، ويُفيد ذلك تأكيد تحريم الزور وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بهما أكثر، فإن الإشراك بالله ينبو عنه قلب المسلم، وعقوق الوالدين يصرف عنه الطبع السليم، أما قول الزور وشهادة الزور فالدوافع إليهما كثيرةٌ؛ كالعداوة والحسد وغيرها، فوقع الاهتمام بتعظيم أمرهما.

وحذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول الزور؛ في أحاديث أخرى من بينها حديثه عن الصيام: [مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ].

لقد بلغت الاستهانة وقلة التقوى بالبعض أنه يقف بأبواب المحاكم مُستعداً لأن يشهد شهادة الزور مقابل قروشٍ معدودةٍ؛ بحيث تحولت الشهادة عن وظيفتها في استجلاء الحقيقة فأصبحت سنداً للباطل ومُضللةً للقضاء، يُستعان بها على الإثم والبغي والعدوان. إن شهادة الزور نوعٌ خطيرٌ من الكذب، شديد القبح سيئ الأثر، يتنافى مع (أمانة الكلمة) يُتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفسٍ أو أخذ مالٍ أو تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ؛ لذا فقد أجمع الفقهاء على أن شهادة الزور كبيرةٌ من الكبائر.

 

وعن (أمانة الكلمة) يقول علماؤنا الأفاضل إنّ على المسلم إذا بلغه عن أخيه شيءٌ سيءٌ أن يكتمه، وألا يُشيعه حتى ولو كان صِدقاً، ولو كان ما نُقِلَ إليه صدقٌ وفيه مضرةٌ على أخيه فإنه يستر أخاه ويناصحُه فيما بينهما، ولا يُشيع عنه الأخبار السيئة ولو كانت واقعةً، لأن هذا أيضاً يدخل في الغيبة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾، والنبي صلى الله عليه وسلم فسَّر لصحابته -رضي الله عنهم-الغيبة بأنها [ذِكرُكَ أَخَاكَ بما يَكرَهُ]، قال أحدهم يا رسول الله: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟، قال: [إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغتَبتَهُ، وَإِن لم يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَد بَهَتَّهُ]، {بهته أي كذبت عليه بالبُهتان}، فأنت آثمٌ على كل حالٍ، سواءً كان فيه ما تقول أو ليس فيه ما تقول، لأنك لا تخرج إما عن الغيبة وإما عن الكذب، وكلاهما جريمةٌ، سواءً في حق الأفراد أو الجماعات أو الأعراق أو المجتمعات والدول.

 

ويسأل سائلٌ: "شهدتُ زوراً وندمتُ فماذا عليّ أن أفعل؟"، يقول أهل الاختصاص إنّ كفارة شهادة الزور -كغيرها من المعاصي- التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، والاستغفار، والندم عليها، والعزم ألا يعود لها. ولأن شهادة الزور معصيةٌ قوليةٌ يُشترط فيها القول، فعليه أن يقول: "شهادتي باطلةٌ، وأنا نادمٌ عليها، ولا أعود إليها". وإذا ترتب على شهادة الزور ضررٌ في حق أحدٍ فلابد أن يتحلل منه وأن يرد الحقوق إلى أهلها.

وعن الندم على شهادة الزور، هذه قصةٌ واقعيةٌ حدثت في غزة من قرابة خمس سنواتٍ، حين ارتفعت الأصوات من مكبرات الصوت في مساجد مدينة غزة، لم تكن إيذاناً بموعد الأذان ولا لإقامة الصلاة، لكنها انطلقت بالتكبير ثم الإعلان عن براءة رجلٍ وامرأةٍ بعد اتهامهما بالزنا ومرور سبع سنواتٍ على الحادثة الأليمة التي أضرت بهما؛ فقد لجأت المرأة -وهي أرملةٌ- إلى الرجل الذي له مكانته ومحبته بين الناس، لكي تأتمنه على مصاغها، ولم يَرُقْ الأمر لعائلتها فلفقوا لها جريمة الزنا، وجاءوا بشاهد زورٍ لكي يستردوا مصاغ ابنتهم، وتم فصل الرجل من عمله، وطالت السمعة السيئة الرجل والمرأة معاً. وحسبما قال شاهد الزور إنه لم يذق طعم النوم طيلة هذه السنوات، وتوالت الأمراض المستعصية على اثنين من أولاده، فذهب وأظهر براءة الرجل من على مئذنة الجامع، حيث اجتمع الناس على صوت المكبرات وهي تعلو مرددةً حقيقة البراءة، وتوافدوا على بيت الرجل لتهنئته.

 

وإذا كانت الشهادة بالزور مذمومةً ينأى عنها كل من كان له قلبٌ أو ألقى السمع و هو شهيدٌ، فشهادة الحق محمودةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾.

 

أحبتي .. الكلمة أمانةٌ، والأمانة حملها الإنسان وألزم نفسه بالوفاء بها. وخيانة (أمانة الكلمة) بالكذب والافتراء وفُحش القول والبذاءة والسُخرية والنفاق والغيبة والنميمة وقول الزور وشهادة الزور من الكبائر التي لا يكاد أحدنا أن يبرأ منها، فلنُطّهر أنفسنا من تلك الآفات التي تأكل حسناتنا، بل وربما أدخلتنا -والعياذ بالله- النار؛ قال صلى الله عليه وسلم رداً على سؤال أحد الصحابة: [وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم -أو على مَناخرِهِم- إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم؟]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ]، ولنلزم أنفسنا بتوجيهات نبينا الكريم: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، ولنتذكر في كل لحظةٍ وجود ملَكين يُسجلان كل كلمةٍ ننطق بها؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾؛ فلنُمسك ألسنتنا عن أي قولٍ باطلٍ كي نقي أنفسنا سوء العاقبة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشهداء بالحق، القائمين بالقسط، الذين يُراعون الله في الكلمة فيحرصون على الوفاء بأمانتها والالتزام بقول الصدق والعدل، إنه سبحانه وليّ ذلك والقادر عليه.

 

https://bit.ly/3viSncB