الجمعة، 8 مارس 2024

الأيادي البيضاء

 خاطرة الجمعة /437

الجمعة 8 مارس 2024م

(الأيادي البيضاء)

 

تناقلت وسائل الإعلام العالمية خلال الأيام السابقة خبراً عن امرأةٍ أمريكيةٍ تبرعت بمليار دولار لإحدى كليات الطب في «نيويورك» مُسددةً الرسوم الدراسية لجميع الطلاب وإلى الأبد! والمتبرعة هي أستاذةٌ سابقةٌ في الجامعة، وأرملة أحد المستثمرين في «وول ستريت»، وهذا المبلغ يضمن التعليم المجاني للطلاب في منطقة «برونكس». وقالت المؤسسة التي تم التبرع لها، والتي تضم كلية الطب: "إن هذا التبرع يُحدث ثورةً جذريةً في قدرتنا على مواصلة جذب الطلاب الراغبين في دراسة الطب المؤهلين لذلك". فرحةٌ عارمةٌ انتابت الطلبة لحظة إعلان خبر هذا التبرع السخي، حيث قفز بعضهم من على الكراسي، بينما صفق آخرون بحرارةٍ ووقفوا احتراماً للسيدة المتبرعة. وقالت المتبرعة في كلمةٍ لها: "في كل عامٍ، يدخل أكثر من مائة طالبٍ إلى كلية الطب، وأنا ممتنةٌ جداً لزوجي الراحل؛ لأنه ترك لي هذه الأموال، وأشعر بالسعادة الغامرة لحصولي على شرف تقديم هذه الهدية لأولئك الطلاب الذين يحلمون بأن يكونوا أطباء".

 

أحبتي في الله.. قصة هذه المرأة صاحبة (الأيادي البيضاء) أبهرت الملايين حول العالم لما اعتبروه تبرعاً شديد السخاء، لكن هؤلاء ربما لم يعلموا أن رجلاً عربياً مسلماً سبقها وتبرع للأعمال الخيرية بأكثر بكثيرٍ مما تبرعت به؛ فقبل حوالي أربع سنواتٍ تربَّع رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي" على عرش أكبر المنفقين والمحسنين والمتبرعين لأعمال الخير في العالم العربي، وكان هو العربي الوحيد في قائمة المحسنين العشرة الكبار على مستوى العالم؛ إذ احتل وقتها المركز السادس عالمياً من حيث حجم الأموال التي أنفقها في أعمال الخير والأموال التي تبرع بها للفقراء ولمشاريع الخير والإحسان في العالم؛ فقد كشفت شركة أبحاثٍ عالميةٍ متخصصةٍ في دراسة حركة الثروات ورؤوس الأموال في العالم أنه قدَّم تبرعاتٍ وأموالاً لدعم أعمال الإحسان في العالم بلغت قيمتها 5.7 مليار دولار. وقالت شركة الأبحاث إن إجمالي المبالغ التي تبرَّع بها أكبر عشرين مُحسناً في العالم من ذوي (الأيادي البيضاء) تجاوزت مائة مليار دولار أميركي؛ وهو ما يعني أن المبالغ التي يُساهم بها هؤلاء الأثرياء في أعمال الخير تتفوق أحياناً على ما تُقدمه بعض الدول الكبرى من معوناتٍ للمحتاجين في مختلف أنحاء العالم.

 

وأنقل لكم فيما يلي ما قرأته عن قصة نجاح الملياردير رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي"، والتي قيل عنها إنها تختلف عن كل القصص الملهمة التي سمعنا وقرأنا عنها، لأنها تُجسد حكاية رجلٍ فقيرٍ بدأ من الصفر، وعاد إليه طواعيةً بعد ثمانين سنة من الكفاح والتحدي؛ حيث تبرَّع هذا العام بثلثي ثروته التي تزيد عن سبعة مليارات دولار للأعمال الخيرية؛ فأنشأ شركة أوقاف سليمان الراجحي القابضة، وقام بتوزيع الأرباح الناتجة من استثماراته المختلفة على المشروعات الخيرية التي تُعنى بالفقراء والتعليم وبناء المساجد، كما قام ببناء جامعة سليمان الراجحي في مسقط رأسه في «البكيرية». اشتُهر الراجحي بحبه للأعمال الخيرية؛ حتى أنَّ موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية سجلت مزرعة الراجحي كأكبر وقفٍ خيريٍ في العالم؛ إذ يبلغ عدد النخيل فيها 200 ألف نخلة!

وأبقى "سليمان الراجحي" ثُلث ثروته لأبنائه ليعود فقيراً مثلما بدأ، قائلاً: "وصلتُ لمرحلة الصفر مرتين في حياتي، إلا أن وصولي هذه المرة كان بمحض إرادتي"!

نشأ "الراجحي" فقيراً، وعمل في بداية حياته حمالاً وكناساً وطباخاً وقهوجياً وصرافاً، إلى أن أسس مصرف الراجحي، أول بنك إسلامي في «السعودية»، وأحد أكبر البنوك الإسلامية في العالم بقيمة 33 مليار دولار أميركي، ويبلغ رأسماله أربعة مليارات دولار ويعمل فيه أكثر من ثمانية آلاف موظف، كما امتلك الراجحي العديد من الشركات المساهمة في التنمية الزراعية والصناعية والتعليمية والخيرية.

لم يُكمل "سليمان" تعليمه، وترك مقاعد الدراسة في الصف الثاني الابتدائي، وكان كثير التغيب عن المدرسة بسبب انجذابه الشديد للتجارة؛ يقول في أحد حواراته الصحفية إنه في طفولته اشترى طائرةً ورقيةً بقرشٍ واحدٍ -كان لا يملك سواه في جيبه- وفككها ليتعرف على طريقة صنعها، ثم جمع سعف النخيل ليصنع منه الطائرات، ويبيع الواحدة منها بنصف قرش! وفي سن الـ 12 بدأ "سليمان" جمع البلح لأصحاب مزارع النخيل، الذين كانوا يدفعون له ستة ريالاتٍ شهرياً لقاء ما يقوم به من عمل. ثم انتقل للعمل بوظائف بسيطةٍ مختلفةٍ؛ فعمل كناساً وحمالاً وحارساً وطباخاً، ولم يكن يتردد في القيام بأي عملٍ مهما كان بسيطاً، الأمر الذي أكسبه خبرةً واحتكاكاً مع الناس، كما عمل في البناء، واكتسب خبرةً جيدةً بالسوق وأساليب التعامل مع فئات المجتمع المختلفة. يقول "سليمان الراجحي": "لم أكن أُفطر، كنتُ حمّالاً لأغراض الناس، وأنتظر الثوب الوحيد حتى يجف لألبسه". حينما بلغ عامه الـ 15 كان يدّخر القرش على القرش -على حد قوله في أحد اللقاءات الصحافية- حتى تمكن من إنشاء دكانٍ بسيطٍ خاصٍ به يبيع فيه بعض السلع الاستهلاكية؛ كالشاي والسكر والحلوى والكبريت، تمكن من خلال عمله في البقالة من جمع 1500 ريال، وهي ثروةٌ كبيرةٌ في ذلك الوقت، فحقق رغبة والديه في الزواج، رغم أن ذلك كلفه كل ما جمعه. يقول "الراجحي": "وُفقت بالزواج من أربع نساءٍ ساعدنني في حملي الكبير". بعد سنواتٍ قرر "سلیمان" العمل مع شقيقه الأكبر "صالح" في مؤسسة صرف العملات؛ فكان يُغيّر العملة في شوارع «مكة» للحجاج ويحمل الطرود والأمانات على ظهره لإيصالها للمطار، فيقطع ما يزيد على 10 كيلو مترات ليوفر أجرة الحمّال والنقل، ولم يكتفِ بذلك فتاجر في أوقات فراغه في الأقفال والأقمشة ومواد البناء لتحسين دخله. في عام 1970م قام "سليمان" بافتتاح شركةٍ خاصةٍ به لتبادل العملات، بعد أن انفصل عن أخيه "صالح"، وبدأت أعماله تنجح وتتوسع، وحقق نجاحاً باهراً، وتنامت ثروته واستثماراته. وفي عام 1987م أسس مصرف الراجحي برأسمال 15 مليار ريال، وتعددت فروعه لتصل إلى 500 فرع، كما امتلك أكبر شبكة صرافاتٍ آليةٍ في «السعودية» بعدد يزيد على 2750 ماكينة صرافٍ آليٍ في جميع أرجاء المملكة، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الفروع المنتشرة في العالم. ودخل الراجحي العديد من المجالات التجارية الأخرى؛ فكان يمتلك شركةً للورق والبلاستيك، فضلاً عن امتلاكه عدداً كبيراً من الأسهم في شركة الاستثمار الأسرية التي تُنفذ العديد من المشروعات الزراعية والصناعية داخل المملكة وخارجها كما في «إفريقيا» و«أوروبا الشرقية». بالإضافة إلى امتلاكه شركتي: الوطنية للصناعة والوطنية للنقل. وقد احتفظت شركة الراجحي بأصولٍ أخرى تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار، بما في ذلك الدواجن الوطنية التي تُعتبر من أكبر مزارع الدواجن في منطقة الخليج. حافَظ ثالث أغنى رجلٍ في العالم العربي على تواضعه وحُبه للعمل، فهو يُتابع -رغم كبر سنه- أعماله بشغفٍ، ويُراقب كل شيءٍ بنفسه، ويتمنى لو أن الأسبوع تسعة أيامٍ ليقضيها في العمل، فهو أول من يأتي إلى مكان العمل وآخر من يخرج منه. كما أنه يلبس ثوباً أبيضاً عمره أكثر من 30 عاماً؛ لكي يُذكِّر نفسه دائماً بأنه كان فقيراً، ولكي لا ينسى ماضيه وبداياته!

وكتب الملياردير السعودي "سليمان الراجحي" في وصيته أنه لا يريد أن يُقام له عزاءٌ بعد موته، وأن يتم التبرع بكلفة ذلك للجمعيات خيرية.

 

لقد استجاب "الراجحي" لنداء الله سبحانه وتعالى الذي يحثنا فيه على الإنفاق بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. لقد وعد سبحانه المنفقين بمضاعفة ما أنفقوا وبالأجر الكريم وبالأمن؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

وحثاً على الإنفاق قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ] ذكر منهما [رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَهو يُهْلِكُهُ في الحَقِّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وقال أيضاً: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثٍ] ذكر منها [صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ].

 

أحبتي.. إنّ الإنفاق في الخير ليس قاصراً على الأغنياء فقط، وإنما هو دعوةٌ لأن يقوم كلٌ منا بالإنفاق في وجوه الخير بما يستطيع؛ يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ] قالوا وكيف؟ قال: [كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها] فالأول تصدَّق بنصف ماله، أما الآخر فقد تصدَّق ببعض ماله.

فلنُنفق على كل وجهٍ من أوجه الخير المتعددة، حتى نكون من المحسنين فنحظى بمحبة الله؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. ولننتهز فرصة قدوم شهر رمضان المبارك لنُكثر من إنفاقنا، وليكن لنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم؛ فقد "كان صلَّى الله عليه وسلَّم أجْوَد النَّاس، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ". ولنتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا].

اللهم أعِنّا على أن نتغلب على شُح أنفسنا؛ لنكون من ذوي (الأيادي البيضاء) الذين يُنفقون سراً وعلانية، وتقبل اللهم منا صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/43b5fSF

الجمعة، 1 مارس 2024

الظاهرون على الحق

 

خاطرة الجمعة /436

الجمعة 1 مارس 2024م

(الظاهرون على الحق)

 

يقول أحد الدُعاة السعوديين: قبل عدة سنواتٍ كنتُ في رحلةٍ إلى «قرقيزيا» إحدى جمهوريات «الاتحاد السوڤيتي» سابقاً، وتقع على حدود «الصين». دُعيتُ إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين ربما، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفُصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، وذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، رحب بنا وأعد لنا وليمةً، وحاول تدريبنا على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكانت لا تعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتان بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية؛ حتى اضُطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز!

انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل. وتحت ضغط الفضول العارم سألته: "يا شيخ؛ كيف درستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في «قرقيزستان» تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلاميٍ، فضلاً عمّن يُمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا النظام الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة الإسلامية فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدّم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد؛ فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح؟!"، تبسَّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشِدّة والكَرب، وقال: "نعم كنّا تحت حُكمهم لكن لم نستسلم لهم! كنّا أقوى منهم بإيماننا وإصرارنا وقدرتنا على التكيّف؛ كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عُمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشرات وربما مئات الأطفال، كلها تحت الأرض! كنا نحن (الظاهرون على الحق) وكان الوالدان المسلمان إذا بلغ طفلهما الخامسة من عمره، تسللوا به في جُنح الظلام وساروا بحذرٍ خلف مُرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفُوهة في حُجرةٍ من بيت ٍمهدومٍ أو خربةٍ مهجورة- وهنا تستلمه إدارة المدرسة، وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ، لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن الكريم أو أكثره، ومِن الحديث الشريف ما قُدِّر له، ومِن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية، وربما عاد مرةً أخرى ليكمل دراسته وتعليمه!". سألتُ الشيخ عما درَسوه في اللغة العربية مثلاً؛ فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك!"، ثم تحامل على نفسه ونهض مُتثاقلاً إلى كُوّةٍ في الجدار، ومدّ يده النحيلة إلى كتابٍ مُتهالكٍ فيها؛ فجاء به وفتحه أمامي، فإذا هو نسخته الخاصة من "شرح ابن عقيل"! كنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثُقاة لشككتُ في صحته؛ فقد كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعَسفها وقسوتها على الناس، حتى ظنتُ أنها قد قدرت عليهم وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره "الكتاب والسُنة"، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة العربية. كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله؛ فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمسٌ ولا هواء، ولا لهوٌ، ولا لعب.. وإنما عملٌ شاقٌ مُضنٍ وخطير، ثمنه حياة أحدهم ومَن معه لو افتُضح أمره! كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يُمكن أن يمر به مجتمعٌ، فما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش، ولا استرهبتهم سطوته، فلما سقطت الشيوعية وطوتها سُنّة الله خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتُعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية سابقاً تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العِجاف، وفِي أعماق الأرض! وكان (الظاهرون على الحق) هم المنصورون.

 

أحبتي في الله.. علّق الداعية السعودي -كاتب هذه القصة- بالقول: إنّ هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبْتَلى المسلمون بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، وليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين.

 

يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ –عزَّ وجلَّ- إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ]. وحين سُئل: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال عليه الصلاة والسلام: [الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ].

 

يقول العلماء إنّ حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت اختصاص المؤمن غالباً بنزول البلاء؛ تعجيلاً لعقوبته في الدنيا أو رفعاً لمنزلته، أما الكافر والمُنافق فيُعافى ويُصرَف عنه البلاء وتؤخر عقوبته في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتَّى تَسْتَحْصِدَ]. والناس حين نزول البلاء ثلاثة أقسام: الأول: محرومٌ من الخير؛ يُقابل البلاء بالتسخط وسوء الظن بالله واتهام القدر. الثاني: موفقٌ؛ يُقابل البلاء بالصبر وحُسن الظن بالله. الثالث: راضٍ؛ يُقابل البلاء بالرضا والشكر وهو أمرٌ زائدٌ على مجرد الصبر. وللابتلاء فوائد منها: أنه تكفيرٌ للذنوب ومحوٌ للسيئات، ورفعٌ للدرجة والمنزلة في الآخرة، وإشعارٌ للعبد بالتفريط في حق الله واتهامه نفسه ولومها، وفتحٌ لباب التوبة والذُل والانكسار بين يدي الله، وتقويةٌ لصلة العبد بربه، وتذكيرٌ له بأهل الشقاء والمحرومين والإحساس بآلامهم، وزيادةٌ في قوة الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتذكيرٌ بالمآل وإبصارٌ للدنيا على حقيقتها. وللابتلاء صورٌ كثيرةٌ: ابتلاءٌ في الأهل والولد، وفي المال، وفي الدين، وأعظمها ما يُبتلى به العبد في دينه.

 

وكما رأينا في قصتنا عن المسلمين تحت الحكم الشيوعي كيف كان ابتلاؤهم في دينهم -وهو أشد أنواع الابتلاء- فما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل أحسن هؤلاء (الظاهرون على الحق) الظن بالله وأخذوا بالأسباب. لم يكن منهم مَن يتخيل أن ينفرط عقد «الاتحاد السوڤيتي» ويتفكك ويتحول إلى جمهورياتٍ مستقلةٍ بعضها تُمارَس فيه العبادات وتُقام فيه الشعائر الإسلامية علناً بغير خوفٍ. لقد كانت الفئة التي أحسنت الظن بالله وأخذت بالأسباب من هؤلاء المسلمين هي التي حفظت الدين وحافظت على العقيدة وربّت أبناءها وأنشأتهم على التوحيد والإخلاص، رغم وجود المُثّبطين والمُتخاذلين، وكأنهم كانوا هم المقصودون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ]. ورأينا في النهاية أن هذا الوعد قد تحقق وأتى أمر الله وظهر الحق، رغم عداوة الكافرين، ورغم تثبيط وخذلان بعض المسلمين، بل ورغم تعاون قلةٍ قليلةٍ منهم مع أعداء الله.

 

أحبتي.. لنأخذ العبرة والعظة؛ ونسلك طريق الحق، لا يَفُت في عضدنا قلة السالكين في هذا الطريق، ولا تغرنا كثرة المُغيَبين عنه، ولا نكون أبداً من المُتخاذِلين، ولا ممن يُثبطون الهمم، فضلاً عن أننا نربأ بأنفسنا أن يكون من بيننا خائنون متعاونون مع الأعداء، وإنما علينا أن نُحسن الظن بالله ونأخذ بالأسباب إلى الحد الأقصى الممكن، فإن لم نكن نحن (الظاهرون على الحق) فعلينا أن نكون عوناً لمن سبقونا إلى ذلك، لا نخذلهم ولا نتخلى عنهم، ولا نتركهم وحدهم، وإنما نكون سنداً لهم، مرابطين في ظهورهم؛ نُساعدهم بما استطعنا. ولنكن على ثقةٍ كاملةٍ ويقينٍ صادقٍ بأن النصر ليس بالعَدَد ولا بالعتاد ولا المُعدات، ولا بكثرة وحداثة وقوة الأسلحة، إنما هو من عند الله؛ يقول تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. اللهم اجعلنا من الذين يُدافعون عن دينك، واجعلنا من الصابرين، وأعِز اللهم الإسلام والمسلمين، وانصرنا على القوم الكافرين، وحقق اللهم وعدك الذي وعدت به عبادك المؤمنين: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾؛ أنت وليُّ ذلك وأنت القادر عليه؛ فأنت سُبحانك ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

 

https://bit.ly/3wycY0N

الجمعة، 23 فبراير 2024

كفالة اليتيم

 

خاطرة الجمعة /435

الجمعة 23 فبراير 2024م

(كفالة اليتيم)

 

يقول رجلٌ رأيت أمام أحد المحلات امرأةٌ تصرخ بعصبيةٍ في وجه ابنها الصغير، وتبكي، وكان يقف بالقُرب منها شابٌ تبدو عليه علامات الغضب والعصبية، فشدني الفضول لمعرفة ما يحدث معهم؛ حيث كان الشاب يصرخ في وجه المرأة، وكانت المرأة تصرخ في وجه ابنها، وبدأ الناس يحتشدون حولهم ويُشاهدون ما يحدث، اقتربتُ من الشاب وسألتُه عن سبب الشجار؛ فقال: "ابن هذه المرأة قام برمي حجرٍ على زجاج المحل فكسره، وعندما طلبتُ من أمه دفع ثمن الزجاج المكسور قالت لي إن ابنها يتيمٌ وليس لديها مالٌ" واستطرد الشاب يقول: "أنا مجرد عاملٍ في المحل، وإذا عرف صاحب المحل بما حدث فسيُحملني المسؤولية"، فسألتُ المرأة: "لماذا لا تدفعين المال للشاب كي يقوم بتركيب زجاجٍ بدلاً من الذي كسره ابنك؟"، قالت المرأة وهي تبكي: "من أين أدفع له هذا المبلغ؟ والله إننا نمنا البارحة دون عشاءٍ، فنحن لا نملك المال لشراء الخبز، ولا يوجد من يعولنا، نأكل يوماً ونجوع أسبوعاً". أحزنني حديثها وشعرتُ بالأسف لما يحصل معها، فقلتُ للشاب: "سوف أتكفل بدفع نصف المبلغ، وسننتظر حتى يصل صاحب المحل وسأطلب منه أن يُسامح المرأة في النصف الآخر؛ فاتركها تذهب الآن"، لكن الشاب أصَّر على عدم مُغادرة المرأة حتى يأتي صاحب المحل ويُسلمه القضية ويُخرج نفسه من المشكلة حتى لا يتحمل المسؤولية.

بعد ساعةٍ وصل صاحب المحل، وحكى له الشاب ما حدث، وتقدمتُ لصاحب المحل وقلتُ له: "إن حالة المرأة صعبةٌ جداً؛ فهي مَن تعول أسرتها ولا تمتلك المال لشراء الطعام لصغارها، وقد تكفلتُ أنا بنصف تكلفة تركيب زجاجٍ جديدٍ، أما النصف الآخر فأطلب منك أن تتكفل به لوجه الله"؛ فقال صاحب المحل: "أبداً؛ سأتكفل أنا بالمبلغ كله وحدي لوجه الله، وأعفو عنها وأتركها تذهب"، لم أستطع أن أمنع دموعي؛ فتساقطت بشكلٍ لا ٳرادي، وقلتُ له: "جزاك الله خيراً، جعل الله هذا في ميزان حسناتك، وعوضك عن خسارتك"، ثم قلتُ للمرأة: "إنني كنتُ قد نويتُ أن أدفع المال لوجه الله؛ فلا ترديني، هذا المال لكِ"، ثم فوجئتُ بصاحب المحل وقد أخرج مبلغاً من جيبه وأعطاه للمرأة أيضاً. شعرتُ بالدهشة للتعاطف الذي حصل مع هذه المرأة وكأن بينها وبين الله سراً؛ فقد كانت تبكي حُزناً منذ قليلٍ، وأصبحت الآن تبكي فرحاً! أخذت المرأة المال وهمَّت بمغادرة المكان فسألتها: "معذرةً يا أختي؛ أخبريني ما الذي بينك وبين الله حتى تبدلت دموعك من دموع حزنٍ إلى دموع فرحٍ، لقد كنتِ قبل قليلٍ في مشكلةٍ وكان عليك أن تدفعي المال بشكلٍ إجباريٍ ولكن بدل ذلك أرى أنكِ حصلتِ على المال!"، أجابت وهي تبكي: "إن معي في المنزل-إضافةً إلى ابني اليتيم- أربع بناتٍ لسن بناتي فهُنّ بنات أختي الراحلة، تكفلتُ بهنّ عندما قرَّر والدهن أن يتزوج بعد رحيل أرملته، وتركهن دون رعايةٍ أو اهتمامٍ في بيت أهله؛ فقررتُ أن أتكفل بهن لوجه الله، لقد مرّ على رعايتي لهن خمس سنوات". يقول الرجل: "عرفتُ الآن السر الذي جعلني أبكي كلما تذكرتُ تلك المرأة وما حدث معها".

 

أحبتي في الله.. لقد كان السر هو (كفالة اليتيم)؛ يقول أهل العلم إن اليتامى هُم أطفالٌ ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بموت الأبوين أو أحدهما؛ فحُرموا الأُبوة والرعاية، والدفء والحنان، فحثَّ الله سبحانه وتعالى على (كفالة اليتيم) ليقوم المؤمنون بهذا الدور الأبوي العظيم، والعمل الإنساني الفضيل؛ إحساناً منهم وتفضلاً؛ فالإحسان إلى اليتيم خُلقٌ إسلاميٌ رفيعٌ، حثنا ديننا عليه وندبنا إليه، بل وجعله من أفضل الأعمال وأزكاها. والاهتمام باليتامى والوقوف على شؤونهم ورعاية مصالحهم شرفٌ ومنقبةٌ؛ فقد اهتم الإسلام بشأن (كفالة اليتيم) اهتماماً بالغاً؛ من حيث تربيته ورعايته ومعاملته وضمان سُبل العيش الكريم له؛ بدفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، والحث على الإحسان إليه، ومراعاة الجانب النفسي لديه.

 

وردت كلمة اليتيم ومشتقاتها في العديد من آيات القرآن العظيم، منها: يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾. ويقول سبحانه: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾. ويقول أيضاً: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾. كما يقول: : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.

 

وعن (كفالة اليتيم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا] وَأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً. وقال عليه الصلاة والسلام: [أدْنِ اليَتِيمَ مِنْكَ وأَلْطِفْهُ وامْسَحْ بِرَأسِهِ وأَطْعِمْهُ مِنْ طَعامِكَ فإنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ ويُدْرِكُ حاجتك]. وقال: [إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؛ فَأَطْعِمِ الْمَسَاكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ]. وقال أيضاً: [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ] وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. وقَالَ كذلك: [خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ]. كما قَالَ: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِىَ عَنْهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ]، وذكر منها: [أَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ اليتيمِ والمرأةِ] ومعنى أحرج: أحذر من الوقوع في ظلمهم. وقال: [والذي بَعَثَني بالحَقِّ لا يُعَذِّبُ اللهُ يومَ القيامةِ مَن رَحِمَ اليَتيمَ، وأَلانَ له في الكلامِ، ورَحِمَ يُتْمَه وضَعْفَه]. وقال أيضاً: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ].

 

قال الشاعر:

مسحتَ على رأسِ طفلٍ يتيمٍ

فكفُّكَ نورٌ وقلبُكَ حيُّ

مسحتَ عليه فمُلّئتَ عَطفًا

وفُزتَ كما قدْ أبانَ النبيُّ

وقال آخر:

انظرْ إلى وجه اليتيمِ وهَبْ له

عَطْفاً يعيش به الحياةَ كريماً

وافتحْ له كَنْزَ الحنانِ، فإنما

يرعى الحنانُ، فؤادَه المكلوما

يا كافلَ الأيتامِ، كأسُكَ أصبحتْ

مَلأَى، وصار مِزاجُها تَسنيماً

حَسْبُ اليتيمُ سعادةً أنَّ الذي

نشرَ الهُدَى في الناسِ عاشَ يَتيماً

 

أحبتي.. (كفالة اليتيم)، بابٌ واسعٌ لرضا الله سبحانه وتعالى، ثم إنها سببٌ لدخول الجنة بإذن الله؛ فليُبادر كل مسلمٍ مقتدرٍ إلى كفالة اليتامى بشكلٍ مباشرٍ، أو عن طريق دعم المؤسسات التي تقوم برعايتهم. ومَن كانت (كفالة اليتيم) مسئوليته فليتقِ الله في مال اليتيم وفي طعامه وشرابه وفي جميع شئونه، فهو أمانةٌ حتى يكبر ويصل إلى بر الأمان. إنّ كافل اليتيم وراعيه، يُعرِّض نفسه للعديد من المِنح الربانية، والعطايا الإلهية؛ فهل بعد كل هذه المِنح والعطايا يتكاسل عاقلٌ عن رعاية اليتيم وكفالته؟ إن (كفالة اليتيم) هو فرصةٌ أغلى من الذهب؛ فلنحرص على ألا نفوِّتها، وندعو الله أن يُعيننا على الوفاء بمسئولياتها، طاعةً لله وقربةً منه.

 

https://bit.ly/3T6vKW2

الجمعة، 16 فبراير 2024

ذنوب الخلوات

 

خاطرة الجمعة /434

الجمعة 16 فبراير 2024م

(ذنوب الخلوات)

 

طالبٌ مغتربٌ عن وطنه، يدرس في إحدى الدول الغربية، كتب في أحد مواقع التواصل الاجتماعي يعرض مشكلته الشخصية، يقول: صباحٌ مُختلفٌ، صباحُ غربةٍ عن الأهل والوطن، مساءُ أحلامٍ لا نقدر على البوح بها، مساءُ أملٍ بالله سبحانه وتعالى، صباحُ شابٍ يحلم بخدمة دينه وأمته ووطنه ومجتمعه، صباحُ دموعِ فرحٍ بقُرب الفرج من الله -سبحانه وتعالى. مشكلتي لا أعرف كيف أصفها ولكني سأفعل، أرهقتني (ذنوب الخلوات) وأنا الملتزم في الجلوات، بدأت مشكلتي منذ تسعة أشهرٍ -تقريباً- عندما بدأتُ بمتابعة القنوات الفضائية الإباحية، والتي من السهل جداً متابعتها في بلاد الغُربة. البداية كانت -في ذلك اليوم المشؤم- بدايةً سيئةً لطريقٍ غريبٍ، خاصةً بأنني شابٌ مؤثرٌ على من حولي من أقاربي، يعتبرونني قدوةً لهم، يتمنون أن يكون أولادهم مثلي! وأكاد أُقسم بالله، أنهم لا يتوقعون مني فعل هذا الأمر، وأنا الشاب الملتزم، الحافظ لأجزاءٍ من القرآن الكريم، المواظب على الصلاة، لا أعرف ما جرني إلى هذا الطريق؟!

بعد ثمانية أشهرٍ من ذلك اليوم المشئوم بدأ اهتمامي يزداد بمشاهدة الأفلام الإباحية، ليس فقط من خلال القنوات الفضائية بل واتجهتُ إلى مشاهدة تلك الأفلام من خلال مواقع الإنترنت باستخدام حاسوبي، وتطور الأمر إلى تنزيل بعض المقاطع على هاتفي المحمول، ولكم أن تتخيلوا ما كان يُصاحب ذلك من ممارسة عادةٍ رذيلةٍ لا أريد حتى أن أذكر اسمها. أنا الذي أنصح غيري بالتقوى والعفة والنقاء أجد نفسي -وأنا في خلوتي بعيداً عن الناس- أسيراً لشهواتي؛ مُدمناً على مشاهدة المواقع الإباحية وممارسة تلك العادة! كيف وصل بي الحال إلى أن أعصي الله سبحانه وتعالى في السر؟ كيف وأنا المُعتمد عليه في كل أموري، والملتزم في العلن؟!

أحلامي كبيرةٌ، وأملي بالله ورجائي في رحمته وفضله؛ فقد نويتُ التوبة، وعندما أقرأ الآية الكريمة: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ يتقطع قلبي، وأُحس أن طريقي طويلٌ وصعبٌ، ومع ذلك فإني واثقٌ أن الله سيكون معي، لقد قررتُ الآن -ومن هذه اللحظة-، الرجوع إلى ما كنتُ عليه، الرجوع إلى شخصي القديم، النظيف النقي التقي المتفائل، المعتمد على الله سبحانه وتعالى، القوي به؛ سأبدأ مشروعاً كبيراً، سأترك هذه العادة السيئة المحرمة، وأرجع لأكون أفضل بكثيرٍ، أبتعد عن الاستجابة للشهوة وهوى النفس، وسأعمل كل شيءٍ يُخلصني من تلك العادة. أُعلنها -من الآن- توبةً كاملةً، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني، خاصةً وأنا في غُربتي وعائلتي -خاصةً أمي- بانتظاري. صحيحٌ أني ضعيفٌ وفقيرٌ، ولكني قويٌ وغنيٌ بالله سبحانه وتعالى؛ فيا ربِ لا تحرمني أجمل ما عندك بسوء ما عندي.

 

أحبتي في الله.. يقول أحد الشباب وقد ابتُلي بالنظر للحرام وارتكاب (ذنوب الخلوات): سمعتُ خشخشةً في الباب، فبلغ قلبي حُنجرتي، وانقطع نفَسي، فأغلقتُ جهازي، وفتحتُ الباب؛ فوجدتها هِرَّة! ألم يعلم هذا المسكين أن الله ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، وأن ليس بين الرجلِ وبين خِزيٍ تلك الذنوب إلا جدار مراقبة الله والتي هي أعظم واعظٍ وأكبر زاجرٍ؛ فمن هدم الجدار فقد تجرَّأ على الله، وما أقبح هذه الجرأة.

 

عن (ذنوب الخلوات) يقول تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾.

وقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا] قَالَ صحابيٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: [أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا].

 

ويقول أهل العلم إن (ذنوب الخلوات) هي تلك الذنوب التي يتعمدها المرء تعمداً فيتجرأ على محارم الله أينما كان، ويجعل الله عزَّ وجلَّ أهون الناظرين إليه. إن داء انتهاك محارم الله في مكانٍ لا يعرفك ولا يراك فيه إلا الله داءٌ خطيرٌ، بنظرةٍ تنظر إليها، بشاشةٍ تُقلِّبها، ومشافهاتٍ إلكترونيةٍ تختبئ معها خلف أسماءٍ مُستعارةٍ فتتجرأ على المُحرمات، وتنتهك الخصوصيات، وتعتدي على محارم الآخرين وأعراضهم، وربما تسافر إلى بلدٍ بعيدٍ، إلى مكانٍ لا يعرفك فيه أحدٌ ولا يعرفك إلا الله؛ فتتجرأ على محارم الله وكأن الله لا ينظر إليك، وكأنك لم تقرأ الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ كأنك نسيتها أو تناسيتها، ويستولي عليك الشيطان، ولو كنتَ بين الناس ومعهم لاستحييتَ منهم، والله أحق أن يُستحيا منه، راقبتَ أهل الأرض أكثر مما راقبتَ مَن في السماوات، واستخفيتَ من الناس ولم تستخفِ من الله، وخشيتَ الناس كخشية الله بل أشد خشيةً؛ اجترأتَ على ربك جرأةً ما تجرَّأتَ مثلها على بشر! خُذ حذرك من (ذنوب الخلوات) وخاصةً مع الجوالات والكمبيوتر والتلفاز عند غياب الأهل والناس، وعليك بعبادة السر فإنها تقي النفس من نوازع الشهوات، وإذا أردتَ الثبات حتى الممات فعليك بمراقبة الله سبحانه وتعالى، وضبط النفس في الخلوات.

 

قيل عن (ذنوب الخلوات): "مَنْ خانَ اللهَ في السرِّ هَتَكَ اللهُ سِرَّه في العَلانِيَةِ". و"السَّيِّئاتُ في الخَلَواتِ تَنْسِفُ الحَسَناتِ الظاهِراتِ". و"ما أسَرَّ عَبْدٌ سَريرَةً إلا أظْهَرَها اللهُ على قَسَماتِ وَجْهِهِ وفَلَتاتِ لِسانِه". و"ذُنوب الخَلَواتِ هي أصْلُ الانتكاساتِ". و"إن (ذنوب الخلوات) من أعظم المُهلكات وهي محرقةٌ للحسنات". و"لا تكن ولياً لله في الظاهر، عدواً لله في الباطن". وفي هذا المعنى قيل في وصف مُرتكب هذا الإثم: "أمام الناس قديس، وفي خلوته صاحبٌ لإبليس".

 

وقال الشاعر:

إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُل

خَلَوتُ، وَلكن قُل عَليّ رَقيبُ

وَلا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُل ساعةً

وَلا أنَّ مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيبُ

 

قدّم أهل العلم هذه النصائح لمن يُريد أن يتخلص من (ذنوب الخلوات): لا تخلو بنفسك فترةً طويلةً؛ حتى لا يبدأ الشيطان في الوسوسة لك ويقودك إلى طريق الخطأ. اشغل وقتك دائماً بما يُفيد. توجه بالدعاء لله عزَّ وجلَّ بأن يُصلح لك نفسك. اجتهد أن تكون عبداً مُطيعاً لله وأن تتبع سُنة النبي عليه الصلاة والسلام. تذكَّر ستر الله عليك؛ فهو بمثابة فرصةٍ جديدةٍ من أجل أن تتدارك أخطاءك. تذكَّر وقوفك بين يدي الله تعالى يوم القيامة. صاحِب من يُعينك على الصلاح والاستقامة. اجعل خلواتك لعبادة الله تعالى فقط؛ فقد مدح الله عباده الذين يخشونه، خاصةً إذا غابوا عن أعين الناس؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾؛ فإذا أُغلقت دونك الأبواب، وأُسدلت على نوافذك الأستار، وغابت عنك أعين البشر، فتذكر مَنْ ﴿لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾، والذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾. وفي خلوتك لا يغرنك صمتُ أعضائك، فإن لها يوماً تتكلم فيه؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

فالله الله بإصلاح الخلوات، والصدق مع رب البريات، لتجد بذلك اللذة في المناجاة وإجابة الدعوات. راقِب الله تعالى في كل أحوالك، واعلم أنه معك بعلمه مطلعٌ عليك في كل شؤونك، فاستحِ من الله حق الحياء، واحذر سطوته ولا تُغضبه سبحانه بارتكاب ما حرّم عليك، سارِع بالتوبة والاستغفار تجد الله ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾.

 

أحبتي.. من وقع في (ذنوب الخلوات) فليتُب إلى الله؛ فهو قابل التائبين، والعافي عن المذنبين. ولنُكثر من قراءة القرآن، ونُصاحب الصالحين، وندعو الله جلَّ وعلا أن يجعلنا من المُتقين، ونداوم على ذِكر الله، فمن عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، عرفه وقت ما تتزين له المعصية فيلهمه القول: ﴿إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، فيتوقف عن المعصية ويقول: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾. وكما أن (ذنوب الخلوات) هي أصل الانتكاسات؛ فإنَّ عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات؛ فلنجعل بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ خبيئةً لا يعلمها إلّا هو، لا يطَّلع عليها أحدٌ، ولا نتكلم عنها ولا نُحدِّث بها ونجعلها خالصةً للهِ؛ فلا تكتمل التَّقوى إلا بصلاحِ السريرة، والتقوى في السرِّ أصعب، لكنَّ أجرها أعظمُ.

اللهم عظِّم قدرك في قلوبنا، واجعل مراقبتك نُصب أعيننا، واجعلنا من الصالحين المُصلحين، ومن الهادين المهديين، وثبِّت أقدامنا، واجعل سرائرنا أفضل من ظواهرنا. اللهم إنا نسألك أن تُقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك في السر والعلن.

 

https://bit.ly/48jDA2L

الجمعة، 9 فبراير 2024

جَزَاءً وِفَاقًا

 

خاطرة الجمعة /433

الجمعة 9 فبراير 2024م

(جَزَاءً وِفَاقًا)

 

قال: لا أعرف من أين أبدأ رواية مأساتي التي أُعاني منها الآن، وعمري يُقارب السبعين عاماً؟! هل يُعيد الزمان نفسه معي فتدور الدائرة عليَّ لأشرب من نفس الكأس التي أذقتها لوالدتي من قبل خلال فترة شبابي؟!

وحتى تفهموا قصة ما أعانيه أعود بكم خمسين عاماً إلى الوراء... وقتها كنتُ شاباً في حوالي العشرين من عمري حيث فُجعت بموت والدي التاجر الكبير... ولما كنتُ ابنه الوحيد فقد وضعتُ يدي على كل ما يمتلكه من نقودٍ ذهبيةٍ وثلاثة محلاتٍ تجاريةٍ مليئةٍ بأفخر أنواع الأثاث، ووافقتني والدتي -رحمها الله– على ذلك لأنها كانت غير راغبةٍ في شيءٍ من حُطام الدنيا سوى ما يُقيم صلبها من طعامٍ وشراب.

عشتُ مع والدتي ردحاً من الزمان حتى اختارت لي زوجةً من قريباتي لمستُ فيها الطيبة وحُسن الخلق. لكن يبدو أن والدتي –رحمها الله– لم تكن تدري لطيبتها المفرطة بذلك المكر والدهاء المتمثليْن في قلب تلك الزوجة؛ فما إن وضعت ابني الأول حتى طالبتني بشراء منزلٍ خاصٍ لنا بعيداً عن والدتي، وتحججت زوجتي بأنها تريد الاستقلال بحياتها لتُحس بأنها سيدة المنزل! حاولتُ الاعتراض في البداية.. لكن تحت إلحاحها بادعاء أن والدتي تتدخل في شؤونها الخاصة، وافقتُ على بناء دارٍ جديدةٍ لنا تبعد عدة أميالٍ عن منزل والدتي.. ولم أستجب وقتها لتوسلات والدتي العجوز التي كانت في حاجةٍ إلى من يرعاها، أو يتولى شؤونها بالاستمرار معها في المنزل، وانسقتُ وراء رغبة زوجتي في الاستقلال بمنزلها! وكنتُ أتوجه لزيارة والدتي في بداية انفصالي بالمنزل الجديد بشكلٍ أُسبوعيٍ لشراء احتياجاتها من الطعام والشراب.. لكن تحت ضغط زوجتي وإلحاحها بدأتُ أقلل من زياراتي لوالدتي؛ لتصبح بشكلٍ شهريٍ نظراً لبُعد المسافة بين منزلينا في ظل عدم وجود وسائل سريعةٍ للمواصلات. أصاب والدتي المرض.. وعندما عرضتُ على زوجتي ضرورة عودتنا للحياة مع والدتي مرةً أُخرى لإعداد طعامها والإشراف على تطبيبها؛ رفضت زوجتي بحُجة أنها ليست خادمةً لوالدتي أو لغيرها، وهكذا لم أستجب لتوسلات أُمي بالبقاء إلى جوارها مُكتفياً بتوصية جيرانها على الاهتمام بحالها.. وفي أحد الأيام بلغني خبر وفاتها من أحد هؤلاء الجيران.

ومضت الأيام والسنون فنسيتُ واقعة أمي وواصلتُ الحياة السعيدة مع زوجتي وولديّ.. وبعد وفاة أُم أولادي منذ عامين أحسستُ بأنني وحيد. فاتحتُ ولديّ الاثنين في أمر الزواج من امرأةٍ أُخرى؛ فلم يوافقا، وعندما رفضتُ رأيهما عازماً على الزواج فوجئتُ بمعاملتهما تتغير تجاهي بشكلٍ لم أكن أتخيله. نسيتُ أن أذكر أنني وكلتُ أولادي في مسؤولية كل شيءٍ أمتلكه لاقتناعي بأن الموت لا مفر منه وسوف يرثون ما أملك يوماً ما.. فلا مانع من تكليفهما بإدارة المؤسسة التي أمتلكها في حياتي، وعندما لاحظتُ هذا التغيير في المعاملة منهما هددتهما بإلغاء الوكالة المقدمة، ففوجئتُ بأن معاملتهما ازدادت سوءاً لدرجة أنهما أصبحا يُقاطعاني ولا يُرسلان لي مبالغ ماليةٍ تكفي لإعالتي كما كان يفعلان من قبل. وكلما أتذكر ما كنتُ أفعله مع والدتي من قبل تتساقط الدموع من عينيّ على تكرار نفس المأساة في حياتي التي فعلتها من قبل مع والدتي -رحمها الله- وأخشى أن أموت مثل أُمي دون أن يكون أحد أولادي إلى جواري.. وما أرجوه الآن أن تتسع رحمة الله -عزَّ وجلَّ- لتشملني وتغفر خطيئتي فلا أموت وحيداً منعزلاً كما حدث مع والدتي".

 

أحبتي في الله.. هذه قصةٌ واقعيةٌ تُظهر لنا من جانبٍ عقوق الأبناء لأبيهم، كما تُظهر من جانبٍ آخر عقوق الأب لأمه وما وصل إليه من إحساسٍ بالندم بعد فوات الأوان، كما تُبين لنا عدل الله سُبحانه وتعالى إذ أن ما يُعامَل به الأب الآن من أبنائه (جزاءً وِفاقاً) لما قام به مع أمه.

تُذكرني هذه القصة بأخرى حدثت مع أُمٍ كانت جالسةً مع أبنائها تُساعدهم في واجباتهم المدرسية، وكان من بينهم طفلها الصغير الذي لم يدخل المدرسة بعد، بعد الانتهاء من الواجبات الدراسية قامت الأُم لتحضير الغداء لوالد زوجها الذي كانت له غرفةٌ منعزلةٌ في الخارج في حديقة المنزل، ذهبت إليه وقدمت له الغداء واطمأنت عليه وتأكدت أنه لا يُريد شيئاً آخر، أثناء عودتها إلى المنزل أصابها الفضول فيما كان يفعله ابنها الطفل، لاحظت الأم قبل إحضار الطعام لوالد زوجها أن ابنها كان مُمسكاً بقلم أحد إخوته ويرسم مربعاتٍ ودوائر على ورقةٍ فتجاهلت الأمر، لكنها تفاجأت بعد عودتها من عند والد زوجها أن ابنها ما يزال مُمسكاً بالقلم ويرسم؛ فاقتربت منه وسألته: "ماذا يرسم الحبيب؟"؛ فقال لها: "أرسم بيت المستقبل الذي سأسكنه أنا وزوجتي وأطفالي"، فرحت الأُم لما سمعته، لكنها لاحظت أن ابنها رسم مُربعاً منعزلاً خارج المنزل فسألته: "لِمَ هذا المربع هنا؟ ولِمَ هو منعزلٌ عن باقي المربعات والممرات في المنزل؟"، فكان وقع جوابه كالصاعقة عليها؛ إذ كان قال ببراءة الأطفال: "هذه ستكون غرفتك يا أمي عندما تكبرين"، فسألته: "وهل ستجعلني في غرفةٍ وحدي ولا أحد يؤنسني؟"، فقال لها: "لا؛ سأزورك، ولكنني سأجعلك في غرفةٍ مُنعزلةٍ مثل غرفة جدي". ما إن سمعت الأُم هذا الجواب من ابنها حتى فاضت عيناها بالدموع؛ فقامت فوراً بإعداد غرفة الجلوس في البيت ليقيم فيها والد زوجها، ونقلت غرفة الجلوس إلى الخارج، وما إن دخل والد الزوج إلى غرفته الجديدة بالمنزل حتى تفاجأ الابن لما يراه فغيّر رسم بيت المستقبل وأضاف غرفة والدته من المكان المنعزل في الحديقة إلى داخل بيته.

لقد عرفت الاُم أن الدنيا صغيرةٌ جداً، وما تفعله اليوم سوف يُفعَل مثله معها، وما فعلته مع والد زوجها سوف ترى مثله من أبنائها وبنفس الطريقة؛ فحقاً تلك الدنيا صغيرةٌ جداً ودوارةٌ، وكما تدين تُدان.

 

ورد في الأثر: "البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ". وقيل إنه مكتوبٌ في التوراة: "كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا تَزرَعُ تَحصُدُ"، أي: كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى، أي: تُجَازَى بفعلك وبحسب ما عملت.

يقول العلماء إن عبارة "كما تدين تُدان"، وعبارة "الجزاء من جنس العمل"، تُعبران بدقةٍ عن التعبير القرآني الفريد والمتميز (جَزَاءً وِفَاقًا). يقول المفسرون أن هذا التعبير يعني جزَيْناهم جَزَاءً مُوافِقا لأعمالِهِم؛ فقد استحق أهل الكُفر عقوباتٍ فظيعةً جزاءً لهم ووفاقاً على ما عملوا من أعمالٍ سيئةٍ موصلةٍ إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم؛ فتعذيبُ الله الناسَ إنما هو مَحضُ عدلٍ منه سبحانه، فلا يُعاقَب إلا من استحقَّ العقاب بجُحوده. أي: جوزوا جزاءً موافقاً لأعمالهم القبيحة التي كانوا يعملونها في الدنيا، حيث كانت أعمالهم سيئةً، فأتاهم الله بما يسوؤهم.

 

فقاعدة (جَزَاءً وِفَاقًا) فيها حكمةٌ بليغةٌ جاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالةً على صدقها، وهي سنةٌ كونيةٌ جعلها الله سبحانه وتعالى عظةً وعبرةً للناس، وهي قاعدةٌ عظيمةٌ مطردةٌ في جميع الأحوال، وبالتأمل في الكتاب والسنة نجد شواهد ذلك؛ فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقاباً من جنس عملهم؛ فقال سبحانه: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يقول أهل العلم: ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي مجازاةً على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، والجزاء من جنس العمل. كما يظهر ذلك في أمورٍ أخرى؛ يقول تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته. كما رتّب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مُناسبٌ للعمل نفسه؛ ومن ذلك:

يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، ويقول كذلك: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾. كما يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾. ويقول: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾.

ويقول في الحديث القُدسي: {يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ}.

ومن السُنة الشريفة أحاديث كثيرةٌ؛ منها: قال صلى الله عليه وسلم: [ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ]. كما قال: [.. مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وقال أيضاً: [مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ]. وقال كذلك: [مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ].

وذلك من مُقتضى عدل الله عزَّ وجلَّ وحكمته؛ فمن عاقب بجنس الذنب لم يظلم، ومع ذلك فلابد من أن نذكر هنا أن وعيد الله وعقابه قد لا يقع؛ لأن الله سبحانه وتعالى عفوٌ يُحب العفو، ويصفح عمن ارتكب الذنوب والمعاصي، فلا يُعجّل له الحساب إذا تاب من ذنبه واستقام حاله.

 

قال الشاعر:

المَرءُ يُجزى بِمَا يُسديهِ مِنْ عَملٍ

للنَّاسِ مَهما تَولَّى عنهُ وامتنعا

يومًا سيلقاهُ لو طالَ الزَّمانُ بِهِ

خيرًا وشرًّا سَيَجنِي كُلَّ ما زَرعا

فاصنَعْ لِنَفسِكَ بعدَ الموتِ منزِلَةً

إنْ مَرَّ ذِكرُكَ قَالُوا ذَاكَ مَن صَنَعا

واستَنهِضِ النَّفسَ واشغِلها بفَائِدَةٍ

لَا يَبلغُ المَرءُ إلَّا ما إلَيهِ سَعَى

 

أحبتي.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به]؛ فليُراجع كلٌ منا أفعاله وعلاقاته، وليُسارع إلى تصحيح وتصويب ما قد يكون عليه من أخطاءٍ، ويعمل بنيةٍ خالصةٍ للتوبة من كل ذنبٍ، والعودة إلى الطريق المستقيم الذي ارتضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى، ووجهنا إليه رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وليحمد الله أن أعطاه فرصةً للتوبة قبل أن يحين الأجل فيقول وقتها: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيأتي الرد حاسماً: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

 

https://bit.ly/3usBKyR

الجمعة، 2 فبراير 2024

استجابة الدعاء

 

خاطرة الجمعة /432

الجمعة 2 فبراير 2024م

(استجابة الدعاء)

 

رجلٌ غنيٌ يروي قصةً حدثت معه منذ فترةٍ؛ يقول الرجل: "عدتُ من شركتي في إحدى الليالي، كالعادة دخلتُ منزلي وتناولتُ العشاء مع زوجتي وأبنائي، ولعبتُ قليلاً مع أبنائي ثم خلدنا للنوم، وكنتُ في العادة لا أتأخر كثيراً حتى أغفو ويغلبني النُعاس؛ فكنتُ أنام سريعاً بمجرد أن أضع رأسي على الوسادة، لكن الغريب الذي حصل معي في تلك الليلة هو أنني لم أستطع النوم مثل العادة؛ لقد كان عقلي مشغولاً، ورفض النوم زيارتي؛ فقلتُ في نفسي دعني ألعب قليلاً بعض الألعاب على هاتفي، لعبتُ قليلاً وشعرتُ بالملل، وكنتُ أحس بضيقٍ يشق صدري، فجأةً، ومن حيث لا أعلم كيف خطرت على بالي هذه الفكرة، قلتُ سوف أستبدل آخر رقمٍ من رقم هاتفي وأتصل عليه وأتحدث معه قليلاً ربما أكسر الملل؛ فحذفتُ الرقم الأخير ووضعتُ صفراً بدلاً منه واتصلتُ، ظل الهاتف يرن ولم يُجب أحدٌ؛ فحذفتُ الصفر ووضعتُ رقم واحد فرَّن قليلاً ثم أجابت امرأةٌ وكانت تبكي فأغلقتُ المكالمة سريعاً.

راودني الفضول؛ أريد أن أعرف لماذا تبكي هذه المرأة في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ فقلتُ لنفسي: "دعني أعرف القصة"، اتصلت مرةً أخرى فكان الرد سريعاً وقالت المرأة: "أستحلفك بالله، لا تُغلق الخط؛ إني بحاجةٍ لمساعدةٍ"، وكان بكاؤها شديداً هذه المرة، فسألتها: "ما الأمر يا أختي؟ كيف أساعدك؟"، فقالت وهي تبكي: "إني أسكن بالقرب من المطار، هل عرفتَ المكان؟"؛ ولحُسن حظها أنها تسكن بالقُرب منا؛ فقلتُ: "نعم أعرف المكان إنه يبعد عن منزلنا 2 كيلو متر فقط"، فقالت: "أتوسل إليكَ يا أخي بأن تأتي وتُنقذ ابني؛ أنه سَيموت"، فقلتُ لها: "حسناً، أعطيني عنوان منزلك، مسافة الطريق وأكون عندك". أخذتُ عنوان منزلها ثم أيقظتُ زوجتي وانطلقنا بالسيارة، بعد خمس دقائق وصلنا منزل المرأة وطرقنا الباب ففتحت المرأة، دخلتُ أنا وزوجتي ثم أخذنا المرأة وابنها المريض وتوجهنا إلى المستشفى، وكان الطفل لا يحرك ساكناً فكنتُ أظن بأنه قد فارق الحياة. بعد دقائق وصلنا إلى المستشفى وبدأ الأطباء بالفحص وقالوا إن الطفل يُعاني من حُمى شديدةٍ أفقدته الوعي وأدخلته في غيبوبةٍ؛ فسألتُ الطبيب: "هل سيتحسن؟"، فقال: "سوف يتحسن، لكنه بحاجةٍ إلى رعايةٍ مركزةٍ، وهو يُعاني من سوء التغذية"، فنقلوا الطفل إلى العناية المركزة تحت الملاحظة، ذهبتُ أنا إلى السوق وقمتُ بشراء الطعام، وناولته للمرأة فنظرت إليّ وقالت: "ربي يستر عليكَ ويسعدك ويجعل أيامك كلها سعادةٌ أنتَ وعائلتك"، فقلتُ لها: "هذا واجبي، لكن أخبريني ما قصتك؟"، فقالت: "لقد تُوفي زوجي قبل شهرين وترك هذا الطفل اليتيم، وأنا من أقوم برعايته، وهو مريضٌ منذ ثلاثة أيامٍ وكنتُ عاجزةً عن علاجه، واليوم اشتد به المرض وارتفعت حرارته فلم أدرِ ماذا أفعل، ولا أعرف أحداً في هذه المدينة، وعندما رأيتُ المرض اشتد قمتُ أُصلي وأتوسل إلى الله بأن يُساعدني، و.."، فقاطعتُ حديثها وقلتُ لها: "ماذا قلتِ في سجودك؟"، فقالت: "قلتُ ربِ أتوسل إليك بأن تُساعدني من السماء ومن الأرض؛ من السماء أن تُشفي لي ابني، ومن الأرض أن تُرسل من يُساعدني، ثم انتظرتُ طويلاً ثم تفقدتُ ابني فوجدته لا يُصدر أي صوتٍ فبكيتُ ثم عدتُ فوراً فسجدتُ وقلتُ بصوتٍ مرتفعٍ: "ربِ إن ابني سوف يموت، إن لم تُساعدني أنت فمن غيرك سوف يُساعدني؟"، وفوراً رنَّ هاتفي فقمتُ وأخذتُ الهاتف وقلتُ مرحباً، فإذا بالخط يُغلَق وانتهت المكالمة، وضعتُ الهاتف بالقرب من رأسي عند موضع سجودي، وظللتُ أدعو الله سبحانه وتعالى إلى أن اتصلتَ أنتَ وتحدثتُ معك وطلبتُ منك المساعدة"، قال الرجل متأثراً وهو يُخفي دموعه: "فوالله يا أختي إن دعاءك حرمني لذة نومي وشغل عقلي، وهو الذي جعلني أتصل بك بهذه الطريقة التي لم تخطر على بال بشرٍ، لقد منع دعاؤك عيوني أن تنام حتى أرسلني الله لكِ، إن هذه ليست صدفةً بل رسالةٌ من الله سبحانه وتعالى".

يقول الرجل: "بقيتُ أنا وزوجتي بجانبها حتى استعاد ابنها حالته الطبيعية وتحسن وصار بحالةٍ جيدةٍ، ثم قمتُ بدفع كل تكاليف العلاج، وقمتُ بشراء ما يلزمها من طعامٍ وغيره، وكانت حيطان منزلها مكسرةً فقمتُ بإعادة بنائها من جديدٍ، وجعلتُ زوجتي وجميع أفراد أسرتي يذهبون لزيارتها ويتفقدون أحوالها كل يوم.

 

أحبتي في الله.. إنها قصةٌ تؤكد على أن (استجابة الدعاء) هو وعدٌ من الله سبحانه وتعالى يتحقق لعباده المؤمنين.

وما أشبه هذه القصة بقصة شابٍ سعوديٍ ملتزمٍ، لم تكن لديه وظيفةٌ، فكان يتاجر ببعض الجلديات التي يأتي بها من «القاهرة» ويبيعها في «جدة» حيث يقيم، وكلما نفدت البضاعة سافر إلى «القاهرة» وأحضر بضاعةً جديدةً. في إحدى سفرياته سكن كعادته في غرفةٍ متواضعةٍ بحيٍ شعبيٍ ليُقلل من مصاريفه، وليقضي المهمة التي جاء من أجلها بأسرع وقتٍ ثم يعود إلى أهله. تعرف على شابٍ سودانيٍ كان يسكن في غرفةٍ فوق السطوح، وكان هذا الشاب السوداني مُحافظاً على الصلاة في المسجد ويُكثر من ذِكر الله ووجهه يُشع بنور الإيمان؛ فاطمئن له الشاب السعودي وصادقه وكان يصطحبه معه للسوق لشراء البضاعة ولقضاء حوائجه؛ فكانت محبتهما خالصةً لوجه الله ليس لأيٍ من مقاصد الدنيا. عندما فرغ الشاب السعودي من شراء البضاعة، وفي يوم عودته إلى «جدة» ودّع صاحبه السوداني وسأله عن سبب إقامته في «القاهرة»؛ فأخبره بأن أحد إخوانه قد سافر من «السودان» إلى «القاهرة» للتجارة وانقطعت أخباره، وهو يبحث عن أخيه حسب طلب والدته التي قالت له لا تعد إلا وقد أتيتَ بخبرٍ عن أخيك، فكان مع الشاب السعودي مبلغٌ بسيطٌ فحاول مساعدة صديقه السوداني إلا أنه رفض وقال: "أنا عرفتك في الله ولا أريد شيئاً منك إلا الحب في الله". عاد الشاب السعودي إلى «جدة»، ومضت الأيام والليالي، وبعد حوالي شهرين وفي ليلةٍ من الليالي كانت الساعة تُشير إلى الثانية بعد منتصف الليل استيقظ الشاب السعودي من نومه وحاول أن يواصل نومه إلا أنه شعر بأن النوم قد جافى عينيه؛ فقام ليشرب بعض الماء فشعرت به والدته التي أصابها الأرق مثله فنادت عليه وسألته: "ألم تنم يا بُنيّ؟"، فقال لها: "قد طار النوم من عينيّ يا أماه"، فقالت له: "وأنا كذلك؛ فتعالَ ندردش قليلاً". يقول الشاب السعودي عندما جلستُ مع والدتي تذكرتُ الأخ السوداني فبدأتُ أذكر قصته لأمي، وكيف أني أحببته في الله، وكيف بِره بوالدته حيث أنها طلبت منه أن لا يعود حتى يأتي بخبرٍ عن أخيه؛ فقالت لي أمي: "لم تذكر لي قصته من قبل"، فقلتُ لها: "تذكرته الآن فقط"، فأخرجت أمي مبلغاً من المال وقالت لي: "أكيدٌ أن صاحبك هذا محتاجٌ للمساعدة فخُذ هذا المبلغ ولا تنم حتى توصله له"، فتعجبتُ من طلبها وقلتُ لها: "يا أمي هو في «القاهرة» ونحن في «جدة» والساعة الثالثة بعد منتصف الليل فكيف أوصله له قبل أن أنام؟"، فقالت لي: "يا بُنيّ عندما كنتَ هناك اتصلنا عليكَ على رقم سكنكَ فاذهب واتصل به من هاتف العُملة، فإن كان لا يزال في سكنه حوِّل له المبلغ في الصباح"، فقلتُ لها: "سمعاً وطاعةً يا أماه". ذهبتُ واتصلتُ بالرقم فأجاب حارس العمارة فقلتُ له: "أريد أن أتحدث مع الأخ السوداني الذي يسكن في السطوح للأهمية"؛ فما لبث أن ناداه لي؛ فقلتُ له: "أنا صاحبك من «جدة»"، فعرفني وقال: "خيراً إن شاء الله"، فقلتُ له: "معي مبلغٌ من المال هو هديةٌ لكَ من والدتي؛ فأعطني اسمكَ كاملاً حتى أُحوّله لكَ غداً"، فأعطاني اسمه. وطاعةً لوالدتي لم أنم في تلك الليلة حتى أشرق الصباح فتوجهتُ إلى أحد المصارف وحوّلتُ المبلغ للأخ السوداني بحوالةٍ مستعجلةٍ ثم عدتُ إلى البيت وقلتُ لوالدتي: "الحمد لله؛ لم أنم حتى حوّلتُ المبلغ كما طلبتِ"، فدعت لي بالخير. بعد فترةٍ من الزمن سافرتٌ إلى «القاهرة» لشراء بضاعةٍ جديدةٍ فذهبتُ لزيارة الأخ السوداني فطرقتُ عليه الباب، وعندما فتح الباب ورآني عانقني عناقاً شديداً وبكى وهو يُقبلني؛ فاستغربت لذلك وسألته عن سبب بكائه؛ فقال لي: "تذكر عندما اتصلتَ عليّ قبل شهرين في منتصف الليل وأخبرتني بأنك سوف تُحوّل لي مبلغاً من المال؟"، فقلتُ له: "نعم أذكر ذلك"، فقال لي: "كنتُ في تلك الليلة قد أكملتُ اثنين وسبعين ساعةً، أي ثلاثة أيامٍ بلياليها، لم أذق طعاماً ولا حتى كسرة خبز، وكان طعامي وشرابي الماء فقط. في ذلك الوقت، وفي الثُلث الأخير من الليل قمتُ وصليتُ لله ركعتين، وفي السجود الأخير قلتُ: يا رب أنتَ وحدك تعلم حالي، وأني لم أذق طعاماً منذ ثلاثة أيامٍ ولم أسأل أحداً من البشر، وأنتَ سبحانك قلتَ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾، وقلتَ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، وقلتَ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، فما انتهيتُ من الدعاء حتى طرق الحارس الباب وقال لك مكالمةٌ من السعودية؛ فعرفتُ أن الله قد استجاب دعائي".

يقول الشاب السعودي: والله لقد قمتُ من نومي في تلك الليلة، وقامت أُمي وقالت لي لا تنم حتى تُوصّل هذا المبلغ له، كل هذا لأنه كان ساجداً بين يديّ الله ويدعوه دعاء المُضطر، فسبحان الله مُجيب دعاء المُضطرين.

 

إنها (استجابة الدعاء) الذي وصفه النبي؛ قال صلى الله عليه وسلم: [الدُّعاءُ هوَ العبادةُ]، وقال أيضاً: [ليسَ شيءٌ أكرَمَ على اللهِ من الدُّعاءِ]، وقال كذلك: [إنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كريمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رفَعَ يَدَيْهِ إِليْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً]، كما قال: [ما مِنْ مُسلِمٍ يَدْعو بدعوةٍ ليسَ فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِمٍ إلَّا أعطاهُ اللهُ إِحْدى ثلاثٍ: إمَّا أنْ يُعَجِّلَ لهُ دعوتَهُ، وإمَّا أنْ يدَّخِرَها لهُ في الآخِرةِ، وإمَّا أنْ يصرِفَ عنهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَها]، وقال عليه الصلاة والسلام:[ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنُونَ بالإجابةِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ لا يَستجيبُ دُعاءً من قلْبٍ غافِلٍ لَاهٍ]، وقال: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي]، وقال أيضاً: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ قيلَ]، وقال كذلك: [أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ]، كما قال: [إذا دَعا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، ولا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ فأعْطِنِي؛ فإنَّه لا مُسْتَكْرِهَ له]، وقال صلى الله عليه وسلم: [دعاءُ المرءِ المسلِمِ مُستجابٌ لأخِيهِ بظهرِ الغيبِ، عند رأسِه ملَكٌ مُوكَّلٌ به؛ كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بِخيرٍ قال الملَكُ: آمينَ ولكَ بِمثلِ ذلكَ]، وقال: [لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلَّا البرُّ]، وقال أيضاً: [الدُّعاءُ ينفع مما نزل و مما لم ينزِلْ، فعليكم عبادَ اللهِ بالدُّعاءِ]، وقال كذلك: [الدُّعاءُ بين الأذانِ و الإقامةِ مُستجابٌ، فادْعوا]، كما قال: [ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم: الإمامُ العادلُ، والصَّائمُ حتَّى يُفْطِرَ، ودعوةُ المظلومِ تُحمَلُ على الغمامِ، وتُفتَحُ لَها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ -عزَّ وجلَّ-: وعزَّتي لأنصرنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ].

 

وورد في الأثر "ما كان الله ليفتح لعبدٍ باب الدعاء ويُغلق عنه باب الإجابة".

 

يقول العلماء إن من أسباب (استجابة الدعاء): الإخلاص في الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، والإخلاص هو الاعتقاد الجازم بأن الله عزَّ وجلَّ هو وحده القادر على قضاء حاجة الداعي. التوبة والرجوع إلى الله تعالى؛ فإن المعاصي من الأسباب الرئيسية لحجب الدعاء فينبغي للداعي أن يُبادر إلى التوبة والاستغفار؛ يقول تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾. التضرع والخشوع والتذلل والرغبة والرهبة، وهذا هو روح الدعاء ولبه ومقصوده؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾. الإلحاح والتكرار وعدم الضجر والملل؛ فقد رُويَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً. الدعاء حال الرخاء والإكثار منه في وقت اليُسر والسَعة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ]. التوسل إلى الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى؛ يقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾. حُضُورُ القَلْب في الدعاء واختيار جوامع الكلم وأحسن الدعاء وأجمعه وأبينه، وخير الدعاء ما ورد في القرآن الكريم، وما دعى به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز الدعاء بغيره مما يخص الإنسان به نفسه من حاجاتٍ، وألا يدعو بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ، وأَنْ يَكُونَ مطعمُه ومشربُه وملبسُه من حلالٍ.

ومن آداب الدعاء، وليست واجبةً، استقبال القبلة، والدعاء على طهارةٍ، وافتتاح الدعاء بالثناء على الله عزَّ وجلَّ وحمده والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رفعُ الأيدي في الدُّعاء، خفضُ الصوتِ ليكون بين المخافتة والجهر، عدمُ تكلُّف السجع، الدعاءُ ثلاثاً.

كما أن هناك أوقاتاً وأحوالاً وأماكن هي مظنة (استجابة الدعاء) منها: ليلة القدر، جَوْفُ الليلِ الآخِر، ساعةُ من كُلِّ ليلةٍ، عِندَ النِّدَاءِ للصلوات المكتُوبة، عَقَبَ الوُضُوءِ، بين الأذان والإقامة، بعد التشهُّد الأخير، دُبْرُ الصلاةِ المكتوبةِ، عِندَ نُزُولِ الغيثِ، عند زَحفِ الصُّفُوفِ في سبيل الله، ساعةٌ من يومِ الجُمْعَة، في السجودِ، عند الاستيقاظ من النَّومِ ليلاً، عقب وفاة الميت، دُعاءُ المُسلم لأخيهِ المُسلم بظهرِ الغيب، يوم عَرَفَةَ، عند شُرب ماءِ زمزم، في شهر رَمَضَانَ، في مجالسِ الذِّكْر، دُعاءُ المظلوم على من ظلمهُ، دُعَاءُ الوالِد لولَدِهِ، دعاءُ المسافِر، دُعَاءُ الصائمِ عِنْدَ فِطْرِهِ، دعاءُ المُضطرِّ، دُعاءُ الإمام العادل، ودُعَاءُ الوَلَدِ البارِّ بوالدِيهِ لهما.

 

أحبتي.. الدعاء هو السلاح الذي لا يُرد؛ فلنُكثر من الدعاء، ولنُنزل حوائجنا بملك الملوك الذي لا تنفد خزائنه.

اللهم ارزقنا حُسن الدُعاء، وجَمِّلنا بالصبر، وأنعم علينا بسرعة (استجابة الدعاء) بما فيه خيرٌ لنا، برحمتك وفضلك يا أكرم الأكرمين.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/3SHhD9h

الجمعة، 26 يناير 2024

حفظ القرآن الكريم

 خاطرة الجمعة /431

الجمعة 26 يناير 2024م

(حفظ القرآن الكريم)

 

 

يقول أحدهم: كنتُ في «المدينة المنورة» وحان موعد صلاة الظهر، توضأتُ ونزلتُ إلى المسجد النبوي، فرأيتُ رجلاً سودانياً يُقال له «أبو مالك»، دائم البسمة، وجهه بشوشٌ يُشع نوراً، أحببته في الله بمجرد النظر إليه، صاحب همةٍ متوقدةٍ، يُقرئ القرآن ولا يَمَلُّ، فإذا ألقيتَ عليه السلام يرد السلام؛ ثم يُجْلِسُكَ بجواره ويقول: "اقرأ عَلَيَّ سورةَ الفاتحة"، يُصحح لك الأخطاء في التلاوة، فإذا فَرَغَ أخذ يدعو ويذكر ربه. سألته: "يا «أبا مالك» هل حدث معك موقفٌ أثَّر في نفسك؟ "، قال: "نعم يا أخي؛ ولن أنساه أبداً ما حَييتُ"، قلتُ: "حدثني ما هو؟"، قال: "جاءني منذ فترةٍ رجلٌ مُسنٌ في أول الثمانين من عُمره، وطلب مني أن أُحفّظَه كتاب الله، فقلتُ له: يا والدي؛ أنت مُسِنٌّ، وحِفْظُكَ صعب".. فقام غاضباً وقال لي: "لن أسامحك؛ وسأُحاجِجُك بهذه الكلمات أمام ربي، أريد لقاء الله وكلامه في صدري"، ثم قام؛ فناديتُ عليه وقلتُ له: "يا والدي على الرأس والعين؛ لك كل الوقت، لك كل ما تُريد؛ فرح الرجل المُسِن، وبدأتُ مشوار التحفيظ له، مَرَّةً يحفظ آيةً واحدةً فقط، ومرةً صفحة، ومرةً إذا حضر لا يحفظ شيئاً، لكنه كان لا ينقطع، وسبحان الله تمر السنوات والرجل لا تنقطع همته، حتى استطاع أن يحِفظَ القرآن كاملاً وكان عُمره وقتها قد ناهز 86 عاماً، وكعادة القُرَّاء بعد ختمه القرآن؛ قرأ سورة الناس ثم الفاتحة ثم أول خمس آياتٍ من سورة البقرة -كي لا تكون آخر ختمةٍ له- ثم سجد بعدها شكراً لله تعالى، كان يبكي فرحاً ويبتسم، فوالله لم يقم من سجدته، وفاضت روحه ومات الرجل في هذه السجدة. لم أدرِ وقتها؛ أأبكي فرحةً له، أم أبكي حسرةً على نفسي ولفراقي لجلساته؟".

أحبتي في الله.. يقول راوي القصة: "لله درُّ الرجل؛ كان ذا هِمَّةٍ متوقدةٍ، ذا صِدقٍ في رجائه ودعائه لله تعالى أن يلقاه وكلامه في صدره؛ فوضع الهدف نُصب عينيه، ولم يلتفت للمثبطين، حتى بلغ ما تمنى".

 

وهذه قصة همةٍ أخرى؛ كتبت «أم طه» الأردنية قصتها مع (حفظ القرآن الكريم) فقالت: "عُمري سبعون سنة، أعيش في مدينة «الزرقاء» وأعمل خيّاطة، كنتُ أميةً لا أقرأ ولا أكتب، ذات يومٍ طلبتُ من إحدى الفتيات اللواتي يترددن عليّ أن تُعلّمني كيفية كتابة لفظ الجلالة، وقلتُ لها أريد أن أتعلم اسم ربي كيف يُكتب؟ وبالفعل تعلمتُ وأصبحتُ أتتبع لفظ الجلالة في القرآن من أوله إلى آخره، أعجبتني الفكرة وأحسستُ بمشاعر عاليةٍ جداً؛ فطلبتُ من الأخت أن تُعلّمني الحروف، وتعلمتُ التهجي، والتحقتُ بمركزٍ لتحفيظ القرآن، وبدأتُ أقرأ بالتهجي من المصحف، واستمريتُ إلى أن ختمتُ قراءة القرآن كاملاً.. لم أصدق نفسي بعد كل هذا العمر أنني أصبحتُ قارئةً للقرآن؛ فأقمتُ حفلةً كبيرةً لجميع الأخوات بمناسبة انتهائي من قراءة القرآن، وأهدتني إحداهن كتاباً عن كيفية (حفظ القرآن الكريم)؛ ففجّر هذا الكتاب عندي الرغبة في الحفظ؛ حيث علمتُ من الكتاب أن من لديه الهمة يُمكن له أن يحفظ ولو كان فوق الأربعين؛ فبدأتُ الحفظ، وأحسستُ بسعادةٍ عجيبةٍ جداً، وأنا الآن قد حفظتُ القرآن الكريم كاملاً والحمد لله".

 

وها هي امرأةٌ أخرى لها قصةٌ مميزةٌ مع (حفظ القرآن الكريم)؛ إنها «أم أحمد» امرأةٌ في الخمسينات من عُمرها، ربة منزلٍ جل اهتماماتها المطبخ والأولاد وزوجها، سمعت يوماً بفتح مركزٍ لتحفيظ القرآن الكريم بالمسجد العتيق في البلدة، وبوجود مُحفظين سيشرحون كل ما يختص بالقرآن وتلاوته الصحيحة، ويقومون بالتحفيظ؛ عرضت «أم أحمد» على زوجها وأبنائها أن تبدأ في (حفظ القرآن الكريم) بالمسجد؛ فرحبوا بذلك؛ فحفظت في أوقاتٍ قياسيةٍ أجزاءً من القرآن، وقررت الذهاب إلى معهد القراءات لصقل معرفتها القرآنية بمعرفةٍ أكاديميةٍ أكثر شمولاً وعموماً، واستطاعت ختم القرآن، وأصبح القرآن الكريم أسلوب حياةٍ بالنسبة لها، فقررت فتح أحد المجالس لاستقبال الدعاة وللاجتماع والذِكر مع الأصدقاء، بعد ذلك شرعت في عمل مشروعٍ للحضانات الإسلامية وتطبيق بعض المناهج التي تُمكن الطفل من حفظ أكبر قدرٍ ممكن من الآيات والسور القرآنية، وأن يختم القرآن في السنة مرةً واحدةً على الأقل.

 

يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ والمقصود بعبارة ﴿آياتٌ بَيِّناتٌ﴾ القرآن الكريم، وفى الآية دعوةٌ للمسلمين إلى (حفظ القرآن الكريم) في الصدور، وليس في الكتب أو أية وسيلة حفظٍ أخرى فحسب. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، وفي الآية دليلٌ على تسهيل الله القرآن للناس تلاوةً وحفظاً.

 

ويقول أهل العلم إن (حفظ القرآن الكريم) عبادةٌ يبتغي بها صاحبها وجه الله والثواب في الآخرة، وبغير هذه النية لن يكون له أجرٌ. كما يجب على حافظ القرآن ألا يقصد بحفظه تحصيل منافع دنيويةٍ لأن حفظه ليس سلعةً يُتاجر بها في الدنيا، بل هي عبادةٌ يُقدمها بين يدي ربِّه تبارك وتعالى.

ومع ذلك فإن من ثمرات (حفظ القرآن الكريم) في الدنيا أن الحافظ يُقدَّم على غيره في الصلاة إماماً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ]. كما أنه يُقدَّم على غيره في القبر في جهة القبلة إذا دُفن مع غيره؛ فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من شهداء أُحد في ثوبٍ واحدٍ ثم يقول: [أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ؟] فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد. ويرفع الله -سبحانه وتعالى- حافظ القرآن عن غيره فيما يشاء من مجالاتٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ].

ومن ثمرات (حفظ القرآن الكريم) في الآخرة أن منزلة الحافظ تكون عند آخر آيةٍ كان يحفظها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، ومعنى القراءة هنا: الحفظ. كما أنه يكون مع الملائكة رفيقاً لهم في منازلهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ]. وأنه يَشفع فيه القرآن عند ربِّه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ]. وأنه يُلبَس تاج الكرامة وحُلة الكرامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ فيَقولُ: يا ربِّ حلِّهِ، فَيلبسُ تاجَ الكَرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا رَبِّ زِدهُ، فيلبسُ حلَّةَ الكرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ ارضَ عنهُ، فيقالُ لَهُ: اقرأْ وارْقَ، وتزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً]. كما يُلبَس تاج الوقار، ويُكسى والداه حلتين لا مثيل لهما في الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا]. ويكون حفظ القرآن والعمل بما فيه سبباً في إلباس والدي حافظ القرآن تاجاً يوم القيامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا].

 

أما العارفون من أصحاب الخبرة فيقولون إن القرآن يجب أن يبدأ بالتلقين؛ وهذا يستوجب أن يكون الحفظ عند مُحفظٍ حاصلٍ على الإجازة، لكي يقوم بتصحيح الأخطاء ومخارج الحروف وطريقة التلاوة ونُطق الكلمات؛ حتى يتم الحفظ بصورةٍ سليمة. وتكون البداية بالنية الصادقة، ثم وضع خطةٍ ذات أهدافٍ واضحةٍ، بها مواعيد محددةٌ لإكمال حفظ أجزاء القرآن وسوره، والالتزام بتنفيذها. ولابد من اختيار مُصحفٍ مُحددٍ طوال مدة الحفظ؛ حتى لا يتغير شكل ترتيب الآيات والكلمات ما بين الخريطة الذهنية الخاصة بالحافظ وتلك الموجودة في المُصحف. ويجب اختيار أفضل المواعيد التي يتوفر بها الهدوء والنقاء والصفاء الذهني؛ حتى يسهل الحفظ، وأفضل أوقات الحفظ -كما أجمع العلماء- بعد صلاة الفجر. كما أن اختيار الصحبة الطيبة يُعين على شحذ الهمم وعدم النكوص أو الكسل.

 

قال الشاعر:

قَد نلتَ يا حامِلَ القُرآنِ مَنزِلةً

تَبقى عَلى الدَهرِ للأسْلافِ تِذكارا

قَد خَصكَ اللهُ بالخَيْراتِ والمِننِ

إذ كُنتَ مِمَن لِحِفظِ الآيِ مُخْتارا

وقال آخر:

طوبى لِمَن حَفِظَ الكِتابَ بِصَدْرِه

فَبَدا وَضيئاً كالنُجومِ تَألَقا

وَتَلاهُ في جُنحِْ الدُجى مُتَدَبِراً

وَالدَمْعُ مِنْ بَيْنِ الجُفونِ تَرَقْرَقا

هَذي صِفاتُ الحافِظينَ كِتابَهُ حَقاً

فَكُنْ بِصِفاتِهِم مُتَخَلِقا

 

أحبتي..

أختم بما ختم به راوي القصة الأولى؛ كتب يقول: "وسائل التحفيظ منتشرةٌ بفضل الله، ومتوفرةٌ بكل مكانٍ، فلِمَ الغفلة والزهد في هذا الأمر؟! سلْ نفسك كم ساعةً وكم دقيقةً تضيع منك في اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى تصفح الإنترنت؟ وكم ساعةً أخرى تضيع في لا شيء؟ اُدعُ ربك واستعن به سبحانه، وتوكل عليه، وسله صادقاً ألا يُميتك إلا والقرآن في صدرك؛ فهو والله خيرٌ عظيمٌ وفضلٌ لا يكون إلا لمن اصطفى من عباده؛ فابدأ من الآن".

اللهم أعنّا على حفظ كتابك الكريم في صدورنا، ويَسّر لنا ذلك؛ فأنت سبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3HyXVX3