الجمعة، 26 يناير 2024

حفظ القرآن الكريم

 خاطرة الجمعة /431

الجمعة 26 يناير 2024م

(حفظ القرآن الكريم)

 

 

يقول أحدهم: كنتُ في «المدينة المنورة» وحان موعد صلاة الظهر، توضأتُ ونزلتُ إلى المسجد النبوي، فرأيتُ رجلاً سودانياً يُقال له «أبو مالك»، دائم البسمة، وجهه بشوشٌ يُشع نوراً، أحببته في الله بمجرد النظر إليه، صاحب همةٍ متوقدةٍ، يُقرئ القرآن ولا يَمَلُّ، فإذا ألقيتَ عليه السلام يرد السلام؛ ثم يُجْلِسُكَ بجواره ويقول: "اقرأ عَلَيَّ سورةَ الفاتحة"، يُصحح لك الأخطاء في التلاوة، فإذا فَرَغَ أخذ يدعو ويذكر ربه. سألته: "يا «أبا مالك» هل حدث معك موقفٌ أثَّر في نفسك؟ "، قال: "نعم يا أخي؛ ولن أنساه أبداً ما حَييتُ"، قلتُ: "حدثني ما هو؟"، قال: "جاءني منذ فترةٍ رجلٌ مُسنٌ في أول الثمانين من عُمره، وطلب مني أن أُحفّظَه كتاب الله، فقلتُ له: يا والدي؛ أنت مُسِنٌّ، وحِفْظُكَ صعب".. فقام غاضباً وقال لي: "لن أسامحك؛ وسأُحاجِجُك بهذه الكلمات أمام ربي، أريد لقاء الله وكلامه في صدري"، ثم قام؛ فناديتُ عليه وقلتُ له: "يا والدي على الرأس والعين؛ لك كل الوقت، لك كل ما تُريد؛ فرح الرجل المُسِن، وبدأتُ مشوار التحفيظ له، مَرَّةً يحفظ آيةً واحدةً فقط، ومرةً صفحة، ومرةً إذا حضر لا يحفظ شيئاً، لكنه كان لا ينقطع، وسبحان الله تمر السنوات والرجل لا تنقطع همته، حتى استطاع أن يحِفظَ القرآن كاملاً وكان عُمره وقتها قد ناهز 86 عاماً، وكعادة القُرَّاء بعد ختمه القرآن؛ قرأ سورة الناس ثم الفاتحة ثم أول خمس آياتٍ من سورة البقرة -كي لا تكون آخر ختمةٍ له- ثم سجد بعدها شكراً لله تعالى، كان يبكي فرحاً ويبتسم، فوالله لم يقم من سجدته، وفاضت روحه ومات الرجل في هذه السجدة. لم أدرِ وقتها؛ أأبكي فرحةً له، أم أبكي حسرةً على نفسي ولفراقي لجلساته؟".

أحبتي في الله.. يقول راوي القصة: "لله درُّ الرجل؛ كان ذا هِمَّةٍ متوقدةٍ، ذا صِدقٍ في رجائه ودعائه لله تعالى أن يلقاه وكلامه في صدره؛ فوضع الهدف نُصب عينيه، ولم يلتفت للمثبطين، حتى بلغ ما تمنى".

 

وهذه قصة همةٍ أخرى؛ كتبت «أم طه» الأردنية قصتها مع (حفظ القرآن الكريم) فقالت: "عُمري سبعون سنة، أعيش في مدينة «الزرقاء» وأعمل خيّاطة، كنتُ أميةً لا أقرأ ولا أكتب، ذات يومٍ طلبتُ من إحدى الفتيات اللواتي يترددن عليّ أن تُعلّمني كيفية كتابة لفظ الجلالة، وقلتُ لها أريد أن أتعلم اسم ربي كيف يُكتب؟ وبالفعل تعلمتُ وأصبحتُ أتتبع لفظ الجلالة في القرآن من أوله إلى آخره، أعجبتني الفكرة وأحسستُ بمشاعر عاليةٍ جداً؛ فطلبتُ من الأخت أن تُعلّمني الحروف، وتعلمتُ التهجي، والتحقتُ بمركزٍ لتحفيظ القرآن، وبدأتُ أقرأ بالتهجي من المصحف، واستمريتُ إلى أن ختمتُ قراءة القرآن كاملاً.. لم أصدق نفسي بعد كل هذا العمر أنني أصبحتُ قارئةً للقرآن؛ فأقمتُ حفلةً كبيرةً لجميع الأخوات بمناسبة انتهائي من قراءة القرآن، وأهدتني إحداهن كتاباً عن كيفية (حفظ القرآن الكريم)؛ ففجّر هذا الكتاب عندي الرغبة في الحفظ؛ حيث علمتُ من الكتاب أن من لديه الهمة يُمكن له أن يحفظ ولو كان فوق الأربعين؛ فبدأتُ الحفظ، وأحسستُ بسعادةٍ عجيبةٍ جداً، وأنا الآن قد حفظتُ القرآن الكريم كاملاً والحمد لله".

 

وها هي امرأةٌ أخرى لها قصةٌ مميزةٌ مع (حفظ القرآن الكريم)؛ إنها «أم أحمد» امرأةٌ في الخمسينات من عُمرها، ربة منزلٍ جل اهتماماتها المطبخ والأولاد وزوجها، سمعت يوماً بفتح مركزٍ لتحفيظ القرآن الكريم بالمسجد العتيق في البلدة، وبوجود مُحفظين سيشرحون كل ما يختص بالقرآن وتلاوته الصحيحة، ويقومون بالتحفيظ؛ عرضت «أم أحمد» على زوجها وأبنائها أن تبدأ في (حفظ القرآن الكريم) بالمسجد؛ فرحبوا بذلك؛ فحفظت في أوقاتٍ قياسيةٍ أجزاءً من القرآن، وقررت الذهاب إلى معهد القراءات لصقل معرفتها القرآنية بمعرفةٍ أكاديميةٍ أكثر شمولاً وعموماً، واستطاعت ختم القرآن، وأصبح القرآن الكريم أسلوب حياةٍ بالنسبة لها، فقررت فتح أحد المجالس لاستقبال الدعاة وللاجتماع والذِكر مع الأصدقاء، بعد ذلك شرعت في عمل مشروعٍ للحضانات الإسلامية وتطبيق بعض المناهج التي تُمكن الطفل من حفظ أكبر قدرٍ ممكن من الآيات والسور القرآنية، وأن يختم القرآن في السنة مرةً واحدةً على الأقل.

 

يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ والمقصود بعبارة ﴿آياتٌ بَيِّناتٌ﴾ القرآن الكريم، وفى الآية دعوةٌ للمسلمين إلى (حفظ القرآن الكريم) في الصدور، وليس في الكتب أو أية وسيلة حفظٍ أخرى فحسب. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، وفي الآية دليلٌ على تسهيل الله القرآن للناس تلاوةً وحفظاً.

 

ويقول أهل العلم إن (حفظ القرآن الكريم) عبادةٌ يبتغي بها صاحبها وجه الله والثواب في الآخرة، وبغير هذه النية لن يكون له أجرٌ. كما يجب على حافظ القرآن ألا يقصد بحفظه تحصيل منافع دنيويةٍ لأن حفظه ليس سلعةً يُتاجر بها في الدنيا، بل هي عبادةٌ يُقدمها بين يدي ربِّه تبارك وتعالى.

ومع ذلك فإن من ثمرات (حفظ القرآن الكريم) في الدنيا أن الحافظ يُقدَّم على غيره في الصلاة إماماً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ]. كما أنه يُقدَّم على غيره في القبر في جهة القبلة إذا دُفن مع غيره؛ فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من شهداء أُحد في ثوبٍ واحدٍ ثم يقول: [أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ؟] فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد. ويرفع الله -سبحانه وتعالى- حافظ القرآن عن غيره فيما يشاء من مجالاتٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ].

ومن ثمرات (حفظ القرآن الكريم) في الآخرة أن منزلة الحافظ تكون عند آخر آيةٍ كان يحفظها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، ومعنى القراءة هنا: الحفظ. كما أنه يكون مع الملائكة رفيقاً لهم في منازلهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ]. وأنه يَشفع فيه القرآن عند ربِّه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ]. وأنه يُلبَس تاج الكرامة وحُلة الكرامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ فيَقولُ: يا ربِّ حلِّهِ، فَيلبسُ تاجَ الكَرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا رَبِّ زِدهُ، فيلبسُ حلَّةَ الكرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ ارضَ عنهُ، فيقالُ لَهُ: اقرأْ وارْقَ، وتزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً]. كما يُلبَس تاج الوقار، ويُكسى والداه حلتين لا مثيل لهما في الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا]. ويكون حفظ القرآن والعمل بما فيه سبباً في إلباس والدي حافظ القرآن تاجاً يوم القيامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا].

 

أما العارفون من أصحاب الخبرة فيقولون إن القرآن يجب أن يبدأ بالتلقين؛ وهذا يستوجب أن يكون الحفظ عند مُحفظٍ حاصلٍ على الإجازة، لكي يقوم بتصحيح الأخطاء ومخارج الحروف وطريقة التلاوة ونُطق الكلمات؛ حتى يتم الحفظ بصورةٍ سليمة. وتكون البداية بالنية الصادقة، ثم وضع خطةٍ ذات أهدافٍ واضحةٍ، بها مواعيد محددةٌ لإكمال حفظ أجزاء القرآن وسوره، والالتزام بتنفيذها. ولابد من اختيار مُصحفٍ مُحددٍ طوال مدة الحفظ؛ حتى لا يتغير شكل ترتيب الآيات والكلمات ما بين الخريطة الذهنية الخاصة بالحافظ وتلك الموجودة في المُصحف. ويجب اختيار أفضل المواعيد التي يتوفر بها الهدوء والنقاء والصفاء الذهني؛ حتى يسهل الحفظ، وأفضل أوقات الحفظ -كما أجمع العلماء- بعد صلاة الفجر. كما أن اختيار الصحبة الطيبة يُعين على شحذ الهمم وعدم النكوص أو الكسل.

 

قال الشاعر:

قَد نلتَ يا حامِلَ القُرآنِ مَنزِلةً

تَبقى عَلى الدَهرِ للأسْلافِ تِذكارا

قَد خَصكَ اللهُ بالخَيْراتِ والمِننِ

إذ كُنتَ مِمَن لِحِفظِ الآيِ مُخْتارا

وقال آخر:

طوبى لِمَن حَفِظَ الكِتابَ بِصَدْرِه

فَبَدا وَضيئاً كالنُجومِ تَألَقا

وَتَلاهُ في جُنحِْ الدُجى مُتَدَبِراً

وَالدَمْعُ مِنْ بَيْنِ الجُفونِ تَرَقْرَقا

هَذي صِفاتُ الحافِظينَ كِتابَهُ حَقاً

فَكُنْ بِصِفاتِهِم مُتَخَلِقا

 

أحبتي..

أختم بما ختم به راوي القصة الأولى؛ كتب يقول: "وسائل التحفيظ منتشرةٌ بفضل الله، ومتوفرةٌ بكل مكانٍ، فلِمَ الغفلة والزهد في هذا الأمر؟! سلْ نفسك كم ساعةً وكم دقيقةً تضيع منك في اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى تصفح الإنترنت؟ وكم ساعةً أخرى تضيع في لا شيء؟ اُدعُ ربك واستعن به سبحانه، وتوكل عليه، وسله صادقاً ألا يُميتك إلا والقرآن في صدرك؛ فهو والله خيرٌ عظيمٌ وفضلٌ لا يكون إلا لمن اصطفى من عباده؛ فابدأ من الآن".

اللهم أعنّا على حفظ كتابك الكريم في صدورنا، ويَسّر لنا ذلك؛ فأنت سبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3HyXVX3

الجمعة، 19 يناير 2024

قيام الليل

 

خاطرة الجمعة /430

الجمعة 19 يناير 2024م

(قيام الليل)

كان يسكن مع أمه العجوز في بيتٍ متواضعٍ، وكان يقضي معظم وقته في غرفته أمام شاشة التلفاز أو ممسكاً بهاتفه المتحرك؛ يُشاهد أفلاماً خليعةً، يسهر الليالي من أجل ذلك، لم يكن يذهب إلى المسجد ليؤدي الصلاة المفروضة مع جماعة المسلمين. طالما نصحته أُمه بأداء الصلاة؛ فكان يستهزئ بها ويسخر منها ولا يُعيرها أي اهتمام. مسكينةٌ تلك الأم؛ فهي لا تملك شيئاً، وهي المرأة الكبيرة الضعيفة، إنها تتمنى لو أن الهداية تُباع فتشتريها لابنها ووحيدها بكل ما تملك، وهي لا تملك إلا شيئاً واحداً فقط هو الدعاء في جوف الليل، إنه سهام الليل التي لا تُخطئ؛ فبينما هو في غرفته يسهر طوال الليل أمام تلك المناظر المُزرية، كانت هي في غرفتها حريصةً على (قيام الليل) تُصلي وتدعو الله سبحانه وتعالى بأن يهدي ابنها ويجعله من الصالحين، ولا عجب في ذلك فإنها عاطفة الأمومة التي لا تساويها عاطفة، وهي حُسن الظن بالله سبحانه وتعالى.

وفي ليلةٍ من الليالي، حيث السكون والهدوء، وبينما هي رافعةٌ كفيها تدعو الله وقد سالت الدموع على خديها، دموع الحزن والألم، إذا بصوتٍ يقطع ذلك الصمت الرهيب، صوتٍ غريبٍ، توجهت الأم مسرعةً باتجاه الصوت وهي تصرخ خوفاً على ابنها من أن يكون قد أصابه أي سوءٍ، نادت عليه: "ولدي حبيبي"، فلما دخلت عليه غرفته إذا هو ممسكٌ بعصا في يده يُحطم بها شاشة التلفاز، الذي طالما عكف عليه وانشغل به عن طاعة الله وطاعة أمه وترك من أجله الصلوات المكتوبة، ثم انطلق إلى أمه يُقبّل رأسها ويضمها إلى صدره، في تلك اللحظة وقفت الأم مندهشةً مما ترى، والدموع على خديها، لكنها في هذه المرة ليست دموع الحزن والألم، وإنما دموع الفرح والسرور؛ فقد استجاب الله لدعائها وكانت هداية ابنها، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.

 

أحبتي في الله.. إنه (قيام الليل) حيث الدعاء فيه مُستجابٌ بإذن الله، تتغير به حياة الإنسان بشكلٍ جذريٍ، برحمة الله؛ فهذا شابٌ كتب يقول:

(قيام الليل) غيّر حياتي؛ فقد كنتُ أعصي الله كثيراً، لكن والله ما من مرةٍ أعصيه وأفعل ذنباً إلا وضميري يؤنبني، وأتمنى لو أن الأرض انشقت وابتلعتني، وكنتُ أستغفر الله وأسأله أن يُثبّت قلبي على دينه، لكني كنتُ أضعف وأجد نفسي أقع في الحرام مرةً بعد أخرى؛ فقد كان الشيطان يُسيطر عليّ ويوسوس لي؛ مرةً بأنه لا توبة بعد كل هذه الخطايا والمعاصي، ومرةً بأن باب التوبة مفتوحٌ في كل وقتٍ فلِمَ العجلة! إلى أن حانت لحظةٌ واجهتُ فيها نفسي، وجاهدتُ هواها، عسى أن يهديني ربي وأتوب توبةً نصوحاً لا رجعة بعدها للباطل، قمتُ فتوضأتُ وصليتُ وقررتُ أن أستيقظ من الليل وأُصلي بعض الركعات وأدعو الله بأن يُبعدني عن طريق الحرام، والحمد لله استجاب الله دعائي في (قيام الليل)؛ وها أنا ذا الآن أسير في طريق الله، وأسأله جلَّ وعلا أن يقبل توبتي. كانت حياتي قبل القيام بائسةً حزينةً وساخطةً على كل أمور الدنيا، لكن القيام غيّرني؛ فأصبحتُ -برحمة الله- أنعم بالسكينة وأتمتع براحة البال، وشعرتُ لأول مرةٍ في حياتي بحلاوة الإيمان، وبالسعادة تملأ وجداني، لِمَ لا وقد اقتربتُ من الله سبحانه وتعالى فقرّبني منه وهداني.

 

ومن القصص المُثيرة التي تتحدث عن (قيام الليل) هذه القصة التي رواها أحد التابعين، وجاء ذكرها في كُتب التُراث، يقول كاتبها: كُنا في سفينةٍ فألقتنا الريحُ إلى جزيرةٍ فنزلنا فإذا فيها رجلٌ يعبدُ صنماً؛ فأقبلنا إليه وقُلنا له: يا رجل من تعبد؟ فأشار إلى صنمٍ، فقلنا: معنا في السفينة من يصنع مثل هذا، فليس هذا إلهٌ يُعبد، قال: أنتم من تعبدون؟ قلنا: نعبد الله، قال: وما الله؟ قُلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي الأحياء والأموات قضاؤه، قال: وكيف علمتم به؟ قُلنا: وجَّه إلينا هذا الملكُ العظيمُ الخالقُ الجليلُ رسولاً كريماً فأخبرنا بذلك، قال: فما فعل الرسول؟ قُلنا: أدَّى الرسالة ثم قبضه الله إليه، قال: فما ترك عندكم علامة؟ قلنا: بلى، قال: ما ترك؟ قُلنا: ترك عندنا كتاباً من الملك، قال: أروني كتاب الملك فينبغي أن تكون كُتب الملوك حِساناً، فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا، فقرأنا عليه سورةً من القرآن، فلم نَزَلْ نقرأ وهو يبكي ونقرأ وهو يبكي حتى ختمنا السورة، فقال ينبغي لصاحب هذا الكلام ألا يُعصى، ثم أسلم وعلمناه شرائع الإسلام وسوراً من القرآن، وأخذناه معنا في السفينة، فلما سرنا وأظلم علينا الليل وأخذنا مضاجعنا قال: يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه إذا أظلم الليل هل ينام؟ قلنا: لا يا عبد الله هو حيٌ قيومٌ عظيمٌ لا ينام، فقال: بئس العبيد أنتم تنامون ومولاكم لا ينام، ثم أخذ في التعبد وتركنا. فلما وصلنا بلدنا قلتُ لأصحابي: هذا قريب عهدٍ بالإسلام وغريبٌ في البلد فجمعنا له دراهم وأعطيناه إياها، قال: ما هذا؟ فقلنا تُنفقها في حوائجك، قال: لا إله إلا الله، أنا كنتُ في جزائر البحرِ أعبدُ صنماً من دونه ولم يُضيعني؛ أفيضيعني وأنا أعرفه؟! ثم مضى يتكسَّب لنفسه، وكان من بعدها من كبار الصالحين إلى أن مات.

 

إنها صلاة (قيام الليل) يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويقول كذلك: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، ويقول في وصف عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾، ويُخاطب رسوله بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾، وبقوله: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾، وبقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصفَهُ﴾.

وفي السُنة المشرفة؛ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقُومُ الليل حتَّى تَتورَّمَ قَدَمَاهُ وتَنتفِخ؛ فيُقَالُ له فيَقولُ: [أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: [إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظَاهِرِها]، فقيل: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: [لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ قائِمًا والناسُ نِيامٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَفْضَلُ الصَّلاةِ، بَعْدَ الفَرِيضَةِ، صَلاةُ اللَّيْلِ]. كما قال صلّى الله عليه وسلّم: [من قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتب منَ الغافلينَ، ومن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتبَ منَ القانتينَ، ومن قامَ بألفِ آيةٍ كُتبَ منَ المُقنطرينَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [عليكُم بقيامِ اللَّيلِ، فإنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحينَ قبلَكُم، وقُربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومَنهاةٌ عن الإثمِ، وتَكفيرٌ للسِّيِّئاتِ، ومَطردةٌ للدَّاءِ عن الجسَدِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أتاني جبريلٌ، فقال: يا محمدٌ! عِشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ، وأحببْ منْ شئتَ فإنكَ مفارقُهُ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ]. وفي هذه الأحاديثِ الترغيبُ والحثُّ على (قيام الليل) وبيان ما فيه مِن فضلٍ وأجرٍ عظيمِ.

 

يقول العلماء إن صلاة (قيام اللّيل) عبادةٌ عظيمةٌ تجتمعُ فيها أربعُ عباداتٍ: صلاةٌ وذكرٌ ودعاءٌ وقرآن. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يُحافظ عليها ولا يتركها في حضرٍ ولا في سفرٍ. تُصلَّى ركعتين ركعتين، ويكون الوِتر بركعةٍ في آخرها. تُصلَّى في أيّة ليلةٍ خلال العام، وليس لها عدد ركعاتٍ مُعيّنٌ. ويُطلَق على (قيام الليل) التهجّد إذا كان أداء الصلاة بعد النوم وقبل الفجر. ويجوز التنويع في العبادة فيها بين صلاةٍ وذِكرٍ وسجودٍ. ويُندَب أن تكون جهريةً، ويجوز أن تكون سِرية. ومما يُعين على (قيام الليل): الابتعاد عن المعاصي، والتقليل من أكل الطعام، وعدم ترك القيلولة لأنها تساعد على القيام بالليل، وعدم السهر بعد صلاة العشاء، وذِكر الله كثيراً، والإكثار من ذِكر الآخرة، وتلاوة القُرآن، والدعاء والتضرُّع لله تعالى بالتوفيق لقيام الليل، والاستعانة بِما يُعين على الاستيقاظ.

 

قال الشاعر:

قُم اللَيْلَ يا هذا لَعَلّكَ تَرْشُدُ

إلَى كَمْ تنامُ اللَيْلَ والعُمْرُ يَنْفَدُ

أراكَ بِطولِ اللَيْلِ وَيْحَكَ نائماً

وَغَيْرُكَ في مِحْرابِهِ يَتَهَجَدُ

وَلَوْ عَلِمَ البَطّالُ ما نالَ زاهِدٌ

مِنَ الأجْرِ والإحْسانِ ما كانَ يَرْقُدُ

 

وقال آخر:

أيها الراقدُ ذا الَليلِ التَمامِ

قُم بِجِدٍ فَاللَيالي في انْصِرامِ

وَتَقَرّبْ بِصَلاةٍ وَصيامٍ

وَابْتَهِل لله في جُنحِ الظَلامِ

فَعَسَى تَلْحَقْ بِالْقَوْمِ الكِرامِ

 

وقالوا عن (قيام الليل):

"هي تجارةٌ رَبِحَ فيها من ناجى مولاه بأُنسه له"، "فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين"، "الليل مرتعٌ للساجدين، وروضٌ للصالحين، ونزهةٌ لعُشاق الجَنة، وبستانٌ للمُسبّحين"، "إذا أردتَ أن تلحق بركب السادة، فعليك بترك الوِسادة، لتحظى بالحُسنى وزيادة".

 

أحبتي.. صَلاةُ القيامِ في اللَّيلِ شَرفُ المؤمنِ، كما أخبرنا رسولنا الكريم؛ فمن منا يقبل بأن يُضيِّع شرفه بنفسه؟! وهل فينا مَن يترك فرصةً لا تُعوَض حينما يعلم أنه: [يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟]. ثم إنّ من أعظم ثمرات المُحافظة على (قيام الليل) تيسير صلاة الفجر والتي هي خيرٌ من النوم، جماعةً بالمسجد؛ لقُرب الوقت ما بين القيام في الثُلُث الأخير من الليل وبين توقيت صلاة الفجر.

الأمر كله يتوقف على صدق النية ثم عقد العزيمة ثم مجاهدة النفس، يأتي بعدها التوفيق والإعانة من الله سُبحانه وتعالى. قد يكون الأمر صعباً في البداية، لكن مع التصميم والإرادة والتغلب على الهوى يقل الإحساس بالمشقة، ثم يصير الأمر سهلاً، ثم الوصول إلى مرحلة الاستمتاع بالقُرب من الله سبحانه وتعالى، والإحساس بلذةٍ لا تُضاهيها لذة. توكل على الله وابدأ من الليلة، متعك الله بحلاوة القيام.

اللهم اجعلنا من المُداومين على (قيام الليل)، واجعلنا اللهم ممن ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، وأعنَّا ربنا على القيام والتهجد، وحبّب إلينا ذلك وزيّنه في قلوبنا، ويَسِّره لنا، وتقبله منا، ولا تحرمنا لذة مناجاتك والأنس بمعيتك والقُرب منك.

 

https://bit.ly/3tXYpms

الجمعة، 12 يناير 2024

تأثير القرآن الكريم

 

خاطرة الجمعة /429

الجمعة 12 يناير 2024م

(تأثير القرآن الكريم)

 

يصف لنا أحد الدعاة موقفاً حدث معه شخصياً فيقول: أذكر حادثاً وقع لي منذ عدة سنوات؛ كنّا ستة مسلمين على‏ ظهر سفينةٍ مصريةٍ تمخر عُباب المحيط الأطلسي إلى‏ نيويورك، من بين 120 راكباً وراكبةً أجانب، وخطر لنا يوم الجمعة أن‏ نُقيم صلاة الجماعة في المحيط على‏ ظهر السفينة، وقد يسَّر لنا قائد السفينة -وكان إنجليزياً- أن نُقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطُهاتها وخدمها -وكلهم نوبيون مسلمون- أن يُصلي معنا منهم مَن لا يكون في الخدمة وقت الصلاة، وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى‏ التي تُقام فيها صلاة جماعةٍ على‏ ظهر السفينة، فضلاً عن كونها صلاة جمعة. قمتُ بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا. بعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على‏ نجاح "القُدّاس"! فقد كان هذا أقصى‏ ما يفهمونه من صلاتنا. لكن سيدةً من هذا الحشد -عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافيةٌ مسيحيةٌ- كانت شديدة التأثر والانفعال؛ تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها، جاءت تشد على‏ أيدينا بحرارةٍ، وتقول -في إنجليزيةٍ ضعيفةٍ- أنها لم تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوعٍ ونظامٍ وروح؛ وسألتنا: "أية لغةٍ هذه التي كان يتحدث بها قسيسكم؟!" فالمسكينة لا تتصور أن يُقيم الصلاة إلّا قسيسٌ كما هو الحال عندهم، وقد صححنا لها هذا الفهم وأخبرناها أنه "الإمام" وأنه كان يخطب باللغة العربية؛ فقالت: "إنّ اللغة التي كان "الإمام" يتحدث بها ذات ايقاعٍ موسيقيٍ عجيبٍ، وإن كنتُ لم أفهم منها حرفاً واحداً، لكن الذي لفت انتباهي، هو أن "الإمام" كانت ترد في أثناء كلامه -بهذه اللغة الموسيقية- فقراتٌ من نوعٍ آخر غير بقية كلامه، نوعٍ أكثر موسيقيةً وأعمق ايقاعاً، هذه الفقرات الخاصة كانت تُحْدِث فيَّ رعشةً وقشعريرةً، إنّها شيءٌ آخر، كما لو كان الإمام مملوءاً من روح القدس!" -حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها- فأدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت أثناء خطبة الجمعة وأثناء الصلاة، وكانت تلك مفاجأةً لنا تدعو إلى‏ الدهشة، من سيدةٍ لا تفهم مما نقول شيئاً ومع ذلك تأثرت بشدةٍ بما سمعته!

 

أحبتي في الله.. إنه (تأثير القرآن الكريم)؛ فللقرآن تأثيرٌ عظيمٌ في النفوس، وهل هناك تأثيرٌ أعظم من اطمئنان القلوب؟ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، والاطمئنان ينتج من الإحساس بالأمان؛ يقول عزَّ وجلَّ مُحدداً قاعدةً لإجارة المشركين وضمان أمنهم: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وتُشير الآية الكريمة بوضوحٍ إلى (تأثير القرآن الكريم) حتى على المشركين عندما يسمعونه.

 

وفي محاولةٍ لمعرفة مدى هذا التأثير على الإنسان المسلم وغير المسلم؛ أجرت مجموعةٌ من الأطباء المسلمين تجربةً علميةً؛ فأخذوا بعض المسلمين ووضعوا مجساتٍ على أجسادهم لتسجيل نبض القلب، ثم إسماعهم بعض آياتٍ من القرآن ويُعيدون قياس النبض، فوجدوا أن النبض قد تأثر بعد الاستماع. افترضوا أن المسلم يتأثر لأنه يؤمن بأن ما يسمعه هو كلام الله؛ فقرروا تطبيق نفس التجربة على غير المسلمين، فجاءت النتيجة إيجابيةً أيضاً، ثم جاءوا بأشخاصٍ لا يعرفون اللغة العربية ولا يفهمون القرآن فلما استمعوا للقرآن جاءت النتيجة إيجابيةً كذلك؛ فافترضوا أن الإنسان قد يتأثر متى سمع الكلام مجودا؛ فأحضروا بعض الكُتب وراحوا يُلْقُونَها بطريقة التجويد؛ فلم تظهر أية أعراضٍ أو إشاراتٍ إيجابيةٍ، فخرجوا بنتيجةٍ أن الإنسان المسلم وغير المسلم متى سمع القرآن، فهمه أم لم يفهمه، يتأثر به.

 

وفي التاريخ قصصٌ عديدةٌ لإسلام الناس فقط بسبب تأثرهم بالاستماع للقرآن الكريم؛ لعل أشهرها قصة تأثر «النجاشي» ملك «الحبشة» بالقرآن الكريم عندما استمع إلى «جعفر ابن أبي طالب» -رضي الله عنه- وهو يتلو الآيات الأولى من سورة «مريم»؛ فلم يتمالك «النجاشي» نفسه فبكى وبكت أساقفته، وقال: "إن هذا والذي جاء به موسى -وفي روايةٍ: عيسى- ليخرج من مشكاةٍ واحدة"، وكان هذا سبباً في إسلامه.

 

يقول أهل العلم إن سماع القرآن يؤثر في النفوس أكثر من قراءته؛ لأنه يشد الانتباه أكثر، وبالتالي ينفرد السامع بخاصية التدبر؛ وفيها قوةٌ على الفهم والاستيعاب تجعل القرآن علاجاً لقلوب المؤمنين، فهو شفاءٌ للروح من الغفلة والتشتت والضياع والقلق والاكتئاب.

 

ويقول العلماء إن صوت القرآن الكريم عبارةٌ عن أمواجٍ صوتيةٍ لها ترددٌ وطول موجةٍ مُحدد، وهذه الموجات تنشر حقولاً اهتزازيةً تؤثر على خلايا الدماغ؛ فتُحقق إعادة التوازن لها، مما يمنحها مناعةً كبيرةً في مقاومة الأمراض؛ فالتأثير بسماع القرآن على هذه الخلايا يُعيد برمجتها من جديد.

ولا يتوقف (تأثير القرآن الكريم) على الإنسان فقط؛ فهو يتعداه إلى غيره من مخلوقات الله؛ ففي تجربةٍ مثيرةٍ قام باحثٌ يابانيٌ بإسماع الماء شريطاً يُتلى فيه القرآن الكريم، فتكونت بلوراتٌ من الماء لها تصميمٌ رمزيٌ غايةً في الصفاء والنقاء. وفسّر ذلك بأن الأشكال الهندسية المختلفة التي تتشكل بها بلورات الماء الذي قرأ عليه القرآن كونت اهتزازاتٍ -ناتجةً عن سماع القرآن- على هيئة صورةٍ من صور الطاقة الكامنة، والتي تُمكن الماء من السمع والرؤية والشعور والانفعال واختزان المعلومات، ونقلها والتأثر بها، إلى جانب تأثيرها في تقوية مناعة الإنسان، وربما علاجه أيضاً من بعض الأمراض العضوية والنفسية.

ولفت إلى أن ذرات الماء تتسم بالقدرة على التأثر بأفكار الإنسان وكلامه، فالطاقة الاهتزازية للبشر والأفكار والنظرات والدعاء والعبادة تترك أثراً في البناء الذري للماء. ولنا أن نتخيل بعد هذا كله كيفية تأثر الإنسان الذي يتكون جسمه من 70% من المياه، وقد يُفسر ذلك لنا كيف أنه من رحمة الله بنا أن أمرنا بالاستماع والإنصات للقرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

 

أحبتي.. لا شك في أنّ للقرآن الكريم تأثيراً في كل مَن يسمعه، فلنكن أذكياء ولا نفوِّت هذه الفرصة التي تُمثل لنا هديةً ربانيةً لا تتطلب منا كثير جهدٍ؛ فالاستماع إلى القرآن عبادةٌ لا تُكلف مالاً كالزكاة، ولا تتطلب مجهوداً بدنياً كالحج، ولا يُشترط لها وضوءٌ ولا استقبال القبلة كالصلاة، فما أيسرها من عبادةٍ. علينا إذن أن نُعيد النظر في علاقتنا بالقرآن الكريم، وأن نُخصص وقتاً يومياً، ليس لقراءة القرآن فحسب، بل ولتلاوته بصوتٍ مسموعٍ، ليتحقق (تأثير القرآن الكريم) فينا، وليكن ذلك في صلوات النفل وعند قيام الليل وصلاة التهجد؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ فننعم بالإحساس بالأمن والأمان والطمأنينة والسكينة وراحة النفس، فضلاً عن كسب الثواب وتحصيل عاجل الأجر في الدنيا، وآجله في الآخرة. ونصيحتي أن يكون ما نُخصصه لتلاوة القرآن من أفضل أوقاتنا، لا أن يكون فضلة وقتنا.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/3vq8mcz

الجمعة، 5 يناير 2024

الفضل لله

 

خاطرة الجمعة /428

الجمعة 5 يناير 2024م

(الفضل لله)

تحكي لنا شابةٌ عن امرأةٍ مُسنةٍ التقت بها أثناء الحج، أخبرتها بقصةٍ أثرت فيها كثيراً؛ قالت المرأة إنها أرملةٌ ولها ولدٌ كان من الصالحين؛ حافظاً للقرآن، باراً بها، وكان يقوم الليل من صغره. وكانت ترى لقريباتها أبناءً ليسوا بمستوى صلاح ابنها؛ فكانت تلومهم على تقصيرهم وتهاونهم في تربية أبنائهم، وتنظر إليهم نظرة استنقاصٍ في سرها، رغم أن أبناءهم لم يكونوا سيئين، إلا أنها كانت في نفسها تقارنهم بابنها. تقول المرأة: "كنتُ أفتخر بنفسي أني ربيته هكذا، وهو يتيم الأب منذ طفولته، فكيف بهؤلاء النسوة وأزواجهن معهن وما استطاعوا تربية أبنائهم مثلي؟!".

تُكمل قائلةً: "وفجأةً.. انتكس ابني الشاب دون أية مقدماتٍ؛ لم يترك الصلاة في المسجد فحسب، بل تركها نهائياً، وأصبح يُرافق صحبةً سيئةً، ثم اكتشفتُ أنه أدمن نوعاً من الحبوب"، وتُكمل بصوتٍ مكسورٍ: "بقيتُ ثلاث سنواتٍ أنصحه وأوجهه وأستعين بأخواله لنصحه، دون جدوى. وعرفتُ لأول مرةٍ شعور هؤلاء الأمهات ومعاناتهن حين كُنّ يُقسمنَ لي أنهن حاولن ويحاولن دون جدوى مع أبنائهن، رغم أن أبناءهن لم يصلوا لما وصل إليه ابني من انحراف. لقد وصل بنا الحال إلى أنني كنتُ أدخل غرفته وأجمع الحبوب والصور الخليعة من أدراجه وأتخلص منها؛ فيغضب ويصرخ ويدفعني حتى يكاد يضربني، بل إنه فعلها مرةً. انكسرت نفسي وأصبحتُ أخجل من رؤية مَن كنتُ أنتقص تربيتهن لأبنائهن بيني وبين نفسي، وبنظراتي لهن. وللأسف، وصلت سمعة ابني السيئة للجميع، وعلمتُ أن الله يُعلّمني ويؤدبني. والله ما انفككتُ عن الدعاء له. ثلاث سنواتٍ وأنا أدعو وأبكي بحرقةٍ، وكأن الله أراد أن يُربيني. وفعل سبحانه. لَمّا انكسر تماماً ما كان في نفسي من عُجبٍ بتربية ابني، ومن لومٍ للأُخريات لتقصيرهن. لَمّا ذهب كل ذلك ولم يبقَ في قلبي منه أي شيء. لَمّا أيقنتُ أني لا شيء إطلاقاً، وأن رحمة الله وحدها هي التي كانت سبباً في صلاح ابني وهدايته، وأن كل (الفضل لله) لا لغيره. وعندما أمسك الله رحمته عن ابني ضلَّ وفسد. لما وصلتُ إلى هذه المرحلة من التعلق التام برحمة الله، والتخلص من كل تعلقٍ بنفسي وبتربيتي، كنتُ أدعو الله أن يغفر لي، ويرحمنا أنا وابني، وإذا بالذي لم يكن في الحسبان قد وقع، وما لم أكن أتوقعه قد حدث، وما كنتُ أدعو ربي به قد تحقق؛ ذات ليلةٍ وأنا في مُصلاي أبكي، دخل ابني عليّ في غرفتي، وكانت الساعة الثالثة فجراً، كانت عيناه حمراوين من السهر، ورائحة فمه تفوح بالدخان، فقبّل رأسي، وقال لي: ارضِ عني يا أمي، ثم حضنني وبكى". خنقتها دموعها ولم تُكمل؛ فقلتُ لها: "وماذا حصل بعد ذلك يا خالة؟!"، قالت: "الحمد لله. الحمد لله؛ انظري ها أنا هنا.. في بيت الله الحرام، وابني هو الذي جاء بي هنا للحج يا ابنتي. وهذا ليس نتيجة اجتهادي، بل هو رحمةٌ من الله وتوفيقٌ وجبر خاطرٍ و﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

 

أحبتي في الله.. كتبت ناشرة القصة، تعقيباً عليها فقالت: لنعلم أن الأبناء رزقٌ ونعمة، وأخلاقهم رزقٌ ونعمة، وتربيتهم رزقٌ ونعمة، احترامهم لنا رزقٌ ونعمة، وحبهم لنا رزقٌ ونعمة، وتوفيق الله لهم رزقٌ ونعمة، ولابد للرزق من الشكر، ولابد للنعمة من الحمد؛ فالحمد لله دائماً وأبداً. لا تُعاير فتُبْتَلى، ولا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك.

 

تُذكري هذه القصة بأخرى مشابهةٍ لها، وثّقها القرآن الكريم في سورة القصص؛

يقول تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾. جاء في التفسير: أن قارون طغى وتجبّر في الأرض، وغرّته الحياة الدنيا، حتى أنكر أن (الفضل لله) الذي أنعم به عليه؛ فنسب الفضل إلى نفسه وقال لقومه الذين وعظوه: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾، إنه الاغترار بالنفس الذي يؤدي إلى المهالك؛ إذ كانت نهايته ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾.

 

قال بعض السلف: لِيَحْذَر المؤمن كلَّ الحذر من طُغيان "أنا، ولي، وعندي"؛ فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتُلي بها "إبليس، وفرعون، وقارون"؛ قال إبليس: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾، وقال فرعون: ﴿لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ وقال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾. عندما تتقلب بالنعم فانسب (الفضل لله)، وحافظ على قلبك من أن يُوحي إليك الشيطان أن ما أنت فيه لميزةٍ فيك. إذا وفقك الله فقُل إنما هو فضل الله عليّ، لا تنسب الفضل لنفسك بل هو فضل الله عليك. عِلْمُك، خبرتك، أفكارك، مواهبك، وتجارتك، إن لم يصحبها اعترافٌ بجميل فضل الله عليك وعظيم نعمه لك، وإن لم تُتبع هذا الاعتراف بشكر الله المُنعم، أوشكت هذه النعم أن تزول، واقترب مصيرك من مصير كل من يُنكر نِعم الله وأفضاله عليه.

 

أحبتي.. نُكران الجميل بين الناس بعضهم وبعض سلوكٌ تأباه النفوس الشريفة، ويعافه أصحاب الفِطَر السليمة، فما بالنا بنُكران فضل الله سبحانه وتعالى ونعمه، وما أعظمها، وما أكثرها؛ فلنحذر من أن نتفاخر على الناس بما آتانا الله، وننسب الفضل فيه لأنفسنا، ومَن أعجبه شيءٌ من حاله أو ماله أو ولده، فليقل كما قال صاحب الجنة: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾. وإن كان علينا أن نعمل ونأخذ بالأسباب فلا نظن للحظةٍ أن ذلك من فضل أنفسنا؛ بل علينا أن نوقن بأن الله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فنُرجع كل الفضل لله ولرحمته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. أمّا مَن وقع في المحظور ونسب الفضل لنفسه فهو في خطرٍ عظيمٍ، فقد ظلم نفسه فليُسارع إلى الاستغفار؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ومن لا ينسب فضل الله لنفسه، وإنما ينسبه لغير الله، فهو في خطرٍ أعظم، خطر الشرك والعياذ بالله؛ فليتدارك نفسه ويستغفر الله ويتوب إليه.

اللهم اجعلنا ممن يعترفون بفضلك عليهم، ويداومون على شكرك، واجعلنا اللهم من عبادك المنيبين الذين يُرجعون (الفضل لله) وحده في كل شيءٍ ويقولون ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾، ويقولون ﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ﴾، ويقولون ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا﴾.

https://bit.ly/3S6FBdV

الجمعة، 29 ديسمبر 2023

قوة الإيمان

 

خاطرة الجمعة /427

الجمعة 29 ديسمبر 2023م

(قوة الإيمان)

هذه قصةٌ من قصص الصبر و(قوة الإيمان)، يرويها طبيبٌ استشاريٌ وجراح أمراض قلبٍ سعوديٍ، قال الدكتور حفظه الله: أجريتُ عمليةً لطفلٍ يبلغ من العمر سنتين ونصف، وبعد يومين وبينما هو جالسٌ بجوار أمه بحالةٍ جيدة، إذا به يُصاب بنزيفٍ في القصبة الهوائية ويتوقف قلبه لمدة 45 دقيقة وتتردى حالته، فأتيتُ إلى أُمه فقلتُ لها: "ابنك هذا أعتقد أنه مات دماغياً"، أتدرون بماذا ردّت عليّ؟ قالت: "الحمد لله. اللهم اشفهِ إن كان في شفائه خيراً له" وتركتني! كنتُ أنتظر منها أن تبكي، أن تفعل شيئاً، أن تسألني، لم يكن شيءٌ من ذلك! وبعد عشرة أيامٍ بدأ ابنها يتحرك، وبعد 12 يوماً يُصاب بنزيفٍ آخر كما أُصيب من قبل، ويتوقف قلبه كما توقّف في المرة الأولى، وقلتُ لها ما قلتُ لها من قبل؛ فردّت عليّ بكلمتين: "الحمد لله"، ثم ذهبت بمصحفها تقرأ فيه. تكرر هذا الموقف ستّ مرّاتٍ. وبعد شهرين ونصف، وكانت قد تمّت السيطرة على نزيف القصبة الهوائية فإذا به يُصاب بخرّاجٍ في رأسه لم أرَ مثله، وحرارته تجاوزت الأربعين درجة؛ قلتُ لها: "يبدو أن ابنك انتهى وسوف يموت"، قالت: "الحمد لله. اللهم إن كان في شفائه خيراً فاشفهِ يا رب العالمين" وذهبت وانصرفت عنّي لتقرأ في مصحفها. بعد أسبوعين أو ثلاثة شفا الله ابنها، ثم بعد ذلك أُصيب الابن بفشلٍ كلويٍ كاد أن يقتله؛ فقلتُ لها ما قلتُ سابقاً، فقالت: "الحمد لله. اللهم إن كان في شفائه خيراً له فاشفهِ". بعد ثلاثة أسابيع شفاه الله من مرض الكلى، لكن بعد أسبوعٍ إذا به يُصاب بالتهابٍ شديدٍ في الغشاء البلوري حول القلب، وصديدٍ لم أرَ مثله، فتحتُ صدره حتى ظهر قلبه لأخرج الصديد، وقلتُ لها: "ابنك الظاهر هالمرة ما فيه أمل"! قالت: "الحمد لله". بعد ستة أشهرٍ ونصف خرج ابنها من العناية المركزة لا يرى ولا يتكلّم، لا يسمع ولا يتحرّك، كأنه جثةٌ هامدةٌ، وصدره مفتوحٌ، وقلبه يُرى إذا نُزِع الغيار، وهذه المرأة لا تعرف إلا "الحمد لله".

بعد شهرين ونصف خرج ابنها من المستشفى يسبق أُمه ماشياً سليماً معافىً، كأنه لم يُصب بأي شيء! بعد سنةٍ ونصف أُخبرت بأن هناك امرأةٌ ورجلٌ وطفلان يُريدون أن يُسلموا عليّ، سمحتُ لهم بالدخول؛ فرأيتُ مريضي وقد أصبح في الرابعة من عمره، ورأيتُ أُمه تحمل على كتفها طفلاً عمره يقارب الثلاثة أشهر، قلتُ لزوجها مازحاً: "ما شاء الله؛ هذا رقم 10 أم 12 من الأولاد؟" فضحك وقال: "يا دكتور هذا الثاني! لأننا بقينا 17 سنة في عُقمٍ نبحث عن علاجٍ فرزقنا الله بهذا الولد ثم ابتلانا به فرزقنا ربي الشفاء؛ إنه هو المنان الكريم".

امرأةٌ تنتظر 17 عاماً وتذهب إلى بلاد العالم للعلاج ثم يأتيها طفلٌ كهذا، ثم يُصاب بما يُصاب ثم تصبر. رمت أحمالها على الحي الذي لا يموت، الذي يُحيي العظام وهي رميم، وتوكلت عليه وتذللت إليه وانطرحت بين يديه. أتدرون من احترمها؟ إنهنّ الممرضات غير المسلمات؛ فهي -كما قالت إحدى الممرضات- امرأةٌ عندها مبادئ، وقوة شخصيةٍ، لكن الممرضة لم تعرف أن عندها -قبل ذلك كله- (قوة الإيمان).

 

أحبتي في الله.. صبر هذه المرأة هو شكلٌ من أشكال (قوة الإيمان)، وهناك أشكالٌ أخرى لهذه القوة، منها مبادرة المؤمن إلى عمل الخير وسعيه نحو زيادة رصيده في الآخرة؛ كما حدث مع هذا الصحابي الجليل؛ إذ رُويَ أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لفلانٍ نخلةً وأنا أقيم حائطي بها فَمُرْهُ أن يعطيني أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [أعطها إياه بنخلةٍ في الجنة] فأبى. وأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلك بحائطي، قال: ففعل، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعتُ النخلة بحائطي فجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَم مِن عِذقٍ رَداحٍ في الجنَّة لأَبي الدَّحداحِ] "العِذْقُ الفرْعُ مِن النَّخلةِ، والرَّداحُ الثَّقيلُ بحِملِه لكثرَةِ وغَزارةِ ثَمرتِه"، فأتى أبو الدحداح امرأته فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني بعتُه بنخلةٍ في الجنة، فقالت: قد ربحتَ البيع.

إنها (قوة الإيمان)؛ الإيمان بالله والإيمان بالغيب، وتلك درجةٌ عاليةٌ لا تُنال إلا باليقين والثقة بالله الواحد الأحد، لا الثقة بحطام الدنيا الفانية.

 

ومن المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾، وقوله: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾، وقوله أيضاً: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾، وقوله كذلك: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾.

 

يقول أهل العلم إن الإيمان: قوْلٌ باللسان، وعمَلٌ بالأرْكان "الجوارح"، وعَقْدٌ بالجَنَان "القلب"، والإيمان بالله ركنٌ أساسيٌ في حياة المؤمنين، ينبعث من القلب ويشمل الثقة الكاملة بأن الله هو المُدبر لكل شيءٍ في الكون. إن الإيمان بالله مصدر قوةٍ وأملٍ في الأوقات الصعبة، يجعلنا نتقبل مصائرنا بصبرٍ ورضا. وبالإيمان بالله، نجد الاستقرار والراحة النفسية، فهو يمنحنا الإحساس بالأمان والحماية، إنه الباب الذي نستند إليه في اللحظات الصعبة، والدافع الذي يحفزنا للسعي نحو الخير والتقرب إلى الله. وعندما نثق بالله، نجد الاستقرار النفسي والراحة الداخلية. إنه الدافع الذي يدفعنا للسعي نحو الخير والعمل الصالح. الإيمان بالله يمنحنا القوة للتخلص من الخوف والقلق ويُعزز ثقتنا في أن الله هو المعين الحقيقي في حياتنا. و(قوة الإيمان) قيمةٌ عُليا مهمةٌ في حياتنا تجعلنا موقنين بالقوة الخفية لله سبحانه وتعالى؛ فمع أخذنا بالأسباب العلمية الظاهرية لا ننسى مسبب الأسباب، ولا ننسى الأسباب الخفية التي تصنع المعجزات، لا يعلمها إلا الله سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. إن إيماننا بالله صاحب اللُطف الخفي الذي ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يجعلنا نُحافظ على (قوة الإيمان) ونسعى لتعزيزها. إن الكثير من الأعمال الصالحة لها أثرٌ عظيمٌ في زيادة (قوة الإيمان)؛ من ذلك: تعلم العلم الشرعي، وقراءة القرآن مع التدبر، والنظر في سير الأنبياء والصالحين، والتفكر في آيات الله الكونية التي تدل على عظمة الخالق وبديع صنعه، والاجتهاد في العبادة من صلاةٍ وزكاةٍ وصدقةٍ وصيامٍ وحجٍ وعمرةٍ وذكرٍ واستغفارٍ ودعاءٍ وصلة رحمٍ، وكذلك الاهتمام بأعمال القلوب من خوفٍ وخشيةٍ ومحبةٍ ورجاءٍ وتوكلٍ وغيرها، فكل ذلك مما يزيد إيمان العبد ويُقربه إلى ربه، فإذا شعر المسلم بفتورٍ ونقصٍ في إيمانه فليُسارع إلى عمل الصالحات، ففيها دواؤه وصلاحه. ومن أسباب زيادة الإيمان البُعد عن المعاصي صغيرها وكبيرها، فهي تُورث العبد ضيقاً في قلبه، وظلمةً في وجهه، وقلةً في رزقه، ونقصاً في دينه.

 

أحبتي.. طالما أن الإيمان يقوى ويزداد، ويضعف ويقل، فلنحرص على تقوية إيماننا؛ بالمحافظة على العبادات، وأدائها على أحسن وجهٍ ممكن، كما أن علينا أن نزيد من النوافل، ونُسارع في عمل الخيرات، ونبذل كل الجهد من أجل تنقية نفوسنا من كل ما يُغضب المولى عزَّ وجلَّ؛ من حقدٍ وحسدٍ وكِبرٍ وتفاخرٍ وأنانيةٍ وبُخلٍ وكسل، وتزكيتها لتتحول من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس المطمئنة؛ فلن نُحقق (قوة الإيمان) إلا بمجاهدة النفس ومخالفة الهوى، والصبر على نوائب الدهر وشكر الله على كل حال.

اللهم اجعلنا ممن قلتَ فيهم: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾.

اللهم إنّا قد عقدنا العزم على أن نُقوي إيماننا فأعنّا، وكُن لنا ولياً وكُن لنا نصيراً.

https://bit.ly/3TFJ7wW

الجمعة، 22 ديسمبر 2023

الصبر على المكاره

 

خاطرة الجمعة /426

الجمعة 22 ديسمبر 2023م

(الصبر على المكاره)

 

اتصلت امرأة بإحدى القنوات الفضائية؛ لتستفتي في أمرٍ ما، قالت لضيف الحلقة: "يا شيخ أنا امرأة جزائريةٌ مسلمةٌ مؤمنةٌ مطيعةٌ لله، ولكن زوجي رجلٌ يشرب الكحول، ويأتي إلى المنزل آخر الليل، وفي إحدى الليالي دخل عليّ المنزل ووجدني أقرأ القرآن فبطشه من يدي ومزقه ورماه في الحمام. ما حكمك يا شيخ؛ هل يصلح العيش معه أم أطلب الطلاق؟"، قال: "هل لكِ ولدٌ منه؟"، قالت: "نعم لدي خمسة أولاد"، قال: "هل لديكِ أسرةٌ؟"، قالت: "نعم لديّ، ولكنهم في قريةٍ بعيدةٍ جداً وأنا في العاصمة"، قال: "هل لكِ من يعولك الآن؟"، قالت: "لا أحد؛ فأبنائي مازالوا صغاراً"، قال: "إذاً اثبتي مكانكِ، ولا تطلبي الطلاق، ولا تتشاجري أو تدخلي مع زوجكِ في أي صراعٍ واصبري"، قالت: "كيف يا شيخ تطلب مني أن أصبر؟"، قال: "أرأيتِ يا ابنتي إن تركتِ زوجكِ ورحلتِ بدلاً من واحدٍ فقط هو الذي يسكر ويمزق القرآن سيكونون ستةً؛ لأنه سيأخذ أولاده ويُربيهم على طباعه؛ فيشربون الخمور، ويمزقون القرآن. لا حل في الفرار وترك المنزل، اصبري واعلمي أن دورك هو أن تهتمي بأبنائك، وأريد منكِ قيام الليل والدعاء لزوجك بالهداية". قالت: "أفعل إن شاء الله".

ودارت الأيام والشهور، وإذ بنفس الشيخ تتم استضافته بإحدى القنوات الفضائية، وكانت المفاجأة من بين المتصلين هي تلك المرأة الجزائرية تقول: "السلام عليكم يا شيخ"، قال: "وعليكم السلام مرحباً تفضلي"، قالت: "ما عرفتني يا شيخ؟"، قال: "لا والله، عرفيني بنفسك"، قالت: "أنا المرأة الجزائرية؛ اتصلتُ بكَ قبل عامٍ بشأن زوجي الذي يشرب الكحول"، قال: "أجل والله عرفتكِ، بشريني يا ابنتي ما حالكِ؟"، قالت: "والله يا شيخ إن زوجي الآن هو من يفتح باب الجامع في صلاة الفجر ويؤذن للناس، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن، ويصلي كل الفروض والنوافل؛ لقد هداه الله حق هدايةٍ يا شيخ، بارك الله فيك". قالتها وهي تبكي بكاء الفرحة.

قال ناشر هذه القصة: "لأن هذه المرأة المؤمنة تقربت إلى الله، وعلم الله بنقاء وطهر وصدق قلبها، فاستجاب لها. جاهدت النفس وصبرت ونالت ثواب وأجر الصبر.

 

أحبتي في الله.. إن (الصبر على المكاره) له ثوابٌ عظيمٌ.

قال أهل العلم إن اللهَ شاء أن تكون حياة البشر على ظهر هذه الأرض مزيجاً من السعادة والشقاء، والفرح والترح، واللذائذ والآلام؛ فيُستبعد أن ترى فيها لذةً غيرَ مشوبةٍ بألمٍ، أو صحةً لا يكدرها سقمٌ، أو سروراً لا ينغصه حزنٌ، أو راحةً لا يخالطها تعبٌ، أو اجتماعاً لا يعقبه فراق. والصبر على الشدائد والمصائب خير ما تواجَه به تقلباتُ الحياة ومصائبُ الدنيا. وحقيقةُ الصبر حبسُ النفس عن الجزع، أي حبسُها وقهرها على مكروهٍ تتحمله أو لذيذٍ تفارقه؛ فمع الصبر يمتنع العبد من فعل ما لا يَحسُن وما لا يليق، ومع الصبر يكون حبسُ اللسان عن التشكي، وحبسُ الجوارح عن لطم الخدود ونحوِها.

 

وقد ذُكر الصبرُ في القرآن الكريم في نحو سبعين موضعاً، وما ذاك إلا لضرورته وحاجة العبد إليه؛ ومن ذلك

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾. وبيّن عزَّ وجلَّ أن ما قد نرى أنه شرٌ لنا هو في حقيقته خيرٌ لنا؛ يقول تبارك وتعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. ويُبشر الله الصابرين بعاقبة الصبر؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ويقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكارِهِ وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ].

 

وقال العلماء إن الذي يبتلينا هو الله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لا يرسل إلينا البلاء ليهلكنا به ولا ليعذبنا به، وإنما افتقدنا به ليمتحن صبرنا ورضانا عنه وإيماننا وليسمع تضرعنا وابتهالنا وليرانا واقفين ببابه لائذين بجنابه مكسوري القلب بين يديه رافعين قصص الشكوى إليه. إن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل المؤمن من مرارةٍ منقطعةٍ إلى حلاوةٍ دائمةٍ خيرٌ له من عكس ذلك.

 

قال الشاعر:

فما شدةٌ يوماً وإن جَلَّ خَطبها

بنازلةٍ إلا سيتبعها يسرُ

وإن عسرت يوماً على المرءِ حاجةٌ

وضاقت عليه كان مفتاحها الصبرُ

 

وقال آخر:

اصبر لكل مصيبةٍ وتجلَّد

واعلمْ بأنَّ المرءَ غيرُ مُخلَّدِ

أوما ترى أنَّ المصائبَ جمَّةٌ

وترى المنيةَ للعبادِ بمرصدِ

من لم يُصَب مِمَن ترى بمصيبةٍ

هذا سبيلٌ لستَ فيه بأوحدِ

فإذا ذكرتَ محمداً ومُصابَه

فاذكر مصابَك بالنبي محمدِ

 

ويرى العارفون أن من الوسائل المعينة على (الصبر على البلاء) أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه. وأن يعلم أن البلاء بمثابة الدواء وأن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. وأن يعلم أن الصبر عند الصدمة الأولى ويتجنب الجزع فهو لا ينفعه، بل يزيد من مصابه. وأن يتسلى المصاب بمن هم أشد منه مصيبة. وأن يعلم أن ابتلاء الله له هو امتحانٌ لصبره. وأن يعلم أن مرارة الدنيا هي حلاوة الآخرة. وأن ينظر إلى نعم الله تعالى عليه، ولا ينشغل بالمفقود، فإنه إن تأمل وجد أنه محاطٌ بنعم الله من كل جانب.

 

أحبتي.. (الصبر على المكاره) ابتلاءٌ وامتحانٌ واختبار، ولا يوجد من بيننا -ولا من بين جميع خلق الله- من يعيش بغير هذا الابتلاء؛ فلنصبر، احتساباً للأجر الكبير والثواب العظيم الذي وعد الله الصابرين به.

اللهم أعنّا على الصبر، ليكون صبرنا صبراً جميلاً؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾ صبراً لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله منه؛ كما قال نبي الله يعقوب عليه السلام: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.

https://bit.ly/489f70P

الجمعة، 15 ديسمبر 2023

بذرة الخير

 

خاطرة الجمعة /425

الجمعة 15 ديسمبر 2023م

(بذرة الخير)

هذه واقعةٌ لم تحدث على الأرض، وإنما حدثت في الجو! يقول صاحبها: كنتُ عائداً من سفرٍ طويلٍ، وقدَّر الله تعالى أن يكون مكاني في مقعد الطائرة بجوار ثلَّةٍ من الشباب العابث اللاهي الذين تعالت ضحكاتهم، وكثر ضجيجهم، ومن حكمة الله تعالى أن الطائرة كانت ممتلئةً تماماً بالركاب فلم أتمكن من تغيير مقعدي. حاولتُ أن أهرب من هذا المأزق بالفرار إلى النوم، ولكن هيهات هيهات.. فلمَّا ضجرتُ من ذلك الضجيج أخرجتُ مصحفي ورحتُ أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بصوتٍ منخفضٍ، وما هي إلا لحظاتٌ حتى هدأ بعض هؤلاء الشباب، وراح أحدهم يقرأ جريدةً كانت بيده، ومنهم من استسلم للنوم، وفجأةً قال لي واحدٌ منهم بصوتٍ مرتفعٍ، وكان بجواري تماماً: "يكفي، يكفي"، فظننتُ أني قد أثقلتُ عليه برفع الصوت؛ فاعتذرتُ إليه ثم عدتُ للقراءة بصوتٍ هامسٍ لا أُسمِعَ به إلا نفسي؛ فرأيتُه يضم رأسه بين يديه، ثم يتململ في جلسته ويتحرك كثيراً، ثم رفع رأسه إِليَّ وقال بانفعالٍ شديدٍ: "أرجوك يكفي.. يكفي.. لا أستطيع الصبر"، ثم قام من مقعده، وغاب عني فترةً من الزمن ثم عاد ثانيةً وسلَّم عليَّ معتذراً متأسفاً، سكتُ وأنا لا أدري ما الذي يجري! لكنه بعد قليلٍ من الصمت التفت إِليَّ وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال لي هامساً: "ثلاث سنواتٍ أو أكثر لم أضع فيها جبهتي على الأرض، ولم أقرأ فيها آيةً واحدةً قط، وها هو ذا شهرٌ كاملٌ قضيته في هذا السفر ما عرفتُ منكراً إلا ولغتُ فيه، ثم رأيتك تقرأ، فاسودَّت الدنيا في وجهي، وانقبض صدري، وأحسستُ بالاختناق، نعم.. أحسستُ أنَّ كل آيةٍ تقرؤها تتنزل على جسدي كالسياط! فقلتُ في نفسي: إلى متى هذه الغفلة؟! وإلى أين أسير في هذا الطريق؟! وماذا بعد كل هذا العبث واللهو؟! ثم ذهبتُ إلى دورة المياه، أتدري لماذا؟! أحسستُ برغبةٍ شديدةٍ في البكاء، ولم أجد مكاناً أستتر فيه عن أعين الناس إلا ذلك المكان". فكلمتُه كلاماً عاماً عن التوبة والإنابة والرجوع إلى الله.. ثم سكت.

عندما هبطت الطائرة على أرض المطار، استوقفني -وكأنه يريد أن يبتعد عن أصحابه- وسألني وعلامات الجدِ باديةً على وجهه: "أتظن أن الله يتوب عليَّ؟!"، فقلتُ له: "إن كنتَ صادقاً في توبتك عازماً على العودة فإن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً"، فقال: "ولكني فعلتُ أشياء عظيمةً.. عظيمةً جداً...!!"، فقلتُ له: "ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟"، فرأيته يبتسم ابتسامةَ السعادة، وعيناه مليئتان بالدموع، ثم ودّعني ومضى!

 

أحبتي في الله.. يقول راوي هذه الواقعة: سبحان الله العظيم! إن الإنسان مهما بلغ فساده وغرق في المعاصي فإن في قلبه (بذرة الخير)، إذا استطعنا الوصول إليها، ثم قمنا باستنباتها ورعايتها أثمرت وأينعت بإذن الله تعالى. إن بذرة الخير تظلُّ تُصارع في نفس الإنسان وإن علتها غشاوة الهوى، فإذا أراد الله بعبده خيراً أشرقت في قلبه أنوارُ الهداية، وسلك سبيل المهتدين؛ يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾.

 

تذكرني هذه الواقعة بقصةٍ أخرى عن (بذرة الخير) التي نمت في قلب إحدى الطالبات؛ تحكي لنا معلمتها هذه القصة فتقول:

قبل سنواتٍ كنتُ أُدَرِّس في مدرسةٍ، وكان لديّ عددٌ من الطالبات اللاتي شغلتهن الحياة وملاهيها عن طاعة الله، لم يكُنَّ سيئاتٍ جداً، لكن كُنَّ بعيداتٍ عن الله، منشغلاتٍ عنه. كنتُ أحاول وأنصح، وأتكلم، وأجتهد كي أؤثر فيهن؛ تأثر البعض، بينما البعض الآخر لم يتأثر كثيراً. بعد سنواتٍ من تركي لتلك المدرسة، فوجئتُ ذات يومٍ باتصالٍ من إحداهن، كانت غير مصدقةٍ أنها حصلت على طريقةٍ للاتصال بي، فقد تعبت المسكينة شهوراً عديدةً لتصل إليّ، جاءني صوتها الفَرِح عالياً: "أستاذة، والله تعبتُ وأنا أسأل؛ رجعتُ لصديقاتي القديمات، وبحثتُ عن أرقامهن، واتصلتُ على إدارة المدرسة، تعبتُ كثيراً حتى عثرتُ عليكِ، لا أصدق أني أكلمك الآن!". كنتُ في شوقٍ لطالبتي التي أذكرها صغيرةً مشاغبةً عابثةً، لم تكن تهتم بكلامي ولا بنصحي كثيراً، تهرب من الحصص، ويستهويها الضحك والحديث مع زميلاتها أثناء الدرس. عرفتُ منها أنها الآن في آخر سنةٍ في الجامعة، ما أسرع ما تمضي السنون! قالت لي بالحرف الواحد: "أستاذة هل تذكرين كلامكِ ونصحكِ لنا؟ هل تذكرين كيف كنتِ تذكرينا بالحساب واليوم الآخر؟ هل تذكرين كيف كنا ننشغل ونضحك؟ هل تصدقين أن كلامك كان يدخل في قلبي؟ لكن شيطان الهوى كان أقوى مني، وكذلك الصديقات. كنتُ أتظاهر أني لا أهتم، ولم يكن عمري يُعينني على أن أتخذ قراراً قوياً وأثبت عليه، لكن الآن بعدما كبرتُ ونضجتُ لا زلتُ حتى هذه اللحظة أسترجع كلامكِ وعباراتكِ، كل شيءٍ بدأ يعود تدريجياً، لا زلتُ أذكر نصائحكِ وأتأثر بها، إني أدعو الله لكِ، فقد تأثرتُ بكِ، وكذلك الكثير من صديقاتي". صُعقتُ من كلامها، لم أصدق لأول وهلةٍ، ولم أدرِ ما أقول. لم أكن أتخيل أن (بذرة الخير) يمكن أن تبقى كل هذه المدة قبل أن تنبت من جديدٍ، سبحان الله! هل يمكن أن يحصل هذا؟ بقدر ما فاجأتني طالبتي الحبيبة بقدر ما أسعدتني وجعلتني أتقد حماساً وعزيمةً لأستمر في هذا الطريق رغم كل ما قد نراه من إعراضٍ أو غفلةٍ كبيرةٍ من الفتيات.

 

إنها (بذرة الخير) في القلوب؛ يقول تعالى لأَسْرى المشركين الذين جاؤوا يحاربون دين الله وينصرون الشِرك والكفر: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ فكيف بمَن هو مسلمٌ، مِن أبوين مسلمينِ وأسرةٍ مسلمة، ويُقر بوحدانية الله وربوبيته وألوهيته، ويقول: إني مِن المسلمين؟!

 

يقول سبحانه: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي: وهدينا الإنسان وأرشدناه إلى طريق الخير والشر، بيّنا له الهُدى من الضلال، والرُشد من الغي. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ أي أن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياة والموت، فتنةً منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. ويقول أيضاً: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ كنايةً عن (بذرة الخير) وإن بدت لنا صغيرةً أو قليلةً أو بسيطةً؛ ككلمةٍ طيبةٍ، فإن الله سبحانه وتعالى يبارك فيها لتنمو وتُثمر، بل ويستمر ثمرها في كل وقتٍ وحين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]، فما بالنا بتبسمنا في وجه إخواننا، وإماطة الأذى عن الطريق، وغير ذلك كثيرٌ مما يجعل بذور الخير فينا تنمو وتُزهر.

 

يقول أهل العلم إن الله قد زرع في دواخلنا الخير نباتاً طيباً، إن أحسنّا سُقياه لن يُزهر إلا خيراً، وعلينا أن نستغل بذور الخير هذه في مساعدة الآخرين والسعي في نفعهم وقضاء حوائجهم، حتى يغمرنا الرضا الروحي والنفسي عندما يرضى عنا الله عزّ وجلّ، وهنيئاً لمن اختاره الله وسخره لأن يسلك طريقاً فيه خيرٌ ومنفعةٌ للآخرين. إن (بذرة الخير) موجودةٌ عند أغلب الناس، لكنها تحتاج إلى من يُحركها من مكامنها، وإلى مَن يسقيها ويُحييها ويُحسِن رعايتها؛ ففي داخلِ كلٍ منا بذرة خيرٍ، إن سُقيت بالحب نمت وأزهرت قلباً مُحباً لطيفاً، وإن لم تُسقَ فإنها لا تموت، تبقى في أعماقنا بانتظار من يسقيها، فإن سقيناها أو سقاها أحدٌ لنا عادت وأزهرت. وهكذا الآخرون، إنهم في انتظارنا لنسقي لهم بذور الخير في قلوبهم.

وللأسرة دورٌ كبيرٌ في غرس (بذرة الخير) في نفوس أطفالها، فتنمو معهم كلما نمت أعمارهم؛ فمن الأطفال من يدخر بعض الدراهم من مصروفه في حصالةٍ يخصصها للصدقات وأعمال الخير، ومنهم من يساعد أمه في تحضير بعض الطعام ويقوم بتوزيعه على المحتاجين، ومنهم من يشتري زجاجات المياه الباردة ويقوم بتوزيعها على عمال النظافة أثناء عملهم وقت الظهيرة، ومنهم من يُعطي من ملابسه الزائدة عن حاجته لليتامى والمساكين خاصةً قبل أن تهل أيام العيد.

 

أحبتي.. أختم باقتباسٍ أعجبني يقول صاحبه: فلننثر (بذرة الخير) أينما كُنا، وحيثما ذهبنا، وكلما استطعنا، ولا نقلق؛ فلا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى متى ستنبت هذه البذرة، ولا نجعل اليأس يتسرب إلى نفوسنا؛ فبذرة الخير، مهما طال عليها الزمن وذبلت نبتتها، لا تموت بإذن الله، وستنبت يوماً من جديد. كل إنسانٍ في قلبه (بذرة الخير) تحتاج إلى سِقاءٍ؛ فابحث أنت عن البذور التي تمتلكها، ولا تكف أبداً عن سقيها. انثر بذورك لترى تلك الأزهار الجميلة تُحيط بك، تُمتِّع بها ناظرك، ويحيا بها قلبك، فما وُجِدْنا على هذه الأرض إلا لكي نزرع الخير ليُثمر الأمل الذي يُبقينا على قيد الحياة. بذورٌ كثيرةٌ نستطيع أن ننثرها هنا وهناك، في كل محيطٍ نكون فيه؛ في العمل، وفي الشارع، في الأسرة، ومع الأصدقاء والأقارب والغرباء، مع الصغير والكبير، ولكل من يحتاج مساعدتنا، إن طلبها، وإن تعفف عن سؤالها، فبذور الخير ليس لها حدودٌ، ولا تنحصر في مكانٍ أو زمانٍ معين، ولا في أشخاصٍ دون غيرهم، هي بذورٌ موجودةٌ لدى الجميع، لا تحتاج إلا إلى إيمانٍ عميقٍ ويقينٍ بالله، وتربةٍ خصبةٍ، ويدٍ حانيةٍ، حتى تؤتي ثمارها.

ثم إن علينا أن نبحث عن (بذرة الخير) الكامنة لدى كل من نتعامل معهم، فنظهرها لهم، ونساعدهم على رعايتها وتنميتها؛ بذلك نحيا جميعاً في مجتمعٍ قويٍ ومتماسكٍ، يشد بعضنا أزر بعض، ويعمل كلٌ منا على إسعاد غيره قدر ما يستطيع. اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/41rdrgY

الجمعة، 8 ديسمبر 2023

عُلُوّ الهِمة

 

خاطرة الجمعة /424

الجمعة 8 ديسمبر 2023م

(عُلُوّ الهِمة)

 

يحكي أحد الأطباء عن زميلٍ له فيقول: كان زميلاً لي في الكلية العسكرية، كان الأول على زملائه في كل شيءٍ؛ في طاعته لله، في حسن خلقه، في دراسته، في تعامله، كان صاحب قيام ليلٍ، محافظاً على صلواته، مُحباً للخير. بعد أن تخّرج وفرح -كما يفرح الطلبة بالتخرج- إذا به يُصاب بما نسميه "الأنفلونزا" وتطور معه المرض حتى أصاب العمود الفقري فأصيب بشللٍ تامٍ ولم يعد يستطيع الحركة حتى أن طبيبه المعالج قال لي إنه -حسب مرئياته- فلا أمل له في الشفاء، وإن احتمال رجوعه لما كان عليه ونجاح العلاج معه لا تتجاوز العشرة في المائة؛ فقلتُ الحمد لله على كل حالٍ، وسألتُ الله له الشفاء وهو القادر على كل شيء. ثم زرته في المستشفى، وهو مقعدٌ يرقد على السرير الأبيض، لمواساته وتذكيره بالله والدعاء له، فإذا به هو الذي يذكّرني بالله، وهو الذي يواسيني! وجدته قد امتلأ وجهه نوراً، وأشرق بالإيمان، قال لي وهو يبتسم: "لعل الله علم مني تقصيري في حفظ القرآن فأقعدني لأتفرغ لحفظه، وهذه نعمة من نعم الله". تعجبتُ ودُهشتُ من موقفه وإيمانه وصبره وثباته رغم ما هو فيه من مرضٍ خطيرٍ وشللٍ تام، ورغم أنه لم يمضِ على تخرجه ستة أشهر ولم يفرح بالرتبة والراتب والعمل الجديد أياماً.

زرته بعد فترةٍ وعنده بعض أقاربه فسلمتُ عليه ودعوتُ له، قال له ابن عمه: "حاول تحريك رجلك، ارفعها للأعلى"، فقال له: "إني لأستحي من الله أن استعجل الشفاء؛ فإن قدّر الله لي وكتب الشفاء فالحمد لله، وإن لم يكن مقدوراً لي فالحمد لله؛ فالله أعلم بما هو خيرٌ لي، فقد يكون في الشفاء ما لا تُحمد عقباه وقد أمشي بقدميّ هاتين إلى الحرام، ولكني أسأل الله أن يكتب لي الخير فهو العليم الحكيم".

سافرتُ لإكمال الدراسات العليا ثم عدتُ بعد ثلاثة أشهرٍ وكنتُ متوقعاً أنه في منزله على فراشه يُحمل من مكانٍ إلى آخر، سألتُ عنه الزملاء في المستشفى هل خرج؟! وكيف هي حالته؟! فقالوا: "هذا الرجل عجيبٌ جداً، لقد كانت عنده قوةٌ وعزيمةٌ وهمةٌ عاليةٌ مع ابتسامةٍ دائمةٍ ورضىً بما كُتب له، ولقد تحسنت حالته شيئاً ما فنُقل إلى التأهيل للعلاج الطبيعي.

ذهبتُ إلى مركز التأهيل فإذا به على كرسي المعاقين ففرحتُ به وقلتُ له: "الحمد لله على السلامة، أصبحتَ الآن تتحرك أحسن مما مضى"، فقاطعني قائلاً: "الحمد لله، أُبشرك أنني قد أتممتُ حفظ القرآن"، فدعوتُ له، وسألتُ له الله من فضله.

سافرت مرةً أخرى وغبتُ عنه أكثر من أربعة أشهرٍ، ولما عدتُ حصل ما لم يخطر ببالي؛ حيث كنتُ أصلي في مسجد المستشفى فإذا برجلٍ يناديني، إنه صاحبنا! نعم، إنه الزميل الحبيب الذي كان مشلولاً معاقاً تماماً يناديني وهو يمشي وبصحةٍ جيدةٍ وعافيةٍ، جاءني يمشي، وسلمتُ عليه وضممته إلى صدري وأنا أبكي فرحاً لما حصل له من شفاء!

ثم إن الله منّ عليه بأمور كثيرةٍ؛ منها موافقة المسئولين على بعثته بعثةً داخليةً ل«جامعة الملك سعود بالرياض» لإكمال دراسته العليا، وكان قد طلب ذلك منذ تخرجه من الكلية ولم يأته الرد، وبعد شفائه -ولله الحمد- جاءت الموافقة بعد أن كان قد نسي الطلب، قال لي: "إن ما حصل لي حجةٌ عليّ إن لم أقم بشكر النعمة".

ثم زارني بعد سبع سنواتٍ -في مراجعةٍ لجده المريض بالقلب- فماذا رأيت؟! رأيتُ شاباً وضيئاً، وقد رزقه الله الترقيات حتى وصل إلى رتبة رائد.

اللهم اجعله رائداً في الخير والنفع والصلاح.

 

أحبتي في الله.. إنها قصةٌ تجمع بين الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، والصبر على المكاره، وشُكر الله وحمده على كل حال، و(عُلُوّ الهِمة) التي جعلته في البداية من الأوائل والمتفوقين، ثم كانت سبباً في حفظه للقرآن الكريم، كما بدت بشكلٍ واضحٍ في حصوله على بعثةٍ داخليةٍ للدراسات العليا نال بعدها ترقياتٍ مستحقةٍ في مجال عمله.

واسمحوا لي أن يكون تركيزي على (عُلُوّ الهِمة) إذ إنها من سمات المؤمنين الذين لديهم هدفٌ أساسيٌ في الحياة؛ هو فعل كل ما يوصل إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ.

 

يقول تعالى مُخاطباً سيدنا موسى عليه السلام، حاثاً على العمل بجديةٍ وهِمةٍ عاليةٍ: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾. ويقول تعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ أمرٌ إلهيٌ بالعمل بقوةٍ وهِمة؛ لتأتي بعد ذلك إعانة الله وهدايته، نعمةً لمن يُحسن العمل ويُخلص فيه، ويسعى بهِمةٍ واجتهادٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، والسعي بهِمةٍ هو مجال التنافس بين المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

 

ويُعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لكلٍ منا هدفٌ عظيمٌ يسعى نحو تحقيقه بهمةٍ عاليةٍ؛ فيقول: [إِذَا سَألْتُم الله فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُوِر وَأَشرَافَهَا، وَيَكَرهُ سَفْسَافَهَا]، وفيه دليلٌ على طلب المعالي والتباعد عن السفساف والمحقرات. وقال صلى الله عليه وسلم: [الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ]. يقول شُرّاح الحديث: المراد بالقوة هنا عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمةً في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق، وأكثر رغبةً في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظةً عليها. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ] وفيه استحباب الاستعاذة من العجز والكسل ففيهما قيودٌ حائلةٌ دون الهِمة والجِد والانطلاق والمثابرة.

 

يقول أهل العلم: إن (عُلُوّ الهِمة) خلقٌ رفيعٌ وغايةٌ نبيلةٌ، تعشقه النفوس الكريمة، وتهفو إليه الفِطَر القويمة، و(عُلُوّ الهِمة) من الأُسس الأخلاقية الفاضلة؛ ففيه الجِد في الأمور، والترفع عن الصغائر والدنايا، والطموح إلى المعالي. ويرون أن المقصودُ مِنْ (عُلُوّ الهِمة)، استصغارُ ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلبُ المراتب السامية؛ فصاحب الهِمة، الذي يحمل مشروعاً ينفع به نفسه والأمة، لا يقف أمام الأبواب المغلقة، بل يبحث عن الفرص هنا وهناك، يسلك كل سبيلٍ مشروعٍ لتحقيق هدفه النبيل. إنَّ عاليَ الهِمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتِه النبيلة، وتحقيقِ بغيته الشريفة؛ لأنه يعلم أنَّ المكارم منوطةٌ بالمكاره، وأنّ المصالحَ والخيراتِ واللذاتِ والكمالاتِ كلَّها، لا تُنَالُ إلا بشيءٍ من المشقة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التعب. عالي الهِمة له نظامٌ يسير عليه، وهدفٌ يصبوا إليه، ومنهجٌ لا يحيد عنه، ووقتٌ لا يَبْخَلُ به، ونفسٌ لا ترضى إلا بتحقيق ما يرغب فيه. عالي الهِمة تتقطّع نفسُه حسراتٍ على دقائق لم ينتفع بها، يرى أنّ وقتَه أغلى من إهدارِه بملاذّ الدنيا ومُتَعِها، ونفسَه أشرف من أن تقنع بما دون الكمال. عالي الهِمة عالي العَزْم؛ فهو يجعل نُصب عينيه قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.

ومن علامات عالي الهِمة: الزهد في الدنيا، المسارعة في الخيرات والتنافس في الصالحات، التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص، الترفع عن مُحقّرات الأمور وصغائرها ونشدان معالي الأمور وكمالاتها، الأخذ بالعزائم.

 

يقول العارفون إن صلاح الأمة في (عُلُوّ الهِمة)، وصاحب الهِمة يسبق الأمة إلى القمة؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾، مُقربون لأنهم على الصالحات يواظبون، وعلى الأذى صابرون. إن العمر الحقيقي للإنسان ليس هو في السنين التي يعيشها، إن العمر الحقيقي هو في تلك الأيام التي يعيش فيها بهِمةٍ عاليةٍ وطموحٍ كبيرٍ، ويعمل على تحقيق أنبل الغايات وأعظم الأهداف.

 

قال بعضُ السلف: "من عرف ما يَطلُب، هان عليه ما يَبذل". و"من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر". و"عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور، ويكره سفسافها". و"من علامة كمال العقل (عُلُوّ الهمة)، والراضي بالدون دَنيٌ". و"فمن علت هِمته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلقٍ جميلٍ، ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خُلقٍُ رذيل".

وقال شاعرٌ:

فإذا كانَت النُفوسُ كِباراً

تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

وقال آخر:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ

فَلا تَقنَعْ بِما دُونَ النُجومِ

وقال ثالثٌ:

وَمَا المِرْءُ إِلا حَيْثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ

فَفي صَالحِ الأعْمَالِ نَفْسَكَ فَاجْعَلِ

وقال غيرهم:

ومَنْ يَتَهَيّبْ صُعودَ الجِبالِ

يَعِشْ أبَدَ الدَهْرِ بَيْنَ الحُفَر

 

أحبتي.. لابد أن نُعيد النظر في برنامج حياتنا اليومي، وأن نُخصص جُزءاً منه لخدمة ديننا؛ فالتغيير لابد وأن يبدأ من داخلنا نحن؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾؛ فنُفوسنا تحتاج إلى مجاهدةٍ ومحاسبةٍ لترويضها على السعي نحو معالي الأمور، والبُعد عن سفاسفها مما نُهدر فيه أوقاتنا وهو لا يُفيد.

علينا أن نتذكر دائماً أن هدفنا هو الفردوس الأعلى من الجنة، وأن الحياة مزرعةٌ للآخرة، وأن الوقت هو رأس مالنا؛ فلنستفد من أوقاتنا، ونُكثف أعمالنا، ونُضاعف جهودنا، ونبذل قُصارى ما نستطيع بإخلاصٍ وهمةٍ عاليةٍ، وننطلق نحو المعالي والقِمم، لا نُبالي بالقاعدين والمُحبطين والمثبطين؛ فالعمرُ قصير، وعمل الخير بإذن الله سهلٌ ويسير، والجنة في انتظار من لا تفتر هممهم عن عمل الصالحات وفعل الخيرات؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]. نسأل الله تعالى أنْ يُعيننا على العمل لنكون من أصحاب الفردوس الأعلى من الجنة، ويرزقنا (عُلُوّ الهِمة)، وأنْ يجعلها في سبيل مرضاتِه، إنه ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

https://bit.ly/47OBqsv