الجمعة، 29 أبريل 2022

البِر بالوالد

 

خاطرة الجمعة /341


الجمعة 29 إبريل 2022م

(البِر بالوالد)

 

كتب والدٌ يعيش وحيداً، يقول:

أُمضي شهر رمضان وحيداً عاجزاً مُثقلاً بالأمراض التي تحد كثيراً من حركتي، أتفقد هاتفي لعلي قد تلقيتُ مكالمةً ولم أشعر بها، فأنظر في الجوال فلا أجد من ذلك شيئاً. خلّفتُ ثلاثة شبابٍ وأختهم، خلّفوا لي أربعة عشر حفيداً معظمهم في الجامعات، وأغلب هؤلاء الأحفاد قضى معظم طفولته على أكتافي متجولاً ما بين ديزني لاند في لوس أنجلس وباريس ولندن وميلانو.

أفنيتُ شبابي في تدليل آبائهم وأمهاتهم. كنا نجتمع على الطعام خمسة عشر فرداً، بل وأكثر، وفجأةً لا أجد أحداً، تختفي الضوضاء والأطفال وآباؤهم، وأرى نفسي صديقاً مخلصاً لصديقين؛ النوم والنوافذ، وأقسم بالله أصبحت النافذة أعزَّ عليّ من أولادي كلهم. تُجري زوجتي بعض المكالمات مع صديقاتها المغتربات سواءً في أمريكا أو الخليج، وبسبب كوني فضولياً فإني أتلصص على مكالماتها، فأرى أنها مكالماتٌ من الأهل والسؤال عن احتياجاتهم بشكلٍ يومي. تصوروا أن في أمريكا وتركيا والخليج مكاتب تُسجل طلب الطعام في هذه البلاد وتتقاضى ثمنه وتُرسل الطعام من دمشق إلى أهل الصديقة الموجودة في أمريكا، وبالمقابل لي ولدٌ موجودٌ في كندا وهو الأصغر -عمره أربعون عاماً- يُكلمني بمعدل مُكالمةٍ واحدةٍ كل شهر، هل تصدقون أنه لم يُبارك لي بشهر رمضان حتى الآن؟ وطبعاً خلال عشر سنوات غيابٍ، ومع قلة مُكالماته لم يسألني يوماً بجديةٍ إن كنتُ بحاجةٍ لشيءٍ -زوج من الجوارب مثلاً- وفي نهاية المُكالمة يقول لي: "ارضَ عني"، وكأن الرضا كميةٌ من البونبون أضعها في جيبي وأُخرج منها لأصبَّ في جيبه متى طلب مني! وأما الآخر فهو في إستانبول، يحتاج عشرة أيامٍ حتى يُكلمني من جواله مُكالمةً مُقتضبةً يُنهيها بجملةٍ سريعةٍ ومتصلةٍ "عاوز شي بابا خاطرك"، عفواً نسيتُ أن أقول لكم أنه زارني بعد غياب عشر سنواتٍ حاملاً معه أربعة علب سجائر هديةً لي؛ لأني مازلتُ أدخن! وأما الكبير فيهم فيكتفي بالسلام عليّ -فقط السلام لا أكثر- عن طريق رسائل الماسنجر المكتوبة وليست الصوتية! وأخيراً كُلهم يطلبون الرضا! وأتساءل أنا: الرضا على ماذا؟ كُل أولادي يشهدون كيف كانت مُعاملتي لأمي وأبي -رحمهما الله- حتى أنهما طلبا مني ذات مرةٍ التوقف عن تقديم الهدايا لهما، ولم أكن أرضى أن تدخل بيتي فاكهةٌ أو أي نوعٍ من الطعام غير العادي قبل أن يدخل بيتهما قبلي بيومٍ على الأقل، وأُقسم بالله إنني سألتُ أبي مرةً -وكان يجلس بجانبي في السيارة- سألته أن يرضى عليّ، فدمعت عيناه، وقال لي: "وهل أنت بحاجةٍ إلى رضا؟".

كنتُ وحيداً قبيل المغرب أجلس بقرب النافذة، أنتظر أذان المغرب، سكونٌ وسكون، وأفكارٌ سوداء، وأتساءل أين أولئك الذين أفنيتُ كل شبابي ومعظم كهولتي في تدليلهم وتدليل نسائهم وأولادهم؟ أين هُم؟ ويقولون لي في نهاية المُكالمة الموسمية: "ارضَ علينا"، وهنا أتساءل: "هل إذا رضيتُ أنا سيرضى الخالق؟".

 

أحبتي في الله.. ليس من (البِر بالوالد) نسيانه وهجره وعدم السؤال عنه وتركه وحيداً، فالوحدة صعبةٌ على الجميع، فما بالنا بالوالد عندما يكون كبيراً في السن، يعيش وحده وبمفرده؟ إنه يُحس بمرارة الوحدة، ويتضاعف إحساسه بها عندما يكون له أبناء لا يسألون عنه، وإذا سألوا كان سؤالهم لرفع العتب، وكأنهم يقومون بواجبٍ يتمنون لو يتخلصون منه!

ذكرتني هذه القصة بقصيدةٍ مؤثرةٍ لشاعرٍ سوريٍ كان مقر عمله في لبنان، قضى وقتاً طيباً مع جميع أفراد أسرته خلال عُطلةٍ بمصيف "قرنابلٍ" بلبنان، وفي نهاية العُطلة ودّعوه وتركوه وحيداً وعادوا إلى حلب، ومع إحساسه بمرارة الوحدة كتب هذه القصيدة:

أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟

أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولةُ في توقُّدها؟

أين الدُّمى، في الأرضِ، والكتبُ؟

أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟

أين التشاكي ما له سببُ؟

أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في

وقتٍ معًا، والحُزْنُ والطَّربُ؟

أين التسابقُ في مجاورتي

شغفًا، إذا أكلوا وإنْ شربوا؟

يتزاحمون على مُجالَستي

والقربُ منِّي حيثما انقلبوا

فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا

ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا

وهتافهمْ "بابا" إذا ابتعدوا

ونجيُّهمْ "بابا" إذا اقتربوا

بالأمس كانوا ملءَ منزلِنا

واليومَ -ويحَ اليومِ- قد ذهبوا

ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهمْ

في القلبِ، ما شطّوا وما قَرُبوا

إني أراهم أينما التفَتتْ

نفسي، وقد سَكنوا، وقد وثبوا

وأُحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ

في الدارِ، ليس ينالهم نصبُ

وبريقُ أعينِهمْ إذا ظفروا

ودموعُ حُرقتِهمْ إذا غُلبوا

في كلِّ ركنٍ منهمُ أثرٌ

وبكلِ زاويةٍ لهم صَخَبُ

في النَّافذاتِ، زُجاجُها حَطَموا

في الحائطِ المدهونِ، قد ثقبوا

في البابِ، قد كسروا مزالجَه

وعليه قد رسموا وقد كتبوا

في الصَّحنِ، فيه بعضُ ما أكلوا

في عُلبةِ الحلوى التي نهبوا

في الشَّطرِ من تفّاحةٍ قضموا

في فضلةِ الماءِ التي سكبوا

إنِّي أراهم حيثما اتَّجهتْ

عيني، كأسرابِ القَطا، سربوا

بالأمسِ في "قرنابلٍ" نزلوا

واليومَ قدْ ضمتهمُ "حلبُ"

دمعي الذي كتَّمتُهُ جَلَدًا

لمَّا تباكَوْا عندما ركِبوا

حتى إذا ساروا وقد نزعوا

منْ أضلعي قلبًا بهمْ يَجِبُ

ألفيتُني كالطفلِ عاطفةً

فإذا به كالغيثِ ينسكبُ

قد يَعجبُ العُذَّالُ من رَجُلٍ

يبكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ

هيهاتَ ما كلُّ البُكا خَوَرٌ

إنّي -وبي عزمُ الرِّجالِ- أبُ

 

وعن (البِر بالوالد) وأسلوب معاملته -باعتباره أحد الوالدين- ذكرت الآيات القرآنية طاعة الوالدين بعد طاعة الخالق؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجنة قاطع]، يقول شُرّاح الحديث إنّ أعلى درجات قطيعة الرحم هي قطيعة الوالدين -ومنها قطيعة الوالد- لأن البعض قد يهجر والده أو تكون العلاقة بينهما فيها نوعٌ من الهجر، وقد تصل الأمور بينهما إلى المحاكم، كل هذا من صور العقوق، وبعض الأبناء يقول والدي ظلمني، فحتى لو حدث ذلك فإنه لا يعني أحقية الابن بأن يُعاقب والده على ما قام به من الأعمال؛ فهذا بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، فيجب على الابن أن يُظهر لأبويه -ومنهما والده- الإحسان والبِر مهما فعلا به، وعليه مصاحبتهما بالمعروف حتى لو وصل الأمر إلى أنْ يأمراه بالشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ .

وعن خُصوصية مُعاملة الوالد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الوالدُ أوسطُ أبواب الجَنَّة، فإنْ شئتَ فأضِعْ ذلك الباب أو احفظْه]، خير الأبواب وأعلاها، وأحسَن ما يُتوسَّل به إلى دخول الجَنَّة، والوصول إلى درجتها العالية، بابٌ يغفل عنه كثيرون.

وعن مكانة الوالد في الإسلام يقول أهل العلم إنّ للوالد مكانةً مهمةً في الإسلام، وله مقامٌ شامخٌ ومنزلةٌ كبيرةٌ. كما أنّ له دوراً مهماً في تحديد مصير المجتمع من خلال تربيته لأبنائه؛ فالخير والصلاح الذي يُصيب المجتمع إنما يكشف عن الجهود الخيّرة التي يبذلها الآباء لتربية أبنائهم فتنشأ الأجيال الصالحة.

إنَّ (البِر بالوالد) ليس قُبلةً تضعُها على جبينه أو يده، أو دراهم تضعُها في جيبه، أو هديةً تُدخل بها السُرور عليه، وإنْ كان كلُّ ما سبق مِن البِرِّ، لكن بعض الأبناء يختزل البِرَّ في تلك الصوَر، إنَّ البرَّ هو رُوحٌ وحياةٌ تبعثُها في كل عملٍ تقدِّمه لوالدك، فإنْ أعطيتَه مالاً أظهرتَ أنك ما كنتَ لِتحصل عليه لولا الله ثم بسببه، وإنْ دفعتَ عنه أذىً أبَنْتَ أنه قد دفع عنك مِن الأذى أضعافه، وإنْ جلبتَ له خيراً أقررتَ أنه قد سبقكَ وقدَّم لك أعلى منه وأعظمَ. وكأنَّ لسان حالك يقول: يا والدي وسيِّدي! قد قدَّمتَ أكثر مما عليك، وبقي ما هو لك، و﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

 

وذكر العلماء جملةً من الآداب في التعامل لتحقيق (البِر بالوالد) فقالوا: للوالد حق الإحسان إليه وطاعته، واللطف معه، والحنان عليه، وتحقيق كل ما يتمناه، وود الصُحبة والعِشرة ومرافقته في الخير. وللوالد حق الأدب في الحديث معه، وحُسن المعاملة، والنفقة عليه في حالة الاحتياج، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنتَ ومالُك لأبيكَ] فلوالدك عليك حق النفقة والرعاية عند الكبر والشيخوخة، رفقاً وإحساناً واحتراماً ووداً ورحمةً به يرحمك الله في الكبر.

 

ومع ذلك نجد من الأبناء من يُسيء الأدب مع والده؛ إما بالتصرف الخاطئ أو النظرة الحادة أو العقوق الظاهر، والبعض يهجر والده بالكلام والبُعد عنه، وهناك أبناء يصرخون في وجوه آبائهم، وهناك من يضرب والده، وهناك من يودعه بإحدى دور المسنين، بل وصل الأمر إلى أقصى درجات العقوق بأن يقتل الابن والده!

 

أحبتي.. (البِر بالوالد) واجبٌ شرعيٌ علينا جميعاً الوفاء به، فهو سبيلٌ إلى الجنة. ولا يتحقق هذا البِر إلا إذا أحسن كلٌ منا تصور الأسلوب الذي يُحب أن يُعامله أبناؤه به؛ حينئذٍ نكون قد علمنا ما ينبغي علينا أن نقوم به بِراً بوالدنا وإحساناً إليه، كما يحثنا على ذلك المولى عزَّ وجلَّ، ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فمن كان منا باراً بوالده فليزد من بِره، ومن كان مُقصراً فليتدارك نفسه ويُصحح مسار علاقاته بوالده ويُصوِّب أسلوب تعامله معه.

هدانا الله إلى مرضاته سبحانه وتعالى، وأعاننا على أن نكون أبناء بررة، وجعل حُسن بِرنا بوالدنا في ميزان حسناتنا.

 

https://bit.ly/3LtBFOM

 

الجمعة، 22 أبريل 2022

المتعففون

 

خاطرة الجمعة /340


الجمعة 22 إبريل 2022م

(المتعففون)

 

تروي إحدى الأخوات قصةً من الواقع فتقول: كنا في المرحلة الثانوية، نجتمع في أوقات الاستراحة مع بعض الصديقات، ونضع فطورنا مع بعض دون أن تعرف إحدانا ماذا جلبت الأخرى! وكانت هناك طالبةٌ مسكينةٌ لم تكن تجلب معها شيئاً، فأقنعتها بالجلوس معنا، لأنه لا يدري أحدٌ من جلب الطعام. واستمر الحال هكذا لفترةٍ طويلةٍ إلى أن اقترب وقت تخرجنا من المدرسة الثانوية، وقتها تُوفي والد هذه الطالبة المسكينة وتغير حالها؛ فأصبحتْ في وضعٍ أفضلٍ من ذي قبل، تعتني بملابسها، وتأتي بالطعام، أي أنها صارت بوضعٍ جيدٍ، فتوقعتُ أنها ورثت شيئاً من أبيها، فجلستُ معها وسألتها: "ماذا جرى معك؟ ما سر هذا التغيير؟". فأمسكتْ بيدي وبكت وقالت: "والله، كنا ننام بلا عشاءٍ، وأنتظر ذهابي للمدرسة صباحاً لكي أتناول الطعام معكم من شدة جوعي، وكانت أمي تُخبئ كسرات خبزٍ من العشاء لفطور الصباح لإخواني، فأخرج باكراً من البيت متعمدةً لكي أوفر لهم زيادةً من الطعام، والآن بعد وفاة أبي، أصبح كل من حولنا من أقارب ومعارف وأصدقاء يُعطوننا ويعتنون بنا، كوننا أصبحنا أيتاماً!"، سكتتْ لحظةً ثم قالت لي وفي حلقها غُصةٌ: "تمنيتُ لو أن أبي شبع ولو مرةً قبل أن يموت"، قالتها والدموع ممزوجةٌ بأحرف كلماتها، قالت لي: "كأنهم لم يعرفوا أننا محتاجين إلا عندما مات أبي!"، بكت بحرقةٍ وهي تقول تلك الكلمات، ومازلتُ أحس بحرارة دموعها وحرقتها إلى الآن.

 

وتساءلت راوية القصة: هل يجب أن يموت الإنسان الفقير حتى يشعر الأغنياء بأولاده الأيتام؟! ما بال الناس اليوم؟ أين الإنفاق؟ أين الزكاة؟ أين صلة الرحم؟ أين إغاثة الملهوف؟ أين الرحمة؟

أيها الأخوة والأخوات: تفقدوا الأسر العفيفة، تفقدوا الأقرباء والجيران والأصدقاء لعل فيهم مَن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، والله إن في دهاليز حياة بعضهم آلاماً لا يسمع أنينها إلا الله تعالى. أنفِقوا يُنفق الله عليكم، تصدقوا وادفعوا زكاة أموالكم ولا تخشوا الفقر أبداً، واعلموا أن حاجتكم إلى الصدقة أشد من حاجة مَن تتصدقون عليه.

 

أحبتي في الله.. المتعفف كصفةٍ لفردٍ أو أسرةٍ أصلها من التعفف، وهو من العفة، وهي الترك؛ يقال: عفَّ عن الشيء إذا كف عنه، وتعفف إذا تكلف في الإمساك. والتعفف ترك السؤال، والاستعفاف هو الصبر والنزاهة عن الشيء.

و(المتعففون) وردت سماتهم في الآية الكريمة التي تصف الذين هم أولى الناس بالصدقات؛ يقول تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم﴾. يقول المفسرون إن المعنى العام للآية هو: اجعلوا صدقاتكم للفقراء الذين منعهم الجهاد في سبيل الله من السفر طلباً للرزق، يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء لتعففهم عن السؤال، ويعرفهم المطلع عليهم بعلاماتهم، من الحاجة الظاهرة على أجسامهم وثيابهم، ومن صفاتهم أنهم ليسوا كسائر الفقراء الذين يسألون الناس مُلِحِّين في مسألتهم، وما تُنفقوا من مالٍ وغيره فإن الله به عليم، وسيجازيكم عليه أعظم الجزاء.

 

و(المتعففون) عن السؤال وردت أحاديث نبويةٌ شريفةٌ متعددةٌ تمدحهم وتذم المُلحفين في السؤال؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [ليسَ المِسْكِينُ الذي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَا اللُّقْمَةُ ولَا اللُّقْمَتَانِ، إنَّما المِسْكِينُ الذي يَتَعَفَّفُ، واقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا}]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن يستعفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ عزَّ وجَلَّ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللهَ تعالى إذا أنعَم على عبدٍ نعمةً، يُحبُّ أن يرى أثرَ النِّعمةِ عليه، ويكره البُؤسَ والتَّباؤسَ، ويُبغِضُ السائلَ الملْحِفَ، ويحبُّ الحييَّ العفيفَ المتعفِّفَ].

 

يقول أهل العلم إن التعفف من سمات الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروفٌ تمنعهم من الكسب قهراً، وتأبى كرامتهم أن يسألوا العون من الناس، فهُم يتجملون كي لا تظهر حاجاتهم، ويحسبهم الجاهل -من حولهم- بما وراء ما يبدو منهم أنهم أغنياء لتعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة النافذة يُدرك سيماهم وهم يُدارونها في حياء.

و(المتعففون) لهم سمات تُميزهم قيل إنها التخشع والتواضع، وقيل إنها أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقيل إنها صُفرة ألوانهم من الجوع والضُر، وقيل رثاثة ثيابهم، وقيل: إذا كان عندهم غداءٌ لا يسألون عَشاءً، وإذا كان عندهم عشاءٌ لا يسألون غَداءً.

 

وهذا شاعرٌ متعفف يصف نفسه:

لَقَدْ زادَني تِيهاً عَلَى النَّاسِ أنّني أرانيَ

أَغْناهُمْ، وَإِنْ كُنْتُ ذا فَقْرِ

فوَاللهِ لا يُبْدي لِساني لَجاجَةً إِلَى أحَدٍ

حَتَّى أُغَيَّبَ في القَبرِ

فَلَو لَمْ أرِثْ فَخْراً لَكانَتْ صِيانَتي فَمي

عَنْ سُؤالِ النَّاسِ حَسْبي مِنَ الفَخْرِ

 

و(المتعففون) يرى علماء الاجتماع أنّهم أصحاب مميزاتٍ وصفاتٍ خاصةٍ؛ فهُم شريحةٌ من الفقراء والمعوزين يتصفون بالقناعة والتعفف وعزة النفس، إنهم صنفٌ من البشر سترهم الله بستره فتسربلوا بستره والتحفوا بالتعفف، فمهما كانت حاجتهم أظهروا الستر والاستغناء لا يسألون إلا الله، وهؤلاء يحتاجون من المنفقين والمحسنين بعض العناء في البحث عنهم، لذا فإن علينا كأفراد وعلى المؤسسات الخيرية بذل مجهودٍ أكبر للوصول لهم واتباع أحسن سُبل حفظ ماء الوجه عند مساعدتهم وإعانتهم.

 

أحبتي.. أختم بما أوصى به بعض الأفاضل؛ إذ قالوا: لا شك أن الدلالة على الأسر المتعففة من أفضل القُرب. ينبغي أن ينبري كلٌّ مِنَّا ليدُلّ المحسنين على أهل العفاف والكفاف حيثما كانوا، والدَّال على الخير كفاعله. إنّ الأمل أنْ تتسع دائرة الشعور بالمسؤولية ليشترك فيها الجميع؛ فيشعر كل واحدٍ منا بمسؤوليته تجاه المتعففين؛ قد يكون (المتعففون) من أقرب الناس إلينا دون أن ننتبه؛ فقد يكونون من قرابتنا أو جيراننا ونظن أنّ أحوالهم طيبةٌ، فقط لأنهم لم يطلبوا منا حاجةً، ولم نسمع منهم شكايةً، يصطبرون على معاناتهم بصمتٍ دون ضجيج؛ فلنبحث عنهم ونُقدم لهم ما استطعنا من مساعدةٍ، أو ندل المحسنين أو المؤسسات الخيرية عليهم حتى نكفيهم مؤونة السؤال. نحن جميعاً مسئولون أمام الله عنهم. إن قضاء حوائج الناس والستر عليهم في ميزان رب العزة والجلالة أكبر من تصورنا. وحين نقضي حاجةً لمسلمٍ سيقضي الله حوائجنا ويُيسّر لنا من الناس من يقف معنا في وقت ضيقنا واحتياجنا، ومَن نُسعده ستكون دعوته شفيعةً لنا في يومٍ نبحث فيه عن كل حسنةٍ وكل فعلٍ يُقربنا من الجنة ويُبعدنا عن النار. فلنبحث عن المتعففين ونُساعدهم بسريةٍ وتكتم، ولتكن قلوبنا نحن أيضاً متعففةً عن التباهي والتفاخر والعُجب بالنفس والرياء، لتكون أعمالنا خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وجعلنا ممن يرحمهم ويغفر لهم ويعتقهم من النار.

 

https://bit.ly/3ECOnba

الجمعة، 15 أبريل 2022

أمانة الكلمة

 

خاطرة الجمعة /339


الجمعة 15 إبريل 2022م

(أمانة الكلمة)

 

يقول راوي القصة: بعد خروجي في اليوم الأول من البرنامج التدريبي بتلك المؤسسة التي كنتُ سأقدم لها هذا البرنامج مدة ثلاثة أيامٍ متواصلةٍ، وكانت المؤسسة بجانب مبنى المحكمة، الساعة تُشير إلى الواحدة والربع ظهراً، الوقت صيفاً، درجة الحرارة من بين 40 -45 مئوية، فجأة سيارةٌ خارجةٌ من مبنى المحكمة بها شابان دخلتْ الشارع الرئيسي بطريقةٍ غريبةٍ؛ دون توقفٍ أو تريثٍ أو النظر للشارع لمعرفة هل هو خالٍ من السيارات؟! وكأنما تسوقهما سيارتهما إلى الموت! شاحنةٌ مقبلةٌ من الاتجاه الآخر ترتطم بسيارة الشابين؛ فتسحبها مسافة 600 متراً من قوة الصدمة، ثم تستقر بين أنياب الشاحنة ومخالب عمودٍ للكهرباء، فتحترق على الفور!

أوقفتُ سيارتي على حافة الطريق، وهُرعتُ كما هُرع جمعٌ من السائقين الذين كانوا في تلك اللحظة قريبين من الحادث. السيارة تلتهمها النيران. الشابان يصرخان. يستغيثان. سيارتهما ناشبةٌ في أظفار عمود الكهرباء، وبين فكي الشاحنة. محاولات الإنقاذ كلها كانت دون جدوى، الكل لا حول له ولا قوة. درجة الحرارة عاليةٌ، والسيارة بين قبضتي وحشين كاسرين، وكأنها فريسةٌ تنعي حتفها! والنيران سريعة الاشتعال. وأنا في هول الموقف اخترق أذني صوتٌ من خلفي: "أليس هذان الشابان اللذان أقسما يميناً قبل قليلٍ في المحكمة؟!" ردّ عليه أحدهم: "نعم، إنهما هما". النار التهمت الشابين مع سيارتهما. لا حول ولا قوة إلا بالله. في المساء التقيتُ بأحد المنظمين للبرنامج التدريبي، على موعدٍ مسبقٍ للعشاء معه، قال لي: "عندما خرجتَ اليوم بعد البرنامج وقع حادثٌ شنيعٌ لشابين بجانب مؤسستنا"، قلتُ له: "نعم رأيته، فعلاً كان مؤلماً وشنيعاً؛ لقد تفحما في سيارتهما، وهما يستغيثان، والناس من حولهما ينظرون لا يستطيعون لهما حيلةً ولا هُم ينصرون"، قال لي: "للأسف كانا قبلها في المحكمة!"، قلتُ له: "نعم سمعتُ أحدهم يقول هذا"، قال: "لقد شهدا زوراً في قضية تملك أرضٍ لصالح رجلٍ له نفوذٌ ضد رجلٍ فقير!". لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال لي: "تصور

يُخبرني ابن عمي -الذي يعمل في المحكمة- أنه بعد نُطق القاضي بالحكم لصالح الرجل صاحب النفوذ -بعد أن سمع شهادة الشابين- نظر الرجل الفقير إلى الشابين قائلاً: "الله ينتقم منكما، وتذوقان نار الدنيا قبل نار الآخرة، كما أشعلتما قلبي ناراً على ضياع حقي". وسبحان الله، ما كان بين الدعوة والاستجابة إلا دقائق معدودة!

يا الله، صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: [اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حجابٌ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم: الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ]. وصدق الشاعر إذ يقول:

تنامُ عيناكَ والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ

 

أحبتي في الله .. تنتهي قصتنا بالحديث عن دعوة المظلوم، لكن لو أنّا رجعنا خطوةً واحدةً إلى وراء ما حدث من ظلمٍ لوجدنا أنه ما كان ليقع لولا شهادة الزور في المحكمة. وشهادة الزور هي حالةٌ خاصةٌ من قول الزور الذي يتناقض مع (أمانة الكلمة) التي يجب على المؤمن الالتزام بها.

ويقول أهل العلم إنّ قول الزور هو قول الكذب، وهو القول المجافي للحقيقة، أي الإخبار بالشيء بخلاف حقيقته على وجه العلم والعمد لتحقيق هدفٍ ماديٍ أو اجتماعيٍ أو نفسيٍ أو غيره، وهو من أبشع وأشنع الذنوب عند الله. وقول الزور اصطلاحٌ عامٌ يشمل الشهادة وغير الشهادة، بينما تختص شهادة الزور بالقضاء وغيره من المجالات التي تتطلب الإدلاء بشهادة، وهي أن يشهد المرء بما لا يعلم أو بخلاف الحقيقة التي يعلمها عالماً عامداً.

 

ويرى العلماء أنه يترتب على قول الزور وشهادة الزور مفاسد كبيرةٌ، ومظالم خطيرةٌ، تنخر جسد المجتمع، تضيع بها حقوق الناس ويُضلَّل بها القضاء وتُزرَع البغضاء والأحقاد بين الناس، مما قد يؤدي الى ارتكاب الجرائم وانتهاك المحارم.

ونظراً لأضرار ومخاطر الزور -شهادةً كان أم قولاً- على الأفراد والمجتمعات فقد ورد ذمه في كتاب الله؛ يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، ويقول عزَّ وجلّ: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً﴾.

كما ورد ذم قول الزور في السُنة المشرفة؛ فقد سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليُعَلِّمَهم: [أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟] قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: [الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ] وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فقالَ: [ألَا وقَوْلُ الزُّورِ]، فَما زالَ يُكَرِّرُها حتَّى قال الصحابة: لَيْتَهُ سَكَتَ. يقول العلماء إن جملة "وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ" تُشعرنا باهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بأمر الزور، ويُفيد ذلك تأكيد تحريم الزور وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بهما أكثر، فإن الإشراك بالله ينبو عنه قلب المسلم، وعقوق الوالدين يصرف عنه الطبع السليم، أما قول الزور وشهادة الزور فالدوافع إليهما كثيرةٌ؛ كالعداوة والحسد وغيرها، فوقع الاهتمام بتعظيم أمرهما.

وحذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول الزور؛ في أحاديث أخرى من بينها حديثه عن الصيام: [مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ].

لقد بلغت الاستهانة وقلة التقوى بالبعض أنه يقف بأبواب المحاكم مُستعداً لأن يشهد شهادة الزور مقابل قروشٍ معدودةٍ؛ بحيث تحولت الشهادة عن وظيفتها في استجلاء الحقيقة فأصبحت سنداً للباطل ومُضللةً للقضاء، يُستعان بها على الإثم والبغي والعدوان. إن شهادة الزور نوعٌ خطيرٌ من الكذب، شديد القبح سيئ الأثر، يتنافى مع (أمانة الكلمة) يُتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفسٍ أو أخذ مالٍ أو تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ؛ لذا فقد أجمع الفقهاء على أن شهادة الزور كبيرةٌ من الكبائر.

 

وعن (أمانة الكلمة) يقول علماؤنا الأفاضل إنّ على المسلم إذا بلغه عن أخيه شيءٌ سيءٌ أن يكتمه، وألا يُشيعه حتى ولو كان صِدقاً، ولو كان ما نُقِلَ إليه صدقٌ وفيه مضرةٌ على أخيه فإنه يستر أخاه ويناصحُه فيما بينهما، ولا يُشيع عنه الأخبار السيئة ولو كانت واقعةً، لأن هذا أيضاً يدخل في الغيبة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾، والنبي صلى الله عليه وسلم فسَّر لصحابته -رضي الله عنهم-الغيبة بأنها [ذِكرُكَ أَخَاكَ بما يَكرَهُ]، قال أحدهم يا رسول الله: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟، قال: [إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغتَبتَهُ، وَإِن لم يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَد بَهَتَّهُ]، {بهته أي كذبت عليه بالبُهتان}، فأنت آثمٌ على كل حالٍ، سواءً كان فيه ما تقول أو ليس فيه ما تقول، لأنك لا تخرج إما عن الغيبة وإما عن الكذب، وكلاهما جريمةٌ، سواءً في حق الأفراد أو الجماعات أو الأعراق أو المجتمعات والدول.

 

ويسأل سائلٌ: "شهدتُ زوراً وندمتُ فماذا عليّ أن أفعل؟"، يقول أهل الاختصاص إنّ كفارة شهادة الزور -كغيرها من المعاصي- التوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، والاستغفار، والندم عليها، والعزم ألا يعود لها. ولأن شهادة الزور معصيةٌ قوليةٌ يُشترط فيها القول، فعليه أن يقول: "شهادتي باطلةٌ، وأنا نادمٌ عليها، ولا أعود إليها". وإذا ترتب على شهادة الزور ضررٌ في حق أحدٍ فلابد أن يتحلل منه وأن يرد الحقوق إلى أهلها.

وعن الندم على شهادة الزور، هذه قصةٌ واقعيةٌ حدثت في غزة من قرابة خمس سنواتٍ، حين ارتفعت الأصوات من مكبرات الصوت في مساجد مدينة غزة، لم تكن إيذاناً بموعد الأذان ولا لإقامة الصلاة، لكنها انطلقت بالتكبير ثم الإعلان عن براءة رجلٍ وامرأةٍ بعد اتهامهما بالزنا ومرور سبع سنواتٍ على الحادثة الأليمة التي أضرت بهما؛ فقد لجأت المرأة -وهي أرملةٌ- إلى الرجل الذي له مكانته ومحبته بين الناس، لكي تأتمنه على مصاغها، ولم يَرُقْ الأمر لعائلتها فلفقوا لها جريمة الزنا، وجاءوا بشاهد زورٍ لكي يستردوا مصاغ ابنتهم، وتم فصل الرجل من عمله، وطالت السمعة السيئة الرجل والمرأة معاً. وحسبما قال شاهد الزور إنه لم يذق طعم النوم طيلة هذه السنوات، وتوالت الأمراض المستعصية على اثنين من أولاده، فذهب وأظهر براءة الرجل من على مئذنة الجامع، حيث اجتمع الناس على صوت المكبرات وهي تعلو مرددةً حقيقة البراءة، وتوافدوا على بيت الرجل لتهنئته.

 

وإذا كانت الشهادة بالزور مذمومةً ينأى عنها كل من كان له قلبٌ أو ألقى السمع و هو شهيدٌ، فشهادة الحق محمودةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾.

 

أحبتي .. الكلمة أمانةٌ، والأمانة حملها الإنسان وألزم نفسه بالوفاء بها. وخيانة (أمانة الكلمة) بالكذب والافتراء وفُحش القول والبذاءة والسُخرية والنفاق والغيبة والنميمة وقول الزور وشهادة الزور من الكبائر التي لا يكاد أحدنا أن يبرأ منها، فلنُطّهر أنفسنا من تلك الآفات التي تأكل حسناتنا، بل وربما أدخلتنا -والعياذ بالله- النار؛ قال صلى الله عليه وسلم رداً على سؤال أحد الصحابة: [وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم -أو على مَناخرِهِم- إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم؟]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ]، ولنلزم أنفسنا بتوجيهات نبينا الكريم: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، ولنتذكر في كل لحظةٍ وجود ملَكين يُسجلان كل كلمةٍ ننطق بها؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾؛ فلنُمسك ألسنتنا عن أي قولٍ باطلٍ كي نقي أنفسنا سوء العاقبة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشهداء بالحق، القائمين بالقسط، الذين يُراعون الله في الكلمة فيحرصون على الوفاء بأمانتها والالتزام بقول الصدق والعدل، إنه سبحانه وليّ ذلك والقادر عليه.

 

https://bit.ly/3viSncB

الجمعة، 8 أبريل 2022

مفتاح العِلم

 

خاطرة الجمعة /338


الجمعة 8 إبريل 2022م

(مفتاح العِلم)

 

أراد رجلٌ فقيرٌ أن يُسافر بواسطة الباخرة في رحلةٍ تستغرق عشرة أيام، ذهب ليشتري التذكرة قبل موعد الرحلة بيومٍ، وكان في حُسبانه أن سعرها 500$‌‌‌‌‌‌‌، وقف في طابورٍ طويلٍ وتحمل الزحام، وبعد طول انتظارٍ وصل دوره، فإذا بسعر التذكرة 1500$، فوجئ بالسعر لأن إمكانياته مُتواضعةٌ، لكنه لم يجد مفراً من الدفع؛ فاشترى التذكرة وذهب ليستعد للرحلة في اليوم التالي. فكر في نفسه وقال: "ما دام سعر التذكرة مرتفعاً بهذا الشكل فلا شك أن قضاء الوقت داخل الباخرة سيكون مُكلفاً أيضاً، وبالتأكيد ستكون أسعار المطعم مُرتفعةً ولن أستطيع أن أشتري منه، والحل أن أستعد بطعامٍ من عندي"؛ فذهب واشترى خُبزاً وجُبناً ومُربى وحلاوةً طحينيةً وأشياء لا تتأثر بالزمان والمكان حتى تكون طعامه، وتكفيه فترة السفر لمدة عشرة أيامٍ على ظهر الباخرة.

في اليوم التالي ركب الباخرة وانطلقت على بركة الله. كان ينظر إلى الناس الذين يأكلون في مطعم الباخرة ويطلبون ما لذّ وطاب من الطعام ويستمتعون بالجلوس والأكل، ويتحسر في نفسه على عدم تمكنه من أن يفعل مثلهم، وأن إمكانياته لا تُتيح له أن يستمتع كما يستمتعون، وأخذ يغبطهم على ما عندهم من النِعم والخير، بينما هو مسكينٌ ما عنده مثلها. وبقي طوال العشرة أيام على ظهر السفينة يأكل الأكل البسيط الذي أتى به، ويتحسر على حاله مقارنةً بما يرى من حال الآخرين. وفي آخر يومٍ من الرحلة انتبه إلى أمرٍ مُهمٍ وهو أنه إذا وصل إلى بلده وسأله أهله وأصدقاؤه عن رحلته وكيف كانت، وسألوه عن مطعم الباخرة وكيف الأكل فيه، وكيف كانت خدماتهم، وغيرها من الأسئلة، ماذا سيقول لهم؟ هل يقول أنه لم يأكل فيه ولا مرة؟ سيتهمونه بالبُخل؛ إذاً لا بأس من أن يأكل آخر وجبةٍ في مطعم الباخرة، ويطلب أرخص نوعٍ من الطعام، وبالطبع الناس لن يُدققوا معه ويسألوه عن ماذا طلب. ذهب إلى المطعم وجلس على الطاولة ونادى النادل وطلب منه شطيرة شاورما، قال له النادل: أي شيءٍ آخر؟ قال: لا، قال النادل: مُقبلات، عصائر، عندنا أشياء حُلوة، وهو يرد -مع أنه يتحسر داخل نفسه-: لا، لا أشتهي، النادل: اليوم بمناسبة أنه آخر يومٍ في الرحلة؛ القائمة عندنا فيها أكلاتٌ جديدةٌ لم نُقدمها طوال الرحلة. حاول النادل إقناع الرجل بطلب شيءٍ منها، وهو مُصممٌ على رأيه، خاف أن يطلب شيئاً لأن إمكانياته لا تُساعده، قال له النادل أخيراً: على راحتك، وأحضر له شطيرة الشاورما. بعد فترةٍ قصيرةٍ أعلنوا نهاية الرحلة والوصول إلى الميناء، نادى الرجل على النادل وقال له: الحساب، قال له النادل مُتعجباً: أي حساب؟! قال له: حساب شطيرة الشاورما، قال له النادل: يا أخي؛ الأكل في المطعم مدفوعةٌ قيمته مع التذكرة، والذين يأكلون في المطعم دفعوا قيمة أغلى تذكرةٍ في الباخرة وهي 1500 دولار، ألم تكن تدري؟!

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏ أحبتي في الله .. لو كان الرجل سأل لكان علِم، وعدم سؤاله فوّت عليه خيراً كثيراً وضيّع عليه حقاً من حقوقه، وفوق ذلك كلفه قيمة ما اشتراه من طعامٍ أخذه معه إلى الباخرة؛ فضلاً عن الأثر النفسي الذي ترتب على تقصيره في السؤال الذي هو (مفتاح العِلم).

 

وعن علاقة السؤال بالعِلم يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾". وورد في الأثر: "لا ينبغي للعالِمِ أن يسكُتَ عن عِلمِهِ، ولا ينبغي للجاهِلِ أن يسكتَ عن جهلِهِ"، كما ورد كذلك: "العلمُ خزائنُ ومِفتاحُهُ السُّؤالُ؛ فاسأَلوا يرحَمُكُمُ اللَّهُ؛ فإنَّهُ يؤجر فيه أربعةٌ: السَّائلُ والمعلِّمُ والمستمعُ والمُحبُّ لهم".

 

يقول العلماء إنّ للسؤال مكانةً معتبرةً في الإسلام؛ فقد ورد لفظ "سأل" ومشتقاته في القرآن الكريم عشرات المرات؛ جاء على ألسنة الأنبياء والمؤمنين، وعلى ألسنة الكُفار والمُشركين، تأكيداً على القيمة المعرفية التي لا تتحصل إلا بالسؤال، خاصةً للتعلم والتبيين.

ومن الأسئلة التي وردت في القرآن الكريم -على سبيل المثال لا الحصر- السؤال عن السؤال نفسه: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ والمقصود منه توجيه السؤال وفحصه والإرشاد إلى تصحيحه. وحث الأنبياء على السؤال: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾. وحث المؤمنين الباحثين عن المعرفة: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. والإخبار عن موعد السؤال يوم القيامة: ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ﴾. والاستدلال على وجود الله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾.

وفي الإسلام لا يجوز رد السائل؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾، والمفسرون يرون أنّ المقصود بالسائل في هذه الآية كل سائلٍ سواءً كان سائل مالٍ أو سائل علمٍ ومعرفة.

ويقول أهل العلم إنّ السؤال في القرآن الكريم اختلف تبعاً لتاريخ ومكان النزول؛ فقد اشتملت أسئلة القرآن في بداية الدعوة -في الآيات المكية- على: الغيب والعقيدة والتاريخ، وكان السائلون في الغالب من غير المؤمنين، فيما تركزت الأسئلة بعد الهجرة -في الآيات المدنية- على: التشريع والفقه وأحكام الدين، وكان السائلون من المؤمنين.

 

ويتبين في السُنة الشريفة ربط العِلم بالسؤال في الكثير من الأحاديث النبوية؛ منها الحديث المشهور حين تعجب الصحابة رضي الله عنهم من رجلٍ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان وعن الساعة وأماراتها ثم يُصدقه، فأخبرهم عليه الصلاة والسلام [إنَّه جِبْرِيلُ أتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ]. ومنها الحديث الذي يبدأه النبي عليه الصلاة والسلام بسؤال أصحابه: [أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟]. ومنها كذلك الأسئلة التي وجهها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشاب الذي طلب منه الإذن له بالزنا؛ "أترضاه لأمك؟"، "أترضاه لأختك؟"، ... إلى آخر الحديث. وغير ذلك من أحاديث لعل أوضحها في بيان علاقة العِلم بالسؤال قوله صلى الله عليه وسلم: [...أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ]، أي: لا شِفاءَ لداءِ الجهلِ إلَّا بالسؤال من أجل العِلم والتعلُّمُ؛ وهذا تأكيدٌ واضحٌ على أن السؤال هو (مفتاح العِلم).

 

وفي الإسلام لا حرج من السؤال بصفةٍ عامةٍ، أما ما جاء من النهي عنه في بعض النصوص كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، وفي الحديث الشريف: [إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ]، فقد حمل أهل العلم ذلك على الأسئلة التي لا تُفيد السائل ولا تنفعه في معاشه أو معاده، أو السؤال عن شيءٍ لم يُحرّم  فينزل تحريمٌ بسببه؛ كما في الحديث: [أعظمُ المُسلمينَ في المُسلمينَ جُرمًا من سألَ عمّا لم يُحرَّم فحُرِّمَ على الناسِ من أجلِ مسألتِهِ]. ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام خطبَ النَّاسَ فقالَ: [إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد فرَضَ عليكمُ الحَجَّ] فقالَ رجلٌ: في كلِّ عامٍ؟ فسَكَتَ عنهُ حتَّى أعادَهُ ثلاثًا فقالَ: [لَو قُلتُ نعَم لوَجَبَتْ، ولَو وَجَبَتْ ما قُمتُمْ بِها، ذَروني ما ترَكْتُكُم، فإنَّما هلَكَ من كانَ قبلَكُم بِكَثرةِ سؤالِهِم واختلافِهِم علَى أنبيائِهِم، فإذا أمرتُكُم بالشَّيءِ فخُذوا بهِ ما استَطعتُمْ، وإذا نَهَيتُكُم عن شيءٍ فاجتَنبوهُ]. وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: [إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فلا تُضَيِّعُوها، وحَّدَ حُدُودًا فلا تَعْتَدُوها، وحَرَّمَ أَشْياءَ، فلا تَنْتَهِكُوها، وسَكَتَ عن أَشْياءَ رَحْمَةً لَكُمْ غيرَ نِسْيانٍ، فلا تَبْحَثُوا عَنْها].

وحال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ هممهم كانت مقصورةً على تنفيذ ما يأمرهم به، فإذا وقع بهم أمرٌ سألوا عنه فأجابهم، وكرهوا السؤال عن المسألة قبل حدوثها. والتزم الصحابة بذلك؛ ما كانوا يسألون -في الغالب- إلا عما ينفعهم، وسجل القرآن الكريم لهم السؤال عن ثلاث عشرة مسألةً؛ مثل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، ويظهر من ذلك كله أنّ السؤال هو (مفتاح العِلم) مباحاً لمن سأل مُستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثاً عن معنىً يجب الوقوف عليه، ومكروهاً لمن سأل مُتعنتاً غير مُتفقهٍ ولا مُتعلمٍ.

 

ويُعرّف المختصون السؤال بأنه "أمرٌ يتعلق بالذهن يبحث عن جوابٍ، ويدفع للمعرفة والتفكير". ويُقال: "حُسن الجواب من حُسن السؤال". وقيل: “حُسْنُ المَسْأَلَةِ نِصفُ العِلم”، وفي قولٍ آخر هو "نصفُ الفِقه"، كما يُقال إنّ "الإنسان كائنٌ متسائل".

 

ويقرر علماء التربية وخبراء النفس أهمية السؤال في تشكيل وعي الطفل، ومن ثَمّ أهمية الاعتناء بأسئلته وأَخْذِها على محمل الجد، وعدم تسفيهها، بل وتعليمه فن السؤال؛ بحيث يكون السؤال مدخله لتحصيل الإجابة، دون الاعتماد على أسلوب التلقين الذي قد يُلغي شخصية الطفل ويجعله نسخةً مُكررةً من الآخرين. فالسؤال هو بالفعل (مفتاح العِلم) يجعل لحياة الإنسان معنىً، ولعقله فاعليةً، ولشخصيته وجوداً حقيقيّاً.

 

أحبتي .. علينا؛ صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، وبغض النظر عن مستوانا الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، علينا بالسؤال فهو (مفتاح العِلم)، نسأل لنتعلم، نسأل لنُعَلِّم، نسأل لنتأكد ونتيقن، نسأل لنعرف حدودنا، نسأل لنعرف حقوقنا وواجباتنا، نسأل حتى ندفع عن أنفسنا الجهل، وحتى لا نَظلِم أو نُظلَم، نسأل حتى لا نندم. علينا أن نُعلِّم أنفسنا وأبناءنا فن السؤال، والتزام الذوق والأدب فيه، واختيار الوقت المناسب له. وعلينا ألا ننهر السائل أياً كان، بل نترفق به ونتعامل معه بحكمةٍ وصدرٍ رحبٍ.

اللهم وسِّع صدورنا، وألهمنا الحكمة، وأنعِم علينا بالعلم وفصل الخطاب.

 

https://bit.ly/3ukk0mu

 

الجمعة، 1 أبريل 2022

نعمة الحكمة

 

خاطرة الجمعة /337


الجمعة 1 إبريل 2022م

(نعمة الحكمة)

 

سأل أحد العلماء تلميذه: "منذُ متى صحبتني؟"، فقال التلميذ: "منذُ ثلاثٍ وثلاثين سنة"، فقال العالِم: "فما تعلمتَ منّي في هذه المدّة؟"، قال التلميذ: "ثمانيَ مسائل"، قال العالِم: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون!! ذهب عمري معك ولم تتعلّم إلا ثماني مسائل فقط؟!"، قال التلميذ: "لم أتعلم غيرها ولا أحبّ أن اكذب عليك"، فقال العالِم: "هاتِ ما عندك لأسمع".

قال التلميذ:

الأولى: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كلّ واحدٍ يتخذ صاحباً، فإذا ذهب إلى قبره فارقه صاحبُه، فصاحبتُ الحسناتِ فإذا دخلتُ القبر دخلتْ معي.

الثانية: أني نظرتُ في قول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ فأجهدتُ نفسي في دفع الهوى حتى استقرتْ على طاعة الله.

الثالثة: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ أنّ كلّ من معه شيءٌ له قيمةٌ حفظه حتى لا يضيع، ثم نظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ فكلما وقع في يدي شيءٌ له قيمةٌ وجهته لله ليحفظه عنده.

الرابعة: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كلاً يتباهى بماله أو حسبه أو نسبه ثم نظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فعملتُ في التقوى حتى أكونَ عند الله كريماً.

الخامسة: أني نظرتُ إلى الخَلْق وهم يتحاسدون على نعيم الدنيا فنظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فعلمتُ أن القسمة من عند الله؛ فتركتُ الحسد عنّي ورضيتُ بما قسمه الله لي.

السادسة: أني نظرتُ إلى الخَلْق يعادي بعضهم بعضاً ويبغي بعضهم على بعضٍ ويقاتل بعضهم بعضاً، ونظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ فتركتُ عداوة الخَلْق وتفرغتُ لعداوة الشيطان وحده.

السابعة: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كل واحدٍ منهم يُكابد نفسه ويُذلّها في طلب الرزق، حتى أنّه قد يدخل فيما لا يحلّ له، فنظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ فعلمتُ أنّي واحدٌ من هذه الدوابّ؛ فاشتغلتُ بما لله عليّ وتركتُ ما ليَ عنده.

الثامنة: أنّي نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كلّ مخلوقٍ منهم متوكّلاً على مخلوقٍ مثله؛ هذا على ماله وهذا على ضيعته وهذا على مركزه، ونظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ فتركتُ التوكّل على المخلوق واجتهدتُ في التوكّل على الله الخالق.

قال له الشيخ: "من الآن أنا تلميذك".

 

أحبتي في الله .. رُبَّ تلميذٍ تفوق على أستاذه؛ فكلام هذا التلميذ لا يصدر إلا من حكيمٍ، ربما هو أقل علماً من أستاذه، لكن من الواضح أنه ممن وهبهم الله (نعمة الحكمة).

وليس كل عالمٍ حكيماً؛ فعندما تجد عبقرياً هندوسياً في الهند يعبد البقر، وجراحاً مُلحداً لا يرى في خلق الله إتقاناً، وأستاذاً جامعياً ينُاقش الله في الميراث، وأديباً في اللغة العربية يعترض على فصاحة القرآن، ومفكراً يرى السُنة الشريفة رجعيةً، وفي المقابل تجد رجلاً بسيطاً يقوم وقت البرد القارس ليصلي الفجر، وامرأةً عجوزاً طاعنةً في السن لا تعرف القراءة ولا الكتابة تحرص على قيام الليل وصيام النوافل، وشيخاً عاجزاً ينهض على عُكازه متجهاً نحو المسجد لأداء صلواته، فلتعلم أن المسألة لم تتعلق يوماً بالعلم ولا بالعقول ولا بالشهادات، إنما تتعلق بالقلوب والبصيرة، إنها (نعمة الحكمة)؛ يقول جلَّ جلاله: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوب الْتِي فِي الصُّدُورْ﴾.

 

ليس هناك ارتباطٌ بين العلم والحكمة، فقد عاصرنا قادةً تميزوا بالحكمة ورجاحة العقل وحُسن التصرف ولم يكونوا متعلمين، بل لم يكن بعضهم يجيد القراءة والكتابة، كانوا حكماء بالفطرة. وعلى العكس نرى من العلماء من لا يتصفون بالحكمة، ومع ذلك فإنه لو اجتمع العلم مع الحكمة لكان في ذلك خيرٌ كثيرٌ.

كما أنه ليس هناك ارتباطٌ بين العمر والحكمة؛ فكم من صغيرٍ في العُمر كبيرٍ في البصيرة فيكون حكيماً، وإن كان من الملحوظ أن الإنسان كلما طال عمره كلما ازدادت حكمته، وربما يرجع ذلك إلى ما اكتسبه طوال حياته من خبرات.

ومع ذلك يظل أمر الحكمة -بصفةٍ عامةٍ- غير مرتبطٍ بعُمر الإنسان؛ فهذا شابٌ قد أنعم الله عليه بالحكمة في موقفٍ قد تغيب فيه الحكمة عمن هو أكبر منه سناً، إذ كان يطوف في السوق رجلٌ متكبرٌ، عليه من حُسن الهيئة والزهو ما لا يعلمه إلا الله، فمرت به امرأةٌ تبيع السمن، فقال لها: "ماذا تبيعين يا امرأة؟"، فقالت: "أبيع سمناً يا سيدي"، فقال لها : "أريني"، وعندما أرادت أن تُنزل دلو السمن من فوق رأسها انسكب منه بعض السمن على ثيابه، فغضب الرجل غضباً شديداً وقال لها: "لن أبرح الأرض حتى تُعطيني ثمن الثوب"، فظلت المرأة تستعطفه وتقول له: "خلِ عني يا سيدي؛ فأنا امرأةٌ مسكينةٌ"، فقال لها: "لن أبرح الأرض حتى تُعطيني ثمن الثوب"، فسألته: "وكم ثمن الثوب؟"، قال: "ألف درهم"، فقالت له: "أنا امرأةٌ فقيرةٌ؛ فمن أين لي بألف درهم؟!"، قال لها: "لا شأن لي"، فقالت له: "ارحمني ولا تفضحني". وبينما هو يتهددها ويتوعدها إذ أقبل عليهم عددٌ كبيرٌ من الناس من بينهم شابٌ سأل المرأة: "ما شأنك يا امرأة؟"، فقصت عليه الخبر؛ ما قاله الرجل وما قالته، فقال الفتى: "أنا أدفع ثمن الثوب"، وأخرج ألف درهمٍ سلمها للرجل المتكبر فعدها. وقبل أن يبرح المكان، قال له الشاب: "على رسلك أيها الرجل"، فرد عليه ذلك المتكبر وقال: "ماذا تريد؟"، فقال له: "هل أخذتَ ثمن الثوب؟"، قال: "نعم"، فقال له الشاب: "فأين الثوب؟"، قال: "ولم!؟"، قال: "قد أعطيناك ثمنه فأعطنا الثوب"، قال الرجل المتكبر: "وأسير عارياً!؟"، قال الشاب: "لا شأن لي"، قال الرجل المتكبر: "وإن لم أُعطكَ الثوب؟"، قال: "تُعطينا الثمن"، قال الرجل المتكبر: "الألف درهم؟"، قال الشاب: "كلا، بل الثمن الذي نطلبه؟!"، فقال له الرجل المتكبر: "لقد دفعتَ لي ألف درهم"، فقال الشاب: "لا شأن لك بما دفعت"، فقال له الرجل المتكبر: "وكم تريد؟!"، قال الشاب: "ألفي درهم"، فقال له الرجل المتكبر: "هذا كثير"، قال الشاب: "إذن فأعطنا ثوبنا"، قال الرجل المتكبر: "أتُريد أن تفضحني؟!"، قال الشاب: "كما كنتَ تُريد أن تفضح المرأة المسكينة!"، فقال الرجل المتكبر: "هذا ظلم"، قال الشاب: "الآن تتكلم عن الظلم؟!"، فخجل الرجل المتكبر من نفسه وأعاد المال للشاب وعفا عن المرأة، ومن فوره أعلن الشاب -والناس مجتمعون يشاهدون الواقعة- أن المال هديةٌ للمرأة المسكينة.

لقد أظهر الشاب في هذا الموقف حكمةً وحُسن فهمٍ وسرعة تصرفٍ، قد لا تتوفر لغيره، فقد وهبه المولى عزَّ وجلَّ (نعمة الحكمة)، وهو سبحانه يهبها لمن يشاء من عباده؛ يقول تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أي: أنَّه تعالى يُعطي الحِكْمَة والعلم النَّافع، لمن يشاء من عباده، فيميِّز به الحقائق من الأوهام، ومن أُوتي ذلك عرف الفرق بين وعد الرَّحمن ووعد الشَّيطان، وعضَّ على الأوَّل بالنَّواجذ، وطرح الثَّاني وراءه ظهريّاً. فإن من آتاه الله الحِكْمَة فقد آتاه خيراً كثيراً، وأيُّ خيرٍ أعظم من خيرٍ فيه سعادة الدَّارين، والنَّجاة من شقاوتهما!

ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بالمقالة المحْكَمة الصَّحيحة؛ بالدَّليل الموضِّح للحقِّ، المزيح للشُّبهة.

ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ وفي هذه الآية يُخبر تعالى عن امتنانه على عبده لُقْمان، بالحِكْمَة، وهي العلم بالحقِّ على وجهه وحِكْمَته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالماً، ولا يكون حكيماً.

 

وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [لَا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ علَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، ورَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهو يَقْضِي بهَا ويُعَلِّمُهَا]، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: ضمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: [اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ].

 

وتُعرّف الحِكْمَة بأنها "فعل أو قول ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي"، وورد في الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن؛ حيث وجدها فهو أحق بها"؛ فكل من قال بالصواب أو تكلم بالحق قُبِلَ قَولُه، وإن كان القائل بغيضاً؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾؛ فبُغض المؤمن لشخصٍ ما لا يحمله على رد ما جاء به من الحكمة والخير، على حد قول القائل:

لا تَحْقِرَنَ الرَأيَ وَهوَ مُوافِقٌ

حُكْمَ الصوابِ إذا أتى مِنْ ناقِصِ

فالْدُرُ وَهوَ أعَزُ شَيءٍ يُقْتَنى

ما حَطَ قيمَتَهُ هَوانُ الغَائِصِ

 

أحبتي .. كما أن العلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، فإن اكتساب الحكمة، إن لم تكن موجودةً بالفطرة، يكون بتدريب النفس على النظر فيما وراء ما يراه الآخرون، أو ما يُطلق عليه "التفكير خارج الصندوق". فمن كان منا ممن وهبهم الله (نعمة الحكمة) فليحمد الله ويستخدمها في الخير، ومن كان غير ذلك فليحمد الله كذلك وليجتهد في اكتساب الحكمة وتنميتها؛ فليس هناك -خاصةً في المواقف الصعبة ووقت الأزمات- أفضل من حكيم.

اللهم أنر بصائرنا، ووسع مداركنا، وأنعم علينا بفضلك، وآتنا من لدنك حكمةً، إنك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3tXPwX0

الجمعة، 25 مارس 2022

عقوق الأبناء

 

خاطرة الجمعة /336


الجمعة 25 مارس 2022م

(عقوق الأبناء)

 

رسالةٌ مؤثرةٌ من أمٍ لابنها العاق:

يا بُني.. هذه رسالةٌ مكلومةٌ من أمك المسكينة، كتبتُها على استحياءٍ. بعد ترددٍ وطول انتظارٍ أمسكتُ بالقلم مراتٍ فحجزته الدمعة، وأوقفتُ الدمعة مراتٍ فجرى أنين القلب.

يا بُني.. بعد هذا العمر الطويل أراك رجلاً سوياً مكتمل العقل ومتزن العاطفة، من حقي عليك أن تقرأ هذه الرسالة، وإن شئتَ بعد فمزقها كما مزقتَ أطراف قلبي من قبل.

يا بُني.. منذ خمسةٍ وعشرين عاماً كان يوماً مشرقاً في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أنني حاملٌ، والأمهات يا بني يعرفن معنى هذه الكلمة جيداً؛ فهي مزيجٌ من الفرح والسرور وبداية معاناةٍ مع التغيرات النفسية والجسمية. وبعد هذه البشرى حملتُك تسعة أشهرٍ في بطني، فَرِحَةً جذلاً، أقوم بصعوبةٍ وأنام بصعوبةٍ وآكل بصعوبةٍ وأتنفس بصعوبةٍ، ولكن كل ذلك لم ينقص محبتي لك وفرحي بك، بل نمتْ محبتك مع الأيام، وترعرع الشوق إليك. حملتُك يا بُني وهناً على وهنٍ وألماً على ألمٍ، أفرح بحركتك وأُسَر بزيادة وزنك وهي حِملٌ عليّ ثقيل، إنها معاناةٌ طويلةٌ أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفنٌ ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه القلم ولا يتحدث عنه اللسان، ورأيتُ بأم عينيّ الموت مراتٍ عدةٍ حتى خرجتَ أنت إلى الدنيا فامتزجتْ دموع صراخك بدموع فرحي وأزالت كل آلامي وجراحي.

يا بُني.. مرت سنواتٌ من عمرك وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلتُ حجري لك فراشاً، وصدري لك غذاءً، سهرتُ ليلي لتنام وتعبتُ نهاري لتسعد، أمنيتي كل يومٍ أن أرى ابتسامتك، وسروري في كل لحظةٍ أن تطلب مني شيئاً أصنعه لك؛ فتلك هي مُنتهى سعادتي.

ومرت الليالي والأيام وأنا على تلك الحال، خادمةً لم تُقصّر، مُرضعةً لم تتوقف، وعاملةً لم تفتر، حتى اشتد عودك واستقام شبابك وبدت عليك معالم الرجولة، فإذا بي أجري يميناً وشِمالاً لأبحث لك عن المرأة التي طلبتَ، وأتى موعد زفافك فتقطّع قلبي وجرتْ مدامعي، فرْحةً بحياتك الجديدة، وحُزناً على فراقك، ومرت الساعات ثقيلةً فإذا بك لستَ ابني الذي أعرفه، لقد أنكرتني وتناسيتَ حقي. تمر الأيام لا أراك ولا أسمع صوتك، وتجاهلتَ من قامت بك خير قيام.

يا بُني.. لا أطلب إلا القليل؛ اجعلني في منزلة أبعد أصدقائك عنك وأقلهم حظوةً لديك، اجعلني يا بُني إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق.

يا بُني.. احدودب ظهري وارتعشت أطرافي وأنهكتني الأمراض وزارتني الأسقام، لا أقوم إلا بصعوبةٍ، ولا أجلس إلا بمشقةٍ، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك.

لو أكرمك شخصٌ يوماً لأثنيتَ على حُسن صنيعه وجميل إحسانه، وأمك أحسنتْ إليك إحساناً لا تراه، ومعروفاً لا تُجازيه، لقد خدمتْك وقامت بأمرك سنواتٍ وسنواتٍ، فأين الجزاء والوفاء؟ ألهذا الحد بلغتْ بك القسوة وأخذتك الأيام.

يا بُني.. كلما علمتُ أنك سعيدٌ في حياتك زاد فرحي وسروري، ولكني أتعجب وأنت صنيع يدي، أي ذنبٍ جنيتُه حتى أصبحتُ عدواً لك لا تطيق رؤيتي وتتثاقل زيارتي؟ هل أخطأتُ يوماً في معاملتك أو قصّرتُ لحظةً في خدمتك؟ اجعلني من سائر خدمك الذين تُعطيهم أجورهم، وامنحني جزءاً من رحمتك، ومُنَّ عليّ ببعض أجري، وأحسِن؛ فإن الله يحب المحسنين.

يا بُني.. أتمنى رؤيتك، لا أريد سوى ذلك، دعني أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك.

يا بُني.. تفطّر قلبي وسالت مدامعي وأنت حيٌ تُرزق، ولا يزال الناس يتحدثون عن حُسن خلقك وجُودك وكرمك.

يا بُني.. أما آن لقلبك أن يرّق لامرأةٍ ضعيفةٍ أضناها الشوق وألجمها الحزن، جعلتَ الكمد شعارها والغم دثارها، وأجريتَ لها دمعاً وأحزنت قلباً وقطعت رحماً.

لن أرفع الشكوى ولن أبث الحزن؛ لأنها إن ارتفعت فوق الغمام واعتلت إلى باب السماء، أصابك شؤم العقوق ونزلت بك العقوبة وحلت بدارك المصيبة، لا لن أفعل. لا تزال يا بُني فلذة كبدي وريحانة حياتي وبهجة دنياي.

أفق يا بُني.. بدأ الشيب يعلو مفرقك، وتمر سنواتٌ ثم تصبح أباً شيخاً، والجزاء من جنس العمل. وستكتب رسائل لابنك بالدموع مثل ما كتبتُها إليك، وعند الله تجتمع الخصوم.

يا بُني.. اتقِ الله في أمك، كفكف دمعها وواسي حزنها، وإن شئتَ بعد ذلك فمزق رسالتها، واعلم أن من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها.

التوقيع

أمك

 

أحبتي في الله.. أعلم أن هناك من الأبناء من يعقون أمهاتهم، لكن لم أكن أتصور مدى الحزن الذي تشعر به الأمهات نتيجة (عقوق الأبناء) إلى أن اطلعتُ على هذه الرسالة التي تفيض حُزناً وألماً لعقوق ابنٍ لأمه، ورغم كل ما عانته فإن أمومتها أبت عليها أن تشكو ابنها لرب العباد حتى لا تحل به عقوبة عقوق الوالدين، ويا لها من عقوبةٍ لو كان العاقون يعلمون.

 

وعن (عقوق الأبناء) يروي أحد الكُتاب قصةً واقعيةً لابنٍ عاقٍ قاسي القلب، كان لا يهتم بوالدته الكبيرة في السن بعد أن تُوفي والده، وكان يؤذيها بأسوأ الكلمات الجارحة، وكانت هذه الكلمات كالطعنات في قلب والدته.. تطوّرت إساءته من كلماتٍ إلى طردٍ من المنزل.. ليس لها مأوىً ولا ملجأٌ يحميها من برودة الطقس أثناء الشتاء، ولا مظلةٌ تمنع أشعة شمس الصيف عنها.. كانت منكسرةً فعلاً، بكت كثيراً.. طلبتْ منه ألا يطردها؛ فاستقبل طلبها ولكن بطريقةٍ بشعةٍ وقاسيةٍ؛ فقد صنع قفصاً من الخشب، وجلب والدته ليريها ماذا فعل من إنجاز! فسألته: "هل ستشتري حيوانًا؟"، أتاها بردٍ صادمٍ؛ فقال: "لا! لن أشتري حيواناً، صنعتُ هذا القفص لكِ لكي تعيشين فيه؛ فليس لكِ مكانٌ داخل المنزل!". تقطعت أحشاء قلب الأم لما يحصل لها، وقضت الليل مع دموعها الحارقة. بعد مرور ليلتين من هذا الحدث المؤلم، وفي يومٍ كان المطر يهطل بقوةٍ وكأنه دموع الأم.. جلس الابن على المائدة بروحٍ باردةٍ.. فسمع طفله الصغير يناديه ليريه ماذا رسم بتلك الألوان الخشبية وقال: "هذا أنا يا أبي إذا كبرت"، ورسم بجانب المنزل الذي على تلك اللوحة قفصاً، سأله والده: "وما حاجتك إلى القفص يا بُني؟"، فأجاب الطفل: "إنها غرفتك عندما تكبر يا أبي؛ سوف أصنع لك قفصاً مثلما صنعته لجدتي".. هاجت مشاعر الأب وهُرع مُسرعاً لوالدته ليصلح ما كسره، لكن الوقت كان قد فات؛ إذ وجد والدته ملقيةً في زاوية القفص وروحها قد فاضت إلى بارئها.

 

يقول تعالى في وصف من لهم اللعنة ولهم سوء الدار: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾، ويقول في وصف الفاسقين: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾. أما أولو الألباب الذين جعل لهم جنات عدنٍ فيصفهم سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾. يقولون المفسرون إن معنى ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ هو كل ما أمر الله بوصله وفعله وعلى رأس ذلك صلة الأرحام والأقارب، وهل من رحمٍ أو صلة قُربى أولى من الوالدين؟!

 

يقول أهل العلم إن الشرع الحنيف حثّ على برّ الوالدين ورغّب فيه، وحرّم (عقوق الأبناء) لهما وعدّه من كبائر الذنوب، وجاءت النصوص الشرعيّة من القرآن الكريم والسُنّة الشريفة حاثّةً على البرّ ومحذّرةً من العقوق في حقّ الوالدين في مواطن كثيرةٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا﴾، فكيف بالتكبّر، والحرمان، والاعتداء، والإهانة، والهجران. ويُعد عقوق الوالدين ثاني أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى؛ حيث قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- للصحابة ذات يومٍ: [ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكبائرِ؟] (ثلاثًا)، قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: [الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدين]، وجلَس وكان متكئاً، فقال: [ألا وقولُ الزُّورِ]. وقال -عليه الصلاة والسلام-: [لا يدخلُ الجنَّةَ عاقٌّ، ولا منَّانٌ، ولا مُدمنُ خمرٍ، ولا مُكذِّبٌ بقدرٍ]. بالإضافة إلى أنّ العاق لوالديه يعتبر قاطعاً للرّحم، بل قاطعاً لأعظم رحمٍ أمره الله تعالى بوصلها؛ حيث قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: [إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ حتَّى إذا فرغَ من خلقِهِ قالتِ الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائذِ بكَ منَ القطيعةِ، قالَ: نعَم، أما ترضِينَ أن أصلَ من وصلَكِ وأقطعَ من قطعَكِ، قالت: بلى يا ربِّ، قالَ: فهوَ لكِ]. وقال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: [إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ علَيْكُم عُقُوقَ الأُمَّهاتِ] ويدلّ هذا على أنّ (عقوق الأبناء) غالباً ما يكون في حقّ الأمّهات؛ لذلك كان البِرّ في حَقّهنّ أوجب. كما ورد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: [ملعونٌ مَنْ سبَّ أباهُ، ملعونٌ مَنْ سَبَّ أُمَّهُ]. وحذر نبينا الكريم من عقوق الوالدين فقال: [اثنانِ يُعجِّلُهما اللهُ في الدنيا: البغيُ، وعقوقُ الوالدَينِ]. وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: [رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ]، قيلَ: مَنْ يا رَسولَ اللهِ؟، قالَ: [مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ]؛ فيجدر بمن عقّ والديه بأيّ شكلٍ من الأشكال، أن يُسارع إلى التّوبة إلى الله -عزّ وجلّ- بالإقلاع عن العقوق، والنّدم عليه، والعزم على عدم الرّجوع إليه، ثمّ إتباع ذلك بالأعمال الصالحة؛ لأنّ الأعمال الحسنة تُكفّر السيئات وتمحو الخطايا؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ﴾. وباب التوبة مفتوحٌ مهما اقترف الإنسان من ذنوب، بما فيها عقوق الوالدين.

ويظل على المسلم واجب البر والإحسان إلى الوالدَين حتى بعد وفاتهما؛ فعليه أن يُكثرَ من الدعاء لهما؛ وخير الدعاء: ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، ودعاء الأبناء ينفع المتوفى من الوالدين؛ قال صلّى الله عليه وسلّم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]. وعلى الابن أن يحرص على أداء الأعمال الصالحة التي ينالان الثواب والأجر بها؛ كالصدقة، وأداء العمرة أو الحجّ عنهما، وأن يسعى إلى إكرام أصدقائهما.

 

أحبتي.. أمرنا الله سبحانه وتعالى ببِر الوالدين والإحسان إليهما، وأوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم- بحُسن صحبتهما، والإحسان إليهما، وخصَّ الأم في ذلك؛ وهذا يعني أن من يتخلف عن البِر والإحسان لوالديه -ولأمه بالذات- يكون آثماً مُرتكباً لكبيرةٍ، فما بالنا بمن لا يكتفي بعدم بِرهما أو بقلة الإحسان إليهما، بل زيّن له الشيطان اختيار طريق عقوقهما؟! لا شك أنه يكون مستحقاً لسخط وغضب رب العالمين؛ فيخسر حتماً دنياه وآخرته.

أحبتي.. على كلٍ منا أن يُراجع نفسه ويُعيد النظر في علاقته بوالديه -وخاصةً أمه- ليتدارك أمره إن كان عاقاً، وليزيد من رضا الله عنه كلما زاد في بِره وإحسانه إن كان من الأبناء البررة المحسنين. واعلموا أن الحياة سلفٌ وديْن؛ ما تُقدمه اليوم من بِرٍ وإحسانٍ لوالديك سيعود إليك بِراً وإحساناً من أبنائك. ودعوني أختم بسؤال: متى آخر مرةٍ قبّلتَ فيها رأس أمك أو لثمتَ يديها حباً وعرفاناً؟

اللهم اجعلنا أبناء بررةً محسنين لوالدينا، ويسّر لنا الزيادة في بِرهما والإحسان لهما، أحياءً كانا أو أمواتاً.

https://bit.ly/3D9EEby

الجمعة، 18 مارس 2022

الجزاء من جنس العمل

 

خاطرة الجمعة /335


الجمعة 18 مارس 2022م

(الجزاء من جنس العمل)

 

يقول كاتب القصة: حدثني أحد أصدقائي "ضابط برتبة نقيب في قسم التحقيق في الشرطة" بهذه القصة العجيبة التي حدثت معه شخصياً، آمل منك أن تقرأها بتمعنٍ وتنظر للعبر التي يمكن أن نستفيدها منها لعلها تحرك أفئدتنا وقلوبنا ونعتبر بما فيها. قال لي محدثي: في يومٍ من الأيام، وكان يوم خميسٍ، وقبل صلاة المغرب بقليلٍ، جاءت سيارةٌ مسرعةٌ سرعةً جنونيةً في طريقٍ سريعٍ وصدمت رجلاً كان يمشي في الطريق أمام باب إحدى وكالات السيارات بالرياض، وهرب السائق الذي صدم هذا الرجل، وقد تمكنت الشرطة في نفس اليوم من إلقاء القبض عليه، أما الرجل الذي صدمته السيارة فقد تُوفي في الحال، وعند البحث عن الأوراق التي كانت بحوزته، تبين أنه قادمٌ للبحث عن عملٍ في وكالة السيارات التي تُوفي أمامها، ونُقل هذا المتوفى إلى إحدى المستشفيات حتى يُحفظ في الثلاجة ويأتي أحد أقاربه للسؤال عنه واستلامه.

مضى أسبوعان ولم يسأل عنه أي أحدٍ، وفي نهاية الأسبوع الثاني بدأ الضابط يبحث عن هاتف منزله من خلال الأوراق التي كانت بحوزته؛ اتصل الضابط بالمنزل فردت عليه امرأةٌ فسألها: "أين فلان؟"، قالت: "غير موجود"، فقال لها: "وماذا تقربين أنت له"، قالت: "زوجته"، فسألها: "متى سيعود؟"، قالت: "لا أعلم، لقد خرج منذ أسبوعين للبحث عن عملٍ، ولا نعلم عنه شيئاً، وأنا وأطفالي الاثنان ننتظر عودته". أنهى الضابط المكالمة معها دون أن يُخبرها بما حدث، وبدأ يُفكر في أمرها، وكيف يُبلغها بأمر زوجها الذي دهسته السيارة ومات؟ ظل في حيرةٍ من الأمر لمدة يومين، ثم قرر بعدها إبلاغها بما حدث؛ اتصل عليها مرةً أخرى وأبلغها بالأمر، فحزنت حُزناً شديداً وبكت وهو يُحدّثها، ثم طلب منها أن تُرسل أحد الأقارب حتى يُتابع القضية ويُنهي الإجراءات النظامية، فأبلغته بأنه لا يوجد لهم أقارب إلا عمٌ لزوجها يسكن في منطقةٍ تبعد عنهم مئات الكيلومترات، والعلاقة بينهم مقطوعةٌ. تابع الضابط موضوع هذه المرأة بنفسه، حتى تم دفن زوجها. حكمت المحكمة على السائق المُتسبب في الحادث بدفع الدية للمرأة، أخذ هذا السائق يُماطل بالدفع ويقول: "إنني لا أملك شيئاً، ولا أستطيع الدفع لها"، وبعد مرور ثلاثة أشهرٍ من الحادث استطاع أن يُحضر صك إعسارٍ من احدى المحاكم بشهادة اثنين، وطُويت القضية على أنه معسرٌ، وسيتم سداده لهذه المرأة عندما تتحسن حالته المالية. تصور أخي الحالة المادية لهذه المرأة التي كان زوجها يبحث عن عملٍ. يقول الضابط كنتُ أجمع لها بعض النقود وأعطيها إياها، وكنتُ أدلها على بعض الجمعيات الخيرية في البلد. ومرت الأيام، وفي يومٍ من الأيام، وبعد مرور سنةٍ بالضبط من الحادث الأول، كنتُ مناوباً في المساء، وإذا بمكالمةٍ هاتفيةٍ تأتي إلى الشرطة، ويُقدّر الله أن أرد على هذه المكالمة وأنا بحضرة حوالي عشرين ضابط، وإذا بخبر حادث سيارةٍ أمام وكالة السيارات ذاتها، ذهبتُ إلى موقع الحادث للتحقيق فيه؛ فوجدتُ أن سيارةً صدمت رجلاً ومات في الحال، وكانت الجثة مشوهةً جداً لا أحد يستطيع التعرف على ملامح هذا الميت، وكان يوم خميسٍ والوقت قبل المغرب بقليلٍ، وبعد البحث عن الأوراق التي بحوزة القتيل كانت المفاجأة المُذهلة والصاعقة التي تيقنت من خلالها أنه لا شيء يضيع عند رب العالمين؛ تبين لي بأن القتيل هو نفس الشخص الذي تسبب في الحادث الأول وظلم المرأة! في نفس المكان ونفس الموعد بعد سنةٍ من الحادث الأول! ومما زاد من المفاجأة أن الذي تُوفي في الحادث الثاني جاء يمشي للدخول إلى وكالة السيارات ومعه شيكٌ ليدفعه للوكالة لشراء سيارةٍ جديدةٍ له!

يقول صاحب القصة: فأخبرتُ القاضي الذي سيتولى الحكم بموضوع هذا الرجل، وما كان منه، وقد قدّر الله أن سائق السيارة الذي صدم الرجل الثاني كان يعمل في شركةٍ كبيرةٍ وعندما طُلبتْ منه الدية أحضرها سريعاً، ولكن القاضي حكم بأن تكون هذه الدية من نصيب المرأة التي ظلمها هذا الميت.

 

أحبتي في الله.. إنها قاعدة (الجزاء من جنس العمل)، وهذه قصةٌ أخرى تثبت صحة هذه القاعدة؛ حدثت القصة في سجن إحدى الدول العربية، يرويها أحد الثقاة فيقول: مسجونٌ قبل إعدامه يُقسم بالله لجنديٍ أنه سيُعدَم لقتل رجلٍ لم يره ولا يعرفه، ولكنه كان يعرف بأنه سيُعدم هكذا، بل كان طوال حياته ينتظر هذه اللحظة. استغرب الجندي وسأله: "وكيف ذلك؟!"، أجاب المسجون: "لقد كنتُ قديماً مسؤولاً عن تنفيذ حكم الإعدام في أحد السجون، وفي يومٍ من الأيام هرب من السجن المسجون الذي كان عليّ تنفيذ الحكم فيه، فخفتُ أن أُطرد من وظيفتي بسبب هذا الأمر، فما كان مني إلا أن ألبست ثوب الإعدام لشخصٍ آخر بريءٍ ونفذتُ الحكم فيه، وكنتُ أعرف أنني سألقى الجزاء نفسه، وكنتُ أنتظر هذه اللحظة!".

 

وهذا ابن الزيّات، كان وزيرًا للمعتصم والواثق، وكان يقول: "ما رحمتُ أحداً قط، الرحمة خَوَرٌ في الطبع"، ثم نُكب فسجنه الواثق في تنورٍ من حديدٍ أطرافه مسامير، كان قد أعدّه ابن الزيات نفسه لسجنائه، فكان يصيح: "ارحموني"، فيقولون: "الرحمة خَوَرٌ في الطبع"، حتى مات بالسجن!

 

ومن الأدلة الشرعية على ثبوت هذه القاعدة؛ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾. ويقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ﴾. ويقول سبحانه: ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾، كما يقول: ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾، ويقول أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾. ويقول كذلك: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، وغير ذلك من آيات.

 

ومن السُنة الشريفة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة]، وقال صلى الله عليه وسلم: [من يسرَّ على معسرٍ يسَّر الله له في الدنيا والآخرة]، وغير ذلك من أحاديث.

 

يقول أهل العلم إن (الجزاء من جنس العمل) هي سُنةٌ إلهيةٌ وقاعدةٌ عدليةٌ شريفةٌ مُستقاةٌ من النصوص الشرعية، ومعناها أن جزاء العمل من جنسه؛ إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شراً فشرٌ، جزاءً وفاقاً.

ولو وضع المسلم هذه القاعدة نُصب عينيه، لزَجَرتهُ عن كثيرٍ من الذنوب والمعاصي، ولتخيل دائماً ما ينتظره من عاقبة أعمالهِ. فقاعدة (الجزاء من جنس العمل) قاعدةٌ شرعيةٌ مهمةٌ لها آثارٌ عظيمةُ النفع في إصلاح الدين والدنيا لأولي الألباب الذين يعلمون أنّ للأفعال عواقبها، وهي دافعةٌ للأعمال الصالحة، ناهيةٌ عن الظُلم، مواسيةٌ للمظلومين؛ فلو استحضر الظالم عاقبة ظلمه، وأن الله سيسقيه من نفس الكأس عاجلاً أو آجلاً، لكَفَّ عن ظلمه وتاب إلى الله عزَّ وجلَّ، ولو أن هذا الفاجر المستهتر الذي يعبث بحرمات الناس وينتهك أعراضهم، علم أن عدل الله قد يقضي بأن يُنتهك عِرضه، لتاب وترك أعراض الناس.

 

(الجزاء من جنس العمل) كتب أحدهم تحت هذا العنوان يقول: هذه سُنة الله في الكون؛ كل إنسانٍ سيشرب من الكأس التي سقى الناس بها، الظالم سيُبتلى بمن هو أظلم منه، والقاسي سيُبتلى بمن هو أقسى منه، والضد صحيح، والعكس مُشاهَدٌ عياناً! من لانَ للناس ألانَ الله له قلوب الناس، ومن جبرَ جُبِر، ومن مشيَّ في حاجة الناس قيَّض اللهُ له من يمشي في حاجته! أنتَ في يومك هذا إنما تختار شكل أيامك القادمة! وما تجاوز الله عن عبده الغني يوم القيامة الذي يأتيه وليست له حسنةٌ إلا لتجاوزه عن الناس وإنظاره المُعسر منهم.

ولأن (الجزاء من جنس العمل) فأنتَ اليوم زارعٌ وغداً حاصدٌ، فأحسِنْ غِراسكَ لتسعدَ بحصادك. ومِن عدل الله أن أغلب الغِراس يُحصد في الدنيا،

ولكنه سبحانه قد يؤجل لحكمته بعض الحصاد للآخرة؛ فإن فاتكَ هنا حصاد كل خيرٍ زرعته، فثق أنه لن يفوتك في الآخرة.

إنه (الجزاء من جنس العمل)، فمن أحسن أحسن الله إليه، ومن جاد جاد الله عليه، ومن نصر أمر الله ودينه وشرعه نصره الله وثبته، ومن تواضع لله رفعه الله، والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن عامل الناس بما يُحب عامله الله بما يُحب، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن ذَكَرَ الله في ملأٍ ذكره الله في ملأٍ أفضل منهم، ومن تصدّق تصدّق الله عليه وعوّضه خيراً، ومن فسّح لإخوانه في المجالس فسّح الله له، ومن تجاوز عن المُعسر تجاوز الله عنه.

 

وصدق الشاعر إذ قال:

المَرءُ يُجزى بِمَا يُسديهِ مِنْ عملٍ

للنَّاسِ مَهما تَولَّى عنهُ وامتنعا

يومًا سيلقاهُ لو طالَ الزَّمانُ بِهِ

خيرًا وشرًّا سَيَجنِي كُلَّ ما زَرعا

فاصنَعْ لِنَفسِكَ بعدَ الموتِ منزِلَةً

إنْ مَرَّ ذكرُكَ قَالُوا ذَاكَ مَن صَنَعا

واستَنهَضِ النَّفسَ واشغِلها بفَائِدَةٍ

لَا يَبلغُ المَرءُ إلَّا ما إلَيهِ سَعَى

 

أحبتي.. لنتيقن تماماً أن المكيال الذي نكيل به لغيرنا سوف يُكال لنا به، إنْ عاجلاً أو آجلاً؛ فغِراس الإحسان الذي نزرعه على هذه الأرض سنتفيّأ من وارفِ ظلاله يوماً، وألوان السعادة التي ننشرها على القلوب سنجدها في انتظارنا بين محطّات الحياة؛ والعكس بالعكس. فلنتذكر جميعاً أنّ (الجزاء من جنس العمل) سُنةٌ إلهيةٌ يتجلى فيها عدل المولى عزَّ وجلَّ لذوي البصائر، وصدق الله العظيم إذ يصف نفسه بقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾.

اللهم اجعلنا ممن يزرعون الخير فيحصدونه أضعافاً مضاعفةً بإذنك وعدلك وكرمك وإحسانك.

https://bit.ly/3ud6UpX